منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   مختارات من القصص و أدب المذكرات العربي والعالمي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=16775)

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:18 AM

19 - في الحس والحركة :

قد جرت عادة الناس جميعاً بان يقولوا اذا احبوا شيئاً او اشتاقوا الى شيء ان قلبي يحب هذا الشيء. او يحس بمحبة هذا الشيء. او يشتهي ذلك الشيء. ولست ادري عله هذا الاستعمال. فان القلب انما هو عضو من الجسم من جملة الاعضاء فلا يمكن ان تكون حساسيتها كلها مجموعة فيه. وبيانه ان من احب لوناً من الطعام بخصوصه فلينظر في ادوات الاكل الباعثة على اشتهائه . وما يميل اليه الطبع وهو غير محتاج الى اعمال اداة ظاهرة وذلك كحب الرئاسة والسعادة والدين بينبغي ان يحمل على الرأس. اذ هي امور معنوية لا علاقة لها بتلك البضعة أي القلب. وكما ان الطحال الذي هو وزير الميمنة لا تعلق له بهذه الامور. فكذلك كان وزير الميسرة أي القلب. الا انه لما كانت حركة القلب اسرع من غيره لكونه اقرب الى الرئة التي هي حرز التنفس ظن الناس ان القلب اصل في جميع اهواء الانسان واشواقه. ومن عاداتهم اجتناباً للبحث عن كثرة الاسباب والعلل والتيقن للحقائق ان يقتصروا على سبب واحد من الاسباب المتعددة وينسبوا اليه كل ما تسبب عن غيره. كما تنسب الشعراء مثلاً دواعي النحس الى الدهر ودواعي البين والفراق الى الغراب.

وبناء على هذا الاعتقاد أي نسبة الاهواء كلها الى القلب اراد الخرجي ان يمتحن قلب الفارياق ليعلم هل نبض فيه حب السلعة الجديدة نبضاً قوياً او لا. فجعل يقول له هل تحس في قلبك بان السلعة الجديدة خير من الاولى. وهل يضطرب فرحاً وسروراً عندما تسمع بذكرها. وهل ينبسط ويتسع وينشرح عند خطور هذه ببالك. وينقبض ويضيق ويتضام عند ذكر تلك. وهل عند قرائتك دفتر الاثمان يخيل لك ان قد طبع فيه أي في قلبك كل حرف من حروف الدفتر. حتى لو اعوزك وجوده سدت تلك الحروف مسده وهل يضطرم ويتوقد ويذوب ويضمحل اخرى. ثم يعود اقوى مما كان عليه كالسمندل المعروف. وهل تحس ايضاً بان ناخساً ينخسه. وواخزاً يخزه وعاصراً يعصره. وراهصاً يرهصه. وممزقاً يمزقه. وظاغطاً يضغطه. فقال له الفارياق اما الاضطراب والخفقان فانه دائماً على مثل هذه الحالة. وهو عرضة لذلك في حالتي الفرح والترح فان ادنى شيء يؤثر فيه. واما التوقد والذوبان فلا ادري. فقال المراد بالتوقد هنا وبالنخز والعصر الحمية والتحمس والتهوس وتخيل ما هو معدوم موجوداً وما هو موهوم يقيناً. ومثل ذلك مثل من يسافر في فلاة لاماء فيها فيبلغ منه الظمأ ان يتصور السراب ماء وشعاع الشمس نقزاً. ولا يزال يمني نفسه بوجدان الماء حتى يقطع المفازة. فان شدة التخيل والتهوس تعين الانسان على تحمل المكاره والمشاق. فيكون رازحاً تحت ثقلها وهو يحسب انه من المتكئين على الارائك. فيستوي بذلك عنده المجاز والحقيقة والمحسوس وغير المحسوس. حتى يحسب الصفر خواناً والنعش عرشاً. وربما كان ذا زوجة وعيال فيتخذهم منخذ الماعون من الخزف فيغادرهم ويجري في البلدان القاضية لترويح السلعة. ويستغني عن اهله واخوانه ورهطه بما لديه في الخرج فيحمله على كتفه مستبشراً مسروراً ويضرب في مناكب الارض طولاً وعرضً. فكل من مر به من عباد الله عرض عليه الشركة والمضاربة. ولا يزال دابه كذلك حتى يقضي نحبه وطوبى له ان مات على هذه الحالة. الخرج الخرج. ما لنا سواه من حرفة ولا شغل . السلعة سلعة. ليس لنا غيرها من جعل . ثم طفق يبكي وينتحب.

فلما افاق بعد حين ساله الفارياق هل عندكم معاشر الخرجيين سوق وشيخ للسوق. قال لا. قال ومن يقوم لكم المتاع قال كل منا يقوم متاعه بنفسه ولا يحتاج الى آخر. فتعجب الفارياق وقال في نفسه ان في هذا لعجباً. فان قوماً من هؤلاء الصعافيق لهم شيخ سوق وما لهم خرج. وقوماً لهم خرج وليس لهم شيخ ولكن لعل صاحبي هذا على الحق. اذ لو لم يكن كذلك لما تكلف حمل الخرج من اقصى البلاد وتجشم اخطار السفر وغيره ثم نخزه الخناس ان الخرجي ربما لم يجد محترفاً في بلاده فجاء بما عنده لينفقه في بلاد اخرى. فان تاجراً لو استبضع من بلده مثلاً خزاً او كرباساً الى بلد اخر لم يحكم له بانه قدم الى هذا البلد حباً باهله. فقد جرت العادة بأن المتسببين يطوفون في كل الاقطار. ثم فكر في ان اناة الخرجي وماهو عليه من الرزانة والصبر لابد وان يكون قرينها الرشد والحزم بخلاف النزق والطيش فانه لا يكون الا قرين الغواية والظلال. فمن ثم حكم بان الخرجي كان على هدى وذلك لاناته وحلمه. وان المطران كان من الضالين لحدته وتترعه . ثم قال للخرجي قد وعيت ياسيدي كل ما اوعيته اذني. وما ارى الحق الا معك. واني مشايعك ومتابعك وحامل للخرج معك. ولكن اجرني من هؤلاء الصعافيق فانهم كالاسود الضارية لا تاخذهم في خلق الله رأفة ولا شفقة. وعندهم ان اهلاك نفس غيرة على الدين يكسبهم عند الله زلفى. وقد تمسكوا بظاهر اقوال من الانجيل فيما رأوه موافقاً لغرضهم وزائداً في جاههم وسلطانهم. فيقولون ان المسيح بقوله ما جئت لالقي على الارض سلماً لكن سيفاً انما رخص لهم في اعمال هذه الاداة في رقاب الناس رداً لهم الى طريقة الحق. وقد نبذوا وراء ظهورهم خلاصة الدين وجوهره ونتيجته. وهي الالفة بين جميع الناس والمحبة والمساعدة وحسن اليقين بالله تعالى. وما صعب على من زاغ وعمى عن الحق ان يستخرج من كل كتاب وحياً كان او غير وحي ما يوافق غرضه. وفساد عقيدته. فان باب التاويل واسع. ايجوز الان لامير الجبل اذا شاخ ولم يعد التدثر بالثياب يدقئه ان يتكوى ببنت عذراء جميلة أي يتدفأ بحر جسدها كما فعل الملك داوود؟ ام يجوز له اذا حارب الدروز وانتصر عليهم ان يقتل نسائهم المتزوجات واطفالهم ويستحيي ابكارهم لتفجر بهن فحول جنده. كما فعل موسى باهل مدين على ما ذكر في الفصل الحادي والثلاثني من سفر العدد. ام يجوز له ان يتزوج بالف امرأة ما بين ملكة وسرية كما فعل سليمان. ام يجوز لاحد من القسيسين ان ينكح زانية ويولدها النغول كما فعل النبي هوشع. ام يسوع لاحد من الولاة ان يقتل من اعدائه كل رجل وكل امرأة وكل طفل رضيع كما فعل شاول بالعمالقة عن أمر رب الجند. حتى ان الرب غضب عليه لعدم قتله خيار الشاه والانعام ولابقائه على اجاج ملك العمالقة وندم على انه ملكه على بني اسرائيل فقام صموئيل وقطع الملك قطعاً امام الرب في جلجال. هذا واني قد قرات في فهرست التوراة المطبوعة في رومية في حرف الهاء ما نصه: ينبغي لنا ( أي لاهل كنيسة رومية) ان نهلك الهراقطة. أي المبتدعين او المشاحنين. واستشهدوا على ذلك بما كان يجري بين اليهود واعدائهم من القتال والفتك والاغتيال على ما سبق ذكره. فان يكن دين النصارى يحلل قتل الرجال والنساء والاطفال والفجور بالابكار من النساء وييح الوثب على عقار الغير من دون دعوة الىالدين بل مجرد عتو وظلم كما كان يحلله دين اليهود فلأي سبب نسخه اذاً وابطل احكامه . لكن دين النصارى مبني على مكارم الاخلاق وغايته من اوله الى آخره ابقاء السلم بين الناس وحثهم على الصلاح والخير. والا فلنرجع يهوداً. فلما سمع الخرجي ذلك راى ان وراء هذا الكلام لباقعة. فحرص على انقاذ الفارياق من ايدي العتاة. وارتاى ان يبعثه الى جزيرة تسمى جزيرة الملوط استئماناً فيها. فركب الفارياق في سفينة صغيرة سائرة الى الاسكندرية.



عرض كاتب الحروف :

قد تفلت الفارياق من ناديكم، وانملص من بين اياديكم. وعنجر في وجوهكم جميعاً واصبح لا يخاف لكم وعيداً وبقي الان ان اذكركم ما اشططتم به من الظلم والطغيان والجور والعدوان على اخي المرحوم اسعد. اذ اودعتموه السجن في داركم الوزيرية بقنوين نحو ست سنين. وبعد ان اذقتموه جميع ضروب الذل والهوان والبؤس والضنك في صومعة صغيره لزمها فلم يكن يخرج منها الى موضع يبصر فيه النور او يستنشق الهواء اللذين يمن بهما الخالق على الابرار والفجار من عباده قضي نحبه وما كان سجنكم له الا لمخالفته لكم في اشياء لا تقتضي عذاباً ولا عتاباً. وما كان لكم عليه من سلطان ديني ولا مدني. اما الدين فان المسيح ورسله لم يامروا بسجن من كان يخالف كلامهم وانما كانوا يعتزلونهم فقط. ولو كان دين النصارى نشأ على هذه القساوة الوحشية التي اتصفتم بها انتم رعاة التائهين وهداة الضالين لما آمن به أحد. اذ لا احد من الناس يصبو الا اذا كان يرى الدين الذي خرج اليه خيراً من الذي خرج منه. وكل انسان في الدنيا يعلم ان السجن والتجويع والاذلال والتوعد والتشنيع ليس من الخير في شيء. وناهيك ان المسيح ورسله اقروا ذوي السيادة على سيادتهم وامرتهم. ولم يكن دابهم الا الحض على مكارم الاخلاق والامر بالبر والدعة والسلم والاناة والحلم. فانها هي المراد من كل دين عرف بين الناس. واما المدني فلان اخي اسعد لم يات منكراً ولا ارتكب خيانة في حق جاره او اميره او في حق الدولة. لو فعل ذلك لوجب محاكمته لدى حاكم شرعي. فاساءة البطرك اليه انما هي اساءة الى ذات مولانا السلطان. لاننا جميعاً عبيد له مستامنون في امانه وحكمه. وكلنا في الحقوق سواء اذ البطرك ليس له حق في ان يخطف من بيتي درهماً واحداً لو شاءه فانى له ان يخطف الارواح وهب ان اخي جادل في الدين وناظر وقال انكم على ضلال فليس لكم ان تميتوه بسبب هذا. وانما كان يجب عليكم ان تنقضوا ادلته وتدحضوا حجته بالكلام او الكتابة اذا انزلتموه منزلة عالم تخشون تبعته. والا فكان الاولى لكم ان تنفوه من البلاد كما كان هو يطلب ذلك. بل اصررتم على عتوكم في تنكيله وزعمتم ان فراره من داركم مرة لنجاة نفسه كان زيادة في جنايته وجريرته فزدتم تجبراً عليه وظلماً. وكأني بكم معاشر السفهاء تقولون ان اهلاك نفس واحدة لسلامة نفوس كثيرة محمدة يندب اليها. ولكن لو كان لكم بصيرة ورشد لعلمتم ان الاضطهاد والاجبار على شيء لا يزيد المضطهد وشيعته الا كلفاً بما اضطهد عليه. ولا سيما اذا علم من نفسه انه على الحق وان خصمه القاهر له على ضلال. او انه متحل بالعلم والفضائل وقرينه عطل منها فقد فاتكم على هذا العلم الديني والسياسي. وعرضتم عرضكم للقذف والتسويد. وذكركم للمقت والتفنيد. مادامت السماء سماء والارض ارضاً. وان اخي رحمه الله وان يكن قد مات فذكره لن يموت. وكلما ذكره ذاكر من اهل الرشد والبصيرة ذكر معه ايضاً سوء افعالكم وغلوكم وجهلكم وشناعتكم وقد لعمري اخرج عنكم بموته من شيعتكم هذه المتوحمة على سفك الدم اكثر مما لو بقى حيا. وحسبك بالخواجة ميخائيل ميشاقة الاكرم وبغيره من ذوي الفضل والبراعة مثالاً. الم تاخذكم ياغلاظ الاعناق رأفة في شبابه وجماله؟ الم تتاثر قلوبكم التارزة لصفرة وجهه حين حجبتموه عن النور والهواء. وحين ذوت غضاضة جسمه وبضاضته، وحين لم يبق من ترارته غير الجلد والعظم وبخلتم عليه ايضاً ان تطلقوه بهما. الم تشفقوا عليه اذ رايتم انامله قد ضنيت وبخلتم عليه ايضاً ان تطلقوه بهما. الم تشفقوا عليه اذ رايتم انامله قد ضنيت لعوز ما كان يتمتع به حمر دياركم ولقد طالما والله اخذت القلم فخطت ما يعجب به الملوك. ولقد طالما والله صعد المنبر فخطب فيكم ارتجالاً والعرق يتصبب من جبينه ذلك الصليت. ولا شد ما ابكى سامعيه تذكيراً وتزهيداً. وطالما الف وعرب لكم كتباً ركيكة وعلم حمقى رهبانكم واخرجهم من ظلمات الجهل. الم يغز وجوهكم الصفيقة ما كان يترقرق في جهه من ماء الحياة فكان اشد خفراً من مخفرة. وانه كان عزيزاً في اهله مكرماً عند الامراء محبباً الى الخاصة والعامة . نزيه النفس . كريم الخلق فصيح اللهجة. انيس المحظة امثله يحبس ست سنين ويذل وينكل ويموت والله اعلم باي شيء مات. ما بال الكنائس الفرنسوية والنمساوية والانكليزية والرومية الارثودكسية والانصارية واليهودية لا تفعل هذه الفظاعة التي تفعلها الكنيسة المارونية؟ ام هي وحدها الحق والناس اجمعون على الباطل.

الستم تزعمون ان ملك فرنسا هو مجير الدين وناصره، والناس من اهل مملكته الكاثوليكيين ما زالوا يطبعون كتباً يندوون فيها بعيوب رؤساء كنيستهم وقبائحهم وسفاهتهم وفحشهم وشراهتهم والحادهم. بل ان كثيراً منهم قد الفوا تواريخ خاصة بما كان عليه البابوات من الفسق والفجور وسوء التصرف. وبكفرهم بخلود النفس والوحي وبالهية المسيح. فمنهم من قال ان البابا ارمديوس الثامن ويعرف بدوق صفوي رقي الى درجة بابا وهو عامي. ومنهم من قال ان مجمع باسيل انما كان انعقاده لخلع البابا يوجين وانهم حكموا عليه بالعصيان والارتشاء والشقاق والبدع ونكث اليمين. ومنهم من قال ان البابا نيقولاوس الاول كان قد حرم كنتيار مطران كولون لمخالفته له في المجمع الذي عقد في متز سنة 864. فكتب المطران المذكور رسائل الى جميع كنائسه يقول فيها. ان المولي نيقولاوس الذي اتخذ له لقب بابا ويجسب نفسه انه بابا وسلطان معاً وان يكن قد حرمنا فقد علونا على سفاهته. ومنهم من فال ان امبروسيوس حاكم ميلان حصل على درجة مطران مع انه كان غير صحيح الاعتقاد بدين النصارى. ومنهم من قال ان البابا يوحنا الثامن ارسل نواباً من طرفه الى القسطنطينة. فعقدوا ثم مجمعاً اجتمع فيه اربعمائة اسقف وكلهم حكموا ببراءة فوتيوس وانه جدير برتبة مطران. ومنهم من قال ان البابا اسطفانوس السادس امر بان تنبش جثة فرموسيوس اسقف بورطو من القبر لانه كان قد اثار شغباً على سلفه البابا يوحنا الثامن ثم حكم عليه بقطع راسه وثلاث من اصابعه والقيت جثته في طيبر....ومنهم من قال ان البابا يوحنا الثالث والعشرين شكي بانه سم سلفه وباع الوظائف الكنائسية وقتل عدة ابرياء. وانه كان كافراً ولوطياً معاً. ثم خلع بحضرة الامبراطور. الى غير ذلك مما يضيق عنه هذا الكتاب فاني لم اضعه في الدين وانما اوردت ما مر بك على سبيل الاستطراد.

فان كان ما قاله هؤلاء المؤلفون من الفرنساويين حقاً كان ابر من هؤلاء الائمة واتقى. اذ لم يشك قط بانه لاط او زنى او سم احدا...وانما هي مماحكات جرت بينه وبين بطركه على اشياء غير مقيسة ولا معدودة ولا مكيلة. فانت تقول مثلاً ان دركات قنو بين المؤدية الى سجين ثلاث. وهو قال ثلاثمائة. وانا اقول ثلاثة الاف. فما مدخل السجن هنا والعذاب. وان كان ما قالوه كذباً وافتراء كان ذلك ادعى الى تنكيلهم والاقتصاص منهم. لافترائهم على احبار الله وخلفائه فواحش لن يستطيع عباد الفتيش ان ياتوا بافظع منها. مع انا لم نر احداً منهم عذب او نفي او استفز من داره او انف من محضره. بل قد طبعت كتبهم المرة بد المرة. وسعرها في الاسواق كسعر كتب العلم.

ولعل قائلا يقول ان عرضك هذا موجه الى البطرك المتولي الان وهو من اهل الفضل والمكارم وليس هو الذي سجن اخاك وقتله وانما كان سلفه. قلت عندي علم ذلك. غير انه ما دام هو الذي يعتقد بان ما فعله سلفه كان صواباً فهو شريك له ولا يلبث ان يعامل من يقتدي باخي معاملة سلفه . وكذلك يعم اللوم جميع المطارنة والاساقفة والقسيسين والرهبان ان كانوا يصوبون ما فعله البطرك المتوفي. وكنت اود لو اختم هذا العرض بعتاب اوجهه الى حضرة المطران بولس مسعد ابن خالي وخال اخي وكاتب اسرار البطرك. ولكني خشيت الان من الاطالة. وفيما قلت ما يغني اللبيب.
الكتاب الثاني: -2- في سلام وكلام..

عمت صباحاً يافارياق. كيف انت؟ وكيف رايت الاسكندرية؟ وهل تبينت نساءها من رجالها فان النساء في بلدكم لا يتبرقعن. وكيف وجدت مآكلها ومشاربها وهواءها وماءها ومنازلها واكرام اهلها للغرباء؟ الم يزل برأسك الدوار؟ وعلى لسانك هجو الاسفار؟ قال: اما موقع المدينة فانيق لكونه على البحر. وقد زدات بهجة بكثرة الغرباء فيها فترى روس ناس مغطية بطراطير واخرى بطرابيش. واخرى بكمام وغيرها بمقاعط....ومنهم من له سراويلات طولة مفرسخة تكنس ما خلفه وما قدامه ومنهم من له اتب . ومنهم من يركب الحمير والبغال . وغيرهم على الخيل والجمال. والابل في ازدحام والناس في التطام. فينبغي للسائر بينهم ان لا يفتر على الدعاء بقوله اللهم اجر. اللهم احفظ. استعنت بالله. اعوذ بالله . فاما براقع النساء فهي وان كانت تخفي جمال بعضهن الا انها تريح العين ايضاً من قبح سائرهن. غير ان تستر القبيحات اكثر. لان المليحة لا يهون عليها اذا خرجت من قفصها ان تطير في الاسواق من دون ان تمكن الناظرين من رؤية ملامحها. لينظروا حسنها وجمالها ويكبروا لافترارها. فيقولوا ما شاء الله . تبارك الله . جل الله . الله الله. حتى اذا رجعت الى منزلها اعتقدت ان جميع اهل البلد قد شغفوا بها حباً . فباتت تنتظر منهم الهدايا والصلات. والاشعار والمواليات. فكلما غنى مغن انصتت الى غنائه وسمعت اسمها يتشبب به. فاذا بكرت في اليوم القابل الى الاسواق ورات الناس مكبين على اشغالهم تعجبت من بقائهم اصحاء قادرين على السعي والحركة. فزادت لهم في كشف مسافرها ، وقسامتها ، ومحاجرها، وفتنتهم باشاراتها وايمائها. وتمايلها وتهاديها. وتغدنها وتعاطفها. وحندفتها وخزرفتها. وزاد طمعها ايضاً في الهدايا . قال وقد نظمت في البرقع بيتين ما اظن احداً سبقني اليهما وهما :

لا يحسب الغر البراقع للنسا منعاً لهن عن التمادي في الهوى

ان السفينة انما تجري اذا وضع الشراع لها على حكم الهوا

فاما رجالها فان للترك سطوة على العرب وتجبراً. حتى ان العربي لا يحل له ان ينظر الى وجه تركي كما لا يحل له ان ينظر الى حرم غيره. واذا اتفق في نوادر الدهر ان تركياً وعربياً تماشيا اخذ العربي بالسنة المفروضة. وهي ان يمشي عن يسار التركي محتشماً خاشعاً ناكساً متخاقراً متصاغراً متضائلاً . فاذا عطس التركي قال له العربي رحمك الله. واذا تنحنح قال حرسك الله. واذا مخط قال وقاك الله. واذا عثر عثر الاخر معه اجلالاً له وقال نعشك الله لا نعشنا. وقد سمعت ان الترك هنا عقدوا مجلس شورى استقر رايهم فيه لدى المذاكرة على ان يتخذوا لهم مركباً وطيئاً من ظهور العرب فانهم جربوا سروج الخيل وبراذع الجمال واكفها واقتاب الابل وبواصرها وخصرها وسائر انواع المحامل ... فوجدوها كلها لا تصلح لهم. ورايت مرة تركياً يقود جوقة من العرب بخيط من الكاغد وهم كلهم يقودون له. استتغفر الله مرادي ان اقول ينقادون له ولم ادر ما سبب تكبر هؤلاء الترك هنا على العرب. مع ان النبي صلى الله عليه وسلم كان عربياً والقرآن انزل باللسان العربي والائمة والخلفاء الراشدين والعلماء كانوا كلهم عرباً غير اني اظن ان اكثر الترك يجهلون ذلك فيحسبون ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول سويلة بويلة او بقالم قبالم. لا والله . ما هذا كان لسان النبي ولا لسان الصحابة والتابعين والائمة الراشدين رضي الله عنهم اجمعين الى يوم الدين.

فاما ماؤها فما احسن رأسه وانجعه. الا انه قذر الذنب تنجسه حيوانات الاوض باجمعها. فاما اكلها فالفول والعدس والحمص والزن والدوسر والجلبان والترمس والخوم والشبرم واللوبياء. ذلك ان اهلها لا يرون في الخمائص حسناً. حتى ان النساء فيما بلغني يتخذن معجوناً من الجعل وياكلنه في كل غداة لكي يسمن ويكون لهن عكن مطويات. ..

الكتاب الثاني : - 5- في وصف مصر :

قد قمت حامداً لله شاكراً فاين القلم والدواة حتى اصف هذه المدينة السعيدة الجديرة بالمدح من كل من رآها . لانها بلد الخير ومعدن الفضل والكرم. اهلها ذو لطف وادب واحسان الى الغريب . وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب . اذا حيوك فقد احيوك . وان سلموا عليك فقد سلموك . وان زاروك زادوك شوقاً الى رؤيتهم . وان زرتهم فصحوا لك صدورهم فضلاً عن مجالسهم . اما علماؤها فان مدحهم قد انتشر في الافاق . وفات فخر من سواهم وفاق . بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في اطرائه . ولكل نوع من الناس عندهم اكرام يليق به سواء كان من النصارى او غيرهم . وربما خاطبوهم بقولهم ياسيدي ولا يستنكفون من زيارتهم ومخالطتهم ومعاشرتهم خلافاً لعادة المسلمين في الديار الشامية. وبذلك لهم الفضل على غيرهم . وكأن هذه المزية وهي حسن الخلق ورقة الطبع امر مركوز في جميع اهل مصر. فان لعامتهم ايضاً مخالقة ومجاملة . وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام سريع الجواب. حلو المفاكهة والمطارحة . واكثرهم يميل الى هذا النوع الذي يسمونه الانقاط . وكأنه المجازرة وهي مفاكهة تشبه السباب وهو اشبه بالاحاجي. فان من لم يكن قد تدرب فيه لا يمكنه ان يفهم منه شيئاً وان يكن شاعراً . وكلهم يحبون السماع واللهو ، وغنائهم اشجى ما يكون. فلا يمكن لمن الفه ان يطرب بغيره. وكذلك آلاتهم فانها تكاد تنطق عن العازف بها . واعظمها عندهم هو العود وقل اعتناؤهم بالناي . ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات . غير اني أذم من غنائهم شيئاً واحداً. وهو تكرير لفظة واحدة من بيت او موال مراراً متعددة حتى يفقد السامع لذة معنى الكلام . ولكن اكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن . وبعكس ذلك طريقة اهل تونس فان غناءهم اشبه بالترتيل وهم يزعمون انها كانت طريقة العرب في الاندلس.

ومما ينبغي ان يذكر هنا ان النصارى المولودين في بلاد الاسلام الناهجين منهج المسلمين في العادات والاخلاق هم ابداً دونهم في الفصاحة والادب والجمال والكياسة والظرافة والنظافة الا انهم انشط منهم على السفر والتجارة والصنائع واكثر اقداماً وجلداً على تعاطي الاعمال الشاقة. وذلك ان المسلمين اهل قناعة وزهد وفي النصارى شره عظيم الى اتخاذ الديار الرحيبة وقنية الخيل النجيبة والجواهر النفيسة . والمتاع الفاخر لا حد لها. فاذا دخلت دار نصراني من المتولين بمصر رايت عنده عدة خوادم وخادمين ونحو عشرين قصبة للتبغ من اغلى ما يكون . وقدر نصفها من الاراكيل الثمينة . وثلاث غرفات مفروشات باحسن ما يكون من القماش . وآنية فضة للطعام والشراب واسرة عالية وطيئة وثياباً فاخرة وغير ذلك . ومع هذا فلا تجد عنده كتاباً ولو ان مشترياً شاء ان يشتري شيئاً من تاجر مسلم لوجد سعره ارخص من بضاعة النصراني بربع الثمن ولكن وجود هذه الشراهة انما هو في الغالب عند النصارى الغرباء . فاما القبط فانهم اشبه بالمسلمين . وقل من تعاطى المتجر منهم .

اما دولة مصر اذ ذاك فانها كانت في الذروة العليا من الابهة والعز والفخر والكرم والمجد . فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسي والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها وكان واليها يولي المراتب العلية وسمات الشرف السنية لكل من المسلمين والنصارى ما عدا اليهود خلافاً لدولة تونس فان شرفها عم الجميع : ومع عظم ما كان يكسبه التجار واصحاب الحرف وما يناله اهل الوظائف من الرزق العميم فكانت الاسعار بمصر رخيصة جداً فلهذا كنت ترى الناس قصريهم وعميهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة باهل الخلاعة والقصوف ومحال القهوة مجمع للاحباب . والاعراس مسموع فيها الغناء والات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالحز والديباج . والنساء ينوؤن بما عليهن من الحلي . والخيل والبغال والحمير مسرجة ومكسوة بالحرير المزركش .



ومن خصائص مصر ايضاً ان البغاث بها يستنسر والذباب يستقصر ، والناقة تستبعر ، والجحش يستمهر ، والهر يستنمر ، بشرط ان تكون هذه الحيوانات مجلوبة اليها من بلاد بعيدة.

ومن ذلك ان كثيراً من اهلها يرون ان كثرة الافكار في الراس يكثر عنها الهموم والاكدار اوبالعكس . وان العقل الطويل يتناول البعيد من الامور . كما ان الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره . وان تلك الكثرة سبب في الاقلال. وهذا الطول موجب لقصر الاجال . وارادوا على ذلك براهين سديدة قالوا ان العقل في الرأس كالنور في الفتيلة . فما دام النور موقداً فلابد وان تنفذ الفتيلة ولا يمكن ابقاؤها الا باطفاء النور. او كالماء في الوادي. فاذا دام الماء جارياً فلابد وان ينضب او ينصب في البحر . او كالفلوس في الكيس . فما دام المفلس أي صاحب الفلوس يمد يده الى كيسه وينفق منه فني ما عنده . الا ان تربط يدهُ عن الكيس او يربط الكيس عن يده. وكالتيس النازي. فانه اذا دام نزوه نزفت مادة حياته فهلك فلابد من نجفه . فمن ثم اصطلحوا على طريقة لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حيناً من الاحيان ليتوفر لهم في غيره . وذلك بشرب شيء من الحشيش او بمضغة او بالنظر اليه او بذكر اسمه . فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم ويحضر السرور . وتولي الاحزان . ويرقص المكان . فمن يرهم على هذه الحالة ود لو يُكتب في زمرتهم ويدخل في دائرتهم وان يكن قاضي القضاة. ومن ذلك ان طرقها لا تزال غاصة بالابل المحملة فينبغي للسائر فيها اذا رآها مقبلة ان يخلي لها الطريق . او فلا يامن ان يفقد احدى عينيه .
--------------------------------------------------------------------------------

[1] مصدر المختارات هو: الساق على الساق في ما هو الفارياق او ايام وشهور

واعوام في عجم العرب والاعجام . تقديم : الشيح نسيب وهيبة الخازن .

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:20 AM

فدوى طوقان

(1931)



تمهيد:

تشابهات كثيرة سيلاحظها قاريء مذكرات فدوى طوقان مع غيرها من المذكرات النسائية ، وخصوصاً ما كتبته آن فرانك خلال ذات الفترة . تشتكي فدوى مما لقيته من معاناة على يد افراد اسرتها ، وخصوصاً حين منعوها عملياً من اتمام دراستها في سن باكر ، لاسباب غير مقنعة تصفها في الصفحات التالية . هي توضح ان سوء معاملة الاسرة الفلسطينية للبنت وتفضيل الولد عليها ككان له اثار سلبية ساهمت في المآسي التي حدثت فيما بعد .

في الصفحات التالية تصف فدوى باسلوب قصصي جميل اولاً ، تعدي افراد اسرتها عليها في طفولتها الباكرة ، ثم مساعدة اخوها لها وتعاطفه معها في سعيها لقرض الشعر ..
رحلة جبلية رجلة صعبة : سيرة ذاتية[1]
خرجت من ظلمات المجهول الى عالم غير مستعد لتقبلي. امي حاولت التخلص مني في الشهور الاولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة . ولكنها فشلت .

عشر مرات حملت امي . خمسة بنين اعطت الى الحياة وخمس بنات ، ولكنها لم تحاولت الاجهاض قط الا حين جاء دوري .

هذا ما كنت اسمعها ترويه منذ صغري.

كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع . فقد كانت تعطي كل عامين او كل عامين ونصف العام مولوداً جديداً . يوم تزوجت كانت في الحادية عشر من عمرها ، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد.

واستمرت هذه الارض السخية - كارض فلسطين - تعطي ابي غلتها من بنين وبنات بانتظام .

احمد - ابراهيم - بندر - فتايا - يوسف - رحمي .. كان هذا كافياً بالنسبة لامي ، وان لها ان تستريح ، لكنها حملت بالرقم السابع على كره . وحين ارادت التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبئاً في رحمها تشبث الشجر بالارض ، وكانما يحمل في سر تكوينه روح الاصرار والتحدي المضاد.

ولاول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع ابي عن محادثة امي لبضعة ايام . فقد اغضبته محاولة الاجهاض .

كان المال والبنون بالنسبة له زينة الحياة الدنيا ، وكان يطمع بصبي خامس . لكني خيبت امله وتوقعه .

اصبح لديه الان ثلاث بنات مع البنين الاربعة ..وتبعني فيما بعد اديبة ثم نمر ثم حنان . فاستكملنا العدد (عشرة).

تظل ذكريات طفولتي قبل عهد المدرسة مشوشة ، باهتة ، متقطعة ، فلا استطيع لم شعثها او تنظيم فوضاها . ولكن الذي اراه واذكره بوضوح من صور هذه المرحلة الهامة في حياة الانسان ، وهي المرحلة التي يشرع الطفل خلالها في تمييز ذاته الاجتماعية هو اقبال اصدقاء ابي وعمي علي . وكذلك اصدقاء شقيقي احمد وابراهيم ، بالاضافة الى اصحاب الدكاكين المجاورة . فهؤلاء جميعاً كانوا يضاحكونني ويمازحونني كلما التقيت باحدهم في ديوان العائلة او في السوق . فكنت احس معهم بانني شيئ ذو قيمة اكثر مما انا بين اهلي . وكذلك بعد التحاقي بالمدرسة . فقد جعلني تصرف المديرة والمعلمات اكون عن نفسي فكرة افضل.

لاتحمل ذاكرتي أية صورة لاول يوم دخلت فيه المدرسة . كما انها لا تحتفظ بذكرى المرحلة الاولية التي تعلمت فيها قراءة الحروف وكتابتها . ولكن الذي اذكره بوضوح هو استمتاعي دائماً بمحاولة قراءة أي شيئ مكتوب وقع عليه بصري .

لم يكن في نابلس اكثر من مدرستين للبنات ، (المدرسة الفاطمية) الغربية و(المدرسة العائشية) الشرقية . وكان اعلى صف هو الخامس الابتدائي .

في (المدرسة الفاطمية) تمكنت من العثور على بعض اجزاء من نفسي الضائعة . فقد اثبت هناك وجودي الذي لم استطع ان اثبته في البيت . اجبتني معلماتي واحببتهن ، وكان منهن من يؤثرني بالتفات خاص. اذكر كيف كان يشتد خفقان قلبي كلما تحدثت معي معلمتي المفضلة (ست زهرة العمد) والتي احببتها كما احب واحدة من اهلي في تلك الايام . كانت جميلة وجها وقواماً ، وكانت انيقة ، شديدة الجاذبية.

كنت ارنو بشغف كبير وهي تشرح الدرس وتفسر لنا قطعة القراءة. او حين كانت تتلو علينا قطعة الملاء . فقد كنت اكتب الفقرة . ثم ارفع بصري في انتظار الفقرة التالية مسرورة بالنظر الى وجهها. وكانت تقف امام مقعدي الدراسي في الصف الاول الذي كان مخصصاً لاصغر تلميذات الصف سناً وحجماً . وحين كانت تضع اصابع يدها البيضاء على طرف مكتبي كنت احس برغبتي في لثمها . فاذا انحنت نحوي لتنظر في دفتري اخترقت احاسيسي رائحة عطر خفيفة كانت تنبعث دائماً منها . واتمنى لو بقيت بجانبي الى الابد .

فجأة انقطعت عن المجيء الى المدرسة . فقد مرضت المعلمة المحبوبة . طال مرضها وطال غيابها ، وعرفت الوحشة وذقت مرارة غياب الاحباب وثقل الانتظار.

كانت تقطن مع عائلتها في بيت بعيد معزول في منطقة (بليبوس) في الجانب الغربي من جبل عيبال . كانت شقيقتها الكيرى معلمة الصف التمهيدي في المدرسة . وذهبت البها برفقة بعض زميلاتي نستاذنها في زيارة ست زهرة .

ودخلنا البيت الصامت بتهيب ونحن نكتم انفاسنا . وفي غرفتها تربعنا على مقعد ارضي امام سريرها . اخذت تمسح وجوهنا بعينيها الواهنتين وجهاً وجهاً . وحين صافحت عيناها وجهي ابتسمت لي . شعرت بقلبي يذوب حزناً . كنت منذ دخلنا اغالب البكاء في حلقي ، اما الان فقد غلبت على امري ، واسرعت فواريت وجهي خلف زميلاتي ورحت ابكي بصمت .

[] [] []

لا اذكر ان واحدة من معلماتي تركت في نفسي ذكرى جارحة او اثراً لمعاملة سيئة على مدى السنوات القليلة التي امضيتها في المدرسة . لقد اشبعت المدرسة الكثير من حاجاتي النفسية التي ظلت جائعة في البيت . اصبحت اتمتع بشخصية بارزة بين معلماتي وزميلاتي . وكان من دواعي سعادتي ان معلمة اللغة العربية بين معلماتي احياناً تلقي على مهمة تدريس التلميذات المتخلفات في الصف .

لقد اصبحت المدرسة احب الى من البيت والمكان الاكثر ملاءمة لي . وفي المدرسة عرفت مذاق الصداقة واحببته . كانت رفيقة مقعدي الدراسي تلميذة في مثل سني اسمها "عناية النابلسي" وكانت احب صديقاتي الى واقربهن الى نفسي . ولقد بلغ من شدة تالفنا ان ابتدعنا طريقة غريبة لتاكيد صداقتنا . فلجانا ذات يوم الى وخز ابهامينا . ولعقت هي قطرة الدم التي نفرت من اصبعي ، كما لعقت قطرة الدم من اصبعها . وكان هذا توقيعاً على اخوة دم لا انفصام لها .

لم التق بعناية منذ ايام المدرسة . فقد تركت نابلس بعد زواجها في سن مبكرة . ولكن عناية تلك البنت الصغيرة لا تزال هناك ، في زاوية دافئة من القلب ، لم تغب عن مكانها ابداً .

[] [] []

حين وصلت سن البلوغ ، كنت قد تعافيت من حمى الملاريا وسعدت بنعمة العافية .

لفت نظري تفتح جسدي ..خفت ، وخجلت ، واربكني نمو الصدر الذ تصبح الان ملحوظاً .فكنت اعمل على اخفاء هذا النمو . ورحت اراقب هذا الامر كله بحياء شديد كما لو كان ارتكاب ذنب مخجل استحق العقاب من اجله .

لدى وصولي تلك المرحلة من العمر لم اكن اعرف شيئاً عن الحب على الاطلاق ، فلم يكن هذا الموضوع مما يتناوله افراد الاسرة على مسمع منا نحن الصغار.

وجاء الربيع ، وعرفت هذا الشيء المسمى حباً ، والذي ظل يشرنق حول وجودي الى ما لا نهاية .

هنا جاء جواب السؤال الذي حرمته على امي ، جاءني محمولاً على زهرة فل عبقت رائحتها وعلقت بجدران قلبي . لا ازال حتى اليوم احس وكأن يداً خفية تقذف بي الى ذلك الماضي او تقذف به الي كلما نفحتني زهرة فل بعطرها.

ورائي الان ، وانا استحضر ذكرى تلك الحادثة ، عشرات الاعوام ، ولكن حدة الانفعالات التي يعثتها في نفسي ، والدهشة التي تولدت من تلك الانفعالات هي من الاشياء التي لا تنسى ابداً . اكتشفت شيئاً جديداً في نفسي وفي العالم ، شيئاً غريباً جداً . ووقفت مبهورة الانفاس امام دهشة الحب الاول .

امتلات الاعماق بعطر الفل الغامض العجيب ، وحرك مشاعري شيء يستعصي على التفسير ، وراح القلب يذوب تحت تاثير الاغاني المترعة بالعاطفية الشرقية الساخنة. منذ ذلك الحين ضربت اغاني محمد عبد الوهاب جذورها في قلبي وظل عندي سيد الغناء "تعالي نفن نفسينا غراماً" "منك ياهاجر دائي" "قلب بوادي الحمى خلفته رمقاً" "النبي حبيبك ما تحرمش الفؤاد منك" وغيرها ... وغيرها ..

كانت تلك الاغاني مؤثرات تعمل على تكثيف شعوري الغائم المبهم . فقد كانت هذه اول مرة احس فيها بدقات قلبي وتوائبه . كان يفوتني ادراك معاني الاغاني ادراكاً عقلياً . لكن مشاعري كانت تعب من الجو العاطفي للصوت وللاغنية فترتوي وتزداد كثافة وزخماً وتوجهاً.

فقدت شهيتي للطعام ، ولاول مرة عرفت الارق الجميل المليء بالاخيلة والتصورات الهانئة ، ولاول مرة عرفت كيف يغطي وجه انسان ما كل الوجوه الاخرى ويكتسح الوجود بكامله .

كان غلاماً في السادسة عشرة من العمر . ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية في ذهابي وايابي . فما كان لمثلي ان تزوغ يميناً او شمالاً . كانت الطاعة من ابرز صفاتي . وكنت مسكونة دائماً بالخوف من اهلي . كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو زهرة فل ركض الي بها ذات يوم صبي صغير في (حارة العقبة ) وانا في طريقي الى بيت خالتي.

ثم حلت اللعنة التي تضع النهاية لكل الاشياء الجميلة .

كان هناك من يراقب المتابعة ، فوشى بالامر لاخي يوسف ودخل يوسف علي كزوبعة هائجة : (قولي الصدق)..وقلت الصدق لانجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الاخرين ، العنف والضرب بقبضتين حديديتين ، وكان يتمتع بقوة بدنية كبيرة لفرط ممارسته رياضة حمل الاثقال .

اصدر حكمه القاضي بالاقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي كما هددني بالقتل اذا انا تخطيت عتبة المنزل ، وخرج من الدار لتاديب الغلام .

[] [] []

قبعت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي يوسف ، ذاهلة، لا اكاد اصدق ما حدث .

ما اشد الضرر الذي يصيب الطبيعة الاصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ التربية وسوء الفهم .

كما ذكرت من قبل ، كانت اسرة عمي منغلقة على نفسها . اذا تحدثوا همسوا ، او اغلقوا الباب ، فلم نكن نعرف قط ما يدور بينهم .

اما اسرة ابي فقد انعكست طبيعة امي عليها ، فكانت امورنا جميعاً مكشوفة الوجه ، صريحة مشاعة ملكيتها لاسرة عمي وعمتي. هناك التزمت والخفاء والسرية والصمت . وهنا الانفتاح والعلن والعفوية والضجيج .

فلو ان ما وقع لي كان قد وقع لابنة عمي شهيرة لما علم احد منا بالامر . بل كان يعالج بسرية وكتمان محكم . اما وقد حدثت القصة لي لم يكن هناك بد من قرع الطبول والاجراس بين عيون ومسامع كل فرد في الدار . حتى النساء المساعدات في الاعمال المنزلية .

حملت عمتي وافراد اسرة عمي منظارهم المكبر لينظروا من خلاله الى الحادثة الصبيانية البريئة فيعطوها حجماً اكبر من حجمها الحقيقي . وشرعوا يسلطون علي نظراتهم المتشككة ، ويحملون عني افكاراً جائرة ، ومن هذا المنطلق راحوا يتعاملون معي .

وانزرعت في نفسي الغظة الطرية فكرة سيئة عن هذه النفس ، خلقت في عادة السير وانا مطأطئة الرأس لا أجرؤ على رفع عيني نحو وجوههم التي كانت تلقاني صباح مساء بالعبوس والكراهية . لقد شوهوني امام نفسي .

ولقد لفت نظر خالتي الطريقة غير الطبيعية التي صرت اتخذها وانا امشي او اجلس ، واخذت ، بحنوها المعهود ، تطلب الي باستمرار ان ارفع راسي وامشي بقامة منتصبة .

[] [] []



عاد ابي ذات صباح الى البيت لبعض شانه وكنت اساعد امي في ترتيب اسرة النوم . وحين رآني سأل امي . "لماذا لا تذهب البنت الى المدرسة ؟" قالت : "تكثر في هذه الايام القصص حول البنات فمن الافضل وقد بلغت هذه السن ان تبقى في البيت."

قال ابي : "حسناً." وخرج!

كان احياناً اذا اراد ان يبلغني امراً يستعمل صيغة الغائب ولو كنت حاضرة بين عينيه . كان يقول لامي : قولي للبنت تفعل كذا وكذا .. قولي للبنت انها تكثر من شرب القهوة ، فلا اراها الا وهي تحتسي القهوة ليلاً ونهاراً . وهكذا!

[] [] []



كان اشد ما عانيته حرماني من الذهاب الى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة . كانت اختي اديبة تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي . تفتح حقيبة كتبها وتنشر دفاترها حولها . وتشرع في الدراسة وعمل التمارين المقررة.

وهما كنت اهرب الى فراشي لاخفي دموعي تحت الغطاء.

وبدأ يتكثف لدي الشعور الساحق بالظلم .

احياناً كنت ادخل المطبخ . واقف عند صفيحة (الكاز) وبيدي علبة الثقاب . لكني كنت اخاف الالم الجسماني ولا اطيق تحمله . وهكذا كنت اتصرف دون تنفيذ الامر ، وانا افكر بطريقة اخرى تكون اقل عنفاً من الاحتراق بالنار.

كثيراً ما خطر لي تناول السم . ولكن من ياتيني به ؟ هذا بالاضافة الى كونه يسبب الاماً شديدة قبل الموت . وكان هذا كافياً لتحويل ذهني عنه .

كان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنني ان امارس من خلاله حريتي الشخصية المستلبة . كنت اريد التعبير عن تمردي عليهم بالانتحار .. الانتحار هو الوسيلة الوحيدة ، هو امكانيتي الوحيدة للانتقام من ظلم الاهل .

لن يستطيع يوسف او غيره من افراد الاسرة ان يصدر على حكماً بالحياة ... ساتركهم مبلبلين متعذبين ، نادمين . وهنا كنت اقف قليلاً ، ماذا عن امي؟

كنت اشفق على امي ، فقد كانت تقف بجانبي دائماً كلما وقع علي الظلم من احدهم . ولكنها بشخصيتها التي اضعفها القهر لم تكن لتستطيع ان تدفع عني امرأ مقضياً .

خلال هذه الشهور الصعبة ظل يتردد علي حلم بالذات . كنت اراني اركض في زقاق مظلم هرباً من عجوز يركض ورائي ، تشي سحنته بروح التعدي والاذى .

ولكن جداراً مسدوداً كان يحول دوني ودون الهرب ، فاتحول الى زقاق آخر لاجده مسدوداً كذلك ، والعجوز يركض ورائي كوحش هائج وانا الهث رعباً وتعباً من الجري المستمر بدون توقف .

ثم استيقظ غارقة في العرق لاهثة الانفاس . وصرت انفر من النوم خوفاً من الاحلام الضاغطة.



[] [] []

اما من الناحية الاخرى ، فقد توعدت على الانكفاء على النفس والغياب داخل الذات .

رحت اتحصن بالعزلة . كنت مع العائلة ولكن حضوري كان في الواقع غياباً الى ابعد حدود الغياب . كان لي عالمي الخاص الذي لا يمكنهم اقتحامه . ولقد ظل هذا العالم موصداً امامهم ولم اسمح لاحدهم باكتشافه .

اخذت تتعاظم قدرتي على الانفصال عن عالم الواقع والاستغراق في احلام اليقظة .. فمن خلال تلك الاحلام كنت انطلق خارج قضبان السجن واسوح في الشوارع وحدي. اسافر الى بلاد لا اعرفها ، والتقي بغرباء يجبونني واحبهم.

كنت الغي دائماً وجود احد من اهلي خلال اسفاري الخيالية . فاهلي هم سجني الذي اريد ان افلت من ابوابه المغلقة .

لم تكن قدرتي على الانفصال من عالم الواقع شيئاً جديداً .فمنذ طفولتي كنت اوي الى شجرة في الدار وامضي اركز نظري على ابهام يدي اليسرى دون ان يطرف لي جفن . كنت اركز النظر باستغراق كبير حتى يصل الى درجة يصبح فيها ابهام يدي وبالتالي يدي كلها غريبة عني ، خالية من كل دلالة او معنى ، شيئاً لا علاقة لي به اطلاقاً ، ثم اصبح انا نفسي غريبة عن نفسي ، واظل اكرر في تفكيري الصامت هذا السؤال : من انا؟ من انا؟ واردد اسمي في تفكيري عدة مرات. ولكن اسمي كان يبدو لي غريباً عني ولا يدل على أي شيء.

وهنا كانت تنقطع صلتي بامسي وبنفسي وبكل ما حولي ، اغرق في حالة غريبة جداً من اللاحضور واللاشيئية .

فاذا رفعت بصري عن ابهامي ونظرت حولي عدت الى نفسي والى العالم الخارجي . مغتبطة بامتلاكي القدرة على الخروج من نفسي بهذا الشكل الغامض ثم العودة اليها .

كانت العملية لعبة تسليني ، وحين حدثت امي عنها حذرتني من العودة الى هذا الامر فقد يودي بي الى الجنون .

وافزعتني ملاحظة امي وتوقفت تماماً عن تركيز بصري على ابهام يدي اليسرى ورحلة الغياب الغريبة .

[] [] []



في تموز 1929 عاد اخي ابراهيم من بيروت يحمل شهادته من الجامعة الامريكية ببيروت ليمارس مهنة التعليم في (مدرسة النجاح الوطنية).

مع وجه ابراهيم اشرق وجه الله في حياتي .

كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها .

اول هدية تلقيتها في صغري كانت منه .

اول سفر من اسفار حياتي كان برفقته .

كان هو الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانيته بعد فقدان عمي ، والطفولة التي كانت تبحث عن اب اخر يحتضنها بصورة افضل واجمل وجدت الاب الضائع مع الهدية الاولى والقبلة الاولى التي رافقتها .

ان تلك الهدية بالذات ، والتي كان قد احضرها الي من القدس ايام كان تلميذاً في مدرسة المطران ، تلك الهدية التي كانت اول اسباب تعلقي بابراهيم ذلك التعلق الذي راح يتكثف فيما بعد بصورة قوية .

كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بانه معني باسعادي واشاعة الفرح في قلبي ، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره الى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال .

كان ياخذ مجلسه على واحدة من صخور الجيل الكلسية ، ويسمح لي بالانطلاق بينما ينصرف هو الى التامل . اما انا فكنت امضي الى الشعاب القريبة . اقفز كالمغزى من صخرة الى صخرة . واتطلع حولي باحثة عن بقلة (الشمر) ذات الرائحة الزكية والتي كنت احب مذاق سيقانها الطويلة ، المستديرة ، الريانة ، كما كنت الملم باقة من زهر قرن الغزال وشقائق النعمان والبابونج ، وبين حين وآخر كان ابراهيم يلتفت ويوصيني بالا اوغل بعيداً عنه .

كان فرحي بتلك المغامرات الصغيرة يتميز بخلوه من توقع عقاب الاهل ، فلقد كان الخوف ينغص علي دائماً افراحي الصغيرة ، اما مع ابرهيم فقد كنت اشعر بالتحرر من كل المنغصات .

[] [] []



منذ صغري اعلن عن نفسه ميلي الفطري للشعر. كنت اجد متعة كبيرة في ترديد محفوظاتي المدرسية منه ، واقف مملوءة بالانبهار والدهشة امام ما يقع عليه بصري من قصائد او مقطوعات مطبوعة في الكتب المدرسية او في الصحف التي كان يحضرها ابي واخوتي الى البيت ، وذلك رغماً عن عجزي عن ادراك مضامينها .

كان هناك كتاب اسمه (الكشكول) يضم مجموعة من الطرائف والشعر والاخبار الادبية والتاريخية . وفي هذا الكتاب كان لي اول لقاء مع قصيدة (ايها الساقي اليك المشتكى).

وضعتني القصيدة او بالاحرى الموشح في دائرة سحرية غامضة ، لعل منشاها موسيقاه الخارجية المنبثة من طبيعة الوزن ، والمتميزة بتنوع القوافي ، مع الالتزام بقافيتي الشطرين الاخيرين من كل مقطع ، مما اكسب الموشح ايقاعاً يريح السمع ويهدهد النفس .

اما الكلمات فكان معظمها بالنسبة لي محملاً بمعان انفعالية نفسانية غير التي قصدها الشاعر.

كان السقاؤون في تلك الايام يزودون بيوت البلدة بالماء باستثناء بعض البيوت القليلة ، لا سيما بيوت الاقطاع القديمة . والتي كان اصحابها يمتلكون حصصهم الخاصة بهم من مياه الينابيع العديدة في البلدة .

وكانت المياه تصل الى تلك البيوت بواسطة القنوات الفخارية تحت سطح الارض وتصب في البرك القائمة وسط ساحات البيوت الفسيحة.

وحين كنت ابدا بالقاء المطلع (ايها الساقي اليك المشتكى قد دعوناك وان لم تسمع) كانت كلمة الساقي تتخذ في ذهني معنى انفعالياً حاصاً، مقروناً بصورة السقاء الكهل الذي كان يزرد بيوت (حارة العقبة) بالماء ينقله اليها من (عين الكأس) شرقي البلدة.

كان مجيء السقاء الى منزل خالتي في (حارة العقبة) مبعث اثارة محببة لي، فمنذ يطأ بقدمه اول درجة من درجات السلم الخارجي المفضي الى الدار، كان صوته يرتفع بالكلمات المألوفة : ياساتر، يا الله" وذلك تنبيهاً للنسوة لكي يتوارين خلف الابواب.

كنت اركض الى السقاء واقف بجانبه عند الزير الكبير ، ارقبه وهو يرفع القربة عن ظهره بيديه القويتين ، ثم يسندها الى بطنه وقد جعل فوهتها المربوطة على فم الزير الواسع ، وبعد ذلك يشرع بفك الرباط ، فيندلق الماء العذب الفضي في الزير الذي لم يكن ليمتليء قبل ان يبتلع حمولة اربع قرب او اكثر .

كان الساقي الذي يخاطبه الشاعر يمثل دائماً في خيالي متقمصاً شخصية السقاء الكهل ، سقاء (حارة العقبة) . ولما كنت اجهل ما هو (الزق) في قوله : (جذب الزق اليه واتكأ) فقد استلزم الفعلان (جذب - واتكأ) اعطاء كلمة الزق عندي معنى الوسادة.

اما النديم الذي هام الشاعر في غرته ، (ونديم همت في غرته) فكنت اتخيله ابن جارنا بائع حلاوة الطحينية ، ذلك الفتى الاسمر الطويل النحيل الذي كان يحمل اسم نديم، وهكذا كان يعطي خيالي للكلمات صوراً ودلالات خاصة به وحده ، وكنت اغتنم فرصة غياب ابي وابناء عمي وقت العصر فارتقى السلم الخارجي المكشوف المؤدي الى احد طوايق الدار العليا . واقف متجهة نحو الشجر المنتصب في صحن الدار ، واشرع في القاء الموشح بصوت واثق مرتفع ، مقلدة بذلك ابرهيم في القائه للشعر ، واتخيل نفسي شاعرة تقرأ شعرها على الجمع المحتشد كما يفعل ابراهيم ، واستغرق في تخيل الصورة حتى يكاد يصبح الخيال في احساسي حقيقة ، فاذا انتهيت عدت الى الانشاد مرة ثانية ، ثم ثالثة ، ثم اربعة ، وانا في حالة اشبه بالجذب الصوفي.

بعد ستة وعشرين عاماً ، في عصر يوم من ايام حزيران 1955 ، وقفت في قاعة (وست) في الجامعة الامريكية في بيروت ، لاواجه لاول مرة في حياتي الحشد الذي دعته الدائرة العربية في الجامعة للاستماع الى مختارات من شعري.

خلال الدقائق التي كان يقدمني فيها الاستاذ جبرائيل جبور ، وبينما انا اجيل بصري في الوجوه امامي ، مر بعيني شريط سريع قصير، رايتني فيه بمواجهة الشجر المنتصب في صحن الدار ، القي على مسامعه القصيدة العزيزة: "ايها السافي اليك المشتكى قد دعوناك وان لم تسمع !" وابتسمت .

ربما بدت ابتسامتي في ذلك الحين وكأنها تحية للحاضرين ، وما كنت في الحقيقة الا تحية لتلك البنت الخيالية البعيدة، الماخوذة بقصيدتها وبالحالة الشعرية الصوفية الغامضة التي كانت تعتريها عند القاء الموشح على شجر الدار.

ثم تجاوزت مجرد انشاد الشعر الى محاولة كتابته . كان داخلي يمتليء احياناً بمشاعر غير واضحة ، وبانفعالات مبهمة، خصوصاً اذا استمعت الى الموسيقى والغناء.

فهنا كنت اشعر بميل الى التعبير عن شيء ما ، شيء احس به ولا افهمه. فاهرع الى قلم وورقة سرعان ما تمتليء بكلمات لا رابط بينها ، ثم اذهب بالورقة المحملة بالالغاز الى ابراهيم، وارجوه بصوت متردد ان يقرأ ما كتبت (من شعر). ولم يكن ابراهيم يخيب رجائي، بل كان يقرأ الكلمات ويبتسم لي ويربت على كتفي ، وانصرف انا دون ان اسمع كلمة تشجيع او تثبيط .

ظلت الموسيقى حتى اليوم تشعرني بالصفاء الروحي ، وتحرك في داخلي تلك الحالة الغامضة المصحوبة بالرغبة في كتابة الشعر.

ولقد التقيت في كتاب (العهد القديم) ببعض انبيائه الذين كانوا يستعينون بالموسيقى على تجلي الرب ، فيهبطون من الاكمة ، امامهم رباب ودف وعود ، وهم يتنبأون فيحل عليهم روح الرب .

كما التقيت باليشع الذي قال : الان فاتوني بعواد ، فلما ضرب الاعواد كانت عليه يد الرب .

اجل. ان الموسيقى تثير الوجدان ، وتحرك الخيال ، انها تجعلنا نحلم ونرى عوالم غير منظورة ، تعج بالحيوية والحركة.

[] [] []



أي دور تلعبه الصدفة في حياتنا !

حادث تافه ، او خبر عادي ، او محض مصادفة تعترض طريق المرء ، فيتغير معها مجرى الحياة ، وتنعطف طريق السير انعطافة حادة قاطعة وتصبح الدنيا غير الدنيا والعالم غير العالم .

لو لم يعترض ذلك الغلام طريقي ، ولو لم يحبسني اخي يوسف بين جدران الدار الهرمة ، لاستمرت حياتي تسير في اتجاهها المألوف العادي ، ولكنت واصلت دراستي في المدرسة العائشية حتى نهاية السنة الخامسة، وعندئذ ما كان ابراهيم ليفكر في ان يجعل مني تلميذة له .

كان قد علم من امي بسبب قعودي في البيت ، لكنه وهو الانسان الواسع الافق ، الحنون ، العليم بدخائل النفس البشرية ، نظر الى ذلك الامر نظرة سبقت الزمن خمسين سنة الى الامام .

لم يتدخل ، ولم يفرض ارادته على يوسف العنيف ، لكنه راح يعاملني بالحب والحنو الغامر.

وظلت تتجمع الامور الصغيرة لتصبح جسراً ينقلني من حال الى حال .

كل ما كان منتظراً هو فقط الصدفة العابرة! ودق جرس الغيب ليعلن قدوم اللحظة ، الصدفة .

[] [] [] []



كان ابراهيم قد وصل لتوه لتناول طعام الغذاء ، وشرع يتحدث الى امي بفرح -بينما هو يغسل يديه عن تلميذين من تلاميذه كانا قد جاءا اليه في الصباح بقصائد من نظمها ، خالية من عيوب الوزن والقافية ، وكم كان فخوراً ومسروراً وهو يتحدث عن الموضوع ، وبعفوية مطلقة ، وبصوتي الخافت الضعيف قلت : "نيالهم!" وتعني الكلمة بالفصحى : هنياً لهم .

نظر الي ابراهيم وصمت . ثم قال فجأة : سأعلمك نظم الشعر ، هيا معي.

كانت امي قد سكبت له الطعام ، ولكنه ترك الغرفة . ولحقت به ، وارتقينا معاً السلم المؤدي الى الطابق التالي حيث غرفته ومكتبته .

وقف امام رفوف الكتب وراح ينقل عينينه فيها باحثاً عن كتاب معين . اما انا فكان قلبي يتواثب في صدري ، وقد كتمت انفاسي اللاهثة .

دقيقتان ، واقبل علي وفي يده كنتب "الحماسة" لابي تمام . نظر في الفهرس ثم فتح الكتاب عند صفحة بالذات .

قال : هذه القصيدة . ساقرؤها لك واقسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها الى دفتر خاص وتحفظينها غيباً ، لاسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب .وبدأ يقرأ:

[] امرأة ترثي اخاها []



طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك

ليت شعري ضلة أي شيء قتلك

أي شيئ حسن لفتى لم يك لك

كل شيء قاتل حين تلقى اجلك

والمنايا رصد للفتى حيث سلك



شرح لي معنى الابيات ، فشعرت بخيط رفيع من السوداوية يجز في قلبي . قال : لقد تعمدت ان اختار لك هذا الشعر لترى كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل .

ونزلنا الى غرفة الطعام وفي قلبي عالم جديد يضطرب بالانبهار والتوقع .

في المساء اسمعته القصيدة غيباً دون خطأ او تلكؤ في تلاوتها .



حين اويت الى فراشي ذلك المساء كنت احتضن بين ذراعي دفتراً ذا لون حشيشي باهت ، وقلماً ازرق اللون ، وعيداً من اعياد الشعور .

ها انا اعود الى الدفاتر والاقلام والدراسة والحفظ . هاانا اعود الى جنتي المفقودة .

وعلى غلاف دفتر المحفوظات تلالات بعيني هذه الكلمات التي كتبتها بخطي الرديء . خط التلميذة في الثالثة عشر من العمر

الاسم- فدوى طوقان الصف - (شطبت الكلمة وكتبت بدلاً مكنها "المعلم" ): ابراهيم طوقان

الموضوع - تعلم الشعر

المدرسة - البيت

ولم تكن هذه بعيني كلمات ، بل كانت شموساً واقماراً قبلها كانت حياتي واقفة لا تسير مع الزمن ولا اعرف ماذا افعل بها . اما الان فهاهي حياتي تتحرك ، وهاهو ايقاعها يسرع . وهاانا اشعر بتجددي وبعودة الثقة بالنفس من جديد.

[] [] []



ما اروع الخطوة الاولى ، ما اجملها ، ما اشد سحرها !

اصبجت خفيفة كالطائر . لم اعد مثقلة القلب بالهم والتعب النفسي . في لحظة واحدة انزاح جبل الهوان وابتلعه العدم . وامتدت مكانه في نفسي مساحات المستقبل شاسعة مضيئة ، خضراء كمروج القمح في الربيع .

ويالرهبة الخطوة الاولى .

ان قوى الشر، الظاهرة منها والخافية ، لا تهادن ابداً وانها تقبع دائماً في زوايا الدروب متربصة بنا . مع الخطوة الاولى يبدأ العراك والصدام بين ارادة الحياة وقوى الهدم ، سواء اكانت عشوائية ام مخططة ومرسومة سلفاً .

قالت اختي (فتايا) لابي وهي تظن انها تزف بشرى مثيرة : هل تعلم ان ابراهيم شرع يعلم فدوى نظم الشعر ؟

اشاح ابي بيده ، وواصل شرب القهوة المرة . كانت حركة يده حين اشاح بها تحمل كل معاني الاستخفاف والاستهانة.

انكمش قلبي مع حركة يده . وتقلص .

انه لا يؤمن انني اصلح لشيء-قلت هذا بيني وبين نفسي - انه لا يحمل لي سوى شعور اللااكتراث ، كأنني لا شيء، كأنني عدم وفراغ ، كانني لا لزوم لوجودي اطلاقاً .

وازدادت الفجوة النفسية بيني وبين ابي عمقاً واتساعاً.

كما بدا هذا الحدث في عيون عمتي وافراد اسرة عمي مثار سخرية بايء الامر . ثم تحولوا الى اعداء حقيقيين . يعملون على قطع الطريق دون مسيرتي الجديدة.

وكان عليهم ان يتصرفوا حسب تكتيك خاص وذكي ، فلم يكن من الهين اقناع ابراهيم بالعدول عما بدأه معي . فهو مستقل التفكير ، صريح ، جريء ، وصعب الانقياد الى غير ما يؤمن به .



[] [] []



مضيت في المسيرة مع ابراهيم لستة ايام متتالية . فجأة توقف ابراهيم .

ثلاثة ايام مرت دون ان يدعوني لاسمع له اخر قصيدة طلب الى حفظها وليختار لي قصيدة اخرى للحفظ.

مع هذا الصمت المفاجيء عاد الشعور بالثقل الى قلبي ، وبدأت كتفاي تتهدلان من جديد ، وعاد ظهري يحدودب وانا امشي ، كما في الايام التعيسة السابقة .

كنت ذات طبيعة خجول ، تعوزني الجرأة واقحام نفسي على الاخرين حتى لو كان ابراهيم ، انتظرت حتى يقول هو شيئاً ما ، وكان انتظاري على هم وقلق .

في صباح اليوم الرابع كنت قد قررت مبادرته بالسؤال ، مستمدة بعض الجرأة من يقيني بمحبته الحقيقية لي ورفقه بي.

وكعادتي كل صباح حملت اليه ابريق الماء الساخن لخلافته اليومية. وضعت الوعاء الصغير علىالمغسلة . ووقف هو امام مرآتها البيضوية الشكل متهيأ للقيام بعملية الحلاقة .

بدأ يمرر الفرشاة والصابون على جانبي وجهه وعلى ذقنه . اما انا فوقفت بجانبه انظر اليه من خلال المرآة . وابذل مجهوداً صامتاً لابدا بالسؤال ، حتى اعانني الله في النهاية وفك عقدة لساني . سالته يصوت مرتعش : هل غيرت رايك؟ هل كففت عن ..

وانكسر صوتي وذاب ، رغماً عني ، في دمعتين . واحابني فوراً وقد اصبحت رغوة الصابون البيضاء تغطي نصف وجهه : كلا لم اغير رايي ، ولكنني توقفت لاتاكد من صدق رغبتك في التعلم . سنواصل اليوم الدرس.

هبطت الدرج بقامة منتصبة ، وفتحت لي الدنيا ذراعيها من جديد .

المستقبل ينتظرني ، انه هناك ، لا ريب فيه ، ولا شك !



-------------

[1] المصدر : رحلة حبلية رحلة صعبة : سيرة ذاتية . عمان : دار الشروق ، 1995.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:21 AM

نازك الملائكة

1923 -

تعتبر نازك الملائكة شاعرة العراق الاولى في القرن العشرين ، وربما يمكن اعتبارها ايضاً اهم الشاعرات العربيات نظراً لتميز وجمال اعمالها الشعرية ونزعتها التجديدية. وقد اثار كتابها قضايا الشعر المعاصر ضجة نقدية كبيرة منذ صدوره عام 1960 وحتى الساعة اذ دعت فيه الى التجديد في اوزان وقوافي القصيدة العربية بحيث تبيت اكثر مرونة، وان بقت القصيدة موزونة ومقفاة.

باستثناء الشعر ، كتبت نازك العديد من الاعمال النقدية والاجتماعية ، وصدرت لها اخيراً مجموعة قصصية بعنوان الشمس التي وراء القمة . اما مذكراتها ، فهي لم تنشر حتى الان ، ونحن عثرنا بمساعدة اسرتها على الجزء الاول منها ، وهو يتناول اعوام الطفولة والمراهقة. نختار هنا الجزء الذي يتناول حياتها الدراسية في مدارس العراق خلال اواخر الثلاثينات حتى اواسط الاربعينات.




من قصة حياة


الطفولة الاولى : 1923 - 1930
بغداد في منتصف ليلة من ليالي 1923 … وتحت الليل تمتد المدينة المظلمة العتيقة مغرقة في وسن عميق ، لا يقطعه الا صوت الحرس المتعبين وهم يسيرون ببطء وضجر في أزقة المدينة المتلوية الضيقة ، التي تكاد تكون مظلمة لولا اضواء الفوانيس القليلة التي كانت مبعثرة في الطرق على غير نظام.

وكانت الليلة حارة خانقة ، فلاذ الاهلون منها بالنوم ، واووا الى سطوح البيوت لائذين بالنسيان والتشاغل ، وقد زاد الظلام عمقاً ورهبة ان القمر كان في المحاق فقد كانت الليلة آخر ساعات شهر ذي الحجة من السنة الهجرية.

ولكن بيتاً واحداً من بيوت محلة العاقولية ببغداد كان مستيقظاً ، تتعالى فيه الهمسات والتأوهات ، وتسمع في ابهائه اصوات اقدام السائرين ، وتخفق في ظلماته اضواء الفوانيس اليدوية .. وفي احدى الغرف الواسعة تعالى صراخ طفلة سمراء ليس في وجهها اية علامة من علامات الجمال او الذكاء ، شهدت الوجود اول مرة هذه الساعة.

بكت الطفلة وهي تمس ارض الوجود اول مرة ، وبقيت تبكي بكاء صارخاً طويلاً بلغ سمع ابيها الذي كان ينتظر نبأ قدومها بلهفة في غرفة مجاورة..ودخلت فتاة يبدو عليها التعب وقالت وهي تلتقط انفاسها "فتاة ..طفلة..لا تبتئس على كل حال ..المهم صحة والدتها .."

وخرجت ناقلة الخير: وساد الغرفة سكون عميق انقطع بعد لحظات وتعالى صوت دقات ساعة بعيدة، طالما دوت فسمعتها المدينة كلها..دقات ساعة "الفشلة" في بغداد . وأصغى الشاب الجالس في الغرفة وأحصى الدقات ثم همس في نفسه : الساعة الثانية عشرة تماماً .. .. منتصف الليل.! والان تبتديء الحياة فصلاً جديداً وعاماً جديداً.. الان يولد عام 1342 الهجري وبمولده ولدت هذه الطفلة .. ابنتي الاولى" . وفي صباح اليوم التالي كتب في مفكرته :

"يوم الأربعاء 30 من ذي الحجة 1341 قبيل منتصف الليل بخمس دقائق ولدت ابنتي نازك."

…….

الأب رجل عملي واقعي مغرم باللغة العربية ودراسة الفقه والمنطق والشعر والام فتاة يافعة لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة ، مغرمة بقراءة القصص وسير الابطال والشعر العذري . الاب في الثامنة والعشرين من عمره ، والام في الرابعة عشرة!

وقد كان لهبوط بطلة هذه القصة الحياة هزة فرح عميق في انفس الوالدين واسرتيهما ، وان كان فرحهم قد قوطع مراراً بالدموع والصرخات البغدادية التي تتعالى عادة في شهر محّرم ، فقد شاء القدر ان تولد فتاتنا ليلة محرّم ، وكانت الأسرة تحتفل كل عام بهذه الذكرى بأقامة مأتم نسوي فلا عجب ان تستقبل الطفلة بالدموع ، فكان صباحها الأول في الوجود مقترناً باصوات النساء الباكيات.

ولكن هذه المظاهر من الحزن التقليدي لم تمنع من الفرح بلقاء الطفلة ، بل كان السرور شاملاً عاماً ، فوزعت الحلوى وعقر خروف وزع لحمه على الفقراء وتعالت الزغاريد والأغاني ، وكنت الأب قصيدة يحيي بها طفلته ويؤرخ مولدها بهذا الشطر : "نازك جاءت في زمان السرور".

وكانت قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة انها ولدت عقب الثورة التي قادتها الثائرة السورية "نازك العابد" على السلطات الفرنسية . وكانت الصحف اذ ذاك تطفح بانبائها ، فرأى جد الطفلة ان تسمى نازك اكراماً للثائرة وتيمناً بها وقال : "ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد ان شاء الله."







بلغت نازك اوائل الخامسة من عمرها ، وحان أوان دراستها ، واستقرت نية ابويها على ان يدخلاها احدى رياض الاطفال ، واختارا الروضة التابعة لابتدائية المركزية في العاقولية.

وفي ذات صباح اقتيدت الطفلة الى المدرسة ، ودخلت بها امها وخالتها البناية الكبيرة وقالت لها امها : "نازك ! هذه مدرستك..اذهبي والعبي مع الاطفال ولا تنفردي ." وسرعان ما تركتها وانصرفت ووقفت بطلتنا الصغيرة تحدق في الاوجة الضاحكة المحيطة بها وتحس بغربة مؤلمة. اين تذهب؟ ماذا تفعل؟

وتلفتت حولها محزونة. آه لو لم تذهب امها وتتركها اذن لتوسلت اليها ان تاخذها معها الى البيت ! ولكن الا يجوز ان تتبعها الآن؟ تجري وراءها صائحة : "ماما .. لا اريد اليقاء هنا!!"

وركضت فجأة بقوتها كلها ، وسقطت في الطريق عاثرة بصخرة كبيرة على الارض ، ولكنها تحاملت على نفسها ونهضت تجري نحو باب المدرسة وما كادت تخطو الخطوة الاولى حتى برز لها رجل خشن طويل وصاح : "الى اين؟ الخروج محظور .. ارجعي حالاً."

ولم تفهم نازك معنى هذا .. وما دخله هو ؟ وماذا يريد منها؟ "دعني اذهب . لقد ذهبت امي وتركتني. اريد ان اذهب." فصرخ بها : "انك هنا حتى ياتي الخادم لاستلامك. أذهبي والعبي."

وقفت الطفلة الان مصدومة وفي نفسها احساس طائر يحبس في قفص اول مرة . وانفجرت فجأة في بكاء صارخ دام طويلا ً.. ولم تنتبه الا على صوت لطيف يقول: "لماذا تبكين ياصغيرتي؟" وتكلم الرجل الخشن الطويل الآن قائلاً : "ست الينور .. هذه الطفلة قد جاءت بها امها منذ قليل وهي تريد الخروج." وفي اللحظة التالية كانت نازك محمولة، وبعد دقائق كانت في الصف بين عشرات من الاطفال…

وانطوى يوم وثان وثالث.. ..ومرت الايام فاعتادت بطلتنا سجن المدرسة ولم تعد تبكي.

------

لم تجد طفلتنا في المدرسة صديقاً غير نفسها ، فقد كانت خجولاً هادئة تنفر من الاطفال. وقد زادها هرباً منهم وانطواءً على نفسها انهم كانوا يعتدون عليها بالدفع والضرب وغصب الحقوق، وكان بعضهم لا يقصد الى ايذائها ، وانما يودون ان يستثيرونها الى الاختلاط بهم واللعب معهم فتحسب هي ذلك عدواناً وتهرب بعيداً عنهم ، وقد مضت اشهر طويلة على هذا حتى اكتشفته المدرسّة يوماً فحاولت اولاً استعمال طرقها الخاصة..

حملت الطفلة في احدى الفرص الى غرفتها واجلستها وقدمت لها علبة الشكولاتة فأبت ان تأكل واصرت .. وحاولت معلمتها ان تجعلها تتكلم فلم تنجح ، وبقيت الطفلة مغلقة فمها بصرامة .. فاعادتها الى الصف واستدعت خالتها وحدثتها بملاحظاتها..

وفي ذلك المساء عادت نازك الى البيت فوجدت الانباء قد سبقتها ، فالام ثائرة والأب يلوم المدرسة . ونوديت الصغيرة وقالت لها امها : ايتها الحمقاء. لماذا لا تلعبين مع الاطفال؟ اانت حجر!!" ولامتها لوماً عنيفاً وسمتها "مسخوطة" أي "متوحشة"!! اما بطلتنا فقد احست انها مظلومة متألمة حائرة! وفي اليوم التالي زادت انطواء على نفسها في المدرسة.

ومن الذكريات التي تركت اثراً في نفس نازك انها كانت ذات يوم تسير شاردة في الساحة الخلفية للمدرسة ، تحدق امامها دون ادراك فمرت بها طفلة ضخمة – او هكذا خيل اليها – ووقفت امامها لحظة ثم اسلمتها اقلاماً كثيرة ومنديلاً وكتباً وقالت باختصار : "احفظيها حتى اعود!" وذهبت .. اما نازك فقد وقفت حائرة تحدق في ذلك الحمل الثقيل ولا تفهم . واختل توازنها فجأة وتبعثرت الاشياء على الارض ..وفي تلك اللحظة عادت الطفلة فلما رأت ما حدث صرخت بنازك ولكمتها وصفعتها وجمعت اشياءها بسرعة واختفت في زحام الاطفال قبل ان تفيق طفلتنا من ذهول المفاجأة.

واصرت نازك باسنانها على شفتها السفلى وأبت ان تبكي . الا ان عينيها دمعتا. وكان المراقب الوحيد لهذا الحادث طفل يقف بالقرب من نازك فأقترب منها وقال لها : "لماذا لم تضربيها؟ لماذا تركتيها تلكمك وانت ساكتة؟ لو كنت انا محلك لاشبعتها ضرباً!" ولكن نازك لم تجب ولم تفكر فيما قال ..بل سارت الى الامام .. وكانت في تلك اللحظة تعتقد ان الاطفال جميعاً شياطين . وقالت لنفسها : لو كنت انا محلها أكنتُ اضربها؟!" ووجدت نفسها تصرخ" لا! لا!" وقالت فجأة لنفسها : "انني خير منها.. آه لو عرفت امي هذا الحادث.." وادركت حالاً ان امها لا يجب ان تعرفه..وقررت الكتمان! ونشأت على ممر الايام في نفسها عقدة متعبة سببها هذا الحادث (السري الخطير!!).

وفي ذلك اليوم نفسه تعرفت نازك اول مرة الى تلٍ من الرمال الرطبة في الساحة ، فقد فكرت ادارة المدرسة في استعمال الرمل للعب الاطفال وتسليتهم . وسرعان ما جلست فوقها وراحت تبني منه قصور الخيال ومدن الاحلام التي وصفتها فيما بعد في ملحمتها "مأساة الحياة" يوم قالت:

لم يزل مجلسي على تلي الرملي يصغي الى اناشيد امي

لم ازل طفلةً سوى انني قد زدت جهلاً بكنه عمري ونفسي

ليتني لم ازل كما كنت قلباً ليس فيه الا السنا والنقاء

كل يوم ابني حياتي احلاماً وانس اذا اتاني المساء

ايه تل الرمال ماذا ترى ابقيت لي من مدرسة الاحلام

انظر الآن هل ترى في حياتي لمحة غير نشوة الاوهام؟

آه ياتلُّ ها أنا مثلما كنت فأرجع فردوسي المفقودا

أي كف اثيمة سلبت رملك هذا جماله المعبودا

كنت عرشي بالامس ياتلي الرملي والآن لم تعد غير تلّ

كان شدو الطيور رجع اناشيدي وكان النعيم يتبع ظلي

وقد كان ذلك التل عرشاً لنازك حقاً ، عرش الشعر والخيال ، فقد بدأت منذ عرفته تستغرق في الاحلام الجميلة . ولذلك ترك في نفسها اعمق الاثر وكان المظهر الاول من مظاهر شاعريتها.

وجدت الشاعرة الصغيرة في الرمل صديقاً يغني عن صداقة الاطفال المؤذية التي تُضرب من اجلها ، وكان هذا الصديق يمتعها كل الامتاع ويوسع امامها آفاق الأحلام . الا انها ذات يوم كرهته وتركته متضجرة . فقد حدث في ذلك اليوم ان جمعت "الفراشة"[1] الاطفال عند التل وراحت تقص عليهم قصة قبيحة نفرت منها مشاعر بطلتنا الطفلية البريئة . وكانت تتكلم بلغة ابناء الطرق فيضحك الاطفال ويصفقون دون ان يفقهوا اما نازك فقد احست بضجر خانق لم تعرف سببه. نهضت وتركت عرشها الصغير مكرهة وانطبعت صورة تلك الفراشة في ذهنها انطباعاً كلياً ، وهي ما زالت تتذكر شكلها حتى اليوم فهي " امرأة طويلة سمراء ضئيلة الوجه صغيرة العينين ترتدي السواد ابداً ولها سن من ذهب في الناحية اليمنى من فمها.. .." وعلى مرور الزمن اصبحت نازك تكره كل انسان في فمه اسنان من ذهب ، لان فكرة الشر والجهل التي تجسمت في تلك المرأة ، قد اقترنت بالسن الذهبي!

……….

وكان لبطلتنا في المدرسة صديق آخر غير تل الرمال ، وهو اللقلق الذي يتخذ عشه على المنارة القريبة.وكان هذا اللقلق يثير في نفسها مشاعر كثيرة وهو يصّوت بمنقاره ذلك التصويت الغامض وهي ما زالت تتذكر حتى الان نوع احساسها تجاهه ، بل ما زال صوته يستحيي في نفسها انطباعات مجهولة لعهد باهت من حياتها الاولى فكلما سمعت صوته انبثقت في ذهنها صورة مطموسة المعالم ليوم بعيد جداً كسفت فيه الشمس كسوفاً كلياً بعد الظهر فانقلبت المدرسة الى عويل صارخ من عشرات الاطفال ، ووقفت هي تبكي مع الباكين وتصغي الى صوت اللقلق الذي لم تعد تراه تحت الضباب والظلام .

وكانت تقضي فترات الظهر شاردة في الساحة الخلفية هاربة من اعين المعلمة المقاربة ، فقد كان النظام في المدرسة ان ينام الاطفال ساعةً ظهر كل يوم ، ثم تتابع الدروس فيما بعد ، وكانت هناك قاعات كبيرة مجهزة بكراسي مستطيلة من الكتان السميك معدة لنوم هذه المئات من الصغار ، وكانت بطلتنا تكره النوم نهاراً .. فتمضي تهيم في الساحة بذلك الشرود الغريب الذي كان يلازمها في طفولتها . وكانت في الغالب تصاد وتقاد الى القاعة الهادئة وتؤخذ الى سريرها الذي يحمل رقمها وهناك كانت المراقبة تطلب اليها ان تخلع حذاءها وتستلقي وتغمض عينيها حالاً : ولكن بطلتنا كانت تلتذ بمراقبة الاطفال الهاجعين ، فتتظاهر بالنوم حتى تبتعد المراقبة واذ ذاك تفتح عينيها وتروح ترقب ما حولها وتصغي الى صوت المراوح الكهربائية في المكان الهاجع ، وكثيراً ما كانت تقارن في ذهنها الصغير بين هذه المراوح ، والمروحة العملاقة المعلقة في سقف السرداب الكبير في البيت.

اما التمرد فقد كان طبيعة فيها منذ طفولتها .. كانت عنيدة متمسكة بآرائها الى حد يضايق معلماتها وابويها ، وكانت في نفسها مقدرة على الكتمان والصمت تندر في الاطفال ، وكان من مظاهر تمردها في المدرسة انها لا تكلم احداً ، ولا ترضى ان تنام ، وانها ابت اباء تاماً ان تمر بالصف الثاني "الاخضر" في الروضة . اما تفصيل هذا الحادث الاخير فهو ان سنوات المدرسة في الروضة كانت ثلاثاً ، الاولى منها يقضيها الطفل في الصف "الاحمر" ، والثانية في "الاخضر" والثالثة في "الازرق". وقد انتهت بطلتنا من الاحمر وفي السنة التالية اجتمع اطفال الصف الاخضر ومعهم هي ، ولكنها غافلت المعلمة وخرجت ببرود وبساطة الى الصف الازرق! وحين جاءت المعلمة وجدت طفلة تحمل شارة خضراء في الصف الازرق فاعادتها بلطف الى صفها ، ولكن الطفلة المتمردة ابت الرضوخ وعادت في اليوم التالي الى الصف الازرق ، وتكرر الحادث، ولم ينته الامر الا حين عثرت نازك على شارة زرقاء في الساحة فوضعتها على صدرها والقت بالخضراء في الرمل ، وبقيت في الصف الازرق!

ولم تفهم نازك هذا الحادث الغريب مطلقاً .. لم تفهم كيف تخرجت في سنتين بدلاً من ثلاث دون ان تعترض ادارة الروضة.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:22 AM

الفترة الثانية: 20 ايلول 1930 - 1934
انتهت الدراسة في الروضة ، وانتقلت نازك الى الصف الاول من الابتدائية المركزية للبنات وهنا نقف لحظة لنتحدث عن حياتها الجديدة .

نازك الملائكة في الصف الاول على عتبة الدراسة الحقيقية ، وهي اذ ذاك طفلة في السادسة من عمرها سمراء نحيلة الجسم ، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها وعبثاً تحاول والدتها ان ترغمها على المحافظة على ترتيب شعرها وملابسها. وفي اليوم الأول من السنة اصطفت التلميذات في صف طويل كانت هي في راسه وسرن الى الصف ، وهنا جاءت المعلمة الرقيقة "الانسة مديحة كامل" واجلست تلميذاتها الصغيرات فكان مكان نازك في اول الصف عند الباب على رحلة واحدة مع طفلتين سمراوتين صغيرتين.

نازك . كاملة . ماجدة .. هذه الاسماء الثلاثة قد كتب لها ان ترتبط سنة كاملة في صداقة طفولية جميلة كانت هي اول صداقة عرفتها خارج البيت. كانت ماجدة تجلس في الوسط بينها وكاملة وكانت بدينة شديدة السمرة ، لم تكن طباعها تنسجم كثيراً مع الاخرين فهي اجتماعية وقد تعتدي بالضرب على الطفلة التي لا تروقها ، اما كاملة فقد كانت اقرب الى نفسية نازك لانها صغيرة ، منزوية ، تعيش في نفسها اكثر مما تعيش مع الاخريات ، ومع ذلك فقد انتظمت الزميلات في عقد واحد واصبح ما للواحدة منهن للاخرين كذلك.

وقد حدث ذات يوم ان غضبت المعلمة على تلميذاتها فطلبت اليهن ان يجلسن خاشعات لا يتحركن . وقد حدث اذ ذاك ان مدت ماجدة يدها في جيبها فاخرجت مشطاً صغيراً وراحت تعدل به شعرها فصرخت بها المعلمة: "لماذا تحركت؟" سيكون عقابك ان تستمري في التمشيط الى آخر الدرس." وضحكت طفلة فوضعت رأسها على الرحلة فكان عقابها ان يبقى رأسها على الرحلة .

وكان من سوء حظ نازك اذ ذاك انها كانت ذاهلة مغرقة في النظر الى صورة معلقة على الجدار فلم تفطن الى العقوبات الغريبة التي نزلت بزميلاتها ، وقد حذث اذ ذاك ان سقط قلمها على الارض فدخلت بجسمها الصغير تحت الرحلة لتخرجه واذ ذاك ارتفع صوت المعلمة وقالت بحدة: "نازك! ابقي كما انت تحت الرحلة!"

وكانت ضربة مؤلمة..انفجرت لها الطفلة في بكاء صارخ ، لم يكن سبب بكائها انها لم تجن ذنباً فحسب وانما آلمها ان تاتيها العقوبة من هذه المعلمة الرقيقة التي طالما عاملتها بلطف ومدحتها امام اهلها وزميلاتها ! وكيف يجوز ان ترضى هذه المعلمة اللطيفة بمعاقبة نازك؟ كيف تسمح لنفسها ان تبقيها تحت الرحلة الى نهاية الدرس؟

ارتفع بكاء الطفلة حتى امتلأ به جو الفصل ، واذ ذاك انحنت المعلمة ورفعتها فاجلستها على الرحلة ، ولكنها كانت قد انتقلت الى مرحلة العصبية والثورة والعناد ، وكانت يداها ملتصقتين على القلم في قوة عنيفة واباء شديد وعبثاً حاولت المعلمة ان تجعلها تهدأ . فقد بقيت تبكي وان كانت بقية التلميذات المعاقبات يضحكن للعقوبة.

وهكذا كانت نازك جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب شاملاً لسواها ..ولذلك رجعت الى البيت في ذلك اليوم محمومة متعبة . ولم تعلم امها السر ، فان الطفلة قد صمتت صمتاً تاماً ، وقد بقي النبأ مكتوماً في نفسها حتى بلغت الرابعة والعشرين من عمرها.

وما مضت اشهر من ايام الدراسة حتى عقد في البيت اجتماع صغير تحدثت فيه امها الى ابيها وخالتها شاكية: "ان نازك لا تدرس مطلقاً ولا تعني بعير دروس الاستظهار والنشيد، ولا اذكر انني رايتها تقرأ يوماً واخوف ما اخافه ان ترسب هذا العام."

وفي الصباح التالي كانت البطلة تسير في ساحة المدرسة مع كاملة فجاءتها الفراشة ودعتها الى مقابلة المدرسة "م. ك" وفي باب الصف جمدت الطفلة ! فقد رأت معلمتها تقف وجهاً لوجه ازاء خالتها نظيمة التي كانت اذ ذاك تلميذة في المدرسة ، وسرعان ما وجدت نفسها محمولة بين ذراعي المعلمة التي سارت بها الى الصف واوقفتها على المنضدة واعطتها كتاب القراءة وقالت : "اقرأي هنا ياحبيبتي..هيا. لا تخافي." وراحت الطفلة تقرأ بصوتها الخجول المرتبك ولكن بلهجة فصيحة. وتبادلت الخالة والمعلمة مجموعة من النظرات ، وأنزلت الطفلة الى الارض . ثم قالت المعلمة: "ماذا تريدون ان افعل لابنتكم ان كانت لا تدرس؟ انها تقرأ جيداً كما ترين ، وتستطيع القراءة حقاً بينما سواها من الصغيرات يحفظن الكلمات غيباً. ولماذا تريدون منها ان تدرس في البيت؟ الا يكفي انها في الصف تفهم وتقرأ جيداً؟!" وعادت نازك الى البيت منتصرة في ذلك اليوم ، وقد تلقاها ابوها بقبلة وهدية صغيرة: كتاب مصور بالالوان ابتاعه لها خصيصاً.

واقبلت نهاية السنة وتلقت نازك درجاتها ، وحملتها فرحة خافقة القلب وركضت الى البيت . ومرة ثانية لقيتها القبلات ..

وكان ذلك اليوم آخر عهد بطلتنا بصديقتها الرقيقة كاملة ، فقد جرفها تيار الزمن الى حيث لا يعلم احد ، والذي بقي يعض في نفس نازك انها لا تعرف اسمها الكامل ، ولا تذكر منها الا شكلها واسمها الاول، وكم من مرة في حياتها ودت لو قابلتها او عرفت مصيرها ، كم من مرة سألت عمن يستطيع ان يتذكر اسم ابيها ولكن عبثاً . وقد تجمعت هذه العواطف كلها فكونت قصيدتها "ذكرى مولدي" التي اهدتها الى كاملة: "صديقة طفولتي البعيدة التي لا اعرف منها الان الا اسمها وحده." وقد تساءلت في القصيدة عن مصير صديقتها وخاطبتها في ابيات حزينة صورت لها فيها مصيرها وهي:

اين اصبحت يارفيقة أمسي ما الذي قد شهدت فوق الوجود؟

اترى تذكرين مثلي ايام صبانا وحلمنا المفقود؟

ام ترى قد نسيتني ونسيت الامس في فرحة الشباب الرغيد؟

ابداً لست لست انسى وان كنتِ قد تهاويت في الزمان البعيدِ.

…..

الكرادة الشرقية الابتدائية للبنات.

نازك في الصف الثالث .. .. وقد كتب لحياتها الان ان تتعرف الى شخصية هامة ستؤثر على نفسها ، وتقعدها في النهاية الى الانكماش والخجل وكراهية الوجود كله .. .. شخصية مديرة المدرسة السيدة "ق.." التي كانت تدرس الصف الثالث علم الحساب.

وكانت نازك تكره الارقام كراهية هائلة لازمتها طيلة حياتها .. وكانت تؤثر ان تشرد بفكرها في درس الحساب .. وفجأة تلتفت المعلمة فتسألها سؤالاً فلا تجيب..او تجيب اجابة مغلوطة.. فتغضب المدرسة وتعنفها .. .. وتكرر هذا .. واصبحت الطفلة تحس بأنها تكره المدرسة من اجل الحساب . انها تستطيع جيداً ان تفهم اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافية .. .. ولكنها لا تستطيع ان تصطلح مع الحساب ، وقد اصبحت كراهية معلمتها لها تزيدها بغضاً للمدرس ولم تعد تستطيع احتمال تذكر الحساب!

وجاء الامتحان السنوي ، وظهرت نتيجة الحساب واذا الطفلة قد اجابت على سؤال واحد من ستة اسئلة! وجاء دور امها وابيها في البيت .. لماذا رسبتِ؟! .. لماذا لا تدرسين؟ وفهم ابوها منها بعد استجواب دقيق انها تكره المدرّسة نفسياً ، وان المدّرسة لا تعاملها معاملة صحيحة!. وثار ابوها وشكا المدّرسة الى المسؤولين في الوزارة ، وترامى النبأ الى المدرّسة نفسها فازدادت كراهية للطفلة البريئة.

وبدأت نازك تتفلسف: فكانت تقضي ايام العطلة بعد حل تمارين الحساب في التفكير بتلك المدرّسة .. وما ذنبها هي ان كانت لا تملك موهبة في الحساب؟! ان بعض الناس يولدون موهوبين في الحساب وهي ليست منهم .. بل هي تشعر بأنها بليدة ، غبية وكراهية معلمتها لها اول دليل على ذلك .. والدليل الثاني انها في المدرسة منفردة ليست لها صديقة ، وقلماً تتكلم مع احد.

كانت الطفلة في الواقع تجتاز محنة في ذلك الصيف من سنة 1931 ولكنها اجتازتها وحدها ، دون معونة .. ، اجتازتها بعد ان طبعت حياتها بطابع من الكآبة والقلق وعدم الثقة بالنفس.

وجائت السنة الجديدة بتعديلات كثيرة .. فنقلت المديرة البغيضة الى مدرسة اخرى وجيء بمديرة جديدة كانت بالنسبة لنازك على عكس الأولى .. .. كانت تفهمها وتقدر شرودها واحاسيسها وجيء للحساب بمدرسة جديدة بدينة مشرقة الوجه تفيض حناناً وما علمت بأن نازك مكملة في الحساب حتى نادتها واجلستها في غرفة المعلمات واملت عليها سؤالاً واحداً بسيطاً جميلاً : "اشترى تاجر عشرين ذراعاً من المخمل بمائة دينار فما سعر الذراع الواحد؟" .. .. لكم كانت نازك سعيدة.. .. لكم احبت هذه المدرسة المحبوبة "ص…" .. .. سؤال واحد لا غير .. سؤال بسيط .. لا كسور عشرية.. ولا كسور اعتيادية.. اعداد صحيحة .. صحيحة والجواب واضح وضوح الشمس!. وخرجت الطفلة تركض فرحة .. تركض الى البيت فتدور بينها وبين امها محاورة..

- نازك .. امتُحنتِ ؟

- نعم .. ناجحة ..ناجحة!

- من قال؟! كيف عرفتِ..؟

وتقفز الطفلة متحمسة

- عرفت! .. اني متأكدة .. سألتني سؤالاً واحداً.

وقد كانت الطفلة في الواقع ناجحة.

……



سنة جديدة .. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر الرومانسية والخيال والشعر تبدو عليها بوضوح .. .. فهي منعزلة خجول تحب المطالعة ، وتحلم كثيراً ، ثم ان صحتها ضعيفة ، وهي دائماً مزكومة .. .. وقد بدأت بوادر التفوق في درس الانشاء والمحادثة تبهر مدرستها .

كانت في البيت خاملة لا تفعل شيئاً ، وقد اهداها ابوها بمناسبة نجاحها الى الصف الرابع مجلداً من مجلة كل شيء والدنيا ، وانكبت عليه في شغف غريب. فقرأت وهي في طفولتها القصص التي تكتبها هذه المجلة بعنوان "تاريخ ما اهمله التاريخ" وتأثرت تاثيراً عميقاً بقصة "لويس فيليب" ملك فرنسا النبيل .. وقصة ذلك الامير الذي احترقت عروسه الاميرة ليلة زفافهما لانها حاولت التدخين سراً ..! قصة سمير اميس ملكة بابل ، وكيف التقطها الراعي ورباها .. قصة كليوبترا وقيصر .. ..! قرأت قصة هيرا ولياندر" ووقفت ببصرها طويلاً عند صورة هيرا المنتظرة .. وقرأت الى جانب ذلك شعر الفضولي وكانت في الغالب لا تفهمه الا انها تضحك منه على كل حال.

وما مضى شهران حتى كانت الصغيرة قد عصرت المجلّد عصراً ولم تبق فيه شيئاً لم تقرأه مرات .. .. ما عدا المقالات التي لا تفهمها طبعاً .. وهنا بزغ في حياتها شيء جديد.

ذهبت ذات مساء الى دار جدها المجاور ، حيث اعمامها وعماتها وهناك وجدت عمتها الكبيرة عائشة منهمكة في تحضير دروسها ، فكانت مكبة على كتاب صغير الحجم تقرأ فيه مغنية رافعة صوتها :

ياليلَ قبرُكِ ربوة الخلد نفخ النعيمُ بها ثرى نجدِ

ولم تدر نازك لماذا تاثرت بهذا البيت وما بعده .. ولكنها بقيت تنظر وتصغي وتحلم .. .. ليلى.. قبر .. نجد .. ثم عمتها وهي ترنم الابيات بحرارة .. ومضت ساعة ونازك صامتة ، ونهضت العمة وتركت كتبها مفتوحة ، فمدت نازك يدها بحرص واخذت الكتاب ، ونظرت الى غلافه في افتتان وانبهار :

مجنون ليلى احمد شوقي…

وفي هذه اللحظة عادت العمة ، فلما شاهدت ابنة اخيها ممسكة بالكتاب قالت لها في برود : "اعجبتك الصورة؟ هذه صورة ليلى الجالسة في ضوء القمر .. .. والاعرابي الجاثي هو قيس!" وكان في ذهن نازك صورة باهتة لا حدود لها حول شيء يقال له "ليلى وقيس" ، قتمنت ان تقرأ الكتاب ، وفتحته فعلاً فلما وقع بصرها على ابيات غرامية .. خجلت ، فتسللت خارجة من بيت جدها وركضت الى بيتها !

اصبح الاختلاء بهذا الكتاب شغلها الشاغل الآن .. فهي لا تستطيع ابعاد صورة ليلى وهي متربعة على عرش القمر ، وقيس تحتها في الصخراء ، يتضرع اليها .. .. ولكنها كانت لا تجد الكتاب الا قرب عمتها .. ومضى اسبوع كامل وهي معذبة هكذا .. انها قد قرأت قصص الغرام مراراً ، ولكنها كانت دائماً تقرأها وحدها ولا أحد ينظر اليها ، لانها تبكي احياناً ، وتضحك احياناً وتتاثر الى حد الانبهار احياناً ، ومن ثم فليس من المناسب ان يراها احد.. ..

وفي ذات مساء مشرق .. وجدت نازك الكتاب ملقى في اهمال على كرسي في الشمس ، قتنفست الصعداء .. وكانت عمتها في المدرسة والبيت خال تقريباً الا من جدتها المريضة في غرفتها ..فأنكبت تقرأ القصة الشعرية بنهم هائل لا حدود له .. وبكت بكاء شديدً طويلاً لموت ليلى .. بكت حتى احمرت عيناها ، وعادت الى البيت مساءً وركضت الى سريرها ، ونامت لتكمل بكاءها الطفولي تحت اللحاف!.

كانت هذه الطفلة في الواقع رومانتيكية جداً .. .. حتى انها بقيت بعد قراءة الكتاب باسبوعين تبكي كل ليلة .. في الظلام .. تحت اللحاف من اجل ليلى ..! كيف ماتت ؟! كيف مات قيس ؟ كيف هبط الملائكة .. وكان البيت الاخير من الكتاب يرتسم امامها باحرف من نار دائماً :

نحن في الدنيا وان لم ترنا

لم تمت ليلى ولا المجنون مات

وفي ذات ليلة اكتشفت عمتها انها تبكي ، فالحت عليها في السؤال عن السبب .. هل آذاك احد ؟! امتالمة انت؟! مريضة؟ لماذا اذن تبكين؟!.. ولكن الطفلة لم تتكلم فموضوع "ليلى" عندها اكثر قداسة من ان تحدث عنه عمتها ! ولكنها انقطعت عن البكاء وألفت الموضوع اخيراً!

وبدأت آثار هذه المطالعات الغريزة تظهر على اسلوبها الكتابي في المدرسة فتفوقت في درس الانشاء بسرعة ، واصبحت في المقدمة دائماً ..



وانتهت السنة الرابعة.. ..

وجائت السنة الخامسة . وظهرت بطلتنا فجأة في الصف ، والمدرسة. وبدأت لفظة غربية تشيع عنها على السنة الصغيرات ، هي انها "شاعرة". هذه الطفلة البليدة المظهر ، الجامدة ، التي لا تكلم احداً ، المزكومة دائماً .. شاعرة..! أي نبأ غريب..!

وكانت هي تسمع احياناً الفاظاً ساخرة من شعريتها فتتألم وتقول لنفسها : "هل قلت انا انني شاعرة؟! وها انا احتمل السخرية وحدي وكيف اردها؟ اين شاعريتي المزعومة؟"

وفي ذات يوم دخلت بطلتي الصف فوجدته خالياً .. وكان هناك على اللوحة هذه الكلمات: "نزهة في زورق". ولم تدر هي لماذا امسكت "بالتباشير" وراحت تكتب .. ولم تدر الا انها كتبت بيتين وفجأة دخلت طفلة متحمسة ، هي "ف. ك" ، وما كادت تقرأ حتى صرحت فرحاً: "نازك! انت تكتبين قصيدة! ياللعظمة! ما اجملها…" وركضت الى الصف وجاءت بورقة وراحت تسجل فيها القصيدة. وتتذكر بطلتي انها كتبت ما يقرب من عشرة ابيات مدفوعة بتشجيع زميلتها المتحمسة هذه.

ولكن الذي ضايقها ان "ف. ك" اخذت القصيدة وركضت فجمعت حولها كثيراً من التلميذات وراحت تقرأها ملقية على نازك مديحاً هائلاً كبيراً. اما بطلتنا فأختبأت في آخر الصف محمرة ، ناقمة على زميلتها الثرثارة.

وحدثت في المدرسة ضجة ، وصفقت التميذات ، فخرجت المديرة ، متسائلة ، وفي اللحظة التالية كان القصيدة في يديها ، وقد اخذتها ودخلت غرفتها ….

ومضت أسابيع صامتة .. .. ..

ثم أقيمت في المدرسة حفلة كبيرة ، اشتركت فيها كثيرات من التلميذات ، وقد طلبت المديرة من نازك توزيع الحلوى على المدعوين . وقد كرهت هي هذه المهمة ، ولكنها لم تجرأ على رفض طلب مديرتها الكريمة التي غمرتها بلطفها .

وجائت اللحظة الحاسمة . وحملت بطلتي علبة الحلوى ، وسارت قاصدة ضيف الشرف . وكان الخجل قد بلغ بها مبلغه ، وانقلب ارتباكاً حاداً ، فسارت شاحبة ، مطرقة ، تكاد تتعثر بأرجل المدعوات ، ولم تكن تعلم من هي ضيفة الشرق ، ولا كان يعنيها ان تعلم ، فالذي يهمها انها تسير امام الناس ، وكلهم سواء ، كلهم يثيرون خجلها .. وكانت تدرك دون ان تحتاج الى النظر اين تجلس ضيفة الشرف ، فسارت قدماً ، وانحنت امامها وفي يدها العلبة.

وما كادت الضيفة تمد كفها حتى هتفت المديرة باسمة : "هذه نازك .. تلميذة في الصف الخامس.. وهي شاعرة المدرسة.." وكادت بطلتي تذوب خجلاً .. ودت اذ ذاك لو ابتلعتها الارض . وفجأة رن في اذنها صوت : "ضيفة الشرف " خشناً ، حاداً ، وهي تهتف : "نازك، اعرفها..!" واصفرت الصغيرة ورفعت وجهها مرتاعة . لقد كان هذا الصوت معروفاً لديها ، هذا الصوت الذي عكر احلامها سنة كاملة . صوت مدرّسة الحساب الممقوتة : "ق..". وحدقت فيها فرأتها هي هي تماماً.

وذهلت بطلتي ، ووقفت حائرة! اكان ضروريا ان تأتي هي نفسها لتقدم الحلوى ؟! ورأت المدرسة ارتباك نازك وجمودها فقالت لها باسمة بلطف : "تحركي ايتها الشاعرة الصغيرة الان ، وساستدعيك بعد دقائق لتقرأي علينا قصيدتك الجميلة." وكان هذا كافياً لان يرسل نازك متعثرة الى آخر صف من صفوف المدعوات ، وفي عينيها بداية دموع ..! انها لا تستطيع ان تقرأ قصيدة امام هذا الجمهور الكبير . وامام هذه السيدة خاصة فهي تمقتها ولا تحتمل رؤيتها.

ولكن المديرة لا تفهم هذا ، وهي تريد دائماً ان تخرج بالشاعرة الصغيرة عن جمودها وخجلها ، ولذلك الحت عليها بقراءة القصيدة ووقفت نازك جامدة لا تتكلم ولا تتحرك ، وطال جمودها وصمتها وكانت "ف.." صدفة قربها فانحنت عليها هامسة : "نازك ! عزيزتي.. باسم الصف كله أرجوا ان تلقي القصيدة! تصوري المجد الذي ينال الصف .! والفخر الذي ينالك انت !. لو كنت مكانك لطرت فرحاً بهذا الطلب الكريم من المديرة .. هذا التقدير لك .. .. وللصف… تلقين قصيدة في حفلة كبيرة كهذه…!"

ولكن نازك همست قائلة: "لن اقرأها..لا اريد..آه..اريد ان اذهب..اقرأيها انتِ..افعلوا ما شئتم وانما اتركوني اذهب بسلام…."

وانتهت المشكلة بأن قرأت "ف.." القصيدة بحماستها المألوفة وهربت نازك وهي لا تكاد تصدق بنجاتها.

وفي تلك السنة تقدمت نازك في دروسها تقدماً واضحاً لمسته مدرساتها وفي نهاية السنة كانت درجتها الثانية في صفها .





الفترة الثالثة: 1935 – 1939

"سأكتب منذ اليوم بضمير المتكلم"


وماذا كنت اقرأ في عامي 1939 – 1940 ؟ .. في الواقع انني اتجهت اتجاهاً شديداً مبالغاً فيه الى دراسة الادب القديم ، وخاصة النحو ، فاعطاني ابي كتباً مثل شرح شواهد ابن عقيل للجرجاوي ، وفقه اللغة للثعالبي وخزانة الادب للبغداداي ، وعشرات من الكتب مثلها . وقد كتبت في يومياتي يوم 26 شباط 1940 اشكو من فداحة المجادلات بين الكوفيين والبصريين واقول : "على ايهم اعقد؟ اعلى سيبويه ام الكسائي. ثم هنالك ابن هشام وابو حيان والسيوطي والسهيلي وابن خروف والرجاج والاصمعي." ثم كتبت صفحات طويلة حول نقاط تفصيلية في معركة نحوية لم اعد الآن اطيق قرائتها وكنت في تلك الايام التهمها التهاماً . وقد قرأت من كتب النحو اذ ذاك "شذور الذهب" لابن هشام" و "حاشية الشيخ عبادة على شذور الذهب" قراءة ودراسة ، كما استظهرت جانباً كبيراً من شواهد ابن عقيل مع شروحها واعرابها اعتماداً على ابن عقيل والشيخ قطة العدوي ، وقد قفزت بي هذه الدراسة الى مستوى عالٍ جداً في النحو حتى برزت بروزاً مرموقاً في المدرسة.

وفي حقل الادب واللغة قرأت عمدة ابن رشيق ، والمثل السائر وادب الكاتب ، وخزانة الادب للبغدادي . ومما اذكر انني قرأت البيان والتبيين في ثمانية ايام ، كدت خلالها اوذي عيني ايذاءً شديداً. ولا اذكر الآن أي جنون هو الذي دفعني الى هذا ، الا اننني ارجح انها بداية عادتي المتأصلة في القراءة الكثيرة وقياس الحياة بها ، فمنذ تلك الفترة بدأت اشعر بالرعب كلما مر بي يوم لم اقرأ فيه ثماني ساعات . لم تكن قراءة البيان والتبيين في ثمانية ايام هينة ، بل كانت تلك الايام ايام محنة فظيعة انتهت بمرضٍ كان لابد منه اضطررت معه الى ترك المطالعة لالتهاب عيني.

ومما قرأت "رسالة الغفران" والضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر" للآلوسي وقد احببته حباً كبيراً ، و"شعراء النصرانية" للويس شيخو . وقد حفظت منه مئات من الابيات الجاهلية وحفظت اخبار حرب البسوس غيباً ، وكان اشد ما يمتعني ان احفظ الابيات التي من اجلها سمي التابغة وافنون التغلبي والمرقش وغيرهم باسمائهم ، والواقع اني بتّ بواسطة هذا الكتاب واسعة الاطلاع على الشعر الجاهليّ وكانت ثقافتي تعادل ثقافة المتخرجات من الكليات .. ومن بين ما قرأت كتاب " الساق على الساق في ما هو الفارياق" وكنت استمتع استمتاعاً كبيراً بلغته . وفي الشعر قرأت ديوان البحتري وابن زيدون والبهاء زهير وابن خفاجة وابن سهل مفصلاً وحفظت لهم كثيراً ، كما قرأت كتباً حديثة كثيرة بينها "عبقرية الشريف الرضي" لزكي مبارك و"تاريخ حياة معدة " لتوفيق الحكيم ، و"مع ابي العلاء في سجنه" لطه حسين ، و "اميرة الاندلس" و "عنترة" لشوقي .. و"بلوغ الارب" للالوسي .. ومن الدواوين الحديثة بعض الدواوين العراقية ، وديوان "ليالي الملاح التائه" لعلي محمود طه.

ويبدو من هذا ان ثقافتي في العام الدراسي الذي كنت خلاله استعد للبكالوريا الكبرى كانت واسعة الى درجة لم يسبق لها مثيل في حياتي ، ثم انها كانت كلها متجهة الى الاداب القديمة والنحو واللغة والبلاغة ، وكنت اجد لذة هائلة في الدراسة وحفظ الشواهد ومناقشة ابي ، ولابد لي ، وانا اذكر مصادر ثقافتي في هذه السنة ان اشير الى حبي الشديد للقاموس في تلك الايام وكنت اعتمد اعتماداً كلياً على قاموس "اقرب الموارد" للويس شيخ اليسوعي ، وهو قاموس مقبول لم ازل احبه.

ولنفخص الآن مكان حياتي المدرسية من هذه الدراسات كلها . واني لاعجب اليوم كيف كنت اوفق بين الدراستين الخارجية والمدرسية . كنت تلميذة في "فرع البنات" وهو فرع كان اذ ذاك يعني شيئاً بين العلمي والادبي وقد درسنا فيه الفيزياء والرياضيات العامة ، بالاضافة الى العربية والانجليزية والتاريخ وتربية الطفل والتدبير المنزلي والخياطة والتمريض والحق ان المنهج كان شاقاً ، عسيراً ، وكنت ابغض الرياضيات والفيزياء وعلم النبات ، ولا افتأ احلم بيوم الخلاص من الثانوية لادخل بعدها في الفرع الادبي في دار المعلمين العالية وانس كل ما تعلمته في العلوم والرياضيات.

ولكن دروس اللغة العربية كانت شديدة الامتاع لي ، وقد لقيتُ هذا العام اول مدرسة ادركت مواهبي ، وشدهت بثقافتي الواسعة التي لم يكن من الممكن مقارنتها بثقافة طالب الثانوية الذكي على الاطلاق . كانت المدرسة لبنانية ، عجوزاً غريبة الطباع ، واسعة الاطلاع ، اسمها "ماري عجمي"، وقد سبقتنا اليها شهرتها بانها اعظم مدرسة للغة العربية في الشرق كله . وانها مثقفة حقاً ، لا كسائر معلماتنا السابقات . الا انها حين قدمت الى المدرسة احدثت في انفس التلميذات رد فعل قبيح اكره ان اتذكره .

ترامت الينا الانباء من الصفوف المجاورة اولاً ، بانها انسانة فظيعة ، جافة ، خشنة الصوت ، قصيرة القامة ، تتكلم بالفصحى وتلتزمها التزاماً مضحكاً يجعل التلميذات يواجهنها بالسخرية واستعدت تلميذات الصف الاول لاستقبالها استقبالاً يناسب هذه الاشياء .. ولكن شيئاً واحداً بقى يصحب اخبار السخرية ، وهو ان ماري عجمي عميقة ، عظيمة ، فاهمة . وكان هذا يهمني لانني لم اكن اصدق ان هناك معلمة تفهم اللغة العربية كما يجب . فانا اعلم ماذا يعاني المرء ليصل الى مثل هذه الثقافة وادرك ان المرأة العربية ما زالت في المرحلة الاولى من ثقافتها ولذلك لا يمكن..

وقد ملأني هذا كله تحدياً وكنت اشعر بثقافتي شعوراً لا مفر منه. فانا على مقعدي في الصف الخامس ، احمل في رأسي الجرجاوي وابن هشام والبغداديّ وابن قتيبة والجاحظ وابن رشيق ، وعلماً زاخراً بالادباء والشعراء من الجاهلية حتى هذا اليوم واحفظ الافاً من ابيات الشعر . وقد دارت هذه الثقافة برأسي دوراناً خطراً وانا استقبل مدرستنا ماري عجمي اول مرة.

وقد دخلت ملتفة بشال غليظ النسج وبادرتنا بصوت هاديء فيه خشونة: "طاب صباحكن." ثم بدأت تتحدث عن ابن هائيء الاندلسيّ ، وتسألنا بين الحين والحين . واذكر انها راحت تشرح احدى قصائده ، فمرت بلفظٍ وشرحتهُ فنهضت وسألتها في لهجةٍ لم تخل من وقاحة ظاهرة ، الا ان قصدي كان بريئاً : "عفواً ، اذكر ان القاموس شرح معناها بكذا.." فقالت لي حالاً: "كلا .. ان معناها ما قلتُ كما يدل السياق ". فأعترضتُ وكنتُ مخطئة ، الا ان القاموس كان يسندني حقاً . ولم تكن ماري عجمي تعرف أي شيء عني طبعاً اذ ذاك ولذلك انهالت علي بكلام جارح معناه. "لقد غرك ان عندك قاموساً ياصغيرتي! وانا انصحك بألا تغتّري. فالمستوى في مدرستكم واطيء الى درجة لا يمكن ان تعرفيها، فلا داعي للغرور".. وقد كاد هذا الكلام يبكيني . انا مغرورة ؟ مستواي واطئ؟ آه لو عرفت! اتدري انني احفظ الجرجاوي كله؟

وجلست واجمة .. وقررت ان اتحداها ..وقد جاءت الفرصة في درس الادب وكانت المدّرسة تتحدث عن أحمد أمين وتثني عليه وكنت في تلك الايام اقرأ في الرسالة مقالات زكي مبارك المشهورة "جناية أحمد أمين على الادب العربي" ..فلاح على وجهي تحمس مكتوم ، وانفعال ورغبة في الكلام .. ولاحظتني هي وادركت انني اريد ان اتكلم فقالت بخشونتها الطبيعية التي لا تقصدها كما عرفنا فيما بعد : "انتِ .. يامن تناقشت حول كلمة جَيِد .. اتريدين ان تقولين شيئاً؟" وقد اثارتني باشارتها الى حادثة ابن هاني فنهضت وقلت لها: "انا لا اعد احمد امين عربياً ، ولا اديباً ، ولا لغوياً." وقد شدهها جوابي واتسعت عيناها وقالت: "انت جريئة جداً في احكامكِ! كيف توصلت الى هذا الحكم؟" وبعد ان سألتني بضعة اسئلة ، اخبرتها انني افضل "زكي مبارك" على "أحمد أمين" وفي هذه اللحظة رن صوت الجرس وخرجت المدرسة مغضبة مني ثانية.. والحق انني كنتُ الوح "وقحة" رغم برائة قصدي. واظن احد العوامل المساعدة ضخامة احكامي ، فانا كلما تحدثت ذكرت كتاباً او نحوياً ، او حكمت على اديب كبير لا يمكن ان اطاوله من فوق رحلتي الصغيرة ، وكان هذا يضفي على كلامي مسحة التطاول خاصة والمدرسة لا تدري ان ثقافتي حقيقية لا محض ادعائات ارتبها بعناية لاضايقها واحرجها امام التلميذات.

وانفجرت المدرسة في الصباح التالي فما كادت تدخل وتبدأ الدرس حتى نظرت الى فجأة دونما داع وقالت : "نازك!.. اليس هذا هو اسمكِ" انهضي..انهضي وقفي امام الصف كله …" ونهضت متثاقلة ، مستغربة ، فلما واجهت الصف قالت: "لقد قلت امس ان احمد امين ليس عربياً ولا اديباً ولا لغوياً ..فهل لك ان تشرحي لنا سر هذا الحكم العبقري لنحكم عليك؟" وكانت المدرسة العزيزة حانقة لانها تحسبني قصدتُ مجادلتها والتظاهر بثقافة لا أملكها .. ولذلك انفجرت تعنفني امام الصف كله ، وتتحدث عن الغرور والتظاهر ، وتطلب اليّ الا اعارضها حين تتكلم ، وهكذا. وكان الموقف مؤلماً ، وقد راحت الزميلات يتململن فهن يعرفنني منذ سنين .

ولم افه بحرف ، وانما سكت سكوتاً تاماً ، وعزمت على ان احاول تسوية الموقف مع المدرسة خارج الصف. فلابد من التفاهم ، وليس لطيفاً ان تمضي في فكرتها المغلوطة عني ، فهي بأختصار تراني تلميذة مشاغبة .

ومرت ايام هادئة لم تعد ماري عجمي خلالها توجه الي كلاماً . وسكت انا سكوتاً تاماً ، حتى حان موعد امتحان مفاجيء ذات يوم فقد دخلت المدرسة وقالت : "اوراق واقلام. اريد ان اقيس ثقافتكن الذاتية … اكتبن عن محمد عبدة .." وكان محمد عبدة مقرراً للمنهج هذا العام ، الا اننا لم نكن بعد قد استعددنا لامتحان فيه… وكنت انا اقرأ اذ ذاك مجلة "السياسة الاسبوعية" واملك اعداداً منها جمعها أبي وقد مررت فيها بعدد خاص عن محمد عبده وقرأته حديثاً ، فكتبت مقالاً مدهشاً في نصف ساعة بلغ طوله ست صفحات كان خطي فيها رديئاً لاستعجالي. فقد كانت المعلومات غزيرة في ذهني ، الى حد ضاق به الوقت . وكانت ماري عجمي تقف في اول الصف ترقب التلميذات وهن يائسات عن التذكر وقد اسلمن اوراقهن نصف فارغة بينما ابقيت انا ورقتي الى اللحظة الاخيرة .. وحملت المدرسة اوراقنا وخرجت وعندما دخلت في الصباح التالي حدث شيء مدهش.

دخلت وكانت منفعلة جداً فما كادت تحيينا حتى قالت : "نازك . اريد ان اعتذر اليك .. لقد ظلمتك حتى الان ولم اكن اعلم انني امام تلميذة موهوبة حقاً." ثم التفتت الى الصف وقالت:

" ان مستواها يدهشني. وقد ظننتها مدّعية في الاسبوع الماضي لضخامة احكامها ، وصعوبة المادة التي تستشهد بها … وهذه اول مرة آسف فيها على موقف اقفه من تلميذه متطاولة …" . وكان الصف كله مندهشاً ، صامتاً .

وقد اصيبت ماري عجمي بمرض عصبي فظيع قبيل امتحان نصف السنة ، ولزمت فراشها واصابها نوع من الهذيان المضطرب . وآلمني هذا ايلاماً شديداً فقد كنت احب هذه السيدة الكريمة النبيلة واحترمها احتراماً لا حد له ، واشعر تجاهها بالصغر والضآلة واود بأي اسلوب لو محوت ذكرى اسبوعي الاول معها يوم تحديتها وآذيتها. قررت ان ازورها في منزلنا بصحبة خمس صديقات لي ، وقد فعلنا جميعاً فاتجهنا الى مسكنها.

وما كدنا ندخل ، حتى تلقتني بحرارة وراحت تسالني عن سير قرائتي الا ان حديثها لم يخلُ من اضطراب ، فقد قالت لي انها تتنبأ لي بمستقبل ادبي رائع تثق فيه وتراني احمل بوادر عبقرية وان كنت لم اصنع بعد أي شيء. دعوت السماء ان تشفيها . وكأن دعواتي المختلفة قد استجيبت فبعد اسابيع حضرت ماري الى المدرسة لتودعنا ، والتقطت لنا صورة معها … كنا اربعاً وقد سألتها احدانا ان تتفضل بأخذ صورة تذكارية معنا فقالت : "اوافق." وما زلت احتفظ بهذه الصورة العزيزة حتى الان.

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:27 AM

مختاراتٌ من رسائلِ الرافعيِّ

الرّافعيُّ : أبو السّامي مصطفى صادق ، ذاك الطودُ الشامخُ ، والعلمُ السامقُ ، الأصمُّ الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وهو لا يسمعُ ، والذي لا يحملُ من العلمِ الرسميِّ ألا الشهادةَ الابتدائيةَ ، ومع ذلكَ فقدَ أودى بردودهِ كبارَ الدكاترةِ والعباقرةِ من الأدباءِ في عصرهِ .

لهُ نثرٌ ساحرٌ أخّاذٌ ، وهو شاعرٌ على جفافٍ في أكثرِ شعرهِ ، وجزالةٍ في بعضهِ ، وسموٍّ في أغراضهِ .

الكلامُ عن الرّافعيِّ وسيرتهِ ومكانتهِ ، لهُ موضوعٌ خاصٌّ ، جمعتهُ في وريقاتٍ ويحتاجُ إلى تهئةٍ وصفٍ ليُنشرَ في المنتدياتِ ويذاعَ .

ولكنّي هنا سأنقلُ لكم بعضاً من الرسائلِ التي جرتْ بينهُ ، وبينِ أبي ريّةَ محمودٍ ، وهي من أرقِّ الرسائلِ وأعذبها ، وكذلكَ من أجملها أسلوباً ، وأصدقها نقداً ، وفيها جرأةٌ وشفافيةٌ كبيرةٌ .

وهي من الكتبِ التي نفدت من قديمٍ ، ولم يُعدْ طبعها ، وكانَ آخرَ طبعاتها - وهي الثانيةُ - في سنةٍ 1969 م ، والعثورُ عليها شبهُ متعذّرٍ .

وأرجو أن تحوزَ على رضاكم ، وسأنقلُ لكم بعضها ، حتى تستطيبوا وقتها ، وتستلذوا قراءتها ، وتحتذوا حذوها في الترسّلِ .

وهذه هيَ :

رأيهُ في أمتع ِ كتبِ النحوِ

( لمّا صحت نيتي على أن أتصلَ بشيخنا الرافعيّ – رحمه الله – رأيتُ أن أسألهُ عن أفضل كتبِ النحو والصرفِ – وقد كنتُ سألتُ قبل ذلكَ عن هذا الأمر المغفورَ لهُ الشيخ عبدالعزيز جاويش رحمه الله فأجابني أن خير كتبِ النحو ِ كتابُ سيبويه والمفصّل للزمخشري - )

طنطا في 20 ديسمبر سنة 1912

أيّها الأديبُ الفاضلُ

السلامُ عليكم ، وبعدُ ،

فإنّي أشكرُ لكَ ما أطريتَ وأحمدُ إليكَ كما أثنيتَ ، وأرجو أن تكونَ أهلاً لخير ٍ ممّا وصفتني بهِ – إن شاءَ اللهُ - ، فإنّ الأدبَ يرقبُ نوابغهِ دائماً من بينِ المعجبينَ بهِ والراغبينَ فيهِ وذوي الحرصِ عليهِ .
أمّا ما سألتَ من أمرِ كتبِ النحو ِ والصرفِ ، فيشقُّ علي أن أدلّكَ على غرضكَ منها ، لأنّي لستُ على بيّنةٍ من قوّتكَ في فهم كتبِ القوم ِ ، والبصر ِ بها ، غير أنّكَ لو سألتني عن أنفعِ وأمتعِ كتابٍ طُبعَ في النحوِ ، لدللتكَ على " شرحِ الكافيةِ للرضي " ، وهو كتابٌ ضخمٌ ليسَ في كتبِ العربيةِ ما يساويهِ بحثاً وفلسفةً .

وللرضي أيضاً شرحٌ على الشافيةِ في الصرفِ ، هو كصنوهِ في النحوِ لا يعدلهُ غيرهما ، فاشترهما ، وضُمّ إليهما كتابَ " متن ِ التوضيحِ " لابن هشام ٍ ، وشرحه ِ ، فإن لم تنتفعْ بالأولين انتفعتَ بالآخرين ِ .

وإلى اللهِ الدعاءُ في توفيقكَ وتسديدكَ ، وأذكرُ أنّي معجبٌ برغبتكَ في الأدبِ وإخلاصكَ لأهلهِ .

والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته

مصطفى صادق الرافعي

2 – رأيهُ في دراسةِ الأدبِ العربيّ

( لمّا جاءني أوّل كتابٍ من الرافعيّ – رحمهُ اللهُ – فرحتُ بهِ فرحاً شديداً ، وجعلتهُ ممن يجبُ الرجوعُ إليهم في أمرِ الأدبِ العربي ودراستهِ ، وقد عنّ لي أن أعرفَ رأيهُ في دراستهِ – وهو الإمامُ الحجة ُ – فكتبتُ إليهِ خطاباً في ذلكَ ، كانَ الجوابُ عنهُ هذا الكتابُ ) :

طنطا في 30 ديسمبر سنة 1912

أيّها الفاضلُ

إنّ أعمالي كثيرةٌ في هذه الأيام ِ ولذا أراني أبطأتُ في الردِ على كتابكَ ، وإنّي مجيبك عنهُ بإيجازٍ ، لأنّ ما سألتَ عنهُ يصعبُ التبسّطُ فيهِ على وجهٍ واحدٍ .

إنّكَ تريدُ امتلاكَ ناصيةِ الأدبِ – كما تقولُ - ، فينبغي أن تكونَ لكَ مواهبُ وراثية ٌ تؤديكَ إلى هذه الغايةِ ، وهي مالا يُعرفُ إلا بعدَ أن تشتغلَ بالتحصيل ِ زمناً ، فإن ظهرَ عليكَ أثرها وإلا كنتَ أديباً كسائرِ الأدباءِ ، الذينَ يستعيضونَ من الموهبةِ بقوّةِ الكسبِ والاجتهادِ .

فإذا رغبتَ في أقربِ الطرق ِ إلى ذلكَ فاجتهدْ أن تكونَ مفكّراً منتقداً ، وعليكَ بقراءةِ كتبِ المعاني قبلَ كتبِ الألفاظِ ، وادرسْ ما تصلُ إليهِ يدكَ من كتبِ الاجتماعِ والفلسفةِ الأدبيةِ في لغةٍ أوربيةٍ أو فيما عرّبَ منها .

واصرف همّكَ من كتبِ الأدبِ العربي – بادىء ذي بدءٍ – إلى كتابِ كليلةَ ودمنة والأغاني ورسائلَ الجاحظِ وكتابَ الحيوان ِ والبيانِ والتبيين لهُ ، وتفقّه في البلاغةِ بكتابِ " المثل ِ السائرِ " ، وهذا الكتابُ وحدهُ يكفلَ لكَ ملكةً حسنة ً في الانتقادِ الأدبي ، وقد كنتُ شديدَ الولعُ بهِ .

ثمّ عليكَ بحفظِ الكثيرِ من ألفاظِ كتابِ " نُجعةِ الرائدِ " لليازجي والألفاظِ الكتابيّةِ للهمذانيّ ، وبالمطالعةِ في كتابِ " يتيمةِ الدهرِ " للثعالبيّ والعقدِ الفريدِ لابن عبدربه وكتابِ " زهرِ الآدابِ " الذي بهامشهِ .

وأشيرُ عليكَ بمجلّتينِ تُعنى بقراءتهما كل العنايةِ " المقتطف والبيان " ، وحسبكَ " الجريدةُ من الصحفِ اليومية و " الصاعقة " من الأسبوعية ، ثم حسبكَ ما أشرتُ عليكَ بهِ فإنّ فيهِ البلاغ كلّهُ ، ولا تنسَ شرحَ ديوان ِ الحماسةِ وكتابَ نهجِ البلاغةِ فاحفظْ منهما كثيراً .

ورأسُ هذا الأمر ِ بل سرّ النجاح ِ فيهِ أن تكونَ صبوراً ، وأن تعرفَ أن ما يستطيعهُ الرجلُ لا يستطيعهُ الطفلُ إلا متى صارَ رجلاً ، وبعبارةٍ صريحةٍ إلا من انتظرَ سنواتٍ كثيرة .

فإن دأبتَ في القراءةِ والبحثِ ، وأهملتَ أمرَ الزمن ِ – طالَ أو قصرَ – انتهى بكَ الزمنُ إلى يوم ٍ يكونُ تاريخاً لمجدكَ ، وثواباً لجدّكَ .

والسلامُ عليكَ ورحمة ُ اللهِ .

الرافعي

3 رأيّهُ في الكتبِ التي وعدَ الناسَ بها

( انقطعَ حبلُ المراسلةِ بيني وبين الرافعي – رحمه الله – زهاءَ ثلاث سنين ، كانت كالفترةِ التي انقطعَ فيها الوحيُ عن الرسول – صلواتُ الله عليهِ - ، ثم ترادفتْ علي بعد ذلك رسائلهُ ، وهذا هو أوّل كتابٍ منه بعد هذه الفترةِ ) :

طنطا في 21 يونيو سنة 1915

أيّها الأديبُ الفاضلُ

السلامُ عليكم ورحمة ُ اللهِ ، وبعدُ ،

فإنّي معتذرٌ إليكَ من تأخير ِ الرّدِ إلى الآن بالمرضِ الذي شغلني بنفسي منذ شهرينِ ، فقد كددت رأسي طويلاً وآن لي أن أستريحَ قليلاً .

أمّا كتابكم فقد تلوتهُ مستبشراً بميلكم هذا الميلَ إلى الأدبِ ، ويسرّني أن تستوعبوا ما تقرءونهُ حتى أتى لكم أن تستخرجوا أسماء الكتبِ التي سألتم عنها كالقرائحِ العربيةِ وغيرها ، ومن أجل ذلك لا أرتابُ في أنّ لك يوماً – إن شاء اللهُ – وهو سبحانهُ المسئولُ أن يأخذَ بيدكم إلى القصدِ ممّا تطلبون .

وأمّا هذه الكتبُ التي وعدتُ النّاسَ بها فالنيّةُ معقودة ٌ عليها ، وحسبكَ من جهتي أنا صحّة النيّةِ ، ولكن ماذا أصنعُ والناسُ عندنا ما تعلمونَ تخاذلاً وتقصيراً وبخلاً بالدراهمِ القليلةِ ينفقونها على الأدبِ ، وكيف لي أن أملأ الأسواقَ كتبي ، ويدي فارغةٌ .... ؟ .

لقد وضعتُ كتاباً صغيراً هذه الأيّام وهو " كتابُ المساكين " وأظنّكَ تُعجبُ به لو قرأتهُ ، غيرَ أنّي لم أجد من يُعينني على طبعهِ فطويتهُ وكنتُ أوشكتُ أن أتمّهُ ، وليسَ طبعهُ بالمُعجزِ ، فإنّه لا يُنفقُ فيهِ أكثرُ من خمسة وعشرين جنيهاً ! ، ولكنّي لا أجدها الآن فأينَ هي ؟! ، بل أين من يقولُ هاهي ؟! .

والجزءُ الثالثُ من التاريخِ لموعدكَ به بعد سنتين – إن شاءَ اللهُ – مع أنّي أكتبُ فيهِ أكثرَ من بضعة أشهر ٍ حتى يمثلَ للطبع ِ ، ولكن العجزُ في التكاليفِ ... فدعني ونفسي إنّ الشرقَ لا يزالُ شرقاً .

سألتني عن قاموس ٍ عربي تشتريهِ فليسَ أحسنَ ولا أوفى من " لسان ِ العرب " فإن أعياكَ أن تجدَه لقلةِ نسخهِ فالتمس تاجَ العروس ِ وأظنّهُ كثيرَ الوجود ِ ، وينبغي أن تجمعَ إليهِ " القاموسَ المحيطَ " للفيروزبادي " فإن التاجَ شرحٌ عليهِ ، وضمّ إليهما " أساسَ البلاغةِ " للزمخشري فلا غنى لأديبٍ عنهُ وهو رخيصٌ كذلكَ .

واعذرني أن لا أطيلَ في الكتابةِ ، فإن رأسي متألّمٌ ، وقد تركتُ القلمَ حتى يرزقَ اللهُ العافيةَ بحولهِ وقوّتهِ .

والسلامُ عليكم ورحمة الله .

الداعي

مصطفى صادق الرافعي

4 – رأيهُ في طبع كتبهِ

( لمّا جاءني هذا الكتابُ خاطبتُ الشيخ عبدالرحمن البرقوقي – رحمه اللهُ – في أن تتولّى مكتبةُ البيانِ طبع " كتابِ المساكين " على نفقتها ولم يكن في ذلك من عاب ، وعلى أن البرقوقي صهرٌ لشيخنا الرافعي وبينهما من الصلاتِ الأدبيةِ غير ذلك ما بينمها ، فقد تأثّر جداً وبعثَ إلي بهذا الخطابِ ) :

طنطا في 19 ديسمبر سنة 1915

أيّها الأخُ

السلامُ عليكَ ، وبعدُ ،

فإنّي شاكرٌ لكَ أدبكَ وغيرتكَ ومروءتكَ ، غيرَ أنّي أعتبُ عليكَ إذ كتبتَ للشيخِ البرقوقي ما كتبتَ ، فإنّي في كتابي الآخر إنّما اعتذرتُ عن عدمِ طبعِ كل كتبي لأنّي لا أملأ السوقَ ويدي خالية ٌ لا أستطيعُ أن أملأها ، وفرقٌ بينَ عدم ِ امتلاءِ اليدِ ، وبين ضيقها ، فإنّي – والحمدُ للهِ – في يُسرٍ وإن لم أكنْ في سعةٍ .

على أنّي كنتُ مريضاً يومئذٍ فكتابتي كانت مريضة كذلكَ ، والحمدُ للهِ على العافيةِ ، أسأله تعالى أن يدمها لي ولكم .......... ،

....... وأختمُ بالشّكرِ لكَ مرّة أخرى والسلامُ .

مصطفى صادق الرافعي

5 – رأيّهُ في كتابِ ذكرى أبي العلاء

( كتبنا إليهِ أن أحد الأدباءِ يقولُ : إن كتبَ الرافعي أكثر ثمناً من غيرها – وطلبنا منه أن يبيّن رأيهُ في كتابِ " ذكرى أبي العلاءِ " للدكتور طه حسين – وكذلكَ ذكرنا لهُ خطأ استعمال ِ لفظةِ " المستلم " التي جاءت في إيصالاتِ اشتراكِ " كتابِ المساكين " فجاءَ منهُ هذا الجوابُ ) :

طنطا في 30 ديسمبر 1915

أيّها الأخُ

السلامُ عليكم ، وبعدُ ،

... وذكرتم في كتابكم أنّ قائلاً يقولُ ... إنّ الغبنَ أن تكونَ 426 صفحة ً من ذكرى أبي العلاءِ بعشرةِ قروشٍ ، و 250 صفحة من كتابِ المساكين ِ بمثلها – أو كما قالَ - ، فهذا – ويحفظكَ اللهُ – سببٌ من أكبرِ أسبابِ سقوطِ الأدبِ عندنا ، إذ يُريدُ الناس ألا يعرفوا التأليف وكدّ العقول ِ إلا تجارة الورق ِ .... ، كما يصنعُ أصحابُ المكاتبِ الذين يشترونَ ورقاً أبيضَ ويبيعونهُ ورقاً أسود ، وكما يصنعُ سقاط المؤلفين الذينَ يصنعون هذا الصنيع لأنّه لا فرقَ بين صاحب مكتبةٍ يطبعُ كتابَ رجل ٍ ماتَ ، وبين مؤلّفٍ ينقلُ عن رجالٍ ماتوا ، كلاهما لا عملَ لهُ إلا نقلٌ وتصحيحٌ وما أهونهُ عملاً ! .

لقد قيلَ لي – مراراً – إن كتبي أكثر الكتبِ العربيّةِ رواجاً - ولعلّها كذلكَ - ، ولكنّي مع هذا لا أبيعُ حياتي بالثمن ِ البخس ِ ، وأنا واثقٌ أنّ لي عدداً من القرّاءِ يشترونَ كتبي بأي ثمن ٍ وجدوها به ، فما ضرّني أن أجعل القاريء منهم بخمسةٍ من مثل ذلك القائل ..... ! .

إنّها أسطرُ ضائعة ٌ أخطّها في هذا المعنى .... ! .

لم أقرأ " ذكرى أبي العلاءِ " ولا أعرفُ ما هي ، ولكن أخبرني أحدُ الذينَ ساعدوا في تأليفها – وهم ثلاثةٌ غيرَ صاحبها – أنّها ليست ممّا يُقالُ إنّهُ هناكَ ، ولا علمَ لي بالغيبِ وأستغفرُ اللهَ ولعلها من الكتبِ الممتعةِ .

غيرَ أنّ ثمنها ليس في تسعيرةِ أثمان ِ الموادِ الغذائيةِ ، فكيف يُريدُ صاحبكم أن يوجبَ على المؤلفينَ أن يبيعوا كل 42 صفحة بقرش ٍ واحدٍ ! .

أمّا لفظة ُ " المستلم ِ " فقد وقعتْ خطأ ، وقد طلبَ أحدهم إلى أبي عبيدة َ أن يكتبَ له كتاباً يستشفعُ بهِ إلى رجل ٍ من الأمراءِ ، فأملى أبو عبيدة على كاتبٍ وقال لهُ : اكتبْ والحن ، فإنّ اللحنَ مجدودٌ – أي محفوظٌ – صاحبهُ ... ! .

لا أعرفُ موعدَ صدورِ الكتابِ فللمطابعِ المصريةِ مواعيدُ غير معروفةٍ ..... وساعةُ المواعيدِ في مصرَ لا ضبطَ لها ولا يمكنُ أن تضبطَ إلا في يدِ نبيٍّ مصريٍّ – إن ظهرَ في مصرَ نبيٌّ آخرُ .... ! .

أختمُ كتابي بالشكرِ لكَ ... والسلام عليك .

من الداعي
مصطفى

6 – يُثني علينا ويدعو لنا

طنطا في 2 يناير سنة 1916

أيّها الأخُ

السلامُ عليكَ ،

وإنّي شاكرٌ همّتكَ مُثن ٍ على مروءتكَ ، وأنتَ من أهل ِ الثناءِ والشكرِ ، وإن إخلاصَ مثلكَ لمن يُعاني الأدبَ لخليقٌ أن يكونَ ثواباً يغتبطُ بهِ الأدباءُ .

أسألُ اللهَ أن يسرّني بنبوغكَ ، وأن يجعلَ هذه المسرّةَ دانيةً قريبةً فإنّي أرى فجركَ قد بدأتْ تباشرهُ .

وسلامهُ تعالى ورحمته وبركاتهُ .

الداعي
مصطفى صادق الرافعي .

7 – رأيهُ في طريقةِ الجاحظِ في دراسةِ الأدبِ

( نزلتْ بنا نكبةٌ ماليّةٌ ذهبتْ بكل ما كانَ يملكُ أبي وخرجَ حكمُ قريتنا من بيتنا بعد أن ظلّ فيهِ قروناً طويلة يتولاّهُ الخلفُ منهم عن السلف ، وكنتُ قد أشرتُ إلى ذلكَ في كتابٍ أرسلتهُ إليهِ ، فجاءَ كتابُ منهُ هذه صورتهُ ) :

طنطا في 10 يناير سنة 1916

أيّها الأخُ

السلامُ عليكَ ،

وقد جاءني كتابكَ وكأنّما هو جرحٌ دامٍ يحملُ السهمَ الذي أدماهُ ، فدع ِ الأمرَ للذي قدّرَ الأمرَ ، وكأيّن من كارثةٍ انجلتْ عن نعمٍ كثيرةٍ .... ، وأمّا العملُ الذي طلبتهُ فلا أرى أينَ أجدُه لكَ ، وكيفَ أجدهُ في هذه الضائقة التي تركت الناسَ كأنّهم على بعثٍ لا يقولُ الواحدُ منهم إلا نفسي ! .

إنّنا في وقتٍ لا ينفذُ فيه النورُ فلا أدري كيفَ أشيرُ عليكَ أن تنفذَ أنت ، ولكنّي أسأل الله أن يهبكَ حظّاً من التوفيقِ فما يفتحُ اللهُ للناس ِ من رحمةٍ فلا ممسكَ لها .

كتبتُ لكَ أسماءَ بعض ِ كتبِ الاجتماع ِ والفلسفةِ الأدبيةِ ، ومن هذه الأسماءُ " كتاب الفلسفةِ النظريةِ " وفيهِ وحدهُ الكفاية ُ ، وقد طبعَ منه ستة أجزاء في علم الاجتماع والمنطق والفلسفةِ وعلم التربيةِ والأخلاق ، والكتابُ أصلهُ اثنا عشر جزءاً وهو تأليف قوم ٍ من أعلم ِ الناس ِ بتلكَ الفنون ِ ، وكان تعريبهُ وطبعهُ في بيروت ولكن أينَ منّا بيروتُ ؟! .

اقرأ كل ما تصل إليهِ يدكَ فهي طريقة ُ شيخنا الجاحظِ ، وليكن غرضكَ من القراءةِ اكتساب قريحةٍ مستقلةِ وفكرٍ واسع ٍ وملكةٍ تقوّي على الابتكار .

فكل كتابٍ يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرأهُ ، وما دمتَ لا تعرفُ غيرَ العربيةِ فالتمس مجلداتِ المقتطفِ وخذ منها كل ما عثرت به ، فإنهُ مدرسة في بعض ِ الأغراض التي تتوخى إليها .... ، أرجو لكَ الخيرَ ، وأدعو لكَ بالتوفيق ِ .

وأختمُ بالسلام ِ عليك .

مصطفى صادق الرافعي

( أمّا الكتبُ التي أشار إليها فهي ) :

تاريخ التمدّن لكيزو ( طُبع من زمن بعيد )

سر تقدّم الإنجليز

سر تطور الأمم

إميل القرن التاسع عشر

التربية الحديثة لمؤلف سر تقدّم الإنجليز

كتاب الفلسفة النظرية ( طبع في بيروت )

مجلة المقتبس – وفيها شيءٌ كثيرٌ من الموضوعاتِ الاجتماعية –

كتاب الواجب تعريب طه حسين

السلطة والحرية لتولستوي تعريب بعض الأقباط

أما كتبُ التاريخ لإهمها : تاريخ الطبري أو ابن الأثير ، أو ابن خلدون ، ولا غنى عن تاريخ ِ أبي الفداء وتاريخ القرماني لجمعهما واستيفائهما .

وكتبُ التاريخ ِ كثيرة وفي بعضها كفاية لغير المؤرخ ، أمّا هذا فحاجتهُ في كل كلّها .

8 – رأيهُ في أخلاق سادتنا الكبراء !

طنطا في 29 يناير سنة 1916

أيّها الأخُ

السلامُ عليكم ، وبعدُ ،

فقد أخذتُ كتابكم وأنا على سفرٍ إلى مصر فلم أستطع الرد يومئذٍ ، وإنّي أشكرُ لكم عنايتكم فقد وفيتم بما فوق الأمل ِ – باركَ الله فيكم وفي إخلاصكم - .

أمّا ما وصفتم من أمرِ صاحبكم – الرجل الكبير – الذي أمّلتَ أن تكبرَ به ! ، فكأنّكَ لمّا تعرف هؤلاءِ الكبراء ، ولم تقرأ قولهُ تعالى : (( ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا )) ، فلعنة ُ الله على كل 999 من الألف من هذه الفئةِ .... ! .

إن الناس على خوفٍ وتوثّبٍ وكلّهم يفزعُ بنفسهِ ويفزعُ من نفسهِ ولعل اللهَ يُحدثُ بعد ذلكَ أمراً .

حدّثني عنكم صاحبُ البيان ِ بما سرّني من أخلاقكم وشمائلكم وذلكَ ما كنتُ أتوسّمهُ ، فليتَ اللهيجعلكَ من كبار ِ الأغنياءِ أو يجعلَ في كبار ِ الأغنياءِ مثلكَ ، حتى لا نضيعَ ولا يضيعَ الأدبُ ، وآه من " ليتَ " هذه إنّها من أكبر علل الدنيا ! .

أختمُ بإهدائكم طيّبَ التحيّاتِ وبالدعاءِ لكم ، واللهُ المستعانُ .

والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته .

الداعي
مصطفى صادق الرافعي

9 – رأيه في مؤلفاته وطبعها

طنطا في 30 يناير سنة 1916

أيُّها الأخُ الفاضلُ :

السلامُ عليكم ، وبعدُ ،

فقد كتبتُ إليكم أمس بعد حضوري من مصر ، لأنّي لبثتُ هناكَ أيّاماً لتنسّم الرَّوحِ الأدبي الذي اختصّت به تلك العاصمةُ الجميلةُ ..... ،

أمّا ما أشرت إليهِ من طبع ِ كل ما أكتبهُ فليس ذلك من همّي ولا أنا ميّالٌ إليهِ ولا مبالٍ به ، وقد كان بعضُ أبناءِ عمومتي يستميلني كتباً ورسائلَ في معانٍ مختلفةً ، حتى اجتمعَ لهُ بعد ذلك جملةٌ صالحةٌ ، فأرادَ طبعها ولكنّي نهيتُهُ وأعلمتهُ أنّي أبرأ منها إذا هو نشرها .

وهنا أشياءُ أخرى لا أريدُ أن أبوحَ بها ، ولكنها في الجملةِ أشياءُ أساعدُ بها رِفداً ، فينتحلها أهلها وينشرونها بأسمائهم وأنا بذلك راضٍ ومسرورٌ .

وليتَ الزمانَ يهيءُ لي أسبابَ التفرّغِ للكتابةِ والشعرِ ، ويغنيني عن التكسّبِ من الوظيفةِ التي أنا فيها – وهي في المحكمةِ الأهليةِ هنا – ولكن ماذا أصنعُ والأمّةُ خاملةٌ كما ترونَ ، فلا تكادُ تقومُ بعيشِ أديبٍ واحدٍ ليخدمها مدّة عمرهِ ، دعنا من هذا الهمِّ فكم شيءٌ في مصر ضياعٌ والحمدُ للهِ ولا كفرانَ للهِ .

وذكرت قطعة البخيلِ التي نُشرت في " البيانِ " فهذه القطعة صدرُ روايةٍ طويلةٍ ممّا يُنشرُ في " المساكينِ " ، وكذلك قصيدةُ ( على الكواكبِ الهاويةِ ) وهي أيضاً فصلٌ في المساكينِ ، وقد كنتُ نظمتها لحفلةِ الأوبرا ، ومن أجلِ ذلكَ لم أشرْ فيها إلى طلبةِ الأزهرِ ، بل جعلتها عامّةً كما رأيتمْ .

كنتُ أحبُّ أن أطيلَ كتابي ولكن بي مرضاً من البردِ تتألمُ لهُ الصحيفةُ والقلمُ ، فأعتذرُ إليكم .

والسلامُ عليكم .

الداعي
مصطفى صادق الرافعي

10 – يريدُ العملَ ولكنّهُ يجدُ العوائقَ

طنطا في 23 مارس سنة 1916

أيّها الأخُ :

السلامُ عليكم ورحمةُ الله ، وبعدُ ،

فلقد تلقّيتُ كتابكم ويسرّني أن تكونَ لكم هذه الغيرةُ على الأدبِ وأهلهِ فإن ذلكَ ممّا يدلّ على أن لكم نفساً عظيمةً تبرزُ بمواهبها شيئاً فشيئاً ، حقّقَ اللهُ الأملَ فيكم ، وكان لكم بعونهِ وتوفيقهِ .

وفي كتابكم فصولٌ :

فأمّا الكلامُ عن الكتّابِ والشعراءِ فلهُ وقتٌ يأتي – إن شاءَ اللهُ – بعد أن يفرغَ الذرعُ لما هو أهمّ وأولى بالتقديم ِ .

وإنّي أستشفُ من كتابكَ أنّكَ لا ترى صورتي من نفسكَ إلا في تقويمٍ فلكيّ ، فمتى ذكرتني قلتَ هو الآن يوشكُ أن يلقي قلمهُ من آخرِ صفحةٍ في كتابِ الشعراءِ ، وفي شهرِ كذا يكونُ قد أنجزَ ... وفي كذا يكونُ قد أنهى وهلمّ من هذا التنجيم ِ ، فأنا أريدُ أن أعملَ كثيراً ، ولكنّي أضجرُ وأمرضُ وأجدُ من العوائقِ أكثرَ ممّا أجدُ من الإرادةِ ، وفي الثلاثةِ الأشهرِ الأخيرةِ مرضتُ نحو ثلثيها ، فتركتُ المساكينَ وغيرَ المساكينِ واهتممتُ لنفسي .

ثمّ إنّ هذا الكتابَ " المساكين " سيتأخرُ أكثرَ ممّا قدّرتُ لهُ ، ولا حيلةَ لي في ذلكَ ما دامت الدنيا كلّها تدورُ كالإعصارِ ، وممّا يسرّكم أن مشيل بك لطف الله اشتركَ منه في مئةِ نسخةٍ مرةً واحدةً ، ودفعَ ثمنها مع أنّي لم أطلبْ إليهِ ، ولكنّ بعضَ الأصدقاءِ عرضَ لهُ بذلكَ .

فالكتابُ يتأخّرُ لا من ضعفٍ ولا من تقصيرٍ ولا من قلةٍ ، ولكن لأنّ الأعمالَ لا بدّ أن تتأخرَ في مطابعنا ، أو لأنّ كتابَ المساكينِ لا بدَّ أن يكونَ مسكيناً مثلهم ... فصبراً ... ، وأمّا الشيخُ علي فهو رجلٌ حقيقيٌّ كما وصف " البيانُ " ، ولو رأيتهُ لاستولى على نفسكَ ولأعجبكَ من جنونهِ العقلُ كلّهُ ... .

وأمّا " ذكرى أبي العلاءِ " فلم أقرأهُ إلى الآن ، ولا أنا أميلُ إلى قراءتهِ ولكنّي اطّلعتُ على فصلينِ قصيرينِ ، أحدهما عن بغداد في " المقطمِ " ، والثاني عن نشأةِ المعرّي في مجلةِ " فتاةِ الشرقِ " .

فإن كان كل ما في الكتابِ على هذا النمطِ فليسَ في الكتابِ إلا ... فإنّ فصلَ بغداد منقولٌ ببعضِ التصرّفِ عن " معجمِ ياقوت " ، ومع ذلكَ ففيهِ خطأ كبيرٌ ، لأنّ ياقوت وصفَ أموراً تتعلقُ ببغداد في مواد مختلفةٍ من معجمهِ ، وقصرَ طه في الاطلاعِ عليهِ ، ومن هنا تطرّقَ إليهِ الخطأ .

والفصلُ الآخرُ حشفٌ وسوءُ كيلةٍ – كما يُقالُ – لأن آراءِ المؤلفِ ضعيفةٌ واهيةٌ ، ويخيّلُ إليّ أنَ أكبرَ غرضهِ في هذا التأليفِ أن يجيءَ بكلامٍ كثيرٍ يخرجُ في مجلدٍ ضخمٍ ، فهو يزن الكلامَ بالرّطلِ ... ومع ذلكَ فربّما كان الكتابُ مفيداً وربّما كان جيّداً ، ولكنّ الفصلينِ اللذينِ وقفتُ عليهما لا شيءَ ولا شيءَ .

ولا يمكنكم أن تظفروا بكتابِ " الفلسفةِ النظريةِ " إلا من بيروت ... وهذا الكتابُ عميقٌ يحتاجُ إلى كدِّ الفكرِ ، على أنّهُ لم يطبعْ كلهُ لأنّهُ 12 جزءاً ، طُبعَ منه سبعةُ أجزاءٍ على ما أتذكرُ .

أختمُ بطيبِ التحيّاتِ- إنّي كسولٌ في هذه الأيامِ وأراني في حاجةٍ إلى الكسلِ أيضاً - .

والسلامُ عليكم ورحمة الله .

من الداعي
مصطفى صادق الرافعي

11 – ما أصابهُ من تعبٍ في إعجازِ القرآن

طنطا في 28 مارس سنة 1916

أيّها الأخُ :

السلامُ عليكم .... ،

أمّا قطعةُ " زهرِ الربيعِ " فإنّي أريدُ كتابتها ولكن متى جاءَ وقتها ، وهذا الوقتُ لا أدري متى هو ، فإنّي لا أكتبُ عندما أريدُ ، ولكن يضطرني الموضوعُ نفسهُ إلى الكتابةِ فيهِ .

وأحبُّ أن أعلمكم – وحدكم – أنّ كتابَ " المساكين " لا يزالُ منه فصلٌ لمّا يكتبْ ، لأنّ الأشهرَ الماضيةَ كانت كثيرةَ الأمراضِ عليَّ كما أعلمتكم من قبلُ ، وأمراضي كلّها عصبيةٌ وقد ترادفتْ منذُ فرغتُ من الجزءِ الثاني من " التاريخِ " ، لأنّي تعبتُ فيهِ إلى أقصى ما يتحمّلُ جسمي وعقلي .

ولذلك تراني أكتبُ يومينِ أو ثلاثة ، ثمّ أضطرُ إلى تركِ الكتابةِ عشرة أيّامٍ أو أكثر ، مع أنّ جسمي – والحمد لله – غيرُ ضعيفٍ ولكن أعصابي قد تأثرتْ من دماغي كثيراً ، ذكرتُ لكم كلَّ هذا لكيلا تستعجلوا " بالمساكين " ولا تسأموا الانتظارَ .

والسلامُ عليكم ورحمة الله .

مصطفى صادق الرافعي

12 – رأيهُ في كتب المنطقِ والبلاغةِ وفي " المنفلوطي "

طنطا في 16 أبريل سنة 1916

أيّها الأخُ :

السلامُ عليكم ،

ولقد وصلَ كتابكم الآن وإنّي أعجلُ بالرّدِ لأنّ عليَّ أعمالاً كثيرةً أريدُ أن أفرغَ لها ، أمّا كتبُ المنطقِ فلا فائدةَ منها إلا في تفتيقِ الذهن ِ ، وهذه الفائدةُ على أتمّها في كتبِ الكلامِ العربي " كالمقاصدِ " و " المواقف " وغيرهما ، على أنّ ذلكَ لا يمنعُ من قراءةِ المنطقِ العربي اليوناني .

ولكنّ المتأخرينَ جعلوا هذا الفرعَ من العلمِ غايةً في الترتيبِ والسهولةِ والفائدةِ – وأريدُ بالمتأخرينَ علماءَ الإفرنجِ - ، ومن أجزاءِ " الفلسفةِ النظريةِ " جزءٌ خاصٌ في المنطقِ .

ورأي – أنا – أن علمَ المنطقِ كعلمِ البلاغةِ لا فائدةَ في كليهما لمن لا يستطيعُ أن يكونَ منطقيّاً وبليغاً بدرسهِ وبحثهِ .

وإنّي أذكرُ لكم خبراً عن نفسي :

فقد كنتُ أوّل الطلبِ منذُ 17 سنةً قصدتُ مصر واجتمعتُ هناكَ بطائفةٍ من أهلِ الفكرِ ، وكانَ منهم " عبدالعزيز الثعالبي " ، وهو رجلٌ تونسيٌ مؤرخٌ سياسي كان يدرس في أوربا بعض فروع المشرقيّاتِ ، ومن أمرهِ أنّه لا يتكلّمُ إلا الفصحى ، فساجلتهُ الحديثَ بلغتهِ وطريقتهِ المنطقيةِ – ولم أكن قرأتُ في المنطقِ شيئاً غير فصلٍ واحدٍ من كتابٍ أزهريٍّ يبتديءُ به المجاورون وقد أنسيتُ اسمه - ، فقال لي أخيراً : على من درستَ المنطقَ ؟ ، قلتُ لهُ : من الذي وضعَ هذا العلمَ ؟ ، قالَ : أرسطو ، قلتُ : ولم لا تكونُ قريحتي في ذلكَ كقريحةِ أرسطو ؟ ... .

أسوقُ لكم هذه العبارةَ لتعلموا أنّ الفنّ نفسه غيرُ ضروريٌّ على ما هو في كتبهِ ، فإنّ زمن المصطلحاتِ المنطقيّةِ قد مضى ، وكانت هذه المصطلحاتُ لازمةً للجدلِ ، ولا جدلَ اليومَ ... ويمكنكم أن تبدأوا القراءةَ في الكتبِ المقرّرةِ لطلبةِ الأزهرِ ، وهي شروحٌ وحواشٍ كلّها مفيدٌ ... .

وأمّا الكلامُ عن الشعراءِ والكتّابِ ، فلا أستطيعُ أن أقولَ قولاً أؤخذُ بهِ ، ورأيّ علماءِ العربِ في ذلك هو رأي فلاسفةِ النقدِ اليومَ ، وذلك أنّهم يكرهون الكلامَ عن رجل ٍ لا يزالُ حيّاً ، ولكن متى ختم تاريخهُ تكلّموا فيهِ ، لأنّ من الناسِ من ينبغُ في آخرِ عمرهِ نبوغاً يفوقُ الوصفَ ، ومنهم من يكونُ نبوغهُ في الكهولةِ أو في الشبابِ وهكذا ، وفي " حاصلِ المطلوباتِ " أنّ كتابَ الشعراء والكتّابِ لا يكونُ إلا بعد سنين طويلةٍ – إن فسح اللهُ في الأجل ِ - ، إذ هو في الحقيقةِ تاريخٌ للأدبِ العصري .

أمّا كلماتُ " المنفلوطي " فلها خبرٌ ، وذلكَ أنّه ظهرت منذ 12 سنة – على ما أتذكرُ – مقالةٌ عن الشعراءِ في مجلّةِ " الثريا " كان لها دويٌ بعيدٌ واشتغلت بها الصحفُ والمجلاّتُ كلّها ، ونسبتُ هذه المقالة إليّ أنا ، ووصلتُ إلى الخديو فقام " شوقي وقعدَ " ، ثم شمّر لها السيّدُ " البكريُّ " ، وهو الذي أوعزَ إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجرهُ لذلكَ ، فكتبَ المنفلوطي كلماته في مجلةِ " سركيس " وهذه الكلماتُ غيّر ترتيبها ثلاث مراتٍ ، حتى صارت إلى الحالةِ التي نشرتْ بها أخيراً .

ففي المرةِ الأولى كان رأسُ شعرائها السيّدُ " البكري " ، وفي المرةِ الأخيرةِ صار " شوقي " ... وهذا هو السببُ في ذم المنفلوطي إيّايّ بتلكَ العباراتِ التي كتبها عنّي .

أمّا قبلَ ذاكَ فكانَ الرجلُ يقرّظني و ... ينافقُ لي على أنّي من يومئذٍ طرحتهُ ولم أعدْ أكلّمهُ ، لأنّي لا أتمسّكُ بشيءٍ كالأخلاقِ ، ولذلكَ لا أرجعُ عن كلمةٍ قلتها ، ومتى انصرفتْ نفسي عن شيءٍ لا تقبلُ إليهِ آخرَ الدهرِ .

فأنت ترى أنّ " المنفلوطي " لا يكتبُ عن بحثٍ ولا روايةٍ ، وإنّما هي كلماتٌ يصوّرُ بها ما في نفسهِ .

وإنّي أعجبُ لسخافةِ كلمتهِ في الشيخ ِ " جاويش " و " فريد وجدي " ، وهما عالمانِ من كبارِ أهلِ الفضلِ وأصحابِ الأثرِ في هذه النهضةِ ، ومن ذوي الأخلاقِ الراقيةِ ، ولو رأيتم الشيخَ " عبدالعزيز " لرأيتم الأدبَ والرّقةَ والذّكاءَ والأنفةَ والتواضعَ في رجلٍ واحدٍ ، وهو بعدُ عالمٌ مدققٌ يحملُ شهادةَ علمِ النفسِ وفنّ التصويرِ من جامعةِ " كمبردج " وشهادة " دار العلوم " ، في حين أنّ الذي كتبَ عنهُ إنّما يحملُ شهادةَ التقرّبِ من " سعد باشا زغلول " ، وبهذه الكلماتِ أرادَ أن يرضيَهُ ويّرضيَ أخاهُ المرحومَ " فتحي باشا " ، وفي هذا كفايةٌ .

والخلاصةُ : أنّ " المنفلوطي " يُحسنُ أن يكتبَ ولكنّ الكتابةَ غيرُ الدرسِ ، وما الذي يكتبُ الحكمَ كالذي يُصدرَ الحكمَ .

فألحّوا على الشيخِ " البرقوقي " أن يستوفيَ مقالاتِ الأدبِ العصريِّ فإنّي لم أرَ خيراً منها .

كنتُ ذكرتُ لكم أنّ في " المساكين ِ " فصلاً لم يُكتب ، فقد كُكتبَ – والحمدُ للهِ – وأنا مُجدٌّ في إظهارهِ ، واللهُ المُستعانُ .

والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتهُ .

الداعي
مصطفى صادق الرافعي

shreeata 9 - 6 - 2011 01:33 AM

اخي صائد
يعطيك الف الف عافية على هذه المجهود الرائع
جميل ما قرات هنا
تحيات لك
سلمت

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:40 AM

قطرات من "السحاب الأحمر" لمصطفى صادق الرافعي
عاش مصطفى صادق الرافعي بين عامي 1880 و1937, ولد في قرية بهتيم بمديرية القليوبية بمصر, لأسرة لبنانية كانت تقيم في طرابلس الشام وهاجرت إلى مصر, حيث اشتغل معظم أفرادها بالقضاء الشرعي. وقد بدأ حياته الوظيفية كاتبا بمحكمة طلخا الشرعية - بعد أن حفظ القرآن وجوده وأتمّ تعليمه الابتدائي والثانوي - ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود ثم استقر في طنطا حتى وفاته.

وكما كان مصطفى لطفي المنفلوطي علما على مدرسته في الكتابة, وصاحب أسلوب ظل سائدا لعقود كثيرة في مستهل القرن الماضي, فإن الرافعي - بدوره - أصبح بعد المنفلوطي رمزا لمدرسة أسلوبية مغايرة, سادت بدورها وكان لها تلاميذها ومريدوها والمتحمسون لها, بالرغم من تصنيف صاحبها ممثلا للمدرسة القديمة التي ثار عليها المجددون. لكن قراءه لم ينسوا له أنه وقف نثره - في معظمه - على القضايا الاجتماعية والدينية والفكرية, وأنه خاض عدة معارك ضارية دفاعا عن القيم الدينية والإسلام, فأصبحوا ينظرون إليه باعتباره كاتبا إسلاميا قبل أي شيء آخر.

وقد عُرف عن الرافعي حبه للأديبة (ميّ) صاحبة الصالون الأدبي الشهير, والكتابات الشعرية والنثرية المرهفة - بالعربية والفرنسية - وإن كان حبا من طرف واحد. وقد عبّر الرافعي عن هذا الحب اليائس في رسائل أدبية - متوهجة بروح الشعر والاشتعال العاطفي - ضمنها كتابيه: (أوراق الورد) و(السحاب الأحمر).

يرى محمد سعيد العريان - تلميذ الرافعي ومريده الكبير - في تقديمه لكتاب (السحاب الأحمر) أنه كتاب يقوم على سبب واحد, حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة - على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: هو أن قلبا وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه, فما يملك إلا أن يصيح بملء فمه: (إنني أبغضك أيتها... أيتها المحبوبة!).

ثم يقول العريان: (كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا هذا الكتاب يقرأ لي بعض فصوله, فاستمهلته عند فقرة مما يقرأ ليجيبني عن سؤال يكشف عن شيء من خبرها ومن خبره, فوضع الكتاب إلى جانبه وحدّق فيّ طويلا, ثم سكت, وسبحت خواطره إلى عالم بعيد, وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه, ثم قال: (أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين عينيّ والمصباح?). ثم دسّ يده في درج المكتب فأخرجه إليّ وهو يقول: (ضع النصاب بين عينيك والمصباح وانظر. ألست ترى سحابا يترقرق بالدم كأن قلبا جريحا ينزف? في شعاعة هذا النور تراءت لي هذه الخواطر التي تقرؤها في السحاب الأحمر). ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال!

في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه (السحاب الأحمر) لا ينسى الرافعي أنه شاعر, فيقول:

من للمحبّ ومن يُعينه?
والحب أهنؤهُ حزينهُ!

أنا ما عرفتُ سوى قساوته
فقولوا كيف لينُه?

إن يُقض دينُ ذوي الهوى
فأنا الذي بقيت ديونُه

قلبي هو الذهب الكريم
فلا يفارقُه رنينُه

قلبي هو الألماس يعرف
من أشعته ثمينُه

قلبي يُحب وإنما
أخلاقُه فيه ودينُه




حتى يقول:

ويلي على متدلّلٍ
ما تنقضي عنه فنونُه

كيف السلو وفي فؤادي
لا تُفارقني عُيونُه?




وفي الفصل الثاني من كتاب (السحاب الأحمر), وعنوانه: النجمة الهاوية, طائفة من الخواطر في طائفة من النساء كتب الرافعي يقول:

(وترقرق السحاب فإذا هو كنضح الدم, وإذا هو يفور فوْرهُ, فبان كأنما يتدفق من طعنةٍ أرى دمها ولا أرى موضعها, لأن هذا الشلال الأحمر يتفجر منها.

ورأيتها هي طالعة كالشمس حين تغرب مُحمرّة يتغالب طرفا الليل والنهار عليها, ففيها أواخر النور وأوائل الظلمة, وسوادها يمشي في بياضها.

قلت يوماً في صفة إحدى القصائد البديعة: إنها فن من الشعر, وفي إحدى الصور المُحكمة: إنها فن من التصوير, وفي تلك الجميلة: إنها فن من المرأة, أما الآن فقد عرفنا أن اصفرار الشمس إيذان بسواد نصف أرضها.

ويقول العرب: امرأة مجلوّة, ويفسرون ذلك بأنك إذا رامقْتَ فيها الطرف جال, يعنون أنها من جمالها ذات شعاع, فيجول الطرف فيها لأجل شعاعها وبريقها, أفلا يجوز لنا أن نزيد في هذه اللغة: وامرأة صدئة, ونفسرها بأنها هي التي إذا اتصلت بها تركت مادة الصدأ على روحك اللامع, لأنها كهذا الصدأ طينت على طينتها!

***

لست أريد أن أصنع في هذا الفصل كتابة حتى لا أدير الكلام على شيء, فقد مسخت تلك النفس في نفسي فخلصت لي منها هذه الكلمة الجميلة: (تتم آمالنا حين لا نؤمّل), ولكني مرسل مطرة سحابي تهطل ما هطلت. فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنّته, ومن نسلها نساء يُضيّعن على الرجل الجنة وخيالها! ولو استطاعت الأرض أن تفرّ من تحت قدمي مخلوق براءة منه, لكان أول من تختزل تحت رجليه واحدة من هذا النوع!

ملْحُ الله لا يحلو أبداً, فماذا تصنع في نفسٍ لو سالت لكانت بحيرة?

***

بعض النساء تنقص بها الحزن, وبعضهنّ تغيّر بها الحزن, وبعضهن تتم بها حزنك.

***

في قلب الرجل ألف باب, يدخل منها كلّ يومٍ ألف شيء, ولكنْ حين تدخل المرأة من أحدها لا ترضى إلا بأن تُغلقها كلها!

***

النساء منجمُ السعادة, فرجل واحد لا يكاد يمدّ يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة, ومائة رجل يغربلون حصى المرأة وترابها ليجدوا فيها شذْرةَ تلمع!

***

كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء, ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه, فأغْضِب المرأة تعرفها!

***

الحبيب من تلتهمه بكلّ حواسك, فإذا رأيته فقد رأيته وسمعْته وذقته ولمسْته وشممته, والبغيض من تقيئه من كل حواسك.

***

في المرأة حقيقة, ولكنها لن تعرفها إلا بفكر رجل, فالكاملة من لا تسيء أحدا, وإلا أساءت إلى حقيقتها!

***

تجاورت شجرة من الحسك (أي الشوك) وشجرة من الورد, فزهت الورة زهواً عاطرا بطبيعة العطر الذي في مادتها. فقالت لها الحسكة: ويحك! ما هذا الزهو الذي أفسدت به محلك من نفسي? قالت الوردة في كلام هو عطر آخر: لا تتعبي نفسك في تحقيري, فلست أفهم لغة الشوك إلا إذا كان يُنبت الورد!

***

يا من على الحب ينسانا ونذكرهُ
لسوف تذكرنا يوماً وننْساكا

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر
له صباح متى تُدركُهُ أخفاكا)




***

في موضع آخر من كتابه (السحاب الأحمر) يُطلعنا الرافعي على نموذج كاشف ومُعبّر, عن أسلوبه الأدبي في هذا اللون من كتاباته. صياغة متأنقة, ومفردات تشي باتكائه على موروث اللغة وحديثها في آن, وسيطرة كاملة على أدواته, ووجدان يعتصم بالكبرياء وهو يسترُ نزفه الداخلي وأنينه الخافت خشية افتضاح أمره!

يقول الرافعي وهو يتحدث عن صاحبة أجنبية لأحد أصدقائه: (أما صاحبته فامرأة فرنسية, جميلة الوجه في طلعة الصبح, شابة الجسم شباب الضحى, ملتهبة الأنوثة كشعاع الظهيرة, رقيقة الطبع رقة الأصيل, زاهية المنظر في مثل شفق المغرب من تأنقها, ثم هي تنتهي من كل ذلك إلى مخبرٍ أشد ظلمة من سواد الليل.. ومن أين اعتبرتها ألفيتها رذيلة مهذبة يترقرق فيها ماء العلم ويجول في حسنها شعاع الفلسفة, كأنها عين فاتنة تدور فيها دمعة دلال!

ولم أكد أراها حتى أخذني جمالها, فإن لها عينين ركّبتا تركيبا يجر المصائب على القلب, تلقيان أشعة ضاحكة أو عابسة, يُخلّقُ منها للقلوب حوادث وتواريخ, وترمي بنظرات تُبرئ الصدور أو تُمرضها, وتبسم بوجهها كلّه نوعا من الابتسام يكاد يسيل من كل ناحية في وجهها قبلات, أما افترار شفتيها فهو جمال على حدة, يشبه نقل معاني الخمر من فمٍ إلى فم.

امرأة ساحرة, لا أدري إن كانت بُنيت على السحر أو على الحب, ولا إن كان هذا الحب قد خُلق لعنة عليها, أم هي خُلقت لعنة عليه, والحبُّ دائما بركة امرأة, ولعنة امرأة! والتي تزرعه في كل مكان هي التي لا تحصد منه شيئا, فإن نالها شيء منه كان تعباً عليها روْحاً لسواها.

وأشد ما في هذه المرأة الجميلة من الفتنة, اجتماع شهواتها في صوتها النديّ المُستطرب المتحزّن, الذي لا يخلو أبداً من حرفٍ تسمع فيه همس قبلة من قبلاتها!

بيد أني مع كل ذلك استعصمتُ بفلسفتي وحكمتي, فلم أرها إلا في مثل حريرة التفاحة? إذا أفرط عليها النضج فابيضّت واحمرّت وفاحت ولمعت وإنّ العفنَ لَبادٍ من تحتها يُحذّر منها ويُنذر, وفي مثل فروة الدبّ: استرسلت ولانت في نعومتها ولكن لا منفعة منها إلا بقتل لابسها وإزهاق الحيوان كله في سبيل الجمال الظاهر من جلده.

ونظرت إليها نظرة تخطّت بها الشباب وأيامه, فإذا هي بائسة أملق الدهر حُسنها وكان ذهبا على جسمها وفضة, وإذا هي عجوز هالكة قد انحنت تحت لعنات ماضيها وتركتها دنياها كالسجن المتهدم, لا يُذكّر مع انتقاضه إلا بلصوصه ومجرميه وعقابهم وآثامهم, وتشقى بمعانيه بعد الخراب حتى حجارته وحتى ترابه!

وأبصرتُ في هذه الحسناء اللّعوب التي تستوقدها الضحكة بعد الضحكة, تلك الهامدة المريضة التي تُطفئها الحسرة بعد الحسرة, وسقطت الشجرة الخضراءُ النامية فإذا في مكانها جذْع خشبي مُلْقى زهيد فيه نور السماء وطين الأرض معا!

وتمثلت لي هذه المتكئة على طرازها وأرائكها, تتبرج في سندسها وحريرها, فرأيتها ممدودة في حفرتها مُسجاة بأكفانها, قد هيل عليها ترابها ولم يرحمها راحم ولا النسيان يستر رذائلها عند من عرفوها, وقد اجتمع عليها بعد عشاقها من دود الناس عشاق آخرون من دود الأرض, ويفنى جسمها حين يفنى, ويبقى ضميرُها الروحي إلى الأبد ضمير مومس!

فلما وضعتُ أمرها على ما خُيّل إليّ من عاقبتها, إذا هي تفور كما يفور النبع القذر بالحمأة التي فيه, وإذا هي كالخشبة المتقدة في حريقها: من فوقها ظُلَلٌ من النار ومن تحتها ظلل, وإذا جمالها قد استحال في عينيّ وانفصل منها فأظهرها وظهر معها في بريق الزجاجة من الخمر بجانب السكّير المتحطم, تتساقط نفسه مرضا وسكرا, فكل ما كان فيها جمالا فهو فيه أقبح القبح!

ورثيت لها أشدّ رثاء وأبلغه في الرحمة والرقة, حتى عادت نظراتها تقطر على نفسي دموعا سخينة كدموع الذلّ! ويا حرّة قلبي من الإشفاق عليها وأنا أرى في احمرار جمْرتها سواد فحمها, وفي أسباب سرورها أسباب همّها, ويا لهفي عليها إذ أرى هذه الجميلة التي لم تنظر أكثر ما نظرت إلا إلى خطيئة, ترفع نظرها أحيانا إلى السماء بقوة, في داخلها, كأنها تقول لمن يفهم عنها: إنْ هنا القدَر وهناك المُقدّر!

ويا بؤسها حين لم تعد تظهر في روحي إلا كما يتخايل ظل القمر في الماء: أنظرُ فيه الصورة من غير معنى, والضوء من غير قبس, وأرى فيه الخيال وليس فيه القمر!).

***

وأخيرا, يقول الرافعي:

(لا يصحّ الحب إلا بين اثنينْ إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا.. ومن هذه الناحية كان البغضُ بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة, إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة, وأكبر خصيمين في عالم النفْس, مُتحابّان, تبَاغَضا)

صائد الأفكار 9 - 6 - 2011 01:47 AM

الابتزاز العــــاطفي http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/frown.gif


عندما يستخدم الناس القريبون منك الخوف , والإلزام, والشعور بالذنب ليبتزوك



مؤلفة الكتاب د. سوزان فوروارد
يعتبر الابتزاز العاطفي شكل قوي من أشكال الاستغلال ويقوم فيه الأشخاص
القريبون منا بتهديدنا (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة )
بأنهم سوف يعاقبوننا إذا لم نفعل ما يريدونه منا , وهناك تهديد أساسي في كل نوع
من أنواع الابتزاز , ويمكن وصفه بطرق مختلفة وتوضح العبارة التالية هذا التهديد :
إذا لم تفعل ما أريده منك سوف تعاني , وقد يهدد المبتز الإجرامي باستخدام مايعرفه
عن ماضي الشخص في تدمير سمعته أو يقوم بالحصول على بعض النقود لإخفاء
ما يعرفه من أسرار ويكون تأثير الابتزاز العاطفي قريباً منا لأن المبتزين العاطفين
يعرفون مدى تقديرنا لعلاقاتنا معهم وهم يعرفون أيضا قابليتنا للجرح والدوار
كما انهم في الغالب يعرفون أسرارنا الدقيقة وهم لا يهتمون أو يبالون بنا لأنهم عندما يخافون من عدم الحصول على ما يريدونه يبدأون في استخدام ما يعرفونه عنا في تهدينا وإجبارنا على إعطائهم ما يريدون ومعنى ذلك أننا نكون مذعنين لهم بصورة كاملة .
ونظراً لمعرفتهم بأننا نريد الحب والتأييد يقوم المبتزون بتهديدنا بأنهم سوف يمنعون
هذا الحب أو يقللون منه ومن الممكن أن يجعلوننا نشعر بأننا يجب آن نستحق هذا الحب والتأييد فعلى سبيل المثال إذا كنت تفتخر بنفسك لأنك كريم أو عطوف فإن المبتز سوف يصفك بالأنانية واللامبالاة إذا لم تحقق ما يتمناه وإذا كنت تحب المال
والأمن فإن المبتز قد يوفر الظروف التي تساعد على تقديمها أو يهدد بعدم توفيرها
وإذا صدقت المبتز فإنك سوف تمنحه الفرصة لكي يتحكم في قراراتك وسلوكياتك
ونحن نعتبر أنفسنا بأننا رقصة مع الابتزاز وهي رقصة ذات خطوات وأشكال ونماذج وافرة .
كيف ينأى بعض الأذكياء عن فهم السلوك الذي يبدو في غاية الوضوح ؟
.... والإجابة هي أن المبتزون يجعلون من المستحل علينا رؤية الطريقة التي يستغلونها بها !! ويرجع ذلك إلى انهم يوجدون جواً من الضباب يغطي جميع أفعاهم
وقد نقوم بالدفاع عن أنفسنا إذا كنا قادرين على ذلك ولكنهم يعلمون جيداً أننا لا نستطيع رؤية ما يحدث لنا وقد استخدمت كلمة الضباب للتعبير عن الارتباك الذي يحدثه المبتزون بداخلنا وكوسيلة للتغلب على هذا الارتباك , ويمكن اعتبار كلمة (ضباب) اختصار للكلمات الثلاثة الآتية :

الخوف , التزام , الذنب ....
وهي الأدوات الثلاثة التي يستخدمها المبتزون ويقوم المبتزون بضخ كمية كبيرة من الضباب الغامر في علاقتهم ويؤكدون على أننا سوف نشعر بالخوف إذا تركناهم
وإننا مجبرين على إعطائهم ما يريدون وأننا مذنبون إذا لم نقم بذالك .
ونظراً لصعوبة اختراق هذا الضباب من أجل التعرف على وقت وكيفية حدوث الابتزاز العاطفي فإنني قد قمت بوضع القائمة التالية من أجل مساعدتك في معرفة
ما إذا كنت هدفاً للمبتزين أم لا .

هل يقوم الأشخاص المبتزون في حياتك بمايلي .. .. .. .. .. ؟

*يهددونك بأن يجعلوا حياتك صعبة إذا لم تفعل ما يردونه منك .
*يهددونك دوماً بإنهاء العلاقة إذا لم تفعل ما يردونة منك .
*يخبرونك بأنهم سوف يؤذون أنفسهم أو يهملونها أو يصيبهم اليأس والإحباط إذا لم تفعل ما يردونه منك .
*يريدون المزيد دائماً بغض النظر عن قدر ما نعطيه لهم .
*يؤكدون باستمرار بأنك سوف تستسلم لهم .
*يتجاهلون أو يتغاضون عن مشاعرك وحاجاتك .
*يعطون وعوداً كثيرة ونادراً ما يحافظون عليها .
*يصفونك دائماً بالأنانية , والسوء , والطمع , والتجرد من المشاعر واللامبالاة عندما لا تستسلم لهم .
*يغمرونك بالاستحسان عندما تستسلم لهم ويحرمونك منه عندما تعارضهم .
*يستخدمون المال كسلاح للوصول إلى مرادهم .

إذا أجبت بالإيجاب على سؤال واحد فقط على الأقل فإنك تكون هدفاً للإبتزاز العاطفي ومع ذلك يوجد شعاع نور يبث الطمأنينة بداخلك إذا كنت تريد النور
يملأ قلبك وهناك العديد من التغيرات التي يمكن أن تنفذها بصورة سريعة
من أجل تحسين موقفك وتعديل الطريقة التي تشعر بها .


ملك القلوب 15 - 6 - 2011 07:27 PM

مشكور يا صائد الافكار على هذه المختارات
راق لي ما اخترت لنا
تحياتي

جمال جرار 13 - 3 - 2012 03:06 AM

شـكــ ويعطيك العافية ـــرا لك ...
لك مني أجمل تحية .


الساعة الآن 07:47 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى