منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   طريق الهجرتين وباب السعادتين - الامام بن قيم الجوزية شيخ الاسلام (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=24531)

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان منفعة الحق ومنفعة الخلق وما بينهما من التباين

إذا تبين هذا ظهر أن أحدا من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد منفعته بك وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة فملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلا أو آجلا فهو يريد نفسه لا يريدك ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه فتأمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأسا من المخلوقين سدا لباب عبوديتهم وفتحا لباب عبودية الله وحده فما أعظم حظ من عرف هذه المسألة ورعاها حق رعايتها ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم فكما لا تخافهم لا ترجوهم ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم وكم اتخذوك جسرا ومعبرا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين وكم فوتوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها وقطعوا طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دعيت إليها وقالوا نحن أحبابك وخدمك وشيعتك وأعوانك والساعون في مصالحك وكذبوا والله إنهم لأعداء في صورة أولياء وحرب في صورة مسالمين وقطاع طريق في صورة أعوان فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذي يغيث ولا يغاث يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون
فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله وآثر الله ولم يؤثرهم على الله وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه وأحيى حب الله وخوفه ورجاءه فيه فهذا هو الذي يكتب عليهم وتكون معاملته لهم كلها ربحا بشرط أن يصبر على أذاهم ويتخذه مغنما لا مغرما وربحا لا خسرانا
ومما يوضح الأمر أن الخلق لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة
البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله قال النبي لعبدالله بن عباس واعلم أن الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك وإذا كانت هذه حال الخليقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده

وجماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغي فغيرك أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ولا قادرا عليها ولا مريدا لها والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك ولا لتكثر بك ولا لتعزز بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا أخرجه أثر ذلك في غناه وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك وأنت المعوق لوصول فضله إليك وأنت حجر في طريق نفسك وهذا هو الأغلب على الخليقة فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته ولا استديمت بغير شكره ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإنما أنت المسبب في سلبها عنك فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم فما أزيلت نعم الله بغير معصيته
إذا كنت في نعمة فارعها % فإن المعاصي تزيل النعم
فآفتك من نفسك وبلاؤك من نفسك وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك كما قيل
ما يبلغ الأعداء من جاهل % ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية وتتهم أقداره وتعانيها وتلومها فقد ضيعت فرصتك وفرطت في حظك وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال فأنت المعني بقول القائل
وعاجز الرأي مضياع لفرصته % حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ولو شعرت برأيك وعلمت من أين ذهبت ومن أين أصبت لأمكنك تدارك ذلك ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه فأعرضت عمن أصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به فقال يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك
وإذا أتتك مصيبة فاصبر لها % صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما % تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وإذا علم العبد حقيقة الأمر وعرف من أين أتي ومن أي الطرق أغير على سرحه ومن أي ثغرة سوق متاعه وسلب استحى من نفسه إن لم يستح من الله أن يشكوا أحدا من خلقه أو يتظلمهم أو يرى مصيبته وآفته من غيره قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
فإن أصررت على اتهام القدر وقلت فالسبب الذي أصبت منه وأتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم وكان في الكتاب مسطورا فلا بد منه على الرغم مني وكيف لي أن أنفك منه وقد أودع الكتاب الأول قبل بدء الخليقة والكتاب الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم وأنا في ظلمات الأحشاء حين أمر الملك بكتب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة فلو جريت إلى سعادتي ما جريت حتى بقي بيني وبينها شبر لغلب علي الكتاب فأدركتني الشقاوة فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاء ويصرفه كيف أراد إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء ان يزيغه أزاغه وهو الذي يحول بين المرء وقلبه وهو الذي يثبت قلب العبد إذا شاء ويزلزله إذا شاء فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته قال أعلم الخلق بربه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه /ح/ ثم قال اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك /ح/ وكان أكثر يمينه لا ومقلب القلوب /ح/

وقال بعض السلف مثل القلب مثل الريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه وهل له مشيئة بدون مشيئته كما قال تعالى وما تشآءون إلا إن يشاء الله رب العالمين
وروي عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد قال تلا رسول الله قوله عز وجل أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها وغلام جالس عند رسول الله فقال بلى والله يا رسول الله إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها فلما ولي عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال لم يقل ذلك إلا من عقل
وقال طاوس أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر وقال أيوب السختياني أدركت الناس وما كلامهم إلا إن قضى إن قدر
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة قال والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوما بيوم فذلك قوله إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
وفي الآية قول آخر إن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أن يعملوه وقد يقال وهو الأظهر إن الآية تعم الأمرين فيأمر الله ملائكته فتستنسخ من أم الكتاب أعمال بني آدم ثم يكتبونها عليهم إذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أم الكتاب ذرة ولا تنقصها
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر خلق الله الخلق كلهم بقدر وخلق الخير والشر فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة
وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة قال قلت لا بل فيما قضي عليهم ومضى قال أفيكون ذلك ظلما قال ففزعت فزعا شديدا وقلت إنه ليس شيء إلا خلقه وملكه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فقال سددك الله إنما سألتك لأحرز عقلك إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم قال فيما قضي عليهم ومضى فقال الرجل ففيم العمل قال رسول الله من كان خلقه الله لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
وقال مجاهد في قوله تعالى إنى أعلم مالا تعلمون قال علم من إبليس المعصية وخلقه لها
وقال تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة قال ابن عباس إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ثم قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمن وكافر
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه قال يحول بين المؤمن الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله
وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السلف في قوله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قالوا خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف وقال تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شاء ربك ما فعلوه وقال تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي نصيبهم مما كتب لهم وقال كذلك سلكناه في قلوب المجرمين قال الحسن وغيره الشرك والتكذيب
وقال سبحانه كلا إن كتاب الفجار لفي سجين قال محمد بن كعب القرظي رقم الله سبحانه كتاب الفجار في أسفل الأرض فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب ورقم كتاب الأبرار فجعله في عليين فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب
وقال ابن عباس تبت يدا أبي لهب وتب بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ
وقال مجاهد في قوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال عن الحق
وفي قوله إنا جعلنا على قلوبهم أكنة قال كالجعبة فيها السهام
وقال ابن عباس في قوله تعالى وأضله الله على علم قال أضله في سابق علمه


وقال في قوله تعالى حكاية عن عدوه إبليس فبما أغويتني قال أضللتني
وقال في قوله ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم قال من قضيت له أنه صالي الجحيم
وقال عمر بن عبدالعزيز لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس وقد فصل لكم وبين لكم ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قدر أن يصلى الجحيم وقال وهيب بن خالد أنبأنا خالد قال قلت للحسن ألهذه خلق آدم يعني السماء أم للأرض فقال لا بل للأرض قال قلت أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها أكان ترك في الجنة قال سبحان الله أكان لا بد من أن يعملها وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال واجعلنا للمتقين إماما أي أئمة يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضالين يدعون إلى النار وقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله
وقال زيد بن أسلم والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كما قال أهل الجنة ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس قال الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله وقالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال شعيب وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله
وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وقال أهل النار غلبت علينا شقوتنا وقال أخوهم إبليس رب بما أغويتني وقال مجاهد في قوله وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال مكتوب في عنقه شقي أو سعيد


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

وقال ابن عباس في قوله ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا يقول ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئا
وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعد عن سوار بن مصعب عن أبي حمزة عن مقسم عن ابن عباس صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم بسط يده اليمنى فقال بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل أولهم على آخرهم لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بلى هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة وقد يسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة فصاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل عمل أهل النار وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل بعمل أهل الجنة ثم قال رسول الله الأعمال بخواتيمها
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وفي قوله ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وفي قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وفي قوله تعالى ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها وقوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وقوله إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا وقوله ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ونحو هذا من القرآن وإن رسول الله كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ثم قال لنبيه لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ويقول إن نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعين ثم قال ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ويقول ليس لك من الأمر شيء
وفي صحيح مسلم عن طاوس أدركت ناس من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر وسمعت عبدالله بن عمر يقول قال رسول الله كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله يقول كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئا لم يكن الله قدره ولكن النذر يوافق القدر فيخرج ذلك من البخيل مالم يكن يريد أن يخرجه وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبي عن الإيمان قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق وفيه فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
وذكر الطبري عن الحسن بن علي الطوسي أنبأنا محمد بن يزيد الأسفاطي البصري محدث البصرة قال رأيت رسول الله في النوم فقلت يا رسول الله حديث عبدالله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق أعني حديث القدر فقال إي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به رحم الله عبدالله بن مسعود حيث حدث به ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به ورحم الله الأعمش حيث حدث به ورحم الله من حدث به قبل الأعمش ورحم الله من يحدث به بعد الأعمش
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وقد روي حديث تقدير السعادة والشقاوة في بطن الأم من حديث عبدالله بن مسعود وأنس بن مالك وعبدالله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة
وقال أبو الحسن علي بن عبيد الحافظ سمعت أبا عبدالله بن أبي خيثمة يقول سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول انحدرت من سر من رأى إلى بغداد في حاجة لي فبينما أنا أمشي في بعض الطريق إذا بجمجمة قد نخرت فأخذتها فإذا على الجبهة مكتوب شقي والياء مكسورة إلى خلف وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ ذكره الطبري في السنة
وفي الصحيحين حديث علي عن النبي ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي سئل أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال نعم كل ميسر لما خلق له
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت دعي رسول الله إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك السوء ولم يعمله قال أو غير ذلك إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم
وفي الصحيحين عن ابن عباس وأبي بن كعب عن النبي قال الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله يقول إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره وفي لفظ فجعلهم في ظلمة واحدة فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة فمن أصابه النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله
وذكر راشد بن سعد عن أبي عبدالرحمن السلمي أن أبا قتادة سمع النبي يقول خلق الله آدم وأخرج الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قيل على ما نعمل قال على مواقع القدر
وذكر أبو داود في كتاب القدر عن عبدالله بن مسعود أنه مر على رجل فقالوا هذا هذا ونالوا منه فقال عبدالله أرأيتم لو قطعتم يده كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يدا قالوا لا قال فلو قطع رأسه أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأسا قالوا لا قال فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أن تغيروا خلقه إن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكا فكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعا إنما هما اثنتان الهدي والكلام فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وإن كل بدعة ضلالة وإن كل ما هو آت قريب وإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره /ح/
وقال ابن وهب أخبنري يونس عن ابن شهاب أن عبدالرحمن بن هنيدة حدثه أن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام تعرفا يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله قال فذكره سواء قال الزهري وحدثني عبدالرحمن بن هنيدة عن ابن عمر مثل ذلك
وذكر أبو داود أيضا عن عائشة يرفعه إن الله حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل على الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا قال فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم
وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن المني إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب سبحانه في راحته فيقول يا رب عبدك ذكر أم أنثى فيقضي الله ما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين عينيه قال أبو تعيم وقرأ أبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات
قال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين يوما جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فقال اخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم يدفع إلى الملك فيسأل الملك عن ذلك فيقول يا رب سقط أم تم فيبين له ثم يقول يا رب واحد أو توأم فيبين له ثم يقول يا رب ذكر أم أنثى فيبين له فيقول يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل فيبين له ذلك ثم يقول يا رب أشقي أم سعيد فيبين له ثم يقول يا رب اقطع رزقه مع خلقه فيهبط بهما جميعا فوالذي نفسي بيده ما ينال من الدنيا إلا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض
في صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي قال يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره ورزقه ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيهاه ولا ينقص
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب ذلك في بطن أمه
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وفي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير وهذه الكتابة في الطور الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه وفي الأحاديث التي ذكرت أيضا أنفا أن ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقة ومضغة وفي رواية صحيحة إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وفي رواية إن ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

فصل في الجمع بين الروايات المتقدمة

الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة وأنه يقول يا رب هذه نطفة هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله وهو أعلم بها وبكلام الملك فتصرفه في أوقات أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني ولهذا والله أعلم وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إذ خلقه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيبته وهذا إنما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره فههنا تقديران وكتابان التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق في النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت في طور العلقة ولهذا في إحدى الروايات إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة والتقدير الثاني الكتابة إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرا أو أنثى فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثاني الثاني أخص من الأول ونظير هذا أيضا أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر في كل سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم وبعد كمال تصوير الجنين وقد تقدم ذكر تقدير شأنها قبل خلق السموات والأرض فهو تقدير بعد تقدير
ونظير هذا أيضا رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال قال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم /ح/ ويعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبي ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الإثنين والخميس والعرض فيها أخص من العرض في شعبان ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف وهذا عرض آخر وهذه المسائل العظيمة القدر هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادي الأمة محمد
فإن قيل ما تقولون في قوله إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث وهذا يوافق الرواية الأخرى يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد ويوافق الرواية الأخرى إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى قيل لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة ولا يقع عقيب الأولى هذا أمر معلوم بالضرورة فإما أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتبارا بأول أحوالها وما كانت عليه أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى كتابة تصويره وتقديره تخليقا اعتبارا بما يؤول فيكون قوله صورها وخلق سمعها وبصرها أي قدر ذلك وكتبه وأعلم به ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به أي الأربعين الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة وحينئذ يكون أول مبدإ التخليق فيكون مع هذا المبدإ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتيعن ولا بد ولا يجوز غير هذا البتة إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر والله أعلم بمراد رسوله غير أنا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق عند أول تخليقه ويحتمل وجها رابعا وهو أن النطفة في الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتني بشأنها فإذا جاوزتها وقعت في أطوار التخليق طورا بعد طور ووقع حينئذ التقدير والكتابة فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة وحديث حذيفة بن أسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها وقد قيدها ووقتها في حديث ابن مسعود والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها وذلك يقع في أوقات متعددة وكله بعد الأربعين الأولى وبعضه متقدم على بعض كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونهها مضغة متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك فيصح أن يقال إن النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة ويصور خلقها وتركب فيها العظام والجلد ويشق لها السمع والبصر وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل وهذ وجه حسن جدا


والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا فأسكنه الجنة أو النار وهو في بطن أمه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة الحديث
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي قال ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصمه الله
وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنه قال أتيت النبي فقال يا عدي أسلم تسلم قلت وما الإسلام قال تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها
وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن تغلب قال أتى النبي مال فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل
وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من القناعة والخير الحديث
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وخلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء
وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبي قال لأشج عبدالقيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله خلقين تخلقت بهما أم جلبت عليهما قال بل جبلت عليهما قال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
وقال أبو هريرة قال النبي جف القلم بما أنت لاق رواه البخاري تعليقا
وذكر البخاري أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون قال سبقت لهم السعادة
وفي سنن أبي داود وابن ماجة من حديث عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار وقاله زيد بن ثابت عن النبي
وفي سنن أبي داود عن أبي حفصة الشامي قال قال عبادة بن الصامت يا بني إنك لم تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ومن أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وما أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله يقول من مات على غير هذا فليس مني
وفي الصحيحين عن علي قال كنا في جنازة فيها رسول الله ببقيع الغرقد فجاء رسول الله فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها في النار أو في الجنة إلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أولا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة قال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قرأ نبي الله فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني إدم من ظهورهم ذريتهم فقال سمعت رسول الله قد سئل عنها فقال رسول الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينيه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون قال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي . حديث حسن صحيح .
وذكر الطبري من حديث مالك بن عبادة أن رسول الله قال لابن مسعود لا يكثر همك ما يقدر يكن وما ترزق يأتك
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال قال رسول الله بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء
وقال ابن وهب أنبأنا عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج النبي فسمع ناسا من أصحابه يذكرون القدر فقال إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغور فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم ولقد أخرج يوما كتابا فقال هذا كتاب من الله الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل على آخرهم لا ينقص منهم أحد فريق في الجنة وفريق في السعير
وفي الترمذي عن ابن عباس قال ردفت رسول الله يوما فقال يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله رفعت الأقلام وجفت الصحف لو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يعطه الله لم يقدروا عليه ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئا قدره الله لك ما استطاعوا فاعبد الله مع الصبر على اليقين
وقال علي بن الجعد أنبأنا عبدالواحد البصري عن عطاء بن أبي رباح قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت قال جعل يقول يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتق الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبت كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره قال تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن مت على غير هذا دخلت النار سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد
وذكر الطبري من حديث بقية أنبأنا أبو بكر العنسي عن زيد بن أم حبيب ومحمد بن يزيد قالا حدثنا نافع عن ابن عمر قال قالت أم سلمة يا رسول الله لا تزال نفسك في كل عام وجعة من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها قال ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في خطبة النبي الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
وفي صحيحه أيضا عن زيد بن أرقم كان النبي يقول اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
وفي صحيحه أيضا عن علي عن النبي في دعاء الاستفتاح اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سييء الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت
وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبي علم أباه هذا الدعاء اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن عبدالأعلى عن عبدالله بن الحارث قال قام عمر بن الخطاب خطيبا فقال في خطبته من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وعنده الجاثليق يسمع ما يقول قال فنفض ثوبه كهيئة المنكر فقال عمر ما تقولون قالوا يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا قال كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون قال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه
وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال خلق الله الخلق فكانوا في قبضته فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في يده الأخرى ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة
وقال ابن عمر جاء رجل إلى أبي بكر فقال أرأيت الزنا بقدر الله فقال نعم قال فإن الله قدره علي ثم يعذبني قال نعم يا ابن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك
وذكر عن علي أنه ذكر عنده القدر يوما فأدخل إصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما باطن يده فقال أشهد إن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب
وذكر عنه أيضا أنه قال إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستقين يقينا غير ظن أن ما اصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله
وذكر البخاري عن ابن مسعود أنه قال في خطبته الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره
وقال ابن مسعود لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن
وقال لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت
وقال الأعمش عن ابن مسعود إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملائكة اصرفعوه عنه فإني إن يسرته له أدخلته النار قال فيصرفه الله عنه قال فيقول من أين دهيت أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله سبحانه
وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أن عبدالرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه وأفاق فقال أغمي علي قالوا نعم قال إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي فقالا انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بي فتلقاهما رجل فقال أين تريدان به قالا نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه
وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال أشهد لسمعت ابن عباس يقول العجز والكيس بقدر
وقال مجاهد قيل لابن عباس إن ناسا يقولون في القدر قال يكذبون بالكتاب إن أحدث سعر أحدهم لا تصونه إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه
وقال ابن عباس أيضا القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها
وقال عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال يا ابن عباس أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة واردا ألا تراه قد ظلمني فقال إن كان الهدى شيئا كان لك عنده فقد فمنعكه فقد ظلمك وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك قم فلا تجالسني
وقال عكرمة عن ابن عباس كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له فكيف ذاك الهدهد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك إذا جاء القضاء ذهب البصر
وقال الإمام أحمد أنبأنا إسمعيل أنبأنا أبو هرون الغنوي أنبأنا سليمان الأزدي عن أبي يحيى مولى بني عفراء قال أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه فقلت يا ابن عباس ما تقول في القدر فإن هؤلاء يسألونك عن القدر إن زنى وإن شرب وإن سرق فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم إن زنى فبقدر وإن سرق فبقدر وإن شرب الخمر فبقدر
وصح عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر قال له إن ناسا يقولون لا قدر وإن الأمر أنف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر بريء منهم وأنهم براء منه
وقد تقدم قول أبي بن كعب وحذيفة وابن مسعود وزيد بن ثابت لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة بن الصامت لن تؤمن حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال قتادة عن أبي السوار عن الحسن بن علي قال قضي القضاء وجف القلم وأموت بقضاء في كتاب قد خلا



يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:24 AM

وقال عمرو بن العاص انتهى عجبي إلى ثلاث المرء يفر من القدر وهو لاقيه ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبها ويكون في عنيه مثل الجذع فلا يعيبها ويكون في دابته الطفر فيقومها جهده ويكون في نفسه الطفر فلا يقومها
قال أبو الدرداء ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والإستسلام للرب
وقال الحجاج الأزدي سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر فقال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال سلمان أيضا إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذراري إلى يوم القيامة وكتب الآجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن عمل السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن عمل الشقاوة عمل الشر ومجالس الشر
وقال جابر بن عبد الله لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة فصل
فالجواب أن ههنا مقامين مقام إيمان وهدى ونجاة ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس وهذه الآثار كلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم
الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاف مغالبته حتى يقول قائل هؤلاء
ما حيلة العبد والأقدار جارية % عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له % إياك إياك أن تبتل بالماء
ويقول قائلهم
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى % دخولي سبيل بينوا لي قصتي
ويقول الآخر
وضعوا اللحم للبزاة % على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ % خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي % ستروا وجهك الحسن
وقال بعضهم وقد ذكر له ما يخاف من إفساده فقال لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره وصعد رجل يوما على سطح دار له فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما فقال الغلام إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك فقال لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء أنت حر لوجه الله
ورأى آخر يفجر بامرأته فبادر ليأخذه فهرب فأقبل يضرب المرأة وهي تقول القضاء والقدر فقال يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا فقالت أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال لولاك لضللت ورأى آخر رجلا آخر يفجر بامرأته فقال ما هذا فقالت هذا قضاء الله وقدره فقال الخيرة فيما قضى الله فقبل بالخيرة فيما قضى الله وكان إذا دعي به غضب

وقيل لبعض هؤلاء أليس هو يقول ولا يرضى لعباده الكفر فقال دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده ومن أفسدنا غيره ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال القدر عذر لجميع العصاة وإنما مثلنا في ذلك كما قيل
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم % وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
وبلغ بعض هؤلاء أن عليا أمر بقتلى النهروان فقال بؤسا لكم لقد ضركم من غركم فقيل من غرهم فقال الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأماني فقال هذا القائل كان علي قدريا وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد
واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله وزين لهم الشيطان أعمالهم فقال كان الهدهد قدريا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان وجميع ذلك فعل الله وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أيمنعه ثم يسأله ما منعه قال نعم قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ولعنه عليه قال له فما معنى قوله وماذا عليهم لو آمنوا بالله إذا كان هو الذي منعهم قال استهزاء بهم قال فما معنى قوله ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم قال قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه وليس للآية معنى

وقال بعض هؤلاء وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله فقال إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لإرادته
وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه فقال إلى متى هذا اللوم ولو خلي لسجد ولكن منع وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين تبا لك سائر اليوم أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن
وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه فلما رجع قال كنت أصلح بين قوم فقيل له أصلحت بينهم قال أصلحت إن لم يفسد الله فقيل له بؤسا لك أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك
ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال مسكين مظلوم أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها
وقيل لبعضهم أترى الله كلف عباده مالا يطيقون ثم يعذبهم عليه قال والله قد فعل ذلك ولكن لا نجسر أن نتكلم
وأراد رجل من هؤلاء السفر فودع أهله وبكى فقيل استودعهم الله واستحفظهم إياه فقال ما أخاف عليهم غيره
وقال بعض هؤلاء ذنبة أذنبها أحب إلي من عبادة الملائكة قيل لم قال لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها ولم يقضها إلا والخيرة لي فيها وقال بعض هؤلاء العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر

ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدا فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور فجعل يقول كيف أنتم في قدر الله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لي المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراد فأي شيء أبغض منه قال فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له قال فكأنما ألقم حجرا
وقرأ قارىء بحضرة بعض هؤلاء قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فقال هو والله منعه ولو قال إبليس ذلك لكان صادقا وقد أخطأ إبليس الحجة ولو كنت حاضرا لقلت له أنت منعته
وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فقال ليس من هذا شيء بل أضلهم وأعماهم قالوا فما معنى الآية قال مخرقة بمخرق بها
فيقال الله أكبر على هؤلاء الملاحده أعداء الله حقا الذين ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه ولا نزهوه عما لا يليق به وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم وهؤلاء خصماء الله حقا الذين جاء فيهم الحديث يقال يوم القيامة أين خصماء الله فيؤمر بهم إلى النار /ح/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته
ويدعى خصوم الله يوم معادهم % إلى النار طرا فرقة القدرية
سواء نفوه أو سمعوا ليخاصموا % به الله أو ماروا به للشريعة
وسمعته يقول القدرية المذمومون في السنة على لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث نفاته وهم القدرية المجوسية والمعارضون به للشريعة الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا وهم القدرية الشركية والمخاصمون به الرب سبحانه وهم أعداء الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية وشيخهم إبليس وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال بما أغويتني ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم ومن أشبه أباه فما ظلم ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب ونزهوه أن يعاقب العبد على مالا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه ونحو ذلك كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتي بطرار أحوال فقال له الوالي ما ترى فيه فقال اضربه خمسة عشر يعني سوطا فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا خمسة عشرة لطرة ومثلها لحوله فقال الجبري كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه فقال كما ضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك فبهت الجبري وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع عدو الله ورسله لا يقر بأمر ولا نهي وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا اباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون وقال تعالى وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:24 AM

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق

الفرقة الأولى جعلت هذه الآيات حجة صحيحة وأن للمحتج بها الحجة على الله ثم افترق هؤلاء فرقتين فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلما والله لا يظلم من خلقه أحدا وفرقة صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت ليس ذلك بظلم والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده إذ العبد لا فعل له والملك ملكه ولا يسأل عما يقول وهم يسألون فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التي حكاها الله عنهم استهزاء منهم ولو قالوها اعتقادا للقضاء والقدر وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر عليهم ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا
الفرقة الثانية جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب ونفى عنهم العلم دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به ولم يقل لهم قل هل عندكم من علم وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات وأنه لا يقدر أن يضل أحد ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده ولا يجعل في قلبه الإيمان ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر
والطائفتان ضالتان وإحداهما أضل من الأخرى
والفرقة الثالثة آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي ونزلوا كل واحد منزلته فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به والأمر النهي يتمثل ويطاع فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والقيام بالأمر والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله وقالوا من لم يقر بالقضاء والقدر ويقم بالأمر والنهي فقد كذب الشهادتين وإن نطق بهما بلسانه ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين فرقة قالت إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلا على رضاه به ومحبته له إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته وكلاهما ممتنع في حق الله فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به وقد وافق هؤلاء من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها ولكن حالفهم في أنه نهى عنها وأمر باضدادها ويعاقب عليها فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره على لسان رسوله لا بمجرد خلقه فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه فهكذا في الأفعال خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته وقالت الفرقة الثانية إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره نهيه دفعوه بقضائه وقدره فجعلوا القضاء والقدر إبطالا لدعوة الرسل ودفعا لما جاؤوا به وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إما في جميع تركتهم وإما في كثير منها وإما في جزء منها وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا إيمانا يثابون عليه ويقبل منهم يرضى به عنهم وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى الأولى علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم
الثانية كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض
الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه
الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه فإنه لا خالق إلا الله والله خالق كل شيء فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق ويؤمنون مع ذلك بحكمته وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه وإن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمه به كسائر صفاته وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها بل هي أمر وراء ذلك وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى وأحيا وأسعد وأشقى وأضل وهدى ومنع وأعطى وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات وهو محال إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة بل قوله حق ولازم الحق حق كائنا ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي وصدقوا بالوعد والوعيد فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
واعلم أن الإيمان بحقيقةالقدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر ومنهم من يرده إلى العلم ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر وكذلك الحكمة فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته والقدرية النفاة لا يرضون بهذا بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته كما قالوا في كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها وكذلك الأمر والشرع فإن من أنكر كلام الله وقال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له ولم يكلف أحدا ما يقدر عليه بل كل تكليفه تكلف مالا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة ويجوز أن يعذب رجالا إذ لم يكونوا نساء ويعذب نساء إذ لم يكونوا رجالا وسودا حيث لم يكونوا بيضا وبيضا حيث لم يكونوا سودا ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدي الكذابين ويرسل رسولا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ولكن مشى الحال بعض المشي بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ولهذا كان المنكرون القدرة فرقتين فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم وقال تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال في حم بعد ذكر تخليق العالم ذلك تقدير العزيز العليم وذكر نظير هذا فقال فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته فهو عليم بخلقه وأمره ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة والحكمة هي سنة الرسول وهي تتضمن العلم بالحق والعلم به والخبر عنه والأمر به فكل هذا يسمى حكمة وفي الأثر الحكمة ضالة المؤمن وفي الحديث إن من الشعر حكمة فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم

جمال جرار 14 - 5 - 2012 12:49 AM


ابو فداء 14 - 5 - 2012 02:27 AM

يسلمووووو
موضوع متكامل
سلمتي

أبو جمال 14 - 5 - 2012 11:06 AM

طرح موفق
سلمت الايادي على انتقاء الكتاب
بوركت
تحياتي


الساعة الآن 10:07 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى