منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القرآن الكريم والأحاديث وسيرة الأنبياء والصحابة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   تفسير سور القرآن الكريم كاملة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=1546)

أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:59 AM

تذكير المؤمنين بنعم الله، والمسؤولية الفردية
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(16)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)}
{
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} الخطاب لجميع البشر لتذكيرهم بنعم الله الجليلة عليهم أي أنتم المحتاجون إليه تعالى في بقائكم وكل أحوالكم، وفي الحركات والسكنات {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو جل وعلا الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمودُ على نعمه التي لا تُحْصى، قال أبو حيان: هذه آيةُ موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإِنعامه، في جميع أحوالهم، لا يستغني أحدٌ عنه طرفة عين، وهو الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمود على ما يسديه من النعم، المستحق للحمد والثناء، ثم قرر استغناءه عن الخلق بقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي لو شاء تعالى لأهلككم وأفناكم وأتى بقومٍ آخرين غيركم، وفي هذا وعيدٌ وتهديد {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي وليس ذلك بصعبٍ أو ممتنع على الله، بل هو سهل يسير عليه سبحانه، لأنه يقول للشيء كنْ فيكون {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفسٌ آثمةٌ إثم نفسٍ أخرى، ولا تعاقب بذنبٍ غيرها كما يفعل جبابرة الدنيا من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي وإِن تدع نفس مثقلةٌ بالأوزار أحداً ليحمل عنها بعض أوزارها لا يتحمل عنها ولو كان المدعو قريباً لها كالأب والابن، فلا غياث يومئذٍ لمن استغاث، وهو تأكيد لما سبق في أن الإِنسان لا يتحمل ذنب غيره، قال الزمخشري: فإِن قلت فما الفرق بين الآيتين؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أنه لا غياث يومئذٍ لمن استغاث {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} أي إِنما تنذر يا محمد بهذا القرآن الذين يخافون عقاب ربهم يوم القيامة {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أي وأدوا الصلاة على الوجه الأكمل، فضموا إلى طهارة نفوسهم طهارة أبدانهم بالصلاة المفروضة في أوقاتها {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي ومن طهَّر نفسه من أدناس المعاصي فإِنما ثمرة ذلك التطهر عائدة عليه، فصلاحه وتقواه مختص به ولنفسه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي إليه تعالى وحده مرجع الخلائق يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله، وهو إخبار متضمنٌ معنى الوعيد.
مثال آخر للمؤمن والكافر، وإرسال الرسل إلى الأمم
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19)وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ(20)وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ(21)وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ(23)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ(24)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(25)ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(26)}
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر أي كما لا يتساوى الأعمى مع البصير فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام، {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} أي لا يتساوى كذلك الكفر والإِيمان، كما لا يتساوى النور والظلام {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} أي وكذلك لا يستوي الحقُّ والباطل، والهدى والضلال كما لا يستوي الظل الظليل مع شدة حر الشمس المتوهجة، قال المفسرون: ضرب الله الظل مثلاً للجنة وظلها الظليل، وأشجارها اليانعة تجري من تحتها الأنهار، كما جعل الحرور مثلاً للنار وسعيرها، وشدة أوراها وحرها، وجعل الجنة مستقراً للأبرار، والنار مستقراً للفجار كما قال تعالى {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} ثم أكد ذلك فقال {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} أي كما لا يستوي العقلاء والجهلاء، قال أبو حيان: وترتيب هذه الأشياء في بيان عدم الاستواء جاء في غاية الفصاحة، فقد ذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، فذكر ما عليه الكافر من ظلمة الكفر، وما عليه المؤمن من نور الإِيمان، ثم ذكر مآلهما وهو الظلُّ والحرور، فالمؤمن بإِيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم ذكر مثلاً آخر على أبلغ وجه وهو الحيُّ والميت، فالأعمى قد يكون فيه بعض النفع بخلاف الميت، وجمع الظلمات لأن طرق الكفر متعددة، وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحدٌ لا يتعدد، وقدَّم الأشرف في المثلين الأخيرين وهما "الظل، والحيُّ" وقدَّم الأوضح في المثلين الأولين وهما "الأعمى، والظلمات" ليظهر الفرق جلياً، ولا يقال ذلك لأجل السجع لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل في المعنى أيضاً، فلله سرُّ القرآن، ثم زاد في الإِيضاح والبيان فقال {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي إن الله يسمع من يشاء إسماعه دعوة الحق، فيحبِّبه بالإِيمان ويشرح صدره للإِسلام، وما أنت يا محمد بمسمع هؤلاء الكفار، لأنهم أموات القلوب لا يدركون ولا يفقهون، قال ابن الجوزي: أراد بمن في القبور الكفار، وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله وينتفع بمواعظه، فكذلك من كان ميّت القلب لا ينتفع بما يسمع {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} أي ما أنتَ إلا رسول منذر، تخوّف هؤلاء الكفار من عذاب النار {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي بعثناك بالهدى ودين الحق، بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} أي ما من أمةٍ من الأمم في العصور والأزمنة الخالية إلا وقد جاءها رسول {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي بالأنبياء في الصبر على تحمل الأذى والبلاء، قال الطبري: أي وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة رسلهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم الرسل بالمعجزات البينات، والحجج الواضحات فكذبوهم وأنكروا ما جاءوا به من عند الله {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي وجاءوهم بالزُّبُر أي الصحف المنزلة على الأنبياء، وبالكتب السماوية المقدسة المنيرة الموضحة وهي أربعة "التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان" ومع ذلك كذبوهم وردّوا عليهم رسالتهم فاصبر كما صبروا {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ثم بعد إمهالهم أخذتُ هؤلاء الكفار بالهلاك والدمار {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كانت عقوبتي لهم وإِنكاري عليهم؟ ألم آخذهم أخذ عزيز مقتدر؟ ألم أبدِّل نعمتهم نقمة، وسعادتهم شقاوة، وعمارتهم خراباً؟ وهكذا أفعل بمن كذَّب رسلي.
إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَمِنَالسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)}
سبب نزول الآية (29):
{إن الذين يتلون ..}: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة} الآية.
ثم عاد إلى تقرير وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية فقال {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَمِنَالسَّمَاءِ مَاءً} أي ألم تر أيها المخاطب أن الله العظيم الكبير الجليل أنزل من السحاب المطر بقدرته؟ {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع النباتات والفواكه والثمار، المختلفات الأشكال والألوان والطعوم، قال الزمخشري: أي مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يُحصر، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أي وخلق الجبال كذلك فيها الطرائق المختلفة الألوان -وإِن كان الجميع حجراً أو تراباً- فمن الجبال جُدَد -أي طرائق- مختلفة الألوان، بيضٌ مختلفة البياض، وحمر مختلفة في حمرتها {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي وجبال سودٌ غرابيب أي شديدة السواد، قال ابن جزي: قدَّم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر، وذلك لقصد التأكيد وكثيراً ما يأتي مثلُ هذا في كلام العرب، والغرضُ بيان قدرته تعالى، فليس اختلاف الألوان قاصراً على الفواكه والثمار بل إن في طبقات الأرض وفي الجبال الصلبة ما هو أيضاً مختلف الألوان، حتى لتجد الجبل الواحد ذا ألوانٍ عجيبة، وفيه عروق تشبه المرجان، ولا سيما في صخور "المرمر" فسبحان القادر على كل شيء {وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي وخلق من الناس، والدواب، والأنعام، خلقاً مختلفاً ألوانه كاختلاف الثمار والجبال، فهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا أسود، والكلُّ خلق الله فتبارك الله أحسن الخالقين .. ثم لما عدَّدءاياتِ الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعه، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس أتبع ذلك بقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي إِنما يخشاه تعالى العلماء لأنهم عرفوه حقَّ معرفته، قال ابن كثير: أي إِنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب من عباده، ثم أخبر عن صفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي يداومون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها على الوجه الأكمل في أوقاتها، بخشوعها وآدابها، وشروطها وأركانها {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي وأنفقوا بعض أموالهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه في السر والعلن {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي يرجون بعملهم هذا تجارة رابحة، لن تكسد ولن تهلك بالخسران أبداً {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثواب ما فعلوا من صالح الأعمال، ويزيدهم -فوق أجورهم- من فضله وإِنعامه وإِحسانه، قال ابن جزي: توفية الأجور هو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة: التضعيف فوق ذلك أو النظر إِلى وجه الله {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي مبالغ في الغفران لأهل القرآن، شاكر لطاعتهم، قال ابن كثير: كان مطرف إذا قرأ هذه الآية قال: هذه آية القراء.
تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَمِنَالْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}
سبب النزول:
نزول الآية (35):
{الذي أحلنا دار المقامة}: أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فاعظم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: {لا يمسنا فيها نصب، ولا يمسنا فيها لغوب}".
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} أي والذي أوحيناه إليك يا محمد من الكتاب المنزَّل -القرآن العظيم- هو الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب في صدقه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي حال كونه مصدقاً لما سبقه من الكتب الإِلهية المنزلة كالتوراة والإِنجيل والزبور، قال أبو حيان: وفي الآية إِشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً ولا كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي هو جل وعلا خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، بصيرٌ بهم لا تخفى عليه خافية من شئونهم.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي ثم أورثنا هذا القرآن العظيم لأفضل الأمم -وهم أمة محمد عليه السلام- الذين اخترناهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري: والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب من هو مقصِّر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه، ومنهم من متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصِّر في بعض الفترات وهو المقتصد، ومنهم من هو سبَّاق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله، قال ابن جزي: وأكثر المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه: العاصي، والسابق: التقيُّ، والمقتصد: بينهما، وقال الحسن البصري: السابقُ من رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب السماوية هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجيد، الباقي مدى الدهر، وأنعم به من فضل! ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم فقال {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أي جنات إِقامة ينعَّمون فيها بأنواع النعيم، وهي مراتب ودرجات متفاوتة حسب تفاوت الأعمال، وإِنما جمع {جنات} لأنها جنات كثيرة وليست جنة واحدة، فهناك جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة السلام، وجنة عليين، وفي كل جنة مراتبُ ونُزلُ بحسب مراتب العاملين {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرصَّعة باللؤلؤ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الحرير، بل فرشهم وستورهم كذلك، قال القرطبي: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان، جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة الحمدُ لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار والأحزان، قال المفسرون: عبرَّ بالماضي {وَقَالُوا} لتحقق وقوعه، والحزن يعمُّ كل ما يكدِّر صفو الإِنسان من خوف المرض، والفقر، والموت، وأهوال القيامة، وعذاب النار وغير ذلك {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أي واسع المغفرة للمذنبين، شكور لطاعة المطيعين، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإِحسان {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامةِ مِنْ فَضْلِهِ} أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها، وجعلها مقراً لنا وسكناً، لا نتحول عنها أبداً، وكل ذلك من إِنعامه وتفضله علينا {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي ولا يصيبنا فيها إِعياءٌ ولا فتور، قال ابن جزي:وإِنما سميت الجنة {دَارَ الْمُقَامَةِ} لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يُخرجون منها، والنَّصبُ تعبُ البدن، واللغوبُ تعب النفس الناشئ عن تعب البدن.
جزاء الكافرين وأحوالهم في النار
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا(39)}
ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله {كلما خبتْ زدناهم سعيراً} {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك، غير الذي كنا نعمله، قال القرطبي: أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل .. وفي قولهم {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} اعترافٌ بسوء عملهم، وتندُّمٌ عليه وتحسر، قال تعالى رداً عليهم وموبخاً لهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي أولم نترككم ونمهلكم في الدنيا عمراً مديداً يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر؟ فماذا صنعتم في هذه المدة التي عشتموها؟ وما لكم تطلبون عُمراً آخر؟ وفي الحديث "أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة" ومعنى "أعذر" أي بلغ به أقصى العذر {وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد عليه السلام الذي بعث بين يدي الساعة، وقيل: {النَّذِيرُ} هو الشيبُ، والأول أظهر {فذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله، قال الإِمام الفخر: والأمرُ أمرُ إِهانة {فَذُوقُوا} وفيه إشارة إلى الدوام، وإِنما وضعَ الظاهر {لِلظَّالِمِين} موضع الضمير "لكم" لتسجيل الظلم عليهم، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السماوات والأرض، لا يخفى عليه شأن من شئونهما {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم جلَّ وعلا مضمرات الصدور، وما تخفيه من الهواجس والوساوس، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة؟ قال المفسرون: والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ماءامن بالله ولا عبَده، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي، فلا ظلم ولا زيادة {ولا يظلم ربك أحداً} قال القرطبي: والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى {ولو ردُّوا لعادوا لما نهُوا عنه} {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض، بعد عاد وثمود ومن مضى قبلكم من الأمم، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره، لا يضر بذلك إلا نفسه {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار!! قال أبو حيان: وفي الآية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من المكذبين للرسل وما حلَّ بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض، والخسارُ خسارُ العمر، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإِذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط الله وغضبه، بحيث صار إلى النار المؤبدة.
توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان
ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع فقال {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِقال الزمخشري: {أَرَأَيْتُمْ} معناها أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإِلهية والشركة، ومعنى الآية: قل يا محمد تبكيتاً لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شأن آلهتكم - الأوثان والأصنام - الذين عبدتموهم من دون الله، وأشركتموهم معه في العبادة، بأي شيء استحقوا هذه العبادة؟ {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوامِنَالأَرْضِ} أي أروني أيَّ شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي أم شاركوا اللهَ في خلق السموات فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية؟ {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً ينطق بأنهم شركاء الله فهم على بصيرة وحجة وبرهان في عبادة الأوثان {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} إضرابٌ عن السابق وبيانٌ للسبب الحقيقي أي إِنما اتخذوهم آلهة بتضليل الرؤساء للأتباع بقولهم: الأصنام تشفع لهم، وهو غرور باطل وزور، قال أبو السعود: لما نفى أنواع الحجج أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف، وإِضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله .. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته، يمنع السماوات والأرض من الزوال، والسقوط، والوقوع قال القرطبي: لما بيَّن أن آلهتم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإِيجاده، ولا يبقى إِلا ببقائه {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي ولئن زالتا عن أماكنهما - فرضاً - ما أمسكهما أحدٌ بعد الله، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إِمساكهما، إِنما هما قائمتان بقدرة الواحد القهار {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي إِنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب.
إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا(42)اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43)أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(45)}
سبب النزول:
نزول الآية (42):
{وأقسموا بالله}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشاً كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبياً، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكاً بكتابها منا، فأنزل الله: {وإن كانوا ليقولون: لو أن عندنا ذِكْراً من الأولين} [الصافات: 168] {ولو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} وكانت اليهود تستفتح عل النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبياً يخرج.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها، قال الصاوي: كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإِذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} أي لئن جاءهم رسول منذر {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب، قال أبو السعود: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، أتتهم الرسلُ فكذبوهم، فواللهِ لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} أي فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم أشرف المرسلين {مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وعتوهم وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السيء بالرسول وبالمؤمنين، ليفتنوا ضعفاء الإِيمان عن دين الله، قال أبو حيان: أي سبب النفور هو الاستكبار والمكر السيء يعني أن الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار، والمكرُ السيءُ وهو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلموالكيد له، قال تعالى رداً عليهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} أي ولا يحيط وبال المكر السيء إلا من مكره ودبَّره كقولهم "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها" {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ} أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة، من تعذيبهم وإِهلاكهم بتكذيبهم للرسل؟ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم، قال القرطبي: أجرى الله العذاب على الكفار، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، والسُّنة هي الطريقة .. ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم؟ {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي أنه سبحانه لا يفوته شيء، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} أي بالغ العلم والقدرة، عالم بشئون الخلق، قادر على الانتقام ممن عصاه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أ ي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان، قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده، ولطفه بهم، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أي فإِذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، لأنه تعالى العالم بشئونهم المطلع على أحوالهم، قال ابن جرير: بصيراً بمن يستحق العقوبة، وبمن يستوجب الكرامة، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:00 AM

سورة يس
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة يس مكية وقد تناولت مواضيع أساسية ثلاثة وهي: "الإِيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين".
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم تحدثت عن كفار قريش، الذين تمادوا في الغي والضلال، وكذبوا سيد الرسل محمد بن عبد الله، فحقَّ عليهم عذاب الله وانتقامه.
* ثم ساقت قصة أهل القرية "أنطاكية" الذين كذبوا الرسل، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، على طريقة القرآن في استخدام القصص للعظة والاعتبار.
* وذكرت موقف الداعية المؤمن "حبيب النَّجار" الذي نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة، ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار.
* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة والواحدانية، في هذا الكون العجيب، بدءاً من مشهد الأرض الجرداء تدب فيها الحياة، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار، فإِذا هو ظلامٌ دامسٌ، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلكٍ لا تتخطاه، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله جل وعلا.
* وتحدثت عن القيامة وأهوالها، وعن نفخة البعث والنشور، التي يقوم الناس فيها من القبور، وعن أهل الجنة وأهل النار، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب، حتى يستقر السعداء في روضات النعيم، والأشقياء في دركات الجحيم.
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع "البعث والجزاء"، وأقامت الأدلة والبراهين على حدوثه.
التسميَة:
سميت السورة "سورة يس" لأن الله تعالى افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.
فضلهَا:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء قلباً وقلبُ القرآن يس، ووَدِدْتُ أنها في قلب كل إنسانٍ من أمتي).
القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه
{يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(3)عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَءاباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6)لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7)إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9)وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10)إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12)}
سبب النزول:
نزول الآية (1-7):
{يس * والقرآن الحكيم}: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عُمْي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (8):
{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً}: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمداً لأفعلن، فأنزل الله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله:{لا يبصرون} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الاية (12):
{إنا نحن نحي الموتى}: أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النُّقْلَة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تُكْتبُ، فلا تنتقلوا". وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
{يس} الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله، وقال ابن عباس: معنى "يس" يا إنسان في لغة طيء، وقيل: هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله بعده {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} وقيل معناه: يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق {وَالْقرْآنِ الْحَكِيمِ} قسم من الله تعالى بالقرآن، والحكيم معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان، قال القرطبي: أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل، وقال أبو السعود: أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجزُ، المنطوي على بدائع الحكم .. والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمداً رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المبعوثين من رب العالمين لهداية الخلق، قال ابن عباس: قالت كفار قريش: لست يا محمد مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على طريق ونهج مستقيم، لا انحراف فيه ولا اعوجاج، هو الإِسلام دين الرسل قبلك، الذين جاءوا بالإِيمان والتوحيد، قال الطبري: أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإِسلام كما قال قتادة، والتنكير للتفخيم والتعظيم {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيلٌ من ربّ العزة جل وعلا، العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَءاباؤُهُمْ} أي لتُحَذِّرَ يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإِنذار تخويفهم من عذاب الله {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإِيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان .. ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإِصرارهم على الكفر والتكذيب فقال {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإِنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإِنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد .. ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإِيمان فقال {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُون} تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه، قال في الجلالين: وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يُذعنون للإِيمان، ولا يخفضون رؤوسهم له، قال ابن كثير: ومعنى الآية: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، واكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إِنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق، وقال أبو السعود: مثَّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم {فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ} أي فالأغلال منتهيةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطأطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيِّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثيل لسدِّ طرق الإِيمان عليهم، بمن سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر {لا يُؤْمِنُونَ} أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إِنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإِيمان، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إِنما ينفع إِنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ} أي وخاف الله دون أن يراه، قال أبو حيان: {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ} أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جل وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى "بالغيب" أي بالخلوة عند مغيب الإِنسان عن عيون البشر {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لما انتفع بالإِنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرةٍ عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم، قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إِنما يكون في الجنة .. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها {وَآثَارَهُمْ} أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال "أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد -والبقاع خالية- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سلمة دياركم تُكتب آثارُكم، دياركم تُكتب آثاركم" فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وكل شيء من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى {يوم ندعو كل أناسٍ بإِمامهم} أي بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ أو شر، وقال مجاهد وقتادة: هو اللوح المحفوظ، وقال أبو حيان: "ونكتب ما قدَّموا" أي ونحصي، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء.
قصة أصحاب قرية أنطاكية
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ(15)قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17)قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25)قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِيمِنَالْمُكْرَمِينَ(27)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍمِنَالسَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْمِنَالْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ(31)وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)}
ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية "إنطاكية" التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم، قال القرطبي: وهذه القرية هي "إنطاكية" في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم "صادق" و "مصدوق" و "شمعون" أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل: هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام، قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإِن آمنتم فلكم السعادة، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة، قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ بـ {الْمُبِينُ} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإِرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان، وترك عبادة الأوثان، قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإِنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي لأئنا ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو "حبيب النجار"، قال ابن كثير: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو -حبيب النجار- كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا: نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصه القرآن {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإِنما قال {يَا قَوْمِ} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم، والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إستفهام إنكاري أي كيف اتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلا يُنقِذُونِ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي .. وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة، قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصبَها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِيمِنَالْمُكْرَمِينَ} أي فلمادخل الجنة وعاين ماأكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم، قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، قال أبو السعود: وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وما أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍمِنَالسَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل، فإِذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة، قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قتل "حبيب النجار" غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي يا أسفاً على هولاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان، قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بان يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ بهم مبلغاً عظيماً حيث إنّ كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين. ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْمِنَالْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:00 AM

بعضءايات من قدرة الله عز وجل
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَامِنَالْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ(36)وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37)وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41)وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42)وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ(43)إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)}
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض اليابسة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر، قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإِذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا، قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإِخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب {وَفَجَّرْنَا فِيهَامِنَالْعُيُونِ} أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة في بلدان كثيرة {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم، قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإِيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ "ما" بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي تنزّّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، المختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعلمون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون}. {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي وعلامةٌ أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإِذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن الأصل في الكون هو الظلام والنور عارض وهذا ما أكّده العلم الحديث، فإِذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويُكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي وآيةٌ أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطَّاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقتٍ تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم، قال ابن كثير: وفي قوله تعالى {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإِنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ..) الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرئ {لا مُسْتَقَرَّ لَها} أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإِله العزيز في ملكه، العليم بخلقه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها، فإِذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس، قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءً، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد، قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إِدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء، قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، غير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر -كما قال قتادة: "لكل حدٌ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه"- حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى {وجُمع الشمس والقمر} فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملناءاباءهم الأقدمين -وهم ذرية آدم- في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، قال في التسهيل: وإِنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصى البلدان، وإِنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان، وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم .. بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإِن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخواص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإِلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة يعرفون معنى قوله تعالى {إِلا رَحْمَةً مِنَّا} فسبحان الله القدير الرحيم!!.
تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبر هنا عن تعاميهم عن الحق، وإِعراضهم عن الهدى والإِيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات، والمعنى وإِذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال القرطبي: والجواب محذوف والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ..} فاكتفى بهذا عن ذلك {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات الواضحة الدالة على صدق الرسول -كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها- إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء، قال أبو السعود: وإِضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أننفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله، قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإِنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للابتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسْألون}.
إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(48)مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ(49)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْمِنَالأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51)قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53)فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)}
ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة، فقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً ؟ قال تعالى ردّاً عليهم {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم، قال ابن كثير: وهذه -والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي فلا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك، وفي الحديث: (لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه -أي يصلحه بالطين- فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه فلا يطعمها) ثم تكون هناك النفخة الثانية وهي "نفخة الصَّعق" التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي "نفخة البعث والنشور" التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْمِنَالأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي ونفخ في الصور فإِذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي، قال الطبري:{يَنسِلُونَ} يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذي أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإِذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون، قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإِذا هم مجموعون في موقف الحساب {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ففي هذا اليوم -يوم القيامة- لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإِنما يُجازى كلٌ بعمله، قال أبو السعود: وهذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.
جزاء الأبرار المتقين
ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين، فقال {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم -يوم الجزاء- مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار، قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهمعن كل ما يخطر بالبال، وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهممن أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان الوارفة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي لهم في الجنة فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكه {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإِذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:01 AM

جزاء المجرمين الأشقياء
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64)الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66)وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67)وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ(68)}
بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين، انفردوا عنهم وكونوا جانباً، قال القرطبي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وهو توبيخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة، فكيف يطيع الإِنسان عدوه؟ {وَأَنِ اعْبُدُونِي} أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا هو الدين الصحيح، والطريق الحقُّ المستقيم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا} تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين، وأغواهم عن سلوك طريق الحقِّ، قال الطبري: أي صدَّ الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن طاعتي حتى عبدوه {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار.. ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب، فقال {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها، قال الصاوي: هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله {ذقْ إنك أنت العزيز الكريم} ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فقال {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي في هذا اليوم -يوم القيامة- نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم القبيحة، روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال "يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول: أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا، فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته، فإِذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} وفي الحديث (يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه ويقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل) {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي لو شئنا لأعميناهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حينئذٍ؟ قال ابن عباس: المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ، وهو تهديد لقريش {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار بتطاول الأعمار، فقال {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي ومن نُطِل عمره نقلبه في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً، قال قتادة: يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً، والقوة ضعفاً، والزيادة نقصاً {أَفَلا يَعْقِلُونَ}؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إِعمائهم أو مسخهم؟ قال ابن جزي: والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإِنسان إذا هرم.
إثبات وجود الله ووحدانيته
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71)وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ(73)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74)لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ(75)فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)}
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي وما علمنا محمداً الشعر، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً، قال القرطبي: هذا ردٌّ على الكفار في قولهم إِنه شاعر، وإِن ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، والقرآن ليس بشعر، لأن الشعر كلام مزخرف موزون، مبني على خيالات وأوهام واهية، حتى قيل "أعذبه أكذبه" فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر!! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله "الشعر كلامٌ، والكلام منه حسنٌ، ومنه قبيح" {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله جل وعلا لعباده، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة، وهم المؤمنون لأنهم المنتفعون به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به، قال البيضاوي: وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم، أمواتٌ في الحقيقة .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه، وأعاد ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعلا من آثاره، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا -من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين- مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟! {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده!! {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} أي ولهم فيها منافع عديدة -غير الأكل والركوب- كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها {من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم .. ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصرهم بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو إعانة {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعونهم أيَّ نفع، قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً، إِنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام، وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي لا تحزن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد.
إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور
{أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْمِنَالشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(81)إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83)}
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيُبعث هذا بعدما أرَمَّ؟ قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} إلى آخر السورة.
ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور، فقال {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقيرٍ هو النطفة "المني" الخارج من مخرج النجاسة؟ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق الإِنسان من نطفة، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث؟ قال المفسرون: نزلت في "أُبي بن خلف" جاء بعظم رميم، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً:أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: نعم يبعثك ويدخلك النار {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي وضرب لنا هذا الكافر المثل بالعظم الرميم، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، وجوابه من نفسه حاضر {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي وقال هذا الكافر: من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى، متفتتةٌ متلاشية؟ قال الصاوي: أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة، قادر على الإِعادة {وَهُوَ بِكُلِّ خلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم كيف يخلق ويُبدع، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْمِنَالشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا} أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقاً جديداً، وقال أبو حيان: ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر، ألا ترى الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار، وفي أمثالهم "في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعُفار" ولقد أحسن القائل:
جمعُ النقيضين من أسرار قدرته هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارُ
{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي فإِذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}؟ أي أوَليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها؟ {بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي بلى هو القادر على ذلك، فهو الخلاَّق المبدع في الخلق والتكوين، العليم بكل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنون، فمتى أراد تعالى شيئاً أوجَدَه، بدون تعب ولا جهد، ولا كلفة ولا عناء {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإِلهُ العظيم الجليل، الذي بيده المُلك الواسع، والقدرة التامة على كل الأشياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء .. ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع، الدال على كمال القدرة، وعظمةِ الملك والسلطان، الذي تفرد به خالق الأكوان.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:02 AM

سورة الصافات
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الصافات من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة الإِسلامية "التوحيد، الوحي، البعث والجزاء" شأنها كشأن سائر السور المكية التي تهدف إلى تثبيت دعائم الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الملائكة الأبرار، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، الزاجرين للسحاب يسوقونه حيث شاء الله .. ثم تحدثت عن الجنِّ وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة، رداً على أساطير أهل الجاهلية في اعتقادهم بأن هناك قرابةً بين الله سبحانه وبين الجن، وتحدثت السورة عن البعث والجزاء وإِنكار المشركين له، واستبعادهم للحياة مرة ثانية بعد أن يصبحوا عظاماً ورفاتاً.
* وتأكيداً لعقيدة الإِيمان بالبعث ذكرت السورة قصة "المؤمن والكافر" والحوار الذي دار بينهما في الدنيا، ثم النتيجة التي آل إليها أمر كلٍ منهما بخلود المؤمن في الجنة، وخلود الكافر في النار.
* واستعرضت السورة الكريمة قصص بعض الأنبياء، بدءاً بنوح، ثم إِبراهيم، ثم إسماعيل، ثم قصة موسى وهارون، ثم إلياس ولوط، وذكرت بالتفصيل قصة "الإِيمان والابتلاء" في حادثة الذبيح إسماعيل، وما جرى من أمر الرؤيا للخليل إبراهيم حين أمر بذبح ولده ثم جاءه الفداء، تعليماً للمؤمنين كيف يكون أمر الانقياد والاستسلام لأمر أحكم الحاكمين.
* وختمت السورة الكريمة ببيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة، وأنَّ العاقبة للمتقين.
التسميَة:
سميت السورة "سورة الصافات" تذكيراً للعباد بالملأ الأعلى من الملائكة الأطهار، الذين لا ينفكون عن عبادة الله {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وبيان وظائفهم التي كلفوا بها.
إعلان وحدانية الله تعالى
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهاراً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلالة قدرها، والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث (ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصَف) أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حملةُ العرش والملائكة الأطهار {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} وصفٌ ثالثٌ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إِن إِلهكم الذي تعبدونه -أيها الناس- إله واحدٌ لا شريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السماوات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإِن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي وهو رب مشارق الشمس ومقاربها في الشتاء والصيف، قال الطبري: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه.
تزيين السماء بالكواكب
ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله، قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا، وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُورًا} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء، قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبًٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي إلاَّ من اختلس شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه، قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً، قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب والثوابت، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركاتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها.
إثبات المعاد: الحشر والنشر والقيامة
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ(11)بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ(12)وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ(13)وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14)وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(15)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16)أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ(17)قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ(18)فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ(19)وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ(20)هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)}
{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}؟ أي أيهم أقوى بنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السماوات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} أي من طينٍ رخوٍ لزج لا قوة فيه، قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابُ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون مما تقول لهم في ذلك، قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن، قال في البحر: والإِشارة بـ "هذا" إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّتت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} أي أوءاباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاًءاباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إِلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض، قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق .. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم أهوال القيامة فقال {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا هو يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصل بين الخلائق الذي كنتم تنكرون وتكذبون به، قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء.
مسؤولية المشركين في الآخرة
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22)مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23)وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ(25)بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ(27)قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَاعَنِالْيَمِينِ(2)قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(29)وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ(30)فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ(31)فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ(32)فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33)إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34)إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ(37)}
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}أي اجمعوا الظالمين واشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه، قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق، وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه: المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهْدُوهُمْ} تهكم وسخرية، فإِذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر "نحن جميعٌ منتصر" وأصل {تَنَاصَرُونَ} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون، قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَاعَنِالْيَمِينِ} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى، قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوة والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم، قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها على متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أي بل كان فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {ولن ينفعكم اليوم إِذْ ظلمتُم أنكم في العذاب مشتركون} {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي إِذا قيل لهم قولوا {لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله، قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم "شاعر مجنون" فإِن الشاعر عنده من الفهم والحذق ما ينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:03 AM

جزاء كل من الكافرين والمؤمنين
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ(38)وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(39)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(40)أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ(41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ(42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(44)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ(46)لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ(47)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ(48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ(49)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ(52)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ(53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ(56)وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(59)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ(61)}
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ} أي إِنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم، قال الصاوي: لأن الشر يكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة .. ولمّا ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الاستثناء منقطع أي لكن عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {ولهم رزقُهم فيها بكرةً وعشياً} وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يُؤكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاؤوا، قال مجاهد: {مُتَقَابِلِين} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصلاً وتحابباً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة، قال الصاوي: وصف به خمر الجنة لأنه يجري كالماء النابع، وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا، قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدع الرؤوس،ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون، قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وحورٌ عينٌ كأمثال اللؤلؤ المكنون} وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي .. والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ ولطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {عَلَىسُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية - أبلغ الملاذ - وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسرور، وهم على موائد الشرب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقّ وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء؟ {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ}؟ أي هل إِذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذّيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين؟ قال تعالى {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزئ به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة ، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه، قال تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون. قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان كلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عرضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إِذا سمع ذلك يتصدَّق بنحو من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإِذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرهما ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
عقاب الظالمين وأنواع عذابهم
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ(62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ(67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْاءاباءهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ(71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ(72)فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(74)}
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أي أنعيم الجنة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شجرة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة، قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدرون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي ثمرها وحملها كأنه رؤوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة، قال ابن كثير: وإِنما شبهها برؤوس الشياطين، وإِن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فإِن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلئ منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث (لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه)؟ {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} أي ثم إِن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام -أي يخلط- ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم، قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم، وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها{إِنَّهُمْ أَلْفَوْاءاباءهُمْ ضَالِّينَ} أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان، قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخوفونهم من عذاب الله ولكنهم تمادوا في الغيّ والضلال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنصيرهم عبرةً للعباد؟ {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذي أخلصهم تعالى لطاعته فإِنهم نجوا من العذاب.
قصة نوح عليه السلام
ثم شرع في بيان قصة نوح فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيغة الجمع {الْمُجِيبُونَ} للعظمة والكبرياء، قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لمن كفر من أمته {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناه ومن آمن معه - أهلُه وأتباعُه - من الغرق، قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح، قال ابن جزي: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناسل الناس من أولاده الثلاثة "سام، وحام، ويافث" {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين، قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملوءةً من ذريته تبقية لذكره الجميل في ألسنة العالمين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.
قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ(83)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(84)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ(85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(87)فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88)فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ(89)فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90)فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ(92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ(93)فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ(94)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ(97)فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ(98)وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ(101)}
ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ} أي وإِن من أنصار نوح وأعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإِبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما "هود" و "صالح" صلوات الله عليهم أجمعين {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً إيّاهم: ما الذي تبعدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله {أَئِفْكًا} على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون برب العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء - على عادتهم حيث كانوا نجامين - وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إِن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإِنما هو من المعاريض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد (إِنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب) أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فتركوه إِعراضاً عنه وخرجوا إِلى عيدهم {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية، قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه{مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ}؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي، قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن رتبة عابديها إِذ هم يأكلوها وينطقون بخلافها {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه، قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته، وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل، وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد {فَأَقْبَلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي أتعبدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، أليس لكم عقل أيها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن {مَا} مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةٌ في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن {ما} موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام. {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة، قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصاراً لأصنامهم وآلهتهم {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإِهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي، قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي، قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره، قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال {يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرْ ستجدني إِن شاء الله من الصابرين}!! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو "إسماعيل" لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح {وبشرناه بإِسحاق نبياً من الصالحين} فدل ذلك على أن الذبيح هو إِسماعيل.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:04 AM

إبراهيم عليه السلام والذبيح إسماعيل
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(108)سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111)وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(112)وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)}
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة {قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}أي إني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية، وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه. فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله؟ فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} أي امض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إِن شاء الله، وهو جواب من أُوتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي فلما استسلما - الأب والابن - لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه، قال ابن عباس: {تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبَّه على وجهه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} هذه جواب "لمَّا" والواو مقحمة أي ناديناه يا إِبراهيم قد نفَّذْت ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإِضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع، قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قلبه بمحبة ولده، فأمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر ربه وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقه قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإِن رأيتَ أن تردَّ قميصي عليها فافعل فإِنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي إِن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي وفديناه بكبشٍ عظيم من الجنة فداءً عنه، قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي سلام منا على إِبراهيم عاطر كريم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} أي وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً، قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّئ، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو "إِسماعيل" لا "إِسحاق" {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي أفضنا على إِبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء، قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر، وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وفيها دليل على أن البَرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناهما وقومهما -بني اسرائيل- من الغم والمكروه العظيم، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم -الأقباط- فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه، الكامل في حدوده وأحكامه، وهو التوراة {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، قال الطبري: وهو الإِسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليهما الثناء الجميل، والذكر الحسن {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي سلام منا على موسى وهارون {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله.
قصة إلياس عليه السلام
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ إلياس -أحد أنبياء بني إسرائيل- لمن الرسل الكرام الذين أرسلتهم لهداية الخلق، قال أبو السعود: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أتعبدون هذا الصنم - المسمَّى بعلاً - وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين؟ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّءابائِكُمْ الأوَّلِينَ} أي تتركون عبادة أحسن الخالقين، الذي هو ربكم وربُّءابائكم السابقين، قال القرطبي: و "بعل" اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك، والمعنى: أتدعون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو "الله" ربكم وربَّءابائكم الأولين؟ {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا على إلياس الثناء الحسن الجميل إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين، قال المفسرون: المراد بـ {إِلْ يَاسِينَ} هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال: إلياس، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل، وأن له اسمين فيسمى "إلياس" و{إِلْ يَاسِينَ} {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيره، وإِنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فضل الإِحسان والإِيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قصة لوط عليه السلام
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي اذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن امن معه من أهله وأولاده {إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ إهلاك وأفظعه، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، ولهذا عبَّر بـ {دَمَّرْنَا} {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ} أي وإِنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون ؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
قصة يونس عليه السلام
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ(141)فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144)فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ(145)وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ(146)وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)}
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِن يونس لأحد رسلنا المبعوثين لهداية قومه {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر، قال المفسرون: إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه، فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضباً لأنهم كذبوه، فقاده الغضب إِلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة، فناوأتها الرياح والأمواج، فقال الملاحون: ههنا عبدٌ أبق من سيده، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً لهم، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه وهو في بطن الحوت بقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين فاستجاب الله تضرعه ونداءه {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب، قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً، ولم أجعله لك طعاماً، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة، قال ابن جزي: وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، والذبابُ لا يقربه، فإِن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وكان هذا من تدبير الله ولطفه، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون، قال المفسرون: كانوا مائة وعشرين ألفاً، وقيل: وسبعين ألفاً، وهم أهل نينوى بجهة الموصل، و "أو" بمعنى بل أي بل يزيدون{فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، قال ابن جزي: روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم.
الرد على مزاعم المشركين
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ(149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ(150)أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(152)أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)أَفَلا تَذَكَّرُونَ(155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ(156)فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(157)وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(158)سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(159)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(160)فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ(163)وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ(166)وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ(167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ(168)لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(169)فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(170)}
سبب النزول:
نزول الآية (158):
{وجعلوا بينه ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سُليم، وخُزاعة، وجُهَيْنة: {وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً}. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب : جُهَيْنة وبني سلمة، وخُزاعة، وبني مُلَيح قالوا: الملائكة بنات الله.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله {ولقد علمت الجنّة إنهم لمحضرون}.
نزول الآية (165):
{وإنا لنحن ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: {وإنا لنحن الصَّافَون} فأمرهم أن يصفوا.
ولما انتهى من الحديث عن الرسل الكرام رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ}؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة -على سبيل التوبيخ والتقريع لهم- كيف زعموا أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم، فكيف يرضونها لله عز وجل ويختصون بالبنين؟ {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حتى يقولوا مثل هذا البهتان؟ {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله، قال أبو السعود: والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح، والافتراء القبيح، من غير أن يكون لهم دليلٌ قطعاً {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن على البنين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام؟ قال أبو السعود: أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة واضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له؟ {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون .. والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون -في أقوالهم الباطلة- على دليل شرعي، ولا منطق عقلي .. وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أي جعل المشركون بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة {سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً} ثم زعموا أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله {وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب، قال الصاوي: وهذا زيادة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله، أعلمُ بحالكم وما يئول إليه أمركم {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي فإِنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله، إلاَّ من قضى الله عليه الشقاوة، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها، فمنا الموكَّل بالأرزاق، ومنا الموكَّل بالآجال، ومنَّا من يتنزل بالوحي، ولكلٍ منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أي الواقفون في العبادة صفوفاً {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي المنزهون الله سبحانه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، نسبّح الله في كل وقت وحين، قال ابن جزي: وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردٌّ على من قال إنهم بناتُ الله، وشركاء الله، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله، والتنزيه له جل وعلا {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الضمير لكفار قريش و{إِنْ} هي المخففة من "إنَّ" الثقيلة أي وإِن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا -قبل أن ينزل عليهم القرآن- يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إِيماناً منهم، وأكثر عبادةً وإِخلاصاً للهِ منهم، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال {فَكَفَرُوا بِهِ} أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله، وهو وعيد وتهديد.
جُنْد الله هم المنصورون
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(174)وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(175)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(176)فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177)وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(178)وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(179)سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(182)}
سبب النزول:
نزول الآية (176):
{أفبعذابنا ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجّلْه لنا، فنزلت: {أفبعذابنا يستعجلون} وهو صحيح على شرط الشيخين.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} أي إِنهم هم المنصورون على أعدائهم، والإِشارة إلى قوله تعالى {كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي وإن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالحجة والبرهان، وفي الآخرة بدخول الجنان، قال المفسرون: نصرُ الله للمؤمنين محقق، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك، فإِن القاعدة هي بالظفر والنصرة، وإِنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} أي أعرض عنهم يا محمد إلى مدة يسيرة، إلى أن تُؤمر بقتالهم {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}؟ استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله؟ روي أنه لما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} استهزءوا وقالوا متى هذا يكون؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} أي لا يستبعدوا ذلك فإِن العذاب إِذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم، شبهه بجيشٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام، والحمد لله في البدء والختام لله ربّ الخلائق أجمعين. نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه، فإِنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالاً كثيرة شنيعة، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه، وهو تعليم للعباد.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:06 AM

سورة ص
بَين يَدَي السُّورَة
سورة ص مكية، وهدفها نفس هدف السور المكية، التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن - المعجز المنزَّل على النبي الأمي، المشتمل على المواعظ البليغة، والأخبار العجيبة - على أن القرآن حق ، وأن محمداً نبيٌ مرسل.
* ثم تحدثت عن الوحدانية وإنكار المشركين لها، ومبالغتهم في العجب من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى توحيد الله{اجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً؟ إنَّ هذا لشيء عجاب}.
* وانتقلت السورة لتضرب الأمثال لكفار مكة بمن سبقهم من الطغاة المتجبرين، الذين أسرفوا بالتكذيب والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال، بسبب إفسادهم وإجرامهم.
* ثم تناولت قصص بعض الرسل الكرام، تسليةً للنبي عليه الصلاة والسلام عما يلقاه من كفار مكة من الاستهزاء والتكذيب، وتخفيفاً لآلامه وأحزانه، فذكرت قصة نبي الله داود، وولده سليمان، الذي جمع الله له بين النبوة والملك، وما نال كلاً منهما من الفتنة والابتلاء، ثم أعقبتها بذكر فتنة أيوب، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وذا الكفل، هكذا في عرضٍ سريع لبيان سنة الله، في ابتلاء أنبيائه وأصفيائه.
* وأشارت السورة الكريمة إلى دلائل القدرة والوحدانية، في هذا الكون المنظور وما فيه من بدائع الصنعة، للتنبيه على أن هذا الكون لم يخلق عبثاً، وأنه لا بدَّ من دار ثانية يجازى فيها المحسن والمسيء.
* وختمت السورة الكريمة ببيان وظيفة الرسول ومهمته الأساسية التي هي مهمة جميع الرسل الكرام.
التسميَة:
تسمى السورة الكريمة "سورة ص" وهو حرف من حروف الهجاء للإِشادة بالكتاب المعجز الذي تحدى الله به الأولين والآخرين، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية.
مناقشة المشركين في عقائدهم
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ(1)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ(2)كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ(3)وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5)وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ(6)مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ(7)أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ(10)جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌمِنَالأَحْزَابِ(11)}
سبب النزول:
نزول الآية (5):
{أجعل الآلهة ..}: أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم {ص والقرآن ..} إلى قوله: {بل لَمَّا يذوقوا عذاب}.
{ص} تقدم الكلام على الحروف الهجائية، وبيّنّا أن فيها الإِشارة إلى إعجاز القرآن {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قسمٌ أقسم به الباري جل وعلا أي والقرآن ذي الشرف الرفيع، وذي الشأن والمكانة، وجواب القسم محذوف تقديره إن هذا القرآن لمعجز وإن محمداً لصادق، قال ابن عباس: {ذِي الذِّكْرِ} أي ذي الشرف {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي بل الكافرون في حميةٍ وتكبرٍ عن الإِيمان، وفي خلافٍ وعداوة للرسول عليه السلام، قال البيضاوي: أي ما كفر من كفر بالقرآن لخَللٍ وجده فيه بل الذين كفروا به {فِي عِزَّةٍ} أي استكبار عن الحق {وَشِقَاقٍ} أي خلاف للهِ ولرسوله ولذلك كفروا به {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم أهلكنا قبل أهل مكة من أمم كثيرة من القرون الخالية، لكبرهم عن الحق ومعاداتهم لرسلهم، قال أبو السعود: والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي فاستغاثوا واستجاروا عند نزول العذاب طلباً للنجاة، وليس الحينُ حينَ فرار أو مهرب ونجاة، قال ابن جزي: المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك، إذ ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص أي مفر ونجاة من ناص ينوص إذا فرَّ، ولات بمعنى ليس وأصلها لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي وعجب المشركون من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي وقال كفار مكة: إن محمداً ساحرٌ فيما يأتي به من المعجزات {كَذَّابٌ} أي مبالغ في الكذب في دعوى أنه رسول الله، وإِنما وضع الاسم الظاهر {الْكَافِرُونَ} مكان الضمير "وقالوا" غضباً عليهم، وذماً لهم وتسجيلاً لجريمة الكفر عليهم، فإن هذا الاتهام لا يقوله إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}؟ أي أزعم أن الربَّ المعبود واحد لا إله إلا هو؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي إنَّ هذا الذي يقوله محمد - إنّ الإِله واحد - شي بليغٌ في العجب، قال ابن كثير: أنكر المشركون ذلك -قبَّحهم الله- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقَّوا عنءابائهم عبادة الأوثان وأُشربته قلوبهم، فلما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلع الأوثان وإفراد الإِله بالوحدانية، أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} قال المفسرون: إن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب: كُفَّ ابنَ أخيك عنا، فإِنه يعيب ديننا، ويذم آلهتنا، ويسفِّه أحلامنا، فدعاه أبو طالب وكلَّمه في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عم إنما أريد منهم كلمةً واحدة، يملكون بها العجم، وتدين لهم بها العرب، فقال أبو جهل والمشركون: نعم نعطيكها وعشر كلمات معها!! فقال قولوا "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون {أجعل الآلهة إلهاً واحداً ..}؟ فنزلت الآيات {وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي وانطلق أشراف قريش ورؤساء الضلال فيهم، وخرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعوكم إليه من عبادة الله الواحد الأحد {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي هذا أمرٌ مدبِّر، يريد من ورائه محمد أن يصرفكم عن دينءابائكم لتكون له العزة والسيادة عليكم، فاحذروا أن تطيعوه {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} أي ما سمعنا بمثل هذا القول في ملة النصرانية التي هي آخر الملل، فإنهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد، فكيف يزعم محمد أنَّ الله واحد؟ قال ابن عباس: يعنون بالملة الآخرة دينَ النصرانية، وقال مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش أي ليس هذا في الدين الذي أدركنا عليهءاباءنا {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} أي ما هذا الذي يدعيه محمد إلا كذب وافتراء، ثم أنكروا اختصاصه عليه السلام بالوحي من بينهم فقالوا {أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}؟ الاستفهام للإِنكار أي هل تنزَّل القرآن على محمد دوننا، مع أن فينا من هو أكثر منه مالاً، وأعلى رياسةً؟ قال الزمخشري: أنكروا أن يختص صلى الله عليه وسلم بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} إضرابٌ عن مقدر تقديره: إنكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه فلذلك كفروا {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} اضراب انتقالي وغرضه التهديد والمعنى سبب شكهم أنهم لم يذوقوا العذاب إلى الآن، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن وآمنوا به {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}؟ هذا ردٌّ على المشركين فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والمعنى هل عندهم خزائن رحمته تعالى حتى يعطوا النبوة من شاءوا، ويمنعوها من شاءوا؟ قال البيضاوي: يريد أن النبوة عطيةٌ من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، فإنه {الْعَزِيزِ} أي الغالب الذي لا يغلب {الْوَهَّاب} أي الذي له أن يهب ما يشاء لمن يشاء {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}؟ أي هل لهم شيء من ملك السماوات والأرض؟ وهو إنكار وتوبيخ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} أي ان كان لهم شيء من ذلك فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليدبروا شئون الكون؟ وهو تهكم بهم واستهزاء، قال الزمخشري: تهكم بهم غاية التهكم، فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق، والتصرف في قسمة الرحمة، وكان عندهم من الحكمة ما يميزون بها بين من هو حقيقٌ بالنبوة من غيره، فليصعدوا في المعارج التي يتوصلون بها إلى العرش،حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي على من يختارون، وهو غاية التهكم بهم {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌمِنَالأَحْزَابِ} التنكير للتقليل والتحقير، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما هم إلا جندٌ من الكفار، المتحزبين على رسل الله، هم عما قليلٍ يُهزمون ويُولون الأدبار، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث بما يهذون.





تذكير الكفار بما نال أسلافهم من العذاب
ثم أخبر تعالى عما نال أسلافهم الكفار من العذاب والدمار، فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} أي كذب قبل كفار قريش أممٌ كثيرون منهم قوم نوح، وقوم هود وهم قبيلة "عاد" وفرعون الجبار ذو الملك الثابت بالأوتاد أو ذو الجموع الكثيرة، قال بعض المفسرين: سمي بذي الأوتاد لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتادٍ في يديه ورجليه ويتركه حتى يموت وقيل: لأنه صاحب الإِهرامات والمباني العظيمة الثابتة التي تقوم في الأرض كالأوتاد {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي وكذبت ثمود وهم قوم صالح وقوم لوط، وأصحاب الأيكة أي الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} أي أولئك هم الكفار الذين تحزبوا على رسلهم فأهلكهم الله، فليحذر هؤلاء المكذبون لرسول الله أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي ما كل من هؤلاء الأحزاب والأمم إلا كذَّب رسوله الذي أُرسل إِليه { فَحَقَّ عِقَابِ} أي فثبت ووجب عليهم عقابي، وحذفت الياء مراعاة لرؤوس الآيات {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي وما ينتظر هؤلاء المشركون كفار مكة إلا نفخة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور فيصعقون {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} أي ليس لها من توقف ولا تكرار، قال ابن عباس: أي ما لها من رجوع، قال المفسرون: أي أن هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة وهي المسافة بين الحلبتين لأنها تجيء في موعدها المحدد، الذي لا يتقدم ولا يتأخر، قال الزمخشري: يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي وقال كفار مكة على سبيل الاستهزاء والسخرية: عجّلْ لنا يا ربنا نصيبنا من العذاب الذي وعدته لنا، قبل أن يجيء يوم القيامة إن كان الأمر كما يقول محمد، قال المفسرون: وإِنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء كقوله تعالى{ويستعجلونك بالعذاب}.
قصة داود عليه السلام
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20)وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21)إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ(22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًامِنَالْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(25)يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)}
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي اصبر يا محمد على تكذيبهم فإن الله ناصرك عليهم، قال الصاوي: وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} أي وتذكرْ عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر، ذا القوة في الدين، والقوة في البدن، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم نصف الليل {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي كثير الرجوع والإِنابة إلى الله، والأوَّابُ: الرجَّاع إلى الله، قال أبو حيان: لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصاً للأنبياء "داود، وسليمان، وأيوب" وغيرهم، وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عاقبتُهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر ويؤول أمرك إلى أحسن مآل {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح، وتسبيحُ الجبال حقيقةٌ وكان معجزةً لداود عليه السلام كما قال تعالى {يا جبالُ أوّبي معه والطير} {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبح معه، كلٌ من الجبال والطير رجَّاع إلى طاعته تعالى بالتسبيح والتقديس، قال ابن كثير: كانت الطير تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرَّ به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبّح معه، وكذلك الجبال الشامخات كانت تُرجّع معه وتسبّح تبعاً له، قال قتادة: {أَوَّابٌ} أي مطيع {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي أعطيناه النبوَّة والفهم والإِصابة في الأمور {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي الكلام البيِّن الذي يفهمه من يُخاطب به، قال مجاهد: يعني إصابة القضاء وفهمه، وقال القرطبي: البيان الفاصل بين الحق والباطل، قال المفسرون: كان مُلك داود قوياً عزيزاً، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معاً، ويقطع ويجزم برأيٍ لا تردد فيه مع الحكمة والقوة، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} هذا الاستفهام للتعجيب وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه كما تقول لجليسك: هل تعلم ما وقع اليوم؟ تريد تشويقه لسماع كلامك، والمعنى هل أتاك يا محمد خبر الجماعة المتنازعين الذي تسوَّروا على دواد مسجده في وقت اشتغاله بالعبادة والطاعة؟ {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} أي حين دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وارتعد منهم، قال المفسرون: وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن، ودخلوا من غير الباب، في وقت كان قد خصصه للعبادة {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي لا تخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدَّى بعضنا على بعض {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} أي فاحكم بيننا بالعدل، ولا تجر ولا تظلم في الحكم {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي وأرشدنا إلى وسط الطريق يعني إِلى الطريق الحق الواضح {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} هذه بداية قصة الخصمين أي قال أحدهما: إن صاحبي هذا يملك تسعة وتسعين نعجة -وهي أنثى الضأن- وأملك أنا نعجة واحدة، قال المفسرون: وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأةً وعندي امرأة واحدة {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنِها واجعلها تحت كفالتي {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني في الخصومة، وشدَّد عليَّ في القول وأغلظ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة {وَإِنَّ كَثِيرًامِنَالْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضُهم على بعض {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل {وَظنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي علم وأيقن أنما اختبرناه بهذه الحادثة وتلك الحكومة {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أي طلب المغفرة من الله وخرَّ ساجداً لله تعالى، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه، قال أبو حيان: وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحاً، والذي يدل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإِنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظناً منه أنهم يغتالونه إذ كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن، وخرَّ ساجداً لله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن الأنبياء معصومون من الخطايا، إذ لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك لبطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون، فما حكى الله في كتابه يُمرُّ على ما أراده الله، وما حكى القُصَّاص مما فيه غضٌ من منصب النبوة طرحناه، ثم قال تعالى {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، قال ابن كثير: أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه: "حسناتُ الأبرار سيئات المقربين" {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} وإِنَّ له لقربةً وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وحسنمرجع في الآخرة {يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا تتَّبع هوى النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوى عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم إِيمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد، قال أبو حيان: وجعلُه تعالى داود خليفةً في الأرض يدلُ على مكانته عليه السلام واصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب إِليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوة.
إثبات البعث، وحال المطيعين والعاصين ، وبيان فضل القرآن
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} أي ما خلقنا هذا الكون البديع بما فيه من المخلوقات العجيبة عبثاً وسُدى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إنّ خَلْقَ الكون عبثاً لا لحكمة هو ظنُّ الكفار الفجار الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوامِنَالنَّارِ} أي فويلٌ للكفار من عذاب النار، ثم وبخهم تعالى على هذا الظنِّ السيء فقال {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ}؟ أي هل نجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين؟ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي أم نجعل الأخيار الأبرار كالأشرار الفجار؟ والغرض: أنه لا يتساوى في حكمته تعالى المحسن مع المسيء، ولا البرُّ مع الفاجر، ففي الآية استدلال على الحشر والجزاء، وفيها أيضاً وعدٌ ووعيد، قال ابن كثير: بيَّن تعالى أنه ليس من عدله وحكمته أن يساوي بين المؤمنين والكافرين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من جزاء يُثاب به المطيع، ويعاقب به الفاجر، وقد دلت العقول السليمة على أنه لا بدَّ من جزاء ومعاد، فإِنا نرى الظالم والباغي يزداد مالُه وولدُه ونعيمُه ويموت دون عقاب، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدَّ في حكمة الحكيم العليم إنصاف هذا من هذا، وإِذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعيَّن أن هناك داراً أُخرى لهذا الجزاء والمواساة وهي الدار الآخرة .. ثم بيَّن تعالى الغاية من نزول القرآن وهي العمل والتفكر فقال {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} أي هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد كتابٌ عظيم جليل، كثير الخيرات والمنافع الدينية والدنيوية {لِيَدَّبَّرُواءاياتِهِ} أي أنزلناه ليتدبرواءاياته ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، قال الحسن البصري: واللهِ ما تدبُّره بحفظ حروفه وإِضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: واللهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد أسقطه واللهِ كلَّه، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُق ولا عمل .. اللهم اجعلنا ممن قرأه وتدبَّره وعمل بما فيه.




أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:07 AM

قصة سليمان عليه السلام
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ(31)فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ(32)رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ(33)وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ(34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(40)}
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} شروعٌ في بيان قصة سليمان بن داود عليهما السلام أي رزقنا عبدنا داود بالولد الصالح المسمَّى سليمان وأعطيناه النبوة، قال المفسرون: المراد بالهبة هنا هبة النبوة كما قال تعالى {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي في النبوة، وإلا فقد كان له أولاد كثيرون غيره {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبدُ سليمان فإِنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} أي اذكر حين عُرض على سليمان عشية يوم من الأيام -أي بعد العصر- الخيل الواقفة على طرف الحافر، السريعة الجري، قال الرازي: وُصفت تلك الخيل بوصفين: الأول: الصفون وهو صفة دالة على فضيلة الفرس، والثاني: الجياد وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإِذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإِذا جرت كانت سراعاً في جريها {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي آثرت حبَّ الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله، قال المفسرون: عُرضت عليه آلاف من الخيل تركها له أبوه، فأُجريت بين يديه عشياً فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له خاص حتى غابت الشمس {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي قال سليمان ردُّوا هذه الخيل عليَّ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أي فشرع يذبحها ويقطع أرجلها تقرباً إلى الله، لتكون طعاماً للفقراء لأنها شغلته عن ذكر الله، قال الحسن: لما رُدَّت عليه قال: لا والله لا تشغليني عن طاعة ربي ثم أمر بها فعقرت وكذلك قال السُّدِّيُّ، وأما قول من قال: إنها شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فضعيف، لأنه لا يتصور من نبيٍ أن يترك صلاة العصر من أجل اشتغاله بالدنيا، والنصُّ صريح {عن ذكر ربي} {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} هذه إشارة إلى ابتلاء آخر لسليمان ابتلي به، ثم تاب وأناب من تلك الهفوة والزلة، ولعلَّ هذه الفتنة ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كلُّ واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل: إن شاء الله- فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) قال ابن كثير: "وقد أورد بعضُ المفسرين آثاراً كثيرة عن جماعةٍ من السلف، وأكثرها أوكلُّها متلقاة من الإِسرائيليات، وفي كثير منها نكارة شديدة" واختار الإِمام فخر الدين الرازي أن الفتنة المذكورة في الآية الكريمة يقصد بها فتنته في جسده، حيث إن سليمان ابتلي بمرضٍ شديد نحل منه وضعف، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي، قال والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى حالة الصحة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي اغفر لي ما صدر مني وأعطني ملكاً واسعاً لا يكون لأحدٍ غيري ليكون دلالة على نبوتي {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي واسع الفضل كثير العطاء {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} أي فذللنا الريح لطاعته إجابةً لدعوته {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تسير بأمره لينةً طيبة حيث قصد وأراد {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا له الشياطين كذلك تعمل بأمره، منهم من يستخدمه لبناء الأبنية الهائلة العجيبة، ومنهم من يغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي وآخرين من الشياطين - وهم المردة - موثقون في الأغلال، مربوطون بالقيود والسلاسل لكفرهم وتمردهم عن طاعة سليمان {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي وقلنا له: هذا عطاؤنا الواسع لك، فأعطِ من شئت وامنعْ من شئت، لا حساب عليك في ذلك، لأنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِنّ له عندنا لمكانة رفيعة في الدنيا، وحسن مرجع في الآخرة.
قصة أيوب عليه السلام
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، والإِضافة للتشريف أي اذكر يا محمد عبدنا الصالح أيوب عليه السلام، الذي ابتلي بأنواع البلاء فصبر. {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي حين نادى ربه متضرعاً إليه قائلاً إني مسني الشيطان بتعبٍ ومشقة، وألمٍ شديد في بدني، قال المفسرون: وإِنما نسبَ ذلك إلى الشيطانتأدباً مع الله تعالى، وإِن ْكانت الأشياء كلها خيرها وشرها من الله تعالى، وكان أيوب قد أُصيب في ماله وأهله وبدنه، وبقي في البلاء ثمان عشرة سنة، وقد تقدمت قصته {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} أي وقلنا له اضرب برجلك الأرض فضربها فنبعت له عين ماءٍ صافية {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي وقلنا له هذا ماءٌ تغتسل به، وشراب تشرب منه، فاغتسل منها فذهب ما كان بظاهر جسده، وشرب منها فذهب كل مرضٍ كان داخل جسده، قال أبو حيان {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي ما يُغتسل به {وَشَرَابٌ} أي ما يشرب منه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك، والجمهور على أنه نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأُخرى فشفي {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أي أحيا الله من مات من أولاده ورزقه مثلهم، قال الرازي: الأقرب أن الله تعالى متعه بصحته وبماله وقوَّاه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وعن الحسن أنه أحياهم بعد أن هلكوا، وقال أبو حيان: الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم {رَحْمَةً مِنَّا} أي رحمةً منَّا به لصبره وإِخلاصه {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي وعبرة لذوي العقول المستنيرة، قال ابن كثير: أي وذكرى لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} أي وقلنا له خذْ بيدك حزمة من القضبان الرفيعة فاضرب بها زوجتك لتبرَّ بيمينك ولا تحنث، قال المفسرون: كان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوطٍ إِذا برئ من مرضه، وسبب ذلك أنها كانت تخدمه في حالة مرضه، فلما اشتد به البلاء وطالت به المدة وسوس إليها الشيطان: إلى متى تصبرين؟ فجاءت إلى أيوب وفي نفسها الضجر فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟ فغضب من هذا الكلام وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ حزمةً من قضبانٍ خفيفة فيها مئة عود ويضربها بها ضربة واحدةً ويبرَّ في يمينه، ورحمةً من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولهذا قال تعالى { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} أي ابتليناه فوجدناه صابراً على الضراء {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبد أيوب إِنه كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة والعبادة.
قصة إبراهيم وذريته: إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ(45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ(46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ(47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ(48)هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ(49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ(50)مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ(51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ(52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ(53)إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ(54)}
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} أي اذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الأخيار وتأسَّ بهم، الذين جمعوا بين القوة في العبادة، والبصائر في الدين، قال الطبري: أي أهل القوة في عبادة الله، وأهل العقول المبصرة {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصلةٍ خالصة عظيمة الشأن، هي عدم التفاتهم إلى الدنيا وتذكرهم للدار الباقية، قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همٌّ غيرها {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} أي وهم عندنا المختارون المجتبون على سائر الناس لأنها أخيار أبرار {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} أي واذكر يا محمد هؤلاء الرسل أيضاً وكلٌّ من خيرة الله فاقتد بهم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله {هَذَا ذِكْرٌ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من سيرة الرسل الكرام ذكرٌ جميلٌ لهم في الدنيا، وشرفٌ يذكرون به أبداً {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِن لكل متقٍ لله مطيع لرسله لحسن مرجع ومنقلب، ثم فسره بقوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ} أي جنات إقامة في دار الخلد والنعيم قد فتحت لهم أبوابها انتظاراً لقدومهم، قال الرازي: إن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا المؤمنين فتحوا لهم أبوابها، وحيوهم بالسلام، فيدخلون كذلك محفوفين بالملائكة على أعزِّ حال، وأجمل هيئة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي متكئين في الجنة على الأرائك وهي السرر الوثيرة { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي وهم متكئون على الأسرَّة يطلبون أنواع الفواكه، وألوان الشراب كعادة الملوك في الدنيا، قال ابن كثير: أي مهما طلبوا وجدوا، ومن أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام، قال الصاوي: والاقتصار على دعاء الفاكهة للإِيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه لا جوع في الجنة{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} أي وعندهم الحور العين اللواتي لا ينظرن إلى غير أزواجهن أتراب أي في سنٍّ واحدة {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَاب} أي هذا جزاؤكم الذي وعدتم به في الدنيا {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة لا زوال له ولا انقطاع ولا انتهاء أبداً، قال في الظلال: يبدأ هذا المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع والأجزاء، وفي السِّمات والهيئات: منظر المتقين لهم {حسن مآب} ومنظر الطاغين لهم {شر مآب} فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحةً لهم الأبواب، ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعة الطعام والشراب، ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب، وهنَّ مع شبابهن {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن، وكلهن شواب أتراب، وهو متاع دائم، ورزق من عند الله ما له من نفاد.
عقاب الطاغين الأشقياء
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ(55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ(58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ(61)وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْمِنَالأَشْرَارِ(62)أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ(63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64)}
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} {هَذَا} خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره الأمرُ هذا وهي بمنزلة أما بعد، ثم قال {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} أي وإِنَّ للكافرين الذين كذبوا الرسل، لشرَّ منقلب يصيرون إليه في الآخرة ثم فسَّر هذا المصير بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي جهنم يذوقونها ويصلون سعيرها، وبئست جهنم فراشاً ومهاداً لهم، قال ابن جزي: لما تمَّ ذكر أهل الجنة ختمه بقوله {هَذَا} ثم ابتدأ بذكر وصف أهل النار، وعنى بالطاغين الكفار {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا هو العذاب الأليم فليذوقوه وهو الحميم أي الماء الحار المحرق، والغسَّاق وهو ما يسيل من صديد أهل النار، قال الطبري: في الآية تقديم وتأخير أي هذا حميم وغساق فليذوقوه، والحميمُ الذي أُغلي حتى انتهى حره، والغسَّاق ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي وعذابٌ آخر من مثل هذا العذاب المذكور كالزمهرير، والسموم، وأكل الزقوم لهم منه أنواع وأصناف .. ثم حكى ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار فقال {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي تقول لهم خزنة جهنم: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، ودخلوها بصحبتكم كما اقتحموا معكم في الجهل والضلال، لا أهلاً ولا مرحباً بهم {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} أي إِنهم ذائقو النار، وداخلوها كما دخلتموها أنتم، قال الرازي: والاقتحامُ ركوبُ الشدة والدخولُ فيها، وهذا من كلام خزنة جهنم لرؤساء الكفرة عن أتباعهم، والعرب تقول لمن يدعون له: مرحباً أي أتيتَ رحباً في البلاد لا ضيِّقاً، ثم يدخلون عليها كلمة "لا" في دعاء السوء {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} أي قال الأتباع للرؤساء الطغاة الذين أضلوهم بل أنتم لا أهلاً بكم ولا مرحباً، قال المفسرون: عندما يدخل الأتباع جهنم تتلقاهم الرؤساء بقولهم {لا مَرْحَبًا بِكُمْ } أي لا تلقون هنا رحباً ولا خيراً -وهذه تحية أهل النار- كما قال تعالى {كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها} فعند ذلك يقول لهم الداخلون {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} وهذا على قول القائل "تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع" فكذلك أهل النار يتلقون بعضهم باللعنات والشتائم بدل التحيات والسلام، ثم يعلِّل الأتباع ذلك بقولهم {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي أنتم قدمتم لنا هذا العذاب وكنتم السبب في ضلالنا، فبئس المنزل والمستقر لنا ولكم نار جهنم {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} هذا أيضاً من كلام الأتباع دعوا الله أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم {ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً في النار} والضعفُ زيادة المثل، قال البيضاوي: وقال الأتباع أيضاً {ربنا من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً} أي مضاعفاً وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاًكُنَّا نَعُدُّهُمْمِنَالأَشْرَارِ}؟ أي وقال الطغاة من رؤساء الكفر وأئمة الضلال: ما لنا لا نرى في النار هؤلاء الذين كنا نعدُّهم في الدنيا من الأشرار؟ يعنون بهم المؤمنين، قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول أبو جهل: أين بلال، أي صهيب، أين عمار؟ أولئك في الفردوس! واعجباً لأبي جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أُمه، وأسلم أخوه وكفر هو، قال ابن كثير: هذا إِخبار عن الكفار في النار، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون، يقول أبو جهل: ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضربُ مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخلها الكفار افتقدوهم فلم يجدوهم، ثم قالوا {أتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ}؟ أي يؤنبون أنفسهم قائلين: أجعلنا هؤلاء المؤمنين في الدنيا هزءاً وسخرية؟ أم هم معنا في النار ولكن لا نراهم؟ قال البيضاوي: إنكار على أنفسهم وتأنيبٌ لها في الاستسخار من المؤمنين، كأنهم قالوا: ليسوا ههنا في النار؟ أما مالت عنهم أبصارنا فلا نراهم؟ قال تعالى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أقوال أهل النار وتخاصمهم، لهو الحقُّ الذي لابدَّ أن يتكلموا به، فنحن نخبرك عن تخاصمهم في جهنم، وعن أقوالهم وهم فيها، قال الرازي: وإِنما سمَّى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء {لا مرحباً بهم} وقول الأتباع {بل أنتم لا مرحباً بكم} من باب الخصومة.
بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الوحدانية
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} هذا شروع في بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إثبات الوحدانية، والمعاد والجزاء، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أنا رسولٌ من رب العالمين، أُنذركم وأخوفكم من عذابه إن لم تؤمنوا، ولستُ بساحرٍ ولا شاعر ولا كاهن {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي وليس لكم ربٌ ولا معبود إلا الواحد الأحد، الغالب على خلقه، القاهر لكل شيء {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق جميع ما في الكون من الخلائق والعجائب، والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِعدام {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي الغالب على أمره الذي لا يُغلب، المبالغ في المغفرة لمن شاء من العباد، قال الرازي: لما ذكر أنه {قهار} وهذا مشعر بالترهيب والتخويف، أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب وذكر ثلاث صفات دالة على الرحمة، والفضل والكرم وهي: "الرب، العزيز، الغفار" فكونه رباً مشعر بالتربية والإِحسان، وكونه عزيزاً مشعرٌ بأنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وأنه يرجى فضله وثوابه، فلو بقي الإِنسان على الكفر سبعين سنة، ثم تاب فإِن الله سبحانه يغفر له برحمته جميع ذنوبه، ويمحو اسمه من ديوان المذنبين، ويوصله إلى درجات الأبرار {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن الذي جئتكم به هو نبأ هام وأمر عظيم الشأن، أنتم عنه غافلون لا تلتفتون إليه ولا تعلمون قدره {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي من أين لي العلم باختلاف الملائكة في شأن خلق آدم لولا الوحي المنزل عليَّ؟ قال ابن جزي: والقصدُ الاحتجاج على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك، والإِشارة إلى اختصام الملائكة هو ما جاء في قصة آدم حين قال تعالى لهم {إني جاعل في الأرض خليفة} حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما يوحى إليَّ إلا لأني رسولٌ مرسل إليكم لأنذركم عذاب الله، ومعنى النذير المنذر المخوّف من عذاب الله.
قصة آدم عليه السلام
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72)فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَمِنَالْكَافِرِينَ(74)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَمِنَالْعَالِينَ(75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَمِنَالْمُنظَرِينَ(80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(84)لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(85)}
ثم شرع تعالى في ذكر قصة آدم فقال {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} أي اذكر حين أعلم ربك الملائكة أنه سيخلق إِنساناً من طين وهو آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي فإِذا أتممتُ خلقه ونفخت فيه الروح فاسجدوا إكراماً له وإِعظاماً، قال القرطبي: وهذا سجود تحية لا سجود عبادة {فَسَجَدَ الْمَلائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي فسجد جميع الملائكة خضوعاً له وتعظيماً لأمر الله بالسجود له {إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَمِنَالْكَافِرِينَ} أي لكن إبليس استكبر عن طاعة الله وأبى السجود لآدم فصار من الكافرين، قال ابن كثير: امتثل الملائكة كلهم سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عز وجل فيه، وادعى أنه خيرٌ من آدم، فكفر بذلك وطرده الله عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ أي قال له ربه: ما الذي صرفك وصدَّك عن السجود لمن خلقته بذاتي من غير واسطة أب وأُم؟ قال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريماً لآدم وإِن كان خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَمِنَالْعَالِينَ}؟ أي استكبرتَ الآن عن السجود أم كنت قديماً من المتكبرين على ربك؟ وهذا على جهة التوبيخ له لاستنكافه عن السجود {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال اللعينُ أنا خير من آدم وأشرف وأفضل {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خيرٌ من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرج من الجنة فإِنك لعين مطرود من كل خيرٍ وكرامة {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أي وأنت مبعدٌ عن رحمتي إلى يوم الجزاء والعقوبة ثم تلقى ما هو أفظع وأشنع من اللعنة {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي أخرني وأمهلني إلى اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من القبور، قال أبو السعود: أراد بذلك أن يجد فسحةً لإِغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موتَ بعد البعث فأجابه الله بأنه مؤخر إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي طلبه {قَالَ فَإِنَّكَمِنَالْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي إِنك من الممهلين إلى وقت النفخة الأولى حيث يموت الناس وتنتهي مهمتك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِين} أي قال اللعين: أُقسم بعزتك لأُضلنَّ بني آدم أجمعين، إلا الذين أخلصتهم لعبادتك وعصمتهم مني {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي قال تعالى أقسم بالحقِّ ولا أقول إلا الحقَّ لأملأن جهنم منك ومن أتباعك، قال السُّدي: هو قسم أقسم الله به، وجملة "والحقَّ أقول" اعتراضية لتأكيد القسم.
حال الداعي والدعوة والقرآن
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَامِنَالْمُتَكَلِّفِينَ} أي قل لهم يا محمد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولست من الذين يتصنعون ويتحيلون حتى انتحل النبوة وأتقوَّل القرآن {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إلا عظة وذكرى للإِنس والجن والعقلاء {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي ولتعلمنَّ خبره وصدقه عن قريب، وهذا وعيدٌ وتهديد، قال الحسن البصري: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 02:08 AM

سورة الزُّمَر
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الزمر مكية، وقد تحدثت عن "عقيدة التوحيد" بالإِسهاب، حتى لتكاد تكون هي المحور الرئيسي للسورة الكريمة لأنها أصل الإِيمان، وأساس العقيدة السليمة، ومنبع كل عمل صالح.
* ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن "المعجزة الكبرى" الدائمة الخالدة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بإِخلاص الدين لله، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين، وذكرت شبهة المشركين في عبادتهم للأوثان واتخاذهم شفعاء، وردَّت على ذلك بالدليل القاطع.
* ثم ذكرت الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، في إبداعه لخلق السماوات والأرض، وفي ظاهرة الليل والنهار، وفي تسييره للشموس والأقمار، وفي خلق الإِنسان في أطوار في ظلمات الأرحام، وكلُّها براهين ساطعة على قدرة الله ووحدانيته.
* وتناولت السورة موضوع العقيدة بوضوح وجلاء، وكشفت عن مشهد الخسران المبين للكفرة المجرمين في دار الجزاء، حيث يذوقون ألوان العذاب، وتغشاهم ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم.
* وذكرت السورة مثلاً يوضّح الفارق الكبير بين من يعبد إلهاً واحداً، ومن يعبد آلهةً متعددة لا تسمع ولا تستجيب، وهو مثلٌ للعبد الذي يملكه شركاء متخاصمون، والعبد الذي يملكه سيد واحد، ثم ذكرت حالة المشركين النفسية عندما يسمعون توحيد الله تنقبض قلوبهم، وإِذا سمعوا ذكر الطواغيت هشُّوا وبشُّوا.
* ثم جاءت الآيات طريَّة نديَّة تدعو العباد إلى الإِنابة لربهم، والرجوع إليه، قبل أن يداهمهم الموت بغتة، أو يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون، وحينئذٍ يتوبون ويندمون في وقتٍ لا تنفع فيه توبة ولا ندم.
* وختمت السورة الكريمة بذكر نفخة الصعق، ثم نفخة البعث والنشور، وما يعقبهما من أهوال الآخرة وشدائدها، وتحدثت عن يوم الحشر الأكبر، حيث يساق المتقون الأبرار إلى الجنة زمراً، ويساق المجرمون الأشرار إلى جهنم زمراً، في مشهد هائل يحضره الأنبياء والصديقون والشهداء الأبرار، والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد والثناء في خشوع واستسلام.
التسميَــة:
سميت "سورة الزمر" لأن الله تعالى ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار، أولئك مع الإِجلال والإِكرام، وهؤلاء مع الهوان والصغار.
* * *
تنزيل القرآن، والأمر بإخلاص العبادة لله
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِمِنَاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)}
سبب النزول:
نزول الآية (3):
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا}: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِمِنَاللَّهِ} أي هذا القرآن مُنَزَّلٌ من الله جل وعلا {الْعَزِيزِ} أي القادر الذي لا يُغلب {الْحَكِيمِ} أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر والضمائر، ومعنى "الخالص" الصافي من شوائب الشرك والرياء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده، قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السماواتِ والأرض؟ ومن ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لاختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني - إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التوالد المعروف - ولكنه لم يشأ ذلك لقوله {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} وقوله {مما يخلق} أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله، قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له.
دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6)إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته، فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس، قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى : يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي دلَّلهما لمصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان، قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه "ألا" للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقهر، وجميع صفات الألوهية {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل، قال الطبري: المعنى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {ثم خلق منها زوجها} يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه {وَأَنْزَلَ لَكُمْمِنَالأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولةوهي - الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى، قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي البطن، والرحم، والمشيمة وهو -الكيس الذي يغلّفُ الجنين- {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّءابائكم الأولين {لَهُ الْمُلْكُ} أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإِحسانه فقال {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي إن تكفروا أبها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر، قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم، قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وقال هنا: "يرضه لكم" لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفس أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع.
حال المؤمن والكافر، لا يستويان ؟
{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(8)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(9)}
{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرّ} أي وإِذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة، مقبلاً إليه مخبتاً مطيعاً {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي نسي الضر الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك، عمراً قليلاً وزمناً يسيراً {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي فمصيرك إلى نار جهنم، وأنت من المخلدين فيها {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة، راجياً رحمة ربه وهل الجنة، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر؟ لا يستويان عند الله، ثم ضرب مثلاً فقال {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل؟ فكما لا يستوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت، والسجود، والقيام، وأما العلم ففي قوله {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ وهذا يدل على أن كمال الإِنسان محصورٌ في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره أمَّنْ هو قانتٌ كغيره؟ وإِنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثَّل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم.



الساعة الآن 04:12 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى