منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   طريق الهجرتين وباب السعادتين - الامام بن قيم الجوزية شيخ الاسلام (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=24531)

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:18 AM

فصل في الغنى العالي

وأما الغنى العالي فقال شيخ الإسلام هو على ثلاث درجات الدرجة الأولى غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة والدرجة الثانية غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة والدرجة الثالثة الغنى بالحق وهو ثلاث مراتب الأولى شهود ذكره إياك والثانية دوام مطالعة أوليته والثالثة الفوز بوجوده
قلت ثبت عن النبي أنه قال ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس
ومتى استغنت النفس استغنى القلب ولكن الشيخ قسم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلقه فقال غنى القلب سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة ومعلوم أن هذا شرط في الغنى لا أنه نفس الغنى بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب لا أن غناه بها نفسها وإنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالغني إنما يصير غنيا بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء وإن فاته فاته كل شيء فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح والله المستعان
وإنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب وصلاح النفس متقدم على إصلاحها هكذا قيل وفيه ما فيه لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أولى بالتقديم
وقد قال النبي إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد إلا وهي القلب /ح/

والقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأمراء والرعية خلعا تناسبها فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات فأدت الحقوق سمحة لا كظما بانشراح ورضا ومبادرة وذلك لأنها جانست القلب حينئذ ووافقته في أكثر أموره واتحد مرادهما غالبا فصارت له وزير صدق بعد أن كانت عدوا مبارزا بالعداوة فلا تسأل عما أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أهل الجنة هذا ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار لولا قدرة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح فالمرابطة على ثغري الظاهر والباطن فرض متعين مدة أنفاس الحياة
وتنقضي الحرب محمودا عواقبها % للصابري وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاء وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغض عن المحارم وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعه للعبد في معاشه ومعاده وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوة وأيد وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ فغدا العبد وراح يرفل في هذه الخلع ويجر لها في الناس أذيالا وأردانا فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تخلع عليه فيستغني حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصةوالمحبة الناصحة الخالصة وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات وهذا أمر تضيق عن شرحه عدة أسفار بل حظ العبد منه علما وإرادة كما يدخل إصبعه في اليم بل الأمر أعظم من ذلك والله سبحانه أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى وصارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت عنها أيضا اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد فإذا صارت يبوستها حرارة وبرودتها رطوبة وسقيت بماء الحياة الذي أنزله الله عز وجل على قلوب أنبيائه وجعلها قرارا ومعينا له ففاض منها على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأنينتها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فلنرجع إلى كلامه
فقوله في الدرجة الأولى وهي غنى القلب إنه سلامته من السبب أي من الفقر إلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إليه والثقة به فمن كان معتمدا على سبب غناه واثقا به لم يطلق عليه اسم الغنى لأنه فقير إلى الوسائط بل لا يسمى صاحبه غنيا إلا إذا سلم من علة السبب استغناء بالمسبب بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره فلذلك يصير صاحبه غنيا بتدبير الله سبحانه فمن كملت له السلامة من علة الأسباب ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة أي بالانقياد لحكمه حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته
فإذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف وإن لم ينضم إليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار ومن كان فقيرا إلى شيء لم يرده الله لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله فلا يتم الغنى بتدبير الله سبحانه لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره
ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه فإن منازعة الخلق دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة ومن كان فقيرا إلى حظ من الحظوظ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه لا يطلق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ استحق أن يكون غنيا بتدبير مولاه مفوضا إليه لا يفتقر قلبه إلى غيره ولا يسخط شيئا من أحكامه ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله ومحاكمته إلى الله كما كان النبي يقول في استفتاح صلاة الليل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت
فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه وقد قالت عائشة ما انتقم رسول الله لنفسه قط


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:18 AM

وهذا لتكميل عبوديته ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت وقد أمر أن يكفر به ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأمر والحكم نوعان حكم كوني قدري وحكم أمري ديني فهذا الذي ذكره الشيخ في منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون إنما مراده به الحكم الكوني القدري وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المناعة له فإن هذا الإطلاق غير مأمور به ولا ممكن للعبد في نفسه بل الأحكام ثلاثة حكم شرعي ديني فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة بل بالانقياد المحض وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات بل اندرج خلاقه تحت الأمر واضمحل خوضه في معرفته بالحق فاطمأن إلى الله معرفة به ومحبة له وعلما بأمر وإرادة لمرضاته فهذا حق الحكم الديني الحكم الثاني الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة بل ينازع بالحكم الكوني أيضا فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والعارف من يكون منازعا للقدر لا واقفا مع القدر اه
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراه من الطاعون فقيل له أتفر من قدر الله فقال نفر من قدر الله إلى قدره

ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس فقد دفع قدر الله بقدره وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفىء قدر الله بقدر الله وما خرج في ذلك عن قدر الله وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم وبهذا أمر هذا حقيقةالشرع والقدر ومن لم يستبصر فيه هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال في العبودية اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة وخرج الأمر عن يده فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه وعدله في قضائه وحكمته في جريانه عليه وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة
استأثر الله بالمحامد والف % ضل وولي الملامة الرجلا
ويتبين هذا المقام في أربع آيات إحداها قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله ومن أصابك من سيئة فمن نفسك
والثانية قوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
والثالثة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
والرابعة قوله تعالى وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
فمن نزل هذه الآيات على هذا الحكم علما ومعرفة وقام بموجبها إرادة وعزما وتوبة واستغفارا فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم وهذا قدر زائد على مجرد التسليم والمسالمة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل في تفسير غنى النفس

قوله في غنى النفس أنه استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره وإيمانا به واحتسابا لثوابه وخشية من عقابه لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربا من ذمهم وازدرائهم وطلبا للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه فكيف لا تكون قرة العين وكيف تقر عين المحب بسواها فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق سبحانه فجرى أثر ذلك النور في سمعه ونثره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا وقوله نورا ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة كما قال تعالى إن الصلواة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا وفي القراءة الأخرى يدفع فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما إغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى فاستقم كما أمرت وقال سبحانه إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل فيما يغني القلب ويسد الفاقة

وهذه الاستقامة ترقيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهي أعلى درجات الغنى فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك قبل ذكرك له وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك فقدر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئا البتة وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله قال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل فجعلك أهلا لما لم تكن أهلا له قط وإنما هو الذي أهلك بسابق ذكره فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن لك إليه سبيل ومن الذي ذكرك باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك وبعث دواعيك وأحيى عزماتك الصادقة عليها حتى ثبت إليه وأقبلت عليه فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجبت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إليك أولا حتى تقربت إليه ثم أثابك على هذا التقرب تقربا آخر فصار التقرب منك محفوفا بتقربين منه تعالى تقرب قبله وتقرب بعده والحب منك محفوفا بحبين منه حب قبله وحب بعده والذكر منك محفوفا بذكرين ذكر قبله وذكر بعده فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقر إليه فهذه كلها آثار ذكره لك ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك وتعرف بها إليك وتتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده إذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاء منك ولا لحاجة دعته إلى ذلك كيف وهو الغني الحميد فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها فلتعظم عندك لذكره لك بها فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك بمعروفه وتحبب إليك بنعمته هذا كله مع غناه عنك
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذه وسيده يذكره ولا ينساه فهو يحصل له بشعوره بذكر أستاذه له غنى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له فهذا هو غنى ذكر الله للعبد وقد قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره به حتى جعله ذاكرا وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائدا على إنعام ربه عليه وعطاياه له وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده وذكرنا قريبا من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها وهو كتاب عظيم النفع جدا والمقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغني قلبه ويسد فاقته وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم فإن الفقر من كل خير حاصل لهم وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل في بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل

الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل دوام شهود أوليته سبحانه وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله والغنى به أتم من الغنى المذكور لأنه من مبادي الغنى بالحقيقة لأن العبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره وهو الإله الحق الكامل في أسمائه وصفاته الغني بذاته عما سواه الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأزل والأبد لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الجلال منعوتا بنعوت الكمال وكل شيء سواه فإنما كان به وهو سبحانه بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه فإذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن وبقي من لم يزل واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها فيستغني العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى به عن فاقاته وحاجاته وإنما كان هذا عندهم أفضل مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه وصارت كأوليتها وهو العدم فأفنتها أولية الحق سبحانه فبقي العبد محوا صرفا وعدما محضا وإن كانت انيته مشخصة مشارا إليها لكنها لما نسبت إلى أولية الحق عز وجل اضمحلت وفنيت وبقي الواحد الحق الذي لم يزل باقيا فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه وشهد العبد حينئذ أن كل شيء ما سواه باطل وأن الحق المبين هو الله وحده ولا ريب أن الغنى بهذا الشهود أتم من الغنى الذي قبله وليس هذا مختصا بشهود أوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستواءه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والمصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسمه نافذة فيها كما يشاء يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه علما تفصيليا ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها سواء عنده من أسر القول ومن جهر به لا يشغله جهر من جهر عن سمعه لصوت من أسر ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين وهو مشهد الربوبية وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد ويصلى له ويسجد ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله فهو المطاع وحده على الحقيقة والمألوه وحده وله الحكم وحده فكل عبودية لغيره باطلة وعناءو ضلال وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها وكل غنى لغيره فقر وضلال وكل عز بغيره ذل وصغار وكل تكثر بغيره قلة وفاقة فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات ويستحيل أن يكون معه إله آخر فإن الإله على حقيقة هو الغني الصمد ولا حاجة به إلى أحد وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل فإن استقلالهما ينافي استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون أجعل الألهة إلها واحدا مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما وأنه المنفرد بملك ذلك كله فأرسل الله تعالى يذكر بما في فطرتهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء وهو مشهد جامع للأسماء والصفات وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله فإن هذا الاسم هو الجامع ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية فقد تم له غناه بالإله الحق وصار من أغنى العباد ولسان حال مثل هذا يقول
غنيت بلا مال عن الناس كلهم % وإن الغنى العالي عن الشيء لا به
فيا له من غنى ما أعظم خطره وأجل قدره تضاءلت دونه الممالك فما دونها وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:20 AM

فصل في بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب

الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده هذا الغنى أعلى درجات الغنى لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه ففاض على القلب من صدق التوجه أنوار الصفات المقدسة واستغنى القلب بذلك وجعل له أيضا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضا وأما هذا الغنى الثالث الذي هو الغنى بالحق فهو من آثار وجود الحقيقة وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات وإنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد فهذا أوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات الأفعال يغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأرواح من أنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم فما لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش ألذ من المنى فلا تستعجز
نفسك عن البلوغ إلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب وإنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون وقد جاء في أثر إلهي يقول الله عز وجل ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء /ح/ فمن طلب الله بصدق وجده ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء فأصبح حرا في غنى ومهابة على وجهه أنواره وضياؤه وإن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات وقد قال من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة وكان الله بكل خير إليه أسرع /ح/ فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه فهذا من باب التنبيه والأولى

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

قال يحيى بن معاذ الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأسباب كلها
قلت يريد عدمها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها بل تصير عدما بالنسبة إلى سبق مسببها بالأولية وتفرده بالأزلية وسئل محمد بن عبدالله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه والاستغناء به فقال إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الاستغناء به وإذا صح الاستغناء به صح الافتقار إليه فلا يقال أيهما أكمل لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر قلت الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه وهما عبارتان عن معنى واحد لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته وحقيقة العبودية كمال الافتقار إليه من كل وجه وهذا الافتقار هو عين الغنى به فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أحدهما على الآخر وإنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إليه فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى غنى بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية وفقرا بالنسبة إلى قصر همته وجمعها على الله سبحانه وتعالى فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره فسفرها عن الغير غنى وسفرها إلى الله يصير فقرا فإذا وصلت إليه استغنت به بكمال فقرها إليه إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول وإنما يكمل فقرها بهذا الوصول
وسئل رويم عن الفقر فقال إرسال النفس في أحكام الله تعالى قلت إن أراد الحكم الديني فصحيح وإن أراد الحكم الكوني القدري فلا يصح هذا الإطلاق بل لا بد فيه من التفضيل كما تقدم بيانه وإرسال النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها وإرسالها في أحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبودية
وقيل نعت الفقير ثلاثة أشياء حفظ سره وأداء فرضه وصيانة فقره قلت حفظ السر كتمانه صيانة له من الأغيار وغيرة عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه وأداء الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأغيار وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع
وقال إبراهيم بن أدهم طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال هو الأمن بالله عز وجل وسئل أبو حفص بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربه فقال ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره وقال بعضهم إن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذرا أن يدخله فيفسد عليه فقره كما يخشى الغني الحريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه
وقال بشر بن الحارث أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر قلت ومن ههنا قال القائل
قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه % فقتل خلعة ساق حبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما % قلب يرى ألفة الأعياد والجمعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي % والعيد ما دمت لي مرأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاء متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له كيف ذلك فقال إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له قلت معنى هذا أنه لا يبقى عليه بقية من نفسه فإذا كان لنفسه فليس لها بل قد اضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها وإذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له فهذا من الذين خسروا أنفسهم وقيل حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره وقال أبو حفص أحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال
وقال بعضهم ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته قلت يشير إلى تعلق همته بواجب وقته وأنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله وأيضا يشير إلى قصر أمله وأن همته غير متعلقة بوقت لا يحدث نفسه ببلوغه وأيضا يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت ولا يضعفها بتقسيمها على الأوقات
وقيل أقل ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه
وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربي إنما هو فقر وذل فقال منصور بل فقر وعز فقال أبو سهل فقر وثرى فقال منصور بل فقر وعرش قلت أشار أبو سهل إلى البداية ومنصور إلى الغاية وقال الجنيد إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه فقلت يا أبا القاسم كيف يكون فقير يوحشه العلم فقال نعم الفقير إذا كان صادقا في فقره فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص في النار
وقال المظفر القرميسيني الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة
قال أبو القاسم القشيري وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم وإنما أشار قائله إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضى بما يجريه الحق سبحانه قلت وبعد فهو كلام مستدرك خطأ فإن حاجات هذا العبد إلى الله بعدد الأنفاس إذ حاجاته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام بل حاجات هؤلاء في حاجة هذا العبد كتفلة في بحر فإن حاجته إلى الله في كل طرفة عين أن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه في مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها فأي حاجات أكثر وأعظم من هذه فالصواب أن يقال الفقير هو الذي حاجاته إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله لا يشعر بكثير منها فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها وإن كان لا بد من إطلاق تلك العبارة على أن منها كل بد فيقال هو الذي لا حاجة له إلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء وأما أن يقال لا حاجة له إلى الله فشطح قبيح وأما حمل أبي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضى بمجاري الأقدار فإنما يحسن في بعض الحالات وهو في القدر الذي يجري عليه بغير اختياره ولا يكون مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم وأما إذا كان مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر هو أحب إلى الله منه وهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب فإسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار فيه والسعي عين العجز والله سبحانه يلوم على العجز
وقال ابن خفيف الفقر عدم الأملاك والخروج عن أحكام الصفات قلت يريد عدم إضافة شيء إليه إضافة ملك وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي توجب له دعوى الملك والتصرف والإضافات ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجب له العجز والفقر والفاقة كما في دعاء الاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد وخروج عن أحكام صفات النفس
وقال أبو حفص لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ وليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم وإنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد وقال بعضهم الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأشياء سوى ربه تبارك وتعالى وسئل سهل بن عبدالله متى يستريح الفقير فقال إذا لم ير لنفسه غيرالوقت الذي هو فيه وقال أبو بكر بن طاهر من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة وإن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال الذي لا يملك ولا يملك وقال ذو النون دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

فصل في تحقيق نعت الفقير

فجملة نعت الفقير حقا أنه المتخلي من الدنيا تطرفا والمتجافي عنها تعففا لا يستغني بها تكثرا ولا يستكثر منها تملكا وإن كان مالكا لها بهذا الشرط لم تضره بل هو فقير غناه في فقره وغني فقره في غناه ومن نعته أيضا أن يكون فقيرا من حاله وهو خروجه عن الحال تبريا وترك الالتفات إليه تسليا وترك مساكنة الأحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغني بها اعتمادا عليها ولا يفتقر إليها مساكنة لها ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله فالفقير خلص بكليته لله سبحانه ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب بل عمله بقيام شاهد الحق وفناء شاهد نفسه قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله فمعوله على الله وهمته لا تقف دون شيء سواه قد فني بحبه عن حب ما سواه وبأمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه فهو في واد والناس في واد خاضع متواضع سليم القلب سلس القياد للحق سريع القلب إلى ذكر الله بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله زاهد في كل ما سوى الله راغب في كل ما يقرب إلى الله قريب من الناس أبعد شيء منهم يأنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأنسون به منفرد في طريق طلبه لا تقيده الرسوم ولا تملكه الفوائد ولا يفرح بموجود لا يأسف على مفقود من جالسه قرت عينه به ومن رآه ذكرته رؤيته بالله سبحانه قد حمل كله ومؤنته على الناس واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه وصفه الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال لا يتوقع لما يبذله للناس عوضا منهم ولا مدحة لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أحد حقا ولا يرى له على أحد فضلا مقبل على شأنه مكرم لإخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه قد رفع له علم الحب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه أجاب منادي المحبة إذ دعاه حي على الفلاح ووصل السرى في بيداء الطلب فحمد عند الوصول سراه وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح
فحي على جنات عدن فإنها % منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى % نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على روضاتها وخيامها % وحي على عيش بها ليس يسأم
وحي على يوم المزيد وموعد ال % / محبين طوبى للذي هو منهم
وحي على واد بها هو أفيح % وتربته من أذفر المسك أعظم
ومن حولها كثبان مسك مقاعد % لمن دونهم هذا الفخار المعظم
يرون به الرحمن جل جلاله % كرؤية بدر التم لا يتوهم
أو الشمس صحوا ليس من دون أفقها % ضباب ولا غيم هناك يغيم
وبينا هم في عيشهم وسرورهم % وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم
إذا هم بنور ساطع قد بدا لهم % فقيل ارفعوا أبصاركم فإذا هم
بربهم من فوقهم وهو قائل % سلام عليكم طبتم وسلمتم
فيا عجبا ما عذر من هو مؤمن % بهذا ولا يسعى له ويقدم

فبادر إذا ما دام في العمر فسحة % وعدلك مقبول وصرفك قيم
فما فرحت بالوصل نفس مهينة % ولا فاز قلب بالبطالة ينعم
فجد وسارع واغتنم ساعة السرى % ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعا فالسير خلفك مسرع % وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته % عليها قدوم أو عليك ستقدم
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك ال % معنى رهين في يديها مسلم
وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوى % لها منك والواشي بها يتنعم
فدعها وسل النفس عنها بجنة % من الفقر في روضاتها الدر يبسم
ومن تحتها الأنهار تخفق دائما % وطير الأماني فوقها يترنم
وقد ذللت منها القطوف فمن يرد % جناها ينله كيف شاء وينعم
وقد فتحت أبوابها داعي الهدى % هلموا إلى دار السعادة تغنموا
وقد طاب منها نزلهاومقيلها % فطوبى لمن حلوا بها وتنعموا
وقد غرس الرحمن فيها غراسه % من الناس والرحمن بالغرس أعلم
فمن كان من غرس الإله فإنه % سعيد وإلا فالشقا متحتم
فيا مسرعين السير بالله ربكم % قفوا بي على تلك الربوع وسلموا
وقولوا محب قاده الشوق نحوكم % قضى نحبه فيكم تعيشوا وتسلموا
قضى الله رب العالمين قضية % بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم
وحبكم أصل الهدى ومداره % عليه وفوز للمحب ومغنم
وتفنى عظام الصب بعد مماته % وأشواق وقف عليه محرم
فيا أيها القلب الذي ملك الهوى % أعنته حتام هذا التلوم
وحتام لا تصحو وقد قرب المدى % ودقت كؤوس السير والناس نوم
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا % ويبدو لك الأمر الذي كنت تكتم
ويا موقدا نارا لغيرك ضوؤها % وحر لظاها بين جنبيك يضرم
أهذا جنى العلم الذي قد غرسته % وهذا الذي قد كنت ترجوه تطعم
وهذا هو الحظ الذي قد رضيته % لنفسك في الدارين لو كنت تفهم

وهذا هو الربح الذي قد كسبته % لعمرك لا ربح ولا الأصل يسلم
بخلت بشيء لا يضرك بذله % وجدت بشيء مثله لا يقوم
وبعت نعيما لا انقضاء له ولا % نظير ببخس عن قليل سيعدم
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما % ولكن أضعت الحزم إن كنت تعلم
وتهدم ما تبني بكفك جاهدا % فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الحق تفنى كميت % وعند مراد النفس تسدى وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا % ظهيرا على الرحمن للجبر تزهم
تنزه تلك النفس عن سوء فعلها % وتغتاب أقدار الإله وتظلم
وتزعم مع هذا بأنك عارف % كذبت يقينا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم % وإنك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه % فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم
وفي مثل هذا كان قد قال من مضى % وأحسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة % وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ولو تبصر الدنيا وراء ستورها % رأيت خيالا في منام سيصرم
كحلم بطيف زار في النوم وانقضى ال % منام وراح الطيف والصب مغرم
وظل أرته الشمس عند طلوعها % سيقلص في وقت الزوال ويفصم
ومزنة صيف طاب منها مقيلها % فولت سريعا والحرور تضرم
فجزها ممرا لا مقرا وكن بها % غريبا تعش فيها حميدا وتسلم
أو ابن سبيل قال في ظل دوحة % وراح وخلى ظلها يتقسم
أخا سفر لا يستقر قراره % إلى أن يرى أوطانه ويسلم
فيا عجبا كم مصرع عطبوا به % بنوها ولكن عن مصارعها عموا
سقتهم بكأس الحب حتى إذا انثنوا % سقتهم كؤوس السم والقوم قد ظموا
واعجب ما في العبد رؤية هذه ال % عظائم منها وهو فيها متيم
وأعجب من ذا أن أحبابها الألى % تهين وللأعدا تراعي وتكرم
وذلك برهان على أن قدرها % جناح بعوض أو أدق وألأم
وحسبك ما قال الرسول ممثلا % لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان في اليم إصبعا % وينزعها منه فما ذاك يغنم
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة % على حذر منها وأمري محكم
وهل أردن ماء الحياة وأرتوي % على ظمأ من حوضه وهو مفعم
وهل تبدون أعلامهم بعدما سفت % عليها السوافي تستبين وتعلم
وهل أفرشن خدي ثرى عتباتهم % خضوعا لهم كيما يرقوا ويرحموا
وهل أرين نفسي طريحا ببابهم % وطير أماني الحب فوقي تحوم
فواأسفي تفنى الحياة وتنقضي % وعتبكم باق بقيتم وعشتم
فما منكم بد ولا عنكم غنى % ومالي من صبر فأسلو عنكم
فمن شاء فليغضب سواكم فلا أذى % إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
وعقبى اصطباري في رضاكم هوى % لكم حميد ولكنه عقاب ومغرم
وما أنا بالشاكي لما ترتضونه % ولكنني أرضى به وأسلم
وحسبي انتسابي من بعيد إليكم % وذلك حظ مثله يتيمم
إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم % تهلل بشرا ضاحكا يتبسم
وها هو قد أبدى الضراعة قائلا % لكم بلسان الحال والحال يعلم
أحببتنا عطفا علينا فإننا % بنا ظمأ والمورد العذب أنتم
فيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى % صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده % سوى جنة أو حر نار تضرم
وبالسنة الغراء كن متمسكا % هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله % وعض عليها بالنواجذ تسلم

وإياك مما أحدث الناس بعدها % فمرتع هاتيك الحوادث أوخم
وهيء جوابا عندما تسمع الندا % من الله يوم العرض ماذا أجبتم
به رسلي لما أتوكم فمن يجب % سواهم سيخزى عند ذاك ويندم
وخذ من تقى الرحمن أسبغ جنة % ليوم به تبدو عيانا جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها % فهاو ومخدوش وناج مسلم
ويأتي إله العالمين لوعده % فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقه % فيا ويح من قد كان للخلق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع ال % موازين بالقسط الذي ليس يظلم
فلا مجرم يخشى هناك ظلامة % ولا محسن من أجره الذر يهضم
وتشهد أعضاء المسيىء بما جنى % لذاك على فيه المهيمن يختم
ويا ليت شعري كيف حالك عندما % تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتابك أم ترى % بيسراك خلف الظهر منك يسلم
وتقرأفيه كل شيء عملته % فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
تقول كتابي هاؤم اقرؤوه لي % تبشر بالجنات حقا وتعلم
وإن تكن الأخرى فإنك قائل % ألا ليتني لم أوته فهو مغرم
فلا والذي شق القلوب وأودع ال % محبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإنه % ليضعف عن حمل القميص ويألم
وذللها حتى استكانت لصولة ال % محبة لا تلوي ولا تتلعثم
وذلل فيها أنفسا دون ذلها % حياض المنايا فوقها هي حوم
قد فاز أقوام وحازوا مراحبا % بتركهم الدنيا والإقبال منهم
على ربهم طول الحياة وحبهم % على نهج ما قد سنه فهم هم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

قاعدة شريفة عظيمة القدر

حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس بل وإلى الروح التي بين جنبيه
اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب فلا بد من أمرين
أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه فهاهنا أربعة أشياء أمر محبوب مطلوب الوجود والثاني أمر مكروه مطلوب العدم والثالث الوسيلة إلى حصول المحبوب والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله لا يقوم صلاحه إلا بها إذا عرف هذا فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه وهذا معنى قول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه فالأول من مقتضى ألوهيته والثاني من مقتضى ربوبيته لأن الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين أحدهما قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين الثاني قوله تعالى عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه الرابع قوله تعالى عليك توكلنا وإليك أنبنا الخامس قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده السادس قوله عليه توكلت وإليه متاب السابع قوله واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة إليهم من النظر إليه ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحركين ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال فمن أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ويحشره يوم القيامة أعمى ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أيضا محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذي يرضى به ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها وهذا أعظم فرح يكون وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إلى لقائه فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذاب في مبدئه عذاب في نهايته كما قال قائل
مآرب كانت في الشباب لأهلها % عذابا فصارت في المشيب عذابا
لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلها حقا إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمي له ولا مثل له فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين
إذا عرفت هذا فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما والله الموفق المعين وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة والمقصود أن إله العبد الذي لا بد له منه في كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين وهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل والذي أينما كان فهو معه وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة لهذا قال إمام الحنفاء لا أحب الأفلين والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان أصلين عظيمين مبني عليهما ما تقدم

وهذا مبني على أصلين أحدهما أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان وكما دل عليه القرآن لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل أو لأجل التعويض بالأجر لما في إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم فقرة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم ومفارقة أوطانهم وبذل نحورهم لأعدائهم
ومحبتهم للقتل وإيثارهم له على البقاء وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم ووقوع هذا من البشر بدون أمر يذوقه قلبه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع والواقع شاهد ذلك بل ما قام بقلوبهم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقه به
فيا منكرا هذا تأخر فإنه % حرام على الخفاش أن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله وحياته في معرفته ومحبته في التوجه إليه وذكره وطمأنينته به وسكونه إليه وحده عرف هذا وأقر به
الأصل الثاني كمال النعيم في الدار الآخرة أيضا به سبحانه برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وفي دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في صحيحيهما أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة وفتنة مضلة /ح/ ولهذا قال تعالى في حق الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه ولذة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه
وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان ويتكلم فيهما مشايخ الطرق العارفون وعليهما أهل السنة والجماعة وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد تارة وبالفطرة تارة وبالقياس والأمثال تارة وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه المورد الصافي والظل الضافي في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرا أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء بل ربه سبحانه الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إليه بالمعاصي مع فقره إليه فإذا مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإذا أصابه بنعمة فلا راد لها ولا مانع كما قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم و ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله فالأمر كله لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء المتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع والخفض والرفع ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهذا الوجه أعظم لعموم الناس من الوجه الأول ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أن الله سبحانه يدعو عباده بهذا إلى الوجه الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به والدعاء له ومسألته دون ما سواه ويقتضي أيضا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه فإذا عبده وأحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأول وهكذا من نزل به بلاء عظيم وفاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإيمان والإنابة إليه وما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه فعرفه إياه بما اقدمه له من الأسباب التي أوصلته إليه والقرآن مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات وليس عند المخلوق شيء من هذا فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه ومما يوضح ذلك ويقويه أن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجاته ضره أو أهلكه وكذلك من النكاح واللباس وإن أحب شيئا بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه أو يفارقه فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد فإن فقد تعذب بالفراق وتألم وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أن كل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه ويزيد ذلك إيضاحا أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته فإنه يخذل من تلك الجهة وهذا أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء أنه ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ولا استنصر بغيره إلا خذل قال تعالى واتخذوا من دون الله الهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال واتخذوا من دون الله الهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون
وقال عن إمام الحنفاء أنه قال للمشركين إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ولما كان غاية صلاح العبد في عبادة الله وحده واستعانته وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته ومما يوضح الأمر في ذلك ويبينه أن الله سبحانه غني حميد كريم رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه سبحانه ولا لدفع مضرة بل رحمة وإحسانا وجودا محضا فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته فإحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك كما أن قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إلا كذلك وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لحظوظهم فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة وذلك من تيسير الله وإذنه لهم به فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أيديهم ومع بهذا فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء فطلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وكذلك من أحب إنسانا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله فأجناد الملوك وعبيد المماليك وأجراء المستأجر وأعوان الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد علم وهذب من جهة أخرى فيدخل ذلك في الجهة الدينية أو يكون فيه طبع عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا


الساعة الآن 10:55 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى