منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6759)

ميارى 14 - 5 - 2010 12:36 AM

4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام :
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي[1]، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام[2].
أ ـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:
أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه[3]، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها[4]، ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لا بد لمعاوية ـ من أجل تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف منها صائفة سنة 22هـ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 23هـ[5]، حيث أوغل حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس[6].
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر :
ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة إلى فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائق والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من إنطاكية ونهاية بالأسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في أفريقيا ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين[7] ، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى .
ثالثاً : معاوية رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية رضي الله عنه والياً على معظم الشَّام، فأقرَّه عثمان عليها[8]، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم، كاليمن، والبحرين، ومصر وغيرها من الولايات، وقد تطورت الأحداث، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان، وأشدّهم نفوذاً وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون، منهم: عمير بن سعد الأنصاري، وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية، فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد[9]، كما توفي علقمة بن محرز، وكان على فلسطين، فضمّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فاجتمعت الشَّام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان رضي الله عنه حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف[10]، وقد كانت فترة معاوية على الشَّام مليئة بالأحداث، وكانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشَّام في داخلها قد استقرت أوضاعها، وسادها الإسلام، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي وسيأتي الحديث عنها بإذن الله، وقد كان لمعاوية ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم، حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع، وجَّهها إلى عثمان[11] رضي الله عنه وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.
1 ـ فتوحات حبيب بن سلمة الفهري رضي الله عنه:
كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز أمراء الجهاد في زمن ولاية معاوية على بلاد الشَّام، فعند أجلبت الرُّوم على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أوّل خلافة عثمان، كتب معاوية إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة عندما انتهى من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاء في خطاب الخليفة إلى الوليد بن عقبة: أمَّا بعد: فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أن الرُّوم قد أجلبت[12] على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته، وبأسه، وشجاعته، وإسلامه في ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي[13] والسَّلام. فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أمّا بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشر آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدُّون إخوانكم من أهل الشام، فإنَّهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا ـ رحمكم الله مع سليمان بن ربيعة، فانتدب النّاس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا، حتى دخلوا الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ، فسنُّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي، وملؤوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصوناً كثيرة[14]، وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة، وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيت قائدهم الموريان ـ أي : يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة.. ثم بيتهم، فغلبهم. وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته، قد سبقته إليه[15]، وواصل حبيب جهاده، وإنتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية، وأذربيجان، ففتحها إمّا صلحاً. أو عنوة[16]، وقد كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ،وفتح حصوناً، ومدناً كثيرة[17]، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط، وملطية، وغيرها[18]،
2 ـ غزوات معاوية في عهد عثمان في البر :
أدرك معاوية رضي الله عنه بأن إزالة خطر الروم وتهديدهم للمسلمين لا يتم إلا بمواصلة غزو الروم وتنشيط حركة الجهاد بشكل مستمر في الثغور الشامية والجزرية[19] وشحنهما بالمرابطين وتعهدها على الدوام، وقد أخذ منه ذلك وقتاً طويلاً وبذل فيه جهداً كبير خلال ولايته تلك في عهد عثمان، ففي سنة خمس وعشرين للهجرة قام معاوية بجولة عسكرية على الثغور الشامية، فوجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك. وكانت الولاة تفعله[20]، وفي سنة إحدى وثلاثين غزا من ناحية المصيصة فبلغ درولية[21]، فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين النطاكيه إلا هدمه[22]، وكذلك الشأن في الثغور الجذرية فقد أولاها عنايته فقد وجه في الأيام الأولى لولايته تلك، كلا من حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل السلمي إلى شمشاط ففتحها. كما وجه حبيب بن مسلمة إلى إعادة فتح ملطية بعد أن انتقضت، ففتحها عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين مع عاملها، كما قام معاوية بنفسه بعد ذلك بحملة أخرى يريد التوغل في أرض الروم فقد مرَّ على ملطية فشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرهما وذلك لكي تكون طريقاً آمناً لحملات الصوائق. كما غزا حصن المرأة من الثغور الجزرية في السنة نفسها[23]، وكان يتعهد حصن الحدث، وبنى مدينة مرعش وأسكنها الجند، وكل هذه المدن والحصون من الثغور الجزرية[24]، ولما اطمأن معاوية إلى قوة جانبه بعد تلك الإجراءات أخذ يغزو في عمق الأراضي الرومية، فقد قاد بنفسه غزوة سنة اثنين وثلاثين للهجرة توغل فيها بجيشه حتى وصل مضيق القسطنطينية[25].
3 ـ معاوية يلتمس من عثمان رضي الله عنهما السماح له بالغزو البحري:
كان معاوية رضي الله عنه يلح على عمر في غزو البحر، ويصف له قرب الرُّوم من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرَّق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: أن لا، والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وتالله لمسلم أحبُّ إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منَّي، ولم أتقدم إليه في ذلك[26]. ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأي في الرُّوم ما رأى، فطمع في بلادهم وفتحها، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث، وألحَّ به على عثمان، فردّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً: أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر. ثم كتب إليه معاوية مرَّة أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً وإلا فلا[27]. كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً، فاحمله وأعنه[28]، فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب، وتقريبها إلى ساحل عكَّا، فقد رمَّه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص[29].
4 ـ غزو قبرص:
أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة، وحمل معه زوجه فاخته بنت قرظة، كذلك ، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة[30]، وأمُّ حرام هذه صاحبة القصَّة المشهورة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أمَّ حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك. فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟: قال ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبيج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرَّة. وقالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم! فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟!.
قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ في سبيل الله...)) ـ كما قال في الرواية الأولى ـ. قال: أنت من الأوّلين. فركبت أمّ حرام بنت ملحان في البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[31] . ورغم أن معاوية رضي الله عنه لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين[32]، مما يدل أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدُنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبؤون بها بالرَّغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها. أن المسلمين قد ترّبوا على أنّ ما عند الله خير، وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه، وهم يعتقدون: أنّ هذه المهمَّة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم، وقعدوا عن أداء واجبهم، فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية، وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعلَّ حديث أمِّ حرام قد ألمَّ بخواطرهم، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة 649م[33]، وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء أم حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدّابة، وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت[34]، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التضحيات التي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة[35]، واجتمع معاوية بأصحابه، وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذر الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثله بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ،وشدّاد بن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نضير الضرمي. وتشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم: أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم[36]،ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله، ثمَّ تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتخذون من قبرص محطَّة يستريحون فيها؛ إذا غزوا، ويتموَّنون منها، إذا قلَّ زادهم، وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم، وخضوعها لإرادتهم، فإن وجودها كذلك سيظلُّ شوكة في ظهورهم، وسهماً مسدَّداً في صدورهم، ولكنّ سكّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة، ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصّنوا في العاصمة، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدّم الروم للدّفاع عنهم، وصدّ هجوم المسلمين عليها[37].
5 ـ الاستسلام وطلب الصلح:
تقدّم المسلمون إلى عاصمة قبرص ((قسطنطينا )) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وقدّموا للمسلمين شروطاً، واشترط عليهم المسلمين شروطاً، وأما شرط أهل قبرص، فكان هي طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورّطهم مع الروم، لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأمّا شروط المسلمين، فهي :
أ ـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة، إذا هاجم سكانها محاربون.
ب ـ أن يدلّ سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوّهم من الروم.
ج ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينار في كل عام.
د ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوّهم عليهم.
س ـ ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يُطلعوهم على أسرارهم[38].
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة وأعطت المسلمين فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدوّ المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام، أو على الإسكندرية[39]
6 ـ عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيّ حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة ما بين شاتية، وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد، ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه الله العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتّى إذا أراد أن يصيبه وحده، خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه سُؤَّال يعترّون [40] بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السُّوَّال إلى قريتها، فقالت للرجال : هل لكم في عبد الله بن قيس ؟ قالوا وأين هو ؟ قالت : في المرفأ، قالوا : أي عدوّة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس ؟ فوبّختهم، وقالت : أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد فساروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه، وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه، ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله : وا عبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : الغمرات ثم ينجلينا وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس: الجاسيِّ[41]، وقيل لتلك المرأة التي استشارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتَّاجر، فلمّا سألته، أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس[42]. وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمنىَّ بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضرُّ بسمعة المسلمين البحرية، حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الَّذكَّية من نساء تلك البلاد، حيث رأت ذلك الرَّجل يظهر من مظاهر الخارجَّية بمظهر التُّجار العاديين، ولكنَّه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السِّيادة مع بساطة مظهره فعرفت: أنه قائد المسلمين، الذي دوّخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت نسمات ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع غير المسلمين في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيتمَّ بذلك الهجوم عليه، وظفرْ بالشهادة، وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم، فقد قام هذا القائد الملهم بهمّة الاستطلاع بنفسه، ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء، والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه، فيتولىَّ هذه المهمة، ثمّ نجده يتخلفَّ بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء، وضعفتهم فيمدُ لهم يد الحنان، والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعزِّ ما يملك الناس، ونجدة قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً، ولا معنِّفاً، ولا مستكبراً، وإذا ادلهمِّت الخطوب، تفان بانكشاف الغّمة، ولم يجأ إلى لوم أصحابه، وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجِّل بالخلل، والفوضى، وأمَّا خليفته سفيان الأزديَّ، فلعلهَّ وقع فيما وقع فيه من الإرتباك، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مَّما يُحفظ له: أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهبه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ، وإن صدرت من جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالباً في الجيل الأوَّل، وبه تمّ إنجاز الفتوحات العظيمة، ونجاح الولاة، والقادة في إدارة أمور الأمة، فلله درُّ أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم وما أبعد نحورهم! وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين أو ما أعذب لمساتهم في الأرض عل المستضعفين والمساكين[43].
7ـ القبارصة ينقضون الصلح :
في سنة أثنتين وثلاثين هجرَّية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن، ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوُّا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة، ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً، فقتلوا، وأسروا وسلبوا، وهجم عليها جيش معاوية من جهة، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبياً كثيراً، وغنموا مالا جزيلاً[44]، وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول[45]، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة، فيحميها من غارات الأعداء، ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك، وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجداً، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم، وظلّ الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون: أنّ أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون: أن الروم يغلبونهم على أمرهم، ويسخّرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلطّ البيزنطيين وقال: إسماعيل بن عيّاش: أهل قبرص أذلاء مقهورون ويغلبهم الروم على أنفسهم، ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم، ونحميهم[46].
8 ـ ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثمّ قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله ـ عز وجلّ ـ وعصوه، صاروا إلى ما ترى[47].
وجاء في روايةٍ: فقال له جبير بن نفير أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك: إن هذه كانت أمّة قاهرة لهم ملك، فلما ضيّعوا أمر الله، صيرّهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السّبي، فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى، إذا تركوا أمره[48]. إن ما تفوّه به أبو الدرداء، يعتبر مثلاً للبصيرة النافذة، والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق، فباؤوا بهذا المصير المؤلم، حيث تحولوا من الملك، والعزة إلى الاستسلام والذّلة، لإصرارهم على لزوم الباطل، والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا، وتدبّروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم، وعمران ديارهم، والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهرٌ من مظاهر الرّحمة، والعطف، تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تتحدّر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبّر عمّا يجول في نفسه من نظرات الحنان، والرّحمة، والأسى على مصير تلك الأمة التي اجتمع البقاء على الضلال، والمآل السيء بزوال الملك، والوقوع في الذل والهوان، وإنّه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام، فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر، والتشرّد، وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا[49]؟
9 ـ معاوية يوليّ عبادة بن الصامت رضي الله عنهما على قسمة غنائم قبرص :
قال عبادة بن الصامت لمعاوية رضي الله عنهما : شهدت رسول الله عليه وسلم في غزوة حنين الناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير، وقال: مالي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم[50]. فأتق الله يا معاوية! واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطي منها أحداً أكثر من حقه! فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، ليس أحد بالشّام أفضل منك، ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها، واتق الله فيها، فقسمها عبادة بين أهلها، وأعانه أبو الدرداء، وأبو أمامة[51].
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من مؤسسي المدرسة الشامية فقد وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين فولي قضاءها، واستقر به المقام فيها، فكان أول من تولى قضاء فلسطين، وكان أيضا يعلم أهلها القرآن وظل على هذا النحو إلى أن مات بها[52]، وقد أسهم عبادة رضي الله بنصيب كبير في تنفيذ سياسة الخلافة الراشدة العلمية والتربوية والجهادية، وكان رضي الله عنه من أهل الزهد والخشونة، فعندما وصل إلى حمص قال لأهلها: ألا أن الدنيا عرض حاضر، وإن الآخرة وعد صادق، ألا أن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها[53].
10 ـ حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه :
إن مبغضي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يشنّعون عليه أنه نفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة وزعم بعض المؤرخين: أن ابن السوداء عبد الله بن سبأ لقي أبا ذر في الشام، وأوحى إليه بمذهب القناعة، والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب أنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث أليك أبا ذر. فأخرج معاوية أبا ذر من الشام[54]، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبهاً بين رأي أبي ذر، ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن وطوّف في العراق، وكان الفرس في اليمن، والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقَّى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذرّ على حسن النية في اعتقادها[55]. وكلَّ ما قيل في قصَّة أبي ذرّ، ممّا يُشَّنع به على عثمان باطل لا يُبنى على رواية صحيحة، وكلُّ ما قيل حول اتصال أبي ذر رضي الله عنه بإبن السَّوداء باطل لا محالة[56]. والصحيح: أن أبي ذرّ رضي الله عنه نزل في الربذة باختياره، وأنَّ ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذرّ في فهم آية خالف فيه الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه، فطلب أن ينزل بالربذة[57]، التي كان يغدو إليها زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نزوله بها نفياً قصرياً، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرّجوع عن رأيه، لأن له وجهاً مقبولاً، لكنَّه لا يجب على المسلمين الأخذ به[58]. وأصحُّ ما روي في قصة أبي ذرّ رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم)) (التوبة ، آية : 34) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس حتَّى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليَّ حبشيّاً، لسمعت وأطعت[59]. وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة منها:
أ ـ سأله زيد بن وهب، ليتحقَّق ممَّا اشاعه مبغضون عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذرّ المكان؟ فجاء سياق الكلام: أنه خرج بعد أن كثر النّاس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشَّام، وليس في نص الحديث: أنَّ عثمان أمره بالذهاب إلى الربذَّة، بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصَّامت قال: دخلت على أبي ذرِّ عند عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني : الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، إئذن لي بالرَّبذة. قال: نعم[60] .
ب ـ قوله: كنت بالشَّام: بيَّن السَّبب في سكناه الشَّام، ما أخرجه أبو يعلي عن طريق زيد بن وهب: حدَّثني أبو ذرَّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء ـ أي المدينة ـ سَلْعَاً، فارتحل إلى الشَّام. فلمَّا بلغ البناء سلعاً، قدمت الشام فسكنت فيها[61].
جـ ـ إنَّ قصة أبي ذرِّ في المال جاء من اجتهاده في فهم الآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) (التوبة ، آية : 34 ـ 35). وروى البخاري عن أبي ذرِّ ما يدل على أنَّه فسرَّ الوعيد ((يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا)) الآية، وكان يخوِّف النَّاس به، فعن الأحنف بن قيس، قال: جلستُ إلى ملأ من قريش في مسجد المدينة، فجاء رجل خَشِن الشَّعر، والثّياب، والهيئة، حتى قام عليهم، فسلَّم، ثم قال: بشرِّ الكانزين بَرضفٍ[62] يُحمى عليه في نار جهنَّم ثم يوضع على حلمة ثَدْي أحدهم، حتَّى يخرج من نُفضي كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل[63]. ثمَّ ولّى فجلس في سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال: إنَّهم لا يعقلون شيئاً. واستدلَّ أبو ذرّ رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحبُّ أنَّ لي مثل أحد ذهباً، أنفقه كُلَّه إلا ثلاث دنانير[64].
د ـ وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذرّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس دون خمس ذَوْدٍ صدقة وليس وفيما دون خمسة أو ست صدقة[65]. وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث: أنَّ ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه: أنَّ كلَّ ما أخرجت منه الصَّدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا سمَّى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزاً[66]، هذا وقد فصلت في موضع أبي ذرّ وخلافه مع معاوية رضي الله عنهما في كتابي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأثبت بالحجج والأدلة والبراهين بأن عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرِّ رضي الله عنه ، إنما استأذنه، فأذن له ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنَّه نفاه، ولذلك لمَّا سأل غالب القطان، الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال الحسن: لا معاذ الله[67]، وكل ما روي في إنه أنَّ عثمان نفاه إلى الربَّذة فإنه ضعيف الإسناد، لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويَّات الصحيحة والحسنة، التي تبيِّن أن أبا ذرِّ استأذن للخروج إلى الرّبذة، وأنَّ عثمان أذن له[68]، بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام، ليحاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة[69]. وقال له أيضا: كن عندي، تغدو عليك، وتروح اللقاح[70]. أفمن يقول ذلك ينفيه[71]. ولم تنصّ على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وفيه رفض. فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة، والحسنة[72]؟ واستغل الرّافضة هذه الحادثة أبشع استغلال، فأشاعوا: أن عثمان رضي الله عنه نفي أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قبل الخارجين عليه،، أو أنّهم سوّغوا الخروج عليه[73]، وعاب عثمان رضي الله عنه بذلك ابن المطهّر الحلِّي الشيعي المتوفي سنة 726هـ، بل زاد: أن عثمان رضي الله عنه ضرب أبا ذرٍّ ضرباً وجيعاً، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رداً جامعاً قوياً[74]، وكان سلف هذه الأمَّة يعلمون هذه الحقيقة، فإنَّه لما قيل للحسن البصريِّ: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال: لا، معاذ الله[75]. وكان ابن سيرين إذا ذُكر له: أنَّ عثمان رضي الله عنه سيَّر أبا ذرّ، أخذه أمرٌ عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيِّره عثمان[76]، وكما تقدم في الرِّواية الصحيحة الإسناد: أنَّ أبا ذرّ رضي الله عنه لمَّا رأى كثرة النَّاس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان رضي الله: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً[77]. كما أن أبا ذرِّ رضي الله عنه لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ، وقد أقام بالرَّبذة حتى توفيِّ، ولم يحضر شيئاً مما وقع في الفتن[78]، ثمَّ قد روى حديثاً من أحاديث النَّهي عن الدخول في الفتنة[79]، وبعد وفاة أبي ذرِّ رضي الله عنه ضمّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عياله إلى عياله[80]، فرضي الله على جميع الصحابة الأبرار، الطيبين الأطهار
11 اتهام عثمان رضي الله عنه بإعطاء أقاربه من بيت المال:
اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء، والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتِِّهام حملة دعائية باطلة قادها أعداء الإسلام ضدَّه، وتسرَّبت في كتب التاريخ، وتعامل معها بعض المفكِّرين، والمؤرخين على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت، لأنها مختلقة، والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد مناقبه، لا من المثالب[81]فيه. إن عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروة عظيمة، وكان وصولا للرحم[82]يصلهم بصلات كثيرة وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار، وقالوا بأنَّه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا: إني أحبُّ أهل بيتي، وأعطيهم.. فأمّا حبِّي لهم؛فإنَّه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم.. وأما إعطاؤهم، فإني إنّما أعطيهم من مالي،ولا استحلُّ أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس،وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر،وعمر،وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي[83]، وفني عمري، وودَّعت الذي لي في أهلي،قال الملحدون ما قالوا[84]؟ وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أميه، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة الآف، فأخذوا مئة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص، وفي بني العيص، وفي بني حرب[85]، فهذه النصوص وغيرها وممَّا اشتهر عنه، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمّة تدل على ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال، وإنفاق أكثره على أقاربه، وقصوره حكايات بدون زمام، ولا خطام[86].
إن سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة،لقوله تعالى:(( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)) (الإسراء ، الآية :26).كما أنَّها تمثِّل جانباً عملياً من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد رأى عثمان رضي الله عنه من رسول الله وعلم من حاله ما لم ير،أو يعلم غيره من منتقديه وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاربه وبرِّه لهم، وإحسانه إليهم،وقد أعطى عمَّه العَّباس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين[87]، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله أعظم القدوة[88]، وقد ردَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى أربعمائة نفر من قريش زوَّجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف وألف دينارـ مليون دينارـ فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟. نعم كان يعطي أقاربه، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانياً:هذا من الكذب البيِّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ[89].

ميارى 14 - 5 - 2010 12:39 AM

12[align=justify]
ـ هل عين عثمان رضي الله عنه أحداً من أقربائه على حساب المسلمين؟
لم يكن عثمان رضي الله عنه عين أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ولو أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد بن أبي حذيفة أولى النَّاس بهذه المجاملة، ولكنَّ الخليفة أبى أن يوليه شيئاً ليس كفؤاً له بقوله: يابنيَّ لو كنت رضاً ثمّ سألتني العمل، لاستعملتك، ولكن لست[1]هناك.ولم يكن ذلك كراهية له، ولا نفوراً منه، وإلا لما جهَّزه من عنده، وحمله، وأعطاه حين أستأذن في الخروج إلى مصر[2]وأمّا استعمال الأحداث فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوة حسنة فقد جهَّز جيشاً لغزو الرُّوم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد، رضي الله عنهما[3]، وعندما توفيِّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم تمسَّك الصديق رضي الله باء نفاذ هذا الجيش، لكنَّ بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أحسن منه، فكلَّموا عمر في ذلك ليكلمِّ أبا بكر، فغضب أبو بكر لمَّا سمع هذه المقالة، وقال لعمر: يا عمر استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتأمرني أن أعزله[4]. ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملاء من الصحابة بقوله: ولم أستعمل إلا مجتمعاً، محتلماً، مرضياً، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم وقد ولىَّ من قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا قيل لي في استعماله لأسامة،أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للنَّاس مالا يفسرون[5]. ويقول عليّ رضي الله عنه: ولا يولِّ أي: عثمان ـ إلا رجلاً سويا، عدلا، وقد ولىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على مكّة وهو ابن عشرين سنة[6]ولم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه جاهلين بأمور الشَّرع، ولم يكونوا من المفرِّطين في الدِّين، وإذا كانت لهم ذنوب، فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء تعود عليهم ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيَّام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضمّ إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة، والدّين ما يحثهم على الجهاد، ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة، ومتاع الدنيا وقد تتبعت سيرة هؤلاء الولاة، فوجدت لكل واحد منهم فتحاً، أو فتوحاً في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة وقد فصلت في كتابي عن عثمان رضي الله عنه في مبحث مستقل حقيقة ولاة عثمان[7]رضي الله عنه.
إن الذي يرجع إلى الصحيح الممحّص من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليهم ـ وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمّة، وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه عن الجهر بالإعجاب، والفخر كلمّا أمعن في دراسة ذلك من أدوار التاريخ الإسلامي[8].
إن عثمان رضي الله عنه وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء، وجهادهم، وردّهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ومدّ نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنّهم اعتدوا على الناس، ولكنّنا لم نلمس حوادث معينة يتّضح فيها هذا الاعتداء المزعوم، والمشاع، كما اتُّهم عثمان بتولية أقاربه، وقد دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى: أنّ عثمان لم يألُ جهداً في نصح الأمة، وفي تولية من يراه أهلاً للولاية، ومع هذا لم يسلم عثمان، وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المحقّقة عن عهد عثمان وخصوصاً الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاماً لا تعتمد على التحقيق، أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة، فقد تورّط الكثير منهم في الرّوايات الضّعيفة، والرافضّية، وبنو أحكاماً باطلة وجائرة في حق الخليفة الرّاشد عثمان بن عفان، مثل طه حسين في كتابه: الفتنة الكبرى، وراضي عبد الرحيم في كتابه: النظام الإداري والحربي، وصبحيّ الصالح في كتابه: النُّظم الإسلامية، ومولوي حسين في كتابه: الإدارة العربية، وصبحي محمصاني في كتابه: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه، والقضاء، وتوفيق اليوزبكي في كتابه: دراسات في النظم العربية والإسلامية، ومحمد الملحم في كتابه: تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري، وبدوي عبد اللطيف في كتابه: الاحزاب السياسية في فجر الإسلام، وأنور الرِّفاعي في كتابه: النظم الإسلامية، ومحمد الرّيِّس في كتابه: النظريات السياسية، وعلي حسني الخربوطلي في كتابه: الإسلام والخلافة، وأبي الأعلى المودودي في كتابه الملك والخلافة وسيد قطب في كتابه: العدالة الاجتماعية، وغيرهم[9].
ولقد أكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه، وسيطرتهم على أزمة الحكم في عهده، حتّى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة[10]، وأقارب عثمان الذي ولاهم رضي الله عنه أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، والثاني عبد الله بن أبي السرح، والثالث الوليد بن عقبة، والرّابع سعيد بن العاص، والخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان، وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه،فلو أخذنا إحصائية لوجدنا: أن عدد الولاة في عهد عثمان ستة وعشرون والياً، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية وبخاصة إذا علمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليّ بني أمية أكثر من غيرهم؟ علماً بأن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلّهم في وقت واحد، بل كان عثمان رضي الله عنه ولىّ الوليد بن عقبة، ثمّ عزله، فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، ولم يتوفّ عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة ألا ثلاثة وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، ولكنّه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترض بوالٍ أبداً إذ عزلُ عثمان رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعناً فيهم، بل مطعن في أهل الشغب في المدينة التي وُلُّوا عليها[11]. إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة منهم أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس! لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤددّ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد بن سعيد على صدقات بني مدحج، وأبان بن سعيد على بعض السّرايا ثمّ على البحرين فعثمان رضي الله عنه، لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جنسهم، وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقرّه عمر، ثمّ ولىّ عمر بعده أخاه معاوية[12]. والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ والحقيقة العلمية التي أثبتها في كتابي عن عثمان رضي الله عنه بأن ولاة عثمان أثبتوا كفاءتهم، فالولاة الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاءة والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان[13]، فمثلاً معاوية رضي الله عنه كانت سيرته مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة ممّا جعل النّاس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم ـ حكامكم ـ الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم[14]، وقد بين القاضي ابن العربي وأثبت أن رسول الله استكتبه، وأن سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية لم يكن لأحد قبله، ولم يكن لأحد بعده، حيث أجتمع على توليته: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقرّ له بالخلافة الحسن بن علي بن أبي طالب[15].
13 ـ أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه:
قال الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين، أوّل ستّ سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئاً، وإنّه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأنّ عمر كان شديداً عليهم، أمّا عثمان، فقد لان لهم، وَوَصَلَهم، ثمّ حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمّى المؤرِّخون المسلمون الأحداث في النِّصف الثاني من ولاية عثمان 30 ـ 35هـ (الفتنة)، التي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه[16]، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر، وعمر، وصدراً من خلافة عثمان، متَّفقين، لا تنازع بينهم، ثم حدثت في أواخر خلافة عثمان أمور، أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة، والظلم فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان،[17] وكان المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق، والفاروق، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الآتية.
أنه في عمومه ـ مجتمع مسلم بكل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقلّ قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التَّاريخ.
_ أنه المجتمع الذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ للأمَّة بمعناها الرَّباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة، والجنس، واللَّون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقَّق في التاريخ كما تحقّقت في الأمة الإسلامية.
ـ أنه مجتمع أخلاقيُّ يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين، وتوجيهاته.
ـ أنه مجتمع جادٌ، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجدُّ بالضرورة عبوساً، وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمّة في الناس، وتحثُّ على النشاط، والعمل، والحركة.
ـ أنه مجتمع مجنَّد للعمل، في كلِّ اتجاه، تلمس فيه روح الجنديَّة واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب، ولكن في جميع الاتجاهات، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدّافعة لبذل النشاط في كلِّ اتجاه[18]
ـ أنه مجتمع متعبِّدُ نلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوّع بالنَّوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً والعمل في حسِّه عبادةٌ، يؤديه بروح العبادة[19].
هذه من أهم صفات عهد الخلفاء الراشدين ـ بصفة عامة ـ إلا أن تلك السِّمات كانت أقوى كلمَّا اقتربنا من عهد النبوة وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوة، وقد بدأ التغير على عهد الخلافة الراشدة مع ظهور فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وكان لظهور هذه المحنة العظيمة التي مرت بها الأمة أسباب منها :
أ ـ الرخاء وأثره في المجتمع :وغنيٌّ عن الإشارة: أنَّ النِّعم، والخيرات، وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع، إذ تجلب الرَّخاء وما يترتَّب عليه من إنشغال النَّاس بالدُّنيا، والافتتان بها، كما أنَّها مادة للتنافس، والبغضاء خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التَّقوى من أعراب البادية، وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات، وأبناء الأمم المترفة، وقد أدرك عثمان رضي الله عنه هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمّة من التَّبذُّل والتغيُّر في كتابه الموجه إلى الرّعية: فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثةٍ فيكم: تكامل النِّعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن[20]، وحدث ما توقعه عثمان رضي الله عنه وبدأ التغير أثره يظهر أولاً على أطراف الدّولة الإسلامية ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، ممّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى تذكير المسلمين في خُطَبهِ بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا، وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه: إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا، لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها، لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية،... واحذروا ومن الله الغير، والزموا جماعتكم،لا تصيروا أحزاباً[21]، ثم قرأ: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران ، آية: 103 ـ 104).
وفي مثل هذه الظروف، والخيرات، فاضت الدُّنيا على المسلمين وتفرّغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم، واطمأنُّوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم[22]. ومن هنا يُعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضاً يمكن فهم مقالة عثمان رضي اله عنه لعبد الرَّحمن بن ربيعة ـ له صحبة ـ وهو على الباب[23]: إن الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنة، فقصِّر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين، فإنِّي خاشٍ أن يبتلوا[24].
ب ـ طبيعة التحول الإجتماعيِّ في عهد عثمان رضي الله عنه:
حدثت تغيران إجتماعية عميقة، ظلَّت تعمل في صمت، وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجِّر بدءاً من النِّصف الثاني من خلافة عثمان بلغت قمّة فورانها في التمرُّ الذي أدَّى إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه[25]، ولما توسَّعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح، حصل تغيُّر في تركيبة المجتمع والاختلالات في نسيجه، لأنَّ هذه الدَّولة بتوسُّعها المكانِّي، والبشريِّ، ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية، وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة، وخروقات غير منتظمة، كما صيَّرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التَّركيبيِّ، وبالذات في الأمصار الكبرى المؤثِّرة: البصرة، الكوفة، والشّام، ومصر، والمدينة ومكة، فقد كانت الأمصار الكبيرة ربموقعها وأهمينهار تدفع لجيش الفتوح، وتستقيلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعداداً وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس، أو النَّصارى العرب، أو غيرهم، أو من اليهود[26]، وأكثر سكان هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربَّية من جنوبها، وشمالها، وشرقها، والذين لم يكونوا ـ عادة ـ من الصَّحابة، وبمعنى أدق: ليسوا ممَّن تلقَّوا التَّربية الكافية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أيدي الجيل الأوَّل من الصحابة، إمَّا لانشغالهم بالفتوح، أو لقلة الصحابة، وقد حصلت تغيراتٌ في نسيج المجتمع البشريِّ المكوَّن من الجيل السَّابقين، وسكّان البلاد المفتوحة، والأعراب، ومن سبقت لهم ردَّة، واليهود، والنَّصارى وفي تكوين نسيج المجتمع الثَّقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات[27]
ث ـ ظهور جيل جديد:فقد حدث في المجتمع تغيُّر أكبر، ذلك: أن جيلا جديداً من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانه في المجتمع وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في العصر غير الذي كانوا يعيشون فيه، ويتَّصف بما لا يتَّصفون به، فهو جيل[28]، يعتبر في مجموعه أقلَّ من الجيل الأوَّل الذي حمل على كتفه عبء بناء الدّولة، وإقامتها، فقد تمَّيز الجيل الأوَّل من المسلمين بقوَّة الإيمان، والفهم السَّليم لجوهر العقيدة الإسلامَّية، والاستعداد التّام، لإخضاع النَّفس لنظام الإسلام المتمثلَّ في القرآن والسُّنَّة، وكانت هذه الميِّزات أقل ظهوراً في الجيل الجديد الذي وُجد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفرديَّة، وبُعثت فيه العصبية للأجناس، والأقوام، وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهليَّة التي كانوا عليها ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السَّليمة مثل ما نال الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرتهم، وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة[29]، فالصَّحابة كانوا أقلَّ فتناً من سائر من بعدهم، فإنَّه كلما تأخَّر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف[30]، ووجد دعاة الفتنة في المنحرفين من الجيل الجديد بغيتهم.
ج ـ استعداد المجتمع لقبول الشائعات :
ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع: أنه صار مهيَّئاً للهزَّات، مستعدَّاً للاضطراب، قابلاً لتلقِّي الإذاعات، والأقاويل والشائعات[31] ، ولهذا لما كان الناس في خلافة أبي بكر وعمر ـ أقرب عهداً بالرِّسالة، وأعظم إيماناً، وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسط، أي: النفوس المطمئنة[32]، ولما كان في آخر خلافة عثمان، وخلافة عليَّ، كثر: ـ أهل النفس اللَّوَّامة التي تخلط عملاً صالحاً، وآخر سيئاً ـ فصار فيهم شهوة، وشبهة مع الإيمان، والدِّين، وصار ذلك في بعض الولاة، وبعض الرِّعايا، ثمَّ كثر هذا القسم، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدَّم من عدم تمحيص التَّقوى، والطَّاعة في الطَّرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى، والمعصية في الطَّرفين، وكل منهم متأوِّلٌ وأنه يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وأنَّه مع الحقِّ، والعذل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه من الظنِّ، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحقِّ من الأخرى[33]، ويوضِّح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأحد أتباعه، قال الرَّجل: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر، وعمر؟ قال علي: لأنَّ أبا بكر، وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك[34]، وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركاً لما يدور في وسط المجتمع حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أمّا بعد، فإن الرَّعَّية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأَعْدّاها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مسرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر، فَتُغيَّر[35].
خ ـ مجيء عثمان بعد عمر، رضي الله عنهما:
كان مجيء عثمان رضي الله عنه مباشرة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختلاف الطبع بينهما مؤدِّياً إلى تغيُّر أسلوبهما في معاملة الرَّعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعاً وأرقَّ في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه، أو يأخذ النّاس بما يأخذ به عمر حتّى يقول عثمان لنفسه: يرحم الله عمر: ومن يطيق ما كان عمر يطيق[36]؟! لكن النَّاس، وإن رغبوا في الشَّوط الأوَّل من خلافته، لأنَّه لان معهم، وكان رضي الله عنهم شديداً عليهم حتَّى أصبحت محبَّته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه، ولين عريكته، ورقة طبعه ودماثة خلقه، ممّا كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده، وعهد سلفه عمر بن الخطَّاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرّأكم عليَّ؟ ما جرَّأكم عليَّ إلا حلمي[37]، وحين بدأت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجَّة في ردّه على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصَّحابة والنّاس أبى المسلمون إلا قتلهم وأبى عثمان إلا تركهم، لحلمه، ووداعته قائلاً: بل نعفو، ونقبل، ولنصبرهم بجهدها، ولا نحادّ أحداً حتى يركب حدّاً، أ, يبدي كفراً[38].
ح ـ خروج كبار الصَّحابة من المدينة:
كان عمر رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن، وأجلٍ، فشكوه، فبلغه، فقام، فقال: ألا أنِّي قد سننت الإسلام سَنُّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثَنِيّاً، ثمّ رباعيّاً، ثم سدسيّاً، ثمّ بازلا[39]، فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإنَّ الإسلام قد نَزَل، ألا وإنَّ قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معوناتٍ دون عباده، ألا فأمّا وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائم دون شِعب الحرَّة، آخذ بحلاقيم[40] قريش، وَحُجَزِها أن يتهافتوا في النَّار[41]، لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصَّحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة، وتوسُّعهم في القطاع والضِّياع فكان يأتيه الرَّجل، من المهاجرين، وهو ممَّن حبس في المدينة، فيستأذنه في الخروج، فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدُّنيا، ولا تراك[42]، وأمَّا عثمان فقد سمح لهم بالخروج، ولان معهم.
س ـ العصبية الجاهلية:
يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح، واستكمل للملَّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة، والكوفة، والشّام ومصر، وكان المختصُّون بصحبة الرَّسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه، وآدابه: المهاجرين والأنصار، وقريش، وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأمَّا سائر العرب من بني بكر بن وائل، وعبد القيس، وسائر ربيعة، والأزد، وكنده، وتميم، وقضاعة، وغيرهم فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم. وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السَّابقة، ومعرفة حقِّهم، وما كانوا فيه من الذهول، والدَّهش لأمر النٌّبوّة، وتردُّد الوحي، وتنـزل الملائكة، فلمَّا انحصر ذلك العباب، وتنوسي الحال بعض الشَّيء، وذل العدوُّ، واستفحل الملك، كانت عروق الجاهليَّة تنبض، ووجدوا الرِّياسة عليهم من المهاجرين، والأنصار، وقريش، وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك في أيَّام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللَّحظات، والخطوات، والاستبطاء عليهم بالطاعات، والتَّجنِّي بسؤال الاستبداد منهم، والعزل ويفيضون في النّكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظُّلم في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصَّحابة بالمدينة، فارتابوا، وأفاضوا في عزل عثمان، وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر.. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامُّهم[43].
ش ـ توقُّف الفتوحات بسبب حواجز طبيعية أو بشرية:
حيث توقَّفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أما حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها، سواء في جهات فارس، وشمالي بلاد الشَّام، أو في جهة إفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب، أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقاً من حقوقهم[44]، وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان رضي الله عنه بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من النَّاس، وقد كان لها أثر، وواقع على الأعراب، وخاصة وأنَّ معظمهم بقي بدون عمل يقضون شطراً من وقتهم في الطعام،والنَّوم والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدّولة، والحديث عن تصرُّفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئيَّة، وقد أدرك أحد عمّال عثمان هذا الأمر، وهو عبد الله بن عامر، فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله ـ وهم وزراؤه، ونصحاؤه ـ أن يجتهدوا في آرائهم، ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر النَّاس بالجهاد ويجمرهم في المغازي حتَّى لا يتعدَّى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه، ودبر دابته[45]، وفي ذلك الجو من الحديث، والفكر عند أفراد تعوَّدوا الغزو، ولم يفقهوا من الدِّين شيئاً كثيراً يمكن أن يتوقع كلُّ سوء ويكفي أن يحرّك هؤلاء الأعراب، وأن يُوجَّهوا توجيهاً، فإذا هم يثورون، ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل، فإنَّ الأعراب ـ بسبب توقف الفتوحات ـ ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكان سبباً من أسباب اندلاعها[46].
ص ـ المفهوم الخاطيء للورع بتحريم الحلال:
الورع في الشريعة طيِّبٌ، وهو أن يُترك ما لا بأس به، ومخافة ممَّا فيه بأس، وهو في الأصل ترفع عن المباحات في الله، والله، والورع شيء شخصي يصحُّ للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين، ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراماً، أو مفروضاً، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة[47]، فقد استغلَّ أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه، ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات، أو المصالح خروجاً على الإسلام، وتغييراً لسنَّة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة، فاستباحوا أو أعانوا من استباح ـ دم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم[48].
ط ـ ظهور جيل جديد من الطامحين:
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة رضي الله عنهم من يعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أنَّ الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى وجد الطَّامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفساً، فإنَّهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية[49].
ع ـ وجود طائفة موتورة من الحاقدين:
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد، والذكاء والدَّهاء، ما استطاعوا به أن يدركوا نقاط الضَّعف التي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا من يستمع إليهم بآذان صاغية، فكان من آثار ذلك ما كان[50]، فقد عرفنا سابقاً وجود يهود، ونصارى، وفرس، وهؤلاء جميعاً معروف باعث غيظهم، وحقدهم على الإسلام، والدولة الإسلامّية، ولكنَّنا هنا نضيف من وقع عليه حدٌ أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، وعاقبه الخليفة، أو ولاته في بعض الأمصار وبالذّات البصرة، والكوفة، ومصر، والمدينة، فاستغلَّ أولئك الحاقدون من اليهود، ونصارى، وفرس، وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممّن لا يفقهون هذا الدِّين على حقيقته، فتكوَّنت لهؤلاء جميعاً طائفة، وصفت من جميع من قابلهم بأنَّهم أصحاب شرِ، فقد وُصفُوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونزَّاع القبائل، وأهل المياه، وعبيد المدينة[51]، وبأنهم ذؤبان العرب[52]، وأنَّهم حثالة النَّاس ومتَّفقون على الشَّرِّ[53]، وسفهاء عديمو الفقه[54]، وأرذال من أوباش القبائل[55]، فهم أهل جفاء، وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل[56]، وأنَّهم آلة الشيطان[57]، وقد تردَّد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصَّنعاني اليهوديِّ ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود، ثمّ أسلم، ولم يًنقَّب أحد عن نواياه، فتنقَّل بين البلدان الإسلاميَّة باعتباره أحد أفراد المسلمين،[58]، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله.
غ ـ التّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدّ عثمان رضي الله عنه:
كان المجتمع مهيَّئاً لقبول الأقاويل، والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيَّأةً، ونسيج المجتمع قابلاً لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطّعن في الأمراء بحجَّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، حتى استمالوا النَّاس إلى صفوفهم، ووصل الطَّعن إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن نفسه باعتباره قائد الدَّولة، وإذا ما حصرنا الدّعاوي التي رُوِّجت ضد الخليفة، وطعنوه بها، فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
ـ مواقف شخصَّية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات، والمواقع.
ـ سياسته الإدارية النَّافذة: توليه أقاربائه، طريقته في التَّولية.
ـ اجتهادات خاصة به، أو بمصلحة الأمَّة (إتمام الصَّلاة بمنى ، جمع القرآن ، الزِّيادة في المسجد.
ـ معاملته لبعض الصًّحابة: عمَّار، أبي ذرّ، ابن مسعود.
وقد بينت موقف عثمان رضي الله عنه في كلِّ ما وجه إليه في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شخصيته وعصره. وقد حدث تزيُّد في إبراز المطاعن على عثمان رضي الله عنه سواء في عهده، وما واجهوه بها، وردُّه عليها في حينه، أو ما تُقوِّل عليه فيما بعد عند الرُّواة، والكتَّاب، فإنهّا لم تصح، ولم تصل إلى حدِّ أن تكون سبباً في قتله[59].
إن المآخذ السَّابق ذكرها والمدوَّنة في تاريخ الطَّبري، وغيره من كتب التاريخ والمرويّة عن طريق المجاهيل، والإخباريين الضُعفاء ـ خاصَّة الشيعة ـ كانت وما تزال بليَّة عظمى على الحقائق في سير الخلفاء والأئمَّة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك الحظِّ الوافر، فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النَّهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة، من تحريف المنحرفين، وتشويه الغالين، بغية التأليب عليه، أو التشهير به وقد أدرك عثمان رضي الله عنه بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أمّا بعد، فإن الرَّعية طعنت في الانتشار ونزعت إلى الشرِّ، أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرّعة، وضغائن محمولة[60]، وقال ابن العربي على تلك المآخذ: قالوا متعدِّين متعلِّقين برواية كذَّابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم، ومناكير،... هذا كله باطل سنداً ومتناً[61].
ف ـ استخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس:
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف، حيث تردّدت كلمة الإشاعة، والإذاعة كثيراً، والتَّحريص، والمناظرة، والمجادلة للخليفة أمام النَّاس، والطَّعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب، واختلاقها على لسان الصَّحابة رضي الله عنهم، كعائشة، وعليِّ، وطلحة، والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة، وأنَّه الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنظيم فرق في كل من البصرة، والكوفة، ومصر، أربع فرق من كلِّ مصر ممّا يدل على التَّدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة: أنهم ما جاؤوا إلا بدعوة الصَّحابة، وصعَّدوا الأحداث، حتى وصل الأمر إلى القتل[62]، وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التّكبير ومنها: أنَّ جهادهم هذا ضدَّ المظالم، ومنها: أنَّهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ومنها: المطالبة باستبدال الولاة، وعزلهم، ثمَّ تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا، بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصَّة حينما وصلهم الخبر بأنَّ أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضيق الخناق على الخليفة، والشوُّق إلى قتله بأيِّ وسيلة[63].
ك ـ دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السَّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامِّي نتيجة عوامل التَّغيير التي ذكرنها، وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين عوامل الفتنة، ومتظاهرين بالإسلام، واستعمال التَّقيَّة، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ الملقَّب بابن السَّوداء وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التَّهويل في شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة[64]، فإنه كذلك لا يجوز التَّشكيك فيه، أو الاستهانة بالدَّور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنَّه أبرزها، وأخطرها، إذ أنَّ هناك أجواء للفتنة مهَّدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء، ومعتقدات ادّعاها، واخترعها من قبل نفسه، وافتعلها من يهوديَّته الحاقدة، وجعل يروِّجها لغاية ينشدها، وغرض يستهدفه، وهو الدس في المجتمع الإسلامي بغية النَّيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشِّقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرُّق الأمة شيعاً وأحزاباً[65]. وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدِّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راحت لدى السُّذَّج، والغلاة، وأصحاب الأهواء من النَّاس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على من حوله، حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأوّله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجبٌ ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويكذَِب بأن محمَّداً يرجع، وقد قال تعالي: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) (القصص ، آية : 85) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى[66]، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادِّعاء إثبات الوصَّية لعليٍّ رضي الله عنه بقوله: إنَّه كان ألف نبيِّ، ولكل نبيٍّ وصيٌّ، وكان عليُّ وصيَّ محمد، ثمّ قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج النَّاس على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فصادف ذلك هوىً في نفوس بعض القوم، حيث قال لهم: من أظلم ممَّن لم يُجِزْ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمّة، ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حقٍّ، وهذا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر، فحرَّكوه، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، تستميلوا النَّاس، وادعوهم إلى هذا الأمر[67]، وبثِّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السِّر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلِّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتَّى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويسُّرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنّا لفي عافية ممَّا ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنَّا لفي عافية ممّا فيه النَّاس[68]، ويظهر من هذا النَّصِّ الأسلوب الذي تبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصَّحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحقِّ وهو عليُّ، وجعل الثاني مغتصباً وهو عثمان، ثمّ حاول بعد ذلك أن يحرِّك النَّاس ـ خاصَّة في الكوفة ـ على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علماً بأنَّه ركَّز في جملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادّة ملائمة لتنفيذ خطّته، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم، بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان، مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنّه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التُّهم، والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضدّ عثمان رضي الله عنه، ثمّ إنه أخذ يحض اتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مضعمة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل النّاس في جميع الأمصار: أ نّ الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي[69]، هذا وقد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار، وأنّ الأمّة تمخض بشرٍّ، فقال: والله أن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات، ولم يحرّكها[70]، على أن المكان الذي رتع فيه أبن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظّم حملته ضدّ عثمان رضي الله عنه، ويحثُّ على التوجّه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى: أنّ عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍّ، ووثب على وصيِّ رسول الله، يقصد عليَّا[71]، وقد غشهم بكتب أدعّى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنَّورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً، تبرّؤوا ممّا نسب إليهم من رسائل تؤلّب النَّاس على عثمان[72]، ووجدوا عثمان مقدّراً للحقوق، بل وناطرهم فيما نسبوا إليه، وردّ عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النّخعي: لعله مُكر به وبكم[73]، ويعتبر الذهبي: أنّ عبد الله بن سبأ المهيِّيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشِّقاق والنَّقمة على الولاية ثمَّ الإمام ـ عثمان ـ فيها[74]، ولم يكن ابن سبأ وحده وإنَّما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوطاً من أساليب الخداع، والاحتيال، والمكر، وتجنيد الأعراب، والقرّاء وغيرهم، ويروي ابن كثير: أنَّ من أسباب تألُّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين النَّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر[75].
إنَّ المشاهير من المؤرِّخين والعلماء من سلف الأمَّة وخلفها يتَّفقون على أنَّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد، وأفكار، وخطط سبئيَّة، ليلفت المسلمين عن دينهم، وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة، والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوَّنت به الطائفة السَّبيئيَّة المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه والذي يظهر من خطط السَّبئيَّة أنّها كانت أكثر تنظيماً، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها، ونشر أفكارها، لامتّلاكها ناصية الدِّعاية، والتَّأثير بين الغوغاء والرُّعاع من النَّاس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة، أم الكوفة، أم مصر، مستغلة العصبية القبليَّة ومتمكَّنة من إثارة مكامن التَّذمُر عند الأعراب، والعبيد، والموالي، عارفة بالمواضع الحسَّاسة في حياتهم، وبما يريدون[76].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:41 AM

[align=justify]موقف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في الفتنة:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس والي الكوفة سعيد بن العاص في مجلسه العام، وحوله عامَّة النَّاس، وكانوا يتحدَّثون، ويتناقشون فيما بينهم، فتسلَّلَ الخوارج من السَّبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة وجرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص، وبين أحد الحضور، وهو خًنيس بن حُبيش الأسدي، واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين، منهم: جندب الأزديُّ، الذي قتل ابنه السَّارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النَّخعيُ، وابن الكوَّاء، وصعصعة بن صحوان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خُنيس الأسدي في المجلس، ولمَّا قام أبوه يساعده، وينقذه، ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضَّرب، فلم يمتنعوا، وأُغمي على الرَّجل وابنه من شدَّة الضَّرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيداً تمكَّن من إصلاح الأمر[1]، ولمّأ علم عثمان بالحادثة، طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع، وذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم، وصاروا ينشرون الإشاعات، ويُذيعون الافتراءات والأكاذيب ضدّ سعيد والي الكوفة، وضدَّ عثمان، وضدَّ أهل الكوفة ، ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم، وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال له سعيد: إنَّ عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك، فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة، وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النَّفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة، ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخرِّبون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة وكانوا بضعة عشر رجلاً، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء، فقال له: إنَّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة. فَرُعْهُم، وأخِفْهم، وأدِّبهم، وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً، فأقبل منهم[2]. ومن الذين تمَّ نفيهم إلى الشام، الأشتر النَّخعيُّ، وجندب الأزديُّ، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكوَّاء[3]، ولمّا قدموا على معاوية رحب بهم، وأحسن ضيافتهم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يُجرى عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدَّى، ويتعشَّى معهم فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان، وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم، ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً وإنّ قريشاً لو لم تكن، لعدتم أذلة كما كنتم[4]. كان عثمان رضي الله عنه يدرك: أنَّ معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته، وله من حلمه، وصبره، وله من ذكائه، ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتَّى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلَّها، وفعلاً بذل معاوية رضي الله عنه ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النَّفر: أكرمهم أوّلاً، وخالطهم، وجالسهم، وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالسة قبل أن يحكم عليهم بما نُقل عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم، وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أنَّ النَّعرة القبلية هي التي تحرِّكهم، وأنَّ شهوة الحكم والسُّلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بدَّ أن يلج عليهم من زاويتين اثنين:
الأولى: أثر الإسلام في عزَّة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمُّل أعبائه فإن كان للإسلام أثرٌ في تكوينهم، فلا بدَّ أن يرعَوَا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمَّة واحدة تخضع لإمام واحد وودعوا حياة الفوضى، وسفك الدِّماء، والقبليَّة المنتنة[5]، ويتابع معاوية حديثه معهم، فيقول: إن أئمَّتكم لكم إلى اليوم جُنَّة[6]، فلا تشذوا عن جنَّتكم، وإنَّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهنَّ أو ليبتلينَّكم الله بمن يسومكم، ثمَّ لا يحمدكم على الصَّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرَّعيَّة في حياتكم، وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أمَّا ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية، فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنَّة، فإن الجُنَّة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت: أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً. أُعْظِم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكِّرني الجاهليَّة؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجنُّك: أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجُنَّة، أخزى الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم[7]. وعرف معاوية أنَّ الإشارة العابرة لن تقنعهم، ولا بد من شرح مسهب لواقع قريش أوَّلاً، فقال: افقهوا ـ ولا أظنكم تفقهون ـ أنَّ قريش لم تعزَّ في جاهليةٍ ولا في إسلام إلا بالله، عزَّ وجلَّ ـ، لم تكن أكثر العرب، ولا أشدَّهم، ولكنَّهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءةً، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله الذي لا يُستَذَل من أعزَّ، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عرباً، أو عجماً، أو سوداً، أو حمراً إلا قد اصابه الدّهر في بلده، وحرمته بدولةٍ، إلا ما كان من قريش، فإنَّه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خدَّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينقذ من أكرم، واتَّبع دينه من هوان الدٌّنيا، وسوء مردِّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثمَّ ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثمَّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهليَّة من الملوك الذين كانوا يدينونكم ـ أفٍّ لك، ولأصحابك ولو أن متكلماً غيرك تكلَّم، ولكنَّك ابتدأت، فأمَّا أنت يا صعصعة فإنَّ قريتك شرُّ قرىً عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشَّرِّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هُجنة. ثمَّ كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمها أصهاراً نزّاع[8] الأمم، وأنتم جيران الخطِّ وفعلة فارس، حتَّى أصابتكم دعوة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير[9]في عمان، لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأنت شرُّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالنَّاس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً وتنزع إلى اللآمة، والذِّلة، ولا يصنع ذلك قريش، ولن يضرَّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنَّ الشَّيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشَّر من بين أمَّتكم،، فأغرى النَّاس، وهو صارعكم، لقد علم: أنَّه لا يستطيع أن يردَّ بكم قضاء الله، ولا أمراً أراد الله، ولا تدركون بالشَّر أمراً إلا فتح الله عليكم شراً منه، وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم[10]وبذلك بذل معاوية كلَّ طاقاته الفكريُّة، والثقافية، والسياسية، لإقناعهم:
ـ عرض لهم أولاً أمر قريش في الجاهلية والإسلام .
ـ تناول قبائل هؤلاء النّفر، ووضعها في الجاهلية، حيث كانت تعاني سوء المناخ، ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثمّ الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمها الله بالإسلام فعزت بعد ذلِّ، وارتقت بعد هوانٍ.
ـ تناول معاوية رضي الله عنه صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأّ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثمّ عاد وأنضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
ـ كشف معاوية رضي الله عنه مخطّطات صعصعة، وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجاً.
ـ وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة، ومحرّك هذا الشّر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله، ثمّ الإسلام، والعقيدة ثمّ كشف عن زيف هؤلاء النّفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخطّطاتهم، وصلتها بدعوى الجاهلية[11].
5 ـ جلسة أخرى:
ثمّ أتاهم القابلة فتحدَّث عنهم طويلاً، ثم قال: أيُّها القوم! ردُّوا عليَّ خيراً، أو اسكتوا، وتفكَّروا، وانظروا فيما ينفعكم، وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه، تعيشوا، ونعش بكم قال صعصعة، لست بأهل لذلك، ولاكرامه لك أن تطاع في معصية الله. فقال معاوية: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً، ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة، وخلاف ما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم! قال: إنَّي آمركم الآن، إن كنت فعلت، فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه، وطاعته، وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توفِّروا أئمتكم، وتدلوُّهم على كلِّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لينٍ، ولطف في شيءٍ إن كان معهم، قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإنَّ من المسلمين من هو أحقُّ به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قِدْماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قِدْماً منك في الإسلام، قال معاوية والله إن لي في الإسلام قِدْماً، ولغيري كان أحسن قِدماً منَّي،، ولكنَّه ليس في زماني أحدُ أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطَّاب، فلو كان غيري أقوى منَّي، لم يكن لي عند عمر هوادة، ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، لكتب بخطِّ يده، فاعتزلت عمله، ولو قضي الله أن يفعل ذلك، لرجوت أن يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلاً فإنَّ في ذلك وأشباهه ما يتمنَّى الشيطان، ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم، وأمانيِّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكنَّ الله يقضيها، ويدبِّرها وهو بالغ أمره، فعاوِدوا الخير، وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلاً. قال معاوية: أما والله إنَّ لله سطوات، ونقمات، وإنِّي لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشَّيطان حتَّى تُحَّلكم مطاوعة الشَّيطان، ومعصية الرّحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدّائم في الآجل فوثبوا عليه، فأخذوا بلحيته، ورأسه، فقال: مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إنَّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً، ثم قام من عندهم: فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت[12]، هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشَّام كلَّ جهده واستعمل حلمه، وثقافته، وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنَّه يدعوهم إلى تقوى الله، وطاعته، والاستمساك بالجماعة، والابتعاد عن الفرقة، وإذ بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله[13]. وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد، فذكَّرهم بأنَّه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حدَّ زعمهم، فهو يتوب من المعصية، إن وقعت، ثمَّ يعود لدعوتهم إلى الطَّاعة، والجماعة، والابتعاد عن تفريق كلمة الأمَّة، ولو كان الوعظ يجدي معهم، لأمكن أن تتأثَّر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللُّطف، وهذا يوجِّههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهاديء في العظة، واللين في النُّصح، فوجدنا المال رحباً أن يكشفوا في مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنَّا نأمرك أن تعتزل عملك، فإنَّ في المسلمين من هو أحقُّ به منك، وانتبه معاوية انتباهاً مفاجئاً إلى ما يكنُّون، فأحبَّ أنَّ يتعرف جانباً غامضاً عليه لعلَّ في هذا التعرُّف ما يوصله إلى من يحرِّكهم، ويبثًّ في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنَّهم أخفوا ما يكنُّون واكتفوا بالإشارة إلى أنَّهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولمن أبوه أفضل من أبيه، ثم تحلَّم عليهم أكثر فأكثر رغم الأسلوب الفجِّ الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جواباً مستفيضاً عن وجهة نظره في الحكم، والإمارة، والقيادة، وقد لخَّص معاوية إجابته في ستِّ نقاط أساسيَّة ومهَّمة:
ـ هي أنَّ له قِدْماً، وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشَّام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما .
ـ أنَّ هناك في المسلمين من هو أفضل منه، وأكرم، وأحسن سابقة، وأكثر بلاءً وهو يرى أنَّه أقوى من يحمي هذا الثَّغر الإسلاميَّ العظيم ـ الشّام ـ فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه، وسياسته، وفهم نفسيَّات أهله حتَّى أحبُّوه.
ـ إنَّ الميزان الحساس، والمعيار الدِّقيق الذي يقيِّم الولاة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد من معاوية شططاً، أو انحرافاً عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتباً بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد.
ـ إنَّ اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما هي الحجَّة التي يقدِّمها دعاة الفتنة، ليتمَّ الاعتزال على أساسها؟
ـ إنَّ الذي يقرِّر العزل عن العمل، أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إنَّ ذلك من حقَّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وهو الذي له الحقُّ في تعيين الولاة، وعزلهم.
ـ إنَّ أمير المؤمنين عثمان يوم يقرِّر عزل معاوية، فهو واثق، أنَّ أمره خير كلَّهُ، ولا غضاضه في ذلك فهو أمير مأمور، وهو أمر خليفة المسلمين.[14] كان ختام الجلسة مؤسفاً أشدَّ الأسف، مؤلماً أشدَّ الألم، لقد حذَّرهم نقمة الله، وغضبه، وحذَّرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم، وقمعهم، ووجَّه لهم كلاماً قاسياً مبطَّناً بالتهديد، وعرف: أنَّ هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحقِّ، فلا بدَّ من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وكشف هويَّاتهم، وخطرهم، ليرى فيهم أمير المؤمنين رأياً آخر[15].[

ميارى 14 - 5 - 2010 12:43 AM

[align=justify]ـ كتاب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم، ويأتون النَّاس ـ زعموا ـ من قِبَل القرآن فيشبهون على الناس،، وليس كل النَّاس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رُقَي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من النَّاس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجا فيه نفاقهم[1]، فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلىعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،، وكان أميراً على حمص[2]، فلما وصلوا إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، استدعاهم، وكلَّمهم كلاماً شديداً، وكان ممَّا قاله لهم: يا آلة الشيطان ألا مرحباً بكم، ولا أهلاً، لقد رجع الشيطان محسوراً خائباً، وأنتم مازلتم نشيطون في الباطل، خَسَّرَ الله عبد الرحمن إن لم يؤدِّ بكم ويخزِكم! يا معشر من لا أدري من أنتم أعرب، أم عجمٌ؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عَجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الرِّدَّة، والله لأذلنَّكم! وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهراً كاملاً، وعاملهم بمنتهى الحزم، والشَّدَّة، ولم يَلِن معهم كما لان سعيد، ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهُّم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم صعصعة بن صوحان يقول له: يا بن الخطيئة! هل تعلم أنَّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشَّرُّ، وأن من لم يصلحه اللِّين أصلحته الشدَّة؟ وكان يقول لهم: لماذا لا تردُّون عليَّ، كما كنتم تردُّون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني، كما كنتم تخاطبوهما؟ ونفع معهم أسلوب عبد الرَّحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه، وشدَّته، وقسوته، وأظهروا له التَّوبة والنَّدم، وقالوا له: نتوب إلى الله، ونستغفره أقِلْنَا أقالك الله وسامحنا سامحك الله: بقي القوم في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد، وأرسل عبد الرّحمن أحد زعمائهم وهو الأشتر النَّخعي إلى عثمان ليخبره بتوبتهم، وصلاحهم، وتراجعهم عمَّا كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احللُ أنت ومن معك حيث شئتم، فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرَّحمن في الجزيرة مدّةً، أظهروا فيها التّوبة، والاستقامة والصَّلاح[3]، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاثة وثلاثين، بعدما تمَّ نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشَّام،ثمَّ إلى عبد الرّحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أنَّ المصلحة تقتضي أن يسكتوا إلى حين[4]. إلا أن بقية دعاة الفتنة كانوا يشتغلون في البصرة، ومصر، وغيرها وفي سنة أربع وثلاثين ـ السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان ـ أحكم عبد الله بن سبأ خطته، ورسم مؤامرته، ورتب مع جماعته السَّبئيِّين الخروج على الخليفة، وولاته، فقد اتَّصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشَّياطين من حربه في البصرة، والكوفة، والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم، وكاتبوه، وراسلهم، وراسلوه وكان ممَّن كاتبهم، وراسلهم السَّبئيُّون في الكوفة، وقد كانوا بضعة عشر رجلاً منهم منفيين في الشَّام، ثمَّ في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين، كان زعيم السَّبئيِّين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس[5]. وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها، وأشرافها، لأنََّّهم توجَّهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرُّعاع، والغوغاء الذين أثر فيهم السَّبئيُون والمنحرفون، وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضدَّ والي عثمان إلى الكوفة سعيد بن العاص رضي الله عنه[6] واستطاع القعقاع بن عمرو التميميُّ أمير الحرب بالكوفة أن يقضي على التحرك الأوّل بقيادة يزيد بن قيس، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته، وبصيرته، لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان، وخلعه، وأظهر له كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد ابن العاص، والمطالبة بوالٍ آخر مكانه، فاستُجيب لطلبهم، ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة، لما سمع كلام يزيد، ثمّ قال يزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد، ولا يجتمع عليك أحد، واجلس في بيتك واطلب ما تريد من الخليفة، وسيحقِّق لك ذلك بإذن[7]الله، واستمر يزيد بن قيس في إشعال الفتنة، واضطر إلى تعديل خطّته في الخروج وبعد كيد ومكر وتدبير من أتباع السبيئيِّن، قرّر الغوغاء والرُّّعاع بقيادة يزيد بن قيس منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة وكان سعيد بالمدينة[8].
ولمّا خرج السبيُّون، والغوغاء طلبا الفتنة، والتمُّرد، وإحداث القلاقل بقي في المسجد وجوه المسلمين، وأشرافهم، وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوَّة، والوحدة، ونهاهم عن التفُّرق، والاختلاف، والفتنة، والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمرِّدين[9]، قال القعقاع بن عمرو التميمي: أتردُّ السَّيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات: لا والله لا تُسكِّن الغوغاء إلا المشرفيَّة[10]، ويوشك أن تُنْتضى، ثمَّ يعجُّون عجيج العتدان[11]، ويتمنون ما هم فيه، فلا يردهم عليهم أبداً، فاصبر، فقال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله[12]واستطاع أهل الفتنة أن يمنعوا سعيد بن العاص من دخول الكوفة ورجع إلى المدينة، وكان من رأيه: أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقلِّ، وبعد رجوعه إلى المدينة أخبر سعيد عثمان بما حصل. قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يداً من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة؟ وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنَّهم لا يريدونني والياً عليهم، ويريدون والياً آخر مكاني. قال له عثمان: من يريدون والياً؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعريِّ، قال عثمان: قد عيَّنا، وأثبتنا أبا موسى والياً عليهم، ووالله لن نجعل لأحد عُذراً ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرنَّ عليهم كما هو مطلوب منَّا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون، وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه والياً على الكوفة[13]، وكان أبو موسى رضي الله عنه يقوم بتهدئة الأمور، وبنهى النَّاس عن العصيان. وقال لهم: أيها الناس لا تخرجوا في هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، والزموا جماعتكم، والطاعة وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنَّكم بأمير[14]. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان قالوا: على السَّمع، والطاعة لعثمان[15]. وما كانوا صادقين في ذلك، لكنَّهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقيَّة عن الآخرين وكان أبو موسى يصليِّ بالنَّاس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه والياً على الكوفة، وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة: أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنَّ لكم عِرضي، ولأبذُلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، واسألوني كلَّ ما أحببتم، ممَّا لا يعصي الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصي الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتَّى لا يكون لكم عليّ حجّة وكتب بمثل ذلك إلى الأمصار[16]، رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما كان أصلحه وأوسع صدره وكم ظلمه السَّبئيُّون والخارجون الحاقدون، واختلفوا عليه.
ـ مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك:
واجه عثمان بن عفان الفتنة بوسائل وأساليب متنوعة منها، إرسال لجان تفتيش وتحقيق إلى الولايات، ومحاولة معرفة أغراض أهل الفتنة واستطاع أن يخترق صفوفهم، وأقام الحجة على الغوغاء والمتمردين بالحوار والنقاش، والاستجابة لبعض مطالبهم وقد فصلت ـ الحديث عن سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة في كتابي عن عثمان بن عفان رضي اله عنه ومن الأساليب التي اتخذها عثمان رضي الله عنه مشورته لولاة الأمصار رضي الله عنه حيث بعث إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ وكانوا: عبد الله بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص ـ وهم من الولاة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة، وقال فيه كل المشاركين برأيه وكان رأي معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام[17]، وبعد أن سمع عثمان من المشاركين اقتراحاتهم قام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكلِّ أمر باب يؤتي منه، إنَّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمَّة كائن وإن بابه الذي يغلق عليه، فيُكفكف به اللِّين، والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك والله ليُفتحنَّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقٍّ، وقد علم الله إنِّي لم آل الناس خيراً، ولا نفسي. والله إنَّ رحا الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها، كفكفوا النَّاس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله، فلا تُدِهنوا فيها[18]، فمنع عثمان رضي الله عنه منع الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب، وحبسهم، أو قتلهم، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى واللِّين[19]، وطالب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كلُّ بصير يرى أنَّها قادمة[20]، وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشَّام أتى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين: انطلق معي إلى الشَّام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث مالا قِبَل لك بها. قال عثمان أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذاً أبعث لك جيشاً من الشَّام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة، ليدافع عنك، وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا حتى لا أقترّ على جيران رسول الله صلى الله غليه وسلم الأرزاق، بجند، تساكنهم ولا أضيِّيق على أهل الهجرة والنُّصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين: والله لتُغتلنَّ، أو لتُغزينَّ. قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل[21]. ولقد حدث كل ما توقعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان رضي الله عنه وتغتاله في النهاية. وحين جاء هؤلاء الثوار من مختلف الأقاليم لا نجد من بينهم جماعة من أهل الشام[22]، من كل ما سبق نجد أننا أمام وال كبير يشق طريقه بجدارة من بين الولاة إلى ما هو أبعد من الولاية فقد استطاع أن يجعل من إقليم الشام الإقليم المهيأ لقيادة بقية الأقاليم في الدولة الإسلامية بما عمق فيه من حسن الطاعة للقيادة، وبما ثبت فيه من دعائم الاستقرار، وقطعه لأسباب الفتنة وعوامل الفرقة فيه. وهذا ما لا نجده في غيره من الأقاليم[23].
ـ مقتل عثمان رضي الله عنه وموقف الصحابة من ذلك:
اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصَّلاَّة في المسجد، وكان صابراً على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وإنه لا يحل سفكه إلا بحقه وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم[24]، وكأنه يقول من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة وهل يعقل يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة ومتى بعد ما تجاوز السبعين وقارب الثمانين من عمره أهكذا تكون معاملته؟ واشتدت سيطرة المتمردون على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات[25]، وحينها أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه[26]، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، فقد كان عثمان يحب الحسن ويكرمه فعندما وقعت الفتنة وحوصر عثمان رضي الله عنه أقسم على الحسن رضي الله عنه بالرجوع إلى منزله وذلك خشية عليه أن يصاب بمكروه[27]، وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنهما: أرجع ابن أخي حتى يأتي الله بأمره[28]، وقد صحت روايات أن الحسن حمل جريحاً من الدار يوم الدار[29]، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي، وابن عمر رضي الله عنهما[30]، وقد كان علي رضي الله عنه من أدفع الناس عن عثمان رضي الله عنه، وشهد له بذلك مروان ابن الحكم[31]، كما أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، إن علياً أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سبـبي[32]، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان رضي الله عنهما، أثناء الحصار فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشاً، فأرسل علي رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتىوصلت ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان فقتلوه رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال علي لأبنائه وابناء أخيه كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح[33]، وضرب صدر الحسين وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله وهو يقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم أني أبرأ إليكم من دمه أن يكون قتلت أو مالأت على قتله[34]، وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه، نصح وشورى سمع وطاعة، ووقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة[35].... ويبوء المفسدين بالإثم. إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنكر قتل عثمان، وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه، وغيرها: إنه لم يقتله ولا أمر بقتله، ولا مالأ عليه، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع[36]، خلافاً لما تزعمه الشيعة الرافضة من أنه كان راضياً بقتل عثمان رضي الله عنهما[37]، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله رضي الله عنه: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه[38]. وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه، وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان رضي الله عنه، ولا أمر ولا رضى، وقد روي عنه ذلك وهو الصادق البار[39]، وقد قال علي رضي الله عنه: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان[40]. وقد شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة التي ذكرها كثير من المؤرخين والمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي، وابن أعثم، وغيرها من الأخبار حبكت بطريقة ذات ميول عدائية للتاريخ الصحيح ويشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة، فأبي مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في إتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحق، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان، والمؤلبين ضده، ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف، وقد كثرت الروايات الشيعية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان رضي الله عنه وأنهم هم الذين حركوا الفتنة، وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور[41]، وخلافاً للروايات الموضوعة والضعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدثين بحمد الله، الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه والمتبرأين من قتله[42]، والمطالبين بدمه بعد مقتله وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة، أو إثارتها[43].
إن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل ولا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين، والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً[44] من أهل مصر. وقال الإمام النَّووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج، ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزَّبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم، فحضروه حتَّى قتل، رضي الله عنه[45]، وقد وصفهم الزبير رضي الله عنه بأنهم غوغاء من الأمصار ووصفتهم السيدة عائشة بأنَّهم نزّاع القبائل[46]، ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون ضالون، باغون معتدون[47]، ووصفهم الذهبيُّ بأنهم رؤوس شرًٍّ، وجفاء[48]، ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنَّهم أراذل من أوباش القبائل[49]، ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً. وعدواناً، فكيف يمنع الماء عنه، والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يوري ظمأ المسلمين بالمجّان[50]، والذي يساهم بأموال كثيرة عندما يلمُّ النَّاس مجاعة، أو مكروه وهو الدائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقة، أو شدَّة من الشدائد[51]، حتى أن علياً رضي الله عنه يصف هذا الحال، وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس: إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرّجل الماء، ولا المادة ـ الطعام ـ فإنّ الروم، وفارس لتأسر وتطعم وتسقي[52]، لقد صحَّت الأخبار وأكّدت حوادث التاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه[53]، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان[54].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:48 AM

[align=justify]المبحث الثالث : معاوية بن أبي سفيان في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما :
كان معاوية رضي الله والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى علي رضي الله عنه الخلافة أراد عزله ـ ويبدو أن هناك ضغوط على علي رضي الله عنه من قبل الغوغاء لكي يعزل معاوية، وخصوصاً أن الغوغاء يعرفون معاوية جيداً والذي جعلني أقول ذلك أن العلاقة بين علي ومعاوية قبل خلافة علي، لا يوجد ما يشوبها، بل كانت جيدة، كما أن الغوغاء فيما بعد ضغطوا على أمير المؤمنين علي في عزل قيس بن سعد من مصر ونجحوا في ذلك وترتب على ذلك ضياع مصر، وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، هذا وقد اختار أمير المؤمنين علي بدلاً من معاوية عبد الله بن عمر فأبي عليه عبد الله قبول ولاية الشام واعتذر في ذلك، وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهما[1]، ولم يلزمه أمير المؤمنين علي وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن علياً قام بالتهجم على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لاعتزاله وعدم وقوفه إلى جانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب[2]، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة: عن بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إليَّ علي قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني، فأبى علي، فاستعنت بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة[3]، وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخول في الطاعة، إذ كيف يوليه علي وهو لم يبايع، وفي الاستيعاب، لابن عبد البر من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن ابن عمر أنه قال حين احتضر: ما آسي على شيء إلا تركي قتال الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه[4]، وهذا مما يدل أيضاً على مبايعته لعلي، وإنه إنما ندم على عدم خروجه مع علي للقتال، فإنه كان ممن اعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع أحد، ولو كان قد ترك البيعة، لكان ندمه على ذلك أكبر وأعظم ولصرح به، فإن لزوم البيعة والدخول فيما داخل الناس، فيه واجب، والتخلف عنه متوعد عليه برواية ابن عمر نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية[5]. وهذا بخلاف الخروج للقتال مع علي، فإنه مختلف فيه بين الصحابة، وقد اعتزله بعض الصحابة، فكيف يتصور أن يندم ابن عمر على ترك هذا القتال، ولا يندم على ترك البيعة لو كان تاركاً لها، مع ما فيه من الوعيد الشديد، وبهذا يظهر بطلان قول بعض المؤرخين في زعمهم من ترك ابن عمر البيعة لعلى رضي الله عنه حيث ثبت أنه كان من المبايعين له بل من المقربين منه، الذين كان يحرص على توليتهم، والاستعانة بهم، لما رأى فيه من صدق الولاء والنصح له[6]، وبعد اعتذار ابن عمر من قبول ولاية الشام، أرسل أمير المؤمنين علي سهيل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع[7]، وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً،

أولاً : اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان :
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم من جهة أخرى ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته، وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم، قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ، واستحقاقه الخلافة، ولكنَّ اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان[8]
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقرُ بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا[9]، وقال أيضاً: وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفؤاً لعلي بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته، وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة، كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم[10].
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحاً في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجيء الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة وهذا هو الصواب[11]، قال النووي: وأعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه[12].

ثانياً معركة صفين : 37هـ
ـ تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:
1 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان رضي الله عنه: أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضّرجاً بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها[13]، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومع قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها[14]، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية[15]، فورد النعمان على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره[16]، وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا[17] وآلى رجال الشام ألاَّ يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم[18]، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام كانت بشعة: مقتل الخليفة، سيوفاً مصلته من الغوغاء على رقاب الناس بالمدينة، بيت المال منتهكاً مسلوباً، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون. ولذلك كان إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة. وهل تتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتالين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة[19]؟

2 ـ دوافع معاوية رضي الله عنه في عدم البيعة:
كان معاوية رضي الله عنه والياً على الشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة عليّ رضي الله عنه أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاعتذر ابن عمر، فأرسل عليّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كان يصل مشارف الشام ـ وادي القرى ـ حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع[20]، لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتصّ علي رضي الله عنه من قتلة عثمان رضي الله عنه ثم يدخلون البيعة[21]، وقالوا لا نبايع من يأوي القتلة[22]. وتخوّفوا على أنفسهم من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم قبل القصاص، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولي دمه والله يقول: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قتل مظلوماً على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام،، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت: .. وذكر الفتن وقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم[23]. وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان، ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف، وهو : عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثاً، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان لم يرضى بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه كتاباً[24]. لقد كان الحرص الشديد في تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام فضلاً عن طلبه للخلافة، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر منه[25]، فعن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتُوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه[26]، وأما ما شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فهذه روايات لا تصح ولا ثبتت، فقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لآبن قتيبة الدينوري، وهو لا يثبت له وإنما صاحبه ذو أنفاس شيعية رافضية، فقد ذكر أنَّ معاوية ادّعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأنا أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه[27]، وهذا كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي وإنما من كلام الشيعة الروافض، وسيأتي الحديث عن كتاب الإمامة والسياسة وبيان كذبه وزوره ودوره في تشويه حقائق التاريخ في موضعه بإذن الله، وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة التي تزعم أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة[28]. والصحيح أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا في أمر الخلافة في شيء فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه ومن حوله من أهل الشام أن يقتص عليّ رضي الله عنه من قتلة عثمان، ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة[29]، يقول القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء ـ أي أهل الشام ـ يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يأوي القتلة[30]، ويقول إمام الحرمين في ((لمع الأدلة)): إن معاوية وإن قاتل عليّاً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظآنَّاً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً[31]. ويقول الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أنَّ ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه فامتنع علي[32]، لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية رضي الله عنه اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي وطمعاً في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على من قتله عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع[33]
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي، ومن قادة الصحابة، وأكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلك زائل؟ وهو القائل: والله لا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه[34]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به[35]، وقال: اللهم علمه الكتاب وقه العذاب[36]. وأما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه، فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء، وحرصهم على قتله بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده[37]، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى[38]. ويمكن القول: إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفنى الله أرواحهم[39]. وإذا قارنّا بين طلحة والزبير رضي الله عنهما،ومعاوية لاحظنا أنهما أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنه ومن معه من أربعة أوجه كان أولها: مبايعتهما لعليّ رضي الله عنه طائعين مع إعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله[40]. والثاني: منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين وسابقتهما على معاوية ولاشك أن معاوية دونهما فيها[41]. الثالث: أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط ولم يتعمدا محاربة علي ومن معه في وقعة الجمل[42]، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين[43]، والرابع: لم يتهما عليّاً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك[44]. ونضيف نقطة خامسة: أن طلحة والزبير اقتنعا بصواب موقف علي ودخلا في الطاعة عندما اتفقا مع القعقاع بن عمر وإنما الحرب بإثارة الغوغاء والسبائية لها .
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:50 AM

3[align=justify]
ـ معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما :
بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان رضي الله عنه في صفر، ثم بعث معاوية طُوماراً[1] مع رجل، فدخل به على عليِّ رضي الله عنه فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القوَدَ[2]، كلهم موتور[3]، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليَّ، فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد[4]
4 ـ تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام:
بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بالبصرة بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجَهّزُ وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسين رضي الله عنهما فقال: يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على المسيرة وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخ أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، جاءه ما يشغله عن ذلك[5]، وقد تمَّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة إلى معركة الجمل، فليرجع إليه في كتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب[6].
5 ـ إرسال أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل:
ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين عليّ إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يسمى البصرة، أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد عشرين يوماً، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر[7]، وروي شهران أو ثلاثة[8]، وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: أنزل بالقصر الأبيض: فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همدان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هنالك ثم يُقبلا إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية يدعو إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا ذاهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنَّ بيني وبينه وُدَّاً، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه، فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمَّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب، وطلب معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم. فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أَنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت لقتلوك بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنَّه عن الفكرة ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مغضباً فأقام بقرقيسياء وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه[9] . وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله، الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها ورأساً في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي، وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ[10].
6 ـ مسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام:
استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس، وجهز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة[11]، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً[12]، وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخلة[13]، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك فتوافدت عليه القبائل من شتى أقليم العراق[14]، واستعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هاني في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه من فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل[15]، وسلك علي رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء[16]، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي رضي الله عنه إلى الرقة[17]، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين[18].
7 ـ خروج معاوية إلى صفين:
كان معاوية جادَّاً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم ومنهم: أبو عمرو بن بديل الخزاعي[19]، ثم كانت له أيد في مصر، وشيعة في أهل ((خربتا) تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين مثل عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ[20]، وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو صفين جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليَّاً نهد إليكم في أهل العراق،.. فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أم رأي وعلينا أم فعال[21]. وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال[22]، وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش وقاد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة المخالفين لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه[23]. وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفاً[24]، وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إن أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام ((72هـ)) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلق ممن شهد صفين، كما تبين من دراسة ترجمته[25]، والإسناد إليه صحيح[26]، وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة، هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا على حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرين مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر[27]. وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة ماء في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها وجعلها في حيزه[28].
8 ـ القتال على الماء:
وصل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات[29]، ففوجيء جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث ابن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين، انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء[30]، إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله مفادها: أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هبوا إنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) (الحجرات ، الآية :9) قال معاوية: فما تريد؟ قالوا خلوا بيننا وبين الماء، فقال لأبي الأعور: خل بين إخواننا وبين الماء[31]، وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين من المسلمين، إذا استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فيقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تصان به الأرواح والدماء[32].
9 ـ الموادعة بينهما ومحاولات الصلح :
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة، طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة[33]، مشهورة إلا أن ضعفها لا ينفي وجودها. كان الباديء بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبت بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية[34]، كما أن قُرَّاء الفريقين قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنج تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه[35]، وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما[36]، وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين وخطب الناس في محاولة منه لرأب الصدع بينهم فقال: أيها الناس أنصتوا ثم قال: أرأيتم لو أن منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه، قالوا: نعم: قال فوالله لقد نزل بذلك جبرائيل على محمد.. فما زال يأتي من هذا. ثم تلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً))(النساء ، الآية : 29). ثم أنساب في الناس فذهب[37]. وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال:... ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزلا في تردد فيه، وغير ذلك وأنه قال في غضون ذلك؟ لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً، وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه[38]. وموقف علي رضي الله عنه من قتل عثمان رضي الله عنه واضح، وقد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما وفي هذا الكتاب.

[/align]


ميارى 14 - 5 - 2010 12:52 AM

[align=justify]ثالثاً : نشوب القتال:
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة وذكر أنها تسعون[1]، إلا أن علياً أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ إلى معاوية يخبره بذلك[2]، فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال[3]، وبات جميع الجيش في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية[4].
1 ـ اليوم الأول :
أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى، قلب، وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي[5]: علي بن أبي طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمّار بن ياسر على الرجالة، ومحمد بن الحنفية حامل الراية وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعث بن قيس على الميمنة. وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء[6]، وتقابلت الجيوش الإسلامية ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب[7] وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم:
أصبحت الأمة في أمر عجب
والملك مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب
إن غداً تهلك أعلام العرب[8]

وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله[9]، وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها[10]، وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر وألتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، يصل كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش على رضي الله عنه حين إنصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة[11] وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى إنتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم أغفر لي ولهم[12].
2 ـ اليوم الثاني:
في يوم الخميس تذكر الروايات أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة[13]، وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء) وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى أن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
واكراهي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسريحي[14]

واستحث كتيبته الشهباء واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإنقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديداً واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعمر على الموت وكانوا أهل قتال[15].
وكان عمّار بن ياسر رضي عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهانا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة[16].
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبغلوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل[17]، ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول: أزفت الجنة وأزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً وكان منظر مؤثر فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله:
أعور يبغي أهله مَحَلاَّ قد عالج الحياة حتى ملاَّ
لا بد أن يَفُلّ أو يُفَلاَّ[18]

وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل[19]، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين
اليوم ألقى الأحبة محمّداً وحزبه[20]
وعند غروب الشمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن[21]. ثمّ تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا[22] رحمهما الله رضي الله عنهما.
3 ـ ليلة الهرير ويوم الجمعة:
عادت الحرب في نفس الليلة بشدة وإندفاع لم تشهدها الأيام السابقة وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت[23]، وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف[24]، وقال الشافعي: وحفظ عن علي أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير[25]، يقول شاهد عيان: إقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فأجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعض ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكاد منا بالأفواه إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق[26].
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه لراجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماؤهم في القتال حتى تضاحا النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام[27].
4 ـ الدعوة إلى التحكيم:
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن توافقنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمان، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكن رجل مسن،وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ[28].
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن إلتقينا غداً لتميلين الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلين أهل فارس على أهل العراق وذراريهم وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا[29]، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتى أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة إنما يزعج ذلك أعداء الأمة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل، كالمناداة بتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة جريمة ومؤامرة[30]وحيلة ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: (إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة[31]، ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة[32]، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون وغيرهم كثير، مما ساهم في تشوية الحقائق التاريخية الناصعة.
إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد[33]، وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي، ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي روية لا تصمد للبحث النزيه ولا ما يرويه الأمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل ـ أحد رجال علي بن أبي طالب ـ فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف، فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) (آل عمران ، الآية 23). فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقال القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: أيها الناس إن هذا فتح فقبل القضية ورجع، ورجع الناس[34]. وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازاً ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم[35]، وبين لهم بأنه لا خيار عن الحوار والصلح لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر إلا أسهلن بنا إلى ما نعرفه قبل هذا الأمر ما سد منها خُصماً إلا تفجر علينا خُصم ما ندري كيف نأتي له[36]، وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار ونسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين، ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة[37]، إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعياً رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في إتخاذ القرارات[38].
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قبل وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعد ذلك فتحاً ورجع[39] إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم ساهمت عدة عوامل به للتحكيم منها:
أ ـ أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لايقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتنفيذ وجهات نظر كل منهما، ولم تُجْد هي الأخرى ـ شيئاً وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى علي رضي الله عنه يطالبه بتوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي[40].
ب ـ تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
جـ ـ الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في إتجاه الموادعة وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة[41]، وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص. والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من إبتكار عمرو بن العاص، بل رفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
س ـ الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح قال تعالى ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء ، الآية : 59) ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله[42].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:55 AM

5[align=justify]
ـ مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين:
يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه: تقتلك الفئة الباغية[1]من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمّار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّار: تقتله الفئة الباغية[2]، واستمر في القتال حتى قتل[3]، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقونـ وكانت هي شربة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وأي رجل؟ قال: عمّار بن ياسر.. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض[4] في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به[5]، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام إنتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في بولك، أونحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفنا[6]. وفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنه قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطلب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل[7]. من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمار هم الذين جاءوا به إلى القتال[8]، وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب[9]، وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة[10]، وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن[11]، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث[12]، وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر[13].
* ـ فهم العلماء للحديث:
أ ـ قال ابن حجر : وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، وردُّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه[14]، وقال أيضاً: دل الحديث: تقتل عماراً الفئة الباغية، على أن علياً كان المصيب في تلك الحروب، لأن أصحاب معاوية قتلوه[15].
ب ـ يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث[16].
ت ـ قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية[17]. وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائ النبوة[18].
ث ـ وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: تقتلك الفئة الباغية[19].
جـ ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ )) (الحجرات ، الآية : 9)، هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقل عمار الفئة الباغية[20].
ح ـ وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار ـ وإن كان متأولاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قال علي، وعلي هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ أو باغ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على لذك قتال البغاة المتأولين[21]. وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمار قتلته الفئة الباغيةـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف[22].
س ـ وقال عبد العزيز بن باز: وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: تقتل عمار الفئة الباغية: فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان[23].
و ـ وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً ولذا عبّر ابن عمر عن تخلُّفه بأنه يأس بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء[24]
* ـ الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به[25]:
إن جل الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية[26]، إن المقصود جيش معاوية رضي الله عنه، مع أنهم معذورون في اجتهادهم فهم يقصدون الحق ويريدونه، ولكنهم لم يصيبوه، وفئة علي أولى بالحق منهم كما قال صلى الله عليه وسلم[27]، ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية ـ كما سأنقل ـ إلا أنهم عذروه في إجتهاده، فهاهو ابن حجر يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار[28]. فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في إتباع طنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام وكذلك معذورون للتأويل الذي ظهر لهم[29].
وقال القرطبي: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل: علي رضي الله عنه، كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه[30]، وقال أيضاً: وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب ابن دحية[31]، وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء[32]، وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من اصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم[33]، وقال ابن القيم معلقاً على هذا التأويل: نعم التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية[34]، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي قتله، لا من استنصر به[35].
6 ـ من هو قاتل عمّار بن ياسر؟
قال أبو الغادية الجهني وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستن أول الكتيبة رَجِلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قتل عماراً، واستسقى أبو غادية/ فأتي بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها، فأتى بماء في قدح فشرب، فقال رجل:... يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار[36]، ويخبر عمرو بن العاص رضي الله عنه الخبر فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار وسالبه في النار[37]. قال ابن كثير ومعلوم أن عماراً كان في جيش علي يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل إنه صحابي[38]، وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين للمجتهد المخطيء أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى[39]، وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل[40]، وقد وفق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، أي (قاتل عمار وسالبه في النار)[41]، إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور، لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في النار[42]، فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها[43]. وقد ترجم لأبي الغادية الجهني ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن سًبُع وقيل يسار بن أزهر، وقيل إن اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، رُوي عنه أنّه قال: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض[44]، وكان محباً لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه وفي قصته عجبٌ عند أهل العلم[45].
7 ـ المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:
إن وقعت صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين.. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهراً سيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة يدفعون الجنود إلى معركة غير مقنعين بها، بل كانت معركة مدفوعة من قبل القيادة، معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء فيستقون جميعاً ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذي إنسان إنساناً[46]، وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال فهذا أحد المشاركين يقول: كناإذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في معسكر هؤلاء.. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم[47]، وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده، فيقتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف[48]، قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهنا وضعفاً) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا[49]، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها[50]، ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان[51]، ويذكر شاهد عيان إشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث علي إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا وشبك بين أصابعه، وكان الرجل من أصحاب علي يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه، وقد مر أصحاب علي بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله[52]. وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل العراق ومن أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي، ولا إلى معاوية بن أبي سفيان وقالوا لأمير المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرضى بهذا فهو جائر خائن[53]. والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات وإجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلَّوا عليها[54]
8 ـ معاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهيه بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إكرام الأسرى، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك إن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته[55]، لذلك كان علي رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله وإن أبى أخذ سلاحه ودابته أو يهبها لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل وفي رواية يعطيه أربعة دراهم[56]وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة وقد أتى بأسير يوم صفين فقال الأسير: لا تقتلني صبراً فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثمّ قال: أفيك خير تبايع[57]. ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
ـ إكرام الأسير والإحسان إليه.
ـ يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
ـ إن أبى البيعة أخذ سلاحه ويحلفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.
ـ إن أبى إلا القتال تحفظّ عليه في الأسر ولا يقتله صبرا[58]. وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشرا أسيراً ويبدو أنهم جرحى فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه[59]. ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ الذي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة[60]، قال أبن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علي فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين[61].
9 ـ عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى فذٍكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل[62]، كما ذكر أبن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر[63]، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقه، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة[64]، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية الآلف وخمسمائة[65]، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة،
10 ـ تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت عليا على بغلة النبي صلى الله عيه وسلم الشهباء، يطوف بين القتلى[66]، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاء والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين أحابس[67]معهم؟ عهدي والله به مؤمن فقال علي، فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: ياأمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفضعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين قال: فمع أيهما كنت؟ قال؟ مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى:(( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)) (الإسراء ، آية : 12) فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً، قال الرواي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين[68]، وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً[69]، وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية[70]، وكان يقول عنهم هم: المؤمنون[71]، وقوله رضي الله عنه في صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل[72].
11 ـ موقف لمعاوية مع ملك الروم:
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير: .. وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلم رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة[73]. وهذا الأثر يدل على أن الخلاف الذي بينه وبين علي رضي الله عنه لن يبقى لحظة واحدة فيما لو تعرض أمن الدولة الإسلامية في الشام للخطر، ولولا أن الروم يعلمون أن هذه الخلافات قابلة للنسيان المطلق ما أخذوا تحذير معاوية مأخذ الجد وكفوا أيديهم[74]
12 ـ قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين:
قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام باجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.... فاعترضه علي وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل
والخضر والأنامل الطفول[75]
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلتَ الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي[76]، وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف: وقول علي: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَحِمَ إلى أن قال:.. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:


أفي كل يوم فارس غير منته
وعورته وسـط العجاجة بداية
يكف لهـا عنه علي سنانه
ويضحك منه في الخلاء معاوية[77]
والرد على هذا الافتراء والأفك المبين كالآتي، فراوي الرواية الأولى، نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي: رافضي جَلد، تركوه قال عنه العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذاباً[78]، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضياً غالياً... ليس بثقة ولا مأمون[79]وأما الكلبي، هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه وقال الدارقطني: متروك[80]، وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة[81]، وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصَّاص وأصبح كثير منها من المسَلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف[82].
13 ـ مرور أمير المؤمنين علي بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاف[83].
14 ـ إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة:
إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محادثة ثني أمير المؤمنين في عزمه لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن إصلاح علي مع معاوية هو أيضاً إصطلاح عل دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين[84].
15 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:
روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي من لجج به[85]، وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاَ وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنَّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه[86]، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: من لعن مؤمناً فهو كقتله[87]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان[88]، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة[89]، كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحي الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته. كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علي من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم[90]، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة[91].

[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 01:37 AM

رابعاً : التحكيم:
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد إنتهاء موقعة صفين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما جميعاً، وكتب بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ، وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس (رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصاً: ابو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في إهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه[1].

خامساً : نص وثيقة التحكيم :
بسم الله الرحمن الرحيم.
1 ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4 ـ وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.
5 ـ على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوا الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبقيان فيها بشبهة.
6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدو الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلاً يرضون عدله.
وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح .
11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة.
12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما .
15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رأى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً، وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين، إبنا علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن القيس الهمداني، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمر بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية، ومن أهل الشام،حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبشر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث الذبيدي، ومسلم بن عمرو السكسي، وعبد الله بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن حبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمّار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم.
وكتب يزم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين[2].

سادساً : قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، وإذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه[3].
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصافحهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقالوا، فما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبي علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لا أظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غيره ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن تسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمّة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني، قال أبا موس أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجد مثل عمرو كمثل الذي قال الله عز وجل ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)) (الأعراف ، آية : 175). فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل ((مَثََلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) (الجمعة ، آية : 5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار[4]. والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة[5]، كما قرّر العلماء ، وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث[6]. وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك[7]، وهذا نصها: ... رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالإلفة واجتماع الكلمة عليه ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين[8]، وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، وبأبي جناب الكلبي فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، ضعيف ليس بثقة[9]، وأخباري تالف غالي من الرفض وأما الثاني قال فيه أبن سعد: كان ضعيفاً[10]، وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه[11]وقال عثمان الدارمي: ضعيف[12]، وقال النسائي: ضعيف[13]. هذه طرق قصة التحكيم المشهور، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها[14].
2 ـ أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها[15].
3 ـ وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه أبن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: أن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما[16]. وقد روى أبو موسى عن تورّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الإحداث بعدهما، قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، غُبِنا وأخطأ أو نقص رأيهما، ووالله ما كان مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي. ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا[17]
4ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي فقد أخرج يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد[18]، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا أبن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه[19]، فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختبار خليفة أو عزله[20]، ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن علياً قاتل معاوية لإمتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنّه وقوته على الطلب بذلك وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط[21]، وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ يبين إلى أيِّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين، إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا[22]
5 ـ أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم،والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون[23]قرشياً وقد توفرت هذه الشروط في علي(رضي الله عنه)فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة ـ ولا شك وقد بايعه المهاجرون والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك، فقول معاوية السابق يدل عليه بأن((الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة، فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختبار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى[24]. وإذا فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات كل من لم يرضى بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامه، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير[25]
6 ـ أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7 ـ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدوا هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص وقد أعتزل الأمر ورغب عن الولاية، والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره[26].


ميارى 14 - 5 - 2010 01:40 AM

8[align=justify]
ـ أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم . والسؤال ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي[1]، أعلم الناس بأمر الشام[2] أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين[3]. فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء[4]، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع[5]، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس ((كفئا لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ((رضي الله عنه))، فإن فضل علي وسابقته وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه، أبي بكر، وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم[6]، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما[7]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة[8] ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك[9].
9ـ أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوتها تنطف قلت قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب حفظت وعصمت[10]، هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية ( رضي الله عنه )، وقال ابن الجوزي إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، ويرى ابن حجر في التحكيم[11]، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وإتلاف[12].
10 ـ حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان، ولم يكن معاوية مدعيا للخلافة ولا منكراً حق عليّ فيها كما تقرر سابقاً، وإنما كان ممتنعاً عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلباً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة[13]، وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه ((أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين)): قال أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـ الباقلاني ـ في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه ـ علي بن أبي طالب ..... وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما أو إلى أن يبيّنا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونصّ كتاب عليّ ـ عليه السلام ـ اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجلّ من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما ... والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، يشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته، وسابقته في الدين، وعظيم جهاده في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في الحلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل الحمل أعباء الخلافة[14].
11 ـ مكان انعقاد المؤتمر:
كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين ـ كما جاء في الوثيقة ـ في رمضان في عام 37هـ، إذا لم تحدث عوائق، في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل[15]، في روايات موثقة، وأذرح[16] في روايات أخرى دونها في الاتقان، ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثر في اختلاف الروايات، إذ يقول خليفة بن خياط[17]... ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب، وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق[18].
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل، وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار وبخاصة بشعري ذي الرمة[19]، في مدح بلال بن أبي بردة[20] وهو قوله:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما
تشاءوا وبيت الدين منقلع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح
ورد حروباً قد لقحن إلى عقر[21]
12 ـ هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين:
اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد، ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين، وفد عن أهل العراق، وآخر يمثل أهل الشام وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم، ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته، وأفضل هؤلاء: سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولاهمَّ به[22]، فعن عامر بن سعد أن أخاه عُمرَ انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة فلمّا أتاه رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الركب، فلمَّا أتاه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي[23].

سابعاً : هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟
يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعاً مسؤولياتهم ومن ورائهم الأمّة الإسلامية التي يحكومنها في الضغط الجادِّ الصادق، على الطرفين المتنازعين، لكي يوقفا بينهما من قتال، ويلجأ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام فيرسل هذا الطرف حكماً من قبله، وذلك حكماً آخر من قبلة أيضاً، للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1 ـ تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لا بُدّ منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2 ـ جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول، التي تفصل في مسائل النزاع.
3 ـ أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع، وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام، وحلول مشروعة إنهاء النزاع الرّاهن، على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام، وأن الخروج عليها، أو الرضى بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعاً.
4 ـ إذا أصدر الحكمان ما اتِّفَقَا عليه من أحكام، وحلول، وإنقاد لها الطرفات المتنازعان ـ قُضي الأمر، وكفى الله المؤمنين القتال.
5 ـ إذا رفض أحد الطَّرفين، أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي، سواء صدر الرفض من أحدهما، أو من كليهما، ووجب شرْعاً على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرُّف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية، من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.
6 ـ ويكون من صلاحيّات الحكمين بالاِّتفاق ـ إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى، من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه[24]، ولعلّ اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار الإسلامية، كفيل بسد الطريق على أيّة قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النِّزاع دعاها إلى هذا التدخل.. ومن ثم تستغل هذه الفرصة، لكي تتآمر على المسلمين، فتعمل على تصعيد تلك النزاعات، وفرض الحلِّ الذي يَحْلو لها، ويكون فيه مصلحتها فقط وليعان المسلمون، بعدئذ، من آثار ذلك الحلِّ أسوأ ممّا كانوا يُعَانُون من فتنة النِّزَاع نفسها، فهذه المعاناة لا تهمها في شيء، لا بل إنَّ هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فرضت من أجل تفجيرها ذلك الَحلَّ المشؤُوم، قلنا: لعل اللُّجُوء إلى التحكيم، على نحو ما سلف بيانه، يسد الطريق في وجه تلك القوى الخارجيّة التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد، هذا، وإن الصفة الإلزميَّة شرعاً للحل عن طريق التحكيم الذي عرضانه ـ تستند إلى إجماع الصحابة، فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النِّزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجُوء التحكيم، والقبول به.. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي، والصحابة الذين كانوا مع معاوية، والصحابة الذين اعتزلوا الطريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما ـ رضي الله عنهم أجمعين[25]،

ثامناً : موقف أهل السنة من تلك الحروب:
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطيء في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم، وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي[26].
1 ـ قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات ، آية : 9).
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الأيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد[27]
2 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق[28]. والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاق بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق، والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره[29].
3 ـوعن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين[30]ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً. قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان[31]

فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته[32] . كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى:" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " (الحجرات ، آية:9). وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبى طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم وكتب أهل السنة مملؤه ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها[33]
1- سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها[34]. قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب[35]

2- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا [36].ومعنى قول الحسن هذا : أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل – إذ كانوا غير متهمين في الدين[37]

3- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقول : أقول ما قال الله : ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى[38])) (طه, الآية:52)

4- قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن قيل له : ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى[39], وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية ؟ فأعرض عنه فقيل له : يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال : اقرأ ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (البقرة ,الآية :141)

5- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال : وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب[40]

6- وقال أبو عبد الله بن بطه أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم[41]

7- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني : ويجب أن يعلم : أن ماجرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولايبدعون والدليل عليه قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح, الآية: 18) وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه, ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: إن أبي هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[42], فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) (الحجر,الآية:47)... إلى أن قال: ويجب الكف عمّا شجر بينهم والسكوت عنه[43]

8- وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة : ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما هو زيد فيه ونقص وغيرّ عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون[44]

9- وقال ابن كثير : أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والإجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً : وأما المصيب فله أجران[45]

10- وقال ابن حجر : واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن إجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً, وأن المصيب يؤجر أجرين[46]
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم و أرضاهم[47]
تاسعاً: تغير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين
بعد معركة صفين بدأت الموازين تتبدل لصالح معاوية رضي الله عنه فقد خرج الخوارج من جيشى علي رضي الله عنه, وانشغل بقتالهم, بينما ازداد أمر معاوية قوة لا سيما بعد انتهاء أمر التحكيم, وعدم الوصول إلى حل جزري زكان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سرَّاً وعلانية على إضعاف جانب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, واستغل ما أصاب جيشه من تفكك وخلاف, فأرسل جيشاً إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه سيطر عليها وضمها إليه وقد ساعده على ذلك عدة أمور منها :
1- انشغال أمير المؤمنين علي بالخوارج
2- عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على مصر - محمد بن أبي بكر- لم يكن على قدر من الدهاء كسلفه قيسى بن سعد الساعدي الأنصاري, فدخل في حرب مع المطالبين بدم عثمان ولم يسايسهم كما كان يضع الوالي السابق فهزموه
3- اتفاق معاوية مع المطالبين بدم عثمان رضي الله عنه في مصر في الرأي, فساعده في السيطرة عليها[48]
4- بعد مصر عن مركز أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقربها من الشام
5- طبيعتها الجغرافية فهي متصلة بأرض الشام عن طريق سيناء وتمثل امتداداً طبيعياً, وقد أضافت مصر قوة كبيرة لمعاوية رضي الله عنه, قوة بشرية واقتصادية كبيرة, وكذلك أرسل معاوية بعوثه إلى شمال الجزيرة الغربية, ومكة والمدينة وإلى اليمن ولكن لم تلبث هذه البعوث أن ردت على أعقابها عندما أرسل أمير المؤمنين عليُّ من يصدها[49], وعمل معاوية رضي الله عنه على استمالة كبار أعيان القبائل وعمال علي رضي الله عنه, فقد حاول سحب قيس بن سعد رضي الله عنه عامل علي علي مصر إليه فلم يستطيع, ولكنه استطاع أن يثير شك حاشية علي رضي الله عنه ومستشاريه فيه فعزله[50], وكان عزل سعد عن ولاية مصر مكسباً كبيراً لمعاوية, كما حاول سحب زياد بن أبية عامل علي رضي الله عنه على فارس ففشل في ذلك[51], وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم به, ولما يرونه من علو أمر معاوية وتفرق أمر علي رضي الله عنه؛ إذ يقول في إحدى خطبه : ألا إن بسراً قد أطلع من قبل معاوية, ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم, وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم, استعملت فلاناً فغلَّ وغدر وحمل المال إلى معاوية, واستعملت فلاناً فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية, حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت على عِلاَ قَتِهِ, اللهم إني أبغضتهم, وأبغضوني فأرحهم مني وأرحني منهم[52]. ولم يستسلم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لهذه المصائب, وهذا التقاعس, والتخاذل فقد بذل جهده في استنهاض همة جيشه بكل ما أوتي من علم وفصاحة وبيان, فخطبه الحماسية المشهورة التي اشتهرت عنه, وتعتبر من عيون التراث لم يقلها من فراغ أوخيال, بل مرتجرعه, وواقع أليم عاصره ولقد ذكرت منها في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه[53].
[/align]



الساعة الآن 02:48 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى