منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   رواية اللاز... للمطالعة.. (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=5234)

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:01 PM

جمع زيدان وحدته على بعد بضع مئات أمتار من كوخ سي الفرحي، ثم قسمها إلى أربع فرق
صغيرة، ثلاث تتكوّن كل واحدة منها من سبعة جنود.
. الأولى تذهب إلى الناحية الشمالية، لتحطم المركز الكهربائي، وخزان الماء، والجسر رقم 17
والثانية تتولى تنفيذ حكم الذبح في الخونة العشرة، في الدواوير الثلاثة، بالناحية الوسطى. أما الثالثة
فستقوم في الناحية الغربية بعملية قطع الأعمدة الهاتفية، وزرع الألغام على المسالك الجبلية،
وإحراق ضيعة المعمر شيخ بلدية القرية.
تبقى الفرقة الرابعة، والمتكونة من عشرين جنديًا، فإنه يقودها بنفسه لشن هجوم في الناحية
الشرقية على المركز العسكري بمحطة القطار، حتى تتمكن قافلة السلاح القادمة من الحدود ، من
المرور، دون أن يتفطن إليها العدو.
- أتمنى لعملكم النجاح، ولكم السلامة.
قال زيدان، ثم أضاف:
يبقى رئيس المسبلين، حمو، فقد نتمكن من الاستيلاء على المركز، ونحتاج إلى بغال، نحمل
عليها الذخيرة، وقد يجرح أحدنا فنحتاج إلى نقله.
وصمت برهة وفكر... قد يجرح بعضنا، قد يجرح أكثرنا، قد تقع خسائر في جانبنا. إنهم
يعرفون طبيعة العمل على أية حال، ثم رفع صوته:
- قدور يساعد المسئول المالي في عمله، حتى نرى ما نفعل به. التحق بالفرقة الثالثة يا قدور.
أنهى زيدان إصدار آخر التعليمات ثم ودع الفرَق الثلاث، وهمس لمسئوليها:
- اللقاء قبل مطلع الشمس في مركز السبعة شهداء... ينبغي أن نبتعد قدر الإمكان، فستشهد
ولا شك، المنطق ُ ة، نهار الغد، تفتيشًا واسعًا بعد هذه الليلة الدسمة.
ثم امتطى بغلة، ووثب حمو خلفه، ولحقه بقية أفراد الفرقة. وقال في نفسه:
- اليوم نجد دابة لكل جنديين، وعما قريب قد لا نجد إلا واحدة لعشرة... إنها تقلُّ شيئًا
فشيئًا... العدو تفطن لها، والناس في شغل عن تربيتها بل في عجز... البوادي أخذت تفرغ من
السكان، طبيعة حرب العصابات أيضًا تقتضي التقليل منها... ينبغي المحافظة على دوابنا هذه بقدر
الإمكان فقد أضحت تعرف كل المسالك والدروب، وصارت متدربة على الحرب، تنبطح لدى
انطلاق أول رصاصة، وتحسن التسرب مع الشعاب نحو الغابة... إنها فع ً لا جزء منا...
- خسارة كبيرة اللاز مسكين.
تمتم حمو، وهو يفكر في أيام القرية الهادئة التي لم يكن يظن أبدًا أنها ستنتهي بهذه السرعة،
والتي لا يخطر بباله بالمرّة أن تعود على شكلها في المستقبل مهما كان بعيدًا، ليس لأن الحرب لا
يعرف أحد ما إذا كانت ستنتهي في يوم من الأيام، وإنما لأن الأيام الماضية، بهدوئها ورتابتها
وبساطتها وبؤسها أيضًا، أشبه ما تكون بالمستنقعات المتعفنة...
تنهد زيدان من أغوار صدره وراح يردد:
- اللاز المسكين، اللاز المسكين... إيه، إيه يا اللاز... لو تعرف يا أخي حمو ماذا يمثل اللاز
بالنسبة لأخيك، بالنسبة لنا معًا.
- أعرف أنه يمثل اللاز لا غير... لازًا مناض ً لا.
- وهل تعرف أنه ابن أخيك وأنك عمه؟
- ماذا، ماذا... اللاز ابن من؟
- ابني، ابني يا حمو يا ابن أُمي...
وبعد أن أعاد زيدان باختصار مشوب قصة اغتيال القائد، والهروب إلى الغابات والتشتت في
الأصقاع، وكل ظروف وجود اللاز، أردف وكأنما يناجي نفسه:
- ولو لم يكن شرعيًا، ولو لم يكن شرعيًا... ابني، ابن كامل الدوار... ابن جميع الناس، ابن
ذلك الزمن، ابن ماضينا كله يا حمو يا ولد أمي.
سكت زيدان فجأة وشعر حمو بهزات في قلبه، وبحرارة في عينيه، وفكر بما ذا يمكنه أن
يعلق، أن يصدَّ به على الأقل غيمة الصمت السوداء التي تداهمهما... ودون أن يشعر، وجد نفسه
يردد:
- سبحان الله العظيم... اللاز منا... اللاز منا... سبحان الله العظيم، لهذا كان منذ انخراطه
معنا، ينفق كل فرنك يسقط في يده على دارنا، ويناديني بتودد، عمي. لقد أطلعتموه على السر إذن.
- يوم ودعني في القطار.
بادر زيدان، فلاحظ حمو مبلغ اهتمام أخيه باللاز، وازدادت دقات قلبه.
- لا تتصور يا ابن أمي مبلغ حبي له... إنه ثمرة حب اندلع في غمار مأساة. كان شبحه من
يوم علمت بوجوده يخنقني، ويدفعني إلى التعمق في إدراك الحياة. وكأنما بدوره كان يدرك أنه
روحي الحقيقية، فراح يعبّر عن كل ما في قلبي من حقد وتمرد. كان دمي يغلي، وكان الموسيقى
الصاخب َ ة التي أعزفها في ضميري منذ تفتح وعيي ووقفت على الحقيقة.
وفجأة، توقف زيدان عن الكلام مرة أخرى، فضمه حمو بحنان إلى صدره، عندما لم يجد ما
يعلق به، ورفع عينيه إلى السماء، يحدق في النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد.
كل شيء حقيقي ولامع ومؤثر، لا يوجد إلا في البعد، البعد البعيد، هكذا كالحلم، كالنجوم،
حتى الحزن الحقيقي اللامع المؤثر... لا تلمسه الأيدي القصيرة... الطفل الجميل، الذي أنجبته
خوخة العزيزة التهمته نيران الفرن، ولم يطلق عليه اسم... إنه هناك، هناك وراء تلك النجوم
المتلألئة في الفضاء البعيد، ولن يعرف اسمًا أبدًا، كالحقيقة اللامعة المؤثرة.
وامتلأت عينا حمّو بالدموع، فأغمضهما، وأسند رأسه إلى ظهر أخيه الذي كان بدوره يعيش
خواطر من نوع آخر.
آلامنا لن تنمحي بسرعة... حتى المحيطات لن تغسل قلوبنا، حتى السماوات لن تحتوي
نَفسَنا... إذا ما استقامت انطلاقتنا هذه، فسنكون عمالقة العمالقة، كالسوفيتيين، كالصينيين، سنبقى
وحدنا، لأننا الكثرة، وسنعمل حتى النهاية على محو آلامنا، ولن نمحوها أبدًا... لن يكفينا برلمان،
ولن تكفينا جمهورية، ولن تكفينا الاشتراكية، حتى الشيوعية ستكون قليلة علينا.
آه.
وعندما سقط رأس حمو على ظهره، انتفض، وأنصت قلي ً لا إلى نشيجه، ثم رفع صوته، وكأنما
يخاطب نفسه:
- المسئول الكبير سألني في المرة الأخيرة هل ما زلت شيوعيًا أحمر... أفهمته بأن الشيوعية
ليست رداء ننزعه في الوقت الذي نشاء، وأنها عقيدة تقوم أول ما تقوم على الاقتناع المدرك
للحياة... رأيته يتقزز مشمئزًا حين حاولت إفهامه في بعض المبادئ، فما كان مني إلا أن بادلته
السكوت... وبعد لحظات قال إنه سيرفع تقريرًا إلى القيادة في الخارج وينتظر موقفهم... وضعي
خاص، ولو كنت أي شيوعي آخر، لقضى عليّ دون استشارة أحد... أكد على ذلك مرارًا، و كأنما
يهددني، ولست أدري ما إذا أثرت فيه بتأكيدي أن العمل العاجل أمامنا هو القضاء على العدو
المستعمر أو ً لا، وبعد ذلك ننصرف إلى شؤوننا.
- وماذا يهم، أحمر كنت أم أبيض، مادمت تحارب العدو مثلما يحاربه، الناس، بل وأكثر؟
لم يجبه، وانفسح المجال لصمت طويل استغرق كلاهما أثناءه في تفكير مشوش مضطرب.
حمو يتساءل عن الفرق بينه وبين أخيه، ويرفع بصره إلى النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد...
لا فرق... نقاتل جنبًا إلى جنب، ونتحمل نفس المشاق... ننظر إلى العدو نظرة واحدة... فقط
زيدان يفكر أحسن مني، أحسن منا جميعًا... آراؤه دائمًا صائبة، وأحكامه سليمة، وتنبؤاته
صادقة... ربما السبب في ذلك أنه متعلم بينما أنا أمي. معنا بعض المتعلمين مثله، ولكنه يفكر
أحسن منهم.
إذا كان لأنه أحمر، فيجب أن نحمرّ كلنا، يجب أن تحمر الثورة كلها لتفكر تفكيرًا سليمًا،
وتصدر أحكامًا صحيحة... ترى، هل الشيوعية شيء محرم مثل الخمر والزنى والسرقة والخيانة؟
حسبما أكده المسئول الكبير، فإنها أكثر من كل هذه المحرمات... ما هي يا تري؟ إنهم
يتحدثون عنها كما لو أنها جنية تسكن الإنسان... حتى الجنيات فيها الكافرات وفيها المسلمات.
يقول زيدان إنها لائقة بالفقراء والمساكين، وضد الأغنياء وكبار الملاَّك. المجاهدون كلهم من
الفقراء والمساكين، وكل ليلة نذبح عددًا كبيرًا من الأغنياء لأنهم ضدنا، ضد الثورة... لا يكتفون
بمنع الإعانة عنا، بل يشون بنا للعدو... إذن ماذا؟
لا أعرف فرقًا بيننا وبين زيدان، غير أنه لا يستعمل لفظة الأخ، وإذا ما اضطر لنعت أحد،
استعمل لفظة الرفيق... حتى هذه لا يستعملها إلا مع أحب الناس إليه... لم يقلها لتاجر أو لثري
صغير... أنا نفسي يكثر معي استعمال عبارة يا ابن أُمي بدل يا أخي.
عندما سألته ابتسم وأجابني بأن حرف الخاء ثقيل على حلقه، ثم قطب وأضاف: لسنا في
حروب صليبية...
هذا ليس منطقًا على كل حال، وليس ضروريًا استعمال عبارة معينة لم يأت في شأنها أي أمر.
ماذا إذن؟
زيدان يفرق بين الناس، وينظر إليهم نظرات مختلفة، ويعاملهم معاملات خاصة، ولكن لا
يؤذي ولا يسيء لأحد، بل هو أكثر الناس اتقاء لجرح العواطف.
حاول مرة أن يُفهمني، فقال: في الحياة نوعان من الناس، نوع يعرق مثلك ومثل كل العمال
والعاطلين، ونوع يستفيد من هذا العرق... وما لم يتحطم النوع الثاني، فإن عرق الإنسانية يظل
يسيل هدرا، مصلحة كل نوع تتعارض مع مصلحة النوع الآخر، ولهذا فهما عدوّان لدودان. اقتنع
أو ً لا بهذا وتأمل فيه، وسأفهمك في أمور أخرى.
هذا ما قال، وضحكت في سرّي لأنه لم يفدْني بأي جديد... كل هذا أعرفه من قبل، منذ خلقت
وأنا أعيشه.
الأمر بسيط على كل حال، وسيردّ القادة من الخارج بأنه لا فرق بين أحد، أحمر أم أبيض أم
أزرق، ما ليس بخائن أسود، وقد يكون القادة أيضًا حمرًا... فزيدان بدأ قبلنا جميعًا الاشتغال
بالسياسة والتمرد على العدو، مثل القادة بدون شك، ولا بد أنهم أيضًا حمر.
وإذا ما كانوا أغنياء؟
لا... لا.
ما دخل الأغنياء في هذه القضية؟
قد يكونون، لكن لا... لا. كيف يتسنى لهم أن يصلوا إلى ذلك؟ لأسأل زيدان.
ولم يسأله، وتابع نجمه هوَت... وتذكَّر... إذا ما هوى نجم فمن أجل رجم شيطان، وإذا ما
خسف القمر فسيموت عظيم... قايد، أو غني شهير.
كل شيء حقيقي، ولامع ومؤثر، لا يوجد إلا في البعد... البعد البعيد.
ظل حمو يهذي متسائ ً لا ومعلقًا، بينما استغرق زيدان في تفكير آخر، ولا يدري ما إذا كان
بصدد مناجاة نفسه أم توبيخها.
آه، لم يحنْ أواننا بعد... سابقون لزمننا... تفصلنا عنه مسافات، مسافة جيلين أو ثلاثة على
الأقل... قرن وقرابة النصف من الاستعمار المباشر... ومجتمع أشد تخلفًا من مجتمعات القرون
الوسطى... مجتمع تطمسه البداوة... مجتمع رعوي ضارب في التأخر والانغلاق.
هذا الوليد، آه. الجزائر. هذا الوليد لا يزال في المهد.
بل لا يزال جنينًا، نطفة في أحشاء التاريخ، يكتمل نموه، ويولد، ويرضع، ويحبو، ويسقط
مرات ومرات، ثم ينهض على قدميه، يمشي على الجدران، يقف معتد ً لا، يسقط وينهض، وُيجرح
من جبهته ويسيل الدم من أنفه، وتتورم شفتاه، حتى تشتد عضلاته... إذ ذاك يثب ويجري. وسيظل
طيلة سنوات طف ً لا صغيرًا، سيظل بلا منطق زمنًا طوي ً لا... من يدري أي عذاب يلحقه أثناء مرحلة
المراهقة.
آه. في هذه المرحلة يجب أن نكون نحن.
أما الآن... كبراعم نبتت فجأة في سبخة، سرعان ما يأتي الصيف وتجف المياه وتتحول إلى
ملح أبيض، ملوث بالصفرة، بالطين والوحل، وبقايا براعم جافة.
كالطين يتحمل عبء الأملاح، ثم يصير عبئًا على الأملاح. كبراعم السبخة، تلوثها الأملاح، ثم
تلوث بدورها الأملاح.
لم يحن وقتنا... سابقون لزمننا.
لا، لا. السبخة تصلح لكل شيء. لا يمكن إخراج الطين والأتربة لإخلاء المكان للأملاح.
وهذه النطفة، هذا الجنين، يجب أن يرث كل الخلايا، البيض والحمر، وحتى السود، نعم،
سيرث كل الخلايا، حتى السود. ويجب أن يرضع اللبن الطبيعي، لبن أمه، لا اللبن الاصطناعي،
وأن يحبو وينهض ويسقط ويمشي على أرضية طبيعية عادية غير مكنوسة.
لأنه سيولد بدون قابلة.
ولأنه سينشأ بدون مربية.
الفصول تتعاقب وتتتالى، والسبخة تظل تفرز الأملاح والبراعم والأوحال حتى تتحول إلى
أرض خصبة غناء تعانق فيها البراعم والزهور الربيعَ والصيف معًا، لأنها لم تعد طفيليات تنغص
الملح، ولأن الملح انتهى، لعقه الوليد في صباه وعندما اشتد عوده جمعه واختزنه في أكياس، لأنه
في حاجة إلى الأرض يمرح عليها ويزهو، لأنه يحب البراعم والزهور، لأنه في حاجة إلى
الأرض النقية الصافية، الأرض المثمرة... لأنه اكتسب المنطق.
- فيم تفكر يا زيدان؟
همس حمو في أذن أخيه، وقد أشفق من أن يظل ذهنه عالقًا باللاز ابنه وبما يتعرض له من
تعذيب داخل الثكنة.
انتفض زيدان، وأجال بصره في الظلمة، ثم همس متنهدًا:
- لم أفكر في شيء يا حمو يا ابن أمي.
وعاد إلى الصمت مخاطبًا نفسه:
- كنت أحلم، كنت في غار حِراء أشحذ.
ولسبب ما، وجد زيدان نفسه يفكر في النبي محمد، وشعر نحوه بعطف كبير وهو يتصوره،
متسل ً لا في البهمة إلى غار حراء، ثم في الغار الموحش، والعرق يتصبب من كامل بدنه، ثم يستمع
إلى الصوت ويستعيد صوَر الواقع الاجتماعي المحيط به.
مد بصره في الظلمة، وحاول أن يرسم صورة دقيقة للموقف في غار حراء وفي أعماق
الرسول، تراءت له أشكال هندسية متناسقة مختلفة. واستقر في ذهنه شكل راح يحاول تحديده:
خطان متوازيان، متعاكسا الاتجاه، يواصلان انطلاقهما في دائرة مغلقة، تدور على نفسها ذات الآن
في اتجاهين، واحد من اليمين إلى الشمال، وثان من الأسفل إلى الفوق، في حركة بطيئة هادئة، إلى
درجة يصعب معها تمييز الدوران من الخارج.
الخطان في شكل سهمين، و الدائرة مشحونة بذرّات صلبة التماسك.
تراءت الصورة لزيدان، وحاول أن يحتفظ بها في ذهنه، إلا أنه سرعان ما رآها تتلاشى، وقال
في نفسه: صورة رائعة، صورة ذهنية، تحتاج إلى تأمل أشياء عديدة في الآن الواحد، وتحتاج إلى
العيش من الداخل لإدراك مدى عمقها...
حاول مرة أخرى استعادة الصورة، إلا أنه وجد نفسه يحدق في البهمة، ففكر: المعاناة لا
ترسم إلا بإحساس مزدوج فكري وعاطفي... ثم ما معنى كل هذا الشعر الذي يتدفق في خواطري.
آه، إنني أهرب من مواجهة الحقيقة... أهرب منها بالدوران حولها.
- ماذا هناك يا زيدان؟
تساءل حمو، وهو يثب إلى الأرض عندما توقفت البغلة وراحت تستعد للانبطاح، فطن زيدان
وتبع أخاه واستلقى على بطنه، وهمس:
- لقد وقعنا في كمين، إنها لا تنبطح إلا حين تشم رائحة البارود.
ثم التفت إلى الخلف فقابله الجنود يتسارعون للوثوب إلى الأرض، همس:
- وضع المعركة. أسرعوا.
راح الأمر ينتقل بين الجنود من واحد لآخر، فتوزعوا في شكل هلال بين الواحد والآخر
حوالي الثلاثين مترًا، بينما سارع أحدهم إلى البغال واختفى بها بعيدًا
- أيكون كمينًا حقًا؟
تساءل حمو، فردَّ عليه زيدان وهو يجول ببصره عّله يستشف ما هناك:
- أعرف جيدًا هذه البغلة... تقف عندما تلتقط أُذناها أية حركة، وتنبطح كّلما كان هناك سلاح.
- إنهم لم يطلقوا النار بعد؟
- لعلهم يحاولون محاصرتنا.
- ما العمل؟ هل نتراجع؟
- اس... اس...
ماذا؟ هل أبصرت شيئًا؟
- ألا تسمح حركة؟ وقع أقدام، إِنه يتميز أكثر.
- آه. أسمعه.
- لا تسير نحونا، وليست كثيرة، إنهم يسرعون على كل حال.
- سأذهب للاستطلاع.
- نذهب معًا.
قال زيدان في لهجة آمرة، ثم قفز إلى الخلف وهمس:
- لازموا أماكنكم.
وعاد إلى حمو آمرًا:
- هيا.
تردّد الهمس في الظلمة: لازموا أماكنكم. لازموا أماكنكم. وكل من ينقله إلى جاره، يتنهد من
أعماقه:
- آه، لو كانت لدينا أجهزة اللاسلكي.
و يتذكر قول زيدان، إن نقطة الضعف الكبيرة في صفّنا هي عدم امتلاكنا لوسائل التخابر
العصرية.
كان زيدان وحمو قد انبطحا، بعد أن تقدما في اتجاهين متباعدين علّ ذاك يمكّنهما من محاصرة
الخصم، وما إن عثر زيدان على صخرة، خبأ خلفها رأسه، حتى زأر بصوت قوي صارم:
- قف.
وأعقب صوته قرقرة حادة من بندقيته الرشاشة، وبعد لحظة انتظار لرد الفعل، تساءل بنفس
الصوت:
- مَن؟
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:05 PM

فرغ اللاز بسرعة من ارتداء ثياب السارجان، وتردَّد قلي ً لا قبل أن يخرج وهو ينظر إلى
قارورة الكحول، ثم وثب نحوها واختطفها، وبسرعة ورشاقة قذف بها في جيب سرواله وتبع
الجماعة التي انتظمت في صف كما لو أنها إحدى دوريات التفقُّد، ولو أن خطوات أصحابها تبدو
أسرع بعض الشيء من المعتاد، ومضطربة إلى حد ما.
كانت المسافة بين قاعة التعذيب وبين المخرج الفرعي غير طويلة لحسن الحظ، وكانت الثكنة
تعجُّ بحركة مضطربة، محركات السيارات تدور وتتوقف، والدبابات المصفحة تتقدم وتتأخر،
والجنود يتسابقون بين العربات والدبابات وبين قاعات النوم ومخازن العتاد، والضباط وضباط
الصف يتصايحون بأوامر مختلفة:
- السرعة، السرعة. القنابل اليدوية، مزيدًا من الذخيرة.
- انزع الغطاء عن الدبابات يا خنزير... تفقد البنزين يا ابن الكلبة.
حالة طوارئ وفزع حقيقية، كما لو أن الأمر يتعلق بالتصدّي لسرب كثيفة من طائرات مغيرة
كشفته أجهزة الرادار، أو لهجوم شامل يدبَّر ضد الثكنة بلَّغت عنه معلومات دقيقة.
لذلك شعر أفراد الدورية ببعض الاطمئنان إلى أن أحدًا لن يتفطَّن إليهم في مثل هذه الظروف
مهما كانت خطواتهم سريعة أو مضطربة، ومهما كان مظهرهم مريبًا، خاصة اللاز الذي لم يفتأ
يحاول التماسك رغم الآلام الحادّة التي يعانيها، و يحاول أن يبعد عن ذهنه كل الاحتمالات السيئة
مركِّزًا انتباهه كله في المخرج الفرعي للثكنة الذي يقترب إثر كل خطوة، مردّدًا في قلبه المثل
الذي كانت تردّده أُمه كلما تحدّثت عن فقير أو بئيس: مذبوح للعيد والا لعاشوراء.
حين بدأت الدورية تقترب من الباب راحت خطوات أفرادها تتثاقل تلقائيًا، وكما لو أن كل
واحد يحاول أن يبدو بقدر الإمكان في حالة طبيعية أمام الحارس الذي أعارهم نصف التفاتة، ثم
وّلى يتابع حركة الحشرات المتداخلة حول أنبوبة النور المتدلية فوق رأسه.
تخلَّف قائد الدورية بعض الشيء... خرج الأول، خرج الثاني... جاء دور اللاز، أدار وجهه
إلى اليسار قلي ً لا حتى لا يتعرَّف عليه الحارس، وخطا خطوتين إلى الأمام... وجد نفسه خارج
الثكنة، وبقدر ما كان يشعر بتلاحمه مع باقي زملائه، فإن المهم إذ ذاك بالنسبة إِليه أن يجد نفسه،
هو، اللاز ولد مريانة، خارج الثكنة.
تنفس من أعماق قلبه: حظ كبير يحالفني الليلة... كي تجي، تجيبها شعرة، وكي تروح تقطع
سلاسل.
لفت انتباه الحارس لباس اللاز وتساءل في نفسه بسخرية:
- مَن يكون هذا البهلوان؟ إن كان حقًا جنديًا فرنسيًا، فلن أكون أنا إلا فلاقًا يحرس هذه الثكنة.
كانت بدلة السارجان التي يرتديها اللاز تبدو فضفاضة، وكان اللاز بحق يبدو في وسطها مثيرًا
للسخرية، كجندي، يخرج في دورية.
دقق الحارس النظر بعد ذلك في كامل أفراد الدورية، وعجب كيف يكون قائدهم جزائريًا.
التفت إلى الخلف، فقد يكون القائد الفعلي متخلفًا، ثم أصدر الأمر:
- ق... ف.
لم يكد يلفظ العبارة حتى اختطف قائد الدورية البندقية من يده ووخز ظهره بخنجر، وأمره
بهدوء:
- انتظم بدون ضجيج وسط الدورية، وإلا أسقطتك...
وثب أحد الجنود إلى مكان الحارس، وخرج آخر، ليتولى القيادة، بينما انتظم الحارس أمام
الكابران رمضان الذي أعاد إليه البندقية بعد أن انتزع منها العبّاءَة، وتواصَل السير بخطوات جد
مستعجلة.
لم يكن اللاز يفكر في شيء معيَّن، ولا حتى في مَن خلفه... كان يشعر بالحركة من حوله، ولم
يتساءل أبدًا عن سببها، ويبدو أنه مستعد لأن يظل في نفس الهيئة يسير بخطوات مستعجلة إلى
الأمام، إلى ما لا نهاية له... الشعور الوحيد الذي ظل يميّزه، هو هذا الالتذاذ الذي يغمره وكأنما
هو في حلم جميل.
انعطفت الدورية، التي اختلط أفرادها، إلى اليمين أو ً لا، وبعد مسافة قصيرة إلى اليسار. وإن
هي إلا خطوات حتى تراءت في الظلمة، السيارات، رابضة في ساحة صغيرة.
تفرَّق الجنود يجسّون أبوابها الواحدة بعد الأخرى في حين هوى الكابران رمضان بخنجره على
الحارس، بينما ظلَّ اللاز يتابع المشهد بلا مبالاة.
- مغلقة كلها.
- وهل كنتم تنتظرون غير ذلك؟
علَّق الكابران رمضان، وهو يدفع باللاز بعيدًا عن جثة الحارس التي تدفقت منها الدماء:
لا بد من سيارة نهرب بها... يا للقضية. كان المفروض أن تسند لي وحدي كل هذه المهمة.
قال اللاز في نفسه، وكأنما استعاد وعيه، ثم تقدَّم هامسًا:
جاء دوري الآن. أعطوني حديدًا حادّا، مسمارًا أو موسى، أو أي شيء من هذا القبيل، وتأهبوا
للركوب... القضية تخصّني وحدي الآن.
ناوله أحدهم موسى صغيرة، فألقى نظرة متفحّصة على السيارات الرابضة، وكأنه تاجر أغنام
في سوق، ثم تقدَّم نحو إحداها... سيارة الحاج... حجَّ تسع مرات، وفي كل مرة يزيد ثراؤه من
كميات اللؤلؤ التي يستوردها... آه، ما تزال ببكارتها... ما تزال بَرَكة اللؤلؤ تشعُّ منها...
ف ّ كر، وهو ينحني يعالج فتح الباب، وإن هي إلا لحظات قلائل حتى انتصب معتد ً لا، وكأنه نادل
مقهى فخم، قال:
- تفضلوا، قلت لكم إن القضية قضيتي وحدي.
ارتمى الأربعة كالسكارى داخل السيارة، وتولى هو مقعد القيادة وراح بموساه يحاول إيصال
الكهرباء لإدارة المحرك.
هذه المهنة مهنتي... سرقة السيارات، وفتح الأبواب، والمنغلقات، وإيصال الأمور ببعضها،
أتقنها منذ الصبا... وسرقة السيارات على ما أعرف، أيسر سرقة على الإطلاق.
ظلَّ اللاز يتمتم، وهو يحاول بموساه إيصال الكهرباء... ولم يخطر بباله أبدًا أن يتصوَّر أن
الليلة ليست كغيرها من الليالي...
لقد شرب عن ظمأ أكثر مما ينبغي، بل لقد شرب بنيَّة أن يسكر، أن يفقد وعيه، لكي تتضاءل
أمامه كل الأشياء، وتتلاشى من ضميره كل القيم... ثم إن جراح السياط التي تؤلمه، ووخزات
المسامير التي ما فتئت تنزف دمًا يلتصق بثيابه، تعوقه عن الحركة المنطلقة وتركيز الذهن
الهادف... وهذه المغامرة الغامضة... هذا الشعور القوي بها... إنها فوق أية سرقة، بل وأية
جريمة... هكذا بدون سابق تفكير أو تحضير، ودون أي توقُّع مسبق، تأخذ الأمور كل هذه الصبغة
الجدّية... إنه حتى وهو منبطح فوق المسامير يتلقىلسعات السياط المبتلة وينتظر الصدمات
الكهربية واقتلاع الأظافر، لم يكن يعي حق الوعي، جدّية الموقف.
كانت الأمور تمرُّ في يسر وسهولة... أُلقي عليه القبض... هذا كل ما الأمر... وتلقىّ لكلمات،
وصفعات، وضربات بمؤخرات البنادق، ومرَّ على حانوت الربيعي، وأنذر قدور، بل ورجاه أن
يهرب، أن يركن إلى الهرب، ليعترف بعمله معه، ويدلي باسمه قبل أن يعترض للعذاب الأليم...
وكالطفل الصغير، فكَّر في إلقاء تبعة المسؤولية على عاتق غيره، على الشامبيط الخائن... وطلب
من القبطان أن يسقيه خمرًا وكحو ً لا، في انتظار الاعتراف، وحين سمع اسم قدور يُلَفظ أمامه،
أحنى رأسه كالعذراء الآثمة، يشي به قبل أن يعلم ما إذا كان غادر القرية أم لا...
يا للحقارة...
لقد م  رت الأمور بسرعة فائقة، وكأنها أبواب سجن الشامبيط، تنغلق وتنفتح، دون أية ضجة،
خالية من أية بطولة... كعادته... ما يزال طف ً لا، يتدلل على كل مَن في القرية...
في السابق كان يعرف أسوأ العواقب التي تنتظره... انهزام شنيع أمام عدّة خصوم، أو أمام
سوط الشامبيط، ثم نواح ونحيب، كالكلب، ولعنات من هنا وهناك، وهذا كل شيء، كل ما في
الأمر.
أما الآن... آه. ما أبشع أن يفقد المرء كل سيطرة على الأحداث...
لم يكن يخطر ببال اللاز كل ذلك، وإنما كانت أصابعه المضطربة تعبَّر عن مشاعر غامضة،
باهتة، مضبّبة، تعتريه... حتى استطاعت عيناه أن تلمحا النور الأحمر يشتعل مشيرًا إلى أن
الكهرباء انطلقت... مدَّ يدًا مرتجفة نحو زر صغير وضغط... استدار المحرك، ثم توقف... أعاد
الضغط ثانية، زأر المحرك يعلن عن استسلامه التام، وخضوعه المطلق لكل رغبة يتلقاها... شدَّ
اللاز المقود بكلتا يديه، يديره إلى اليسار، ثم عالج حوَّال السرعة رافعًا رجله اليسرى ببطء
وانتظام.
وانبعثت الزفرات:
- آه. آه...
- قلت لكم إن القضية قضيتي وحدي.
- أوقد الأنوار.
قال الكابران رمضان ثم أشار إلى باقي زملائه بتعرية رؤوسهم وتأهيب رشاشاتهم للعمل...
- حاضر يا سيدي. حاضر.
قال اللاز، في إنتشاءة، وهو يبذل آخر جهده لانتشال السيارة من بين السيارات، دون أي
اصطدام... وما إن وجد نفسه في عرض الطريق، متخلصًا من كل عقبة، حتى حوَّل السرعة
وأطلق العنان للسيارة تثب كأنها خطيئة تتخلص من ضمير متردِّد. ودون أن يتساءل عن الاتجاه،
أو ينتظر أمرًا من زملائه، استدار بالعربة يسارًا...
في هذه الناحية الغابات الجمة والجبال الشاهقة والمدينة الكبرى التي يتسوَّق إليها سكان القرية،
وفي هذه الناحية أيضًا، نزل عمي... أبي زيدان، يوم التحق بالثورة.
واهتزَّ قلب اللاز وهو يخاتل نفسه بسؤال: هل أراه مرة أخرى؟ هل نتمكن من الوصول إلى
هناك؟
آه.
وتطلع إلى الساعة... السادسة وخمس وعشرين... الوقت نهارًا ما يزال. ومع ذلك، فلا أثر
لبشر في أنهج القرية... ليس هناك سوى كلاب هرمة جرباء... لقد تعوَّد السكان اللجوء إلى
منازلهم قبل موعد منع التجول ببضع دقائق، لكن يبدو أنهم أسرعوا الليلة أكثر من العادة ... حتى
أن الجو يبدو وكأنه جو رمضان، حيث تخلو الشوارع في الدقيقة الأولى قبل الأذان من كل أثر
للحياة... إنهم يبيّتون أمرًا، بل إنهم متفقون على حدث كبير، على كارثة عظمى.
لعل اعتقادهم الجازم بأنني شرير لا يهمني سوى الانتقام من الناس و التنكيل بهم، هو الذي
جعلهم يسارعون إلى الاختفاء.
يقين، إنهم يتصوّرون أنني سأخرج إلى الشوارع محاطًا بالضابط والشامبيط والعسكر، وأهتف
في وجه كل مَن يصادفني:
- هذا يخدم مع الفلاقة. خذوه.
هذا هو السبب الرئيسي في اختفائهم الليلة قبل الأوان دون شك... إنني مشكل مطروح عليهم
منذ أمد بعيد.
منذ ثلاثٍ وعشرين سنة... منذ حّلت أُمي بهذه القرية... خضت مع كل واحد منهم... تقريبًا،
معركة وهزمته... حتى مَن تحاشى الاصطدام بي، شتمته... أذللت جميع أبنائهم وبناتهم.
واعترضت طريق نسائهم وهن يذهبن إلى الحمّام أو يعدن منه...
كانوا يجدون اللاز في طريقهم، في كل مكان وكنت أجدهم أيضًا حيثما اتجهت.
لم يفكروا، وهم يرونني بين مخالب الدورية أنوح وأشتم، إلا في أنفسهم، في الشر الذي يمكن
أن أُلحقه بهم... لم يتصوروني، ولن يتصوروني أبدًا، واحدًا منهم. قد أعمل ذات يوم من أجل
صالحهم العام.
منبوذ من طرفهم. منبوذ، إنني لاز، وليس غير لاز، ولو وجدوا جثتي ملقاة في الشارع،
مخربة برصاصات العسكر، لتركوها في مكانها تتعفن، بل قد يبصق عليَّ الكثيرون...
فكَّر اللاز، بعد أن أجال بصره على ساعة السيارة، وألقى نظرة خاطفة على أنهج القرية، ثم
ضعف بقدمه على السرّاع، فأّنت السيارة، وانطلقت في سرعة جنونية، وراح يستوي في المقعد،
ناسيًا جراحه.
- هل نخرج قبل موعد منع الجولان؟
- لا بد أن نخرج.
- وإذا اعترض لنا مركز الرقابة في مدخل القرية؟
- يقينًا أن المركز أيضًا في حالة طوارئ.
لاح المركز في المنحني قرب مقبرة "بني مزاب" وخفق قلب اللاز بقوة وعنف، واضطربت
رجله اليمنى، ثم راحت ترتفع شيئًا فشيئًا عن السرّاع، واسترق نظرة إلى الساعة.
- ما زالت ثلاث دقائق.
قال بصوت خافت لزملائه، الذين كانوا بدورهم في حالة اضطراب، ومع ذلك ما فتئوا يتفقدون
أسلحتهم، ويتبادلون النظرات مع الكابران رمضان الذي علًّق في سخرية:
- وهل هي مسألة دقائق يا رجل؟
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:08 PM

تمت الاستعدادات داخل الثكنة بعد أن ضُبطت بدقة كل تفاصيل عملية الحصار والتفتيش عن
قدور... وطفقت الدبابات تتحرك الواحدة تلو الأخرى في خيلاء واعتداد، وانطلقت العربات ملأى
بالعسكر. ولما خلت الثكنة إلا من جنود الحراسة والضابط والشامبيط وبعطوش وبعض مساعدين،
راح الضابط ينادي بصوت مرتفع مشحون بالتوتر:
- سارجان ستيفان. سارجان ستيفان.
وتردَّد صدى صوته في الثكنة:
- ستيفان. سارجان.
فازداد حنقًا، وكرَّر النداء بانفعال أشد، ثم صرخ في بعطوش الذي كان ينتظر مع المساعدين
في السيارة:
بعطوش. أسرع إلى القاعة رقم خمسة، وقل للسارجان ستيفان إنني أطلبه. أسرع.
وثب بعطوش واتجه مسرعًا نحو القاعة وهو يشعر بالغبطة لهذه الامتيازات التي أصبح يتمتع
بها:
- سارجان ستيفان، سارجان ستيفان.
انتظر أن يجيبه السارجان، ولما لم يفعل، تقدَّم نحو الباب، وطرق عدة طرقات خفيفة.
لم يجبه، لا السارجان ولا غيره. فتحركت شكوكه... ماذا هناك؟ ومدَّ يده في تردُّد ليفتح الباب.
- إنه مغلق من الداخل.
قال في نفسه، ثم رفع صوته:
- سارجان ستيفان، سارجان.
تشجع بعطوش، بالأمر الذي يحمله من القبطان، والذي لابد من تنفيذه، فضرب بعنف على
الباب... ومرة أخرى لم يستقبل طرقاته غير الصمت المطبق.
خفق قلبه، وعاد يركض إلى الضابط:
- باب القاعة رقم خمسة مغلق، والسارجان ستيفان لا يجيب، سيدي الضابط.
- قد يكون في مكتبي. أحضره حا ً لا.
ومن جديد هرول بعطوش، تهرفه الغبطة بهذه اللهجة الودّية التي يخاطبه بها حضرة القبطان.
-آه. يا بعطوش، راعي العجول، لقد صرت سيدًا، سيدًا معتبرًا. ربي يديم الساعة...
ردَّد في قلبه، وهو يقتحم المكتب، دون إذن.
ولما لم يقابله أحد، رفع صوته هاتفًا باسم السارجان ستيفان، وسرعان ما أدرك أنه لا أثر لأحد
في المكتب، فعاد مسرعًا إلى الضابط يخبره بالنتيجة بلهجة جد قلقة.
مرة أخرى أُعلنت حالة الطوارئ داخل الثكنة.
وأسرع رئيس الحراسة، بعد أن أُخبر بأن حارس المركز رقم 6 مفقود، أسرع إلى إحضار
رزمة المفاتيح، وراح يجرّبها واحدًا بعد آخر، بينما الضابط يزمجر هائجًا ثائرًا...
اهتزت الأرض تحت قدميه، وتمايلت الجدران في بصره، وأحسَّ بشيء ثقيل يسقط على جبهته
ثم على قفاه، وشعر بالتدهور حين انفتح الباب، وفوجئ بجثة السارجان ستيفان، عارية، مضرجة
بالدماء... وظلَّ جامدًا، بينما تقدم الشامبيط، وهو ينزع في وقار سترته ليغطي بها الجثة...
وفجأة زمجر الضابط:
- لا تمسَسْه. لا تمسَسْه أيها القذر. أَبعدْ سترتك النتنة.
- كلكم فلاقة. كلكم أعداء. لاتمسَسْه...
وسحب مسدسه وصوَّبه نحوه وهو يردَّد في هستيرية:
- لا تمسَسْه، لا تمسَسْه. ثم التفت إلى بعطوش وصرخ فيه أن يتقدم قرب الشامبيط
ظلَّت أسنانه تصطك، ويده تهتزّ متقلصة على المسدس، وعيناه تتسعان أكثر فأكثر، لتشعّ
زرقتها المخيفة خلف زجاج النظارة... بينما الشامبيط يرفع يديه في ذعر، وبعطوش يتقدَّم نحوه في
ذهول.
- سيدي القبطان.
همس الشامبيط في توسُّل ورجاء، فصرخ فيه القبطان:
- صه. صه. لا تستفز أعصابي أكثر. صه وإلا أرديتك.
ثم انفجر فجأة يضحك في جنون وهو ينقل بصره بين الجثة وبين بعطوش والشامبيط
والمسدس.
تتالت لحظآت معاناة شاقة... الشامبيط لا يفكر إلا في شيء واحد، حاول أن يبرزه في كلمات،
لكن حلقه يخونه ويزداد جفافًا: لقد خدمت في صفوف الجيش عشرين سنة، وخدمت العلم المثلث
سبعة عشر عامًا... فكيف تقول، سيدي القبطان... وبعطوش يشعر بالخجل من نفسه، ويودُّ لو
يتمكن من إخفاء وجهه بين يديه، أو على الأقل يغمض عينيه...
وُعدت أن أُمنح صباح الغد رتبة "كابورال” جزاء على الخدمة العظمى التي قدَّمتها... ولكن ها
أنني أُذَلّ في أعزّ وأسعد لحظات حياتي... آه يا بعطوش، يا راعي العجول، "التابعة" الملتصقة بك
يهودية، والعين التي أصابتك زرقاء لأصهب. آه يا بعطوش، لِمَ وُلدت عربيًا في هذا البلد التعيس.
أما الضابط فلم يكن يفكر على الإطلاق. كانت الأمور مختلطة في ذهنه، والمشاعر مثلجة في
صدره... السارجان ستيفان عارٍ مثلما ولدته أمه، والدم الأسود يترقرق في شكل خريطة البحر
الأبيض المتوسط، وهذا الشامبيط الهرم الذي يعلِّق على صدره عدة نياشين فخرية... ما أضخم
بطنه، وما أغلظ شفتيه، وما أذلّ عينيه... ثم هذا الشاب القروي الذي تلفُّه البذلة العسكرية الفرنسية
الشريفة... بالأمس قدَّم خدمة كبرى لوطني، وصباح اليوم أمضيت قرار ترقيته... القذر، لو كان
واعيًا للب َ ث مع إخوانه. الانتهازي القذر، لا يدرك تمامَا أنه ليس فرنسيًا، ومع ذلك يأتي أعما ً لا لا
يأتيها إلا فرنسي مخلص. الخائن القذر، قد يستيقظ ضميره ذات يوم، ويهوي عليَّ بخنجر، أو يضع
في مكتبي قنبلة، ثم يفرُّ نحو الغابة.
آه. أيها اللاز اللعين. أيها المتحدي الجلف. لو أعثر عليك، أُعدمك سلخًا، بل قبل ذلك أقلي
الزيت في برميل، ثم أُغطسِّك فيه... أيها الفلاق، البشع.
آه. أيها اللاز، اللاز! حتى اسمك لا يحمل معنى محدودًا... في القديم كان يطلق على الجزء
الأدنى من العملة النقدية، والآن يطلق على العدد المفرد في أوراق اللعب. وبينما هو في الحجر
يمثل أدنى رقم، الرقم الأول في العدد، مجاورًا للبياض، يمثل في "البيلوط" الرقم الأعلى... الوحيد
في البيلوط الذي يحتفظ بقيمته مهما تغيَّر اللون المنت َ خب. المعنى المجازي للاز هو البطل، في غير
لغة قومه، أما عندهم، فإنه اللقيط، أو كل أعور يُتشاءم منه.
آه. أيها القذر، إنك لا تمثل شيئًا، إنك لا تمثل غير هذا الشعب اللقيط، غير هذه القضية المفتعلة
التي انفلتت من دبر التاريخ.
أطلق النار يا هاملت، اضغط على الزناد، يا طالب كلية الآداب. امخر هذا الصدر المدبج
بالنياشين الفرنسية، أيها القبطان الفرنسي المحارب في أخطر منطقة . صدّع هذه الجبهة البليدة لهذا
الشاب الريفي العربي، أيها الفرنسي المخدوع. المهان... يا هاملت هيا يا هاملت.
عاد رئيس الحراسة، بجنديين يحملان نقالة وإزارًا أبيض، فراعه منظر الضابط، يقهقه،
والعرق يتصبب من كامل وجهه، والمسدس يهتزّ في يده. تقدم منه، ثم قرقر حذاءه، واستقام في
حالة استعداد:
- أوامركم.
استفاق. فأعاد المسدس إلى حزامه، ثم أخرج مندي ً لا راح يمسح به على جبينه ويفسح المجال
للجنديين ليخرجا بالجثة بعد أن وضعاها في رفق على النقالة، ورسم إشارة الصليب، وهمس:
- استراحة.
- تشجع سيدي القبطان، لقد مات من أجل العَلم.
قال الشامبيط، وهو يتقدم نحوه، وكأنما يعتذر عن خطأ فادح ارتكبه، ولعله فكَّر لحظتها في أنه
كان من واجبه أن يريح الحياة من عبء هذا اللعين اللاز ولد مريانة، قبل اليوم...
رمقه الضابط بنظرة باهتة، وأمره:
- قدني إلى بيت قدور، وأحضر لي هناك أُم اللاز.
وبعد برهة أضاف:
- لن ينجو. سأخرجه حتى من بطن أمه. القرية مطوَّقة، ولن يذهب بعيدًا.
ثم اتجه إلى بعطوش. تأمله لحظة، وهمس:
لن ترقى إلى رتبة كابران فحسب. أنت منذ اللحظة سارجان. هيّا بنّا.
وفي السيارة العسكرية المكشوفة، تناول سماعة جهاز اللاسلكي، وراح يزأر:
آلو. آلو، إلى كل الوحدات. إلى كل الدوريات. جمعوا كل السكان. كلهم بدون استثناء.
الرجال، والنساء، والأطفال في الملعب البلدي. فتشوا جيدًا عن قدور بن الربيعي البركاتي، وعن
اللاز ولد مريانة، احتاطوا فإنما مسلحان. الساعة الآن السادسة وسبع وعشرون دقيقة، وأريد كل
السكان في الملعب، بعد ساعة.
انطلقت السيارة في جنون، تسلك الطرقات الوعرة، وتنعرج يمنه وشما ً لا حتى كانت وسط
القرية، عند مفترق الطرق الرئيسي، فأشار الشامبيط:
- فوق. حتى الحمام، ثم ننعطف إلى اليسار، ثم المنعرج الأول على اليسار دائمًا حتى آخر
منزل في الزقاق، على اليمين.
ظلَّ الشامبيط يعيد إرشاداته هذه للسائق بصوته الأبحّ المتهدج، وكأنه يهرب من الصمت أو
يستظهر مدى قوة معرفته بالقرية وشؤونها أمام الضابط، والمهم أنه كان يشعر بنشوة غربية.
اقتحمت السيارة الزقاق الذي يقطنه الربيعي والد قدور، والشائب السبتي، والد زينة، فلفظ آخر
إرشاد:
- آخر منزل على اليمين، في المنعرج.
وثب الجميع، وتقدم الضابط نحو الباب، بعد أن هدر في جهاز اللاسلكي:
- إنني موجود في الزقاق رقم ثلاثين، وفي منزل رقم سبعة، س.س.ك.
تناول مسدسه، وراح يطرق بقبضته بعنف شديد، بينما تقدم الشامبيط منه وهمس في أذنه:
- الربيعي البركاتي، عم السارجان يا حضره الضابط، وزوجة الربيعي خالته أيضا. تربطه
بهم وشائج قوية يا سيدي القبطان.
- جميل جدًا.
ردَّ عليه، ثم التفت إلى بعطوش:
- سارجان، حطِّم الباب.
في تلك الأثناء انبعث صوت متقطع من الداخل:
- مَن هناك؟
- العسكر. افتحوا.
ردَّ بعطوش فتمتم عمه:
- الله يلعنك يا وجه الشر.
امتثل الربيعي بسرعة، ورفع يده إلى رأسه، وكأنه بصدد الصلاة، وراح يتأخر إلى الخلف
حتى التصق بالجدار قرب "حيزية" زوجته، التي جمدت في مكانها دون أن تدري ما تفعل، في حين
تفرَّق الجنود ومساعدا الضابط لإجراء التفتيش، ووقف بعطوش والشامبيط إلى جانب الضابط.
كان مسكن الربيعي يتكوَّن من حوش مفروش بالإسمنت ومن ثلاث حجرات متحاذية، مستقلة
الأبواب، ومن كنيف في أقصى يمين الداخل، قبالة حجرة نوم الربيعي. أما المطبخ فإنه في اليسار
أمام بيت المؤونة.
- ماذا تريدون يا بعطوش؟ يا ولد أختي.
- ارفعي يديك يا خالتي حيزية واسكتي.
أجاب بعطوش، وهو يمدُّ يده لإنارة ضوء الحوش، بينما راح الضابط، يتقدم في تؤدة، وعيناه
مركَّزتان في الربيعي، وما أن كاد يصله حتى استدار بسرعة فزعا.
كانت البقرة تحكّ قرنها على الجدار وهي تتوجع، معانية آلام الوضع الذي كانت حيزية تترقبه
بفارغ الصبر، وتعلق عليه آما ً لا واسعة.
تأملها الضابط في حقد، ثم أشار بحركة من رأسه إلى بعطوش، وأصدر الأمر:
- أرِحها من الألم يل سارجان.
رمق بعطوش خالته ثم أغمض عينيه، وضغط بإصبعه لتتقيأ الرشاشة، وتئن البقرة أنينًا حزينًا،
وتنهض وتسقط، والضابط ينظر إليها وإلى الربيعي وحيزية التي أغمضت عينيها وضغطت على
أسنانها.
ُ خيل إلى الضابط أن الرصاصات تمكنت من صدر اللاز، فتنفس من أعماقه وابتسم، وشعر
بحبل الغضب الذي كان يخنقه، يتلاشى فجأة، وأرسل إصبعيه لاستخراج سيغارة.
- أحسنت أيها السرجان.
ابتسم بعطوش، في حين تراجع الضابط خطوات يدقق النظر في الجنود الذين أنهوا التفتيش،
وعادوا تجثم على وجوههم الخيبة، ثم خاطب الشامبيط:
- اصطحب واحدًا، وأحضر لي بسرعة مريانة. أيها السائق اصطحبهما.
وعاد يتفحَّص وجهي الربيعي وحيزية. وكأنما يقرأ فيهما حروفًا مطموسة...
المرأة في سن الأربعين ما تزال تحتفظ بشبابها، وجهها مستدير جميل، رغم هذه الوشمات التي
تشوهه، الدموع تنهمر من عينيها الكبيرتين غزيرة، لا شك أنها تبكي بقرتها... حسنًا فعلت... أما
هذا الوجه البشع، الجاف كالقاموس الطبي، المخدد كأرض الزلزال... إنه في الخمسين، ولكنه يبدو
في الثمانين. ما أروع أن أقتلع أسنانه بيدي واحدة بعد أخرى، ثم أصبَّ عليه البنزين وأوقد النار...
عيناه لا تنمّان عن شيء، كأنه ميت.
تفوه. وملأ وجه الربيعي ببصقة، وظلَّ يرقب عينيه، هل تتحركان، ثم أصدر الأمر:
- تعرّيا.
ولما لم يبديا حراكًا، تأخر خطوات، وأشار إلى الجنود بحركة من رأسه... تقدم بعطوش نحو
عمه، مع جندي آخر، بينما تقدم آخران نحو حيزية التي فقدت كل وعيها، وبقيت تحدق باهتة،
وكأنها تعيش أحداث حلم نوم ثقيل. وما أن فرغوا من تجريدهما من كل ثيابهما، حتى كان
الشامبيط يبربر في مدخل الباب، وهو يركل مريانة، ويقذف بها إلى الداخل.
- سارجان بعطوش. أرح الوجود منها.
ودون تردُّد، نّفذ بعطوش الأمر. تقيأت رشاشته سي ً لا من الرصاصات، سقطت مريانة دون أن
تلفظ أي صوت، وتمتم الربيعي يتلو آية الكرسي، وظلت حيزية في جمود التمثال، تتنفس ببطء.
سارجان بعطوش، أريد أن تضع جنينًا في بطن هذه المرأة. هنا أمامي. هيا أسرع.
انتفض بعطوش والربيعي عمه، والشامبيط.
- خالتك يا بعطوش.
قال الربيعي في هدوء، وردَّد بعطوش بدوره:
- خالتي.
بينما نحنح الشامبيط، وطأطأ رأسه... قهقه الضابط لحظات، ثم هتف:
- سارجان بعطوش، أمر. آمرك.
فالتفت إليه بعطوش، وراح يحدق فيه ببلاهة، وحيرة.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:11 PM

بحركة آلية، أوقف اللاز السيارة أمام أسلاك مركز الرقابة الشائكة، وأحنى رأسه، كأنما يهرب
من الواقع المرعب الذي يتجسم أمامه، قابلته الساعة، فقال في قلبه: ما تزال دقيقتان... ثم أعاد
تساؤل الكابران رمضان الساخر: وهل هي مسألة دقائق يا رجل؟... حقًا إنها ليست مسألة دقائق
ولا ساعات... مسألة لا يكفيها دهر كامل... ما أشد سذاجتي، تصورت أننا هكذا، باللباس
العسكري، و بالبنادق والخوذات، وفي سيارة مدنية مسروقة، ينفتح أمامنا الباب، ونغادر القرية، لا
لشيء، إلا لأنه ما تزال بضع دقائق عن وقف التجوُّل... حتى على فرض أنه لا توجد حالة
طوارئ، فإن أي فرنسي يرانا يتبادر إلى ذهنه أننا فلاقة.
- ماذا هناك؟
قال الجندي الواقف عند الأسلاك، وهو يتفحص السيارة وركابها. ولما لم يجبه أحد، تقدم يدقق
النظر.
- ماذا يا بول؟
جاء الصوت من داخل البرج حيث يتناول زملاؤه الطعام وينتظرون الأوامر الجديدة، بعد
الأمر الأول بحالة الطوارئ.
- لماذا لا نقتله، ونفتح الباب ونهرب؟ إن زملاءه منشغلون.
قال أحدهم، فردَّ الكابران رمضان بصوت خافت:
- لا يعقل.
ثم قفز من السيارة، وتقدم نحو"بول" وهو يتكلف بسمة:
- جئنا لتعزيز الحراسة.
- هكذا؟ سأنادي رئيس الفرقة.
- لا داعي سأصعد إليه بنفسي.
ثم التفت إلى زملائه، وخاطبهم وهو يغمز بعينه اليمنى:
- هيا انزلوا. طابت لكم الركبة!
- وهل أنزل أنا أيضًا؟
تساءل اللاز في نفسه، دون أن يرفع رأسه، بينما وثب الجنود الأربعة في خفة ورشاقة. أحاط
اثنان "ببول" في وضع يُشعره بالحصار، بينما تبع الآخران رمضان نحو البرج.
- هات رشاشتك، لا جدوى للمقاومة
وكما لو أنه لم يسمعهما، تجاهل "بول" الأمر، وراح يجيل بصره فيهما... وفكَّر..."فلاقة" داخل
القرية. واعتراه نوع من الخوف، واضطرب قلبه، واقشعر بدنه، ووهنت أوصاله، وتراخت
عضلاته، وأحسَّ بأنفاسه تختنق... وقرر أن يمتثل... غير أنه فاجأته خاطرة، إنه ميت لا محالة...
وما أروع أن تقتل فلاقًا قبل أن تموت. قد تسبقهما فترديهما وتنجو بنفسك.
كان كالذئب المحاصَر، يتصرف بغريزة عجيبة، وأفسح له محاصراه المجال بالاطمئنان الذي
كانا يبديانه واعتدادهما بوضعهما، ليقتل قبل أن يموت.
نعم، أقتل. أقتل، انك ميت لا محالة.
انحنى، بعد أن تأخر خطوتين، ومال إلى اليسار، وضغط على الزناد، فصوتت رشاشته في
جنون.
حاول أن يلتفت إلى الثاني، إلا أنه خرَّ صريعًا وهذى من أعماق قلبه:
- قتلت فلاقًا قبل أن أموت.
- ماذا تفعل يا بول؟
- ارفعوا أيديكم.
أصدر الكابران رمضان الأمر، وأعقبه بقذف قنبلة يدوية صحبها انفجار مهول، وطلقة من
رشاش رئيس الحراس، وأصوات استغاثة، وأنين، بينما جهاز اللاسلكي يردِّد أمر الضابط بجمع
السكان في الملعب.
لم يكن يدري كم عدد جنود الحراسة. وكان مصممًا على محو كل أثر لمقاومتهم. فقذف قنبلة
ثانية، وثالثة.
بينما كانت الانفجارات تتولى، أسرع الجندي الذي نجا من بول إلى إزالة الحواجز من
الطريق، ثم انتصب في حالة تأهب لكل طارئ.
كانت معركة صغيرة على كل حال، ولكنها كانت معركة فعلية صاخبة، مشحونة بالموت
الفجائي... ومع ذلك فإن اللاز لم يخضها بأية صفة. رأسه محنى ما يزال، وعيناه جاحظتان، ودمه
يسري في شرايينه سريانًا طبيعيًا.
كان في ذهول. كان في شبه سبات، يعيش حلمًا غامضًا... الأرض تنشقُّ على هاوية سحيقة
ملأى بأبخرة رمادية كثيفة، وهو يسقط، يقذف بنفسه، يتهاوى في هدوء واطمئنان. إنه كالطائر، بل
إنه يطير إلى أسفل، وشعور جميل يعتريه... لا شك أن القرار ينطوي على أجمل شيء، لم يتعرف
عليه في هذه الحياة، لطالما تاق إليه، فليهوِ... ليهو حتى يصل إلى القرار بسرعة، فما أروع ما
ينتظره هناك... قد يكون أطيافًا خضرًا ترقص في رشاقة، و تبتسم في عذوبة و هي تتبادل
القبل... وقد يكون أكداسًا من الحرير، تحجب عذارى الجنة، فيحتجب معها، هنالك في الهاوية،
وإلى أبد الدهر... وقد يكون صدر أُمه، يرتمي فيه، ويخفي رأسه إلى ما لا نهاية... قد يكون
ثديها، يلتقفه، وينهمك في الرضع إلى أن يجد نفسه وليدًا يعيد النمو في عالم آخر...
آه. وراح يتهاوى في بط ء رائع، حتى تراءى له القرار.
أطلق صرخة حادَّة... كانت الثعابين، مئات الثعابين، ملايين الثعابين الضخمة، تفغر فاها في
انتظاره.
- اللاز، ما بك؟
سأله الكابران رمضان، وهو يضغط على كتفه، فانتفض مذعورًا:
- ارفع يدك. آي الجرح. الجراح، ارفع يدك.
ثم راح يتفحصهم. كانت وجوههم مصفرة، تنضح بالعرق، وكانت أنفاسهم تتتالى في سرعة
وعمق.
- والآخر؟
- الله يرحم الشهداء.
وظلًّ يتأملهم... مع ذلك السرور يغمرهم... إنهم منتشون، في أوج النشوة. نجونا إذن... وأدار
رأسه نحو الحاجز، وقابلته الطريق تمتدُّ في صعود، ثم تنحني إلى اليمين. آه. تناول حوّال السرعة
بانفعال، ودفعه إلى فوق، وداس السّرّاع، واعتدل في المقعد، وارتفع بصره إلى الأفق.
- قضينا على المركز، وغنمنا ست قطع وجهاز لاسلكي.
أخبره رمضان، وهو يمدُّ يده إلى الجهاز يفتحه، لينبري صوت الضابط:
- إنني في الزقاق رقم 30 وفي المنزل رقم سبعة س.س.ك.
- في بيت قدور.
تتم اللاز، وفكرَّ... سوف أخبر قدور حالما أراه. ثم استرق النظر إلى لوحة القيادة، تراءى له
العقرب الأحمر يتراقص حول الرقم الثلاثين بعد المائة، فرفع رجله اليمنى قلي ً لا، وتمايل مع المقوَد
يديره إلى اليسار، لقطع منعرج خطير.
- إنك سائق بارع يا اللاز.
- يسوق وكأنه في السينما.
قهقه الجميع، ولم يجب اللاز، تمايل إلى اليمين يعيد السيارة إلى الجادة، فارتفعت صيحات
العجلات وكأنها زغرودة.
انتصبت على بعد بضع مئات أمتار علامة الطريق تشعُّ بنور السيارة، فحوَّل السرعة وضغط
بهدوء على الحباسات، ثم خرج بالسيارة إلى الهامش.
كانت العلامة تحمل اسم القرية القادمة، ورقم خمسة.
- لا يمكن أن نواصل، مركز الرقابة على بعد ثلاثة كلمترات.
انفتحت الأبواب ووثب الشبان الخمسة، تقاسموا الأسلحة، وألقى الكبران رمضان بالجهاز على
كتفيه، وانطلقوا في البهمة، بعد أن أضاف اللاز:
- هناك دوار غير بعيد من هنا، وسيرشدوننا.
- أليس من الأفضل أن نلجَ الغابة مباشرة؟
- بدون إرشاد لن نلتقي بهم أبدًا.
علق اللاز، وهو يفكر في زيدان، ويتساءل عما إذا كان موجودًا في هذه المناطق أم انتقل إلى
مناطق أخرى، أو إلى خارج الحدود... قلبي يحدثني بشيء، ذلكم الحلم المزعج الذي رأيته قبل
لحظات... لم أكن نائمًا. لا أبدًا... يا لها من هاوية، ويا لها من ثعابين... سوداء، مشعرة، أفواهها
كأفواه التماسيح... كلا، رؤوسها وأفواهها كأنها لجمال.
اقشعر بدنه، واعتراه البرد، واشتد وخز آلام جراحه. ومع ذلك واصل السير، أحيانًا في
المقدمة، وأحيانًا أخرى يتخلف قلي ً لا عن الكابران رمضان. ولم تكد تنقضي ساعة حتى فاجأهم أمر
يشقُّ السكون والظلمة في قوة وجرأة:
- قف.
تجمَّدوا لحظات، لا يدرون بأي حق يأتيهم الأمر بالوقوف... فكر أحدهم... لعلنا أخطأنا
الطريق ورجعنا إلى القرية. وخطر لآخر أن الضابط كمن لهم هنا. وطمأن ثالث نفسه، بأن الأمر
صادر بالعربية... ووجد الكابران رمضان نفسه ينبطح، ويعالج في حذر رشاشته، أما اللاز فقد
تساءل:
- أين سمع قبل اليوم هذا الصوت؟
- مَن؟
- إنه هنالك. أستطيع من هنا أن أفصل رأسه عن جسده.
قال الكابران رمضان، في سرِّه، وهو يشير إلى زملائه بالانبطاح. شعر اللاز بينبوع قوي من
الاهتياج ينفجر في صدره، وكطفل هتف ملء صوته:
- عمي زيدان. بابا زيدان. اللاز، أنا اللاز. أنا أنا.
وانطلق نحو مصدر الصوت، فاتحًا ذراعيه، غير مبال بلسعات جراح بدنه. واستقبله صدر
زيدان الكبير، وظلَّ يجتذبه، دون أن يرى أحد دموعهما التي امتزجت في حرارة وسخاء، وسط
الظلمة الحالكة.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:17 PM

قبيل الفجر اقتربت الفرقة الثانية من مكان الموعد، بعد أن قطعت قرابة الثلاثين كلمترًا في
ظرف ساعات قلائل، سالكة الشعاب والوهاد والغابات، صاعدة باستمرار من قمة لأخرى.
لولاها... هذه البغال، لما تمكَّنا أبدًا من الصعود إلى هنا في مثل هذا الوقت القصير... قد يسير
الإنسان مسافات طويلة، وبسرعة محترمة، ولكن شرط أن تكون الأرض منبسطة، أو منحدرة. أما
أن يصعد، وأن يصعد، فإن ذلك لا يتأتى بسهولة.
قال جندي بصوت منخفض لمردفِه، فعلَّق هذا:
- أكيد، إن المشي على أربع أرجل أخ ّ ف من المشي على اثنتين.
- هذا واضح.
قاطعه، فأضاف:
- وأن الصدر الموالي للأرض أريح من الصدر المنتصب.
- هذه لا أعرفها. قد يكون كلامك صحيحًا. علَّق زميله، ثم أضاف:
- لو تنقطع عنا هذه البغال، نتعب كثيرا .ً
- آه. حينئذ نكون مستقلين، أو نتمشى بالعربات والدبابات.
- والطائرات. قلها أيضًا.
- ولِمَ لا؟
كانت الفرقة قد وصلت. نصب قائدها الحراسة، ووزَّع كلمة السر، ثم استلقى بدوره، مثل بقية
الجنود... اختار لنفسه صخرة ضخمة تتفرع عنها نتوءات كثيرة، وما إن تمدَّد حتى تساءل في
نفسه:
- لِمَ سارع ُ ت إلى هذه الصخرة دون أن أشعر... يقين، إن كل واحد منا يتوقع نهارًا كبيرًا...
الطائرات المقنبلة، المدافع الرامية، الرشاشات اللاهثة، الكتائب المتطلعة للاستيلاء على كل شبر
في أرض المعركة... هذه الليلة المشحونة، الدسمة، كما يقول سي زيدان، تحتم أن يتوقع المرء كل
الاحتمالات... لطالما حدث ذلك... لكن هذه القمة وعرة، ويتطلب حصارها بضعة أيام.
علَّق قائد الفرقة الثانية على خواطره، ثم قرر أن يغفو قبل وصول باقي الفرَق... سحب قبعته
على عينيه، بعد أ ن سوّى رشاشه على صدره، بيد أن ذهنه لم يكن بالمرة على استعداد
للاستسلام.
أحيانًا يغفو المرء، بل ينام نومًا عميقًا وسط المعركة، وهو يتوقع، بل ينتظر، أن تسقط عليه
بين لحظة وأخرى قذيفة من طائرة أو من مدفع، ترفعه نحوها، ثم تبدّده.
يترك الأمور تجري كما عنَّ لها، يستسلم كأنما سلبت الغولة عقله... وأحيانًا يكون بعيدًا، عن
المعركة وفي منأى عن الخطر، ورغم الإعياء والإجهاد المسيطرين على كامل أعضاء جسمه،
فإنه، ومهما حاول، لا يستطيع النوم... آه.
- أريد أن أنام.
تململ...وتفقد رشاشه، وسوى قبعته. وتراقصت في ذهنه أشياء كثيرة، منها الهامّ الخطير،
ومنها التافه الذي لا معنى له...
معجزة كبرى لو يتم اختراع نظارات يستطيع الإنسان بواسطتها النظر إلى أربع جهات لا إلى
جهتين فقط... أمامًا وخلفًا... لا يضطر الإنسان إذ ذاك لإدارة رأسه إلا عند الضرورة القصوى...
ترى لماذا ُ خلقنا بعينين اثنتين فقط، مع أننا نستطيع السير إلى الخلف؟ هل حُكم علينا أن لا نتطلع
إلا إلى الأمام؟... البغال، وكل الحيوانات، ليس لها سوى عينين، هي أيضًا تسير إلى الخلف، ولكن
لا تنظر إلا إلى الأمام.
"الشوينقوم" الذي يحتفظ بحرارته مدة أطول، أفضل من ذاك الذي سرعان ما يتحول إلى قطعة
مطاط في الفم ... ُترى لو يوضع في كل فم حبة شوينقوم، كم يلزم من بائع، وماذا يكلف الناس
ذلك، وهل يعيقهم عن الاستمرار في الحياة، أو في الحديث... وهذا الربح الذي يحصل عليه الباعة
والصّناع، ماذا يكلف الإنسانية من خسارة... جميل لو تنظَّم مسابقة عالمية لمن يطيل المضغ
أكثر... سأضرب الرقم القياسي ولا شك.
يا للتفاهة... وتململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته.
لو أن سكة القطار لا تنتهي... هل هناك مَن سيظل يسافر إلى الأبد... مَن يجرؤ على قطع
تذكرة أبدية... سأكون الأول، وسأتعرف على جميع الأجناس، وسأبيع كل ما أحمل... سأظل
أشتري وأبيع لمواصلة العمل... غير أنني أكون مضطرًا لقطع التذكرة الخالدة... ذلك أن
المستخلصين والمفتشين سيتبدلون بين محطة وأخرى، على الأقل بين أسبوع وآخر. ينبغي أن
يكون هناك خطان متعاكسان، وقطاران يسيران إلى اللانهايتين، ويلتقيان في كل محطة... لن يكون
في القطار مسافر أبدي غيري، لن أرى الوجوه التي رأيتها ثانية. ما أروع ذلك... أنا دائمًا منغلق
على نفسي بكل ما أنطوي عليه من خير وشر، أُواجه الآخرين، جزءًا جزءًا، وقطاعًا فقطاعًا...
سيتذكرونني جميعًا ولن يرونني أبدًا... كما لو أنني نبي من الأنبياء، أو فكرة من الفِ َ كر... سأتذكر
الهاميّن منهم، وأقارن بينهم كلما عثرت على أحدهم. هذا ما يجب أن يكون عليه نظام السفر،
وحتى نظام الحياة... شوينقوم أمريكان "كاراميل" بالحليب، حلويات من كل نوع... هيا أيها السادة
اشتروا، فإنني، نازل بالمحطة القادمة. ولن أنزل، سأواصل وأواصل، إلى ما لا نهاية له... لاشك
أن الله مسافر أبدي، يبيع الحياة والموت... استغفر الله. على كل حال إنه يرى الجميع، ولا يراه
أحد... آه لم أُفكر في كل هذا قبل اليوم... يوم كان بإمكاني أن أطوف بعالم أرحب؟ لقد فكرت في
ذلك... خطر لي بصورة أخرى، في الحق. كم من مرة عزمت أن أقطع تذكرة إلى وهران، ولكن
ما أن أصل عنابة حتى أشعر بجاذبية قوية تجذبني إلى القرية، فأعود، أعود إلى لا شيء، ليس لي
بيت ولا أب أو أُم، أعود إلى الحمام، أبيع وأبيت... حياتي كلها بيع وشراء، وحكايات... في قريتي
فقط يَستمع إِلي الناس... أستطيع رواية ألف مغامرة، دون أن يكذبني أحد... يحبونني إلى درجة
أنهم لا يستطيعون إلا تصديقي... يوم أعود سأروي لهم حتى الموت، سأروي لهم الصحيح هذه
المرة. أقول لهم إنني ذبحت في ليلة واحدة، في نصف ليلة فقط، سبعة أشخاص.
تململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته. وتمنى لو ينام.
جاؤوا بالأول، كتفوه بالحبل. كانت الظلمة فلم أتبين تعابير وجهه، مدَّدوه، وانحنى واحد يمسكه
من رجليه، ووضع آخر رجله على صدره، سألته:
- إن لم تصدُق ذبحتك. كم مرة أوصلت الأخبار للعسكر فبادر:
- ورأس القرآن العظيم، ورأس القبلة، ما خنت إلا مرة واحدة. كنت خائفًا وفي حاجة إلى
نقود.
- كان الخنجر حادّ الشفرة. قلبته على ظهره وهويت عن قفاه بكل ما أملك من قوة. تطاير
رأسه، حملته على راحتي، وظل لحظات يتكلم وحده:
- عندي سبعة أولاد يا إخواني.
تساءلت، هل يأتي الصوت من البطن أم من الرأس... وماذا لو كان في فمه شوينقومه، هل
سيظل يمضغ. وضعت على جثته منشورًا، وانصرفنا إلى الثاني...
- آه. أريد أن أنام... وتململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته.
كان يردد كلما سألته:
- وحق بيت الله الحرام.
اعترف بأنه يبلِّغ عنا. لأننا حفاة عراة، نعجل بقيام الساعة، كما قال الرسول الأعظم... ليس
بيننا غني أو حاج... كيف تريدون أن أرى رعاتي يأمرونني أن أحمل لهم صينية القهوة بنفسي،
وأن أشتري لهم عمائم الحرير، وقشاشيب، الصوف، اذبحوني. عجّلوا، عجّلوا، قبل أن تقوم
الساعة، قال عليه الصلاة والسلام. تقوم الساعة حين...
ولم يتم الجملة. هويت عليه بقوة، طار رأسه بعيدًا. وبانت العمامة في الظلمة بيضاء ناصعة.
هتف بجملة ممزقة. انتظرت أن يردد الشهادة، فلم يفعل، لا قبل ولا بعد... عليه اللعنة...
وضعنا المنشورة على الجثة، وانطلقنا نبحث عن الثالث.
كان اللعين قد اشتمّ رائحة الموت من بعيد. لم نجده. فتشنا المنزل جيدًا ولم نجده... رغم أنه
شيخ مسنّ، كان شديد الفطنة... زوجته في العشرين، فاتنة الجمال، رائعة، عيناها تتقدان ذكاء...
لم تفزع لرؤيتنا أبدًا.
حين يئسنا، وقررنا الانصراف، تقدمت مني، وسحبتني من ذراعي إلى زاوية الغرفة:
- هل أنتم مجاهدون؟
- ومن نكون إذن؟
- أواثق مما تقول؟
- لماذا؟
- لأن الحركة أيضًا يأتوننا في زيكم، لكن مع مطلع النهار دائمًا
- أنت ترين أننا في أول الليل.
- قلت...! ماذا تريدون من زوجي؟
- أن نذبحه.
- آه. إذن أنتم مجاهدون حقيقيون. لِمَ لم تقل من الأول إنكم تريدون ذبحه...؟
- أين هو؟
- فوق المدخنة تحت الرماد، غطاء حديدي لمطمورة، إنه هناك، دخل في المساء، قال إن
دقات قلبه تضاعفت، وإنه يشتم رائحة كريهة.
لم نخرجه بسهولة. كان اللعين مسلحًا... لم نتبادل الطلقات النارية... كان مذعورًا. ومع أن
الرشاشة بين يديه لم يطلق النار... كان ذعره شديدًا. ظلَّ يرتجف، ويدور في المطمورة، ويرفع
رأسه نحونا، فتلمع عيناه كعيني كلب مسعور.
- حسنًا. إن لم تخرج، نصبّ البنزين ونشعل النار، ونغلق المطمورة وننصرف.
- لا. لا تفعلوا ذلك، ها أنني خارج.
- ارم رشاشتك أو ً لا.
ظلَّ يرتجف ويحدق في زوجته، ويتمتم بكلمات غامضة. أوثقناه كالآخرين. نظر ُ ت إلى زوجته
فوجدتها هادئة غير مبالية بما يجري حولها. التفت بدوره حين هممنا بالخروج ثم نطق:
- انتظروا.
- ماذا تريد؟
- هل تسامحونني إذا ما صرت أعمل معكم؟ سأبدأ بإعطائكم أسماء كل مَن يعملون معي.
كعربون أول.
بعد أن سرد القائمة، ابتسم في شبه اطمئنان، وعلق:
- في الحرب العالمية الثانية، خدمت مع الألمان، وحين اكتشفني عسكر ديغول... سامحوني،
لأنني صرت أعمل معهم أيضا. وعندما نزل الأمريكان، وسكنوا كل هذه المنطقة، كان في هذه
المطمورة ألمانيا، ولم ينصرف إلا بعد رحيل الأمريكان.
في الشعبة، وقبل أن أذبحه، هتف من أعماقه:
- هاي هيتلر.
وقبل أن ننطلق إلى الرابع خطر لي أن أمرّ على الزوجة، وأسألها:
- لماذا قامت بهذا الدور، وكشفت عن مخبإ زوجها... تردد ْ ت بعض الشيء. ثم أ مسكتني من
يدي... كانت يدها دافئة وناعمة كالحرير... طأطأت رأسها، وهمست:
- وشى بابن عمي، وبخالي.
سكتت لحظات... تأملتني جيدًا وهي تحتفظ بيدي، ثم أجهش ْ ت وغمغمت:
- يتركني مع سارجان الحركة كلما جاء، ويخرج. في الصباح... يسألني هل سأنجب له ولدًا
أم بنتًا... إنه نذل.
ألحّت أن نصطحبها معنا، ولما طمأنتها بالعودة، أخرجت من ثقب بالجدار ورقة، وأعطتنا
نصيبًا من المال.
- إعانة لله. في سبيل الله لإخوتي. ربي ينصركم. إن شاء الله إن شاء الله.
تركتها جذلى، مرتاحة الضمير، وانطلقنا للبقية.
آه أريد أن أنام، وتململ. وتلمس يديه، ثم رشاشته، وسوى قبعته.
لم نطل معهم. كانوا يقطنون "دشرة" واحدة. جمعنا الثلاثة في حفرة وهويت عليهم واحدًا بعد
الآخر... عندما جاء دور الثالث والأخير، فتح فمه ليقول شيئًا ما... تذكر ُ ت أننا عندما كنا صغارًا،
كنا نضع الموسى في فم الجربوع قبل أن نذبحه، هاتفين: عضّ الموس قبل ما يعضّك... كان
الجربوع يعضّ الموسى بالفعل، وكأنما يفهمنا... وضعت الخنجر بين شدقية، وخاطبته مثل
الجربوع... عضه بعنف، بكل ما يملك من قوة، وقرر أن يحتفظ به حتى النهار... كان آخر أمل
له في النجاة، على ما يبدو، أن يظل محتفظًا بالخنجر بين أسنانه... مسكت بكلتا يديَّ على الخنجر،
وهويت، فانشطر وجهه إلى اثنين، شطر ذهب مع الرأس، وشطر بقي مع الجسد.
حين وقفت، وجدت مساعدي مغمى عليه.
لن أك ّ ف عن الحكايات في القرية. ولن يكذبني أحد... آه. متى نعود؟ فقد طالت غربتنا... لم
أفارقهم أبدًا بمثل هذه المدة. يقينًا أنهم لن ينسوني... وإنهم يتذكرونني كلما سمعوا صفير القطار...
وداعًا لقد رحلت، انتظر دورك أنت... لو أن القطار يمرُّ مرة واحدة، ويظل يسير إلى ما لا
نهاية... لما كانوا ينتظرونني أبدًا...
آه لو أغفو قلي ً لا...
وحاول أن يتململ، غير أن أُذنيه التقطتا حركة داهمة من كل جهة... فتح عينيه. ورفع رأسه،
بعد أن سارع إلى تأهيب رشاشه لرد الفعل، فقابله مع ضوء النهار المتسلل من خلف الضباب،
وبين الأغصان المتشابكة... زيدان، واللاز، وحمو.
ودون أن يطيل التأمل، هتف من أعماقه:
- اللاز، جاء؟ اللاز هنا.
سارع يعانقه، وقلبه يهتزُّ فرحًا... لم يكن يحب اللاز، لا كثيرًا ولا قلي ً لا. وهذا الأخير بدوره لم
يكن يطيق سماع حكاياته أبدًا، كان كثير الأسفار في القطار مثله، ويعرف المدينة، ربما أكثر
منه... ولم يكن الأمر يقتصر على هذا فحسب، فمنذ أن رشاه بعلبة من التبغ المعطر، ليتركه يتمم
حكاية كان يرويها وسط جماعة محترمة، فرض عليه ضريبة ثابتة... علبة في الأسبوع، وإلا
المضايقة المتواصلة... مع ذلك فرح بشدة لرؤية اللاز، وقبَّله بحرارة صادقة... إنه آخر مَن جاء
من القرية، وأول مَن سيروي له قصة ذبح سبع خونة في نصف ليلة... وسيعلِّمه كيف يفك
البندقية، ويركِّبها...
لم يفرح مثل هذا الفرح عندما رأى البارحة قدور... قدور البدوي الذي لا يمكنه إطلاقًا أن
يتجاوب مع حكاية من حكاياته... البدو حذرون، متشككون، يتظاهرون بالوقار، ويحكمون علينا
بالسفه.
- هذا أنت يا الناصر. أما تزال حيًا؟ القرية أضحت موحشة منذ أن افتقدتك. كيف الحال؟
آي. حاذر، فإن جسمي مثخن بالجراح.
علَّق اللاز، وهو يعانقه، ثم ارتمى إلى جانبه عند الصخرة.
- البارحة ذبحت سبعة. ذبحتهم بيدي هذه. أنظر.
- أما تزال تحب الكذب؟
- لا يا اللاز، لا يكذب. لقد كلفته بذبحهم... هنا لا نكذب إطلاقًا.
ردَّ زيدان، وهو يجلس بدوره، ثم أمر القادة الثلاثة أن يجمعوا جنودهم لعقد جلسة عرض
الحال عن المهام التي ُ كلَِّفت بها كل وحدة!
- لماذا لا نؤجل ذلك؟ فالجميع منهك القوى.
قال أحدهم، فأجاب زيدان:
- يجب أيضًا أن نتأهب لما يمكن أن يفاجئنا به النهار... هل فهمت؟ ليلة البارحة ليست من
الليالي العادية. عيِّنوا الحراس من الفرقة التي سبقتنا... كلمة السر هي: "الملح" هيا أسرعوا...
لم يدرِ. لِمَ اختار لفظة الملح بالذات كلمة سر... وأطرق يفكر في ذلك... ولم تخطر بباله قط
السبخة التي كان يراها البارحة في الظلمة الكالحة... رفع رأسه، قطب ما بين حاجبيه، زَم شفتيه،
وراح يتأمل الجنود الذين التفوا حوله، في شبه حلقة، يتقدمهم القادة الثلاثة... كلهم هنا؟ كلهم هنا؟
الوحدة الأولى كاملة العدد، الثانية كذلك، الثالثة أيضًا... واحد فقط استشهد من فرقتي.
جال ببصره في كامل الوجوه، وتوقف قلي ً لا عند قدور، وفكَّر في لباسه المدني النظيف... يجب
أن يغيِّره بسرعة... لقد وصلتنا المؤن من المشرق... كما توقف عند الجنود الأربعة الذين هربوا
مع اللاز... الأول يتميز بالصدق والشجاعة، لكنه بدون رتبة، يقينًا أنه أمي... والثاني حالم، معقَّد،
لا ريب في أنه ابن موظف حكومي... الثالث صارم أيضًا، شجاع، وأكثرهم رصانة على ما
يبدو... وهذا الكابران... إنه شديد الثقة بنفسه... أبلى البارحة البلاء الحسن، لم يكن يضغط على
الزناد لتنطلق الرصاصات دفعة واحدة، كالخائب، إنما يرسل الطلقة بعد الأخرى، دون أن يدع
رصاصاته تذهب سدى... يحسن الزحف والزحل، تطغى عليه التربية العسكرية الكلاسيكية...
يسعى باستمرار لاحتلال موقع المعركة... لا يفتأ يلقي نظرة على مجاوريه، كأنما يستمد الثقة
منهم، أو يبحث عمن أصيب فيهم... شديد السيطرة على أعصابه إلى حد يثير الإعجاب... إما أن
يفيد الثورة، وإما أن يخرب قطاعًا كبيرًا منها...
- أين خدمت يا رمضان؟
- تدربت في "تلاغمة" وقضيت ثلاث سنوات في ألمانيا، وسنة في فرنسا، وسنتين في الهند
الصينية، وتسعة أشهر في وهران، وجيء بنا إلى هنا منذ ثلاثة أشهر.
- لم تمت، ولم تؤسَر، ولم تهرب إلى صف الصينيين؟
- لا.
- يبدو أنك محظوظ... ما رأيك في الهند الصينية... في حربها أعني؟
- كانوا مثلنا... يحاربون من أجل الاستقلال الوطني.
هه... لم يستعمل "مجاهدون"، وأضاف الوطني...هل يزن عباراته؟
تساءل زيدان في سره، ثم أضاف:
- ولِمَ لم تعنهم؟
- كنت باستمرار في حرس القيادة الخاص.
- حضرت " ديان بيان فو" إذن؟
- لا. ُنقلت قبل أسبوع إلى المستشفى... أُصبت بجرح في كتفي...
- هل تقرأ وتكتب؟
- حصلت على الشهادة الابتدائية فقط.
- أبوك موظف أم تاجر؟
- من متقاعدي الحرب العالمية الأولى...
- ومتى حزت الرتبة؟
- عندما أعدت الانخراط، وقبلت الذهاب إلى الهند الصينية.
مذ خمس سنوات، وهو بهذه الرتبة، لو كان هذا الشاب أوروبيًا، لرقي إلى رتبة ملازم أول
على الأقل... أبوه من متاقعدي الحرب العالمية الأولى... فكر زيدان، وأضاف: يجب أن يكون
واعيًا كل الوعي بهذا التمييز العنصري، حتى ينفصل نهائيًا عن الحنين إلى الجيش النظامي...
ينبغي أن أهتم به أكثر، وأُعمِّق وعيه الطبقي... آه... كلهم، كل هذه البراعم، يجب أن تتفتح، في
جوّ ذهني صافي... يجب أن يتخلصوا جميعًا، من كل البذور الفاسدة، التي تعلق بهم...
- حسنًا يا رمضان، إننا هنا لا نحمل رتبًا عسكرية، ولا نستعملها كذلك... إنما نقوم بمهام
ومسؤوليات. أنا شخصيًا ضد الرتب في الجيش الثوري، لأنها تحدث انفصا ً لا بين مناضلين، لا
يربطهم بالكفاح سوى الإيمان المشترك بتحرير الوطن، وتعديل الحياة... هل تفهم؟ ينبغي أن تغير
بذلتك، وأن تبدو مثلنا... أمامك أو ً لا مهمة التعوُّد على حياتنا... وبعد ذلك ستتطور الأمور
بطبيعتها. هل تفهم؟
نعم. نعم. أفهم. فهمت.
ظلَّ رمضان يكرر، وهو ينظر بإعجاب إلى زيدان، الذي أطرق... لو كانوا كلهم عما ً لا، لو
كانت الأغلبية، أو حتى النصف. من العمال، لكانت المهمة سهلة، لكنت أعرف كيف أخاطبهم،
كيف أقتحم قلوبهم وعقولهم... أما وهم خليط من التجار والعاطلين والمزارعين، والعسكريين
المحترفين في الجيش الفرنسي، ذي الرتب والنياشين، فلن يتصوروا أبدًا ما أُريد أن يتصوروه...
إنك تكذب على نفسك... نعم إنني أتهرب من مواجهة الحقيقة... في الصين لم تكن الأغلبية من
العمال... كانت من هذا النوع... هنالك كانت القيادة تحمل إيديولوجية العمال... وهنا... آه...
القيادة أيضًا من هذا المزيج... قد أنجح كفرد، في تغيير ذهنيات البعض... لكن سيظلون عرضة
للانتكاس... المهم في الوقت الراهن أن يقوى إِيمانهم بوطنهم، وبحرّيته... وعلى مرّ الزمن
سيكتشفون بأنفسهم أن الأغنياء، مثلهم مثل المستعمِرين، أعداء اليومَ وسيظلون أعداء ما داموا
موجودين، وحتى إذا ما ُقهروا، وأحنوا رؤوسهم للعاصفة، فإنهم سرعان ما يسترجعون ويسيطرون
على الوضع …
لقد ذهبت بعيدًا بعيدًا... إلى ما بعد الاستقلال بسنوات... قد يطول الكفاح حتى يفتقر الجميع،
ولا تبقى في الجزائر إلا طبقة واحدة... لكن بعد الحرب العالمية، من افتقر، ومن اغتنى...؟ افتقر
المزارعون، وأصحاب الصناعات، والعمال، وأثرى التجار... الحروب تقضي على طبقات وتخلق
طبقات أشد ظمأً للاستغلال، وأكثر انتهازية …
هذه الحركة... ينبغي أن تتبنى الصراع الطبقي من الآن، وإلا بقيت مجرد حركة تحررُّ...
الخطر كل الخطر أن يحوِّلها الاستعمار إلى صالحه، عند انتهائها، ليخّلف الوطن بين أيدي العملاء
والصنائع...
ذهبت بعيدًا بعيدًا، إلى ما بعد الاستقلال بسنوات... آه. رفع رأسه... لقد تعوّد الجنود
والمساعدون أمثالَ هذه الغيبوبة، وهذا الشرود الذهني، لكن ليس في اجتماعات عروض الحال عن
النشاط، وهم يشعرون بالإجهاد ويتوقون إلى استلقاءات وإغفاءات. والشمس ها هي تصعد مبددة
الضباب و الصقيع... فليبادر إلى تقديم عرض حاله، عن مهمة الوحدة التي قادها، ثم يطلب من
قادة باقي الوحدات عروض الحال، وبعد ذلك يقدم تحلي ً لا موجزًا عن مغزى عمليات البارحة، وعن
نتائجها السياسية والعسكرية، ثم يسرّح باقي الجنود، ويبقي القادة ليدرس معهم معنويات الجنود
أثناء العمل وبعده، والخطط القادمة.
لكن ها هو يبحلق، صامتًا شاردًا من جديد …
حدق زيدان في قائد الوحدة الثانية... الناصر... وخطر له... لو كنت مكانه، لكنت الآن
مغمومًا... سبع أنفس بشرية كاملة، ولا يتأثر... كنت أعتقد أنه فنان، رقيق العاطفة، مرهف الحس
والشعور... لكن ها هو ذا، في بلادة التاجر... لا يتأثر إِلا حين يفلس. عّلني أظلمه؟ قد يكون
ذلك... وهو الآن منبهر، غارق في الإعجاب بنفسه، و بالعمل الذي قام به. إن الفنان الحق،
كالطفل، لا يقدِّر حق التقدير، ولا يدرك قيمة ما يقوم بإنجازه، إِلا فيما بعد... آه، حين يدرك هذا
الشاب معنى ذبح سبعة آدميين في ليلة واحدة، بيد واحدة، ينفجر هذا الرأس المستطيل الذي بين
كتفيه... ولو كانوا خونة، ولو كانوا أعدى أعداء الوطن... ينبغي أن يراَقب بشدة وأن أتولى
رعايته، وأن لا أُكلفه بمثل هذا العمل مرة أخرى... كان المفروض أن أوصيه مسبقًا، بالإشراف
على العملية، وإشراك الجميع فيها... أخطأ ُ ت... هذا درس على كل حال...
ثم حوّل بصره ببطء نحو أخيه حمو... لو كان متعلمًا...لو كان لديّ متسع من الوقت لأعّلمه،
إن له قابلية عظمى للإدراك. لو يتطوّر، يصير من عظماء القادة... ذكي، نشيط، كبير القلب،
يستطيع بسرعة خارقة اكتساب ود محيطه والسيطرة عليه... منضبط... ليبق في مهمته، رئيسًا
للمسبلين، ليظل شديد الاحتكاك بالجماهير... كان يشتغل بأربعين دور لليوم في فرن الحمام... لن
يتلوث على أية حال... لن ينسى الكدح ما حيي...
واللاز...؟ آه. ابن خطيئتي وزِناي... وجدْنا أنفسنا في الغابة كآدم وحواء، وحيدين، ولم يكن
في وسعنا إلا أن نبيت متلصقين... كان الفصل خريفًا، وكان الصقيع ينزل بعد الظهر...
فأنجبناك... شرارة طائشة، ولعنة صارخة...
فيك بذور كل هؤلاء يا اللاز... بذور كل الحياة... كالبحر... لا إنك الشعب برمته... الشعب
المطلق، بكل المفاهيم...
هذا اللاز، ليس غنيًا وليس واعيا للفقر... ليس ثوريًا، وليس مستسلمًا... أُميِّ لا كالأميين،
وشاب لا كالشبان. هذا اللغز. هذا اللاز. كيف أصنع منه شيئًا؟ لعلني بالحب فقط أستطيع الوصول
إلى أعماقه...
المهم أنه مدرك، مدرك بغريزته، كالكلب، أو كالقط، أو كأي حيوان... مدرك لعفونة الوجود،
ويرفضها بطريقته الخاصة... إنه البحر بعينه... بل الشعب برمته.
- لقد حضر الجميع.
قال حمو، بعد أن نفذ صبره. فانتفض زيدان، ألقى نظرة خاطفة حوله، وابتسم في حياء:
- المعذرة.
ثم قرر أن يهزم تأملاته، ويشرع في العمل... بدأ بتقديم المجّندين الجدد، وتمنى أن يكونوا نعم
السند، وقدم لهؤلاء بقية الجنود والقادة، وطلب منهم أن يقتدوا بهم في الشجاعة والصبر والسلوك
الحسن. وبعد أن ذ ّ كر بأن النضال من أجل الحق، والكفاح ضد العدو، لا تعتبر فيهما الأقدمية
والأسبقية كعامل أساسي، وأن الاستمرارية والصمود، هما فقط المعيار الذي يقوم به المناضل
والمكافح... سارع إلى تقديم عرضه. وكان على غير العادة موجزًا، لم يعط فيه تفاصيل الهجوم،
ولا الخطة التي اتبعت فيه... واكتفى بذكر أهم شيء... كان الهجوم ناجحًا. بدل إشعال المركز،
لتتمكن القافلة القادمة من المشرق من المرور، تمكّنا من تحطيمه، وقتل أو جرح من فيه... غنمنا
مدفعًا ثقي ً لا من عيار 85 ... أول مدفع تغنمه ناحيتنا... وغنمنا جهازًا لاسلكيًا، ثاني جهاز
نمتلكه... بالإضافة إلى الذخائر الخفيفة... استشهد منا الأخ بن عبد الله... هذا الشاب رمضان،
محارب من الطراز الجيد، هو الذي استطاع إضرام النار بقنابله اليدوية... أنا مسرور جدًا
بانضمامه إلينا، وباسمكم أُرحب به وبإخوانه... إنهم كسب، وسيعززوننا كثيرًا.
كان آخر عرض حال، للناصر قائد الوحدة الثانية، الذي ظل زيدان يقاطعه:
- لا تغرق في التفاصيل. هل تم ذبحهم جميعًا؟
- نعم.
- وما هي أهم الأحداث التي صحبت مهمتكم؟
- كانت الرؤوس تتكلم وهي منفصلة عن الأجساد!
- آه. غير تفاصيل الذبح... أحداث العمل في حد ذاته!
- زوجة سلمت زوجها... كشفت لنا مخبأه، ولم تتأثر لموته...
- ماذا استنتجت من ذلك؟
هي التي استنتجت... تسبب في إعدام ابن عمها، وخالها... ويسمح لسرجان الحركية
بمضاجعتها، ويسألها، هل تنجب ولدًا أم بنتًا؟
- ثم ماذا؟
- طلبت مني أن أجندها... في العشرين من عمرها، ما تزال فتاة... جميلة. أعطتني مائة ألف
فرنك إعانة.
- هذه الفتاة كما تقول، سندرس وضعها فيما بعد... وماذا غيرها؟
- حصلنا من زوجها على قائمة الخونة الذين يعملون معه... واحد فقط من ضمن الذين
ذبحتهم …
- لا تقل ذبحتهم... ذبحناهم. قل ذبحناهم... إننا كلنا هنا ذبحنا، لأننا قررنا وأصدرنا
الأمر... وما أنت إلا منفذ فقط... هل تفهم، ذبحنا... وكان المفروض أن يتولى عملية الذبح
غيرك. أن تشتركوا فيها جميعًا...
- ها هي القائمة.
ما أن انتهت العروض، وما إن كاد زيدان يشرع في تقديم التحليل السياسي للعمليات، حتى قدم
أحد الحراس يجري ليخبر بأن شخصا في لباس مدني، يصعد الجبل دون اتجاه معين...
- حسنًا، أُكمنوا له.
قال زيدان، وأشار برأسه إلى حمو وجنديين آخرين، ثم استند إلى الصخرة، وأمر البقية
بالاستراحة، غير بعيدين، في انتظار ما يأتي مع هذا القادم المجهول... تسللت يده اليمنى إلى
جيبه، كأنما تبحث عن شيء، ثم عادت، لا يمكن أن أنساه أبدًا، هذه ثلاث أشهر، منذ حرِّم، ومع
ذلك لم أنسه... عملية تحريم التدخين ديماغوجية محضة... ليس التبغ فقط بضاعة فرنسية، حتى
القمح الذي تنتجه بلادنا، بضاعة فرنسية، حتى اللحم، حتى الزيت... الخزينة الاستعمارية تستفيد
بخمس وسبعين في المائة من التبغ... إنك تتكلم بعاطفتك، بشفتيك الظامئتين، إلى لفافة جيدة...
تحرم الخزينة الفرنسية من عشرات الملايين يوميًا، إلى جانب توحيد موقف الشعب تحت شعار
واحد... إنها على الأقل، تجربة عن فعالية أوامر الثورة... إنني مقتنع بهذا، لكن لا أستطيع الكف
عن الحنين إلى هذا الشيء المحرم... بدأت التدخين وأنا في الخامسة عشر من عمري... إذا ما
عثرت اللحظة على لفافة من ذلكم التبغ الأسود القوي، أشعلها... لقد كان النبي محمد مثا ً لا في كل
حياته، إِلا في المرأة... لم يقهر إِنسانيته في هذه القضية، فعاشها حتى الأعماق... قبل الجميع
تبريراته بدون نقاش... كانوا يفهمونه، كان جانب القوة فيه يطغى على غيره... إِنني بدأت أهذي
كالوجوديين... بدأت ذاتيتي تطفح من خلال مشاعري. آه، لا أحد هنا يمكن أن أتحدث معه عن
"فرانسوا مورياك" وعن بطلته الجبانة "تيريز دي كيرو" يقينًا إنه رَمَزَ بها، قاصدا أو غير قاصد
إلى الأمة الفرنسية، كيف كانت ضحية الاعتبارات البرجوازية... بيد أنه لم يفلح في إِبراز تمردها،
لقد جعلها انهزامية، استسلامية إلى أقصى... والأدهى من ذلك، أن يجعل البرجوازية تقذف بها في
باريس، تتزين وتلطِّخ وجهها بالمساحيق، وتترامى في المقاهي، ليشعل لها الشبان السغاير... تيريز
دي كيرو، استأنفت حياتها بعد الانهزام، عاهرة، عديمة القلب والضمير... عاهرة محطمة... مع
ما في ذلك من لمسات فنية بارعة، فإنه خال، من أية موضوعية أو روح علمانية... الأمم لا
تتحطم، وحتى إذا ما تحطمت، فإنها لا تمارس العهر مثلما فعلت تيريز دي كيرو... لعله في آخر
الكتاب يرمز إلى الثورة الفرنسية، إلى الكومونة... يقينًا، إن فرانسوا مورياك، لم يرمز لشيء، إنما
روحه هي التي كانت رمزًا لطبقته، لوجهة نظرها فيما حدث ويحدث حولها... لقد كان وجوديًا،
وتيريز دي كيرو، ثائرة غير مضحية، ومتمردة من باطنها... من الداخل ليس إلا... كلا... "تيريز
دي كيرو" لم تكن إطلاقًا بثائرة... سممت زوجها دون أن تدري لماذا... سّلمت في ابنتها، وكأنها
دجاجة فصلت عن أبنائها... بلا ألم بلا ضجيج، راحت تنزف من الداخل... كان الملل فقط، من
كآبة الريف، وصمته اللامتناهي، ورتابة الحياة... هو الذي يحِّركها، يحرِّكها من الداخل، ويجعلها
تتوق إلى باريس... وسواء أَحبَّ فرانسوا مورياك أم كره، فإن تيريز دي كيرو، ليست سوى
البرجوازية بعينها، فقدت طعم الحياة في الريف، فعملت على نقلها إلى باريس، تلك هي المسألة،
وليس غير...
- يشير إلى انه يحمل رسالة من المسئول الكبير...
قال حمو، وهو يتقدم شخصًا فارغ الطول، عريض المنكبين، أبيض اللون، أزعر، واسع
العينين، معقوف الأنف كبير. ناتئ الذقن، بارز الوجنتين، ضيق الجبهة، أحمر الشعر، واسع الفم،
غليظ الشفتين، يلتف في قشابية رمادية... رغم الإعياء المطل من نظراته، فإنه كان مرفوع الهامة،
قوي التماسك...
نهض زيدان ليسلم وهو يفكر... المسئولون في الخارج ردوا على تقرير المسئول الكبير...
القضية أخذت منعرجًا جادًا ولا شك...
- مرحبا. مرحبا. استرح.
- منذ يومين، و أنا أضرب في هذا الجبل.
- لم تتابع الخيط إذن...
- بالفعل. لقد انقطع في الجبهة الشرقية بسبب الخلافات التي حدثت... ألم تصلكم بعد؟
- بلغتنا أخبارها فقط... متى غادرت القيادة؟
- هذه عشرون يومًا... بسبب الخلافات كما تعلم.
- وهل جئت بسبب الخلافات؟
سأل زيدان، ثم التفت إلى حمو ومن معه. وقبل أن يشير إليهم بالانصراف، حرَّك حمو رأسه
يمنة وشما ً لا... غير مسلح. فتشته جيدًا.
- لا. تلك قضية أخرى. جئت بسببك.
- كيف ذلك؟
- المسئول الكبير يريد الاجتماع بك في مسألة هامة.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:21 PM

لم تأتِ الطائرات الصفر للاستكشاف، وبالتالي لم يقع أي حصار للجبل. لقد ابتعدت الفرقة
كثيرًا عن المظان التي يمكن أن يبادر العدو لمهاجمتها... والحق أن الحصار عادة ما يبدأ مع
الفجر، حيث تتسلل الدبابات والعربات في الظلمة، خابية المصابيح... تضع العتاد والجنود،
وتنتصب في الأماكن الإستراتجية... بينما يشرع العساكر في الزحف نحو القمم، في انتظار أن
تحل الطائرات المقنبلة مع بزوغ الشمس لتقذفها بالقنابل، إلى جانب الوابل الذي تصبه المدافع.
وتستمر المعركة من جانب واحد، باستثناء الاشتباكات الخفيفة التي تنشب هنا وهناك، إلى أن
تنحدر الشمس وتذوي في الأفق، فيشرع الثوار في التسلل والخروج من الحصار بطريقة أو
بأخرى، في حالة متعمدة من التفكك، ليلتئم الشمل في منطقة أخرى وفي ظروف مغايرة. قد يستمر
الحصار أيامًا عديدة، وقد يمتد إلى مناطق مختلفة إلى أن يتحول إلى اشتباك يحسم المسألة
لصالحهم عادة، لأن صالح العدو الذي لن يصله على ما يبدو، هو وضع حد نهائي للثورة، دون أن
يدري أنه يحاربهم مجزَّئين، بينما هم يحاربونه ككل، كجسم ضخم يمزقونه شيئًا فشيئًا وحيثما
صادف.
ظل زيدان مستريحًا، ينام أحيانًا ويفكر تارة، ويبادل ضيفه بعض الأحاديث أحيانًا أخرى، إلى
أن حلت الساعة الرابعة. طلب مساعديه، المسئول المالي، وقادة الوحدات الثلاث التي شكلها
البارحة، وحمو مسئول فرقة الفداء، إلى الاجتماع.
راح فترة طويلة، قبيل أن يجلس، يذهب ويجيء، مستغرقًا في تأملات وخواطر وتساؤلات،
باحثًا عن مخرج للموقف الذي وجد نفسه فيه...
القضية بالغة الأهمية، وجد خطيرة، بقدر ما نحيا تتعلم وبقدر ما نمارس العمل الثوري،
نكتسب التجربة ونكتشف الحقائق. كان المفروض أنني فكرت فيها قبل اليوم، قبل الآن على
الأقل... خطأ فادح، وعمى وغباوة أن لا يفكر المسئول فيمن يخلفه إلا في آخر لحظة... أنانية،
ذهنية ملكية فرعونية... خطأي الأساسي أنني أفكر فيهم جميعًا، في لحظة واحدة... كنت أريدهم
كلهم قادة... كلهم مسئولين، لا خلفاء أو نوابًا، كنت في الحق لا أثق إلا في نفسي، وأفرض عليهم
الوصاية الأبوية... أنانية اعتداد بالنفس، وعدم تقدير لأهمية المعركة... تصرّف برجوازي
محض...
مهما يكن الأمر، فالقضية مطروحة الآن بكل جدّيتها، بكل ثقلها، وعليّ أن أحلها.
مَن أُنيب يا ترى؟
حمو أخي؟ سنخسره في قطاع آخر، له أهميته القصوى... الفداء روح الثورة.
المسئول السياسي؟... فع ً لا، بذلت قصارى جهدي لأنفخ فيه الروح الطبقية، وقد تطور بنسبة
أربعين في المائة... كان مجرد معلم بسيط للقرآن، يسرد الآيات دون فهم، وينسب كلامًا تافهًا إلى
الرسول، أو الصحابة، ويصّلي بمناسبة وبدونها، يرى أن كل ما يقوم به البشر لا يعدو التمثيل
لرواية مكتوبة على اللوح المحفوظ منذ الأزل... يستشهد في كل حديث بقول سيده علي بن
الحفصي... فرنسا تخرج ويداها في الطين... ويسأل باستمرار، هل شرعت في البنيان، لأن تلك
علامة نهاية وجودها... تخرج ويداها في الطين! قيل له مرة إن البنيان الذي تبنيه فرنسا بالإسمنت
وليس بالطين، ضحك الجنود من أعماقهم، فثار، وأكد أن السيد علي بن الحفصي يعي ما يقول،
وليس غريبًا أن ينقطع الإسمنت من الأرض، ما دام السيد علي بن الحفصي قال ذلك... كلما
التقطت أُذناه رنة، تمتم... عليك سلام الله. ويسأل: هل سمعتم سيف السيد عبد الله، أو لجام فرسه،
أو ركاب سرجه... لقد مرَّ لتوه من هنا... إنه ما يزال يعبر السماء جيئة وذهابًا، منذ مئات
السنين... سأله أحدهم مرة: لماذا يفعل السيد عبد الله ذلك؟ فصمت برهة، ثم أجاب بأنه، دون شك،
يبحث عن جنود الله لينصر بهم ابن عمه السيد علي كرم الله وجهه … إذن سينزل عندنا ذات
يوم... أضاف آخر، فانتفض وأكد: حتى نصل إلى مستوى جنود الله... ليس غريبًا أن ينزل السيد
عبد الله بيننا... ولو أن جنود الله المخلصين يحفظون كلهم القرآن الكريم، كلام الرب العزيز.
تجّند قبلي بشهرين، ووجدته في هذه المسؤولية... الجماهير الشعبية تقدسه، وتؤمن بكل ما
يقوله إيمانًا مطلقًا... لم أفكر في تغييره، وعملت على تطويره، حتى أصبح يخجل من نفسه، كلما
تذكَّر ترّهاته... رغم أنه سريع البديهة، عاش طوال حياته فقيرًا، ذلي َ لا، فإنه لا يليق للقيادة
العسكرية التي تعني كل شيء بالنسبة للجنود وللشعب... المسئول السياسي، ضعيف البنية، هزيل،
تعوَّد المجاملة، ومعاملة الجنود بغير صرامة المسئول.
المسئول المالي... شاب مثقف ذكي، متفتح على الأفكار الحية، بيد أنه لم يتخلص بعد من
لامبالاته بمن حوله، وكأنما يحتقرهم... بالإضافة إلى انطوائه الشديد على نفسه... الأولى أن يبقى
متص ً لا بالجماهير الشعبية، فهي وحدها القادرة على انتزاعه من الاغتراب...
من إذن؟ الكابران رمضان؟... لكن ذاك لم يأتنا سوى البارحة، ولم أقتحم أعماقه بعد... يبدو
أنه صالح للقيادة، إلا أنه من الضروري أن يختبر أو ً لا حرب العصابات، ويتخلص نهائيًا من عقلية
المتطوع، بائع نفسه... ومن تربية الجيش النظامي البرجوازي... ذاك أصطحبه معي في رحلتي.
مَن إذن يا ترى؟. كان المفروض أن لا أوزع طاقتي في تربية الجميع دفعة واحدة، وأن أكوِّن
القادة أو ً لا... النخبة، الطليعة... كنت أرى أن جيشنا لا بد وأن يتض ُ خم في يوم من الأيام فجأة...
فتكون هذه النواة الأولى متخرجة في فن القيادة…
مهما يكن فمن يخلفني؟. لمن أُسلم هذه المهمة التاريخية الخطيرة...؟
قائد الوحدة الأولى...؟ شجاع، قوي، صبور، فطن، يليق للقيادة رغم أنه أُمي... لكن البارحة
فقط، كلفته بمهمة قيادة وحدة... لقد نجح في مهمته علي أية حال... الثورة ليس فيها أسبقية، لكن
القيادة كالنبوة تتطلب تأهيلا ومناخًا.
قائد الوحدة الثالثة؟. ذاكم فنان سفاح... لن يلبث أن ينفجر.
قائد الوحدة الثانية؟. نشيط، سريع البديهة، يحسن الكتابة باللغتين.
لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد... لكنه يحقد علي رفاقه لأتفه الأسباب... ما يزال معقدا من
داره التي تضم ستة وعشرون ذكرًا... ذاك ابن ضُرة، مشحون بالبغض والأنانية، همه الكبير
إثبات ذاته. لن يليق للقيادة في الوقت الراهن.
لأُعين قائد الوحدة الأولى، وأفصم الأمر.
بعد تأمل طويل، جلس زيدان على رأس الجماعة التي كانت تنتظره بفارغ صبر، وكل واحد،
يحاول تصور ما يمكن أن يكون قد جاء من القيادة من أوامر وتعليمات. فخبر وصول الرسول،
سرعان ما انتشر بين الجنود ونفحهم بعزيمة قوية... إنهم ليسوا وحدهم فرقة منقطعة، تصغر
وتكبر، تجوب الغابات في النهار، وتقتحم السهول في الليل... كلا، إنهم جزء من كل كبير، كبير
جدًا... يمتد من هنا، إلى أقصى نقطة في هذا الوطن الكبير.
فحص حمو وجه أخيه، فلاحظ ما بدا عليه من تغير... زيدان يفرح ويحزن بوجه واحد، لكن
حين ينشغل فكره بقضايا خطيرة، يكتسب وجهًا جديدًا... فأي شيء خطير جاء يا تري من القيادة
مع هذا الأشقر...؟ قال لي زيدان مرة، أجدادنا يتطيرون من الأشقر والأشهب والأبيض الناصع،
ويقطعون طريقهم إلى السوق أو غيرها، إذا ما اعترضهم شخص أو حيوان من هذا النوع... وإلى
الآن لا ُتحمل العروس إِلا على بغلة سوداء... علل ذلك بالقطيعة التي كانت بين الشعب وبين
الدخلاء الرومان... وذكرني بالمثل "أزرق عينيه لاتحرث ولا تسرح عليه"... وقال مرة أخرى إن
الرهباني أو الروماني في كل أساطيرنا، أشقر، أزرق العينين... لم يتعلم أجدادنا أبدًا لغة الرومان،
لكن سرعان ما تعلموا لغة العرب.
- أنا مسافر يا جماعة الخير، سفرًا يطول ولا شك... هذه المرة الأولى أترككم منذ استشهد
قائدنا الأول عليه الرحمة وانتخبتموني. أريد أن أنيب من يقوم بمهمتي حتى أعود.
وأضاف في نفسه:
إذا ما عدت، فمن يدري؟ هناك الطريق الطويل الشاق، بالإضافة إلى هذه الدعوة العاجلة.
ثم استأنف:
- أنا مسافر يا جماعة الخير، سفرًا يطول ولا شك، ويتحتم أن أعيَّن من يخلفني. فكرت كثيرًا،
وقررت...
- لماذا لا ننتخب هذه المرة أيضًا؟
قاطعه المسئول السياسي. فابتسم وظل لحظة يتأمله... بذور الخير بدأت تنبت. معه ألف حق.
هذه النواة ينبغي أن ترتوي من الديمقراطية منذ الآن. تمارسها اليوم لتحترمها غدًا، لتحارب بها
كلما اقتضى الأمر، كل " نابليون"، وكل "فرانكو"، وكل "بيسمارك" ولتقول لريتشارد الثالث حسنًا
لقد صعدت العرش ملكًا، لكن لا بد من إجراء الانتخابات. نعم.
- لكن ننتخب حين يكون التعيين نهائيًا، أما النيابة فمن حقي أنا.
قال بصوت وقور، فرد حمو:
- أنت تذهب. طريقك طويل، ونحن نبقى هنا.
- أظن أن الأمر يهمنا جميعًا.
- هذا كلام.
قال آخر، فقاطعه قائد الوحدة الثانية:
- أرى أن يعيَّن سي زيدان نائبًا عنه.
- نعم.
أيّده قائد الوحدة الثالثة. ففكر زيدان في نفسه... إِذا كان ابن الضرة يخشى الديمقراطية فما
الذي يجعل الفنان يخشاها، غير أن لا يكون فنانًا إطلاقًا، إِنما رجل أعمال، انتهازي مضارب، لا
يفقه معنى قطع سبعة رؤوس في ليلة واحدة؟
- إِذا أصررتم على الانتخابات، فإنني أرشح الرفيق قائد الوحدة الأولى.
لاحظ حمو أن أخاه استعمل لفظة الرفيق بدل الأخ، وأن هذا الاقتراح إلزام، يجعل الانتخاب
شكليًا. تأمل القائد المذكور، وحاول أن يستشف بعض ما قربه لزيدان إلى هذه الدرجة، لكنه لم يجد
غير وجه صلد كالصوان... ومع ذلك، فكر في رفع إصبعه ليعلن موافقته.
انصبت النظرات على وجه قائد الوحدة الأولى، وسر زيدان لعدم تأثر هذا الوجه الذي اختاره،
رغم هذه النظرات الفضولية الثاقبة. وأعلن في قلبه... هذا قائد. هذا قائد.
رغم أنه أمي. هل ينبغي أن أشرح لهم الأسباب حتى أقنعهم، أم أتركهم يواجهون اللغز
ليزدادوا إعجابًا به كلما فكوا جزءًا منه؟. لم يقرروا بعد. إنهم يتأملون، حتى الفنان السفاح، حتى
رجل الأعمال يتأمل. إنهم يعيشون الديموقراطية... آه، ما أروع ذلك، هذه النواة التي حصل لي
شرف قيادتها تصاب بجرثومة الديمقراطية، في أحرج لحظات حياتها... هذه البذرة لن تموت.
- ما دمنا سننتخب، فإنني أقترح أن نرشح أكثر من واحد، اثنين على الأقل.
نطق أخيرًا مسئول المالية، فالتفت إليه الجميع. وعلق زيدان بسرعة في نفسه: مسئول المالية،
وكل أصحاب الأموال، لا يرضون أبدًا بالمركزية الديمقراطية، وهذا الشاب الذي لم يجد نفسه بعد،
يتعلم بسرعة، ويهضم ببطء.
إذن نرشح حمو إلى جانب الأخ مسئول الوحدة الأولى.
أضاف المسئول السياسي، فاحتار زيدان في الموقف الذي ينبغي اتخاذه... إن فرانكو،
ونابليون، وبيسمارك، وريتشارد الثالث أيضًا، لا يتورعون عن استعمال المركزية الديمقراطية، ما
دام في وسعهم أن يعلنوا عن عدد الأصوات المنتخبة... وجهة نظر مسئول المالية صائبة في هذه
اللحظة. إنه يشعر بالضغط من طرفي. يقينًا أن الآخرين أيضًا يبادلونه هذا الشعور... هل أحررهم
أم أصدمهم؟ ولماذا حمو بالذات؟ لماذا رشحه المسئول السياسي؟ هل يتملقني، أم يعلن عن ترشيح
نفسه لأنه يعلم أنني لا أستطيع ترشيح أخي؟ لكن لماذا لا أستطيع ترشيح أخي؟ حمو فحل ومناضل
صامد... جميعهم يدركون خصاله، وإذا ما ترشح فإنهم سينتخبونه بالإجماع، وهو أهل لهذه الثقة.
إلا أنه سيترك فراغًا كبيرًا في ميدان آخر له أهميته، فقد تتحول المعركة التي نخوضها إلى العمل
الفدائي. قد تتغير طبيعة العمل الحربي، فنجد أنفستا كلنا مسبلين... لا يمكن ترشيح حمو، ويجب
أن يتعلموا أن القيادة ليست وراثية... لا المهاجرون ولا الأنصار... ليس هناك، لا بيت "لا نكستر"
ولا بيت "يورك".
معقول جدًا أن يترشح أكثر من واحد، ومن الديمقراطية أن يترشح لمنصب القيادة في مثل هذه
الأحوال أكثر من واحد... لكن، وما دام القائد المتمتع بالثقة، قد رشح واحدًا، فيبدو أنه من
الضروري أو ً لا أن نصوت على هذا المرشح، هل تفهمون؟ كلكم مرشحون لمنصب القيادة، وكل
مناضل يجب أن يكون قائدا، وسترشحون واحدا إثر الآخر، حتى يحصل أحدكم على أغلبية
الأصوات... آه، الديمقراطية الحقة أن تخضع الأقلية للأغلبية، لا العكس... هذا واضح، إننا سبعة،
لأنني بدوري سأصوت. إذن فالأغلبية المطلوبة هي أربعة، وما دون ذلك أقلية عليها أن ترضخ
للنتيجة... هل أنتم معي؟. يجب أن نصوّت أو ً لا على قائد الوحدة الأولى، ثم نرى... ما رأيكم، هل
يكون التصويت علنيا أم سريًا؟.
- سريًا. سريًا.
بادر المسئول السياسي يرد على سؤال زيدان، فأومأ الجميع برؤوسهم يعلنون الموافقة.
أخرج زيدان ورقة جزأها إلى سبعة، وأعلن:
رقم واحد يعني نعم، ورقم اثنين يعني لا. كلكم تعرفون كتابة الأرقام، هيا... لا إمساك ولا
تغيب. المسألة لا تتعلق بكم كأفراد، ولكن تتعلق بهذا العمل الكبير الذي تنجزه بلادنا... ها كم
الأوراق... من أنجز يضعها هنا، هيا.
راح الجميع يتسترون عن بعضهم، وينهمكون في كتابة أحد الرقمين... ليعلنوا نعم، أو لا بينما
انهمك زيدان في تأملهم واحدًا واحدًا...
حمو سيصوت بنعم، لأنه من ناحية مرشح، ومن ناحية أخرى يعلم أنني سأصوت بنعم. الفنان
السفاح، رجل الأعمال، سيصوت بنعم، لأنه أو ً لا لا يثق في نجاحه إذا ما ترشح، ولأن العملية لا
تعني شيئًا كبيرًا بالنسبة إليه... مسئول المالية... مدير البنك، سيصوّت بنعم، لأنه واثق من أن
السلطة تريد ذلك، ولأن، إعادة العملية تعني بالنسبة إليه، بعثرة الوقت فيما لا يجدي... هذه ثلاثة
أصوات، وصوتي الرابع... الأغلبية حاصلة، لا حاجة إلى إضافة أن المرشح سيصوت على نفسه،
ولاءً وإخلاصًا لمن رشحه... رغم أنه ما يزال مذهو ً لا أمام المفاجأة... قلبه الآن أطيب قلب على
الإطلاق... المسئول السياسي سيصوت بلا، سيخط رقم اثنين، لأنه صاحب اقتراح تقديم مرشحين،
ولأنه ينوي الترشح. هذا طبيعي وإنساني... قائد الوحدة الثالثة سيصوت بلا، حتى على نفسه، لا
لأنه يبغض زملاءه فقط، إنما لأنه لا يثق في فعالية صوته، هذا واضح، ابن ضرة، وأخ لخمسة
وعشرين.
- الآن نحصي الأصوات... اقتربوا... واحد نعم، اثنان نعم، ثلاثة نعم، أربعة نعم، خمسة نعم،
ستة سبعة نعم... الأغلبية المطلقة، الإجماع التام، هنيئًا لك أيها الرفيق.
شكرًا لكم أيها الأبناء.
صفقوا بحرارة، وشعر زيدان بقلبه يهتز، وبعينيه تغرورقان، وواصل بصوت جد متأثر:
- يجب أن تحافظوا على هذه الروح، فهي هدف من الأهداف التي نكافح من أجلها وعاملُ من
عوامل انتصارنا... والآن أيها الرفيق "السبتي" يجب أن تقول كلمة.
نهض "السبتي"، وسر زيدان لذلك، بينما بهت الباقون... إنه يشعر بخطورة الموقف، ويقدر
اللحظة. لذلك لم يبق جالسًا، علق زيدان في سره، وهو يتأمله بإعجاب... أجال بصره فيهم، محدقًا
في أعينهم وشفاههم، ثم بادر:
- أشكر الأخ زيدان على اختياري لهذه المهمة الخطيرة، وأشكركم على الثقة التي وضعتموها
فيّ، وسأبذل كل جهدي لأكون عند حسن ظنكم، بارك الله فيكم، عاشت ثورتنا. الله أكبر.
وسكت فجأة، ليسترجع وجهه ملامحه العادية، وجلس وسط التصفيق الحاد، وخاطب زيدان
نفسه وهو يصفق بدوره:
- أضحى قائدا، يفهم الناس كل ما يفوه به، وهذا كل ما في الأمر.
ثم رفع صوته:
والآن إلى العمل... ما أوصيكم به، أن تفكروا قبل أن تشرعوا في العمل وبعد أن تنجزوه.
حمو لا بد من إعدام الحركي بعطوش. قدور يبقى مع مسئول المالية، وإن رأيتم ما يخالف ذلك
فافعلوا. لا تجندوا واحدًا إلا إذا وفرتم له بندقية، تجنبوا الاشتباك مع العدو بقدر ما تستطيعون.
اكمنوا له ولا تواجهوه... ولا تغتروا بالانتصارات السريعة. اعملوا على احترام الشعب وعدم
إرهاقه. إذا ما رأيتم خلافًا حولكم أو بينكم، فلا تتخذوا إلا الموقف المبدئي: الكفاح ضد العدو قبل
كل الاعتبارات، والأقلية يجب أن تخضع للأغلبية.
ألقى زيدان خطابه الوجيز بصوت متهدج ونبرات ملحوظة التفكك، ثم طلب تجمعًا عامًا
للجنود... قبّلهم فردًا فردًا، ثم قدّم لهم القائد الجديد، وامتطى بغلة، وأردف اللاز خلفه، وأمر
الكابران رمضان أن يردف مبعوث القيادة، الذي ظل حمو ينظر إليه ويردد " أزرق عينيه، لا
تحرث لا تسرح عليه" وانحدروا، وقد بدأت سدول الليل ترتخي رويدًا رويدًا.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:24 PM

مع العصر، وقف بعطوش أمام الضابط، بعد أن اصطك عقبا حذائه، مصفر الوجه، محوق
العينين بالزرقة والجفاف والذبول. رفع الضابط إليه عينيه، وعندما لاحظ أنه لا يحمل شارات
رتبته الجديدة، ضغط بقدمه على الزر. انفتح الباب... دخل جندي، فبادره بهدوء، قبل أن يتلقى
التحية:
- أطلب لي شارات رتبة سارجان.
أوامركم سيدي القبطان.
وما إن خلا ببعطوش حتى أمره بالاستراحة، ثم بادر:
- البارحة كنت أشجع جنودي، بل ضباطي... نفذت كل الأوامر بدقة، كما ينفذها الجندي
المطيع والضابط المخلص.
- سيدي القبطان.
- آه، أريد أن تحمل شارات رتبتك، وتحتزم بغدارة جديدة وتطوف القرية كلها. أريد أن
تعربد، وأن تختار أجمل فتاة لتبيت عندها.
- سيدي القبطان.
- سننصب حولك حراسة قوية. لا يهمك.
- سيدي القبطان.
- أريد أن تحتفل احتفا ً لا عظيمًا.
تراءت لبعطوش صورة تلك الغادة اللطيفة "زينة"، التي لمحها البارحة في الملعب البلدي، حيث
حشد كامل سكان القرية، وتم إعدام عشرة من أعيانهم فداء للسرجان ستيفان... ثم شعر بالقشعريرة
تعتري بدنه وبالاعتصار يذيب قلبه...
- خالتي يا ربي سيدي، خالتى.
تمتم، وازداد لون وجهه اصفرارًا.
- ما بك يا سارجان بعطوش؟ أتقول شيئًا؟
كان الجندي قد عاد بعلبة صغيرة، حيّا ووضعها على المكتب، ثم انصرف لينهض الضابط
ويتقدم إلى بعطوش.
- سأتولى تعليقها بنفسي. في المساء نقيم مراسم الاحتفال.
- سيدي الضابط.
- بالفعل، أقنعتني بأن مخاوف رجال السياسية مجرد أوهام وهوس. إن قومًا، فيهم أمثالك،
ُ خلقوا من أجل فرنسا... هكذا، هكذا بالرتبة أجمل. سأرقيك أكثر، ستصير ملازمًا يوم تأتيني برأس
الأحمر اللعين وبذلكم الطفل اللاز مكب ً لا، أريد أن أخصيه.
لم يكن بعطوش يتابع كلام الضابط، ذلك أن آلافًا من الإبر الحادة انصبَّت تلسع كامل جسده،
حتى قلبه، حتى أمعائه، حتى رئتيه، حتى مخه... كانت صورة خالته عارية بين أحضانه، ما تنفك
تبدو أمام ناظريه.
- هاه. يجب أن تطوف في كل أزقة القرية، وأن تطرق، بل تقتحم الباب الذي يروق لك. في
الليل أضرب حراسة حولك. هاه. أريد أن أرى إلى أية درجة من الذل يمكن أن يصلها وحوش هذه
القرية. أتفهم؟
- سيدي القبطان!
- ماذا؟
- أشعر بالمرض!
- شيء طبيعي، بعد إرهاق البارحة وأتعاب الصباح في الجبل الذي هاجمناه.
- لكن يا سيدي القبطان.
- ماذا أيضًا؟
- إنني أشعر بالجنون.
- أوف. ذلك مجرّد إرهاق. ابدأ جولتك بتناول كؤوس في خمارة موريس... آه سأذهب
بدوري لتناول بعض أقداح. هيا معي.
وفي خمارة موريس، شعر بعطوش بالكابوس ينزاح عنه شيئًا فشيئًا، فراح يفرغ قدحه قبل
الضابط ومن معه من المعمّرين... استرق أكثر من مرة النظر إلى كتفيه، وعلت شفتيه ابتسامة...
آه يا بعطوش راعي العجول. لقد صرت شخصية... إنك أصبحت سيدًا معتبرًا... الله يبقي
الستر... اليوم سارجان... غدًا ملازم... بعد غد ضابط كبير... آه يا بعطوش راعي العجول،
آه!...
مرة واحدة شعر بالقشعريرة، وبآلاف الإبر تنصبّ على بدنه، حيث بدت له خالته عارية بين
أحضانه... طلب قدحًا أخرى تجرعها دفعة واحدة وقدّم كأسه من جديد... مزيدًا مزيدًا!
- سارجان بعطوش، يجب أن تبدأ احتفالك الآن.
- نعم سيدي القبطان، أشعر بالاختناق هنا... أريد حراسة، فمن يدري مع هؤلاء الوحوش.
- كل شيء على ما يرام، لقد أمرت أن يتبعك ثلاثة جنود، بقيادة كابران، حيثما تذهب. لا
تخف أيها البطل.
أردف الضابط، ثم التفت إلى من معه يسليهم بقصة بعطوش مع خالته... يقينًا أن مضاجعة
المحرَّمات ألذ شيء على الإطلاق... وارتفعت القهقهات صاخبة رنانة... بينما راح الضابط ينظر
إلى سراوليهم، ويعلن في نفسه... لقد أثارت شهوتهم هذه الحكاية... لأوسع في التفاصيل...
ما أن نفح الصقيع ببرودته وجه بعطوش، حتى شعر بالتبلد... إن ضبابًا كثيفًا في لون دخان
التبن يلفه... عيناه لا تريان سوى الضباب... قدماه لا تطآن غير الضباب... صدره لا يتنفس غير
الضباب، الضباب الرمادي الداكن، يلفه... يشعر به حتى داخل بطنه ورأسه.
انطلق يتقاذف في اتجاه، خيل إليه أن هذا الضباب ينتهي في آخره... كان يسير دون أن يدري
ما إذا كان يمشي، أم يسبح، أم يطير، أم لا يفعل شيئًا... إنه يقترب من نهاية الضباب، وهذا كل ما
في الأمر... لا يرى أحدًا ولا يسمع صوتًا، كأنه في العدم، رغم أنه قبل لحظات كان يسترق النظر
إلى الأطفال والرجال، ينظرون إليه ويبصقون، ويردد في قلبه كلمة الضابط: وحوش. الوحوش.
- خالتي حيزية. اللعنة على خالتي حيزية. من طلب منها أن تكون خالتي؟ أروع التذاذة
عرفتها في حياتي... آه عليها اللعنة. لماذا أشعر بالخجل وبالجنون...؟ ما كنت أبدًا أتصورها في
مثل تلك الروعة... كانت في الأول بادرة كالميتة، ثم، وفجأة، غمرها دفء عجيب. عليها اللعنة.
أنَّت وطوقتني وتجاوبت معي بشكل فظيع... اللعنة. خالتي حيزية. تركت في أحشائها جنينا
ولا ريب... كنت كالوحش. كالحمار. عليَّ اللعنة.
ظل يهذي، حتى بلغ منتهى الضباب... الزقاق رقم ثلاثين. توقف قلي ً لا عند منزل الشايب
السبتي.
هنا تسكن تلك الغادة، زينة. ما أروعها أيضًا. سأتزوجها الليلة. منذ الآن، هنا عندها. سأعيش
في هذا المنزل مع أبيها وأمها. أتزوجها دون مهر ودون خطوبة، ودون فاتحة أيضًا... عليها
اللعنة، فأنا سارجان. السارجان بعطوش.
وتقدم نحو الباب، لكن الضباب الرمادي الداكن، سرعان ما غمر كل شيء. لم يعد هناك
جدران، أو منزل، أو باب، أو زينة، أو زواج. التفت إلى اليسار، هناك لا يوجد ضباب. تقدم
خطوات، صعد العتبة، مد يده يدفع الباب. كان مفتوحًا، تقدم خطوة أخرى... كانت خالته حيزية
تجلس القرفصاء وسط الحوش، رأسها مطأطأ، وشعرها يتدلى عاريًا على غير عادته. لا ترتدي
سوى قميص قماشي داخلي... صدرها نصف عاري، ذراعاها يضمان ثدييها، بصرها مطرق في
ذهول. كانت خالته حيزية في هذا الوضع منذ البارحة.
- خالتي حيزية. خالتي حيزية.
رفعت بصرها في بطء، وما أن لمحته حتى وثبت مذعورة وهي تطلق صرخة عالية...
التصقت بالجدار، ورفعت يديها إلى السماء، وظلت ترتجف في ذعر ورعب.
أغلق بعطوش الباب بالمفتاح، ثم وقف يتأملها. اعترى جسده من جديد تلك القشعريرة، وشعر
بآلاف الإبر تنصبّ عليه، وراح يرتجف بدوره... خالتي حيزية. عليها اللعنة. وماذا يهم؟ من طلب
منها أن تكون خالتي؟ البارحة كانت في الأول باردة كالميتة، وفجأة غمرها دفء عجيب، أنَّت
وطوّقتني وتجاوبت معي بشكل فظيع...
تمتم، وهو ينزع ثيابه في هستيرية. قذف بالحزام والغدارة، ثم فك أزرار السترة والقميص
والسروال، وتعرى.
ركض يمينًا إلى المطبخ، ثم جرى إلى الكنيف. كانت خالته حيزية في وضعها ما تزال... عاد
إلى المطبخ، اقتحمه ثم ولى بسرعة، قابلته فأس قرب كومة الحطب، دخل غرفة المؤونة وخرج،
اقتحم غرفة قدّور، ارتمى على خالته حيزية، ألقت بنفسها بين ذراعيه، احتضنها واقتحم بها غرفة
عمه، ألقاها على سريره وارتمى عليها كالوحش... كانت تئن وتطوقه وتتجاوب معه بشكل
فظيع...
لم يمر كثير وقت.
تركها مستلقية، وسارع نحو المطبخ، حمل الفأس وعاد يلهث. هوى مباشرة على رأسها
فتطاير. لم تطلق أية صرخة، لم تئن، ولم تتألم... واصل العمل، هوى على صدرها ففتحه ثم على
بطنها فشّقها، ثم على عورتها فطمسها.
كان عاريًا، وكان الدم يتطاير عليه، وكان باب الغرفة مغلقًا والنور غير مشعل.
أسرع إلى حزامه، وعاد بالغدارة، وراح يطلق عليها الرصاصات قبل أن يسقط مغميًا عليه،
لتقتحم الدورية المنزل، وتحمله إلى الثكنة حيث لبث أيامًا... بينما فدائيان أرسلهما حمو، يتربصان
به ويحاولان بكل ثمن، إيقاعه في الفخ.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:30 PM














اعترى زيدان شعور بالقلق على اللاز، الذي يغرق في الذهول كلما تواصل السير، وسأله أكثر
من مرة هل يشعر بالمرض، إلا أنه أجابه مرة بإدارة رأسه يمنه وشما ً لا، ومرة بابتسامة ذابلة، ولم
يجبه في المرء الثالثة والرابعة، واكتفى بالبحلقة فيه، وظل يومين يسترق النظر إليه ويتابع
حركاته.
ف ّ كر في الأول، أن سبب هذا التغيير يرجع إلى انقطاع اللاز الفجائي عن التبغ والكحول، ثم
راح يطمئن نفسه:
إنه يستوعب الأشياء من حوله... يعيش. إنه يعيش ربما للمرة الأولى لحظات حياته، واكتفى
بإلصاق ظهره إليه في ود، بعد أن تساءل:
- لست أدري كيف اصطحبته معي... لقد عزّ عليّ أن أتركه خلفي... آه، كأنما أنا مطمئن
إلى نتيجة هذه الرحلة.
ثم راح يشغل نفسه، تارة بالتحدث إلى رمضان عن حرب الهند الصينية، وتارة إلى مبعوث
القيادة، الذي بدأ يشعر بالميل نحوه ويكتشف شخصيته المرحة الجذابة، التي حولت كل الآلام التي
اعترضته منذ الصبا إلى نوادر وطرائف:
- ماذا كنت تشتغل يا الأشقر؟
- آه عندي حزمه أسماء يا حمريط، منذ عام النخالة( 1) والأسماء تطلق عليّ
- هاه، تعرف أيضًا أنني حمريط.
- في القيادة لا تعرف إلا بهذا الاسم.
- حسنًا، ماذا كنت تشتغل قبل أن تتجند؟
- أبيع الريح وأقبض الصحيح.
- معلم قرآن إذن. طالب.
- هأهأ... أتعرفون أن الطالب والكلب لا يتعاشران.
ضحك رمضان بصوت خافت، وابتسم زيدان والتفت إلى اللاز يبحث عن مفعول النكتة،
فوجده واجمًا.
- لا لماذا؟
- بسبب العظام، هأهأ... لا أحد منهما يطمع في الآخر هأهأ، بالإضافة إلى عصا الطالب.
تواصل ضحك رمضان. وكأنما أراد زيدان أن يتخلص من ضيق يشعر به، فبادره:
- ماذا كنت تشتغل إذن؟
- إيه إيه. رأس المحاين... في الأصل راع، ثم لص، ثم قفاء آثار، وفي عام النخالة وسنوات
الحرب الكبيرة. اشتغلت بالتهريب والبيع و الشراء وما شابه، ومنذ ذلك الحين أيضًا صرت قصابًا
أتبع الأعراس أينما كانت... أتعرف الهوى نالروس( 1) أنا مؤلف وملحن هذه الأغنية... إيه، إيه يا
الدنيا يا بنت الكلب.
واغرورقت عيناه، وتوقفت الكلمات في حلقة، وأحنى رأسه، ومرّت لحظات صمت قبل أن
يتنهد ويضيف:
الذئب يقول "اللي تتلفته اجريه".
هاه. لقد وصلنا قبل مطلع النهار كما قلت لكم... نقضي يومنا في هذا الجبل، وفي المساء
يفرج الله.
قال زيدان، وهو يثب إلى الأرض ليتبعه الثلاثة، بعد مسيرة بدأت مع غروب الشمس، ثم
تمطط، وتثاءب، وتقدم إلى البغلة لينزع عنها البردعة.
- لا. لا عمي زيدان. أنا، والله أنا... استرح.
فاجأهم اللاز بالكلام، ثم انطلق في رشاقة يفك حزام البردعة. وظل زيدان واقفا يتأمله،
والبسمة تتراقص في الظلمة على شفتيه، بينما راح رمضان يقوم بحركات رياضية. في حين
انسحب مبعوث القيادة جانبًا بعد أن همس:
- اسمحوا لي.
استلقى زيدان، ولحق به رمضان، ثم اللاز، الذي بادر:
- ألا تكتشفنا الطائرات في النهار؟
- في هذا المكان لن ُنكتشف أبدًا. الغابات كثيفة، والأخاديد عميقة. هنا يستطيع جندي واحد أن
يشتبك يومًا كام ً لا مع عدة فرق.
رد زيدان في لهجة واثقة، فأضاف اللاز:
- أتمنى أن نخوض معركة في هذا الجبل.
- ذلك فقط ما ليس بمستبعد... هل تحسن استعمال السلاح يا اللاز؟
تدربت في الثكنة على الرشاشة الإيطالية والأمريكية، وعلى "الخماسي" و"العشاري" أستطيع
حتى فكها وتركيبها.
- دربته بنفسي، وهو رام ماهر.
عّلق رمضان، وتساءل مبعوث القيادة وهو قادم:
- ماذا تقولون؟ ألا تشعرون بمغص في أمعائكم؟
- آه عدت.
قال زيدان، وحمل بندقيته ونهض، وقرّب ساعة إلى عينيه يتبيَّن عقاربها.
- إلى أين؟
بادر اللاز، وكأنما يشعر بالخيبة، بعد أن كان قد قرر أن يضع رأسه على صدر أبيه.
الساعة الثالثة والنصف. أتولى الحراسة حتى السابعة، وبعدها دور رمضان، ثم دور اللاز، ثم
الأشقر حتى ساعة انطلاقنا.
تمتم زيدان، وهو ما يزال يحدق في ساعته، فنهض اللاز محتجًا:
- أبدأ أنا الأول.
- لا يا ابني. الحراسة في الليل تحتاج إلى خبرة خاصة، استرح فإنك مريض.
قفز رمضان، وأقسم أن يستريح زيدان وأن يبدأ هو، وراح يحتج بغابات الهند الصينية التي
أرهفت سمعه وعلمته معنى الحراسة.
- أنفي يلتقط رائحة سلاح العدو على بعد كيلومترات... الخوف يعّلم الجري يا عمي زيدان.
أضاف رمضان وهو يبتعد، فاستوقفه زيدان وطلب منه أن لا يوقظ اللاز عندما تنتهي نوبته،
وأن ينتبه إلى البغلتين وإلى كل حركة تصدر عنهما، فهما بدورهما محاربتان تعّلمتا معنى الخوف.
- تصبحون على خير. الله يهديك يا حمريط، أثرت في نفسي الحزن. إنني أشعر بالغربة
وبالحنين إلى قصبتي، يا الدنيا يا بنت الكلب... تصبحون على خير، وفي الأمان سأسافر مع مطلع
النهار كما حدثتك يا زيدان.
قال مبعوث القيادة، وابتعد عن زيدان واللاز، واستلقى تحت شجرة وراح يترنم في سرّه بأغنية
"الهوى نالروس"، في حين راح اللاز يثرثر بصوت خافت، وزيدان ينصت إليه، ويعجب أن تكون
روحه مرحة إلى هذا الحد، وأن يكون طيب النفس إلى هذه الدرجة، ويقارن بينه وبين إخوته
السبعة ويتساءل لماذا لا يستطيع أبدًا استعمال التحليل العلمي مع اللاز، ولا يحاول أن يفهمه بدقة
كما يفهم غيره... ألأنه ابنه يقبله على ما هو عليه، أم لأن عاطفته تطغى على عقله كّلما فكر
فيه... يقين، أن المودة التي أشعر بها نحو الكابران رمضان، وهذا العطف والتقدير اللذين أعامله
بهما، واللذين ربما يكونان في غير محلهما، مردهما إلى إنقاذه للاز...
- إنني أحب اللاز منذ أمد بعيد، منذ علمت بوجوده... وكثيرًا ما تبعته على أن أختلي به
وأقبّله، طالما وددت أن أقبله في جبينه. إيه، إيه.
آه يا اللاز دعنا ننم، واسع عندما تكون في ظروف حرب، اسع دائمًا لتغتنم فرص
الاستراحة... لا تضيّعها أبدًا لأنك ستندم عليها.
- لقد نمت خلفك على البغلة أكثر من ساعتين.
- كنت تشخر كالخنزير.
ضحك اللاز بأعلى صوته، فنهره زيدان:
- أسكت. أتحسبنا في عرس.
بيد أنه لم يك ّ ف عن الضحك إلا بمشقة، وظل يغلق فمه بكمّ سترته، وعندما هدأ تمتم:
- يا ربي سمعنا خيرًا.
ثم تساءل:
- لماذا يتوقع الناس المكروه بعد الضحك.
- هاه، ابن أمه، رجعنا لحكايات العجائز.
- والله العظيم، وحق ربي جرّبتها، كلما ضحك ُ ت كثيرًا أصابني مكروه.
- اسكت، متى كنت في غير مكروه.
لا حظ اللاز تضايق أبيه لهذه الخواطر، وتمتم في قلبه:
- يا ربي سمعنا خيرًا. يا ربي سيدي أعنّا واحفظنا.
وعندما حاول أن يستسلم للنوم، شعر بوجع في كتفيه وبتقلُّص عضلاته، وتشنج أعصابه،
بقشعريرة تلسع كامل بدنه، وبحلقه يجف، وبرأسه يثقل، وبالبرد يهز أوصاله... تثاءب، وتثاءب...
هذه المرة الأولى منذ غادرت القرية أشعر بالحاجة إلى الكحول. لقد أفرطت في الشرب طيلة
الأشهر الأخيرة، حتى أصبحت لا أطيق عليه صبرًا...
قضقض أسنانه، فسأله زيدان:
- ما بك؟ أتشعر بالبرد؟ الطقس دافئ الليلة.
- في جيبي قنينة “ كونياك “ ماذا أفعل بها؟
- آه، شيء طبيعي ؛ حين ننهمك في المعارك والعمل ستنساه... إذ ذاك يتحوّل دمك كله إلى
كحول، ولن يطلب منك المزيد. حسنًا، أُرشف منها وهاتها. أريد أن أنام. عندنا يا اللاز يا ابني
حتى التدخين محرم يستوجب الذبح، فما بالك بالخمر... لكن مع ذلك فإنني بحاجة إلى جرعة.
أكبيرة هي؟
- ثلاثة أرباع الليتر.
- أرشف وهاتها. حين تواتينا الفرص، يجب أن نمنح لأنفسنا بعض التسامح حتى لا ننفجر
دفعة واحدة... إن الكبت يجمِّد الطاقات ويعجل بالانهيار... لم أذق الخمر منذ سنتين يا اللاز يا
ابني... الانضباط شيء والتزمت الديني شيء آخر، إنه يورث العقد الخطيرة. هات القارورة يا
اللاز.
شعر اللاز بالدفء يتصاعد إلى رأسه، فابتسم في الظلمة، واسترخى يتابع اختفاء النجوم
الفجائية. وبينما هو يحاول أن يجد لها تشبيهًا فيما عرفه في حياته، داهمه النوم. أما زيدان فإنه ما
إن تناول الجرعة الأولى حتى شعر بالصفاء يغمره.
ارتشف مرة ثانية، وأغلق القارورة ووضعها على صدره بين راحتيه، وراح يسبح في بحر
زاخر بالخواطر والذكريات.
المسئول الكبير، الشيخ. تلقى الجواب من الخارج على تقريره المتعلق بي، وها هو يُرسل لي.
لو كان الرد في صالحي، أو على الأقل لا يعير أهمية كبيرة للمسألة، لما أُرسل لي أبدًا... جئنا
أربعة، يقول الأشقر... لماذا أربعة يا ترى؟. عملية إلقاء قبض ولا شك. موقف الحزب من
الانضمام إلى الجبهة هو الذي يثيرهم... لأول مرة في التاريخ يطرح موضوع تكوين جبهة وطنية
من أفراد لا من أحزاب... هذا يعني تكوين حزب جديد. إذا كانت الخلافات والتصدعات داخل
الحركة الوطنية، تدعو بعض أعضائها إلى تكوين هذا الحزب، فإنه ليس من الضروري أن يطلب
من الأحزاب أن تحل نفسها... خاصة ونحن في بداية الطريق، وأن الجزائريين الخارجين عن أي
حزب، أكثر من المنضمين للأحزاب والحركات، و يمكنهم أن ينضموا إلى هذا الحزب الجديد...
ترى هل أعلنوا الكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن، أم من أجل تكوين حزب؟. يريدون ضرب
عصفورين بحجر واحد... لكن الطريق طويل وشاق... هذه القاهرة، أُم الدنيا وجدّتها، التي ما
يزال اتجاه الحركة التي حدثت فيها غامضًا، هي التي سبقت إلى حل الأحزاب، وأغلب الوطنيين
الجزائريين شديدو الحساسية لما يجري هنالك... وضع الشيوعيين في هذا الهيكل العظمي، المسمى
بالعالم العربي أو الإسلامي، كان سيئًا، وها هي مصر تزيده تعفنًا... أُم الدنيا، جدّتها، تحاول، مرة
أخرى أن تبعث موسى، ويوسف، وآريوس( 1)، وأفلوطين.
الموقف المبدأي لكل حزب عقائدي ألا يحل نفسه، وفي مثل هذه الظروف لا بد من أسس
واضحة وشروط، أبسطها وضع ميثاق عمل وطني، يساهم في تحريره...
ومبدأ الاستقلال الوطني ألا يكفي كميثاق؟.
آه. يكفي، ولكن للعمل في جيش، وفي قيادة، لا في حزب يقوم على حساب أحزاب أخرى...
المسألة شكلية... جبهة من أفراد. جبهة من أحزاب. لا المسألة جوهرية... ويبدو لي، أن العداوات
والأحقاد الحزبية، تلعب دورًا كبيرًا في المسألة، وستسارع الأحزاب الانتهازية البرجوازية، إلى
الاستراحة من نفسها، بإعلان الانضمام إلى جبهة الأفراد، وما دام ليس هناك ميثاق، أو أية شروط
أخرى، فإنه لا أحد يدري، أي حزب سيتولى قيادة الثورة وأية خصومات ومنازعات واصطدامات،
ستشهدها قمة هذا الحزب، وأية كتل وجماعات، ستنشأ كالفقاقيع، بين حين وآخر.
وبالنسبة لحزبنا، أي موقف يجب أن يتخذ؟ هذا السؤال من حق المؤتمر وحده أن يجيب عنه...
مسألة شكلية، طريقة كلاسيكية جامدة، فبإمكان المكتب السياسي أن يتحمل مسؤولياته.
أن يعلن حزب عقائدي، عن حل نفسه، وينسحب مناضلوه وإطاراته منه، ليرتموا في أحضان
جبهة أفراد، لا يشاركون في قيادتها على الأقل فأمرُ خالٍ من أية حزبية... أمر لا يتوجب أن
يطرح إطلاقًا... لكن هاهو مطروح.
يوم التحقت بالثورة، لم أستشر أحدًا. لا الحزب ولا غيره، رغم أنني عضو اللجنة المركزية.
أوجبت الظروف المحيطة بي ذلك، ففعلت، وإذا ما سئلت، هل انسلخت من حزبي، فسأجيب فورًا
بالنفي، وإذا ما طلب مني ذلك، فسأظل أسأل عن الدوافع... لن أنسلخ، ولن أدفع الاشتراك، ولن
أسعى لتكوين خلايا جديدة، وسأظل أكافح، من أجل الاستقلال الوطني.
تململ زيدان، ثم فتح القنينة، وارتشف جرعة ثالثة، تلمظ، وظل لحظات، لا يفكر في شيء...
حتى تراءت له سوزان في الظلمة، مطلة أحيانًا بعينيها الزرقاوين، وأخرى بجبهتها المشعرة، أو
بأنفها المستقيم، ومرة واحدة أطلت بوجهها كام ً لا... كعادتها لم تكن تضع عليه أي مسحوق، حتى
زغب ذقنها لم تنتفه.
أول شخص عثرت عليه في الاغتراب، يوم سُرحتُ من الخدمة العسكرية، وطفت بالقرى، ولم
أعثر لا على مريم ولا على عمل، وعدت إلى باريس... لم أكن أعرف أحدًا هناك، فظللت أيامًا،
أطوف الأنهج الواسعة، وأرقب تلاشي نقودي السريع... وفي مكتب اليد العاملة قابلتها، لم تكن
جميلة ولا قبيحة، كانت فتاة عادية، أشبه ما تكون براهبة... لا تتجاوز العشرين من عمرها، أنفها
ووجنتاها فقط تشبه أنف ووجنتي مريم ابنة عمي... حدقت فيها طيلة أربعة أيام، دون أن أحدثها،
كنت أجهل النطق بالفرنسية، رغم أنني أفهم بعض ما يقال حولي. في كل يوم أستظهر لها بطاقة
تعريفي، فتدير رأسها في لا مبالاة، معلنة أنه لا جديد حتى الساعة... غيري يدخل ويخرج
بسرعة، أما أنا، فأستند إلى الجدار، وأبقى أنتظر حتى يغلق المكتب... وقبل انقضاء الأسبوع
ألفتني، وتعودت وجودي معها، تستقبلني وتودعني بابتسامة، وتحمر ووجنتاها، عندما ترفع
بصرها، وتجدني أحدق فيها. وفي اليوم السابع، ناولتني ورقة، بعد أن صافحتني للمرة الأولى،
وأكدت أن المحل الذي طلبني للشغل يوجد عنوانه في هذه الورقة، ثم أشارت بإصبعها إلى الباب:
- هناك، المكتبة المقابلة.
كنت في الحادية والعشرين من عمري، وكانت وجنتاها وأنفها تشبه إلى حد كبير وجنتي وأنف
مريم ابنة عمي، التي قررت أن أسافر إلى الوطن وأبحث عنها وأعود بها، حالما أوفر مبلغًا لائقًا،
وأجد سكنًا... وما أن بدأت عملي في المكتبة المواجهة لمكتبها، أفرغ الصناديق من العربات، أو
أشحنها فيها، أو ألف الطلبات و أحزمها، حتى بدأت العلاقة تتوطد بيني، وبينها... أحييّها كلما
جئت، وكلما انصرفت، وأسأل بابتسامة متواضعة عن أحوالها، بدافع شعور العرفان بالجميل،
فتؤكد في جملة قصيرة بخير، وتسأل عن شغلي وهل يرضيني، فأعجز عن الرد عليها، سوى
بكلمة، حسن، أو شكرًا. ولم أكد أتعلم النطق بلغتها، حتى صرت أغتنم فرص الاستراحة القليلة
لأذهب إلى مكتبها، فتستغرق في الضحك لنطقي المحرّف للكلمات والجمل، وتسألني، لماذا لا أنكبّ
على تعلم القراءة والكتابة، وتلح على أنني شاب، أستطيع بعد عشر سنوات، أن أنال شهادة
محترمة.
ذات يوم بادرتني سوزان:
- مر علي، عندما تخرج في المساء.
- حسنًا، شكرًا.
وفي المساء، طلبت مني أن أصحبها، سارت إلى جانبي بكل بساطة، وبدون أي حرج وكأنها
أختي، مسافات طويلة، ثم اقتحمت بي بناية داكنة اللون، وقالت:
- هنا يعّلمون القراءة والكتابة. لن تمر ثلاثة أشهر، حتى تجد نفسك شخصًا آخر. سأعينك،
وسأجد لك إذ ذاك عم ً لا أليق.
- حسنًا.
تم ما تنبأت به سوزان. كنت أقرأ من أجلي ومن أجلها. خاصة عندما اصطحبتني إلى منزلها،
لأصبح واحدًا من الأسرة، مقابل مبلغ تتقاضاه مني أمها كل شهر، أحتل غرفة، وأتناول الطعام
معهما على نفس المنضدة... وما أن أعود في المساء، حتى تجلسني أمامها، وتشرع في إعادة
تلقيني ما قرأت، أو في شرح نص من النصوص، ثم تطلب مني أن أنسخ صفحة من الكتاب، أو
محاسبتها في الصباح قبل الذهاب إلى العمل بمحفوظة.
- ستدخل الجامعة الشعبية، حالما تتخرج من هذه المدرسة.
كانت تؤكد لك كل مساء، وذات يوم، قادتني من يدي إلى دار البلدية، لنسجل عقد زواجنا، وفي
كل ليلة، قبل أن ننام تقبّلني، وتهمس في أذني:
- ستدخل الجامعة الشعبية.
إلى أن وجدت نفسي ذات يوم أدرس الاقتصاد السياسي، في الجامعة الشعبية، وبباسطة أيضًا،
وجدتني في حلقة ماركسية، ثم في خلية شيوعية إلى جانبها. وقبل أن أتخرج انُتخبت لمدرسة
إطارات الحزب، ودرست مبادئ القيادة الجهوية ثم الإقليمية. وليلة احتفالنا بتخرجي من الجامعة
الشعبية، همست سوزان في أذني:
- سنرحل إلى موسكو، للدخول إلى مدرسة القيادة الوطنية.
مرت الأمور بسرعة فائقة، وساعد عدم إنجابنا للأبناء، على أن لا أشعر أبدًا بأننا زوجان، إنما
رفيقان لا غير... وبعد سنة غادرتني في موسكو إثر برقية من باريس، تخطرها بمرض أمها، ولم
تعد.
اندلعت الحرب العالمية الثانية، فحرمتني منها، ومن متابعة التعلم أيضًا. عدت بسرعة إلى
الجزائر، لأقضي هذه الستة عشرة سنة، عضوًا مداوما في الحزب الشيوعي.
- سي زيدان. الأخ زيدان. البغلتان تتحركان، والأشجار تهتز في السفح على الجهة الجنوبية.
انتفض زيدان، وراح ينظر حواليه، ويحاول التأكد من أنه لم يكن يحلم، إنما يعيش ذكريات، ثم
نظر إلى قارورة الكونياك، وشعر بالخجل، وهو يرى رمضان يرمقه في حيرة:
- كانت في جيب اللاز كما تعلم.
البغلتان تحركتا، ثم انبطحتا، وأغصان الأشجار تهتز، في السفح على الجهة اليمنى تتحرك
على عرض كيلومترات فقط؟.
- حصار إذن، أو محاولة هجوم.
- لكن لا طائرات، ولا محركات عربات أو دبابات، فرنسا لا تهجم هكذا. أعرفها جيدًا.
الغالب على الظن، أن هؤلاء الصاعدين، باتوا في أسفل الجبل.
- هل من جديد؟
تساءل مبعوث القيادة، وهو يسرع نحو زيدان.
- ألم تكن نائمًا؟
سأله زيدان بدوره، فعلق ساخرًا:
- صلاة الفاهمين. وداعًا.
أيقظ زيدان اللاز، وأمره أن يتحصن خلف الصخرة التي كانا ينامان تحتها، وأن لا يطلق
الرصاص إلا بعد صدور الأمر له، ثم نصب المدفع الرشاش، وأمر رمضان بالإسراع لإلقاء نظرة
على الجهات الشمالية والشرقية، وأن يتثبت جيدًا مما إذا كان الحصار شام ً لا. وسارع هو إلى نقطة
الحراسة التي كان فيها رمضان، ليتبين ما إذا كان هناك عدو حقيقي. بينما تمتم اللاز:
- ضحكة البارح لم تعجبني.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:35 PM

اعتدل اللاز خلف الصخرة، في وضع المعركة، وتأمل بندقيته، ثم مسحها براحته في رفق
ولطف، وهوى بشفتيه، يرسم عليها قبلة حارة، وتنهد من أعماقه بعد أن شعر بخفقان قوي في قلبه:
- آه. من كان يتصور هذا؟
رفع رأسه في بطء، وراح يجيل بصره، يتأمل المنطقة التي لم يستطع في الليل أن يتبين منها
شيئًا.
هذه قمة القمم ولا شك، كامل جهات الجبل يمكن مراقبتها من هنا... كيف تمكنَّا من الصعود
إليها يا ترى؟
هذا الضباب لِمَ ينتشر كومًا، تتكوّر وتتدحرج؟
بعض الأماكن مغطاة به وبعضها لا...
أشجار الزان، تتشابك في خشوع ووقار. تتعانق في ودٍّ ومحبة... الأخاديد، تبدأ من نقطة، ثم
تروح تتسّع وتعمق، كلما انحدرت، وعند السفح تتفرع عنها شعاب، كأنها ورقة التبغ.
قرص الشمس أحمر كالتفاحة، كبير رائع، يبدو أنه ملفوف في الحرير، لتتلطف أشعته، ما
أروعَه! لا يضيء إلا حزامًا صغيرًا حوله في السماء.
الحقول هنالك، بعيدًا عن الضباب، مربعات ومستطيلات، منتشرة في اّتساق وبهاء. حصائدُ
الشعير تبدو بيضاء مع صفرة، كأنها حليب جاموس... حقول القمح... آه. لا لون لها... فقط تشبه
لون العسل الحر... مطارب الذرة، تبرز من هنا وهناك، بخضرتها، وكأنها وشمُ في وجه ناصع
البياض.
- يقين أنني كنت قبل اليوم أعمى، لا أبصر إلا وجوه الناس، ولا أرى غير الكبرياء، والمكر،
أو الذل والجوع
وعاد إلى تلمّس بندقيته، ثم إلى لثمها، واستغرق في تصحيح وضعه، والبسمة لا تفارق محيّاه،
ولم يتفطن إلى رمضان، حين مر قربه، يخبّ منحنيًا، في اتجاه زيدان، الذي كان بدوره، يطوف
بمنظاره، متثبتًا من الطرقات، والدروب والمسالك.
- الجهات الأخرى ساكنة.
- آه. هذا أنت.
- ماذا تبينت؟
أسمع حركة، ولكن لا أرى شيئًا. كيف تستطيع أن تميز اهتزاز الأشجار.
- لا تطل التحديق في الشجرة، لكي تميز حركتها غير العادية. راقِب المسالك حيث أشجار
البلوط وأغصان أشجار الزان المنحنية، إن من يصعد يضطر إلى التشبث، وسرعان ما يطلق
غصنًا ليسمك بآخر. هل ترى؟ ألقِ نظرة خاطفة.
- هذا درس جيد.
قال زيدان وهو يمتثل لتعليمات رمضان، ثم أضاف:
- إحدى فرق الثوار، عادت من العمل. أكيد.
- هل ننصب الكمين، أم ننسحب من الميدان؟
- أنتخلى عن مثل هذا الموقع؟
- على أية حال، لا نستطيع أن نخوض معركة ونحن ثلاثة لا غير... الهجوم على عرض
كيلومتر.
نستطيع أن نشتبك عدة ساعات، وحين تأتي الطائرات ننسحب. ينبغي أن لا نتخلى عن موقعنا
هذا إلا بعد الزوال.
علَّق زيدان، ثم سكت لحظاتٍ قبل أن يضيف مستدركًا:
- لكن هل انتبهت لشيء؟
- لأي شيء؟
- العسكر لا يسعى لاحتلال نقطة مثل هذه إلا بعد أن يقنبلها، يجب أن ننتظر الطائرات أو ً لا،
لكن ليس هنا، ينبغي أن ننحدر بعض الشيء... هل البغلتان في موقع جيد؟
- نعم، لقد سألتك هل نكمن؟
- أنت محارب عظيم يا رمضان. هيا، هذا الموقع يجب أن نحميه، لا أن نحتمي به. هيا، إنك
تخطط بالغريزة والتعوّد.
- هكذا فكرت.
- آه. انتظر، انتظر. إنني بدأت ألمح بعض الأشباح. الأول هناك. الثاني خلفه، آهوه. الثالث
والرابع على اليمين ببعض أمتار. أتراهم جيدًا؟
- نعم. إنهم لنا يا رمضان.
- كيف؟
- ليس على رؤوسهم خوذات... لباسهم غير موحّد... يصعدون في ثقة واعتداد، ينبغي إذن
أن ننتظر الدورية الاستطلاعية.
وما أن فرغ زيدان من ملاحظاته، حتى أبصر على بعد مائة متر، عدة أشخاص يسارعون إلى
الانبطاح، ويعتدلون في وضعهم.
- هاه. ها هم. انبطح، انبطح.
- حقًا إنهم يتفحصون المنطقة.
انبطح زيدان ورمضان، وأهّبا سلاحيهما ولبثا ينتظران. وبعد هنيهة وقف أحد المنبطحين
تحت، وراح يتقدم في حذر وهو يجيل بصره في كل شبرٍ من حوله.
- دعه يقترب أكثر. إنه لنا.
همس زيدان، ثم انتظر بضع لحظات، ليزأر:
- قف.
وأسرع قبل أن ينبطح القادم، يضيف:
- من تكونون؟
- وأنتم؟
كان أعضاء الدورية الاستطلاعية الذين تخّلفوا، يستعدّون لحماية قائدهم، بيدَ أن رمضان قدّر
أنه لن يحتاج للقضاء عليهم سوى إلى أربع رصاصات، ذلك أنهم لم يكونوا في وضعية حسنة،
أخَفوا رؤوسهم خلف الأشجار، ولم يفكروا في الباقي. فهمس زيدان:
- لا تهتم بحُماته. أمرهم هيّن.
- إنهم لنا على أية حال، ولكن من يدري، فهذه الخلافات اللعينة...
أجابه بصوت خافت. ثم خاطب قائد الدورية الاستطلاعية:
- الأولى أن تصرّح بهويتكم، ف ّ كر في أنك وأفراد دوريتك والفرقة التي تتبعكم محاصَرون كما
ينبغي. نحن على كل حالٍ ثوار.
- آه. ثوار، نحن مجاهدون. فرقة الشيخ قادمة من قيادة الولاية.
قال ونهض متقدمًا من موقع زيدان ورمضان، بينما همس زيدان:
- إنه يتبجح، فليس من حقه أن يبوح بمثل هذا السر.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 06:52 PM

قضى بعطوش أربعة أيام مهولة في الثكنة، كان خلالها بين يقظة ونوم، وبين واقع فظيع وحلم
مرعب. لايميِّز شيئًا، الليل والنهار، الصباح والمساء، الزمن كله عبارة عن غدير راكد،
والأشخاص والأشياء من حوله بقع سوداء جامدة. فقط، كان يحس بتصدع كبير في داخله، بخندق
عظيم في صدره وفي رأسه، كذاك الذي تتركه قذيفة نابالم في بناية متداعية.
إنه لا يذكر بالضبط ما حدث. لا يستطيع تذكره، لا يجد الجرأة الكاملة في نفسه على استعادة
حتى أبسط جزئيّة من جزئياته، إنما كان يحسّ بثقله ككل، ككل عظيم، مهول، فظيع... يحاول أن
يتحاشاه، فينفعل، ترتجّ أعصابه، وتتقّلص عضلاته، وتهتز أعضاؤه، ويج ّ ف ريقه، فيتمنى الهروب،
يتمنى الذوبان والانعدام.
كان في حالة جنون حقيقي... لا ينفكّ يتنهد ويضرب فخذه بيده، أو يضرب على الأرض
برجله بقوة وعنف، أو يضع يديه في عنقه، وينهمك في محاولة خنق أنفاسه، أو يقرص ذراعه أو
أي موضع في بدنه. يخفي رأسه في الوسادة لحظات طويلة، ثم يعضّها ويرفعها بأسنانه، ويطلق
صرخات توجُّع، ويهمد، لتعتريه شبه إغماءة، يرى نفسه خلالها أنه يطير إلى فوق، في عالم
ضبابي كثيف. وما أن يحلو له الطيران ويحاول الإسراع فيه، حتى يجد الضباب قد انزاح من
حوله ولم يبق إلا الفراغ، فيهوي، دفعة واحدة ويعلو صراخه.
كان الضابط يزوره بين ساعة وأخرى، أحيانًا يكتفي بمراقبته من النافذة، وأحيانًا يدخل الغرفة
التي خصصها له، فيواسيه بكلمات، ثم يملأ له قدحًا من الكحول ويأمره بتجرّعها، معلنًا أن الدواء
الوحيد في مثل هذه الحالات هو النسيان، وأنه لا أحسن من السُّ ْ كر لنسيان الآلام الروحية، فيحدّق
فيه بعطوش ثم يتنهد، ثم يتجرَّع الكأس، ثم يخفي رأسه أو يغمض عينيه، أو يضرب يدًا بيد.
ويرتمي في الفراش أخيرًا، ليغادره الضابط بعد أن يملأ له كأسًا أخرى.
وفي مساء اليوم الرابع، بدأ يحس شيئًا فشيئًا بالوطأة تخف. كانت النوبات العصبية تقل، وكان
يشعر أحيانًا بانطلاق عجيب، فيضحك ويغني ويثرثر، وأحيانا أخرى تداهمه على حين غرّة
الغيبوبة، أو بالأحرى يغمره الضباب، فيملأه من الداخل ويخنقه من الخارج، ويظل لحظات طويلة
مطرقًا في إسهام ووجوم.
لاحظ الضابط ذلك، فأكثر له الخمر، سقاه عدة قوارير في فترة قليلة، ومع أنه لم يسكر حتى
يفقد وعيه، فإنه تخدَّر بشكل عجيب، فلم يعد الإدراك ينفذ إلى عقله، إلا من خلال ومضات خاطفة،
من حين لآخر... صارت المرئيات كلها تتلاشى في عينيه، بسرعة فائقة، رغم محاولاته في
استبقائها أمامه والتثبت منها، والتفلسف في شأنها، في بعض الأحيان.
تأمل السرير الذي كان مستلقيا عليه، وحاول تشبيهه بشيء ما، إلا أنه لا يدري كيف تلاشى
ذلك السرير اللعين... تأمَّل الضابط، وحاول أن يعدَّ النياشين التي في صدره، وأن يسأله عن
مناسبات حصوله عليها، إلا أن الضابط سرعان ما اختفى من أمامه... تأمَّل مرة كرسيًا، واستطاع
أن يحتفظ به بين عينيه، حتى يتساءل، لو كان برجلين فقط، هل يفعل معه الإنسان ما فعله مع
الدراجة، إلا أنه سرعان ما اختفى الكرسي، وتراءت له دراجة بأجنحة... سأله الضابط عدّة أسئلة،
قرَّر أن يجيبه عنها، إلا أنه لسبب أو لآخر، ابتسم عدة ابتسامات متتالية، ثم انقبض وظل صامتًا
يحدّق في الضباب.
الشيء الوحيد الذي طرأ على بعطوش هذا المساء كما لا حظ الضابط ذلك، وكما استطاع هو
نفسه أن يلاحظ، هو أنه لم يعد يتألم بنفس الحدة التي تألم بها طيلة الأيام الثلاثة التي مرَّت.
كان هادئًا إلى حد جعله يتصوَّر أنه في حالة نوم، وأنه ليس في حالة يقظة، وأن كل ما مر أو
يمر عليه، إنما هو مجرَّد أحلام ورؤى.
مدّ الضابط له يده وأنهضه قائ ً لا:
من الأحسن أن تغادر هذه الغرفة وتطوف في أرجاء الثكنة، تتنفس الهواء النقي وتتأمل السماء
الزرقاء. هيا غادر هذا القبر المشئوم.
طاوعه بعطوش، وظل يسير بخطوات متثاقلة بطيئة، مرفوع الرأس إلى السماء، لا يدري أحد،
ما إذا كان فع ً لا يتأمل الزرقة وقطع السحب البيضاء المنتشرة هنا وهناك في أشكال متعددة، أم
يتأمل أسراب العصافير المتراقصة في استعراضات جميلة، أم يرفع رأسه لمجرد الامتثال لنصيحة
الضابط.
وشيئًا فشيئًا، وبعد طواف طويل، قد يكون استغرق ساعتين، وقد يكون أكثر، ومع الخيوط
الأولى للظلمة، بدأ يستفيق، ويستعد وعيه، أو بالأحرى بدأ يتأمل ما حوله ويستطيع الثتبث فيه، بل،
وأكثر من ذلك صار في استطاعته أن يسترسل في تصور ما، أو في نسج خيال من الأخلية.
ميَّز أو ً لا وقع الأقدام الغليظة، وحدّد موقعه، حتى بات على يقين من أنه في ثكنة، وبالتالي، إنه
بدوره يشكَّل عضوًا من أعضاء هذه الثكنة، وأنه بعطوش الذي كان في وقت ما راعي عجول،
والذي انضم منذ أشهر إلى فرقة "القومية" ومع أنه كان يجب أن يعمل في إطارها، فإن الضابط
اصطفاه مع آخرين، ليعملوا تحت قيادته... وليكلفه في الحقيقة بمهمة اكتشاف شبكة تهريب
العساكر من الثكنة.
نعم. إنه بعطوش. هو بعطوش الذي يحمل على كتفيه شارات عريف. نعم.
بعد أن تأكد من ذلك، راح يتأمل مصادر وقع الأقدام... بدا له في الأول الجنود صغارًا
كالأطفال أو كالأقزام، ولكن سرعان ما استرجعوا شكلهم الاعتيادي وحجمهم الطبيعي، وتعرَّف
على بعضهم، ورد على تحياتهم بابتسامة ذابلة، ورفع مرَّة يده محييًا الضابط، وهو يمر قربه. إلا
أن هذا ربّت على كتفه وهمس في أُذنه:
- واصلْ جولاتك، فإنك على أحسن ما يرام. سنسهر معًا الليلة.
وواصل نقل خطاه بتؤدة، قاطعًا الثكنة جيئة وذهابًا متأم ً لا ما حوله. براميل البنزين هنالك ليست في وضع لائق... المفروض أن تكون في مخزن كبير، لا أن
تغطىّ هكذا فقط بهذه الخيمة... ماذا لو تقذف بقنبلة يدوية؟
إذا ما اشتعلت، فإن الثكنة ستنسف... ما أروع أن يحدث ذلك.
عربات الشحن الكبيرة هذه، المصطفة الواحدة تلو الأخرى، محنية أنوفها كأنها تتشمم التراب،
ماذا لو تتطاير الآن شظايا شظايا.
ذلك لا يحدث إلا إذا وضعت فيها ألغام.
آه. هذه الدبابات الدكناء، الرابضة كالأفاعي، انفجارها يكون أكثر دويًا من انفجار العربات.
هذه الجدران، ماذا لو تذوب الآن، جدارا بعد جدار؟ فقط، الألغام، أو الزلزال، يُحدِث لها ذلك.
توقف لحظة، وسأل نفسه، لماذا يفكِّر في ذلك، لماذا لم يخطر بباله غير هذه الخواطر
البشعة... وأجال بصره بسرعة حول البراميل والعربات و الدبابات، ثم واصل خطاه دون أن
يجيب نفسه.
لو كانت القنابل اليدوية في حجم أقراص دواء الصداع لكان في استطاعة المرء أن يبتلع واحدة
أو اثنتين منها، وينتظر انفجارها في صدره.
بم... بم...
ذلك فقط يخرج كل ما في القلب دفعة واحدة.
وتوقف أيضا... لِمَ كل هذا... وقطب حاجبيه، واستأنف سيره بخطوات سريعة حين تذكَّر أن
ضميره مثقل بشيء ما، فظيع، لا يمكن أبدًا تصوُّره أو استحضاره... ولحسن الحظ، استوقفه
جندي جزائري، وسأله بعد أن أدَّى له التحية:
- هل شفيت، سارجان بعطوش؟
- الحمد لله. الحمد الله لماذا يا علاوة؟
كيف لماذا؟ لقد تألمنا جميعًا من أجلك... إذا ما شفيت أطلب لنا رخصة السهر خارج الثكنة.
تعرف أين...؟ لم أغادر الثكنة، هذه أربعة أيام.
- أُنظر إلى تلك البراميل.
- ما بها؟
- إنها ليست في وضع حسن. انظر أيضًا إلى العربات.
- وما بها أيضًا؟
- إنها تتشمم رائحة التراب، ألا ترى أنها تنتظر الزلزال.
- ربما.
- وهذه الدبابات. إنها تتأهب كالأفاعي.
- هل نخرج الليلة، أم غدًا صباحًا يا سارجان بعطوش؟
ألا تتصوّر أبدًا قذف هذه البراميل بقنبلة، أو بثقاب، أو تطاير هذه العربات و الدبابات من
جراء انفجار ألغام في قلبها؟
- ليس ذلك مستحي ً لا يا سارجان بعطوش. تصبح على خير.
تركه قبل أن يسأله عما إذا كان لا يتصور قنابل يدوية، في حجم أقراص دواء الصداع... وما
إن خطا الخطوة الأولى حتى توقف مرة أخرى، وراح يسأل نفسه متعجبًا... كيف تأتيه مثل هذه
الخواطر، وكيف سمح لنفسه أن يبوح بها لعسكري آخر.
وكما لو نسي ذلك، واصل سيره مرهِفًا سمعه، كأنما ينتظر حدوث انفجار في كل ما حوله...
إلا أنه بدل الانفجار انبعثت موسيقى الإيذان بإنزال العََلم.
أسرع الضابط والعساكر إلى الساحة، وتقدمت كوكبة من الجنود، وبعد أن أدَّى الجميع التحية،
خطا قائد الكوكبة خطوات إلى الأمام، ومدَّ يده ينزل العلم.
حيّا بعطوش أيضًا العلم، وشعر بنوع من التأثر لم يتعوَّد الشعور به، لعّله لأنه يحيي لأول مرة
العلم الفرنسي، وهو برتبة... إلا أنه مع ذلك فكَّر في غطس العلم في البنزين، وإشعاله، وهو هكذا
في السماء يرفرف.
وما أن أبعد هذه الفكرة عن ذهنه حتى تراءى له أن الأرض تنشقُّ تحت أقدام الضابط، وكل ما
حوله من العسكر، وتبتلعهم فجأة... أما هو، فإنه يتناول عدة أقراص من القنابل، وينبطح على
ظهره، وينتظر الانفجار. الانفجار المهول المريح.
- آه. مماذا.
سأل نفسه في استنكار، ثم واصل الخطو... كانت مراسيم إنزال العلم قد تمَّت، فتأمله الضابط
مليًا، وقال في نفسه:
أطول وأعرض من اللاز.
وبعد برهة أضاف:
- يسهر عندي الليلة ويبيت معي... يجب أن يتعوَّد ذلك، لن أجد أحسن منه لتعويض اللاز.
ثم تقدم منه، وسار إلى جنبه بضع خطوات، وقال له في شبه أمر:
- ستتعشى معي. واصل طوافك، وسأطلبك بعد حين.
ثم مرّ وتركه، بينما كان بقية العساكر، فرنسيين وهم الأغلبية، وبعض الجزائريين المسخَّرين، 6
وآخرين من المتطوعين أو القومية، يسارعون نحو المطبخ لتناول طعام العشاء.
كان الانقسام واضحًا، الضباط وضباط الصف في جهة.
الفرنسيون في جانب والجزائريون في آخر. المس ّ خرون في ركن والمتطوعون في ركن. أما
القومية وعددهم ثلاثة لا غير يعيشون في الثكنة لظروف أو لأخرى فإنهم استقلُّوا بمنضدة في
الوسط، ولم يجلس حولهم أي أحد.
تبادل المسخَّرون بعض نظرات استثنائية، وهم يداعبون الملاعق والشوكات والكؤوس
والصحون الخاوية ومناديل الورق، ولكن مع ذلك ظلوا صامتين، محاولين إبداء نوع من الرضا
والاطمئنان. كان التكلف في الحقيقة يبدو واضحًا عليهم... إن غرابة الجو والبيئة متأكدة بالنسبة
لهم، ولكن الوحدة التي يفرضها الموقع والوضع، وخاصة اللباس، وأكثر من ذلك نوع القبعات
المستطيبة والمجوَّفة من الوسط، لا يستطيع إنكارها أحد.
انطلقت تصفيرة من ركن الضباط، تردد في شجى لحن الأغنية الإنقليزية الشهيرة من يعش
ير وترنم عسكريُّ يجلس قريبًا منهم بمقطع حزين لإيديت بياف. وترنم قومي لا شعوريا بلحن
أغنية برزت في أعقاب الحرب العالمية، دون أن يعرف أحد مصدرها تمجِّد الأمريكيين
والأوروبيين وتذم العرب.
ما ناخذش العربي لباس القاعة ناخذ الجوني ( الأمريكي) يمشي بالساعة
ما ناخذش العربي رجلين الراطو نأخذ الجوني وكال القاطو ( الحلويات )
- بعطوش في أحسن ما يرام هذا المساء... السارجان بعطوش.
قال أحد المس ّ خرين، فرد عليه آخر:
- هل طلب َ ت منه أن يستأذن لنا في الخروج؟
حين سألته، راح يحدثني عن تصوّر براميل البنزين تلتهب، والعربات والدبابات تنفجر.
- السارجان بعطوش!
- نعم السارجان بعطوش يقول إن العربات والدبابات تتشمم الأرض... منتظرة للزلزال
- لا تتحدث في مثل هذا. إنه مجنون.
َنهَره أحدهم، وراح يغيَّر مجرى الحديث:
- هل رويت عنكم هذه النكتة؟
- لا.
- أية نكتة.
- قل لا وكفى، لماذا تسأله عنها؟ فنكته دائمًا تجدِّد طرافتها، حتى أنت...
استمعوا إذن. شيخ مشعوذ قهر القرية بادعائه الإطلاع على الغيب والكشف عن الأسرار مهما
كانت. يقال إنه متزوج مع جنيه مسلمة، ويقال إِنه صديق عدة شياطين يهود... حاول يومًا بعض
شبان القرية أن يختبروه.
- هل كنت معهم؟
- دعه يتمم. حتى أنت...
- وضعوا برتقالة تحت قصعة خشب، وأحضروه، طالبين منه أن يعطيهم البرهان الأخير
بالكشف عما تحت القصعة. احمرّ واصفر. تصبّب عرقًا، حدّق مليًا في السماء متمتمًا ثم قال:
- مدورة مكورة.
- الحّلوف.
- آه سيدي الشيخ زد. زد.
احمر واصفر. تصبب عرقًا، حدَّق في السماء أيضًا وأضاف:
- مستحمرة مستصفرة.
- الحلوف.
- آه سيدي الشيخ. زد زد... انك توشك.
- رفع يده إلى السماء وتلا تعاويذ وعزائم، ثم قال:
- وفي قلبها الماء.
- آه سيدي الشيخ. انطق بها. انطق بها.
- وهل نطق بها العفريت؟
- لكن مع ذلك لم يسمها، وبعد عزائم وتعاويذ، واحمرار واصفرار، وعرق وجفاف، أدار
رأسه يمينًا وشما ً لا قائ ً لا: هذا ما علمت.
- آه يا سيدي الشيخ. مدورَّة مكوَّرة، مستحمرة مستصفرة، في قلبها الماء، لقد وجدتها... أعنها
بف ْ كرك قلي ً لا تجدها.
- نعم، أعنها بفكرك أنت يا سيدي الشيخ.
- دعك من أصحابك، فقد فعلوا واجبهم، وأعنها بفكرك أنت.
استعان الشيخ بفكره، فراح يدرس ويدقِّق، ويتشمم أيضا، والشبان يهتفون:
- نعم، نعم. مكوَّرة مدوَّرة، مستحمرة مستصفرة في قلبها الماء، أعنها بفكرك تجدها.
- إنها تؤكل أيضًا.
صاح أحدهم مثيرًا غضب أصدقائه.
وأخيرًا نطق الشيخ:
- لقد وجدتها. لقد وجدتها. هداني الله، أرشدني أصحابي، واستعنت بفكري ووجدتها.
- تصوَّروا ماذا وجد؟ احزروا؟
- برتقالة طبعًا.
قال أحدهم.
- لعّلها بطيخة؟
أضاف آخر.
- قد تكون تفاحة أو رمانة؟
تساءل الرابع. فقال صاحبهم:
- عندما استعان الشيخ بفكره، قال "رحى حجرية"... انفجر الشبان ضاحكين من أعماقهم
فملأوا القاعة لحظات بالضجيج والصخب، والتفت إليهم جميع من هناك، وشاركهم البعض
بالابتسامات. وأخيرًا قال أحدهم:
- الله يسترنا من هذا الضحك.
وأضاف آخر:
- هذه مدة طويلة لم نضحك مثل هذه الليلة.
- خير إن شاء الله.
- لعله الزلزال الذي تحدّث عنه صاحبنا.
- حتى يستعين بفكره أو ً لا.
وارتفعت القهقهات مرة أخرى وانسابت حتى خارج القاعة، الأمر الذي لفت انتباه بعطوش
وجعله يتوقف متسائ ً لا:
- هل هناك في هذه الحياة من لا يزال قادرًا على مثل هذه القهقهات؟
وحدّق في براميل البنزين، وفي العربات، وفي الدبابات، وفي الجدران، ثم في قاعة الأكل،
ورفع يديه إلى أذنيه يسدّهما.
- سارجان بعطوش، سيدي القبطان يطلبك للعشاء...
جاءه الصوت، فحدَّق فيما حوله مرة أخرى. كانت الظلمة تتكثَّف.
* * *


الساعة الآن 11:31 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى