منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب كليلة ودمنة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=13899)

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:16 PM

باب الفحص عن أمر دمنة


مثل المرأة والمصوّر والعبد

قال دمنة: زعموا أنه كان بمدينة باثرون في أرض تدعى كشمير تاجر يدعى حبلاً وكانت له امرأة ذات حيلة ودهاء تختلس من ماله فتبيعه لشؤونها. وكان إلى جانب بيتها مصوّر ماهر بالتصاوير يواطئها على اختلاس المال. فقال المرأة للرجل في بعض أحيانه التي كان يأتيها فيها: إن استطعت أن تحتال بصناعة اطّلع بها على مجيئك إذا جئتني بالليل من غير نداء ولا رمي ولا شيء يرتاب به يكون رفق ذلك بي وبك. فقال المصور: عندي في ذلك من الحيل ما يسرّك، وهو أن عندي ملاءة بتهاويل الصور، وجهها الواحد شبيه باليقق الأبيض الشبيه بضوء القمر، والوجه الآخر حالك السواد شبيه بالظلمة الحندسية منظراً. فبياضها يدعوك في الليلة الظلماء بضوئه وسوادها يبدو لك في الليلة المقمرة، فقال: إذا رأيتها فاعلمني أني صاحبك فتأتيني بالمال دون نداء. فدخل عبد للتاجر وهما يتفاوضان في ذلك فسمع قولهما، فأراد أن يصيب شيئاَ من المال المختلس. فلما كان بعد ذلك وكان العبد صديقاً لأمة المصور طلب إليها أن تعيره الملاءة ليريها صاحباً له ويسرع إلى ردها. فأعطته الملاءة فلبسها ولقي المرأة على نحو ما كان يأتيها المصور. فلما رأته لم ترتب بشيء من شأنه فبذلت له حصة من المال ثم رجع العبد بالملاءة إلى الأمة فوضعتها في موضعها. وكان المصور عن بيته غائباً. فلما مضت هدأة من الليل رجع المصور إلى بيته ولبس الملاءة وأتى بها المرأة. فلما رأت الملاءة دنت منه فقالت: ما شأنك أسرعت راجعاً وقد أخذت المال في أول الليل. فلما سمع المصور كلامها خبت نفسه وانصرف نحو منزله، ثم دعا جاريته فتوعّدها بالضرب فأخبرته بالأمر على وجهه، فأحرق المصور الملاءة وندم على صنعه إياها.

وإنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم أن الشبهة كذب وأن الكذب يعيب صاحبه. ولست أنت حقيقاً بقتل البريء ذي الصحبة لوشي الوشاة وتحامل الخونة عليه. ولست أقول أيها الملك هذا كراهة للموت فإنه، وإن كان كريهاً، فلا منجى منه، وكل حي ميت. ولو كانت لي مائة نفس وأعلم أن رضا الملك في إتلافهن لطلبت له بهن نفساً. فإن ظننت أيها الملك أن لك بقتلي روحاً وفرجاً فإن العلماء قد قالوا: من اقترف خطيئة أو ذنباً فأسلم نفسه للقتل تكفيراً عن إئمه عفا الله عنه ونجا من الشرّ في الآخرة. فإني وإن كنت أعلم أن الله قد باعد الملك من الجور والاعتداء وإهلاك النفس البريئة بوشي الأشرار وتحميل الفجّار، فإني أحب أن لا يعجّل بأمر دون الفحص والترويه.

فبينما دمنة يقول معذرته إذ اعترض له أحد الحضور من بعض جلساء الملك فقال: أيها الملك إن دمنة ليس ما يقول تعظيماً لحق الملك ولا توفيراً لفضله، ولكنه يريد أن يدفع عن نفسه ما قد نزل به من سوء عمله.

قال دمنة: وهل، وليك، على امرئ في العذر لنفسه عيب؟ وهل أحد أقرب إلى الإنسان من نفسه؟ إذا لم يلتمس لها العذر فمن يلتمسه لها؟ وقد أحق بنصيحتي من نفسي، أو من أحق أن أنصح عنه منها؟ وقد قالت العلماء: إن المستهين لنفسه المبغض لها هو لغيرها أقطع وأبغض ولمن سواها أغش وأرفض. وقولك هذا مما يستدل به من حضر على قلة عقلك لما قلت ولجهالتك لما يدخل عليك فيه. ولقد ظهر منك ما لا تملكه من الحسد والبغضاء، وعرف من سمع قولك أنك لا تحب أحدا، وأنك عدو نفسك فمن سواها. فمثلك لا يصلح أن يكون إلا مع البهائم فضلاً من أن تحضر مجلس الملك أو تكون ببابه.

فلما سمع المقول له هذه المقالة من دمنة سكت فلم يحرْ جواباً وخرج مستحياً.

فقال أم الأسد لدمنة: إن من العجب انطلاقك بالقول مجيباً لمن تكلّم وقد كان منك ما كان.

قال دمنة: علام تنظرين بعين واحدة وتسمعين بأذن واحدة لشقاوة جدي؟ كذا كل شيء قد تنكّر وتغير. فليس ينطق أحد بحق ولا يقوم به ولا يتكلم إلا بالهوى. ومن بباب الملك لثقتهم به وطمأنينتهم إليه وتعطفه عليه لا يتّقون أن يتكلّموا بأهوائهم فيما رافق الحق أو خالفه وهو لا يغير عليهم ولا ينهاهم.

قالت أم الأسد: انظر إلى هذا الفاسق الفاجر الذي ركب الأمر العظيم كم يأخذ بأعين الناس ويبرّئ نفسه.

قال دمنة: إن الفاسق الفاجر من يذيع ولم يدفنه، والرجل الذي يلبس لباس المرأة والمرأة التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يزعم أنه رب البيت، ومن ينطق في مجتمع عند الملك بما لا يسأل عنه.

قالت أم الأسد: يا شقي، أما تعلم من نفسك سوء عملك ومكرك وفجورك.

قال لها دمنة: الشقي الذي يرتكب المنكر ولا يريد لأحد خيراً ولا يدفع عن نفسه المكروه.

قالت أم الأسد: أيها الخائن الفاجر، إنك لتجترئ على مثل هذا القول. عجباً للملك أن يتركك حياً.

قال دمنة: إن الخائن الفاجر الذي يؤتى بالنصيحة ويمكّن من عدوه ثم لا يشكر ذلك ولا يعرفه لمن أتاه به، ولكن يريد قتله على غير ذنب.

قالت أم الأسد: لسمع موعظتك وضربك الأمثال لمن كلّمك أعجب عندي من الذي سلف من خلابتك ومكرك وحسدك.

قال دمنة: هذا موضع العظة إن قبلت وموضع الأمثال إن نفعت.

قالت أم الأسد: أيها الغادر الفاجر إن في سوء عملك لشاغلاً لو عقلت من ضرب الأمثال.

قال دمنة: إنما الغادر من أخاف من عمل في أمنه وعادى من كشف له عداوة أعدائه.

قالت أم الأسد: كأنك ترجو أيها الكاذب أن تنجو بتسطير المقال مما اجترمت.

قال دمنة: إن الكاذب من كافى بالإحسان إساءة بالخير شراً وبالأمن خوفاً. وأما أنا فقد أنجزت ما وعدت ووفيت العهد.

قالت أم الأسد: ما وعد الذي أنجزت وعهدك الذي وفيت؟

قال دمنة: سيدى يعلم أني لو كنت كاذباً لم أجترىء على الكلام عنده بالباطل وانتحال الكذب.

فلما رأت أم الأسد أن كلام دمنة لا يزيد الأسد إلا لينا ارتابت وداخلها الخوف شفقاً على أن يرى بعض ما يقول دمنة في براءته وعذره فقالت للأسد: إن الصمت على حجج الخصم لشبيه بالإقرار بحقيقة ما يقول. ومن هنالك قالت العلماء: أقرّ صامت. ثم قامت وهي غضبانة تريد الخروج.

فأمر الأسد بدمنة فجعلت الجامعة في عنقه وحبس وأمر بالفحص عنه.

فقالت أم الأسد له: إني لم أزل أسمع بمكر دمنة منذ زمان، ثم حقق عندي ما سمعت من إفكه وافتعاله المعاذير وكثرة مخارجه بغير صدق ولا براءة. فإنك إن أمكنته من الكلام دافعك عن نفسه بالحجج الكاذبة. وفي قتله لك ولجنودك راحة عظيمة، فاجل قتله. ولا تأخذك فيه هوادة ولا توقفك عنه شبهة؛ فإن الصغير والكبير من جندك عرفوا بنميمة دمنة وعلموا بفضائحه خاصة في أمر البريء الناصح وخير الوزراء شتربة. فقد استعاد الكذب وهو منه خلقٌ راسخٌ وطبيعة لازمة. والراحة لك ولجندك ترك المناظرة والقتل له بذنبه.

قال الأسد: إن من شأن بطانة الملوك وقرابتهم التنافس في المنازل بينهم ودخول البغي والحسد من بعضهم على بعض ولا سيما على ذي الرأي والنبالة منهم لخاصته. وقد علمت أن مكان دمنة قد ثقل على غير واحد من جنودي وأهلي، فلست أدري لعلّ الذي أرى وأسمع من جماعتهم وإجماعهم عليه لبعض ذلك. وأنا أكره العجلة في أمره. فإن العلق الصالح لا يستهلك إلا في حقه وموقع القدر فيه لمن استهلكه. ولا أجدني معذوراً باتباع نفسي والمعاجلة له دون الفحص والثبات. ولكن كوني بخير واسلمي فإني قد بدا لي من الرأي ما ينبغي.

فانصرفت أم الأسد بسكون جأشها وطيب نفسها وأخذ الأسد مضجعه.

ولما أدخل دمنة السجن وغلظ عليه الوثاق أخبر كليلة أن دمنة دق ردّ إلى السجن فداخلته له رقة وأدركته فيه رحمة لطول الصحبة والممالحة والإخاء الذي كان بينهما. فانطلق له مستصفياً حتى لقيه في السجن. فبكى كليلة لما نظر إليه وإلى ما هو فيه من الغم والضيق والبلاء، ثم قال له: إن ما أنت فيه لكافيك من عظتي، ولكن لا يمنع ذلك إنذارك والنصيحة لك. فإن لكل مقال موضعاً. ولو كنت قصّرت في عظتك حين احتجت إلى ذلك مني في حال العاقبة لكنت اليوم شريكك في الذنب، ولكن الإعجاب بنفسك دخل بك مدخلاً قهر رأيك وغلب على عقلك. وقد كنت أضرب لك مثلاً قول العلماء: "إن المحتال يموت قبل أجله"، وليس قولهم "يموت قبل أجله"، انقطاع الحياة، ولكنهم أرادوا دخول الأشياء التي تفسد الحياة كنحو ما أنت فيه مما الموت أروح منه.

قال دمنة: لم تزل منذ كنت تقول الحق بجهدك وقد كنت تعظني وتنصحني ولكنّ شدة النفس والحرص على طلب المنزلة فيّلا رأيي وسفّها نصحك عندي، كالمريض المولع بالطعام الذي عرف أنه يغلّط مرضه ويضرّ بجسمه فيدع معرفته وينقاد لشهوته. وقد عرفت أني زرعت لنفسي هذا البلاء، والزرع إنما ينبت لأوانه وزمانه وإن تقدم في زرعه. وهذا أوان حصاد ما زرعت لنفسي. وإنما يشتد عليّ البلاء لخوفي أن تتهم في أمري لما كان بيني وبينك، وأخاف مع ذلك إن بسطت عليك العقوبة أن تعترف بما كنت اطّلعت عليه من أمري. وأما الأخرى فإنك ممن لا يتهم في صدق مقالته على البعيد فكيف على من منزلته مثل منزلتي.

قال كليلة: عرفت، وقالت العلماء إن الأجساد لا تصبر على حلول العذاب ولا تمتنع عنده من القول بكل ما تستطيع أن تدفعه. وإني لأرى إذ نزلت بك هذه النازلة أن تبوء بذنبك وتعترف بإساءتك فتخرج نفسك من تبعة الآخرة بالتوبة مما صنعت، فإنك لا محالة هالك. فلا تجمع على نفسك هلاك العاجل والآجل. ولخير لك أن تعذّب في الدنيا بجرمك من أن تعذّب في جهنّم مع الإثم.

فقال دمنة: صدقت ونصحت وأنا مفكر فيما ذكرت. ولكن العمل فيه شاق مهول وعقاب الأسد شديد أليم.
فانصرف كليلة إلى منزله مغموماً تحدس نفسه بكل بلاء وشر. فلم يزل كذلك حتى هاج عليه بطنه فمات قبل أن يصبح. وكان في السجن فهد محبوس كان نائماً قريباً من دمنة وكليلة حتى اجتمعا في السجن، فاستيقظ بكلامهما فسمع كل ما دار بينهما من معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله وإقرار دمنة بإثمه فحفظ ذلك وكتمه فلم يذكره.

فأصبحت أم الأسد فذكرت للأسد أمر دمنة وعذره وقالت: إن استبقاء الفجار بمثابة قتل الأبرار، وإن من استبقى فاجراً شاركه في فجوره أو برّا شاركه في برّه.

فلما سمع الأسد كلام أمه أمر القاضي والنمر بتعجيل النظر في أمر دمنة والمسألة عنه في عامة الناس، وأن يرفعا إليه ما يلحق بدمنة من ذنب أو سبيل، وما ادعى دمنة من عذر ومخرج.

فخرج النمر والقاضي نظران في ذلك من أمره وبعثا إلى دمنة من يأتي به. فلما أتوا به توسط محفل مجلسهم فانتصب قائماً فهجر النر بصوته وقال: إنكم قد علمتم معشر الجند ما دخل على الملك من الحزن في قتل شتربة شفقاً من أن يكون أحد أنهى إليه باطلاً في أمره وشبّه عليه دمنة بالكذب في السعاية به. وقد نصبا للنظر في ذلك، وأنتم محقون ألا تكتموه سراً ولا تذّخروه نصحاً ولا تخفوا عليه جرماً. فليقل كل امرئ منكم بما يعلم وليتكلم به على رؤوس الجمع والأشهاد، فإنه لا يجب أن تفرط بده بعقوبة أحد لهوىً له أو لغيره من غير استحقاق المعاقب للعقوبة بجنايته.

قال القاضي: قد سمعتم الذي قيل لكم فلا ينبغي لأحد منكم كتمان شيء مما علم من خصال ثلاث: إحداهن الصدق فيما استشهدتم عليه وألا تجعلوا العظيم من الحق صغيراً. فأي عظيم أعظم من ستر ذنب من أورط الأخيار واستزلهم وأهلك بعضهم ببعض بسعايته كذباً وميناً. فالكاتم عليه ليس بريئاً من ضرّ جنايته ولا بعيداً من أن يكون شريكاً له في عمله. والثانية معاقبتنا المذنب مقمعة لأهل الريبة، مصلحة للملك والرعية. والثالثة أن الأشرار إذا نفوا من الأرض زاد ذلك الرعية تواصلاً والصالحين سروراً وأهل التناصح اغتباطاً. فليقل كل امرئ منكم ما علم لكيما يكون القضاء في ذلك على الحق لا على الهوى والظن.

فلما قصّ قائلهم قوله سكت من حضر فلم ينطق منهم أحد بكلمة لأنهم لم يعلموا من أمره علماً واضحاً يتكلمون به، وكرهوا القول بالظنون خوفاً من أن يدخل قولهم حكماً أن يوقع قتلاً. فلما رأى دمنة سكوتهم تكلم فقال: إني لو كنت مجرماً لسررت بسكوتكم عن القول في أمري إذ لم تعلموا لي جرماً لأن كل من لم يعلم له جرماً فلا سبيل عليه، فهو البريء المعذور. ولك قول عاقبة عاجلة أو آجلة. فمن عرّضني لعطب بغير علم أو قال في أمري بالشبهة والظن أصابه من عاقبة قوله ما أصاب المتطبب الذي انتجب علم ما لما علم له به.

قال القاضي: وكيف كان ذلك؟



صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:17 PM

مثل المتطبب الكاذب

قال دمنة: زعموا أنه كان ببعض مدائن السند متطبب ذو وفق وعلم، كثير الحظوة فيما يجري على يديه من أسباب العافية فيما يعالج به الناس من طبّه وأدويته. فمات ذلك المتطبب وانتفع الناس بما في كتبه. وإن رجلاً سفيهاً ادعى علم الأدوية وأشاع ذلك في الناس. وكان لملك تلك المدينة ابنة لها داء ثقيل فبعث الملك يطلب الأطباء فذكر له متطبب على رأس فراسخ يوصف بعلم الطب فبعث إليه. فلما جاءه الرسول وجده قد ذهب بصره من الكبر، فذكروا له علة الجارية وما تجد، فوصف لها دواء له اسم معروف يقال له زمهران. فقالوا له: اخلط لنا هذا الدواء. قال: لست أبصر لأجمع أخلاطه على معرفتي. فأتاهم ذلك السفيه المدعي علم الطب فأعلمهم أنه عارف بذلك الدواء، عالم بالأخلاط والعقاقير، بصير بطبائع الأدوية المفردة والمركّبة. فأمر الملك بإخراج كتب المتطبب الميت إليه وإدخاله الخزانة ليأخذ مما فيها من أخلاط الأدوية. فلما دخل وعرضت عليه أخلاط الأدوية وهو لا يدري ما هي ولا معرفة له بها، أخذ منها أشياء بغير علم ولا معرفة إلا على الظن والشبهة فوقع في سم قاتل، فأخذه وخلطه بأخلاطه تلك ثم سقى الجارية، فلم تلبث إلا ساعة حتى ماتت. فأخذه الملك فسقاه من دوائه الذي خلطه فمات لوقته.

قال دمنة: إنما ضربت لكم هذا المثل لتعرفوا ما يدخل على القاتل بالجهالة والعامل بالشبهة من الإثم. ثم تكلم سيد الخنازير صاحب مائدة الملك إتباعاً لهوى أم الأسد، فقال: إن أحق من لم يسأل عنه العامة ولم يشكل أمره على الخاصة لهذا الشقي الذي قد ظهرت فيه علامات الشر وسمات الفجور وقد عرف العلماء ما الحكم فيها.

قال رأس القضاة: وما تلك العلامات والسمات؟ فأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي. فجهر سيد الخنازير بصوته وقال: إن العلماء قد قالوا: إن من صغرت عينه اليسرى وهي لا تزال تختلج، ومال أنفه بعض الميل إلى شقّه الأيمن وبعد ما بين حاجبيه، وكانت منابت شعر جسده ثلاث شعرات ثلاث شعرات، وإذا مشى كان أكثر نظره إلى الأرض ويلتفت تارة بعد تارة، فإن ذلك مستجمع للغدر وطباع الآثام والبغي على الصالحين. وهذه العلامات كلها في دمنة.

فلما قضى قوله أكثر دمنة التعجب من كلامه وقال: إن الأمور يحكم بعضها بعضاً وإن حكم الله صواب لا خطأ فيه ولا جور فيه ولا عدوان. ولو كانت هذه العلامات التي ذكرتها وأشباهها يناب بها عن العدل والمعرف بالحق، لم يتكلف الناس الحجج ولم كان جزاء أهل الإحسان وجزاء أهل الفجور إلى على هذه العلامات. وهذا لم يوجب عليّ شيئاً لأن هذه العلامات تخلق مع صاحبها حين يخلق وتولد معه حين يولد. وإن كنت تزعم أن الخير والشر إنما يكونان بالعلامات فكذلك إذاً لا حمد للمحسن ولا ذمّ على المسيء، ولا أجدني في هذا أيضاَ إلا معذوراً، ولا أراك تنطق إلا بعذري وتذكر براءتي وأنت لا تدري ولا تفكر فيما تقول وإنما أنت في هذا كرجل قال لامرأته: أبصري عيبك يا سفيهة ثم عيبي غيرك.

فسُئِل دمنة كيف كان ذلك؟

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:18 PM

مثل الرجل والمرأتين

قال دمنة: زعموا أن مدينة كانت تدعى بورخشت دخلها الأعداء مرة فقتلوا ممن كان فيها عالماً وسبوا نساءهم واقتسموا السبي. فأصاب جندي من العدو رجلاً حرّاثاً مع امرأتين. فكان ذلك الرجل يعرّيهم من الكسوة ويصومهم عن المطعم والمشرب. فانطلق الحرّاث يوماً من الأيام مع الرجل والمرأتين ليحتطبوا فوجدت إحداهما خرقة فاستترت بها فقالت الأخرى لبعلها: ألا تنظر إلى هذه كيف تمشي بخرقتها. فقال زوجها: ويلك ألا تبصرين نفسك فتستري مثلها ثم تكلمي.

فأمرك أنت أعجب فيما قد عرفت من قذارة جسمك ونجاستك وجرأتك على ذلك من الدنو إلى طعام الملك والقيام عليه وبين يديه كالبريء من العيب والنقيّ من الدنس، ولست بالمطلع على عيبك دون أهل العقل من أهل المجلس. ولم يمنعني من إبداء عيبك قبل اليوم إلا مودة كانت ما بيني وبينك. فأما إذ قد طعنت عليّ وابتدأتني بالظلم لما انطويت عليه من عداوتي وقذفتني على غير علم بالباطل بمحضر الجند، فإني قائل بما أعلم من عيبك مبدي الذي أخفيت من دنسك الذي لم يكن معه داع أن تخدم الملك ولا أن تخدم الذي تحته. فحقّ على من عرفك حق المعرفة أن يمنع الملك من استعمالك ويدفعه إلى عزلك عن طعامه.

فلما سمع سيد الخنازير ذلك من دمنة كفّ وتلجلج لسانه واستحيا وكفّ جميع من حضر من الجمع عن القول في شيء من أمره.

وكان بين الحضور شعهر قد جرّبه الأسد فوجد فيه أمانة وصدقاً فاتخذه في خدمته وأمره أن يحفظ جميع ما يجري بينهم ويطلعه عليه. فدخل على الأسد وأعلمه بحديثهم من أوّله إلى آخره دون أن يكتم عنه شيئاً. فلما سمع الأسد ذلك أمر بعزل سيد الخنازير عن عمله ومنعه من الدخول عليه ورؤية وجهه، ثم أمر بدمنة أن يردّ إلى السجن. وكتب ما جرى في محاكمته وختم عليه النمر.

وكان لكليلة في حاشية الأسد صديق يدعى روزبة بينه وبين كليلة إخاء ومودة. وكان عند الأسد وجيهاً وعليه كريماً، فانطلق إلى دمنة وأخبره بموت كليلة الذي قضى إشفاقاً من أن يتلطّخ بشيء من أمر أخيه وحذراً عليه. فبكى دمنة وحزن وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الرحيم والصديق الحميم. لقد صدق القائل إن الإنسان إذا ابتلي ببليّة أتاه الشر من كل جانب واكتنفه الهم والحزن من كل مكان. ثم التفت إلى روزبة قائلاً: ولكن أحمد الله تعالى إذ لم يمت كليلة حتى أبقى لي أخاً مثلك. قد وثقت بنعمة الله وإحسانه إليه فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك إياي. وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه. فأريد من فضلك أن تنطلق إلى مكان كذا وكذا فتنظر ما جمعته أنا وأخي كليلة بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى فائتنا به.

ففعل روزبة بما أمره دمنة وأتى بمال كثير وضعه بين يديه. فأعطاه دمنة أكثره وقال: إنك على الدخول والخروج على الأسد إذا شئت أقدر من غيرك فتفرّغ لشأني واصرف اهتمامك إليّ واسمع ما أذكر به عند الأسد إذا رفع إليه ما جرى بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد من حقي، وما ترى من موافقة الأسد لها ومخالفته إياها في أمري، واحفظ ذلك كله وأعلمني به.

فأخذ روزبة ما أعطاه دمنة وانصرف إلى منزله.

فلما أصبح الأسد من الغد جلس حتى إذا مضى من النهار ساعات استأذن علي أصحابه فأذن لهم فدخل القاضي وطائفة من الوجوه ووضعوا بين يديه كتاب ما قال دمنة في معاذيره. فقبض الأسد ذلك الكتاب وأمرهم بالانصراف عنه.

ثم أرسل إلى أمه فقرأ عليها ذلك الكتاب فشقّ عليها ما سمعت ونادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت لك أيها الملك فلا تغضب.

قال الأسد: لست أغضب فقولي ما أحببت.

قالت: ما أراك تعرف ما يضرّك مما ينفعك. وإني لأحسب دمنة في طول تصريفك النظر في أمره سيهيّج عليك ما لا تقعد له ولا تقوم. ولهذا كنت أنهاك عن سماع كلام هذا المجرم المسيء لدينا قديماً الغادر بذمتنا. ثم قامت وخرجت وهي غضبانة.

فخرج روزبة في إثرها مسرعاً حتى أتى دمنة فأخبره بما قالت أم الأسد. فلما كان في الغد بعث القاضي إلى دمنة فأخرجه وشاور عليه ثم قال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا لأن العلماء قالوا إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة، ولأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله. إلا أن سيدنا الأسد أمرنا بالعود إلى أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا بيّناً.

قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعوّد العدل في القضاء وليس في عدل الملوك دفع المظلومين ومن لا ذنب لهم إلى قاض غير عادل، بل يأمرون بمحاكمتهم والذود في حقوقهم. والعلماء لم يقولوا في حقي شيئا.

فقال له القاضي: إنه وإن سكت جميع من حضرك ولم يقولوا شيئاً فإن ظنونهم قد اجتمعت على أنك مجرم ولا خير لك في الحياة بعد استقرار تهمتك في قلوبهم، فلا أرى شيئاً خيراص لك من الإقرار بذنبك فتخرج لعتقك من تبعة الآخرة ويعود لك حسن قول في أمرك لخصلتين: إحداهما قوتك على المخارج وافتعال المعاذير التي تدفع بها عن نفسك، والأخرى إقرارك بذنبك اختياراً للسلامة في الآخرة عن سلامة الدنيا. فإن العلماء قد قالت: إن الموت فيما يجمل خيرٌ من الحياة فيما يقبح.

فأجابه دمنة: إن القضاة لا تقضي بظنونها ولا بظنون العامة ولا الخاصة. وقد علمت أن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فإني وإن ظننتم جميعاً أني صاحب هذا الجرم فإني أعلم بنفسي منكم، وعلمي بنفسي يقين لا شك فيه. وإنما قبح أمري في أنفسكم لأنكم ظننتم أني سعيت بغير زوراً، فما عذري عندكم لو سعيت بنفسي كاذباً عليها فأسلمتها لتقتل على معرفة ببراءتها؟ فهي أعظم الأنفس عليّ حرمة وأكرمها حقا. ولو فعلت ذلك بأدناكم أو أقصاكم لم يسعني ذلك في ديني ولم يجمل بي في خلقي. فاكفف إذن عني هذه المقالة. فإن كانت هذه منك نصيحة فقد أخطأت موضعها، وإن كمانت منك خديعة فإن أقبح الخداع ما فطن له. وليس الخداع ولا المكر من أخلاق صالح القضاة. وإلا فاعلم أن قولك هذا حكم منك وسنة لأن كل أمر أمرت به القضاة يحكم بصوابه أهل الصواب ويتخذونه سنة ويصير خطأه عدلاً لأهل الأدغال. وإن من شقاء جدي أيضاَ أنك لم تزل في أنفس الناس فاضلاً في رأيك وفي حكمك حتى أنسيت ذلك في أمري فتركت علم القضاة وانصرفت إلى العمل بالظنون التي تختلف بها الحالات في الأمور. أو ما بلغك عن العلماء أنهم قالوا: من ادعى علم ملا لا يعلم وشهد بالغيب أصابه ما أصاب البازيار القاذف عبد مولاه.
قال القاضي: وكيف كان ذلك؟

قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن رجل من المرازبة مذكور وكان له عبد صالح جعله وكيله يأتمنه على كل خزائنه. وكان للرجل بازيار ماهر خبير بسياسة البزاة وعلاجها. وكان البازيار عند المرزبان بمكان جليل بحيث أدخله داره وأجلسه مع أهله. فاتفق أن البازيار حسد عبد الرجل وفكّر له الشر ليطرده مولاه. فعمل الحيلة في بلوغ غرضه فضاقت عليه أبواب الحيل وتعذّرت عنه الأسباب. فخرج يوماً إلى الصيد على عادته، فأصاب فرخي ببغاء فأخذهما وجاء بهما إلى منزله ورباهما، فلما كبرا فرّق بينهما وجعلهما في قفصين وعلّم أحدهما أن يقول: رأيت الوكيل يختلس مال سيده خفية. وعلّم الآخر أن يقول: هذا صحيح ثم أدبهما على ذلك مدة حتى حذقاه وأتقناه.

فلما بلغ منهما ما أراده إلى أستاذه. فلما رآهما أعجباه ونطقا بين يديه فأطرباه. إلا أنه لم يعمل ما يقولان لأن البازيار كان علّمهما ذلك بلغة العجم التي يجهلها المرزبان. وكان هذا مولعاً بالببغاءين يلهو بهما. وحظي البازيار عنده بذلك حظوة عظيمة وأمر امرأته بالمراعاة لهما والاحتياط عليهما والتعاهد لطعامهما وشربهما.

واتفق بعد مدة أن قدم على المرزبان قوم من أعاظم أعاجم بلخ فتأنق لهم بالطعام والشراب وقدم لهم من اصناف الفواكه والتحف شيئاً كثيراً. ولما فرغوا من الأكل وشرعوا في الحديث أشار إلى البازيار أن يأتي بالببغاءين فأحضرهما. فلما صاحا بين يديه وسمعهما الضيوف عرفوا ما يقولان ونظر بعضهم إلى بعض.

فسألهم الرجل عما قالتا فامتنعوا أولا، فألح عليهم بالسؤال إلى أن أقروا قائلين: إنما تقولان كذا وكذا بحق عبدك وكيل أموالك. فلما قالوا ذلك أمرهم المرزبان أن يكلموا الطيرين بغير ما نطقا به ففعلا ذلك ولم يجدوهما تعرفان غير ما تكلمتا به، وبان للرجل والجماعة براءة الوكيل مما رمي به وثبت كذب البازيار الذي علمهما ذلك فانتهره الوكيل: أيها العدو لنفسه أأنت رأيتني أختلس مال سيدي وأخفيه؟ قال: نعم أنا رأيتك. فلما قا لذلك وثب باز عن يده إلى عينيه ففقأهما. فقال العبد. بحق أصابك هذا، إنه لجزاء من الله تعالى لشهادتك بما لم تره عيناك.

وإنما ضربت لك هذا المثل أيها القاشي لتزداد علماً بوخامة عاقبة الشهادة بالكذب في الدنيا والآخرة. فلما سمع القاضي والحضور احتجاج دمنة كتبوا ذلك كله ورفعوه إلى الأسد، فنظر فيه ودعا أمه فعرض ذلك عليها فكان من قولها أن قالت: لقد صار اتهامي بأن يحتال لك دمنة بمكره ودهائه حتى يتلك أن ينقض عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك من الغش والسعاية بوزيرك وصفيّك حتى قتلته بغير ذنب. فوقع قولهما في نفس الأسد فقال لها: أخبرني عن الإنسان الذي أنبأك بما سمع من كلام كليلة ودمنة، فإن قتلته ذلك حجة على دمنة.

قالت: إني أكره أن أفشي سراً استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف الأسرار، ولكني سأطلب إلى الذي ذكر لي ذلك أن يحللني من ذكره لك أو أن يفوه هو بما علم وما سمع.

ثم انصرفت فأرسلت إلى النمر فأتاها، فذكرت له فضل منزلته عند الأسد وما يحق عليه من تربيته وحسن معاونته على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصرة المظلومين والمعاونة على تثبيت حجّتهم يوم القيامة. فلم تزل به حتى جاء فشهد على دمنة بما سمع من كلامه وكلام كليلة.

ولما شهد النمر على دمنة بذلك، أرسل الفهد المسجون الذي سمع قول كليلة لدمنة ليلة دخل عليه في السجن أن عندي شهادة فأخرجوني لها. فبعث إليه الأسد فشهد على دمنة بما سمع من قول كليلة وتوبيخه إياه بدخوله بين الأسد والثور بالكذب والنميمة حتى قتله الأسد وإقرار دمنة بذلك.

قال له الأسد: فما منعك أن تكون أعلمتنا بشهادتك عن دمنة حين سمعت ذلك منه.

قال الفهد: منعني من ذلك أن شهادتي وحدي لم تكن توقع حكماً ولا تحجّ خصماً، فكرهت القول في غير منفعة.

فاجتمعت على دمنة شهادتان فأرسلهما الأسد إلى دمنة ثم بكّته الشاهدان في وجهه بمقالته فأمر به الأسد فغلّظ عليه الوثاق ثم ترك في السجن حتى مات جوعاً. فهذا ما صار إليه أمر دمنة وكذلك تكون عواقب البغي ومواقع أهل الحسد والكذب.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:20 PM

باب الغراب والمطوقة والجرذ والسلحفاة والظبي


قصة الجرذ والناسك

بدأ الجرذ في قصصه وقال: كان أول منزل نزلته في مدينة من المدائن في بيت رجل من النساك. ولم يكن للناسك عيال. وكان يُؤتى كل يوم بسلة من الطعام، فيأكل منها حاجته ثم يضع بقية الطعام فيها ويعلقها في البيت. فكنت أرصد الناسك حتى يخرج، فإذا خرج وثبت إلى السلة فلم أدع فيها طعاماً إلا أكلته، ورميت به غلى الجرذان. وجهد الناسك مراراً ليعلق تلك السلة معلّقاً لا أناله فلم يقدر على ذلك. ثم إن ضيفاً نزل بالناسك ذات ليلة فتعشيا جميعاً، حتى إذا كان عهد الحديث قال الناسك للضيف: من أي أرض أنت وأين توجهك الآن؟ وكان الضيف رجلاً قد طاف الأرض، ورأى العجائب فأخذ يحدث الناسك بما وطئ من البلدان ورأى من الأمور. وجعل الناسك من خلال ذلك يصفق بيديه أحياناً لينفّرني عن السلة. فغضب الضيف وقال: أحدثك وتصفّق كأنك تهزأ بحديثي، فما حملك على أن تسألني؟ فاعتذر الناسك للضيف وقال: إني قد أنصت لحديثك، ولكني قد صفّقت لأنفّر الجرذان عن سلة طعامي، ولقد تحيّرت في أمرها. لست أضع في البيت طعاماً إلا أكلته.

قال الضيف: أجرذ واحد هو أم أكثر؟

قال الناسك: بل جرذان كثيرة، وفيها جرذ واحد هو الذي غلبني فلا أستطيع له حيلة.

قال الضيف: ما هذا الأمر؟ إنه ليذكرني قول الرجل الذي قال لامرأته: لأمر ما باعت هذه المرأة السمسم مقشوراً بغير مقشور.

قال الناسك: وكيف كان ذلك؟

مثل البائعة السمسم المقشور بغير المقشور

قال الضيف: نزلت مرة على رجل بمدينة كذا وكذا، فتعشّيا ثم فرش لي وانقلب الرجل وزوجته إلى فراشهما، وبيني وبينهما خُصّ من قصب. فسمعت الرجل وامرأته في بعض الليل يتكلمان، فإذا الرجل يقول لامرأته: أريد أن أدعو غداً رهطاً ليأكلوا عندنا. فقالت امرأته: كيف تدعو الناس إلى طعامك وليس في يديك فضل عن عيالك، وأنت رجل لا تستبقي شيئاً ولا تذّخره. قال الرجل: لا تندمي على شيء أنفقناه وأطعمناه، فإن الجمع والإذّخار ربما كانت عاقبة صاحبه كعاقبة الذئب.

قالت المرأة: وكيف كان شأن الذئب؟



مثل الذئب ووتر القوس

قال الرجل: خرج رجل من القناصين غادياً بقوصه ونشّابه يبتغي الصيد والقنص، فلم يجاوز بعيداً حتى رمى ظبياً فصرعه واحتمله، ورجع به إلى أهله. فعرض له في طريقه خنزير فحمل خنزير فحمل الخنزير على الرجل حين نظر إليه. فوضع الرجل الظبي وأخذ قوسه، فرمى الخنزير رمية نفذت من وسطه. وأدرك الخنزير الرجل فضربه بنابه ضربة أطارت منه القوس والنشابة عن يده، ووقعا جميعاً ميّتين. فأتى عليهما ذئب جائع، فلما رأى الرجل والظبي والخنزير وثق بالخصب في نفسه فقال: ينبغي أن أذّخر ما استطعت، فأنا جاعل ما وجدت ذخراً وكنزاً، ومكتف يومي هذا بوتر القوس. ثم دنا من القوس ليأكل وترها. فلما قطع اوتر اضطربت القوس وانقلبت فأصابت المقتل من حلقه فمات.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الحرص على الجمع وخيم العاقبة.

قالت المرأة: نِعم ما قلت، وعندنا من الأرزّ والسمسم ما فيه طعام لستة رهط أو سبعة، فأنا غادية على صنع الطعام، فادع من أحببت عند الغداء. فأصبحت المرأة وأخذت السمسم فقشرته ثم بسطته في الشمس ليجف، وقالت لزوجها: اطرد عن هذا السمسم الطير والكلاب. وذهبت المرأة لبعض شأنها وصنعتها، فغفل الرجل، فذهب كلب إلى ذلك السمسم فجعل يأكل منه. فبصرت به المرأة فقذّرته وكرهت أن تطعمه أحداً من زوارها، فانطلقت به إلى السوق فأبدلته بسمسم غير مقشور مثلاً بمثل. ففعلت ذلك وأنا في السوق أرى ما تصنع، فسمعت رجلاً يقول: لأمر ما أعطت هذه سمسماً مقشوراً بسمسم غير مقشور.

وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي تذكر أنه يثب إلى السلة حيث وضعتها. فالأمر ما يقوى على ذلك دون أصحابه، فالتمس لي فأساً. فأتى بها الضيف وأنا حينئذ في جحر غير جحري أسمع كلامهما، وكان جحري في موضع فيه ألف دينار ولا أدري من وضعها، فكنت أفترشها وأفرح بها وأعز بمكانها كلما ذكرتها. وإن الضيف احتقر جحري حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال للناسك: هذه كانت تقوّي ذلك الجرذ للوثوب حين كان يثب، لأن المال جُعل زيادة للقوة والرأي، وسترى أن الجرذ لن يعود بعد اليوم قادراً على ما كان يقدر عليه فيما مضى. فسمعتُ قول الضيف فعرفت في نفسيَ الانكسار، وتقاصر إعجابي بنفسي وانتقلت من جحري إلى جحر غيره، وأصبحت أعرف انحطاط منزلتي عند الجرذان وقلة توقيرهنّ إياي، بعد أن كلفنني ما عودتهنّ من الوثوب إلى السلة فعجزت عند ذلك، فزهدن فيّ وجعلن يقلن فيما بينهن: "هلك أخو الدهر ويوشك أن يحتاج إلى أن يعوله بعضكن"، فرفضنني بأجمعهن ولحقن بأعدائي وأخذن في عيبي وانتقاصي عند كل من ذكرنني عنده، فقلت في نفسي: ما التبع والإخوان والأهل والصديق والأعوان إلا تبعاً للمال. وما أرى المروءة يظهرها إلا المال. ولا الرأي ولا القوة إلا بالمال. ووجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمراً قعد به الفقر عما يريد، فانقطع عن بلوغ غايته كما ينقطع ماء أمطار الصيف في الأودية، فلا يصل إلى البحر ولا إلى نهر حتى تنشّفه الأرض.

ووجددت أن من لا مال له من الإخوان لا أهل له ولا ولد له، ولا ذكر له. بل يعتبر كمن لا عقل له عند الناس ولا دنيا ولا آخرة. وإذا أصابت الرجل الفقير الحاجة نبذه إخوانه، وهان على ذوي قرابته، فربما اضطرّته المعيشة وما يحتاج إليه لنفسه وعياله إلى طلب ذلك بما يغرر فيه بدينه، فيهلك، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة. فالفقر رأس كل بلاء وداعٍ صاحبه إلى مقت الناسن وهو مع ذلك مسلبة للعقل والمروءة، ومذهب للعلم والأدب، ومطيّة للتهمة، ومقطعة للحياء. ومن انقطع حياؤه ذهب سروره ومقت. ومن مقت أودى، ومن أودى حزن، ومن حزن فقد عقله واستنكر حفظه وفهمه. ومن أصيب في عقله وحفظه وفهمه كان أكثر قوله فيما يكون عليه لا له.

ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يظن به حسناً. وليس من خلة هي للغني مدح ولا هي للفقير عيب. فإن كان شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان صموتاً سمي غبياً..

فالموت أهون من الفاقة التي تضطر صاحبها إلى المسألة لا سيما مسألة الأشحاء اللؤماء. فإن الكريم لو كلّف أن يدخل يده فاه التين فيستخرج سمّا ثم يبتلعه كان ينبغي أن يعدّ ذلك أخف عليه من مسألة اللئيم البخيل. وقد قيل إنه من ابتلي بمرض في جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والإخوان أو بالغربة حيث لا يعرف مبيتاً ولا مقيلاً، ولا يرجو إياباً، أو بفاقة تضطرّه إلى المسألة، فالحياة له موت والموت له راحة. وربما كره الرجل المسألة وبه حاجة فحملته على السرقة والنهب والظلم. والسرقة والنهب والظلم شرّ من الفاقة التي راغ عنها. فإنه قد قيل: الخرس خير من اللسان بالكذب، والغبن خيرٌ من القهر والظلم، والفاقة خير من السعة والنعمة من أموال الناس.

ثم إني كنت قد رأيت الضيف حين أخرج دنانيري قاسمها الناسك، وجعل الناسك نصيبه في خريطة يضعها بالليل عند رأسه، فطمعت أن أصيب منها دنانير فأردها إلى جحري، ورجوت أن أردّ إلي بذلك بعض قوتي ويراجعني بعض أصدقائي. فانطلقت والناسك نائم حتى كبتّ رأسه ووجدت الضيف مستيقظاً، ومعه قضيب فضربني به على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الوجع قادني الحرص والشره وغلباني على عقلي فخرجت بمثل طمعي الأول حتى دنوت والضيف يرصدني، فعاد لي بالقضيب على رأسي ضربة أسالت منه الدماء وتقلبت على ظهري وبطني حتى دخلت الجحر، فخرزت فيه مغشياً عليّ فأصابني من الوجع فوق ما أصابني على المال حتى إني لا أسمع اليوم بذكر المال إلاّ يدخلني منه ذعر.

ثم تذكرت فوجدت البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره. فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بليّة وتعب لأنه لا يزال يداخله الشره والحرص. ورأيت اختلاف السخاء والشحّ شديداً. ووجدت ركوب الأهوال وتجشّم الأسفار البعيدة في طلب المال أهون عليّ من بسط اليد إلى السّخيّ بالمال، فكيف بالشحيح به، ولم أر كالرضا شيئاً. وسمعت العلماء قد قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صُبر عليه ما لم يكن إلى تغيّره سبيل. وكان يقال: أفضل البرّ الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون وملا لا يكون، وطيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل له. فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية.

وقال الجرذ صاحب الغراب للسلحفاة: وكان لي صديق من الحمام قد سبقت إليّ صداقته قبل صداقة الغراب، ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه وأخبرني أنه يريد أن يأتيك فأحببت أن آتيك معه، وكرهت الوحدة. فإنه ليس من سرور الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غمّ يعدل بعد الإخوان. وقد جرّبت فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتمس من الدنيا فوق الكفاف الذي يدفع به الحاجة والأذى عن نفسه. والذي يدفع ذلك عنه يسيراً، إنما هو المطعم والمأوى إذا أعين بصحة وسخاء منها إلا بالقليل الذي يدفع به الحاجة عن نفسه، فأما سوى ذلك ففي موضع لا يناله. فأقبلت مع الغراب على هذا الرأي وأنا لك أخ فكذلك فلتكن منزلتي في نفسك.

فلما فرغ الجرذ من كلامه أجابته السلحفاة بكلام رقيق لطيف وقالت: قد سمعت مقالتك يا حسن مقالة، إلا إني رأيتك تذكر بقايا هي في نفسك من حيث قلة مالك وسوء حالك واغترابك عن مواطنك، فاطرح ذلك من قلبك، واعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بالعمل. فإن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن هو لا يتداو به لم يغنه علمه، ولا يجد راحة ولا خفّة. فاستعمل رأيك واعمل بعقلك، ولا تحزن لقلة المال، فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال كالأسد الذي يُهاب وإن كان رابضاً. والغنيّ الذي لا مروءة له قد يُهان وإن كثر ماله كالكلب الذي يهون على الناس وإن هو طوّق وخلخل بالذهب. ولا تكترث في نفسك لغربتك، إن العاقل لا غربة عليه ولا يغترب إلا ومعه ما يكتفي به من عقله، كالأسد الذي لا يتقلب إلا ومعه قوته التي يعيش بها حيثما توجه. ولتحسن تعاونك لنفسك بما تكون به للخير أهلا، فإنك إذا فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء الحدور، وطير الماء الماء. وإنما جعل الفضل للبصير الحازم المتفقد. فأما الكسلان المتردد المدافع فإن الفضل قلما يصحبه.

ولا يحزنك أن تقول: كنت ذا مال فأصبحت معدماً. فإن المال وسائر متاع الدنيا سريع أقباله إذا أقبل، وشيكٌ ذهابه إذا ذهب، كالكرة التي هي سريع ارتفاعها وسريع وقوعها. وقد قيل في أشياء ليس لها ثبات ولا بقاء: ظلّ الغمام، وخلّة الأشرار، وعشق النساء، والثناء الكاذب والمال الكثير. وليس يُفرح العاقل كثرة المال، ولا يحزنه قلته، لكن ماله عقله وما قدّم من صالح عمله، فهو واثق بأنه لا يسلب ما عمل، ولا يؤاخذ بشيء لم يعمله. وهو حقيق أن لا يغفل عن أمر آخرته والتزود لها، فإن الموت لا يأتي إلا بغتة وليس بينه وبين أحد وقت معلوم. وأنت عن موعظتي غنيّ بما عندك من العلم، بصير بالأمور، ولكن رأيت أن أقضي من حقك وأنت أخونا وما قبلنا بمذول لك.

فلما سمع الغراب ردود السلحفاة على الجرذ وإلطافها إياه، وحسن مقالتها له سرّه ذلك وفرح به وقال: لقد سررتني وأنعمت، وأنت جديرة أن تسرّي نفسك بما سررتني به، فإن أولى أهل الدنيا بشدة السرور وكرم العيش وحسن الثناء من لا يزال ربعه موطوءاً من إخوانه واصدقائه الصالحين، ولا يزال عنده منهم زحام يسرهم ويسرّونه، ويكون من وراء حاجتهم وأمورهم. فإن الكريم إذا عثر لا يقيل عثرته إلا الكريم، كالفيل إذا وحل لم يستخرجه إلا الفيلة. ولا يرى العاقل معروفاً صنعه وإن كثر كثيراً وإن خاطر بنفسه أو عرضها في بعض وجوه المعروف لم ير ذلك عيباً، بل يعل أنما أخطر الفاني بالباقي واشترى العظيم بالصغير. وأغبط الناس أكثرهم مستجيراً أو سائلاً منجحاً، ولا يعد غنياً من لا يشارك في ماله.

فبينما الغراب في كلامه إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى ففزع منه الغراب والجرذ والسلحفاة، فوثبت السلحفاة في الماء ودخل الجرذ في الجحر وطار الغراب فوقع على شجرة. وانتهى الظبي إلى الماء فشرب منه قليلاً ثم قام مذعوراً ينظر. فحلق الغراب في السماء ينظر هل يرى للظبي طالباً فنظر في كل ناحية فلم ير شيئاً، فنادى السلحفاة لتخرج من الماء، وقال للجرذ: اخرج فإنه ليس هاهنا شيء تخافه. فاجتمع الغراب والجرذ والسلحفاة في مكانهن، فقالت السلحفاة للظبي حين رأته ينظر إلى الماء ولا يشرب: اشرب إن كان بك عطش ولا تخف فلا خوف عليك. فدنا الظبي منهم ورحّبت به السلحفاة وحيّته وقالت له: من أين أقبلت؟ قال: كنت أرعى في هذه الصحارى ولم تزل الأساورة تطردني من مكان إلى مكان. ورأيت اليوم شيخاً فخفت أن يكون قانصاً فهربت منه.

قالت السلحفاة: لا تخف فإنا لم نر القناص هاهنا قط، ونحن نبذل لك مودتنا ومكاننا، والمرعى منا قريب. فرغب الظبي في صحبتهن وأقام معهن. وكان لهن عريش من الشجر فكنّ يأتينه كل يوم ويجتمعن فيه ويلهون بالحديث ويتذاكرنه. ثم إن الغراب والجرذ والسلحفاة وافين العريش ذات يوم لحينهن وغاب الظبي فتوقّعنه ساعة، فلما أبطأ عليهن أشفقن أن يكون أصابه عدوّ فقلن للغراب: طر فانظر هل ترى الظبي في شيء مما نحذره. فحلّق الغراب فنظر فإذا هو بالظبي في حبائل القانص، فأجفل مسرعاً حتى أخبر الجرذ والسلحفاة.

فقالت السلحفاة والغراب والجرذ: هذا الأمر لا يرجى فيه غيرك فأغث أخانا. فسعى الجرذ سريعاً حتى انتهى إلى الظبي فقال: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس؟

قال الظبي: وهل يغنى الكيّس مع كوارث الدهر وأحواله التي لا ترى ولا تستدرك؟

فبينما هما على محاورتهما إذ وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي: ما أصبت بمجيئك إلينا. فإن القانص إذا هو انتهى وقد فرغ الجرذ من قطع حبالي سبقته حضراً، وللجرذ جحره والغراب يطير وأنت بطيئة السعي فأخاف عليك القانص.

قالت السلحفاة: إنه لا يعد من العيش ما كان بعد فراق الأحبة. وأما المعونة على تسلية الهم وسكون النفس عند البلاء فبلقاء الأخ وبثّ كل واحد منهما شكواه إلى صاحبه. وإذا فرق بين الأليف وإلفه فقد سُلب فؤاده وحرم سروره وأغشي على بصره.

فلم تفرغ السلحفاة من كلامها حتى طلع القانص ووافق ذلك فراغ الجرذ من الحبائل فنجا الظبي وطار الغراب ودخل الجرذ جحره. فلما جاء القانص إلى حبائله فرآها قد قطّعت عجب وجعل ينظل فيما حوله فلم يرَ شيئاً غير السلحفاة فأخذها وأوثقها بالحبال.

ولم يلبث الظبي والغراب والجرذ أن اجتمعن فنظرن إلى القانص وقد أخذ السلحفاة وهو يربطها بالحبال، فاشتد حزنهن لذلك وقال الجرذ: ما ترانا نجاوز عقبة من البلاء إلا صرنا في أخرى أصعب منها؟ لقد صدق الذي قال: " لا يزال الرجل في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر مرة في أرض خبارٍ لجّ به العثار وإن مشى في جدد". وما كان جدي الذي فرّق بين وبين أهلي ومالي ووطني وبلادي ليرضيني حتى يفرّق بيني وبين كل ما كنت أعيش به من صحبة السلحفاة، خير الأصدقاء التي ليست خلتها للمجازاة ولا التماس المكافأة، لكن خلّتها خلة الكرم والوفاء. خلة هي أفضل من مودة الوالد لولده. خلة لا يزيلها إلا الموت. ويح لهذا الجسد الموكل به البلاء الذي لا يزال في تصرف وتقلب لا يدوم له شيء ولا يثبت معه، كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوعه ولا لآفله أفوله، لكنهما في تقلب لا يزال الطالع يكون آفلاً والآفل طالعاً والمشرق غارباً والغارب مشرقاً. وهذا الحزن يذكّرني أحزاني كالجرح المندمل تصيبه الضربة فيجتمع على صاحبه ألمان: ألم الضربة وألم انتكاس الجرح. كذلك من خفّت كلومه بلقاء إخوانه ثم فقدهم.

فقال الغراب والظبي للجرذ: إن حزننا وحزنك وكلامك وإن كان بليغاً، لا يغني السلحفاة شيئا. فدع هذا وأقبل على التماس النجاة للسلحفاة، فإن قد كان يقال إنما يختبر ذوو البأس عند البلاء، وذوو الأمانة عند الأخذ والإعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، والإخوان عند النوائب.

قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أنت أيها الظبي حتى تكون بصدد من طريق القانص فتربص كأنك جريح مثبت ويقع عليك الغراب كأنه يأكل منك. وارقب القانص فكن منه قريبا. وإني لأرجو أنه لو نظر إليك يضع ما معه من قوسه ونشَّابه والسلحفاة ويسعى إليك. فإذا دنا إليك فتنفّر عنه متضالعاً حتى لا ينقطع طمعه منك، وأمكنه مراراً حتى يذنو منك، ثم مُدّ به على هذا النحو ما استطعت. فإني أرجو أن لا ينصرف القانص إلا وقد فرغت من قطع الحبل الذي السلحفاة مربوطة به فتتحول السلحفاة ونرجع إلى مكاننا.

ففعل الظبي والغراب ذلك، وتعاونا واتعبا القانص طويلاً ثم انصرف وقد قطع الجرذ حبال السلحفاة فنجوا معاً. فلما جاء القانص وجد الحبل مقطوعاً وفكّر في أمر الظبي المتضالع والغراب كأنه يأكل من الظبي وليس يأكل، وتقريض الجرذ لحباله قبل ذلك فاستوحش وقال: ما هذه الأرض إلا أرض سحرة أو أرض جن. فرجع لا يلتمس شيئاً وينظر إليه. فانطلق الغراب والظبي والسلحفاة والجرذ إلى عريشهن آمنات مطمئنات.

فهذا مثل تعاون الإخوان.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:21 PM

باب البوم والغربان


أصل العداوة بين الغراب والبوم

قال الغراب: زعموا أن جماعة من الطير لم يكن لها ملك وأنها اجتمعت على بوميّ لتملّكه. فبينما في مجمعها إذ رفع لها غراب فقال بعضهن: انتظرن هذا الغراب فنستشيره في أمرنا. فأتاهن الغراب فاستشرنه، فقال الغراب: لو أن الطير بادت وفقد الطاووس والكركيّ والبط والحمام لما اضطررتن إلى تمليك البوم، أقبح الطير منظراً، وأسوئها مخبراً، وأقلها عقولاً، وأشدها غضباً، وأبعدها رحمة، مع ما بها من الزمانة والعشاء بالنهار. ومن شر أمورها سفهها وسوء خلقها إلا أن تملكنها وأنتن المدبرات للأمور دونها برأيكن وعقولكن. فإذا كان الملك جاهلاص ووزراؤه صالحين نفذ أمره وتم رأيه واستقام علمه ودامت مملكته كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها وعملت برأيه كأنها مرسلة منه.

قالت الطير: وكيف كان ذلك؟

مثل ملك الفيلة ورسول الأرانب

قال الغراب: زعموا أن أرضاً من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون فأجدبت وقلّ ماؤها وغارت عيونها فأصابت الفيلة عطش شديد فشكوا ذلك إلى ملكهم. فأرسل ملك الفيلة رسله وروّاده في التماس الماء في كل ناحية. فرجع إليه بعض رسله فأخبروه أنهم وجدوا بمكان كذا وكذا عيناً تدعى القمرية كثيرة الماء. فتوجّه ملك الفيلة بفيلته إلى تلك العين ليشربوا منها وكانت الأرض أرض أرانب، فوطئت الفيلة الأرانب في أجحارها ومجاثمها، فاجتمعت الأرانب إلى ملكهن فقلن: قد علمت ما أصابنا من الفيلة فاحتل لنا قبل رجوعهم، فإنهم إذا رجعوا لوردهم أهلكونا.

قال الملك: ليحضرنّ كل ذي رأي منكن رأيه. فتقدم خزرٌ منها يدعى فيروز كان الملك قد عرفه بالأدب والرأي، فقال: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويبعث معي أميناً يرى ويسمع ما أقول وأصنع ليخبر به الملك فليفعل.

قال ملك الأرانب: أنت أميني ونحن نرضى بك وبرأيك ونصدّق قولك فانطلق إلى الفيلة وبلّغ عني ما أحببت واعمل برأيك، واعلم أن الرسول به وبرأيه يعتبر عقل المرسل وكثير من شأنه. وعليك باللين والمؤاتاة فإن الرسول هو الذي يلين القلب إذا رفق ويخشّن الصدر إذا خرق.

فانطلق الخرز في ليلة فيها القمر طالع حتى انتهى إلى الفيلة، وكره أن يدنو منهن فيطأنه وإن هنّ لم يردن ذلك. فأشرف على تلّ فنادى: يا ملك الفيلة إنه أرسلني إليك القمر والرسول مبلّغ غير ملوم وإن أغلظ.

قال ملك الفيلة: وما الرسالة؟

قال فيروز: يقول القمر إنه من عرف فضل قوته على الضعفاء فاغترّ لذلك بالأقوياء كانت قوته خبالاً له. وقد عرفت فضل قوتك على الدواب فغرّك ذلك مني فعمدت إلى عيني التي تسمى باسمي فشربت ماءها وقذّرتها وكدّرتها بفيلتك. وإني أتقدم إليك وأنذرك أن تعود فأغشي بصرك واتلف نفسك. وإن كنت في شك من رسالتي فهلمّ إلى العين من ساعتك فإني موافيك فيها.

فعجب ملك الفيلة في قول فيروز، فانطلق إلى العين معه فنظر إليها فرأى ضوء القمر فقال له فيروز: هذ بخرطومك من الماء فاغسل وجهك واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء فتحرّك، فخيّل إليه أن القمر ارتعد فقال: ما شأن القمر ارتعد؟ أتراه غضب عليّ لإدخالي خرطومي في الماء؟ فقال فيروز: نعم فاسجد له ثانية. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى وتاب إليه مما صنع به، وشرط له ألا يعود إلى تلك العين هو ولا شيء من فيلته.

قال الغراب: ومع ما ذكرت من أمر البوم أن من شأنها الخبّ والمكر والخديعة. وشرّ الملوك المخادع ومن ابتلي بسلطان المخادعين وحكّمهم أصابه ما أصاب الصفرد والأرنب اللذين حكّما السنور الصوام؟

مثل الصّفرد والأرنب والسّنّور الصّوّام


قال الغراب: كان لي جار من الصفارد في سفح جبل، وجحره قريب من الشجرة التي فيها وكري، فكان يكثر التقاؤنا ومواصلتنا على جوارنا. ثم فقدته فلم أدر أين غاب، وطالت غيبته حتى ظننت أنه قد هلك. فجاءت أرنب إلى مكان الصفرد ولبثت في ذلك المكان زماناً. ثم إن الصفرد رجع إلى مكانه، فلما وجد الأرنب فيه قال: هذا مكان فانطلقي عنه.

قالت الأرنب: المسكن في يدي، وأنت المدّعي، فإن كان لك حق فاستعد عليّ.

قال الصفرد: المكان مكاني، ولي على ذلك البيّنة.

قالت الأرنب: نحتج إلى القاضي.

قال الصفرد: إن قريباً منا على شاطئ البحر سنّوراً متعبداً يصلي النهار كله لا يؤذي دابة ولا يريق دماً، ويصوم الدهر لا يفطر، عيشه من العشب وورق الأشجار، فاذهبي الليلة إليه أحاكمك.

قالت الأرنب: نعم. فانطلقا جميعاً وتبعتهما لأنظر إلى الصوام العابد الزاهد وإلى قضائه بينهما، فلما صارا إلى السنوا قصّا عليه قصتهما.

فقال السنور: أدركني الكبر وضعف البصر، وثقلت أذناي فما أكاد أن أسمع فادنوا مني فأسمعاني قريباً. فأعادا القصة فقال: "قد فهمت ما قصصتما وأنا بادئكما بالنصيحة قبل القضية، فآمركما ألاّ تطلبا إلا الحق. فإن طالب الحق هو الذي يفلح وإن قضي عليه، وطالب الباطل مخصوم. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شيء من مال ولا صديق إلا عمل صالح قدّمه. فذو العقل حقيق ويمقت ما سوى ذلك. ومنزلة المال عند العاقل منزلة المدر. ومنزلة الناس عنده فيما يحب لهم من الخير ويكره لهم من الشر منزلة نفسه". فلم يزل يقص عليهما ويستأنسان فيدنوان منه حتى وثب عليهما فضمّهما إليه فقتلهما جميعاً.

قال الغراب: فالبوم يجمعن مع سائر ما وصفت لكم المكر والخديعة فلا يكوننّ تمليك البوم من رأيكن. فلما سمع الطير خطبة الغراب أضربن عن رأيهن ولم يملّكن البوم.

وكان هناك بومة حاضرة سمعت كلام الغراب فقالت له: لقد وترتني أعظم التّرة، فما أدري هل كان سلف مني إليك سوءٌ استحققت به هذا منك؟ وإلاّ فاعلم أن الفؤوس يقطع بها الشجر فتنبت وتعود، والسيف يقطع به اللحم والعظم فيندمل ويلتئم، واللسان لا يندمل جرحه، والنصل من النشابة يغيب في الجوف ثم ينزع، وأشباه الأنصال من القول إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولك حريق مطفئ، فللنر الماء، وللسم الدواء، وللعشق القرب، وللحزن الصبر، ونار الحق لا تخبو. وإنكم معاشر الغربان قد غرستم بيننا أبداً شجرة الحقد والبغضاء.

فقضت البوم مقالتها هذه وولت مغضبة وانصرفت موتورة، وندم الغراب على ما فرط منه، وقال في نفسه: "لقد خرقت فيما كان من قولي الذي جلبت به العداوة على نفسي وعلى قومي، ولم أكن أحقّ الطير بهذه المقالة ولا أعبأها بأمر ملكها. ولعلّ كثيراً قد رأوى الذي قد رأيت وعلموا الذي قد علمت فمنعهم من الكلام فيه اتقاء ما لم أتق والنظر فيما لم أنظر فيه من العاقبة. ثم لا سيما إذا كان الكلام مواجهة، فإن الكلام الذي يستقبل فيها قائله السامع بما يكره مما يورث الحقد والضغينة ولا ينبغي له أن يسمى كلاماً ولكن يسمّى سمّاً. فإن العاقل وإن كان واثقاً بقوله وفضله لا يحمله ذلك على أن يجني على نفسه عداوة وبغضاً اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة. كما أن العاقل لا يشرب السم اتكالاً على ما عنده من الترياق، وصاحب حسن العمل وإن قصّر به القول في بديهته تبين فضله عند الخبرة وعاقبة الأمر. وصاحب القو وإن هو أعجب ببديهته وحسن صفته فلا يحمد مغبّة أمره. وأنا صاحب القول الذي لا عاقبة له محمودة. أوليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم لا أستشيره فيه أحداً ولا أتروّى فيه مراراً، وأنا أعلم أن من لم يستشر الفصحاء الألبّاء بتكرار النظر والروية لم يسرّ بمواضع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت في يومي هذا وما وقعت فيه".

فعاتب الغراب نفسه بهذا ثم انطلق.

فهذا ما سألتني عنه من العلة التي بدأت بها العداوة بين البوم والغربان.

قال الملك: قد فهمت هذا، فحدّثنا بما نحن أحوج إليه وأشر علينا برأيك والذي ترى أن نعمل به فيما بيننا وبين البوم.

قال: أما القتال فقد فرغت من رأيي فيه وأعلمتك كراهتي له. ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال، وأنا أرجو أن أقدر من الحيل على بعض ما في فرج. فإنه رُبّ قوم قد احتالوا بآرائهم للأمر الجسيم حتى ظفروا منه بحاجتهم التي لم يكونوا يقدرون عليها بالمكثرة، كالنفر الذين مكروا بالنساك حتى ذهبوا بعريضه.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:22 PM

مثل الناسك والعريض واللصوص

قال: زعموا أن ناسكاً اشترى عريضاً ضخماً سميناً ليجلعه قرباناً، فانطلق به يقوده فبصر به نفر مكرة فائتمروا ليخدعنوه، فعرض له أحدهم فقال: أيها الناسك ما هذا الكلب الذي معك؟ ثم عرض له آخر فقال: أيها الناسك أظنك تريد الصيد بهذا الكلب. ثم عرض له ثالث فقال: إن هذا الرجل الذي عليه لباس الناسك ليس بناسك. فإن الناسك لا يقود كلباً. فقال الناسك: لعل الذي باعني سحر عينيّ. فخلّى العريض وتركه فأخذه النفر واقتسموه بينهم.

وإنما ضربت لك هذا المثل لما رجوت أن نصيب من حاجتنا بالمكر. فأنا أرى أن يغضب الملك عليّ فيأمر بي على رؤوس جنده فأضرب وأنقر حتى أتخضّب بالدماء، ثم ينتف ريشي وذنبي ثم أطرح في اصل الشجرة التي نحن عليها، ويرتحل الملك وجنوده إلى مكان كذا وكذا، حتى أمكر مكري وأحتال على البومة بحيلة يكون فيها هلاكهن. ثم آتي الأمر على علم وأطلعك على أحوالهن فننال غرضنا منهن إن شاء الله.

ففعل ذلك وارتحل مع غربانه إلى المكان الذي وُصف له. ثم إن البوم جاءت من ليلتها فلم تجد الغربان ولم تفطن للغراب في أصل الشجرة. فأشفق أن ينصرفن من قبل أن يروه فيكون تعذيبه نفسه باطلاً، فجعل يئنّ ويهمس حتى سمعته بعض البوم. فلما رأينه أخبرن به ملكهن فعمد نحوه في بومات ليسأله عن الغربان. فلما دنا منه أمر بومة أن تسأله من هو وأين الغربان؟

قال الغراب: أنا فلان ابن فلان، وأما ما سألتني عنه في أمر الغربان فلا أحسبكن ترينني في حال من لا يعلم الأسرار.

قال ملك البوم: هذا وزير ملك الغربان، وصاحب رأيه، فاسألوه بأي ذنب صنع به ما صنع؟

قال الغربان: سفّهوا رأيي وصنعوا فيّ هذا.

قال الملك: وما هذا السفه؟
قال الغراب: إنه لما كان من إيقاعكنّ بنا ما كان، استشارنا ملكنا فقال: أيها الغربان ما ترون؟ وكنت من الأمر بمكان فقلت: "أرى أنه لا طاقة لكم لقتال البوم فإنهن أشد بطشاً منكم وأجرأ قلوباً، ولكن الرأي لكم أمران: نلتمس الصلح ونعرض الفدية. فإن قبلن ذلك منكم وإلا هربتم في البلاد. وأخبرت الغربان أن قتالهم إياكن خير لكن وشرّ لهم، وأن الصلح أفضل ما هم مصيبون منكنّ وأمرتهم بالخضوع. وضربت لهم مثلاً في ذلك فقلت: إن العدو الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له. ألا ترون الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه حيث مالت. فغضبوا من قولي وزعموا أنهم يريدون القتال واتهموني وقالوا: إنك قد ملأت البوم علينا. وردّوا رأيي ونصيحتي وعذّبوني هذا العذاب".

فلما سمع ملك البوم ما قال الغراب قال لأحد وزرائه: ما ترى في هذا الغراب. قال: "ليس لك في أمره نظرٌ إلا المعالجة بالقتل. فإن هذا من أعز أصحاب ملك الغربان وأقرب إليه محلاً وأفضل عنده رأياً وأشد منه خداعاً، وفي قتله لنا فتح عظيم وراحة لنا من رأيه ومكيدته، وفقده على الغربان شديد. وكان يقال: من استمكن من الأمر الجسيم فأضاعه لم يقدر عليه ثانية، ومن التمس فرصة العمل فأمكنته فأغفل عمله فاته الأمر ولم تعد إليه الفرصة. ومن وجد عدوّه ضعيفاً معوزاً فلم يسترح منه أصابته الندامة حين يبغي العدوّ ويستعد فلا يقوى عليه".

قال الملك لآخر من وزرائه: ما ترى في هذا الغراب. قال: "أرى ألا تقتله. فإن العدو الذليل الذي لا شوكة له أهل أن يرحم ويستبقى ويصفح عنه. والمستجير الخائف أهل أن يؤمّن ويجار مع أن الرجل ربما عطفه على عدوّه الأمر اليسير، كالسارق الذي عطف على التاجر امرأته بأمر لم يتعمّده".

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:23 PM

مثل التاجر وامرأته واللص

قال الوزير: زعموا أنه كان تاجر كثير المال وهو شيخ مسن له امرأة شابة وكان كلفاً بها يعتني بأمرها وأمر ولدها. وكانت هي قالية له لكبر سنه فتعرض عن خدمته. وكان التاجر يعلم ما في نفسها فلا يزيده ذلك إلا حباً لها. ثم إن سارقاً أتى بيت التاجر ليلة، فلما دخل البيت وجد التاجر نائماً وامرأته مستيقظة، فذعرت من السارق ووثبت إلى زوجها واستجارت به والتزمته. فاستيقظ التاجر بالتزامها فقال: من أين لي هذه النعمة؟ ثم بصر السارق وعلم أن فرق امرأته من السارق دعاها إلى للياذ به، فناداه فقال: أيها السارق أنت في حلّ مما أردت أخذه من مالي ومتاعي ولك الفضل بما عطفت عليّ قلب زوجتي.

ثم إن الملك سأل الثالث من وزرائه عن الغراب، فقال: "أرى أن تستبقيه وتحسن إليه فإنه خليق أن يناصحك. فإن ذا العقل يرى ظفراً حسناً معاداة بعض معدوّه بعضاً، ويرى اشتغال بعض العدوّ ببعض واختلافهم نجاة لنفسه منهم كنجاة الناسك من اللص والشيطان لما اختلفا عليه".

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

مثل الناسك واللص والشيطان

قال الوزير: زعموا أن ناسكاً أصاب من رجل بقرة حلوباً، فانطلق بها يقودها إلى منزله فتبعه لصّ يريد سرقتها، وصحبته شيطان في صورة إنسان. فقال اللص للشيطان: من أنت؟ قال: أنا شيطان أريد أن أختطف نفس هذا الناسك إذا نام الناس فأخنقه وأذهب بنفسه. وسأل الشيطان اللص: وأنت من أنت؟ قال: أنا لص. فإني أريد أن أتبعه إلى منزله لعلي أسرق هذه البقرة. فانطلقا مصطحبين حتى انتهيا مع الناسك إلى منزله ممسيين. فدخل الناسك وربط البقرة في زاوية المنزل ثم تعشى ونام. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان بأخذ نفس الناسك قبل أن يأخذ البقرة أن يصيح الناسك فيجتمع الناس لصوته فلا يقدر على سرقة البقرة، فقال له: انتظرني حتى أخرج البقرة ثم عليك بالرجل. فأشفق الشيطان إن بدأ اللص أن يستيظ الناسك فيصيح ويجتمع الناس إليه فلا يقدر على أخذه، فقال: بل انتظرني حتى آخذ الناسك وشأنك وبالبقرة. فأبى كل واحد على صاحبه، فلم يزالا باختلفافهما حتى نادى اللص الناسك أن استيقظ أيها الناسك فهذا شيطان يريد أخذك. وناداه الشيطان أن استيقظ أيها الناسك فهذا اللص يريدد أخذ بقرتك. فانتبه الناسك وجيرانه بصوتهما فنجا منهما ولم يقدرا على ما أرادا وهرب الخبيثان خائبين.

فلما فرغ الثالث من كلامه قال الأول الذي كان قد أشار بقتل الغراب: "أراكنّ قد غرّكن هذا الغراب وخدعكن بكلامه وتضرّعه، فأنتن تردن تضييع الرأي والتغرير بجسم الأمر، فمهلاً مهلاً عن هذا الرأي، وانظرن ذوي الألباب الذي يعرفون أمورهم وأمور غيرهم، فلا يلقكنّ عن رأيكن فتصبحن كالمعجزة الذين يغترون بما يسمعون أشد تصديقاً منه بما يعلمون، وكالنجار الذي كذّب ما ر أى وعلم وصدّق ما سمع فاغترّ وانخدع".

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:23 PM

مثل الناسك والفأرة المحوّلة جارية

قال البوميّ: زعموا أن ناسكاً عابداً كان مستجاب الدعوة. فبينما هو قاعد على شاطئ النهر إذ مرت به حدقة في رجلها درصة. فوقعت من رجلها عند الناسك فأدركته لها رحمة، فأخذه ولفها في ردنه وأراد أن يذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن يشقّ على أهله تربيته فدعا ربه أن يحولها جارية فأعطيت حسنا وجمالا، فانطلق بها الناسك إلى بيته فقال لامرأته: هذه يتيمة فاصنعي بها صنيعك بولدك. ففعلت ذلك حتى إذا بلغت اثنتي عشرة سنة قال لها: يا بنية فقد أدركت ولا بد لك من زوج فاختاري من أحببت من إنسيّ أو جني أقرنك به. قال: أريد زوجاً قوياً شديداً. فقال لعلك تريدين الشمس. فقال للشمس: هذه جارية جميلة هي عندي بمنزلة الولد زوّجتكما لأنها طلبت زوجاً قوياً منيعا.

قالت الشمس: أنا أدلك على من هو أقوى ني: السحاب الذي يغطي نوري ويغلب عليه. فانصرف الناسك إلى السحاب فقال له مثل تلك المقالة، فقال له السحاب: أنا أدلك على من هو أقوى مني وأشد: الريح التي تقبل بي وتدبر. فانصرف الناسك إلى الريح فقال لها مثل مقالته: فقالت الريح: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجبل الذي لا أستطيع له تحريكاً. فانصرف الناسك إلى الجبل فقال له مثل مقالته تلك، فقال الجبل: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي يثقبني فلا أستطيع الامتناع عنه. قال الناسك للجرذ هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال له: كيف أتزوجها وأنا صغير ومسكين ضيق والجرذ يقترن بالفأرة. فطلبت الجارية إلى الناسك أن يدعو ربه ليحوّلها فأرة، فأجابها إلى ذلك ودعا ربه فتحولت فأرة ورجعت إلى أصلها الأول فتزوجها الجرذ. فهذا مثلك أيها المخادع.

فلم يلتفت ملك البوم ولا غيره إلى هذه المقالة، ورفقت البوم بالغراب فلم يردن إلا إكرامه، حتى استأنس بهن ونبت ريشه وسمن وصلح، وعلم ما أراد أن يعلم، واطلع على ما أراد أن يطلع عليه الغربان، فطار سراً وعاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى وسمع، فقال لملك الغربان: أبشرك بفراغي مما أردت الفراغ منه وإنما بقي ما قبلكم فإن أنت جددتم وبالغتم في أمركم فهو الفراغ من ملك البوم وجنده.

فقال ملك الغربان: نحن عند أمرك فمرنا بما بدا لك.

قال الغراب: إن البوم بمكان كذا وكذا، وهن يجتمعن بالنهار في مكان كذا وكذا من الجبل، وقد علمت مكاناً فيه الحطب اليابس كثيراً فليحمل كل غراب منكم ما استطاع من ذلك الحطب إلى باب الثقب الذي فيه البوم بالنهار. وقرب ذلك الجبل قطيع غنم، فإني أمضي آخذ منه ناراً فآتي بها باب الثقب فأقذّفها في الحطب المجموع. ثم تعاونوا فلا تفتروا واضربوا بأجنحتكم ضرباً ترويحاً ونفخاً للنار حتى تضرم في الحطب، فما خرج من البوم احترق بالنار وما بقي مات بالدخان.

ففعلوا ذلك فأهلكوا البوم ثم رجعوا إلى أوطانهم آمنين سالمين. ثم إن ملك الغربان قال لذل الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟

قال الغراب: إن ذلك كذلك، ولكن العاقل إذا نابه الأمر العظيم المفظع الذي يخاف منه الجائحة الجائفة على نفسه وقومه لم يخرج من شدة الصبر عليه رجاء عاقبته، ولم يجد لذلك مساً ولم تكره العيشة مع من هو دونه حتى يبلغ حاجته وهو حامد لغبّ أمره، مغتبطٌ لما كان من أمر رأيه واصطباره.

قال الملك: أخبرني عن عقول البوم.

قال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الوزير الذي كان يحرص على قتلي ويحرضهن على ذلك مرارا. فكنّ أضعف شيء رأياً، إذ لم ينظرن في أمري ولم يذكرن أنني كنت ذا منزلة في الغربان أعد من ذوي الرأي. فلم يتخوّفن مني المكر والحيلة. فأخبرهن الحازم الناصح المطّلع على ما في نفسي برأيه، وأشار عليهن بالنصح لهنّ فرددن رأيه فلا هن عقلن ولا من ذي العقل قبلن، ولا حذرنني ولا حصّنّ أسرارهن دوني. وقد قالت العلماء: ينبغي للملك أن يحصّن دون المتهم أسراره وأموره فلا يدنو من مواضع أسراره وأموره وكتبه ولا من الماء والحوض الذي يعدّ لغسله ولا من فراشه ودثره ولا من كسوته ولا من مراكبه ولا من سلاحه ولا من طعامه وشرابه ولا من دوائه ولا من ذهبه وطيبه ورياحينه، ولا يؤمّن على نفسه إلا الثقة الأمين السالم الباطن والظاهر ويكون بعد ذلك كله على حذر منه، لأن عدوه لا يتوصل إليه إلا من جهة ثقاته. وربما كان الثقة صديقاً لعدوه فيصل العدو إلى مراده منه.

قال ملك الغربان: لم يهلك ملك البوم عندي إلا بغيه وضعف رأيه وموافقته لوزراء السوء.

قال الغراب: صدقت. فإنه كان يقال: قلّ ما ظفر أحد بغنى ولم يطغ. وقلما حرص الرجل على النساء فلم يفتضح. وقلّ من أكثر من الطعام ولم يسقم. وقلّ من ابتلي بوزراء السوء فلم يقع في المهالك. وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن، ولا الخبّ في كثرة الصديق، ولا السيء الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب، ولا الملك المختال المتهاون الضعيف الوزراء في ثبات ملكه.

قال ملك الغربان: لقد احتملت مشقة شديدة بتصنعك للبوم وتضرّعك لهن.

قال الغراب: لقد كان ذلك كذلك ولكن صبرت على ذلك لما رجوت من حسن منفعته، لأنه يقال: لا يكبر على الرجل حمل عدوّه على عاتقه إذا وثق بحسن عاقبته. وقد قيل: إنه من احتمل مشقة يرجو لها منفعة صبر على ذلك، كما صبر الأسود على حمل الضفدع على ظهره.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:24 PM

مثل الأسود وملك الضفادع

قال الغراب: زعموا أن أسودَ كبر وهرم فلم يستطع صيداً ولم يقدر على طعام فدبّ يلتمس المعيشة لنفسه حتى انتهى إلى غدير ماء كثير الضفادع قد كان يأتيه ويصيد من ضفادعه، فوقع قريباً من الغدير شبيهاً بالحزين الكئيب. فقال له ضفدع. ما شأنك أراك كئيباً حزيناً؟ قال: ما لي لا أكون حزيناً إنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيد من الضفادع، فابتليت ببلاء حرّمت عليّ الضفادع حتى لو لقيت بعضها على بعض لم أجترئ على أكله. فانطلق الضفدع فبشر ملكه بما سمع من الأسود، فدنا الملك من الأسدو فقال له: كيف كان أمرك هذا؟ فقال الأسود: لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئاً إلى ما يتصدق به علي الملك. قال: ولم؟ قال: إني سعيت في أثر ضفدع منذ ليال لأخذها فطردتها إلى بيت مظلم لرجل من النساك فدخلته ودخلت في إثرها. وفي البيت مدّ ابنُ الناسك إصبعه فظننتها الضفدع فلسعتها فمات فخرجت هارباً وتبعني الناسك ودعا عليّ وقال: كما قتلت ابني البريء ظلماً أدعو عليك أن تذلّ وتخزى وتصير مركباً لملك الضفادع وتحرم عليك الضفادع، فلا تستطيع أكلها إلى ما تصدق به عليك ملكها. فأقبلت إليك لتركبني مقراّ بذلك راضياً. فرغب ملك الضفادع في ركوب الأسود، وظن أن ذلك له شرف ورفعة. فركب الأسود أياماً ثم قال له الأسود: قد علمت أني ملعون محروم لا أقدر على التصيّد. إلا ما تصدقت به عليّ فاجعل لي رزقاً أعيش به. قال الملك: لعمري لا بد لك وأنت لي مركب من رزق تعيش به. فأمر له كل يوم بضفدعتين يؤخذان فيدفعان إليه، فعاش بذلك. ولم يضرّه خضوعه للعدو الذليل، بال انتفع بذلك وصار له معيشة ورزقاً.

وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه التماس هذا النفع العظيم الذي جعل لنا فيه بوار العدو والراحة منه.

قال الملك: وجدت ضراعة اللين والمكر أشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة والعناد، فإن النار الخفيفة تقوى بحرّها وحدّتها على أن تحرق ما فوق الأرض من الشجر الكبار. والماء بلينه ونفوذه يقتلعها من أصلها تحت الأرض، وكان يقال: في أربعة لا يستقلّ منها القليل: النار والمرض والعدو والدّين.

قال الغراب: ما كان من ذلك فبسعادة جدّ الملك ورأيه فإنه قد كان يقال: إذا طلب اثنان حظاذ ظفر به أفضلهما مروءة. فإن استويا في المروءة فأمضاهما رأيا، فإذا استويا في ذلك فأفضلهما أعواناً، فإن استويا في ذلك فأسعدهما جدا. وقد كان يقال: من غالب الملك الحازم الأريب الذي لا تبطره السرّاء ولا تدهشه الضرّاء كان هو الداعي الحتف لنفسه. ثم لا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بالأمور وفرص الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضا والمعالجة والأناة، الناظر في يومه وعواقب أعماله.

قال الملك: بر برأيك وعقلك كان هذا. فإن رأي الرجل الواحد أبلغ في إهلاك العدو من الجنود الكثيرة من ذوي البأس والنجدة والعدد والعدة. وإن من أعجب أمرك عندي طول لبثك عند البوم، وأنت تسمع الغلظ من كلامهم دون أن تسقط عندهم بكلمة.

قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك أيها الملك، فأصحب القريب والبعيد بالرفق واللين والمتابعة والموافقة، وأخضع لهم. وقد قيل: إذا كنت بين أعداء تخافهم ولا تقدر على ضرّهم فخذهم باللطف والتؤدة والخضوع، وإياك والغلظة فإنك لا تصيب بذلك ظفراً. وإنت سمعت منهم غليظ الكلام فغض عنه النظر. وقد قيل إن الرجل الكامل المشاور أهل النبل في الرأي والعقل إن رأى في بدء أمره وسمع من بشاعة اللفظ ومخالفة الهوى ما يكره وصبر على ذلك فإن ذلك يعقب منفعة وراحة وسروراً. وإنّ مشاورة من يتبع هوى المستشير ولم ينظر في عاقبة أمره وإن نال من العاجل فرحاً وروحاً فإن عاقبة أمره تصير إلى ضرر وخسران.

قال الملك: وجدتك صاحب العمل ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل ليست لها عاقبة حميدة. فقد منّ الله علينا بك منّة عظيمة لم نكن نجد قبلها لذة الطعام ولا النوم.

قال الغراب: إنه يقال: لا يجد السقيم لذة النوم ولا الطعام حتى يبرأ. ولا الرجل الشره الذي قد أطمعه السلطان في مال أو عمل حتى ينجزه له. ولا الرجل الذي قد ألحّ عليه عدوه، فهو يخافه صباحاً ومساءً حتى يستريح منه. وقد كان يقال: من أقلعت عنه الحمّى أراح قلبه. ومن وضع الحمل الثقيل أرح متنه. ومن أمن عدوّه ثلج صدره. فأسأل الله الذي أهلك عدوّك أن يمتعك بسلطانك وأن يجعل لك بعد ذلك صلاح رعيّتك ويشركهم في قرّة العين بملكك. فإن الملك إذا لم يكن في مملكته قرّة عيون رعيّته فمثله مثل زنمة العنز التي يمصّها الجدي فلا يصادف فيها خيراً.

قال الملك: كيف كانت سيرة ملك البوم في جنده؟

قال: سيرة بطر وأشر وختل وعجز وضعف رأي. وكل أصحابه ووزرائه كان شبيهاً به إلا الذي كان يشير بقتلي. فإنه كان حكيماً أريباً فيلسوفاً حازماً قلّما يرى مثله في علوّ الهمة وكمال العقل وجودة الرأي.

قال: وأيّ خلّة رأيت كانت أدلّ لك على عقله؟

قال الغراب: خلّتان، الواحدة رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكن يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلّها، ولم يكن كلامه مع هاتين كلام خرق ولا مكابرة، ولكن كلام رف ولين حتى ربما أخبره بعيبه وهو لا يغضبه، وإنما يضرب له الأمثال ويحدّثه عن عيب غيره فيعضر به عيب نفسه، ولا يجد للغضب عليه سبيلاً.

وكان مما سمعته يقول للملك أن قال: لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به إلا القليل، ولا تقابله إلا بالحزم. وهو إذا فات لم يدرك. فينبغي للملك أن يكون متفقداً لأموره ذا حزم فيها. فإن لم يحسن ولايته ورعايته قلّت راحته وهدوّه، كالقرد الذي يُرى لأدنى حركة قلقاً. والملك عزيز عزوف، فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه. فإنه قد قيل: إنه في قلة بقائه مثل قلة بقاء الظل على ورق النيلوفر، وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئيم، وفي مراقبته كالتنين. وهو في سرعة الإقبال والإدبار كالريح، وفي الثقل كصحبة البغيض، وفيما يخاف من مفاجأة عطبة كالحية، وفي سرعة الذهاب كحباب الماء من وقع المطر. وفي قلة ما يستمع به وينال منه كحاكم يغنى في رقدته، فلما هبّ لم يجد عليه حلمه. فأهلك الله أعداء الملك وأدال منهم ولا زال في عليا وصنع وتوفيق.

فهذا مثل أهل العداوة الذين ينبغي العاقل أن لا يغترّ بهم وإن هم أظفروا تودداً وضراعةً.

صائد الأفكار 8 - 2 - 2011 11:25 PM

باب القرد والغيلم


ابن آوى والأسد

قال القرد: زعموا أن أسدا كان في اجمة، وكان معه ابن آوى يأكل من فضول صيده. فأصاب الأسد جرب شديد حتى ضعف وجهد، فلم يستطع الصيد.

فقال ابن آوى للأسد: ما شأنك يا سيد السباع قد تغيرت حالتك. قال: لهذا الجرب الذي تراه ليس له دواء إلا أن أطلب أذني حمار وقلبه. قال ابن آوى: قد عرفت مكان حمار يجيء به قصّار إلى مرج قريب منا يحمل عليه ثيابه التي يغسلها، فإذا وضع عنه الثياب خلّاه في المرج. فأنا أرجو أن آتيك به ثم أنت أعلم بقلبه وأذنيه. قال الأسد: فلا تؤخّرنّ ذلك.

فذهب ابن آوى حتى أتى الحمار، فقال له: ما هذا الهزال الذي أراه بك والدبر الذي بظهرك؟ قال الحمار: أنا لهذا القصّار الخبيث، فهو يسيء علفي ويدأب عملي. قال ابن آوى: وكيف ترضى بهذا؟ قال: فما أصنع؟ وكيف أفلت من أيدي الناس؟ قال ابن آوى: أنا أدلك على مكان معتزل خصب المرعى لم يطأه الناس قط. وثم أسد وهو مشتاق إليك وبقربه عانة من الحمر ترعى أمينة مطمئنة. فطرب الحمار وقال: ألا تنطلق بنا، فإني لو لم أرغب إلا في إخائك لكان ذلك حاملي على الذهاب معك.

فتوجّها جميعاً قبل الأسد وتقدم ابن آوى فأخبره. فوثب الأسد على الحمار فلم يستطع صرعه لضعفه وانفلت الحمار. فقال ابن آوى للأسد: ما هذا الذي صنعت؟ إن كنت خلّيت الحمار عمداً فلم عنّيتني في طلبه؟ وإن كنت لا تقدر عليه فقد هلكنا، إن كان سيدنا لا يقوى على حمار. فعرف الأسد أنه إن قال: "تركته عمداً" سفهه، وإن قال: "لم أقدر عليه" ضعّفه، فقال: إن أنت استطعت أن تردّ الحمار إليّ بما سألت عنه. فقال ابن آوى: لقد جرّب الحمار مني ما جرب وإني لذلك لعائد إليه محتال له بما استطعت، وعليك إن رجع أن تصبر عليه ساعة حتى يستأنس بك، وهذا أمر لا يفوتك والغرض لا يصاب كل وقت. فعاد ابن آوى إلى الحمار فلما رآه قال له: ما الذي أردت بي؟ قال: أردت بك الخير، ولكن الأسد أراد أن يتلقاك مرحّباً بك ولو ثبتّ لآنسك ومضى بك إلى أصحابه. فلما سمع الحمار ذلك ولم يكن رأى أسداً قط صدّق ما قاله ابن آوى، فمضى ووثب عليه الأسد فافترسه.

فلما فرغ الأسد من قتل الحمار قال لابن آوى: إنه وُصف لي هذا الدواء بأن أغتسل ثم آكل الأذنين والقلب، وأجعل ما سوى ذلك قرباناً. فاحتفظ بالحمار حتى أغتسل ثم أرجع. فلما ولّى الأسد عمد ابن آوى إلى أذني الحمال وقلبه فأكلهما رجاء أن ينفر الأسد عنه فلا يأكل بقية الحمار فينفرد هو به. فلما رجع الأسد قال: أين قلب الحمار وأذنان؟ قال ابن آوى: وما شعرت أن الحمار لم يكن له قلب ولا أذنان وأنهما لو كانا له لم يرجع إليك ثانية بعد إفلاته منك؟ فصدقه الأسد.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أني لست كالحمار الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب ولا أذنان، وأنك احتلت بي وخدعتني فجزيتك مثل خديعتك واستدركت ما كنت ضيّعت من نفسي.
قال الغيلم: أنت الصادق البارّ وقد علمت أن ذا العقل يقلّ الكلام ويبالغ في العمل ويعترف بالزلة ويتبين الأمور قبل الإقدام عليها، ويستقيل عثرة عمله بفعله، كالرجل الذي يعثر على الأرض وعلى الأرض يعتمد وينهض.

فهذا مثل من طلب أمراً، حتى إذا استمكن منه أضاعه.


الساعة الآن 08:18 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى