منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6759)

ميارى 15 - 5 - 2010 09:41 PM

3 ـ النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه:

وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام، فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك وقدم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا، فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين[1] يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال[2].

4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:

فقد كان بالشام عندما عزم يزيد أن يبعث جيشاً إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتتل بهم نفسك وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فأني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقاً ولا يقاتلهم فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم[3] وكان ردهم عليه: لا يدخلها علينا أبداً[4].

5 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:

فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمراً من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل والناس في قتالهم أيام الحرة[5].

ومن كل ما سبق ندرك أن أهل المدينة انقسموا تجاه البيعة ليزيد والدخول في طاعته إلى قسمين، القسم الأول منهم تزعمه عدد من دفعه الحماس والغيرة على الدين إلى خلع يزيد ولقد اشترك بعض الفقهاء في موقعة الحرة، وانضم إلى أهل المدينة وخلع يزيد، وقاتل الجيش الأموي، ومن أبرزهم محمد بن عمرو بن حزم[6]، وهذا يعطي لحركة أهل المدينة خصوصية الارتكاز على المرجعية الشرعية للفقهاء في مقاومة حكم يزيد بن معاوية ولقد اعتمدت ثورة أهل المدينة على فتوى هؤلاء العلماء ومن قبلهم الحسين بن علي في وجوب مقاومة المنكر ويتضح ذلك في خطاب عبد الله بن حنظلة حين قال: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء[7]، وقد شارك في ثورة أهل المدينة عدد من صغار الصحابة هم: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن بن أزهر وعبد الله بن حنظلة[8]، إلا أن معظم الصحابة ممن عاش إلى وقعة الحرة لم يشتركوا فيها، وحاولوا إقناع الثائرين بعدم خلع يزيد والخروج على حكمه[9].

ومع أن الأسس الشرعية، التي قامت عليها حركة أهل المدينة وفتاويهم في الخروج على يزيد هي نفس الأسس التي بنى عليها الحسين موقفه، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب على علماء الأمة وقادتها، وأن بني أمية قد تجاوزوا في حكمهم حدود الشريعة، سواء على الصعيد السياسي وطريقة الحكم كالانفراد بالسلطة وغياب الشورى، والاستبداد.. أو على الصعيد الشخصي، كانعدام الكفاءة والعدالة في شخص يزيد، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً من الناحية الشرعية في الأصل الذي بنى عليه الحسين فتواه ومن ثم اتخذ قراره في مقاومة يزيد، فالحسين لم يعط البيعة ليزيد منذ البداية، وعلى ذلك فإنه كان يرى أنه يحق له ـ من هذا المنطق ـ حرية التصرف في مقاومة الحكم الأموي، بينما نجد أن أهل المدينة قد أعطوا البيعة ليزيد، ومن بعد ذلك رأوا أنهم يجوز لهم نقض البيعة وخلع يزيد نظراً لعدم كفاءته وصلاحه للحكم فأضافوا بذلك بعداً جديداً إلى فتوى الحسين، وهي أنه يجوز خلع الحاكم المسلم الذي يعتقد بفساده وفسوقه وهو أمر خالفهم فيه بقية الصحابة أي القسم الثاني من أهل المدينة ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل فقهاء المدينة من الصحابة ينددون بقوة بخروج أهل المدينةـ فهم يرون أن نقض البيعة لا يجوز، وأن فسوق الحاكم لا يوجب عليه الخروج[10]، يضاف إلى ذلك خوف كثير من فقهاء ومفتي الصحابة ممن حضر موقعة الحرة على أهل المدينة من القتل والخوف على انتهاك قدسية مدينة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وقد وقع ذلك بالفعل[11]، ومع ذلك فإن جميع الصحابة وفقهاء المسلمين لم يرضوا عن تصرف يزيد وقتله أهل الحرة واستباحته المدينة[12] بل إن ابن تيمية يعتبر هذا التصرف من كبائر الذنوب التي اقترفها يزيد[13] .

ثالثاً : معركة الحرّة:

اشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصرون في دار مروان بن الحكم، فأرد أن يخلصهم من هذا الحصار قبل أن يقتلوا أو يحل بهم مكروه ـ وكانوا ألف رجل ـ فعز عليه أن يقتل هؤلاء، وفي سلطانه دون أن يقدم لهم عوناً فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغزو البيت[14] ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي[15].

1 ـ وصية يزيد لمسلم :

اجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيراً، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه وأمر مسلماً إذا فرغ من المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني[16].

2 ـ مسلم يستعرض الجيش:

ركب مسلم بن عقبة فرسه واستعرض جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، فجعل على هل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيس بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعاً مسلم بن الوليد بن عقبة المرِّيّ الغطفاني[17]، وسار مسلم إلى المدينة فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، فاستوقفهم وسألهم عن الوضع في المدينة، فلم ينطقوا بجواب، وكان أهل المدينة، قد أطلقوا حصارهم بعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ألاَّ يدلوا على عورة ولا يعاونوا عدواً، وطلب مسلم منهم أن يدلوه على ما ورائهم فلم يستجيبوا، فغضب مسلم منهم غضباً شديداً، فلم يبرد غضبه إلا عبد الملك بن مروان الذي دلَّه على الخطة التي يجب إتباعها في حرب المدينة، فأشار إليه بأن يأتيها من جهتها الشرقية، ويلحق في الجنوب منها، يواجه أهل المدينة، في مكان يسمى الحرَّة، وتأتي الشمس أمام جيش الشام فتلمع خوذهم وسلاحهم فيرهبون عدوهم، ويكون لهم السيطرة من الوجهة الحربية[18].

3 ـ بدء المعركة : وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ذي الحجة 63هـ وقعت المعركة المشؤومة، فوجه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، وحمل عبد الله بن حنظلة الغسيل على خيل الشام، فانكشفت الخيل، وانهزموا حتى انتهوا إلى مسلم، فنهض مسلم بمن معه وقاتلوا قتالاً شديداً، وانكشف أهل المدينة من كل جانب وجاء الفضل بن عباس بن ربيعة إلى ابن الغسيل فقاتل معه، وطلب منه أن يجمع الفرسان ليقاتلوا معه وكان قد عزم على الوصول إلى مسلم بن عقبة ليقتله، فأمر بن الغسيل أن يجتمع الفرسان حول الفضل، وحمل الفضل بهم على أهل الشام فانفرجوا وجثث الرجال أمامه على الركب، ومضى نحو راية مسلم فقتل صاحبها وهو يظنه مسلماً[19]، وكان الذي قتله الفضل غلاماً لمسلم اسمه رومي وأخذ مسلم الراية ونادى في جيشه يحضهم على القتال وأمر أحد قادته أن ينضحوا ابن الغسيل بالنبل ونادى مسلم: يا أهل الشام، أهذا هو قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يُعزّوا به نصر إمامهم، قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا[20] في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، ومشى برايته، وشدت الرجال أمام الراية، وصرع الفضل ابن عباس بن ربيعة وما بينه وبين أطناب مسلم إلا عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم بن نعيم العدوي في رجال من أهل المدينة كثير[21]، ثم أن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن حنظلة الغسيل ورجاله حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرساً له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها وأنسابها، ولا أكثرها عدداً، ولا أوسعها بلداً، ولم يخصكم الله بالذي خصكم به من النصر عل عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيَّروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والظفر[22]. وأمر مسلم أجدر رماته أن يصوب رميه نحو ابن الغسيل فقال ابن الغسيل: علام تستهدنون لهم؟ من أراد التعجل فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال الغدوُّ إلى ربكم. فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعه قريري عين، فنهض القوم واقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه أمامه واحد بعد واحد حتى قتلوا بين يديه وقتل هو وقتل معه أخوه[23].

4 ـ نهاية المعركة :

انتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير من القادة ووجوه الناس ولم يخف مروان أسفه على ابن حنظلة ومحمد بن عمرو بن حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم، بل كان يثنى عليهم ويذكرهم بأحسن صفاتهم التي اشتهروا بها[24]، وكان القتل ذريعاً في المدنيين وقد شبهتهم الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه[25]،وقد قتل في هذه المعركة، عدد من الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان ـ فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرَّة ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طبّاخ[26]، ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال[27]، وقد تابعه على ذلك أبو العرب[28]، والأتابكي[29]، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل من حملة القرآن وقال الراوي: وحسبت أنّه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم[30] ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكر خليفة[31].

5 ـ المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين:

ومن الغريب تلك المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين فمثلاً هناك رواية الواقدي والتي أخذ بها غالب المتقدمين والمتأخرين قال الواقدي عن عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم بلغ القتلى يوم الحرَّة؟ قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس فسبعمائة، وسائر ذلك عشرة آلاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل[32] والسند عن الواقدي وهو متروك، ثم إنه عورض بسند أصح منه، وهي رواية مالك، فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى[33]، ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكر الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا الحد[34].

6 ـ نهب المدينة: لقد أشتهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا، وذلك لأن معركة كانت لثلاث يقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الإنتهاب فقد قال: .. وظفر ـ مسلم بن عقبة ـ بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثا[35]. وقد وردت لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال: ولما استبيحت المدينةـ يعني الحرة ـ دخل أبو سعيد الخدري غاراً[36]، ومن هنا يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد حيث جاءت هاتان اللفظتان في غالب المصادر المتقدمة[37]، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسؤولية انتهاب المدينة، فعند ما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد قال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال نهبها[38]. وقال بن تميمة: فبعث إليهم ـ أي أهل المدينةـ جيشاً وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا[39]وذهب إلى ذلك بن حجر[40]ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب من المدينة والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد هرب من المدينة ودخل غاراً والسيف في عنقه ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمي وإثمك قال: أنت أبو سعيد الخدري قال نعم: قال: فاستغفر لي فخرج[41]. وقد ذكر الواقدي أنّ أهل الشام نتفوا لحيته انتقاماً منه ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة[42]. ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يمثل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم يقفوا بجانب المعارضين وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال وتعرف للمعارضة للحكم الأموي[43].

لقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا خطأ كبير، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه، فعاقبه الله بنقيض قصده فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر[44]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء[45]ومن الأحاديث التي تدل على شناعة جريمة إخافة أهل المدينة وتبين سوء عاقبة فاعلها[46]قوله صلى الله عليه وسلم: من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً[47].





ميارى 15 - 5 - 2010 09:42 PM

7 ـ ما قيل حول انتهاك الأعراض:

لم نجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي ألفت في الفتن[1]وكذلك لم نجد في المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمد على روايات الإخبار بين المشهورين مثل عوانة بن الحكم وأبي مخنف الشيعي وغيرهما[2]، وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض، المدائني المتوفي سنة 225هـ حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان قال: وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، ويعتبر ابن الجوزي هو أول من أورد هذا الخبر في تاريخه[3]، وفي رسالته الخاصة التي ألفها في الطعن على يزيد بن معاوية وإظهار مثالبه[4]، وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة المتوفي في القرن العاشر الهجري[5]، ويبدو أن الطبري، والبلاذري وخليفة بن خياط وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر ، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء[6]، ومن الجدير بالذكر أن كل من أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط[7]، وكلاهما لا تصح ولا تثبت وقد ذكر العصامي فرية لم يسبق إليها حيث قال: وافتض فيها ألف عذراء وإن مفتضها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم فلم يجد ففتح مصحفاً قريباً منه ثم أخذ من أوراقه ورقة فمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه[8]، وقد أطلق العنان بعض الكتّاب لرغباتهم وأهوائهم ولم يستندوا إلى إي دليل والروايات المتعلقة بالاغتصاب لا يمكن الاعتماد عليها[9]، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة تنفي وجود أي نوع من الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت إنتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض[10].

إن انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس لها من الصحة، وأنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض، يتخذ من الكره والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعاً له وتهدف إلى إظهار جيش الشام، الذي يمثل الجيش الأموي جيشاً بربرياً لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو أخلاقية، وهذا الاتهام لا يقصد به اتهام الجيش الأموي فقط، بل إنَّ الخطورة التي يحملها هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي، إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعاً شاسعة في تلك الفترة[11]، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك مثل د.نبيه عاقل[12]، ود.العرينان[13]. ود. العقيلي[14]، وكذلك فلها وزن[15]، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول الموضوع وأثبت بطلان هذه الأكاذيب[16].



8 ـ أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد بن معاوية:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة من المدنيين من أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبين أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، فهناك رواية مجملة تفيد بأن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، وذلك بعد انتهاء معركة الحرّة وتضيف الرواية: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم[17]، وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة من أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيد ليزيد في طاعة الله ومعصيته. وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة جداً، ثم إن متونها يكتنفها الغموض، فليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟ والذي يبدو من خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت من جميع الناس[18]، وحتى أن علي بن الحسين قد أتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل عل أن أهل المدينة ـ الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة[19]، ولقد وردت روايات أخرى تفصل وتبين هذه البيعة، وتجعل هذه البيعة لفئة مخصوصة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة ومحاولته الخلاص إلى قتلهم بتلك البيعة[20]، يقول الدكتور يوسف العش: وبعد انتهاء معركة الحرّة أحضر مسلم مدبري الفتن واستعرضهم، وطلب إليهم أن يبايعوه على أنّهم خول ليزيد، ويحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما يشاء، فلم يقبلوا بأن يبايعوا هذه البيعة فقتلهم، وكان يريد أن يقضي على فتنتهم بالصغار، والحط من منزلتهم والتحقير من شأنهم، بحيث يعتبرون عبيداً، هم وما يملكون[21]. وهذا انحراف عظيم عن شرع الله تعالى، ودليل على عسف الدولة وظلمها وجبروتها وقسوتها وتجاوزنها الحدود المعقولة والمنقولة بسبب غضبها وحنقها على أهل المدينة.



9 ـ وفاة مسلم بن عقبة: 64هـ:

نفذ مسلم وصية يزيد بحذافيرها، فلم يفاجيء أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، ولما مضت الثلاث، حاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلماً تروى واستمر في حصار المدينة المحرمة، ولكن غلبه حبه لسفك الدماء، فدخل المعركة وأنزل بأهل المدينة روعاً عظيماً، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وشتتوا شملهم ولم ينج منهم إلا أسير أو هارب إلى مكة لينضم إلى ابن الزبير وقد أسرف مسلم في قتل المسلمين حتى بعد انتهاء المعركة فقتل رجالاً خرجوا من المعركة سالمين، ولم يكن له ليقتلهم وقد انتهت المعركة، واستسلمت المدينة، ولكن غلب عليه طبعه، وجرى في عروقه دم الشر الذي فطر عليه، فكان يقتل الرجل لمجرد أن يقول إنه يبايع على كتاب الله وسنه رسوله، أو يبايع على سنة أبو بكر وعمر، وبالطبع لم يكن هذا أبداً مبرراً لسفك دماء وإزهاق أرواح[22]، ولكنه الظلم والعسف والتجبر والطغيان.

وفي أوّل المحرم من عام 64هـ بعد فراغ مسلم من حرب المدينةـ سار إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش[23]، بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعابه فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله أحب إليّ من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقيُّ. ثم مات قبحه الله ودفن بالمُشلل[24]. انظر إلى شدة جهله وحماقته وكيف كان يعتقد أنه يتقرب بقتل هؤلاء إلى الله، وأنه يزداد بقتلهم قربى منه ـ سبحانه ـ والناظر في دعائه يستشعر الأسباب التي جعلت مسلماً يدير المعركة بشراسة، ويسرف في دماء المسلمين من غير وازع ولا رادع فقد كان مسلم يعتقد أن قتل أهل المدينة قربى إلى الله، فأسرف في القتلى وكان يؤمن بأن قتلهم هو السبيل إلى الجنة، فأمعن في سفك الدماء ولو أن الأحمق الجاهل الذي كان حريصاً أشد الحرص على طاعة أمير المؤمنين ولم يحرص قط على طاعة الله، وكان يكره معصية أمير المؤمنين عند الموت، بقدر ما كان يكره طاعة الله في عباده، لو أنه فقه أن زوال الدنيا عند الله أهون من سفك دم امرىء مسلم، ولو أنه علم أن ما فعله أهل المدينة لا يبيح دماءهم ولا تستباح أموالهم لو أنه علم ذلك لكان يكفيه من إدارة المعركة القدر الذي يخضع الناس ليزيد[25].

10 ـ كيف استقبل يزيد خبر موقعة الحرّة؟

ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوْماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة ـ الشيعة ـ عنه من أنه شمت بهم وشقى بقتلهم[26]، وأنه أنشد من شعر ابن الزِّبَعْرَي:

ليت أشياخي ببـدر شهدوا

جزِع الخزرج من وقع الأَسَلْ

حيـن حَكَّت بقُبـاء بَرْكها

واستحر القتل في عبد الأَشَلْ

وقد قتلنا الضّعف من أشرافهم

وعَدَلْنا ميـل بـدر فاعتدل

وقد زاد بعض ـ كذبة الشيعة فيها ـ:

لعبـت هاشـم بالملك فـلا

مَلَكُ جاء ولا وحـي نزل[27]



قال ابن كثير: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاَّعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليُشنِّع عليه به وعلى ملوك المسلمين[28]، وقال ابن تيمية على أبيات الشعر: ويعلم بطلانه كل عاقل[29]، لقد وقع يزيد في خطأ مرّوع، لا تهون منه الاعتذارات والمواساة، وهو الأمر باستباحة المدينة للمحاربين ثلاثة أيام ينهبون ويسرقون، مما أدى إلى فساد خطير وشر مستطير، وفتح على يزيد باباً أدى إلى تشويه سمعته، وبغض المسلمين في خلافته، وبخاصة أن المسلمين لم ينسوا بعد مقتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ حيث لم تجف دماؤه على ثرى كربلاء[30].



رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:

1 ـ دواعي فشل أهل المدينة:

لقد كان محكوماً على حركة المدينة بالفشل، لأنهم لم يوحّدوا صفوفهم ولم يكن لهم قائد واحد، لأن تعدد القوّاد في المعركة من دواعي الهزيمة وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سأل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس: أميران؟ هلك القوم[31]، ولو حصل الانتصار، فدواعي اشتعال الفتنة موجودة ممن يكون الخليفة؟ هل يتولاها رجل من قريش أو من الانصار؟ فهم لم يعلنوا أنهم تبع لابن الزبير[32]، ومن دواعي الفشل: قلت ما تحت أيديهم من الأرزاق ولو أستمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس من الجوع، لأن ما بها من الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أياماً وجل طعامها يأتيها من التجارة، أو من بساتين خارج حدود المدينة، فكيف يغادر هؤلاء في حرب ليس عندهم مؤونة لها، يقفون أمام جند الشام المدعمين بالسلاح والمال؟ ومن دواعي فشلهم: عدم بروز هدف يريدون تحقيقه بعد خلع يزيد والنصر: وإذا كان هدفهم خلع يزيد: هل كانوا يريدون أن تكون إمارة مستقلة؟ وهذا غير ممكن. وإذا كان هدفهم تولية ابن الزبير، لماذا لم يرفعوا راية واحدة باسم ابن الزبير ، ولماذا لم يطلبوا المدد منه؟ ولو ضم ابن الزبير جنده إلى جند المدينة، لتكونت قوة تستطيع أن تقف أمام جيش مسلم بن عقبة، ولكنهم عندما وزعوا قواتهم وعددوا معاركهم استطاع الأمويون أن ينتصروا عليهم وهم متفرقون[33].

2 ـ موقف زعامة المدينة المنورة:

لم تكن زعامة المدينة المنورة، راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان من المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم وعلى رأس آل الخطاب، شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم عبد الله بن عمر، ومن آل هاشم عبد الله بن العباس وعلى بن الحسين ومحمد بن الحنيفة[34].

3 ـ رأي بن تيمية: .. وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا وكان ما تولد على فعله من الشرّ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة فإنهم هزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دنيا، ولا أبقوا دينا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين، وغيرهم، ينهون عام الحرّة عن الخروج على يزيد[35].

4 ـ عناية المؤرخين بمعركة الحرّة:

لم تجد معركة الحرّة من المؤرخين، كما لاقى غيرهما من الحوادث التي حصلت أيام يزيد بن معاوية، ولم يفرد المؤرخون المحدثون عنها أبحاثا، كما أفردوا عن الحركات الأخرى، ولو قارنا بينها وبين حركة الحسين لوجدنا فرقاً كبيراً في النتائج، فمجموع ما قتل في معركة الحرّة أضعاف ما قتل مع الحسين، وقتل في معركة الحرّة رجال مشاهير لهم منزلة صحبة وجهاد من هؤلاء عبد الله بن زيد حاكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم[36]، ومعقل بن سنان[37]وفيه يقول الشاعر:

وأصبحت الأنصار تبكي سراتها

وأشجع تبكي معقل بن سنان

وعبد الله بن حنظله الغسيل مع ثمانية من بنيه، وهؤلاء الرجال مكانتهم في الإسلام عالية ومصيبة المسلمين فيهم عظيمة وهي مصيبة تضاف إلى مصيبة المسلمين في الحسين رضي الله على مكانته وفضله وسيادته عند المسلمين وهذا ما يجعل معركة الحرّة فاجعة كبيره كما هي معركة كربلاء.





ميارى 15 - 5 - 2010 09:44 PM

المبحث السادس: حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد:

كان ابن الزبير رضي الله عنه قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد واختار الذهاب والاستقرار بمكة.

أولاً: أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:

اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبيرـ في نظره ـ ومن أهمها ما يلي:

1 ـ أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق ـ بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تماماً حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق[1]، أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطغوا أخاك؟ أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

2 ـ إن مكةـ لوجود بيت الله فيها ـ كانت بلداً حراماً ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدا يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة هو آخر حل يُلجا إليه.

3 ـ وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيراً.

4 ـ أنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف من المسلمين من مختلف الأقاليم، ويمكن من خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم.

5 ـ أن مكة بدأت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة إلى المدينة تفقد دورها السياسي وبالتالي فإن قبضة الأمويين عليها لم تكن قوية بعكس وضع المدينة.

6 ـ وأخيراً فإن معارضة ابن الزبير مرتبطة بأهل المدينة الذين يقفون معه الموقف نفسه ضد بني أمية، وبالتالي كان من المناسب أن يكون ابن الزبير قريباً من المدينة ليضمن استمرار تأييد أهلها له ولكي يتمكن من الاتصال المستمر بهم[2].
ثانياً أسباب خروج ابن الزبير ومن معه:


كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله وليس كما يقول البعض، مثل محمد ماهر حمادة عندما قال: وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب، من عدد من العناصر، يحركها طموح شخصي، وصراع قلبي،التقتا في نفس ابن الزبير، وشخصيته[3]. لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى ويتولى الأمة حينئذ أفضلها وكان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية[4]. وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا التمس جمع مالاً ولا إدخاره[5] وكان يقول: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين[6]. وقال عبد الله بن صفوان بن أمية لابن الزبير: إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني[7]، والروايات في هذا المجال كثيرة جداً وهي تدل على النظرة الحقيقية لمعارضة ابن الزبير وكذلك أهل المدينة حيث اعتبروها جهاداً في سبيل الله[8]، إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:

1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعل الله لهم ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته .

3 ـ تمسكا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة[9].

وساعد في تحقيق أهداف ابن الزبير والتفاف الناس من حوله عدة أمور منها: ردة الفعل الذي أحدثته معركة كربلاء، سوء سيرة يزيد، سرعة يزيد في عزل ولاة الحجاز مركز الثقل السياسي كما كان زمن الرسول والخلفاء الراشدين[10].



ثالثاً : الجهود السلمية التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير:

كان ابن الزبير يدرك الخطورة التي ستلحق بالحسين إذا خرج إلى الكوفة، ولذا ناشده عدم الذهاب إلى الكوفة قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك[11]. وكان ابن الزبير يدرك أن الحسين إذا أصيب في العراق، فإن النتائج ستنعكس عليه وسيكون المنفرد في الساحة، وبالتالي يسهل القضاء عليه وقد حرص ابن الزبير على إشعار الحسين بمكانته وأن وجوده في مكة يحظى بالتأييد من أهلها وبالأخص من ابن الزبير نفسه، ولذا فقد بادره بفكرة جريئة فقال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك، وبايعناك[12]، ويبدو أن ابن الزبير رغب أن تكون القيادة العامة بيد الحسين نظراً لمكانته ووجاهته، واحترام المسلمين له. ويكون بيده التخطيط لمجابهة يزيد بن معاوية، وبالأخص أنه يملك رصيداً كبيراً من المشاركات الحربية الناجحة في عمليات الجهاد الإسلامي، وكان يرغب في جعل ركيزة الانطلاق في المعارضة هي بلاد الحجاز، وذلك نظراً لصدق أهلها، ووجود العباد والصالحين والعلماء من الصحابة وكبار التابعين بها، ثم وجود الحرمين ومكانتهما، فإذا تمت لهما السيطرة على بلاد الحجاز، فإن قضيتهما ستكسب بعداً كبيراً في الأقاليم الإسلامية، فالناس تؤم الحرمين للعمرة والحج والزيارة، وبالتأكيد سينقلون أخبار المعارضين ومكانتهما، مما سيؤدي إلى تعاطف وتأييد وأنصار تلك الأقاليم، ولما خرج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة وقتل يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين بكربلاء كان لذلك وقع كبير على ابن الزبير، فالذي يخشاه ابن الزبير وهو انفراد الأمويين به قد حدث، ثم إن الرجل الذي كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل ومع ذلك لم يحدث تحرك من الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين رضي الله عنه[13]، ولعل إنفراده بالمعارضة ضد يزيد هي التي جعلت ابن خلدون يقول: ولم يبق في المخالفة لهذا العهد ـ الذي اتفق عليه الجمهور ـ إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف[14]، وقد أحس ابن الزبير بخطورة موقفه، ولكنه حاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين[15].

1 ـ أول هجوم مباشر وصريح من ابن الزبير على يزيد:

عندما سمع ابن الزبير مقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة وترحم على الحسين وذم قاتليه وقال: أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر ـ الركض في طلب الصيد ـ يعرّض بيزيد ـ فسوف يلقون غياً[16]. ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير[17]، ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد ويشتمه[18]، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية ويطنب في ذلك[19].

2 ـ مساعي يزيد السلمية :

لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: أذكرك الله في نفسك فإنك ذو سن من قريش وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق من اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى ولا تبطل ما قدمت من حسن، وأدخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرم الله، فأبى أن يبايع[20].

3 ـ غضب يزيد على ابن الزبير:

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً[21]، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر عل رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خز[22] وفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة[23]. وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار مالا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال[24].

4 ـ ابن الزبير يفكر ويستشير في عرض يزيد:

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا[25]

وكان مروان بن الحكم قد بعث ابنه عبد العزيز وقال له: قل لابن الزبير إن أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظاً لحرمتك، فابرر يمين أمير المؤمنين ،فإنما يجعل عليك جامعة من فضة أو ذهب وتكسى عليه برنساً فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يشكره[26] وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع[27].

5 ـ تهديد الوفد لابن الزبير ورده عليهم:

بعدما أجاب بن الزبير على الوفد بالمنع قال لابن عضاة: إنما أنا بمنزلة حمام من حمام مكة أفكنت قاتلاً حماماً من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه واسهمه، فأخذ سهماً فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟ والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعاً أو مكرهاً أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك أو كما قال. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم البيت، قال: إنما يحله من ألحد فيه[28]. ثم قال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة[29]، وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك ثم قال: يا ابن عضاة: والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فلله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه[30]. ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائد ببيتك[31]، ولقب نفسه عائذ الله[32]، وكان يسمى العائذ[33].

رابعاً: الجهود الحربية ضد بن الزبير:

1 ـ حملة عمرو بن الزبير:

رأى يزيد أنه لابد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقسم يزيد ووضع الأغلال في عنقه ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنةـ والمرجح سنة إحدى وستين ـ حج ابن الزبير معه، فلم يصل بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته[34]، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله[35]، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائب لعمرو بن سعيد على أهل مكة[36]، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمراً دون المسور بن مخرمة[37]، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات، والجمع ويحج بهم[38]، فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوت[39]، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام[40]، وخبيب بن عبد الله بن الزبير[41]، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهيل وغيرهم إلى مكة فالتجأوا إلى ابن الزبير[42]، وكان تعيين عمرو بن الزبير على قيادة الجيش المتجه لمحاربة ابن الزبير جاء بناءً عل طلب من عمرو بن الزبير نفسه[43]، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند[44]، فسار عمرو بن أنيس الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح[45]، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه (عبد الله) يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره من القتال في البلد الحرام[46] وكان عمرو بن الزبير يخرج من معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله. وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف، فأما أن تجعل في عنقي جامعة، ثم أقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيت أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها. وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكراً في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله، أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن أذاه في المدينة[47]، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل من ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب[48]، لقد أثبت ابن الزبير رضي الله عنه أنه يملك ذكاء ودهاء بارزين، الأمر الذي مكّنه من تحويل القضية لصالحه، بعدما كانت في يد يزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمت ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار ولكن ابن الزبير كان يهدف من التحرش بالأمويين إلى إيقاع يزيد في مأزق المواجهة، لقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم يزيد أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية، ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلت هذه الحادثة من ابن الزبير ـ في نظر الكثير من المتمردين في موقفهم من ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير من التعاطف هو موقف أمير المدينة ـ عمرو بن سعيد ـ فكان هذا الأمير ـ كما تذكر الروايات ـ شديداً على أهل المدينة معرضاً على نصحهم متكبراً عليهم[49]. ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير، الذي تصنعه الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبر شديد العجب، ظلوماً قد اساء السيرة وعسف الناس وأخذ من عرفه بمولاة عبد الله والميل إليه، فضربهم بالسياط ويقال: عمرو لا يكلم من يكلمه يندم[50]، ومن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه غزو مكة بجيش، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم[51]. ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله صلى اله عليه وسلم في بيان حرمتها ولكنه رفض السماع لنصحهم[52]، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت وقال له: لا تغزو مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني[53]. وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه ((العائذ بالله)) فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله[54]، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم[55]، وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير[56].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:45 PM

2 ـ حملة الحصين بن نمير وحصار ابن الزبير وحريق الكعبة:

هلك مسلم بن عقبة النميري في طريقه لابن الزبير وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني ووصل إلى مكة قبل انقضاء شهر محرم بأربع ليالي. وعسكر الحصين بن نمير بالحجون[1]إلى بئر ميمون[2]، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة وقام ابن الزبير يحث الناس على قتال جيش أهل الشام وانضم المنهزمون من معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدم على ابن الزبير أيضاً نجدة بن عامر الحنفي في ناس من الخوارج، وذلك لمنع البيت من أهل الشام[3]، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثير من المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة وتحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن مني ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخواه المنذر وأبو بكر ابنا الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير[4]، وبعد ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64هـ قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس[5]، وجبل قعيقعان[6] وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر[7]، وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح[8]، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم القتال فيه[9]، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول[10]، ولم يعلم أحد بموته نظراً لبعد المسافة بين مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين[11].

ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلا الطائفتين[12] جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده[13]، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفاً من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك[14]. وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته[15]، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير، وقد وردت تصريحات لبعض اقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المتحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول:.. فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار[16]، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة[17]، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة[18]. ولا شك أن أحداً من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة/، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين[19]. وهكذا كانت أحد نتائج تلك الحرب التي دارت بين ابن الزبير والحصين بن نمير إحراق البيت الحرام[20]. ولما وصل الحصين خبر موت الخليفة بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، وكان يريد أن يجتمع به ويفاوضه في الخلافة فالتقيا وتحادثا طويلاً واشتد بينهما الجدل وكان فيما قال الحصين لابن الزبير وهو يدعوه للخلافة: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم أخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل هذه الحرة. فقال عبد الله: أنا أهدر تلك الدماء؟ أما والله لا أرضى أن أقتل كل رجل منهم عشرة منكم، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً ويقول: لا والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً، قد كنت أظن لك رأياً، ألا أراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك للخلافة وتعدني للقتل والهلكة[21]، بعد أن افترقا، أدرك عبد الله خطأه في موقفه مع الحصين عندما عرض عليه الخلافة ومرافقته إلى بلاد الشام، وأراد أن يصحح هذا الموقف وكان الحصين يستعد للعودة بجنده إلى دمشق، فأرسل إليه يقول: أما أن أسير إلى الشام فليس فاعلاً وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فرد الحصين بقوله: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس، فما أنا صانع[22]؟ وذكر البلاذري: أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه عندما عرض عليه الحصين الأمر، ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام[23]. ويصعب على المرء أن ينفذ إلى أعماق ابن الزبير ويعرف ما كان يدور في خلده والأسباب التي دفعته لرفض عرض الحصين ولكن هناك مؤشرات عديدة تؤخذ بعين الاعتبار من الواقع السياسي في بلاد الحجاز[24]، منها:

أ ـ لم تكن للحصين صفة رسمية عندما عرض الخلافة على ابن الزبير، ولم يكن يمثل الأمويين كلهم، رغم أنه قال: إن الجند الذين معه هم وجوه أهل الشام وفرسانهم. فكيف يثق ابن الزبير بقائد حملة كان يقاتله قبل أيام ويريد أن يفتك به، وقد ظهرت المناقضة عند الحصين بقوله بعد ذلك: أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس[25].

ب ـ إن الذي عرض عليه الخلافة هو أحد قادة معركة الحرّة، وكان حول ابن الزبير عدد من أهل المدينة الذين هربوا من وحشية تلك المعركة، لذلك كان ابن الزبير يرد على الحصين بصوت جهوري، يسمعه من حوله من أنصاره ليدفع الشك عن نفوسهم، ويطمئنهم على موقفه من الحصين، فقال: إنه لا يرضى قتل عشرة من جيش الحصين بكل واحد من أهل المدينة[26].

جـ ـ عدم وجود أنصار ـ حتى الآن ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.

ر ـ عدم وجود جيش منظم حقيقي كالجيش الأموي عند ابن الزبير، وكل ما نستطيع أن نسمي المدافعين عن ابن الزبير عن مكة، بأنهم من المقاتلين الذين يجتمعون وقت الشدة ويتفرقون عند زوالها، وهل هناك شدة أكبر من غزو الكعبة؟ وأعتقد لو كان لابن الزبير جيش منظم حقيقي ومدرب مسلح بحيث يستطيع هذا الجيش نصرة ابن الزبير لتوجه مع حصين بن نمير، لتم له النجاح[27].



المبحث السابع : وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:

أولاً : وفاة يزيد بن معاوية:

في عام 64هـ هلك يزيد بن معاوية وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوّارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 64هـ وهو ابن 38سنة في قول بعضهم، وعن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر[28]، وعن أبي معشر أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد[29]، وقيل وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا أياماً[30]، وكان نقش خاتمه: ربنا الله[31].



ثانياً : خلافة معاوية بن يزيد:

معاوية بن يزيد: هو ثالث الخلفاء الأمويين، وكنيته أبو يزيد أو عبد الرحمن، أبوه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة[32]، ويسمى معاوية الأصغر[33]. ولد سنة 44هـ ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية، وكان رحمه الله ـ أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الشعر، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه، دقيقه، حسن الجسم، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً[34].

1 ـ مدة حكمه: يختلف المؤرخون كثيراً في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بين عشرين يوماً وثلاثة أشهر، ويبدو أن مدة ثلاثة الأشهر هي الأرجح، ويرجع بعض المؤرخين مدة الأربعين يوماً[35]وكان مريضاً مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام[36].

2 ـ تنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى :

ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم من يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات رحمه الله تعالى[37]، قد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: أنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون من يشاءون وقد جاء ذلك صريحاً في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير قال فيها: أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورة فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات[38]. واعتبر هذا الموقف منه دليلاً على عدم رضاه عن تحويل الخلافة من الشورى إلى الوراثة[39]، فقد رفض أن يعهد لأحد من أهل بيته حينما قالوا له أعهد إلى أحد من أهل بيتك، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم أني بريء منها، مُتخلِّ عنها[40]، وجاء في رواية: قيل له ألا توصي؟ فقال: لا أتزوّد مرارتها واترك حلاوتها لبني أمية[41]، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني لقد عرفت استقالات، فيها إكراه مادي أو معنوي. أما أن ملكاً استقال، لأن في أمته من هو خير منه، فهذا ما لم نقع عليه وأية محاسبة للنفس أرفع من هذه[42]؟

وإذا كان معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضاً، قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط[43].

3 ـ كم كان عمره لما مات؟ ومن صلى عليه؟

مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل إنما عاش ثماني عشرة سنة وقيل: خمس عشرة سنة. فالله أعلم. وصلى عليه أخوه خالد؟ وقيل عثمان بن عنبسة. وقيل: الوليد بن عُتبة. وهذا هو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك وشهد دفنه مروان بن الحكم[44]، فلما فُرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد. فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أَزْنَمُ الفزاري:

إني أرى فتنة تغلي مراجلها

والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا[45]

4 ـ أزمة خطيرة بعد وفاة معاوية بن يزيد:

كان معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة خطيرة، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبياً صغيراً. وكان أمر بن الزبير قد استفحل وبايع له الناس من أنحاء الدولة، فرأى فريق من جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم كبير بني أمية فكر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية ـ الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، فحدث خلاف شديد ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام، وأخيراً اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمراً للشورى، يبحثون فيه عمن يصلح للخلافة ويصلوا في ذلك إلى قرار[46]. ويعتبر معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر خلفاء الفرع السفياني، وانتقلت الخلافة بعده إلى الفرع الثاني من بني أمية بالمروانيين، وأولهم مروان بن الحكم، ولا يُعد عند كثير من المحققين والمؤرخين خليفة، حيث يعتبرونه باغياً خرج على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وكذلك ولده عبد الملك لا يعتبر خليفة إلا بعد موت ابن الزبير، واجتماع المسلمين عليه[47]، وبوفاة معاوية بن يزيد انتهت الدولة السفيانية وظهرت الدولة الزبيرية ولكنها لم تستمر، فقد استطاع بنو مروان القضاء عليها وسيأتي التفصيل في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.







ميارى 15 - 5 - 2010 09:47 PM

الفصل السادس

عهد أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه



المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وبيعته

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:

هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، أمير المؤمنين، أبو بكر، وأبو خبيب، القرشي الأسدي المكي، ثم المدني، أحد الأعلام، ولد حواري رسول الله وابن عمته[1].

ثانياً: مولده ومبايعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة، قالت: فخرجت وأنا مُتمُّ فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم[2]. وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع، أو ابن ثمان سنين، يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأه مقبلاً، وبايعه. وكان أول من ولد في الإسلام في المدينة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله[3]، وقد طاف به الصديق رضي الله عنه بالمدينة بعد ولادته ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود[4] وهذا أسلوب إعلامي عملي للقضاء على شائعات اليهود التي روجوا لها بالمدينة وكان ابن الزبير ملازماً للدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه من آله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة[5]زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: الزبير بن العوام والد عبد الله رضي الله عنهما:

هو أبو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي[6]، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى[7]، أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة[8]، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عم الزبير، كان يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: أرجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً[10]، وقال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير[11]. أي خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصاه وأنصاره فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة، العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا[12]، وكان الزبير بن العوام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل المهمات الصعبة وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة وشارك في فتوحاتها الكبيرة[13] وقد عرض عليه عمر بن الخطاب ولاية مصر في عهده فقال الزبير: لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص فتحها (مصر) لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنت معه[14]، وقد تحدثت عن سيرته في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فمن أراد المزيد فليرجع إليه مشكوراً[15].

رابعاً: أسماء بنت الصديق والدة بن الزبير رضي الله عنهم جميعاً:

هي أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة[16]، وكانت من أوائل المسلمات حيث أسلمت وأختها عائشة وهي يومئذ صغيرة[17]. ولها مواقف مشهودة، وآثار محمودة في تاريخنا الإسلامي المجيد ومن هذه المواقف:

1 ـ في الهجرة النبوية: قالت السيدة عائشة في حديث طويل منه: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، عند الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً[18] في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر إلى أن قالت: ..فجهزناهما أحث الجهاز (من الحثّ وهو الإسراع) وضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بذات النطاقين[19]. فقد أسهمت السيدة أسماء رضي الله عنها في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت:لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت ليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري والله أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً ـ فلطم خدّي لطمة، طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا[20]، فهذا درس من أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، تعلّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم، وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه قد فجعكم بماله ونفسه. قالت: كلا يا أبت ضع يديك على هذا المال، قالت: ووضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك[21]، وبهذه الفطنة، والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد تركت لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها، لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً، وثقة بلا حدٍ لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعال الأمور ولا تلتفت إلى سفاسفها[22]، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الإقتداء به والنسج على منواله[23].

2 ـ صلة أسماء لأمها المشركة: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى اله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك[24]، قال ابن حجر: وفي قولها وهي راغبة أقوال، والذي عليه الجمهور من هذه الأقوال أنها قدمت طالبة من بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة. وفي هذا الحديث من الفوائد ما ذكره الخطابي: إن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه كما توصل المسلمة[25]. وقد قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولن يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) (الممتحنة ، الآيتان 8 ، 9). وهذه الآيتان رخصة في الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة[26].

3 ـ شجاعتها وجهادها في اليرموك مع زوجها:

وأما شجاعتها وجراءتها وجهادها في سبيل الله فأمر يفوق الخيال: فمن ذلك خروجها مع الجيش يوم اليرموك، فلقد شهدت اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبد الله[27]، ومن شجاعتها استعدادُها التام لمواجهة اللصوص الذين كثروا في يوم من الأيام بالمدينة، عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص ـ أي في زمن إمارته المدينة وكانوا قد كثروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها[28].

4 ـ علاقتها بالقرآن الكريم :

كانت رضي الله عنها قد تربت على كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وإليك هذه الصورة المشرقة من حياتها مع القرآن الكريم فذات يوم دخل عليها ابنها وهي تُصلي فسمعها تقرأ هذه الآية ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور ، الآية : 27). فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ[29]. وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر[30]. وهذا فهم عميق لقول الله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) وقد أفرد الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ رساله قيمة في حياة السيدة أسماء رضي الله عنها، وسيأتي الحديث عن بعض الدروس والعبر في حصار الحجاج لأبنها عبد الله بمكة بإذن الله.

خامساً: أولاد ابن الزبير وزوجاته:

كان له من الولد خُبيبُ وحمزة وعباد وثابت وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري، وهاشم وقيس وعروة ـ قتل مع أبيه ـ والزبير، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور وعامر وموسى وأمّ حكيم وفاطمة وفاختة، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبكر ورقية وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان، وعبد الله ومصعب من أم ولد[31].



سادساً : ابن الزبير في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم:

1 ـ في اليرموك:

لا نجد في كتب السيرة أي خبر عن اشتراك عبد الله بن الزبير في الحروب والغزوات رغم حضوره مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة، فقد كان في مقتبل العمر ولم يتجاوز عمره عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشر سنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيز أحداً من الغلمان لم يبلغ الخامسة عشر وأول ما يرد من أخبار تتعلق بخروجه مع الجيوش، ومرافقته لوالده في تحرير بلاد الشام وحضوره معركة اليرموك إذ يقول عبد الله: كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لآمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له: أحبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير[32]. وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين[33] وإن لم يشارك في القتال لصغر سنه فإنه ألف القتال والعراك وصليل السيوف منذ نشأته مما زاد في شجاعته وخبرته العسكرية[34].

2 ـ ابن الزبير مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم:

مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر: مالك لم تفر معهم، فقال لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك[35]، وتروى المصادر حادثة أخرى تبين شجاعته منذ صباه الباكر، فقد ذكرت المصادر التاريخية إنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر بهم رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان أجعلوني أميركم وشّدوا بنا عليه ففعلوا[36].

3 ـ كتابة المصاحف في عهد عثمان :

عن أنس: أن عثمان أمر زيداً، وابن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم[37]، ومن أراد التفصيل في جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه للمصاحف فليراجع كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

4 ـ جهاده في شمال أفريقيا في عهد عثمان رضي الله عنه:

انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل، كثر الصَّياح، والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي وهو يخاف فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوجّته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله[38]. ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين، وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون ونقصدهم على غرّة فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة مضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزٌّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم، والمسلمون، فكل الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرّوم فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبَّروا فلم يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار، ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية ـ ونفّل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية[39]. قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين[40]، وكان الشاعر أبو ذؤيب الهذلي قد خرج مع ابن الزبير في مغزّى نحو المغرب ـ في عهد عثمان ـ فمات فدلاّه عبد الله بن الزبير في حفرته وقد قال الشاعر أبو ذؤيب في تلك الغزاة في عبد الله بن الزبير:

وصاحبِ صدق كسيد[41] الضَّرَاءِ[42]

ينهض في الغزو نهضاً نجيحا[43]

وشيكِ الفصول بطـيِّ القفول

إلا مشاحاً بـه أو مُشِيحا[44]



5 ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار: كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء ولكن عثمان كان يرفض ذلك[45]، ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصر ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عنه[46]، وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته، فقد روي المدائني أن كنانة ـ مولى صفية بنت حيي ـ أخرج أربعة محمولين وكان ابن الزبير منهم[47]،وكان ابن الزبير يخطب بمكة ويقول في خطبته: فجرحت بضعة عشر جرحاً وإني لأضع يدي اليوم على تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجوا أن تكون خير أعمالي[48]، وفي هذا وضوح موقف ابن الزبير من عثمان وأنه يراه إمام حق ورشد وأن المعتدين عليه مجرمون وأن قتالهم من أفضل الأعمال عند الله ومنها نستفيد أن الدفاع عن أولياء الصالحين بأي وسيلة شرعية من الذب عن أعراضهم وشدّ أزرهم من الأعمال الصالحة. ومما يدل على أهمية الدور الذي كان يقوم به ابن الزبير في الذود عن عثمان ما ذكرته الروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير[49]. وفي رواية: أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار، وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار[50].

6 ـ في معركة الجمل :

كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتَّحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ويقول: اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي[51].

فأرسلها مثلاً. ثم تفرَّقاً ولم يقدر عليه الأشتر وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضعاً وأربعين جراحة ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لم بشَّرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم وسجدت لله شكراً وقد كانت تحبه حباً شديداً، لأنَّه ابن أختها، وكان عزيزاً عليها وقد رُوِيَ عن عُروة أنّه قال: لم تكن عائشة تحب أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل حُبِّها عبد الله بن الزبير وقال عروة: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير[52].

7 ـ جهاده أيام معاوية رضي الله عنهما:

تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن بالفتح والجهاد وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، وفتح بنزرت ـ سنة أحد وأربعين، كما دخل ((القيروان)) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى ((سوسة)) عبد الله بن الزبير ففتحها[53]. وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش عدد من الصحابة أيضاً منهم: أبو أيوب الأنصاري، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وابن عباس[54].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:49 PM

سابعاً: وصف ابن الزبير وأهم صفاته:

كان آدم[1]نحيفاً ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة وكان له لحية صفراء[2]، وكان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة شديد الخشوع قويَّ السياسية[3]، وكان لأبيه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبي بكر، وجدته صفية عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على شخصيته من جميع النواحي وهذا ما نلمسه من صفات ابن الزبير التي أهمها:



1 ـ فقهه وعلمه: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة تفقهوا في أمور الدين في المدينة، المنورة وهم عبد الله بن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ولابن الزبير في الصحيحين أحاديث اتفقا له على حديث واحد وأنفرد البخاري بستة أحاديث، ومسلم بحديثين[4]، حدث عن رسول الله وهو صغير وكذلك حدث عن أبيه الزبير وعن جده أبي بكر وعمر وعثمان وخالته أم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم وروى عنه مشاهير التابعين منهم أخوة عروة، وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وثابت البناني، وغيرهم كثير[5]، وقد كان رضي الله عنه فقيهاً وقد قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي[6]، وعرف ابن الزبير بأنه واسع المعرفة بالقرآن والسنة، وكان رضي الله عنه من العلماء المجتهدين، عالماً عابداً ولا غرور في ذلك إذ كان كثير الدخول على خالته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي العالمة الفقهية وكانت تحدثه وهو من أحب الناس إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أبيها أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعنها، وكانت مدة خلافة عبد الله بن الزبير تسع سنوات وقد حج خلالها ثمان مرات، وفي السنة الأخيرة كان محاصراً فلم يستطع الحج. خطب ابن الزبير مرة الحُجّاج فقال: يا معشر الحجاج سلوني فعلينا كان التنزيل ونحن حضرنا التأويل، فقال رجل من أهل العراق: انحلّ جرابي فدخلت فيه فأرة فقتلتها، وأنا محرم، فقال: اقتلوا الفويسقة، فقال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر، فقال: العشر: الثمان وعرفة والنحر، والشفع من تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، والوتر: هو هذا اليوم ((يعني عرفة))، ولم يكن أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير في عهده[7]. وقال عنه ابن عباس رضي الله عنه: كان قارئاً لكتاب الله متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قانتاً لله صائماً في الهواجر من مخافة الله ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله زوجة رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا يجهل حقه إلا من أعمى الله بصيرته[8]وكتب في فقه رسالة علمية للطلب محمد عبد الرضا هادي بالعراق.

2 ـ عبادته وتقواه: تواترت الروايات التي تصور لنا حرص ابن الزبير على العبادة من صلاة وصيام وغيرها، حتى أنها أصبحت معالم شخصيته[9]، قال عنه مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة[10] (رضي الله عنه) وقال: جاء سيل مرة فطبق أبنية الكعبة فجعل ابن الزبير يطوف سباحة[11]، وكان ابن الزبير رضي الله عنه كثير العبادة إذا قام إلى الصلاة انقطع عن الدنيا ونسي مشاغلها وما فيها من حلو ومر وخرج من كل شيء إليها، فقد روي ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلّم[12]. وقال عنه ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك[13]، وقال يزيد بن إبراهيم عن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير يصلي في الحجر والمنجنيق يصيب ثوبه، فما يلتفت يعني: لما حاصروه[14]، وعن ابن أبي مليكة: قال لي عمر بن عبد العزيز إن في قلبك من ابن الزبير: قلت: لو رأيته ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله[15]، وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليَثُنا[16]. وعلق الذهبي على ذلك فقال: لعله ما بلغه النهي عن الوصال ونبيك صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكل من واصل، وبالغ في تجويع نفسه، انحرف مزاجه وضاق خلقه، فاتباع السنة أولى، ولقد كان ابن الزبير مع مُلكه صِنفاً في العبادة[17].

3 ـ جرأته وشجاعته: كان عبد الله بن الزبير فارس قريش في زمانه، وكان يشتد بالسيف وقد ناهز السبعين كأنه فتى في ربيع العمر، قال عنه عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة[18]، وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام[19]، وكان مشهود له بالشجاعة منذ كان صغيراً، وقد مرّت شجاعته في اليرموك وفي حصار القسطنطينية وفي فتح إفريقية، وفي دفاعه عن عثمان يوم الدار وفي قتاله في الجمل وسيأتي الحديث عن شجاعته أكثر بإذن الله في حصار الحجاج له بمكة وكان يقول: والله إني لا أبالي إذا وجدت ثلاث مئة يصبرون صبري لو أجلب عليَّ أهل الأرض[20]، وكان يضرب بشجاعته المثل[21]، وكان ابن الزبير متأثراً بشجاعة أبيه وإقدامه وشجاعة جده الصديق، وأمه وأخواله وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.

4 ـ فصاحته وخطابته: كان ابن الزبير رضي الله عنه لا ينازع وكان من خطباء قريش المعدودين وكان إذا خطب يشبه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته وكان صيتاً إذا خطب ويروي أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتع عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني[22]، وعن محمد بن عبد الله الثقفي قال: شهدت ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم جئتم من آفاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل فحق على الله أن يكرم وفده فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فاصدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجون هاهنا، ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ[23]، وقال سعيد بن المسيب خطباء قريش في الإسلام: معاوية وابنه وسعيد وابنه وعبد الله بن الزبير[24]، ومن خطبه المشهورة، خطبته في أهل مكة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وخطبته في الخوارج حين ناظرهم وخطبته بعد مقتل أخيه مصعب في العراق[25]، ومن مواعظه المشهورة ما كتبه لوهب بن كيسان حيث قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة: أما بعد فإن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذلّ لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله وإن نفق الباطل حمل إليه وجاءه أهله[26]. ولا شك: أن صفة الخطابة والقدرة على الإقناع من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها أي زعيم، وقد أفاد ابن الزبير من ذلك كثيراً وكانت فصاحته وقدرته الخطابية عاملاً من عوامل نشر أفكاره والقيم التي آمن بها في حياته.

5 ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وجوده:

كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة[27]، وقد إنساق كثير من الباحثين وراء روايات الخصوم واتهموا ابن الزبير بالبخل وهذا الوصف فيه تجني على حقيقة ابن الزبير، وللأسف أن أصحاب الدراسات الحديثة لم يلتفتوا إلى الروايات الأخرى التي تنفي صفة البخل عن ابن الزبير[28]، والذي يظهر أن صفة البخل التي وصف بها ابن الزبير كانت بسبب سياسته المالية المتشددة، ذلك أن ابن الزبير كان يتأسى بالخلفاء الراشدين وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية[29] فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل وهذه الآثار تدل على كرم وجود ابن الزبير رضي الله عنه حرصه على أموال المسلمين:

أ ـ شهادة السيدة عائشة في كرم ابن الزبير:

قالت عائشة بنت طلحة خرجت مع أم المؤمنين عائشة وهي خالة عائشة بنت طلحة، فبينما نحن كذلك إذا براجز يقول:

أنشد من كان يعيد الهمّ

يدلني اليوم على ابن أمّ

له أب فـي باذخ أَشَمِّ

وأمـه كالبدر ليل تمَّ

مقابل الخال كريم العمّ

جرّعه أكوسه بسـمّ



قالت: فلما سمعت أم المؤمنين أبيات دعت به، فقالت له من وراء حجابها: يا عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدّال على الخير كفاعله. فحاجتك رجل بين يديك، فسئل عن عبد الله بن الزبير، فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً[30].

ب ـ شهادة معاوية بن أبي سفيان في ابن الزبير رضي الله عنهم:

سمع معاوية رضي الله عنه رجلاً وهو يقول:

ابن رقاش ماجـد سَمَيْدع

يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع

فقال: ذاك عبد الله بن الزبير[31].

جـ ـ نابغة بني جعدة وابن الزبير:

عن عبد الله بن عروة قال: أقحمت السنة نابغة بني جعْدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده:

حكيـت لنـا الصديق لمـا وليتنا

وعثمان والفاروق فارتاح مُعْدِمُ

وسوُيت بين الناس في الحق فاستووا

فعاد صباحاً حَالك اللون مظلم

أتاك أبـو ليلى يجوب بـه الدٌّجى

دُجى الليل جوّاب الفلاة عَثمثمُ

لتجبر منـه جـانباً دعدعتْ بـه

صُروف الليالي والزمان المُصَمّم



فقال ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أمّا صفوة مالنا فلآل الزبير وأمّا عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، وتيماً، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً فجعل التابغة يستعجل ويأكل الحب صِرْفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد[32]. فهذا الخبر ينفي ما روى عن بخل ابن الزبير ففرق بين البخل والحفاظ على مال المسلمين، فقد بدا واصخاً من كلام عبد الله بن الزبير تبريره حق النابغة الجعدي فيما منحه إياه دون أي اعتبار لما مدحه به من شعر[33].

ش ـ عبد الله بن عروة ابن أخ ابن الزبير:

جاء في رواية للزبير بن بكار أن عبد الله بن الزبير زوّج ابنته أم حكيم ـ من ابن أخيه عبد الله بن عروة فأرسل عروة إلى أخيه عبد الله عشرين ألف درهم فردها عبد الله قائلاً: لو أردت المال لوجدته عند غيرك[34].

ر ـ حمزة بن عبد الله بن الزبير في سجن أبيه:

قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق فلما سأله أبوه عن المال أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به فقال له ابن الزبير: مال ليس لك ولا لأبيك ثم[35]سجنه وهكذا يتضح حرص ابن الزبير على مال العام، وإنفاقه وكرمه الذي لا تجاوز فيه لشرع الله في الإنفاق.





ميارى 15 - 5 - 2010 09:50 PM

ثامناً: بيعة ابن الزبير بالخلافة:

بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحدا، ولم يوصي إلى أحد، وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي[1]، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي[2]وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة المسلمين، ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم[3]، فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك[4]. ويقول ابن كثير: ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر[5]، ويؤكد كل ابن حزم[6]والسيوطي[7] شرعية ابن الزبير ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين[8]

1 ـ بيعة ابن الزبير بالحجاز: كان من الطبيعي أن يكون الحجاز أول المناطق خضوعاً وولاء لبيعة ابن الزبير لكونه مركز المعارضة ضد بني أمية وقد سارع أهل الحجاز إلى مبايعة ابن الزبير، ويروي ابن سعد أن من الأوائل الذين سارعوا إلى مبايعة ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي، وعبد الله بن رضوان بن أمية الجمحي والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبيد بن عمير، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر[9]، وكان هناك بعض العناصر الذين امتنعوا عن بيعة ابن الزبير وعلى رأسهم ثلاث شخصيات لها مكانتها وتأثيرها لاسيما في الحجاز وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وتكاد تجمع المصادر أن أياً من هؤلاء لم يبايع ابن الزبير طيلة حياته[10].

أ ـ موقف ابن عمر من بيعة ابن الزبير :

بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول اقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد[11]، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله: لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة[12]. ولم يحاول ابن الزبير اجبار ابن عمر على البيعة، كما أن المصادر لم تشر إلى أي صدام أو مواجهة وقعت بين الاثنين[13]، وكان لامتناع ابن عمر على بيعة ابن الزبير تأثير سلبي، فقد كان ابن عمر يتمتع بمكانة عالية وبالأخص في الحجاز وكان تأثيره على الناس، فامتناعه عن البيعة يجعل البعض يقتدي به ويتخذ نفس الموقف، ومما يزيد من تأثيره السلبي على حركة ابن الزبير أن ابن عمر كان يجبر من له طاعة عليهم أن يتخذوا الموقف نفسه الذي يتخذه ومع كل ذلك فلم يكن ابن عمر يشكل خطراً حقيقياً على ابن الزبير فهو لم يكن ذا طموح للخلافة، كما أنه لا يملك أتباعاً يستطيع أن يواجه بهم ابن الزبير كما هو الحال عند محمد بن الحنفية[14].

ب ـ ابن عباس وبيعة ابن الزبير:

كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ وعندما طلب ابن الزبير من محمد بن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا: حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس[15]، ووعداه بعدم إظهار الخلاف له[16]. لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة، وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه[17]، أو في الثناء المباشر عليه[18]، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردي العلاقة بين الاثنين وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة[19]. ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد بن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي[20]. وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير، فعندما ذكر عنده قال ابن عباس: قاريء لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه اسماء وجده أبو بكر، وعمّتُه خديجة، وخالته عائشة وجدّته صفية[21].

جـ ـ ابن الحنفية وبيعة ابن الزبير :

كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه[22]، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65هـ ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب[23]، ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة[24]، لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته، فأخذ يبحث عن مكان آخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان 64هـ واستطاع عن طريق إدعائه نصرة آل البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة[25]، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه وادعى أنه موفد من محمد بن الحنفية للأخذ بثأر آل البيت، والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى العراق[26]، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً[27]، وأرسل المختار جيشاً في عام 66هـ إلى مكة في موسم الحج واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في الحرم[28]، والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير[29]، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقصي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67هـ[30] أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة، ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة[31]. ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة[32]، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن إتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، وآثر بن الحنفية الخروج على البيعة حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل. وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة ولكن ابن الزبير منعه من دخولها فتوجه بمن معه إلى الطائف وقيل المدينة وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72هـ[33].




ميارى 15 - 5 - 2010 09:52 PM

2 ـ بيعة ابن الزبير في العراق :

أدت وفاة يزيد بن معاوية إلى اضطراب الوضع في العراق ونشوب النزاع بين قبائله المختلفة حول السلطة، وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، وخرج الخوارج قبل هروبه من السجن وبدأوا بإشاعة الفوضى والفساد، وبعد فتن وقتال اتفقت القبائل بالبصرة على أن يتولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الأمر[1]، ثم شرع ابن الزبير في تعيين نوابه بعد بيعة أهل البصرة له إلى أن استقر على ولايتها أخوه مصعب وعين أهل الكوفة عامر بن مسعود بن خلف القرشي[2] وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقره. وهذا التصرف يعد في حقيقته إقرار أهل الكوفة بخلافة ابن الزبير[3]، وتعامل أهل البصرة وأهل الكوفة مع ابن الزبير، كخليفة للمسلمين[4]، وقد ساعدت عوامل عديدة على نشر بيعة ابن الزبير بالعراق، من أهمها، الفراغ السياسي في السلطة، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وهروب عبيد الله بن زياد إلى الشام، كما أن التنافس القبلي على السلطة، واشتداد شوكة الخوارج وتهديدهم للأمن ساهم في حث أهل العراق على توحيد كلمتهم والانضواء تحت لواء ابن الزبير[5].

3 ـ بيعة ابن الزبير في الشام:

بعد وفاة معاوية بن يزيد وفي مناخ الشام المشوب بالفوضى والاضطراب وجدت بيعة ابن الزبير منفذاً لها في بلاد الشام، لاسيما وأن أخبار صمود ابن الزبير أمام جيش الحصين بن نمير في الحصار الأول، وبيعة أهل الحجاز له، قد تنامت إلى بلاد الشام، ويصور لنا البلاذري موقف أهل الشام من بيعة ابن الزبير في تلك الظروف فيقول: فلما مات معاوية بن يزيد ـ مال أكثر الناس إلى ابن الزبير وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة وله فضل في نفسه ليس لغيره، وتكاد تجمع المصادر على بيعة جميع أقاليم أهل الشام ما عدا الأردن، فقد بايع زمز بن الحارث الكلابي[6] بقنسرين، وبايع النعمان بن بشبر الأنصاري[7]، بحمص، واستطاع نائل بن قيس الجذامي[8] أن يسيطر على فلسطين ويدعو فيها لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير في دمشق[9]، وعين ابن الزبير الضحاك بن قيس والياً على الشام[10]، هذه أهم الأقاليم التي بايعت ابن الزبير.

4 ـ موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير:

تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفة رأيه في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بابدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البُلدان[11]، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فأستجاب لذلك، وكان على رأس الخوارج الأزارقة نافع بن الأزرق واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحو فارس[12]، وتسربت شائعات إلى أهل البصرة بأن المهلب قتل، فاضطرب المصر وهمّ أميرهم الحارث بن أبي ربيعة أن يهرب، وأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامة المهلّب، فاستبشروا بذلك واطمأنّوا وأقام أميرها، بعد أن همّ بالهرب وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز ومما قيل من الأشعار في قتال المهلب للخوارج الأزارقه:

إنّ ربّا أنجى المهلَّب ذا الطول

لأهلٌ أن تحمدوه كثيراً

لايزال المهلّب بن أبي صفرة

ما عاش بالعراق أميراً[13]

وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:

إن مات غير مداهن في دينه

ومتى يمـر بذكر نـار يصـعق

والموت أمـر لا محالة واقع

مـن لا يصبحه نهـاراً يطـرق

فلئن منينـا بالمهلب إنّـهُ

لاَءَخو الحروب وليث أهل المشرق[14]



المبحث الثاني : خروج مروان بن الحكم على ابن الزبير:

أولاً : اسمه ونسبه وحياته قبل خروجه على ابن الزبير:

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الملك أبو عبد الملك القرشي الأموي[15]، يكنى أبا القاسم وأبا الحكم ولد بمكة وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، روى عن عمر وعثمان وعلي وزيد وروى عنه سهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وأبنه عبد الملك. وكان كاتب ابن عمه عثمان ودافع عن عثمان يوم الدار، وسأل عنه علي بن أبي طالب يوم الجمل وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش[16]، وكان يتتبع قضاء عمر[17]، وتولى ولاية المدينة في عهد معاوية وكان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ولا يعيدان[18]، وكان إذا وقعت معضلة ـ أثناء ولايته على المدينة ـ جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها، فنسب إليه فقيل صاع مروان[19]، وكان ذا شهامة وشجاعة ومكر ودهاء[20]، وقد ذكرت شيء في سيرته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان شديد الحب لبني أمية، وكان متحمساً لبيعة يزيد بن معاوية ولما توفي يزيد خرج مروان وبنو أمية من المدينة إلى الشام بصحبة الجيش الأموي الراجع من حصار مكة الأول وكان خروج بني أمية برغبتهم[21]، ولم يبايع مروان ابن الزبير والتف زعماء القبائل وبنو أمية الموجودين بالشام حوله وبايعوه وكان يحمل بين جنبيه طموحات للزعامة وكانت هذه الطموحات مع رغبته في بقاء الخلافة في البيت الأموي هو الدافع لخروجه على ابن الزبير، وخير دليل على ذلك إقدامه على مبايعة ابنيه من بعده عبد الملك، وعبد العزيز ـ بولاية العهد[22]، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وثنوه عن عزمه واقنعوه أن يدعو لنفسه[23]، والواقع وإن كنا لا نستبعد أن يكون مروان قد فكر في ذلك الأمر لاسيما بعد انتشار بيعة ابن الزبير في معظم الأقاليم مع تفرق كلمة بني أمية في بلاد الشام، وضعف موقفهم إلا أننا لا نعتبر ذلك مناقضاً لما ذهبنا إليه، لأن العبرة ليست فيما عزم عليه مروان بن الحكم، وإنما في الموقف الذي اتخذه وهو رفض بيعته لابن الزبير ومحاربته[24] والخروج عليه، ولقد سار مروان في محاربته لابن الزبير على الخطوات التالية:

1 ـ القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهم الأحداث بالشام كان مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط.

2 ـ إعادة مصر إلى الأمويين.

3 ـ محاولة إعادة العراق والحجاز.

4 ـ تولية العهد لعبد الملك وعبد العزيز.



ثانياً : القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط:

بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية بتوحيد صفوفه والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ مروان بمواجهة ابن الزبير في الحجاز وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة وذلك ليحسر نفوذه أولاً ومن ثم يتيسر له القضاء عليه[25]، وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفصيل ما جرى فيه.

1 ـ مؤتمر الجابية:

ظلت الأردن موطن الكلبيين على ولائها للأسرة الأموية وكان بعض زعماء الشام حريصاً على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، رغم ما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة آنذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف آنذاك على شئون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني ـ بينما تشبث الكلبيون ، رغم الضعف الظاهري لمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم[26] وتربى فيهم يزيد[27].. ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون فبينما يهوى بعضهم البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الآخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير ـ ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم، وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية[28]، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه فأطاعهم ومال نحو مرج راهط[29].

أ ـ الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:

في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمرا تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسية بأنه كان مؤتمر دستورياً وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الآخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام. حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمه محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق، ذات الناطقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمه محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية، فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد[30]، فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الآراء وأرضت جميع الاتجاهات[31]، وقد دارت نقشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا. ومن هؤلاء الزعماء، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زبناع الجذامي[32]، ومالك بن هبيرة السكوني وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة[33] والمعارضة لابن الزبير، وقد قلبت آراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان[34]، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له فمروان خطط واستطاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بلاد الشام رغم الظروف الصعبة آنذاك[35].

ب ـ أهم قرارات مؤتمر الجابية:

كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية، عدم مبايعة ابن الزبير، استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور، مبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً، الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين إتباع ابن الزبير في الشام بادي الأمر[36]

جـ ـ زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى:

قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته، شورية دستورية اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة والزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة ولما كان لابد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الآخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير واجتمعوا بالجابية قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة من عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها وعلى الآخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء[37]، وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام[38]

والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ به في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح في تنازع قد قرره الإمام الغزالي حيث قال: يتم الترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر والمخالف للأكثر باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق[39]. وذلك هو الرأي الذي نؤيده، لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين هو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة[40]، فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية نذكر منها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه وذلك حيث علم بتحريك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم وكان أكثرهم الخروج إليهم، وفريق آخر رأى ما رأه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخروج أخذ برأيهم ووافق على الخروج للمشركين في أحد[41]، وغير ذلك من الأدلة وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية حيث نصت المادة (46) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة[42].


]

ميارى 15 - 5 - 2010 09:53 PM

2 ـ معركة مرج راهط:

تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني وانعقدت البيعة لمروان وحل مؤتمر الجابية، مشكلة الخلافة بين بني أمية ـ وكانت هذه خطوة حاسمة ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وأنضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي، أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسئولية وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير[1] ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته، عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد, واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان حيث هزم القيسيون، أنصار بن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ ، وقيل في المحرم سنة 65 هـ[2].

أ ـ نتائج مرج راهط:

ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.

ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.

ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسيا وكان عليها عياض الحرثي حسب قول ابن الأثير.

ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.

ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير[3].

ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيين فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية[4].

بـ ـ أسباب هزيمة القيسيين:

لم يرم ابن الزبير بثقله في تلك المعركة وكان عليه أن يجيش الجيوش ويمد أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.

ـ اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال حصين بن نمير وعمرو بن سعيد.

ـ عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.

ـ ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها رغم أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من أموال مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ[5].

جـ ـ بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:

وروي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار[6]، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض[7] وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط[8]: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك[9] وفي رواية عن مالك قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء، وهذا الشأن[10]. إن ندم مروان في مثل هذا الموقف وبعد أن تحقق له، وتأكدت له طرق الحكم، وتمهدت له سبل الوصول إلى غايته لدليل قاطع على ما كان يجيش به قلب مروان من عامل الخير، لقد كان هذا النصر جديراً أن ينسيه كل منغصات الحياة، وكان فوزه بالخلافة حقيقاً بأن ينفي عنه كل ما يسبب له الندم، ويعكر له الصفو، فما بال مروان يندم وهو في هذه الظروف التي تزيل الهم عن النفس وتبعد الندم[11]، لطالبي الملك والزعامة والسلطان وأغلب الظن أنه تورط في طلبه للخلافة، ودفعه إلى هذا المستنقع الآسن أناس لهم مصالح دنيوية لا تخفي، فشعر بوخز الضمير وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.



ثالثاً : ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز:

مكّن انتظار مروان في معركة مرج راهط لدولته في الشام فبسط نفوذه عليها، وكانت خطواته التالية المسير إلى مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، وكانت هذه خطوة تدل على ذكاء مروان، فلمصر أهميتها الكبيرة واستيلاؤه عليها يدعم موقفه في مواجهة ابن الزبير، ولم يكن استيلاؤه عليها صعباً، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة[12]، ودعا مروان شيعة بني أمية بمصر سراً[13]وهذا ما يفسر سهولة استيلاء مروان على مصر فقد سار إليها بجيشه، ومعه عمرو بن سعيد، وخالد بن يزيد بن معاوية وحسان بن مالك ومالك بن هبيرة وابنه عبد العزيز [14]، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالباً العفو على أن يخرج إلى مكة، فعفا عنه، وكان نجاح مروان في استرداد مصر من جمادي الآخرة سنة 65هـ[15]، وأقام في مصر شهرين لترتيب الأوضاع والاطمئنان عليها، ولما عزم على العودة إلى الشام عين ابنه عبد العزيز والياً عليها، وأوصاه وصية تدل على حنكة سياسية، وخبرة واسعة، وكان عبد العزيز قد توجس وأخذته وحشة من بقائه في مصر فقال لأبيه: يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له: يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن لك عيناً على غيره، وينقاد قومه إليك وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت موسى بن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض، أليس أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك[16]؟ بعد رجوع مروان بن الحكم قافلاً من مصر أقدم على تجهيز حملتين ضد ابن الزبير في محاولة منه لإعادة العراق والحجاز، فكانت الحملة ضد العراق بقيادة عبيد الله بن زياد وكانت مهمتها الأولى هي محاصرة زفر بن الحارث الكلابي والتخلص منه ثم التقدم نحو العراق، حيث مصعب بن الزبير ولكن هذه الحملة لم تحقق شيئاً من أهدافها في عهد مروان إذ سارع إليه الأجل وتوفى وهي في طريقها لمحاصرة زفر بن الحارث في قرقيسيا وعند مجيء عبد الملك أقر هذه الحملة التي سوف نعرض للحديث عنها فيما بعد، أما ما يتعلق بالحجاز فقد جهز مروان جيشاً من فلسطين يقدر بستة آلاف وأربعمائة فارس بقيادة حبيش بن دلجة القيني، وكان في الجيش الحجاج بن يوسف ووالده، اتجه هذا الجيش نحو الحجاز ولما وصل إلى وادي القرى هرب عامل بن الزبير على المدينة[17]، واستمرت الحملة إلى عهد عبد الملك بن مروان[18].



رابعاً : تولية العهد لعبد الملك ووفاة مروان بن الحكم:

ختم مروان بن الحكم أعماله بعقد البيعة لولديه عبد الملك بن مروان وعبد العزيز بن مروان مجسداً لمبدأ التوريث، وكان ذلك قبل وفاته بأقل من شهرين[19]، وبعد نجاحه بإعادة مصر إلى الحكم الأموي، بدأ مروان بالتخطيط لاستبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق من ولاية العهد الذي قرر في مؤتمر الجابية، فتزوج أم خالد بن يزيد وعمل للحصول على موافقة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بتولية العهد لولديه وإبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق فوافقه حسان على ذلك، وقد كان عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كان يطالب بولاية العهد بعد مروان وأعلن ذلك بعد رجوعه من قتال مصعب بن الزبير عندما حاول إعادة ناتل بن قيس الجذامي إلى فلسطين[20]، مما دعا مروان بن الحكم إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ مستعيناً بحسان بن مالك بن بحدل بعد أن أخبره بما يردده عمرو بن سعيد بن الأشدق بأن الأخير هو ولي العهد فقال حسان: أنا أكفيك عمرو. لهذا جمع الناس وخطبهم فبايع الجميع لعبد الملك ثم لعبد العزيز ولم يتخلف أحد[21]، ويعتبر بعض المؤرخين أن من أهم أعمال مروان بن الحكم تولية ولديه ولاية العهد، لولديه وذلك لحفظ الخلافة في البيت المرواني من جهة ولوضع حداً للتنافس على الخلافة بين بني أمية من جهة ثانية، ولتفادي المشاكل التي ربما تحدث بشأن الخلافة، كما حدثت بعد موت معاوية الثاني[22]، والملاحظ أن مروان بن الحكم نقض بعض مقررات مؤتمر الجابية المتعلقة بولاية العهد ولم يلتزم بعهوده وكان راغباً في حصر الخلافة في أبنائه، فآثر إسقاط وعوده ونقضها على المحافظة على طموحاته ورغباته وأوجد معادلة فيها مطامع ومصالح مشتركة مع المعارضين له مما جعلهم يستجيبون لدعوته إلى تولية أبنائه ولاية العهد من بعده، فقد عمل على التحرش بخالد بن يزيد وتعمّد أهانته أمام الآخرين، بغية تحجيمه وإعطاء صورة للناس بعدم صلاحيته للخلافة ثم خطا الخطوة التالية فأخذ البيعة لولديه عبد الملك وعبد العزيز في بداية سنة 65هـ[23]، لقد استطاع مروان بدهائه ومكره وجهوده المتوالية الخروج بأزمة الحكم الأموي من حالة الضياع إلى مركز الصدارة والقيادة، وهذا لم يكن حدثاً عادياً محدود التأثير، وإنما هو عودة جديدة للحكم بعد تثبيته في الشام ومصر من جهة، وتجريد السفيانيين من الخلافة وتحويلها إلى المروانيين من جهة ثانية، ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرار التقدم عند ابنه عبد الملك لنزع الخلافة من الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير ثم يتفرغ للقيام بالعديد من الإصلاحات التي جعلته المؤسس والمجدد الحقيق لمؤسسات الدولة الأموية، وتعميق الحكم العضوض بها مع وجود بعض الحسنات التي لا تنكر للملك الأموي الجديد.

توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنه، وصلى عليه ابنه عبد الملك وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً ودفن بين باب الجابية وباب الصغير[24]، وكان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار. وكان نقش خاتمه: العزة لله وفي رواية : آمنت بالله العزيز الرحيم[25]، وقد اختلف في سبب وفاته إذ وردت ثلاث روايات فيها الأولى ـ ترى أنه توفي بالطاعون[26]؟، وتذهب الأخرى إلى أن زوجته أم خالد بن يزيد سقته سماً فمات أو وضعت وسادته على رأسه حتى مات[27]، وثالثة ترى أنه توفي وفاة طبيعية[28]، إن تناقض الروايات تدل على أن الحقيقة غير معروفة، وأما الرواية التي تتهم زوجته بالقتل تبدو كأنها أسطورة مختلقة ردّدتها الألسن، إما حباً في الثرثرة وإما طعناً في الأسرة الأموية وهذه الرواية غير مقبولة للأسباب الآتية:

1 ـ أنه لم يعرف عن نساء العرب مثل هذا الفعل فضلاً عن كونها سيدة حرة شريفة تلتقي وإياه في عبد شمس .

2 ـ مكانة مروان بن الحكم من قومه وتوليته الخلافة يجعل من الصعوبة بمكان الإقدام على مثل هذا الفعل له وذلك للنتائج المترتبة عليه فيما بعد.

3 ـ لم يظهر أي أثر لهذا الاغتيال في الأسرة الأموية وخاصة بين خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان، مما يدل على أن هذه الرواية غير صحيحة أما الرواية التي تشير إلى موته الطبيعي وإصابته بالطاعون فأنها محتملة لأنه كان قد تجاوز الستين من العمر[29]، فضلاً عن الجهد الذي بذله في أواخر أيامه مما جعل التعويل على موته الطبيعي[30]





ميارى 15 - 5 - 2010 09:56 PM

[align=justify]المبحث الثالث : عبد الملك بن مروان وصراعه مع ابن الزبير:
أولاً اسمه ونسبه وكنيته وشيء من حياته:
1 ـ اسمه ونسبه وكنيته: هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية[1].
2 ـ مولده ووصفه: كان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ستٍّ وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء، الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر، وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربَّما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، فلهذا كان يقال له: أبو الذِّبان وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين، أشهل[2] كبير العينين، دقيق الأنف، مشرق الوجه، أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم يخضب ويقال: إنه خضب بعد ذلك[3].
3 ـ طلبه للعلم وعبادته قبل الإمارة وثناء الناس عليه:
قال نافع: لقد رأيت المدينة ما فيها شاب أشدُّ تشميراً، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان[4]. وقال الأعمش عن أبي الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة، سعيد بن المسيِّب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك قبل أن يدخل الإمارة[5]، وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا ـ يعني عبد الملك[6] ـ ويقصد ابن عمر أن عبد الملك كان يفوق سنه، ويعلو فوق أقرانه[7]، وعن يحي بن سعيد قال: أول من صلّى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه. فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، إنما العبادة التفكر، في أمر الله، والورع عن محارم الله[8]. وقد صدق رحمه الله. وقال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك ابن مروان، فإنِّني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه[9].
4 ـ تعظيمه لاسم الله تعالى: روى البيهقي: أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان عليه اسم الله عز وجل[10].

5 ـ التسبيح والتكبير في الأسفار: روى ابن أبي الدينا، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة سبِّحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة، وكبَّروا بنا حتى نأتي تلك الحجر، ونحو ذلك[11].

6 ـ هل يصح هجره للقرآن الكريم؟ قيل: إنه لمّا وضع المصحف من حجره قال: هذا آخر العهد منك[12]. وهذه رواية ضعفها ابن كثير ورواها بصيغة التمريض قيل[13]، كما أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده وهو إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر:ـ علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن[14].

7 ـ ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته:
روى ابن سعد ما يدل على أن عبد الملك كان محبوباً مرغوباً من عمومته كبار بني أمية، فذكر أنه: كان معاوية بن أبي سفيان جالساً يوماً ومعه عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثاً: أخذ بحسن الحديث إذا حدّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث وبحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر عنه، وترك مخالطة اللئام من الناس وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته[15].

8 ـ وصيته لمؤدب أولاده: قال عبد الملك لمؤدِّب أولاده ـ وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجرـ علمهم الصِّدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السَّفِلَةَ فإنهم أسوأ الناس رِعة[16] ، وأقلهم أدباً، وجنِّبهن الحشم، فإنَّهم بهم مفسدة، وأحفِ شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقْوَوا وعلمهم الشعر يمجُدُوا وينجُدُوا ومُرْهم أن يستاكوا عَرْضاً ويمصوا الماء مصَّاً ولا يُعبُّوا عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرٍّ لا يعلم بهم أحد من الحاشية فيهونوا عليهم[17].
9 ـ موقفه من ابن الزبير قبل الإمارة وبعدها:
فقد كان له من ابن الزبير موقفان متناقضان: أما الأول: فكان قبل أن يتولى الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث خليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً[18]، قال يحي الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة المدينة، دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ فقلت: نعم قال: ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام (بعد الهجرة) وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه رسول الله صلى اله عليه وسلم، أما والله لو جئته نهاراً لوجدته صائماً، ولئن جئته ليلاً لوجدته قائماً، فلو أن أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار[19]. وأما موقفه الثاني: فكان بعد الخلافة ويأتي عكس الأول تماماً، عندما جهز عبد الملك جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي، وبعث به إلى مكة حيث كان يتحصن ابن الزبير بالكعبة، وظل محاصراً مكة حتى قُتل عبد الله بن الزبير[20].

ثانياً : حياته السياسية قبل الأمارة :
كان أول حادث سياسي أثر في حياته عندما كان عمره عشر سنوات، فقد شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان لهذا الحادث اثر في سياسته لما تولى الإمارة فقد خطب في إحدى خطبه: أيها الناس أنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يكن رأيه أو وثوب على منبر[21]. وأول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان عاملاً على هجر[22] ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت[23]، وشارك في الجهاد فقد خرج على رأس حملة إلى أرض الروم ويشتي هناك في سنة 42هـ[24]،كما يذكر أنه غزا إفريقية مع معاوية بن حديج وكلفه بفتح جلولا في بلاد الشمال الإفريقي وفي عهد يزيد كان يقول على ابن الزبير ما على الأرض اليوم خيراً منه[25]، كما أن علاقته بمصعب بن الزبير كانت حسنة، وأما عن دوره السياسي في عهد مروان بن الحكم، فقد تولى فلسطين وكان يبعث نائباً عنه روح بن زنباع[26] ، ويمكن أن يكون ذلك ليبقى في دمشق قريباً من إدارة الدولة لمساعدة والده هناك لاسيما أن الفترة التي تولى فيها والده الحكم كانت الدولة محاطة فيها بالأعداء من الداخل والخارج، وتولى أمرة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر[27]، وهذه المهمة تدل على كفايته الإدارية وحزمه[28].

ثالثاً : العلماء الذين كانوا مع عبد الملك:
بايع بعض العلماء لعبد الملك بن مروان بالشام وكانوا قلة لا يعدون شيئاً أمام العلماء الذين بايعوا ابن الزبير أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة، وانحصر وجود هؤلاء في إقليم الشام، وقد ذكر من هؤلاء العالم الجليل قبيصة بن ذؤيب ـ رحمه الله ـ فكان من المبايعين لعبد الملك وأحد المقربين إليه[29]، ومنهم يزيد بن الأسود الجرشي ـ رحمه الله ـ فورد أنه كان مع عبد الملك في خروجه لقتال مصعب بن الزبير وروي عنه أنه حين رأى الجيشين قد التقيا قال: اللهم أحجز بين هذين الجبلين وول الأمر أحبهما إليك[30].

رابعاً : حركة التوابين ومعركة عين الوردة 65هـ:
عندما عمّ الاضطراب أنحاء البلاد بعد موت يزيد وفرار عبيد الله بن زياد، شرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة وندموا على تقاعسهم عن نصرته، والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين[31]، وأخذ الشيعة يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، وثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65هـ وهو الموعد الذي حددوه لخروجهم وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء حيث بلغوا قبر الحسين فاسترحموا عليه وبكوا وتابوا عن خذلانهم له، وبعد يوم وليلة من البكاء كان الحماس قد أخذ منهم حق العمق، فقرروا السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام[32]، ومرّ جيش التوابين ببلدة هيت على الفرات ثم صعد مع النهر إلى أن وصل إلى قرقيسياء[33]. وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ولو اسمياً ببيعة ابن الزبير[34]، واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة وأنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، إلا أنهم اعتذروا عن قبول اقتراحه كما رفضوا نصيحته بالعدول عن قرارهم الانتحاري، واكتفوا بالتزود بما يحتاجون إليه من المدينة ثم مضوا إلى مصيرهم[35]، والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65هـ وخاضوا ضده معركة ضارية غير متكافئة بفعل قلة عددهم بالمقارنة مع عدد أفراد الجيش الأموي، أسفرت عن تدميرهم ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة[36]وقد علق الذهبي على سليمان بن صرد زعيم جيش التوابين بقوله: كان ديناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسُمُّوا جيش التوابين[37]. وعلق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين[38]، وكان عمر سليمان بن صرد رضي الله عنه يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة[39].
والحق أن الإنسان يقف مبهوراً أمام شجاعة التوابين وجرأتهم فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة الآف رجل، وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق، وعقيدة راسخة، وشجاعة نادرة، وصبر فائق، مع عشرين ألف جندي على اقل تقدير من أهل الشام، وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، ولولا كثرة جيش الشام، حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقاً، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنُّبل لما استطاعوا الانتصار عليهم[40]، ولكنا إزاء هذا الإعجاب بشجاعتهم، وإخلاصهم وتقانيهم في القتال، لا نملك إلا أن نتساءل، أين كانت هذه الشجاعة يوم تركوا الحسين رضي الله عنه ـ يواجه الموت هو وأهل بيته، دون أن يتحرك منهم أحد[41]؟ وأما أهم أسباب فشل التوابين فهي:
1 ـ قلة عددهم إذا قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة الآف مقاتل بينما كان جيش خصمهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفاً عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط.
2 ـ ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد أو حصين بن نمير من حيث الخبرة والقدرة العسكرية، وهذا يتفق مع وصف المختار الثقفي لسلمان بن صرد: إن سليمان رجل لا علم له بالحرب وسياسة الرجال[42].
3 ـ تخاذل التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفاً عداً أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الآخرين مع أن المشركين في القتال هم أربعة الآف .
4 ـ عدم اشتراك المختار الثقفي في القتال وليت الأمر كذلك ولكنه كان يثبط الناس عن سليمان بن صُرد[43].

خامساً: حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي:
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نعلم له صحبة استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة والدّهاء وقلة الدين[44]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في ثقيف كذاب ومبير[45]، فكان الكذاب هذا، ادَّعى أنَّ الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب، وكان المبير الحجاج، قبّحهما الله[46]، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وهو من الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي، والتي كانت تسعى لها عن دور، وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب من العداء الشديد لآل البيت إلى ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين[47]. فقد مر بنا في كتابي عن الحسن بن علي بن أبي طالب بأنه أشار على عمه سعد بن مسعود الثقفي بالقبض على الحسن بن علي وتسليمه إلى معاوية، لينال بذلك الحظوة عنده[48]، ثم حاول الاتصال بعبد الله بن الزبير والانضمام إليه، وشرط عليه شروطاً، منها أن يكون أول داخل عليه وألا يقضي الأمور دونه، وإذا ظهر استعان به على أفضل أعماله[49]، وباختصار أراد أن تكون له كلمة في دولته، ولكنه لم يجد تجاوباً من ابن الزبير، فانصرف عنه إلى الكوفة[50]، حيث كان الأمر فيها مضطرباً فأراد أن يصطاد في المياه العكرة، ولم يجد فيها ورقة رابحة سوى الادعاء بالمطالبة بدم الحسين وآل البيت وأدعى أن لديه تفويضاً بذلك من محمد بن على بن أبي طالب، الملقب بابن الحنفية، ولكنه لم يكن صادقاً في ذلك، بل قرر أن يركب تيار الشيعة ليصل إلى هدفه وهو الحكم والسلطان. وقد عبر هو نفسه عن ذلك في حواره مع رجال من رجاله الذين أخلصوا له، وكانوا يظنونه صادقاً في دعوته للثأر لآل البيت، وهو السائب بن مالك الأشعري. فقد قال له المختار عندما ضيق عليه وصعب الخناق واقتربت نهايته. ماذا ترى؟ فقال له السائب الرأي لك؟ قال: أنا أرى أم الله يرى: قال: الله يرى قال: ويحك أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم إلا أني قد طلبت وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية فقال السائب: إنا لله وإنا إليه راجعون[51]. قال السائب ذلك لما تبين له أن المختار صنع كل ما صنع من أجل السلطان وحده، ولذلك يصف الذهبي المختار بالكذب وقلة الدين[52]، ظهر المختار في الكوفة في الوقت الذي كان فيه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين يستعد للذهاب إلى الشام، لقتال عبيد الله بن زياد، فحاول تثبيط الناس عنه، وقد نجحت دعايته وتجمع حوله نحو ألفين من الشيعة وبقيت غالبيتهم مع سليمان بن صرد، وكانت نتيجة معركة عين الوردة من مصلحة المختار، فقد جاءته مصدقة لتوقعاته كما أنه انفرد بزعامة الشيعة ولجأ إليه الفارون من المعركة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه، وهو من زعماء الكوفة فثار على عبد الله بن مطيع العدوي، أمير الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير فأخرجه منها وأحكم سيطرته عليها.
[/align]

يتبع



الساعة الآن 11:41 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى