منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9402)

ميارى 23 - 8 - 2010 05:28 PM

الحديث السابع والستون
عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما نَحل والدٌ ولدّه من نحْل أفضل من أدب حسَن‏)‏ رواه الترمذي‏.‏
أولى الناس ببرِّك، وأحقهم بمعروفك‏:‏ أولادُك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم، وكل ما فعلته معهم من هذه الأمور، دقيقها وجليلها، فإنه من أداء الواجب عليك، ومن أفضل ما يقربك إلى الله، فاجتهد في ذلك، واحتسبه عند الله، فكما أنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم، فأنت قائم بالحق مأجور‏.‏ فكذلك – بل أعظم من ذلك – إذا قمت بتربية قلوبهم وأرواحهم بالعلوم النافعة، والمعارف الصادقة، والتوجيه للأخلاق الحميدة، والتحذير من ضدها‏.‏
و ‏(‏النحل‏"‏‏:‏ هي العطايا والإحسان‏.‏ فالآداب الحسنة خير للأولاد حالاً ومآلاً من إعطائهم الذهب والفضة، وأنواع المتاع الدنيوي لأن بالآداب الحسنة، والأخلاق الجميلة، يرتفعون، وبها يسعدون، وبها يؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وبها يجتنبون أنواع المضار، وبها يتم برهم لوالديهم‏.‏
أما إهمال الأولاد‏:‏ فضرره كبير، وخطره خطير‏.‏ أرأيت لو كان لك بستان فَنمَّيته، حتى استتمت أشجاره، وأينعت ثماره، وتزخرفت زروعه وأزهاره‏.‏ ثم أهملته فلم تحفظه، ولم تَسقِه ولم تُنَقِّه من الآفات، وتعده للنموِّ في كل الأوقات، أليس هذا من أعظم الجهل والحمق‏؟‏ فكيف تهمل أولادك الذين هم فِلذة كبدك، وثمرة فؤادك، ونسخة روحك، والقائمون مقامك حياً وميتاً، الذين بسعادتهم تتم سعادتك، وبفلاحهم ونجاحهم تدرَك به خيراً كثيراً ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏ ‏.‏


الحديث الثامن والستون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل الجليس الصالح والسوء‏:‏ كحامل المسك، ونافخ الكِير‏.‏ فحامل المسك‏:‏ إما أن يَحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة‏.‏ ونافخ الكير‏:‏ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة‏)‏ متفق عليه‏.‏
اشتمل هذا الحديث على الحث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم‏.‏
ومثَّل النبي صلى الله عليه وسلم بهذين المثالين، مبيناً أن الجليس الصالح‏:‏ جميع أحوالك معه وأنت في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك‏:‏ إما بهبة، أو بعوض‏.‏ وأقل ذلك‏:‏ مدة جلوسك معه، وأنت قرير النفس برائحة المسك‏.‏
فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر، فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك‏.‏ فيحثك على طاعة الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، بقوله وفعله وحاله‏.‏ فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضاً إلى الخير، أو إلى ضده‏.‏
وأقل ما تستفيده من الجليس الصالح – وهي فائدة لا يستهان بها – أن تكف بسببه عن السيئات والمعاصي، رعاية للصحبة، ومنافسة في الخير، وترفعاً عن الشر، وأن يحفظك في حضرتك ومغيبك، وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حال حياتك وبعد مماتك، وأن يدافع عنك بسبب اتصاله بك، ومحبته لك‏.‏
وتلك أمور لا تباشر أنت مدافعتها، كما أنه قد يصلك بأشخاص وأعمال ينفعك اتصالك بهم‏.‏
وفوائد الأصحاب الصالحين لا تعد ولا تحصى‏.‏ وحسب المرء أن يعتبر بقرينه، وأن يكون على دين خليله‏.‏
وأما مصاحبة الأشرار‏:‏ فإنها بضد جميع ما ذكرنا‏.‏ وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم‏.‏ فكم هلك بسببهم أقوام‏.‏ وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون‏.‏
ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن، أن يوفقه لصحبة الأخيار‏.‏ ومن عقوبته لعبده، أن يبتليه بصحبة الأشرار‏.‏
صحبة الأخيار توصل العبد إلى أعلى عليين، وصحبة الأشرار توصله إلى أسفل سافلين‏.‏
صحبة الأخيار توجب له العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وصحبة الأشرار‏:‏ تحرمه ذلك أجمع ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً‏}‏
الحديث التاسع والستون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ واحدٍ مرتين‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة‏.‏
ومن تمام توبته‏:‏ أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جُحر فلدغته حَيَّة‏.‏ فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر، لما أصابه فيه أول مرة‏.‏
وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات‏.‏ ويرغبه فيها‏.‏ ويحزنه لفواتها‏.‏ فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت بادر إلى النزوع عنها‏.‏ ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ الحث على الحزم والكَيْس في جميع الأمور‏.‏ ومن لوازم ذلك‏:‏ تعرف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها‏.‏
ويدل على الحثّ على تجنب أسباب الرِّيب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر‏.‏
وعلى أن الذرائع معتبرة‏.‏ وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في المعاصي، فقال ‏{‏يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة‏.‏
وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة‏)‏ والله أعلم‏.‏
الحديث السبعون
عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذَرٍّ، لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَبَ كحُسْن الخلق‏)‏ رواه البيهقي في شعب الإيمان‏.‏
هذا الحديث اشتمل على ثلاث جمل، كل واحدة منها تحتها علم عظيم‏:‏
أما الجملة الأولى‏:‏ فهي في بيان العقل وآثاره وعلاماته، وأن العقل الممدوح في الكتاب والسنة‏:‏ هو قوة ونعمة أنعم الله بها على العبد، يعقل بها أشياء النافعة، والعلوم والمعارف، ويتعقل بها ويمتنع من الأمور الضارة والقبيحة‏.‏ فهو ضروري للإنسان لا يستغنى عنه في كل أحواله الدينية والدنيوية، إذ به يعرف النافع والطريق إليه‏.‏ ويعرف الضار وكيفية السلامة منه‏.‏ والعقل يعرف بآثاره‏.‏
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث آثاره الطيبة، فقال‏:‏ ‏(‏لا عقل كالتدبير‏)‏ أي‏:‏ تدبير العبد لأمور دينه، ولأمور دنياه‏.‏
فتدبيره لأمور دينه‏:‏ أن يسعى في تعرّف الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي الكريم، من الأخلاق والهدى والسَّمْت‏.‏ ثم يسعى في سلوكه بحالة منتظمة‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصد، تبلغوا‏)‏‏.‏
وقد تقدم شرح هذا الحديث، وبيان الطريق الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنها طريق سهلة توصل إلى الله، وإلى دار كرامته بسهولة وراحة، وأنها لا تقوِّت على العبد من راحاته وأموره الدنيوية شيئاً، بل يتمكن العبد معها من تحصيل المصلحتين، والفوز بالسعادتين، والحياة الطيبة‏.‏
فمتى دبر أحواله الدينية بهذا الميزان الشرعي، فقد كمل دينه وعقله‏.‏ لأن المطلوب من العقل، أو يوصل صاحبه إلى العواقب الحميدة، من أقرب طريق وأيسره‏.‏
وأما تدبير المعاش‏:‏ فإن العاقل يسعى في طلب الرزق بما يتضح له أنه أنفع له وأجدى عليه في حصول مقصوده‏.‏ ولا يتخبط في الأسباب خبط عشواء، لا يقر له قرار، بل إذا رأى سبباً فتح له به باب رزق فليلزمه وليثابر عليه، وليُجْمل في الطلب‏.‏ ففي هذا بركة مجربة‏.‏
ثم يدبر تدبيراً آخر‏.‏ وهو التدبير في التصريف والإنفاق، فلا ينفق في طرق محرمة، أو طرق غير نافعة، أو يسرف في النفقات المباحة، أو يُقَتَِر‏.‏ وميزان ذلك‏:‏ قوله تعالى في مدح الأخيار ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏ ‏.‏
فحسن التدبير في كسب الأرزاق، وحسن التدبير في الإنفاق، والتصريف، والحفظ، وتوابع ذلك‏:‏ دليل على كمال عقل الإنسان ورزانته ورشده‏.‏
وضد ذلك‏:‏ دليل على نقصان عقله، وفساد لُبِّه‏.‏
الجملة الثانية‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا ورع كالكف‏)‏‏.‏
فهذا حدٌّ جامع للورع‏.‏ بيّن به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن الورع الحقيقي هو الذي يكفُّ نفسه، وقلبه ولسانه، وجميع جوارحه عن الأمور المحرمة الضارة‏.‏ فكل ما قاله أهل العلم في تفسير الورع، فإنه يرجع إلى هذا التفسير الواضح الجامع‏.‏
فمن حفظ قلبه عن الشكوك والشبهات، وعن الشهوات المحرمة والغِلُّ والحقد، وعن سائر مساوئ الأخلاق وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والشتم، وعن كل إثم وأذى، وكلام محرم، وحفظ فرجه وبصره عن الحرام، وحفظ بطنه عن أكل الحرام، وجوارحه عن كسب الآثام فهذا هو الورع حقيقة‏.‏
ومن ضيع شيئاً من ذلك نقص من ورعه بقدر ذلك، ولهذا قال شيخ الإسلام‏:‏ الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة‏.‏
الجملة الثالثة‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا حَسَبَ كحسن الخلق‏)‏‏.‏
وذلك أن الحسب مرتبة عالية عند الخلق‏.‏ وصاحب الحسب له اعتبار وشرف بحسب ذلك‏.‏ وهو نوعان‏:‏
النوع الأول‏:‏ حسب يتعلق بنسب الإنسان وشرف بيته‏.‏وهذا النوع إنما هو مدح؛ لأنه مظنة أن يكون صاحبه عاملاً بمقتضى حسبه، مترفعاً عن الدنايا، متحلِّياً بالمكارم‏.‏ فهو مقصود لغيره‏.‏
وأما النوع الثاني‏:‏ فهو الحسب الحقيقي الذي هو وصف للعبد، وجمال له وزينة، وخير في الدنيا والدين، وهو حسن الخلق المحتوي على الحلم الواسع، والصبر والعفو، وبذل المعروف والإحسان، واحتمال الإساءة والأذى، ومخالقة طبقات الناس بخلق حسن‏.‏
وإن شئت فقل حسن الخلق نوعان‏:‏
الأول‏:‏ حسن الخلق مع الله، وهو أن تتلقى أحكامه الشرعية والقدرية بالرضى والتسليم لحكمه، والانقياد لشرعه، بطمأنينة ورضى، وشكر لله على ما أنعم به‏:‏ من الأمر والتوفيق، والصبر على أقداره المؤلمة والرضى بها‏.‏
الثاني‏:‏ حسن الخلق مع الخلق، وهو بذل الندَى، واحتمال الأذى، وكف الأذى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ، ‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏.‏
فمن قام بحسن الخلق مع الله ومع الخلق‏:‏ فقد نال الخير والفلاح‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 05:29 PM

الحديث الحادي والسبعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‏(‏جاء رجل، فقال‏:‏ يا رسول الله، أوصني‏.‏ فقال‏:‏ لا تغضب‏.‏ ثم ردَّدَ مراراً‏.‏ فقال‏:‏ لا تغضب‏)‏ رواه البخاري‏.‏
هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي‏.‏ وهو يريد أن يوصيه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كلي‏.‏ ولهذا ردد‏.‏ فلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن هذا كلام جامع‏.‏ وهو كذلك؛ فإن قوله‏:‏ ‏(‏لا تغضب‏)‏ يتضمن أمرين عظيمين‏:‏
أحدهما‏:‏ الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي‏.‏ فإذا وفِّق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه؛ فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به‏.‏ والنهي عن الشيء أمر بضده‏.‏ وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه‏.‏ وهذا منه‏.‏
الثاني‏:‏ الأمر – بعد الغضب – أن لا ينفذ غضبه؛ فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه‏.‏ فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال والمحرمة التي يقتضيها الغضب‏.‏
فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب‏.‏ وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب‏)‏‏.‏
فكمال قوة العبد‏:‏ أن يمتنع من أن تؤثر فيه قوة الشهوة، وقوة الغضب الآثار السيئة، بل يصرف هاتين القوتين إلى تناول ما ينفع في الدين والدنيا، وإلى دفع ما يضر فيهما‏.‏
فخير الناس‏:‏ من كانت شهوته وهواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغضبه ومدافعته في نصر الحق على الباطل‏.‏
وشر الناس‏:‏ من كان صريع شهوته وغضبه‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
الحديث الثاني والسبعون
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كِبْر‏.‏ فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله جميل يحب الجمال‏.‏ الكبْر‏:‏ بَطْر الحق، وغَمْط الناس‏)‏ رواه مسلم‏.‏
قد أخبر الله تعالى‏:‏ أن النار مثوى المتكبرين‏.‏ وفي هذا الحديث أنه ‏(‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏)‏ فدلّ على أن الكبر موجب لدخول النار، ومانع من دخول الجنة‏.‏
وبهذا التفسير الجامع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم يتضح هذا المعنى غاية الاتضاح؛ فإنه جعل الكبر نوعين‏:‏
كبر النوع الأول‏:‏ على الحق، وهو رده وعدم قبوله‏.‏ فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنه بحسب ما رد من الحق‏.‏ وذلك أنه فرض على العباد أن يخضعوا للحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه‏.‏
فالمتكبرون عن الانقياد للرسل بالكلية كفارٌ مخلدون في النار؛ فإنه جاءهم الحق على أيدي الرسل مؤيداً بالآيات والبراهين‏.‏ فقام الكبر في قلوبهم مانعاً، فردوه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}
يوجد نقص ص 134
فإنه ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني راض، قانع برزق الله‏.‏
فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الرابع والسبعون
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال‏:‏ يا رسول الله، عِظْني وأوجز‏.‏ فقال‏:‏ إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع، ولا تَكَلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس‏)‏ رواه أحمد‏.‏
هذه الوصايا الثلاث يا لها من وصايا، إذا أخذ بها العبد‏:‏ تمت أموره وأفلح‏.‏
فالوصية الأولى‏:‏ تتضمن تكميل الصلاة، والاجتهاد في إيقاعها على أحسن الأحوال‏.‏ وذلك بأن يحاسب نفسه على كل صلاة يصليها، وأنه سيتم جميع ما فيها‏:‏ من واجب، وفروض، وسنة، وأن يتحقق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات‏.‏ وذلك بأن يقوم إليها مستحضراً وقوفه بين يدي ربه، وأنه يناجيه بما يقوله، من قراءة وذكر ودعاء ويخضع له في قيامه وركوعه، وسجوده وخفضه ورفعه‏.‏
ويعينه على هذا المقصد الجليل‏:‏ توطين نفسه على ذلك من غير تردد ولا كسل قلبي، ويستحضر في كل صلاة أنها صلاة مودِّع، كأنه لا يصلي غيرها‏.‏
ومعلوم أن المودع، يجتهد اجتهاداً يبذل فيه كل وسعه‏.‏ ولا يزال مستصحباً لهذه المعاني النافعة، والأسباب القوية، حتى يسهل عليه الأمر، ويتعود ذلك‏.‏
والصلاة على هذا الوجه‏:‏ تنهى صاحبها عن كل خلق رذيل، وتحثه على كل خلق جميل؛ لما تؤثره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغبته التامة في الخير‏.‏
وأما الوصية الثانية‏:‏ فهي حفظ اللسان ومراقبته؛ فإن حفظ اللسان عليه المدار، وهو مِلاك أمر العبد‏.‏ فمتى ملك العبد لسانه ملك جميع أعضائه‏.‏ ومتى ملكه لسانه فلم يصنه عن الكلام الضار، فإن أمره يختل في دينه ودنياه‏.‏ فلا يتكلم بكلام، إلا قد عرف نفعه في دينه أو دنياه‏.‏ وكل كلام يحتمل أن يكون فيه انتقاد أو اعتذار فليدعه، فإنه إذا تكلم به ملكه الكلام، وصار أسيراً له‏.‏ وربما أحدث عليه ضرراً لا يتمكن من تلافيه‏.‏
وأما الوصية الثالثة‏:‏ فهي توطين النفس على التعلق بالله وحده، في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله‏.‏ ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة‏.‏ ومن أيس من شيء استغنى عنه‏.‏ فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله‏.‏ فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق‏.‏ قد تحرر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الخامس والسبعون
عن مصعب بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏‏)‏ رواه البخاري‏.‏
فهذا الحديث فيه‏:‏ أنه لا ينبغي للأقوياء القادرين أن يستهينوا بالضعفاء العاجزين، لا في أمور الجهاد والنصرة، ولا في أمور الرزق وعجزهم عن
يوجد نقص ص 138
فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث يدل على تنوع كرم الكريم، وأن كرمه وفضله متنوع من وجوه لا تعد ولا تحصى، ولا يدخل في عقول الخلق وخواطرهم‏.‏
فهذان الرجلان اللذان قتل أحدهما الآخر قيض الله لكل منهما من فضله وكرمه سبباً أوصله إلى الجنة‏.‏
فالأول‏:‏ قاتل في سبيله، وأكرمه الله على يد الرجل الآخر – الذي لم يسلم بعد – بالشهادة التي هي أعلى المراتب، بعد مرتبة الصديقين، وغرضه في جهاده إعلاء كلمة الله، والتقرب إلى ربه بذلك‏.‏ فأجره على الله‏.‏ وليس له على القاتل حق، فثبت أجره على الله‏.‏
وأما الآخر‏:‏ فإن الله تعالى جعل باب التوبة مفتوحاً لكل من أراد التوبة بالإسلام وما دونه، ولم يجعل ذنباً من الذنوب مانعاً من قبول التوبة، كما قال تعالى في حق التائبين‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}
فلما أسلم وتاب محا الله عنه الكفر وآثاره، ثم منَّ عليه بالشهادة، فدخل الجنة، كأخيه الذي قتله وأكرمه على يده، ولم يهنه على يد أخيه بقتله، وهو كافر‏.‏
فهذا الضحك من الباري يدل على غاية كرمه وجوده، وتنوع بره‏.‏
وهذا الضحك الوارد في هذا الحديث وفي غيره من النصوص كغيره من صفات الله‏.‏ على المؤمن أن يعترف بذلك ويؤمن به، وأنه حق على حقيقته، وأن صفاته صفات كمال، ليس له فيها مثل، ولا شبه ولا ند‏.‏
فكما أن لله ذاتاً لا تشبهها الذوات فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات، وكلها صفات حمد ومجد وتعظيم، وجلال وجمال وكمال‏.‏ فنؤمن بما جاء به الكتاب والسنة من صفات ربنا، ونعلم أنه لا يتم الإيمان والتوحيد إلا بإثباتها على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه ومجده‏.‏
وهذا الحديث من جملة الأحاديث المرغبة في الدخول في الإسلام وفتح أبواب التوبة بكل وسيلة؛ فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وما عمله الإنسان في حال كفره، وقد أسلم على ما أسلف، حتى الرقاب التي قتلها نصراً لباطله، والأموال التي استولى عليها من أجل ذلك‏.‏ كل ذلك معفو عنه بعد الإسلام‏.‏
وقولنا‏:‏ ‏(‏من أجل ذلك‏)‏ احتراز ن الحقوق التي اقتضتها المعاملات بين المسلمين والكفار؛ فإن الكافر إذا أسلم وعليه حقوق وديون وأعيان أخذها وحصلت له بسبب المعاملة، فإن الإسلام لا يسقطها؛ لأنها معاملات مشتركة بين الناس، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم‏.‏ بخلاف القسم الأول‏.‏ فإن كلام من الطرفين – المسلمين والكفار – إذا حصل الحرب، وترتب عليه قتل وأخذ مال، لا يرد إلا طوعاً، وتبرعاً ممن وصل إليه‏.‏ والله أعلم‏.‏
ويشبه هذا من بعض الوجوه، قتال أهل البغي لأهل العدل، حيث لم يضمنهم العلماء ما أتلفوه حال الحرب، من نفوس وأموال للتأويل، كما أجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم حين وقعت الفتنة، فأجمعوا على أن ما تلف من نفوس، وأتلف من أموال، ليس فيه ضمان من الطرفين‏.‏
وفي قوله‏:‏ ‏(‏ثم يتوب الله على الآخر فيسلم‏)‏ دليل على أن توبة الله على من أسلم أو تاب من ذنوبه متقدمة على توبة العبد؛ فإنه تعالى أذن بتوبته وقدرها، ولطف به، إذ قيض له الأسباب الموجبة لتوبته، فتاب العبد، ثم تاب الله عليه بعد ذلك، بأن محا عنه ما سبق من الجرائم – الكفر فما دونه – فتوبة العبد محفوفة بتوبتين، تفضل بهما عليه ربه‏:‏ إذنه له وتقديره وتيسيره للتوبة حتى تاب، ثم قبول توبته ومحو زلته‏.‏ فهو تعالى التواب الرحيم‏.‏
والتوبة من أجلّ الطاعات وأعظمها فهذا الحكم ثابت في جميع الطاعات كلها‏.‏ يوفق الله لها العبد أو لا، وييسر له أسبابها، ويسهل له طرقها‏.‏ ثم إذا فعلها المطيع قبلها، وكتب له بها رضوانه، وثوابه، فما أوسع فضل الكريم‏.‏ وما أغزر كرمه المتنوع العميم‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث السابع والسبعون
عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يتمنين أحدكم الموت لضرر أصابه‏.‏ فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل‏:‏ اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا نهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء‏.‏ فإن في تمني الموت لذلك مفاسد‏.‏
منها‏:‏ أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته‏.‏
ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك‏.‏
ومنها‏:‏ أنه يُضعف النفس، ويحدث الخَوَر والكسل‏.‏ ويوقع في اليأس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به‏.‏ وذلك موجب لأمرين‏:‏ اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه‏.‏
ومنها‏:‏ أن تمنى الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله‏.‏
ومنها‏:‏ أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له‏.‏ فكيف يتمنى انقطاع عملٍ، الذَّرةُ منه خير من الدنيا وما عليها‏.‏
وأخص من هذا العموم‏:‏ قيامه بالصبر على الضر الذي أصبه‏.‏ فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب‏.‏
ولهذا قال في آخر الحديث‏:‏ ‏(‏فإن كان لا بد فاعلاُ فليقلك اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي‏)‏ فيجعل العبد الأمر مفوضاً إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، الذي يعلم من مصالح عبده ما لا يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده، ويلطف به في بلائه كما يلطف به في نعمائه‏.‏
والفرق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت‏.‏ اللهم ارحمني إن شئت‏.‏ ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له‏)‏ ‏:‏أن المذكور في هذا الحديث الذي فيه التعليق بعلم الله وإرادته‏:‏ هو في الأمور المعيّنة التي لا يدري العبد من عاقبتها ومصلحتها‏.‏
وأما المذكور في الحديث الآخر‏:‏ فهي الأمور التي يعلم مصلحتها بل ضرورتها وحاجة كل عبد إليها‏.‏ وهي مغفرة الله ورحمته ونحوها‏.‏ فإن العبد يسألها ويطلبها من ربه طلباً جازماً، لا معلقاً بالمشيئة وغيرها؛ لأنه مأمور ومحتم عليه السعي فيها، وفي جميع ما يتوسل به إليها‏.‏
وهذا كالفرق بين فعل الواجبات والمستحبات الثابت الأمر بها؛ فإن العبد يؤمر بفعلها أمر إيجاب أو استحباب، وبعض الأمور المعينة التي لا يدري العبد من حقيقتها ومصلحتها، فإنه يتوقف حتى يتضح له الأمر فيها‏.‏
واستثنى كثير من أهل العلم من هذا، جواز تمني الموت خوفاً من الفتنة‏.‏ وجعلوا من هذا قول مريم رضي الله عنها‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا‏}‏ كما استثنى بعضهم تمني الموت شوقاً إلى الله‏.‏ وجعلوا منه قول يوسف صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏.‏
وفي هذا نظر؛ فإن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يتمن الموت‏.‏ وإنما سأل الله الثبات على الإسلام، حتى يتوفاه مسلماً، كما يسأل العبد ربه حسن الخاتمة‏.‏ والله أعلم‏.‏

عبدالرحمن حموده 23 - 8 - 2010 06:02 PM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير

ميارى 23 - 8 - 2010 06:20 PM

الحديث الثامن والسبعون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الدنيا حلوة خضرة‏.‏ وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء‏)‏ رواه مسلم‏.‏
أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بحال الدنيا وما هي عليه من الوصف الذي يروق الناظرين والذائقين‏.‏ ثم أخبر أن الله جعلها محنة وابتلاء للعباد‏.‏ ثم أمر بفعل الأسباب، التي تقي من الوقوع في فتنتها‏.‏
فإخباره بأنها حلوة خضرة يعم أوصافها التي هي عليها‏.‏ فهي حلوة في مذاقها وطعمها، ولذاتها وشهواتها، خضرة في رونقها وحسنها الظاهر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏.‏
فهذه اللذات المنوعة فيها، والمناظر البهيجة، جعلها الله ابتلاء منه وامتحاناً، واستخلف فيها العباد لينظر كيف يعملون‏؟‏
فمن تناولها من حلها، ووضعها في حقها، واستعان بها على ما خلق له من القيام بعبودية الله، كانت زاداً له وراحلة إلى دار أشرف منها وأبقى، وتمت له السعادة الدنيوية والأخروية‏.‏
ومن جعلها أكبر همه، وغاية علمه ومراده، لم يؤتَ منها إلا ما كتب له‏.‏ وكان مآله بعد ذلك إلى الشقاء، ولم يهنأ بلذاتها ولا شهواتها إلا مدة قليلة‏.‏ فكانت لذاته قليلة‏.‏ وأحزانه طويلة‏.‏
وكل نوع من لذاتها فيه هذه الفتنة والاختبار‏.‏ ولكن أبلغ ما يكون وأشد فتنة‏:‏ النساء؛ فإن فتنتهن عظيمة، والوقوع فيها خطير وضررها كبير؛ فإنهن مصائد الشيطان وحبائله، كما صاد بهن من مُعافى فأصبح أسير شهوته، رهين ذنبه، قد عَزَّ عليه الخلاص، والذنب ذنبه فإنه الذي لم يحترز من هذه البلية، وإلا فلو تحرز منها، ولم يدخل مداخل التهم، ولا تعرض للبلاء، واستعان باعتصامه بالمولى، لنجا من هذه الفتنة، وخلص من هذه المحنة‏.‏
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث منها على الخصوص‏.‏ وأخبر بما جَرَّت على من قبلنا من الأمم؛ فإن في ذلك عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث التاسع والسبعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها‏:‏ قول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وأدناها‏:‏ إماطة الأذى عن الطريق‏.‏ والحياء شعبة من الإيمان‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث من جملة النصوص الدالة على أن الإيمان اسم يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان فكل ما يقرب إلى الله، وما يحبه ويرضاه، من واجب ومستحب فإنه داخل في الإيمان‏.‏ وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو الحياء ولعل ذكر الحياء؛ لأنه السبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان‏.‏ فإن من استحيا من الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجليه عليه بأسمائه الحسنى، والعبد – مع هذا كثير التقصير مع هذا الرب الجليل الكبير يظلم نفسه ويجني عليها – أوجب له هذا الحياء التوقِّي من الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبات‏.‏
فأعلى هذه الشعب وأصلها وأساسها‏:‏ قول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏ صادقاً من قلبه بحيث يعلم ويوقن أنه لا يستحق هذا الوصف العظيم، وهو الألوهية إلا الله وحده؛ فإنه هو ربه الذي يربيه ويربي جميع العالمين بفضله وإحسانه‏.‏ والكل فقير وهو الغني والكل عاجز وهو القوي، ثم يقوم في كل أحواله بعبوديته لربه، مخلصاً له الدين؛ فإن جميع شعب الإيمان فروع وثمرات لهذا الأصل‏.‏
ودلّ على أن شعب الإيمان بعضها يرجع إلى الإخلاص للمعبود الحق، وبعضها يرجع إلى الإحسان إلى الخلق‏.‏
ونبه بإماطة الأذى على جميع أنواع الإحسان القولي والفعلي‏.‏ الإحسان الذي فيه وصول المنافع، والإحسان الذي فيه دفع المضار عن الخلق‏.‏
وإذا علمنا أن شعب الإيمان كلها ترجع إلى هذه الأمور، علمنا أن كل خصلة من خصال الخير فهي من الشعب‏.‏ وقد تكلم العلماء على تعيينها‏.‏
فمنهم‏:‏ من وصل إلى هذا المبلغ المقدر في الحديث‏.‏
ومنهم‏:‏ من قارب ذلك، ولكن إذا فهم المعنى تمكن الإنسان أن يعتد بكل خصلة وردت عن الشارع – قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة – من الشعب‏.‏ ونصيب العبد من الإيمان بقدر نصيبه نم هذه الخصال، قلة وكثرة، وقوة وضعفاً، وتكميلاً وضده‏.‏ وهي ترجع إلى تصديق خبر الله وخبر رسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما‏.‏
وقد وصف الله الإيمان بالشجرة الطيبة في أصلها وثمراتها، التي أصلها ثابت، وفروعها باسقة في السماء‏.‏ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏.‏ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثمانون
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه تَرْجمان فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم‏.‏ وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تِلقَاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة‏.‏ فمن لم يجد فبكلمة طيبة‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا حديث عظيم‏.‏ تضمن من عظمة الباري ما لا تحيط به العقول ولا تعبر عنه الألسن‏.‏
أخبر صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ أن جميع الخلق سيكلمهم الله مباشرة من دون ترجمان ولا واسطة‏.‏ ويسألهم عن جميع أعمالهم‏:‏ خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العباد وما نسوه منها‏.‏ وذلك أنه لعظمته وكبريائه كما يخلقها ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة، فإنه يحاسبه جميعهم في ساعة واحدة‏.‏ فتبارك من له العظمة والمجد، والملك العظيم والجلال‏.‏
وفي هذه الحالة التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار ولا أعوان ولا أولاد ولا أموال‏.‏ قد جاءه فرداً كما خلقه أول مرة‏.‏ قد أحاطت به أعماله تطلب الجزاء بالخير أو الشر، عن يمينه وشماله، وأمامه النار لابد له من ورودها‏.‏ فهل إلى صدوره منها سبيل‏؟‏ لا سبيل إلى ذلك إلا برحمة الله، وبما قدمت يداه من الأعمال المنجية منها‏.‏
ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتقاء النار ولو بالشيء اليسير، كشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ أن من أعظم المنجيات من النار، الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئاً قليلاً، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية‏.‏
وتشمل الكلام المسر للقلوب، الشارح للصدور، المقارن للبشاشة والبشر‏.‏
وتشمل الذكر لله والثناء عليه، وذكر أحكامه وشرائعه‏.‏
فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله‏.‏ فهو داخل في الكلمة الطيبة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ ‏[‏وهي كل عمل وقول يقرب إلى الله، ويحصل به النفع لخلقه‏]‏ ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 06:23 PM

الحديث الحادي والثمانون
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏دعوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم‏.‏ فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذه الأسئلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها‏:‏ هي التي نهى الله عنها في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}
وهي الأسئلة عن أشياء من أمور الغيب، أو من الأمور التي عفا الله عنها، فلم يحرمها ولم يوجبها‏.‏ فيسأل السائل عنها وقت نزول الوحي والتشريع‏.‏ فربما وجبت بسبب السؤال‏.‏ وربما حرمت كذلك‏.‏ فيدخل السائل في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعظم المسلمين جرماً‏:‏ من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته‏)‏‏.‏
وكذلك ينهى العبد عن سؤال التعنت والأغلوطات، وينهى أيضاً عن أن يسأل عن الأمور الطفيفة غير المهمة‏.‏ ويدع السؤال عن الأمور المهمة‏.‏ فهذه الأسئلة وما أشبهها هي التي نهى الشارع عنها‏.‏
وأما السؤال على وجه الاسترشاد عن المسائل الدينية من أصول وفروع، عبادات أو معاملات، فهي مما أمر الله بها ورسوله، ومما حث عليها‏.‏ وهي الوسيلة لتعلم العلوم، وإدراك الحقائق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ إلى غيرها من الآيات‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين‏)‏ وذلك بسلوك طريق التفقه في الدين دراسة وتعلما وسؤالا، وقال‏:‏ ‏(‏ألا سألوا إذ لم يعلموا‏؟‏ فإنما شفاء العِيِّ السؤال‏)‏‏.‏
وقد أمر الله بالرفق بالسائل، وإعطائه مطلوبه، وعدم التضجر منه‏.‏ وقال في سورة الضحى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}
فهذا يشمل السائل عن العلوم النافعة والسائل لما يحتاجه من أمور الدنيا، من مال وغيره‏.‏
ومما يدخل في هذا الحديث‏:‏ السؤال عن كيفية صفات الباري؛ فإن الأمر في الصفات كلها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش‏؟‏ فقال‏:‏
‏"‏الاستواء معلوم‏.‏ والكيف مجهول‏.‏ والإيمان به واجب‏.‏ والسؤال عنه بدعة‏)‏‏.‏
فمن سأل عن كيفية علم الله، أو كيفية خلقه وتدبيره، قيل له‏:‏ فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله، ويعرفون ما تعرف لهم به، من صفاته وأفعاله‏.‏ وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله‏.‏
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصلين عظيمين‏:‏
أحدهما‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا نهيتكم عنه فاجتنبوه‏)‏ فكل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة‏:‏ وجب تركه، والكف عنه؛ امتثالاً وطاعة لله ورسوله‏.‏
ولم يقل في النهي‏:‏ ما استطعتم لأن النهي طلب كف النفس، وهو مقدور لكل أحد، فكل أحد يقدر على ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله‏.‏ ولم يضطر العباد إلى شيء من المحرمات المطلقة؛ فإن الحلال واسع، يسع جميع الخلق في عباداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم‏.‏
وأما إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر، فإنه في هذه الحالة الملجئة إليه قد صار من جنس الحلال؛ فإن الضرورات تبيح المحظورات، فتصيرها الضرورة مباحة؛ لأنه تعالى إنما حرم المحرمات حفظاً لعباده، وصيانة لهم عن الشرور والمفاسد، ومصلحة لهم فإذا قاوم ذلك مصلحة أعظم – وهو بقاء النفس – قدمت هذه على تلك رحمة من الله وإحساناً‏.‏
وليست الأدوية من هذا الباب، فإن الدواء لا يدخل في باب الضرورات، فإن الله تعالى يشفي المبتلى بأسباب متنوعة، لا تتعين في الدواء‏.‏ وإن كان الدواء يغلب على الظن الشفاء به، فإنه لا يحل التداوي بالمحرمات، كالخمر وألبان الحمر الأهلية، وأصناف المحرمات، بخلاف المضطر إلى أكل الميتة، فإنه يتيقن أنه إذا لم يأكل منها يموت‏.‏
الأصل الثاني‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم‏)‏ وهذا أصل كبير، دلّ عليه أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏.‏
فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته، فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية، سقط عنه وجوبه‏.‏ وإذا قدر على بعضه – وذلك البعض عبادة – وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه‏.‏
ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يعد ولا يحصى‏.‏ فيصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى قاعداً، فإن لم يستطع صلى على جنبه‏.‏ فإن لم يستطع الإيماء برأسه أومأ بطرفه‏.‏ ويصوم العبد ما دام قادراً عليه‏.‏ فإن أعجزه مرض لا يُرْجى زواله، أطعم عنه كل يوم مسكين‏.‏ وإن كان مرضاً يرجى زواله‏:‏ أفطر، وقضى عدته من أيام أخر‏.‏
ومن ذلك، من عجز عن سترة الصلاة الواجبة، أو عن الاستقبال، أو توقِّي النجاسة‏:‏ سقط عنه ما عجز عنه‏.‏ وكذلك بقية شروط الصلاة وأركانها، وشروط الطهارة‏.‏
ومن تعذرت عليه الطهارة بالماء للعدم، أو للضرر في جميع الطهارة، أو بعضها‏:‏ عدل إلى طهارة التيمم‏.‏
والمعضوب في الحج، عليه أن يستنيب من يحج عنه، إذا كان قادراً على ذلك بماله‏.‏
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب على من قدر عليه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب‏.‏
وليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج في ترك العبادات التي يعجزون عنها، أو تشق عليهم مشقة غير محتملة‏.‏
ومن عليه نفقة واجبة، وعجز عن جميعها، بدأ بزوجته، فرفيقه، فالولد، فالوالدين، فالأقرب ثم الأقرب‏.‏ وكذلك الفطرة‏.‏
وهكذا جميع ما أمر به العبد أمر إيجاب أو استحباب، إذا قدر على بعضه، وعجز عن باقيه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما عجز عنه‏.‏ وكلها داخلة في هذا الحديث‏.‏
ومسائل القرعة لها دخول في هذا الأصل؛ لأن الأمور إذا اشتبهت‏:‏ لمن هي، ومن أحق بها‏؟‏ رجعنا إلى المرجحات‏.‏ فإن تعذر الترجيح من كل وجه، سقط هذا الواجب للعجز عنه، وعدل إلى القرعة التي هي غاية ما يمكن‏.‏ وهي مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه‏.‏
والولايات كلها – صغارها وكبارها – تدخل تحت هذا الأصل؛ فإن كل ولاية يجب فيها تولية المتصف بالأوصاف التي يحصل بها مقصود الولاية‏.‏ فإن تعذرت كلها، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل‏.‏
وكما يستدل على هذا الأصل بتلك الآية وذلك الحديث، فإنه يستدل عليها بالآيات والأحاديث التي نفى الله ورسوله فيها الحرج عن الأمة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ، ‏{‏لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا‏}‏ ، ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ، ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ‏}‏ ، ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ، ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ‏}‏ ‏.‏
فالتخفيفات الشرعية في العبادات وغيرها بجميع أنواعها داخلة في هذا الأصل، مع ما يستدل على هذا بما لله تعالى من الأسماء والصفات المقتضية لذلك، كالحمد والحكمة، والرحمة الواسعة، واللطف والكرم والامتنان‏.‏ فإن آثار هذه الأسماء الجليلة الجميلة كما هي سابغة وافرة واسعة في المخلوقات والتدبيرات، فهي كذلك في الشرائع، بل أعظم؛ لأنها هي الغاية في الخلق‏.‏ وهي الوسيلة العظمى للسعادة الأبدية‏.‏
فالله تعالى خلق المكلفين ليقوموا بعبوديته‏.‏ وجعل عبوديته والقيام بشرعه طريقاً إلى نيل رضاه وكرامته‏.‏ كما قال تعالى – بعد ما شرع الطهارة بأنواعها – ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}
فظهرت آثار رحمته ونعمته في الشرعيات والمباحات، كما ظهرت في الموجودات‏.‏ فله تعالى أتمّ الحمد وأعلاه، وأوفر الشكر والثناء وأغلاه، وغاية الحب والتعظيم ومنتهاه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ميارى 23 - 8 - 2010 06:24 PM

الحديث الثاني والثمانون
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لا يرحم الناس‏:‏ لا يرحمه الله‏)‏ متفق عليه‏.‏
يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏الراحمون يرحمهم الرحمن‏.‏ ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء‏)‏‏.‏
فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله‏.‏
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله‏.‏ والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم‏.‏
والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان‏:‏
النوع الأول‏:‏ رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم‏.‏ فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم‏.‏
والنوع الثاني‏:‏ رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك‏.‏ ويعلم أن الجزاء من جنس العمل‏.‏ ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك‏:‏ من البغضاء، والعداوات، والتدابر‏.‏
فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق‏.‏
ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل‏.‏
وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم‏.‏
وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم‏.‏ فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته‏.‏
ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد‏:‏ ‏(‏ما هذا يا رسول الله‏؟‏‏)‏ فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال‏:‏ ‏(‏هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء‏)‏ وقال عند موت ابنه إبراهيم‏:‏ ‏(‏القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا‏.‏ وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون‏)‏‏.‏
وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي‏:‏ إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة‏؟‏‏)‏‏.‏
ومن الرحمة‏:‏ رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش‏.‏ فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة‏.‏
وضدها‏:‏ تعذيب المرأة التي ربطت الهرة، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، حتى ماتت‏.‏
ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها‏.‏ ومن أساء إليها‏:‏ عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها‏.‏
فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم‏.‏


الحديث الثالث والثمانون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رحمه‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث فيه‏:‏ الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل، بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه‏.‏ وسبب لطول العمر‏.‏ وذلك حق على حقيقته؛ فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها‏.‏
وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقاً يُنال به‏.‏ وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده، جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزق، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل‏.‏
وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب، من أسباب طول العمر‏.‏ فكذلك صلة الرحم جعلها الله سبباً ربانياً، فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان‏:‏ أمور محسوسة، تدخل في إدراك الحواس، ومدارك العقول‏.‏ وأمور ربانية إلهية قَدَّرها مَنْ هو على كل شيء قدير، ومَنْ جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته، ومَنْ تكفل بالكفاية للمتوكلين، ووعد بالرزق والخروج من المضائق للمتقين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما نقصت صدقة من مال‏)‏ بل تزيده‏.‏ فكيف بالصدقة والهدية على أقاربه وأرحامه‏؟‏
وفي هذا الحديث دليل‏:‏ على أن قصد العامل، ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد وجه الله والدار الآخرة‏.‏ فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل‏.‏ ووعد بذلك العاملين؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين، ويبعث هممهم على الخير‏.‏ كما أن الوعيد على الجرائم، وذكر عقوباتها مما يخوِّف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم‏.‏
فالمؤمن الصادق يكون في فعله وتركه مخلصاً لله، مستعيناً بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى‏.‏ والله الموفق‏.‏
الحديث الرابع والثمانون
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث فيه‏:‏ الحث على قوة محبة الرسل واتباعهم بحسب مراتبهم، والتحذير من محبة ضدهم؛ فإن المحبة دليل على قوة اتصال المحب بمن يحبه، ومناسبته لأخلاقه، واقتدائه به‏.‏ فهي دليل على وجود ذلك‏.‏ وهي أيضاً باعثة على ذلك‏.‏
وأيضاً من أحب لله تعالى، فإن نفس محبته من أعظم ما يقربه إلى الله؛ فإن الله تعالى شكور، يعطي المتقرب أعظم – بأضعاف مضاعفة – مما بذل‏.‏ ومن شكره تعالى‏:‏ أن يلحقه بمن أحب، وإن قصر عمله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏ ‏.‏
ولهذا قال أنس‏:‏ ‏(‏ما فرحنا بشيء فرحنا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏.‏ قال‏:‏ فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم‏)‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ‏}‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏.‏
وهذا مشاهد مجرب إذا أحب العبد أهل الخير رأيته منضماً إليهم، حريصاً على أن يكون مثلهم‏.‏ وإذا أحب أهل الشر انضم إليهم، وعمل بأعمالهم‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل‏"‏، ‏(‏ومثل الجليس الصالح، كحامل المسك‏:‏ إما أن يَحْذيك وإما أن يبيعك، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ومثل الجليس السوء كنافخ الكِيْر‏:‏ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة‏)‏‏.‏
وإذا كان هذا في محبة الخلق فيما بينهم، فكيف بمن أحب الله، وقدَّم محبته وخشيته على كل شيء‏؟‏ فإنه مع الله، وقد حصل له القرب الكامل منه‏.‏ وهو قرب المحبين، وكان الله معه‏.‏ فـ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏‏.‏
وأعلى أنواع الإحسان محبة الرحيم الكريم الرحمن، محبة مقرونة بمعرفته‏.‏
فنسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه، وحب العمل الذي يقرّب إلى حبه؛ إنه جواد كريم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ميارى 24 - 8 - 2010 12:31 AM

الحديث الخامس والثمانون
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر‏:‏ كبر ثلاثاً، ثم قال‏:‏ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقْرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏.‏ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البِرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى‏.‏ اللهم هَوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عَنَّا بُعده‏.‏ اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل‏.‏ اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل والولد‏.‏ وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن‏:‏ آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون‏)‏ رواه مسلم‏.‏
هذا الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر‏.‏
وقد اشتملت هذه الأدعية على طلب مصالح الدين – التي هي أهم الأمور – ومصالح الدنيا، وعلى حصول المحاب، ودفع المكاره والمضار وعلى شكر نعم الله، والتذكر لآلائه وكرمه، واشتمال السفر على طاعة الله، وما يقرب إليه‏.‏
فقوله‏:‏ ‏(‏كان إذا استوى على راحلته خارجاً إلى سفر‏:‏ كبر ثلاثاً‏)‏ هو افتتاح لسفره بتكبير الله، والثناء عليه، كما كان يختم بذلك‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏)‏ فيه الثناء على الله بتسخيره للمركوبات، التي تحمل الأثقال والنفوس إلى البلاد النائبة، والأقطار الشاسعة، واعتراف بنعمة الله بالمركوبات‏.‏
وهذا يدخل فيه المركوبات‏:‏ من الإبل، ومن السفن البحرية، والبرية، والهوائية‏.‏ فكلها تدخل في هذا‏.‏
ولهذا قال نوح صلى الله عليه وسلم للراكبين معه في السفينة‏:‏ ‏{‏ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏
فهذه المراكب، كلها وأسبابها، وما به تتم وتكمل، كله من نعم الله وتسخيره‏.‏ يجب على العباد الاعتراف لله بنعمته فيها، وخصوصاً وقت مباشرتها‏.‏
وفيه‏:‏ تذكر الحالة التي لولا الباري لما حصلت وذللت في قوله‏:‏ ‏(‏وما كنا له مقرنين‏)‏ أي مطيقين، لو رَدَّ الأمر إلى حولنا وقوتنا، لكنَّا أضعف شيء علماً، وقدرة وإرادة، ولكنه تعالى سخر الحيوانات وعلَّم الإنسان صنعة المركوبات، كما امتن الله في تيسير صناعة الدروع الواقعية في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ‏}‏ ‏.‏
فعلى الخلق أن يشكروا الله، إذ علمهم صناعة اللباس الساتر للعورات، ولباس الرياش، ولباس الحرب وآلات الحرب‏.‏ وعلمهم صنعة الفلك البحرية والبرية والهوائية، وصنعة كل ما يحتاجون إلى الانتفاع به، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس متنوعة‏.‏ ولكن أكثر الخلق في غفلة عن شكر الله، بل في عتو واستكبار على الله، وتجبر بهذه النعم على العباد‏.‏
وفي هذا الحديث التذكر بسفر الدنيا الحِسِّي لسفر الآخرة المعنوي؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وإنا إلى ربنا لمنقلبون‏)‏ فكما بدأ الخلق فهو يعيدهم ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى‏)‏‏.‏
سأل الله أن يكون السفر موصوفاً بهذا الوصف الجليل، محتوياً على أعمال البر كلها المتعلقة بحق الله والمتعلقة بحقوق الخلق، وعلى التقوى التي هي اتقاء سخط الله، بترك جميع ما يكرهه الله من الأعمال، والأقوال، الظاهرة والباطنة، كما سأله العمل بما يرضاه الله‏.‏
وهذا يشمل جميع الطاعات والقربات‏.‏ ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السفر الرابح، وهو السفر المبارك‏.‏
وقد كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة‏.‏
ثم سأل الله الإعانة، وتهوين مشاق السفر، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطَوِعَنَّا بعده‏)‏ لأن السفر قطعة من العذاب‏.‏ فسأل تهوينه، وطَيَّ بعيده‏.‏ وذلك بتخفيف الهموم والمشاق، وبالبركة في السير، حتى يقطع المسافات البعيدة، وهو غير مكترث، ويقيّض له من الأسباب المريحة في السفر أموراً كثيرة، مثل راحة القلب، ومناسبة الرفقة، وتيسير السير، وأمن الطريق من المخاوف، وغير ذلك من الأسباب‏.‏
فكم من سفر امتد أياماً كثيرة، لكن الله هونه، ويسره على أهله‏.‏ وكم من سفر قصير صار أصعب من كل صعب‏.‏ فما ثَمَّ إلا تيسير الله ولطفه ومعونته‏.‏
ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر‏)‏ أي‏:‏ مشقته وصعوبته ‏(‏وكآبة المنظر‏)‏ أي‏:‏ الحزن الملازم والهم الدائم ‏(‏وسوء المنقلب، في المال والأهل الوالد‏)‏ أي‏:‏ يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلّفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتواترة علينا وعليهم؛ فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور‏.‏
وكذلك يقول هذا في رجوعه، وعوده من سفره‏.‏ ويزيد‏:‏ ‏(‏آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون‏)‏ أي‏:‏ نسألك اللهم أن تجعلنا في إيابنا ورجوعنا ملازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأن تختم سفرنا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها‏.‏
ولهذا قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا‏}
ومدخل الصدق ومخرجه، أن تكون أسفار العبد ومداخله ومخارجه كلها تحتوي على الصدق والحق، والاشتغال بما يحبه الله، مقرونة بالتوكل على الله، ومصحوبة بمعونته‏.‏
وفيه اعتراف بنعمته آخراً، كما اعترف بها أولاً، في قوله‏:‏ ‏(‏لربنا حامدون‏)‏‏.‏
فكما أن على العبد أن يحمد الله على التوفيق لفعل العبادة والشروع في الحاجة فعليه أن يحمد الله على تكميلها وتمامها، والفراغ منها؛ فإن الفضل فضله، والخير خيره، والأسباب أسبابه‏.‏ والله ذو الفضل العظيم‏.‏
الحديث السادس والثمانون
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏
هذا كلام جامع‏.‏ استدل به أهل العلم على مشروعية جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاله في حجة وجوباً في الواجبات، ومستحباً في المستحبات، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ فكما أن ذلك يشمل جزئيات الصلاة كلها‏.‏ فهذا يشمل جزئيات المناسك كلها‏.‏
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام حسن جداً في خلاصة حج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ذكره في القواعد النورانية‏.‏ فقال قدس الله روحه ورضي عنه‏:‏
وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهل بعمرة فليفعل‏.‏ ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل‏.‏ ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل‏)‏ فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه لا يُحل حتى يَبْلغ الهديُ مَحِلَّه ، فراجعه بعضهم في ذلك‏.‏ فغضب، وقال‏:‏ ‏(‏انظروا ما أمرتكم به فافعلوه‏)‏‏.‏ وكان هو صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فلم يحل من إحرامه‏.‏ ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي‏.‏ ولجعلتها عمرة، ولولا أن معي الهدي لأحللت‏)‏‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏(‏إني لَبِّدْتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر‏)‏‏.‏ فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي، منهم‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله‏.‏ فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج، وهم ذاهبون إلى منى‏.‏ فبات بهم تلك الليلة بمنى‏.‏ وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر‏.‏ ثم سار بهم إلى نمرة، على طريق ضَبٍّ، ونمرة خارجة من عرفة، من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم، ولا من عرفة‏.‏ فنصبت له القبة بنمرة‏.‏ وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده، وبها الأسواق، وقضاء الحاجة، والأكل، ونحو ذلك‏.‏ فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عُرنَةَ، حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم، ولا من عَرَفَة‏.‏ وإنما هو برزخ بين المشعرين‏:‏ الحلال والحرام هناك، بينه وبين الموقف نحو ميل‏.‏ فخطب فيهم خطبة الحج على راحلته‏.‏ وكان يوم الجمعة، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين‏.‏ ثم سار – والمسلمون معه – إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة‏.‏ واسمه ‏(‏إلال‏)‏ على وزن هلال‏.‏ وهو الذي تسميه العامة عرفة‏.‏ فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس‏.‏ فدفع بهم إلى مزدلفة، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال، حين نزلوا بمزدلفة، وبات بها حتى طلع الفجر، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها، مغلساً بها زيادة على كل يوم، ثم وقف عند قُزَح، وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام‏.‏ فلم يزل واقفاً بالمسلمين إلى أن أسفر جداً، ثم دفع بهم حتى قدم منى، فاستفتحها برمي جمرة العقبة، ثم رجع إلى منزله بمنى، ثم أتى المنحر ونحر ثلاثاً وستين بَدَنة من الهدي الذي ساقه‏.‏ وأمر عليَاً فنحر الباقي‏.‏ وكان مائة بدنة ثم حلق رأسه‏.‏ ثم أفاض إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة‏.‏ وكان قد عَجَّل ضَعَفة أهله من مزدلفة قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل‏.‏ ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث، يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة، يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يستفتح بالجمرة الأولى – وهي الصغرى، وهي الدنيا إلى مني – والقصوى من مكة‏.‏ ويختتم بجمرة العقبة، ويقف بين الجمرتين‏:‏ الأولى والثانية، وبين الثانية والثالثة وقوفاً طويلاً بقدر سورة البقرة، يذكر الله ويدعو ؛ فإن المواقف ثلاث‏:‏ عرفة ومزدلفة، ومنى‏.‏ ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون، فنزل بالمحصَّب، عند خيف بني كنانة، فبات هو والمسلمون ليلة الأربعاء‏.‏ وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن؛ لتعتمر من التنعيم، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة، من طريق أهل المدينة‏.‏ وقد بُني بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة؛ لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة؛ لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة‏.‏ فلم تطف قبل الوقوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة‏)‏ ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة‏.‏ ولم يقم بعد أيام التشريق، ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة – رضي الله عنها – وحدها فأخذ فقهاء الحديث – كأحمد وغيره – بسنته في ذلك كله، إلى آخر ما قال رحمه الله ورضي عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث السابع والثمانون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ تعدل ثلث القرآن‏)‏ رواه مسلم‏.‏
تكلم أهل العلم على معنى هذه المعادلة وتوجيهها‏.‏
وأحسن ما قيل فيها‏:‏ أن معادلتها لثلث القرآن؛ لما تضمنته من المعاني العظيمة‏:‏ معاني التوحيد، وأصول الإيمان‏.‏ فإن المواضيع الجليلة التي اشتمل القرآن عليها‏:‏
1- إما أحكام شرعية‏:‏ ظاهرة أو باطنة، عبادات أو معاملات‏.‏
2- وإما قصص وأخبار عن المخلوقات السابقة واللاحقة، وأحوال المكلفين في الجزاء على الأعمال‏.‏
3- وإما توحيد ومعارف، تتعلق بأسماء الله وصفاته، وتفرده بالوحدانية والكمال، وتنزهه عن كل عيب، ومماثلة أحد من المخلوقات‏.‏
فسورة ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ مشتملة على هذا، وشاملة لكل ما يجب اعتقاده من هذا الأصل، الذي هو أصل الأصول كلها‏.‏
ولهذا أمنا الله أن نقولها بألسنتنا، ونعرفها بقلوبنا، ونعترف بها وندين لله باعتقادها‏.‏ والتعبد لله بها، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏
فالله‏:‏ هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون هو المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس، ذو الجلال والإكرام‏.‏
و‏"‏الأحد‏)‏ يعني‏:‏ الذي تفرد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال‏.‏
فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه‏.‏ فهو الأحد في حياته وقيوميته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات‏.‏
ومن تحقيق أحديته وتفرده بها أنه ‏(‏الصمد‏)‏ أي‏:‏ الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها‏.‏ ووصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم‏.‏ وهو المصمود إليه، المقصود في جميع الحوائج والنوائب ‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}
فهو الغني بذاته، وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم، في إيجادهم وإعدادهم وإمدادهم بكل ما هم محتاجون إليه من جميع الوجوه‏.‏ ليس لأحد منها غني عنه مثقال ذرة، في كل حالة من أحوالها‏.‏
فالصمد‏:‏ هو المصمود إليه، المقصود في كل شيء؛ لكماله وكرمه وجوده وإحسانه‏.‏ ولذلك ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏ فإن المخلوقات كلها متولد بعضها من بعض، وبعضها والد بعض، وبعضها مولود وكل مخلوق فإنه مخلوق من مادة، وأما الرب جل جلاله، فإنه منزه عن مماثلتها في هذا الوصف، كما هو منزه عن مماثلتها في كل صفة نقص‏.‏
ولهذا حقق ذلك التنزيه، وتمم ذلك الكمال بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس له نظير ولا مكافئ ولا مثيل، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في جميع حقوقه التي اختص بها‏.‏
فحقه الخاص أمران‏:‏ التفرد بالكمال كله من جميع الوجوه، والعبودية الخالصة من جميع الخلق‏.‏
فحق لسورة تتضمن هذه الجمل العظيمة‏:‏ أن تعادل ثلث القرآن‏.‏ فإن جميع ما في القرآن من الأسماء الحسنى، ومن الصفات العظيمة العليا، ومن أفعال الله وأحكام صفاته، تفاصيل لهذه الأسماء التي ذكرت في هذه السورة، بل كان ما في القرآن من العبوديات الظاهرة والباطنة، وأصنافها وتفاصيلها، تفصيل لمضمون هذه السورة‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 24 - 8 - 2010 12:32 AM

الحديث الثامن والثمانون
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق‏.‏ ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها‏)‏ متفق عليه‏.‏
الحسد نوعان‏:‏ نوع محرم مذموم على كل حال، وهو أن يتمنى زوال نعمة الله عن العبد – دينية أو دنيوية – وسواء أحب ذلك محبة استقرت في قلبه، ولم يجاهد نفسه عنها، أو سعى مع ذلك في إزالتها وإخفائها‏:‏ وهذا أقبح؛ فإنه ظلم متكرر‏.‏
وهذا النوع هو الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‏.‏
والنوع الثاني‏:‏ أن لا يتمنى زوال نعمة الله عن الغير، ولكن يتمنى حصول مثلها له، أو فوقها أو دونها‏.‏
وهذا نوعان‏:‏ محمود وغير محمود‏.‏
فالمحمود من ذلك‏:‏ أن يرى نعمة الله الدينية على عبده، فيتمنى أن يكون له مثلها‏.‏ فهذا من باب تمني الخير‏.‏ فإن قارن ذلك سعى وعمل لتحصيل ذلك، فهو نور على نور‏.‏
وأعظم من يغبط‏:‏ من كان عنده مال قد حصل له من حِلَّه، ثم سُلّط ووفق على إنفاقه في الحق، في الحقوق الواجبة والمستحبة؛ فإن هذا من أعظم البرهان على الإيمان، ومن أعظم أنواع الإحسان‏.‏
ومن كان عنده علم وحكمة علمه الله إياها، فوفق لبذلها في التعليم والحكم بين الناس‏.‏ فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شيء‏.‏
الأول‏:‏ ينفع الخلق بماله، ويدفع حاجاتهم، وينفق في المشاريع الخيرية، فتقوم ويتسلسل نفعها، ويعظم وقعها‏.‏
والثاني‏:‏ ينفع الناس بعلمه، وينشر بينهم الدين والعلم الذي يهتدي به العباد في جميع أمورهم‏:‏ من عبادات ومعاملات وغيرها‏.‏
ثم بعد هذين الاثنين‏:‏ تكون الغبطة على الخير، بحسب حاله ودرجاته عند الله‏.‏ ولهذا أمر الله تعالى بالفرح والاستبشار بحصول هذا الخير، وإنه لا يوفق لذلك إلا أهل الحظوظ العظيمة العالية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏.‏
وقد يكون من تمنى شيئاً من هذه الخيرات، له مثل أجر الفاعل إذا صدقت نيته، وصمم عن عزيمته أن لو قدر على ذلك العمل، لَعَمِلَ مثله، كما ثبت بذلك الحديث‏.‏ وخصوصاً إذا شرع وسعى بعض السعي‏.‏
وأما الغبطة التي هي غير محمودة، فهي تمني حصول مطالب الدنيا لأجل اللذات، وتناول الشهوات، كما قال الله تعالى حكاية عن قوم قارون‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ فإن تمني مثل حالة من يعمل السيئات فهو بنيته، ووزرهما سواء‏.‏
فهذا التفصيل يتضح الحسد المذموم في كل حال‏.‏ والحسد الذي هو الغبطة، الذي يحمد في حال، ويذم في حال‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث التاسع والثمانون
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو، فيقول‏:‏ اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى‏)‏ رواه مسلم‏.‏
هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها‏.‏ وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا؛ فإن ‏(‏الهدى‏)‏ هو العلم النافع‏.‏ و‏"‏التقى‏)‏ العمل الصالح، وترك ما نهى الله ورسوله عنه‏.‏ وبذلك يصلح الدين‏.‏ فإن الدين علوم نافعة، ومعارف صادقة‏.‏ فهي الهدى، وقيام بطاعة الله ورسوله‏:‏ فهو التقى‏.‏
و‏"‏العفاف والغنى‏)‏ يتضمن العفاف عن الخلق، وعدم تعليق القلب بهم‏.‏ والغنى بالله وبرزقه، والقناعة بما فيه، وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية‏.‏ وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا، والراحة القلبية، وهي الحياة الطيبة‏.‏
فمن رزق الهدى والتقى، والعفاف والغنى، نال السعادتين، وحصل له كل مطلوب‏.‏ ونجا من كل مرهوب‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث التسعون
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة‏:‏ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر‏.‏ وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه‏)‏ رواه مسلم‏.‏
لا شك أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وأن هذه غاية يسعى إليها جميع المؤمنين‏.‏ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لها سببين ، ترجع إليهما جميع الشعب والفروع‏:‏ الإيمان بالله واليوم الآخر، المتضمن للإيمان بالأصول التي ذكرها الله بقوله‏:‏ ‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ – الآية‏}‏
ومتضمن للعمل للآخرة والاستعداد لها؛ لأن الإيمان الصحيح يقتضي ذلك ويستلزمه‏.‏ والإحسان إلى الناس، ون يصل إليهم منه من القول والفعل والمال والمعاملة ما يحب أن يعاملوه به‏.‏
فهذا هو الميزان الصحيح للإحسان وللنصح، فكل أمر أشكل عليك مما تعامل به الناس فانظر هل تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة أم لا‏؟‏ فإن كنت تحب ذلك، كنت محباً لهم ما تحب لنفسك، وإن كنت لا تحب أن يعاملوك بتلك العاملة‏:‏ فقد ضيعت هذا الواجب العظيم‏.‏
فالجملة الأولى‏:‏ فيها القيام بحق الله‏.‏ والجملة الثانية فيها القيام بحق الخلق‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الحادي والتسعون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يرضى لكمن ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً‏.‏ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا‏.‏ ويكره لكم، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال‏)‏ رواه مسلم‏.‏
فيه إثبات الرضى لله، وذكر متعلقاته، وإثبات الكراهة منه‏.‏ وذكر متعلقاتها؛ فإن الله جل جلاله من كرمه على عباده، يرضى لهم ما فيه مصلحتهم، وسعادتهم في العاجل والآجل‏.‏
وذلك بالقيام بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له بأن يقوم الناس بعقائد الإيمان وأصوله، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الزاكية‏.‏ كل ذلك خالصاً لله موافقاً لمرضاته‏.‏ على سنة نبيه‏.‏ ويعتصموا بحبل الله، وهو دينه الذي هو الوصلة بينه وبين عباده‏.‏ فيقوموا به مجتمعين متعاونين على البر والتقوى ‏(‏المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره‏)‏ بل يكون محباً له مصافياً، وأخاً معاوناً‏.‏
وبهذا الأصل والذي قبله يكمل الدين، وتتم النعمة على المسلمين، ويعزهم الله بذلك وينصرهم، لقيامهم بجميع الوسائل التي أمرهم الله بها والتي تكفل لمن قام بها بالنصر والتمكين، وبالفلاح والنجاح العاجل والآجل‏.‏
ثم ذكر ما كره الله لعباده، مما ينافي هذه الأمور التي يحبها وينقضها‏.‏ فمنها‏:‏ كثرة القيل والقال؛ فإن ذلك من دواعي الكذب، وعدم التثبت، واعتقاد غير الحق‏.‏ ومن أسباب وقوع الفتن، وتنافر القلوب‏.‏ ومن الاشتغال بالأمور الضارة عن الأمور النافعة‏.‏ وقلَّ أن يسلم أحد من شيء من ذلك، إذا كانت رغبته في القيل والقال‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏(‏وكثرة السؤال‏)‏ فهذا هو السؤال المذموم، كسؤال الدنيا من غير حاجة وضرورة، والسؤال على وجه التعنت والإعنات، وعن الأمور التي يخشى من ضررها، أو عن الأمور التي لا نفع فيها، الداخلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}
وأما السؤال عن العلوم النافعة على وجه الاسترشاد أو الإرشاد فهذا محمود مأمور به‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏وإضاعة المال‏)‏ وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسرَّاق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو الغير النافعة‏.‏ فكل هذا داخل في إضاعة المال‏.‏ وإما بتولي ناقصي العقول لها، كالصغار والسفهاء والمجانين ونحوهم؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قياماً للناس، بها تقوم مصالحهم الدينية والدنيوية‏.‏ فتمام النعمة فيها أن تصرف فيما خلقت له‏:‏ من المنافع، والأمور الشرعية، والمنافع الدنيوية‏.‏
وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها، يحب منهم أن يكونوا متثبتين في جميع ما يقولونه، وأن لا ينقلوا كل ما سمعوه، وأن يكونوا متحرين للصدق، وأن لا يسألوا إلا عما ينفع، وأن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً‏}‏ ‏.‏

ميارى 24 - 8 - 2010 12:33 AM

الحديث الثاني والتسعون
عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ، إلا ما أخذته من ماله بغير علمه‏.‏ فهل عليَّ في ذلك من جناح‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك‏)‏ متفق عليه‏.‏
أخذ العلماء من هذا الحديث فقهاً كثيراً‏.‏ سأشير إلى ما يحضرني‏.‏
منه، أن المستفتى والمتظلم يجوز أن يتكلم بالصدق فيمن تعلق به الاستفتاء والتظلم، وليس من الغيبة المحرمة، وهو أحد المواضع المستثنيات من الغيبة‏.‏ ويجمع الجميع، الحاجة إلى التكلم في الغير؛ فإن الغيبة المحرمة ذكرك أخاك بما يكره‏.‏ فإن احتيج إلى ذلك – كما ذكرنا وكما في النصيحة الخاصة، أو العامة، أو لا يعرف إلا بلقبه – جاز ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود‏.‏
ومنه‏:‏ أن نفقة الأولاد واجبة على الأب، وأنه يختص بها، لا تشاركه الأم فيها ولا غيره‏.‏
وكذلك فيه‏:‏ وجوب نفقة الزوجة، وأن مقدار ذلك الكفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك‏)‏ وأن الكفاية معتبرة بالعرف بحسب أحوال الناس‏:‏ في زمانهم ومكانهم، ويسرهم وعسرهم، وأن المنفق إذا امتنع أو شحَّ عن النفقة أصلاً أو تكميلاً، فلمن له النفقة أو يباشر الإنفاق أن يأخذ من ماله، ولو بغير علمه‏.‏ وذلك لأن السبب ظاهر‏.‏ ولا ينسب في هذه الحالة إلى خيانة‏.‏ فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا تخن من خانك‏)‏‏.‏
وهذا هو القول الوسط الصحيح في مسألة الأخذ من مال من له حق عليه بغير علمه بمقدار حقه‏.‏ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، أنه لا يجوز ذلك، إلا إذا كان السبب ظاهراً، كالنفقة على الزوجة والأولاد والمماليك ونحوهم‏.‏ وكحق الضيف‏.‏
ومنه أن المتولي أمراً من الأمور يحتاج فيه إلى تقدير مالي، يقبل قوله في التقدير؛ لأنه مؤتمن، له الولاية على ذلك الشيء‏.‏
ومنه‏:‏ أن المستفتى فتوى لها تعلق بالغير إذا غلب على ظن المسؤول صدقه‏:‏ لا يحتاج إلى إحضار ذلك الغير‏.‏ وخصوصاً إذا كان في ذلك مفسدة، كما في هذه القضية؛ فإنه لو أحضر أبا سفيان لهذه الشكاية لم يؤمن أن يقع بينه وبين زوجه ما لا ينبغي‏.‏
وليس في هذا دلالة على الحكم على الغائب؛ فإن هذا ليس بحكم‏.‏ وإنما هو استفتاء ‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الثالث والتسعون
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث يدل على أمور‏:‏
أحدها‏:‏ نهي الحاكم بين الناس أن يحكم في كل قضية معينة بين اثنين وهو غضبان، سواء كان ذلك في القضايا الدينية أو الدنيوية‏.‏ وذلك لما في الغضب من تغير الفكر وانحرافه‏.‏ وهذا الانحراف للفكر يضر في استحضاره للحق‏.‏ ويضر أيضاً في قصده الحق‏.‏ والغرض الأصلي للحاكم وغيره‏:‏ قصد الحق علماً وعملاً‏.‏
الثاني‏:‏ يدل على أنه ينبغي أن يجتهد في الأخذ بالأسباب التي تصرف الغضب، أو تخففه‏:‏ من التخلق بالحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيبه، وما يسمعه من الخصوم؛ فإن هذا عون كبير على دفع الغضب، أو تخفيفه‏.‏
الثالث‏:‏ يؤخذ من هذا التعليل‏:‏ أن كل ما منع الإنسان من معرفة الحق أو قصده، فحكمه حكم الغضب‏.‏ وذلك كالهم الشديد، والجوع والعطش، وكونه حاقناً أو حاقباً أو نحوها، مما يشغل الفكر مثل أو أكثر من الغضب‏.‏
الرابع‏:‏ أن النهي عن الحكم في حال الغضب ونحوه مقصود لغيره‏.‏ وهو أنه ينبغي للحاكم أن لا يحكم حتى يحيط علماً بالحكم الشرعي الكلي، وبالقضية الجزئية من جميع أطرافها، ويحسن كيف يطبقها على الحكم الشرعي؛ فإن الحاكم محتاج إلى هذه الأمور الثلاثة‏:‏
الأول‏:‏ العلم بالطرق الشرعية، التي وضعها الشارع لفصل الخصومات والحكم بين الناس‏.‏
الثاني‏:‏ أن يفهم ما بين الخصمين من الخصومة، ويتصورها تصوراً تاماً، ويدع كل واحد منهما يدلي بحجته، ويشرح قضيته شرحاً تاماً‏.‏ ثم إذا تحقق ذلك وأحاط به علماً احتاج إلى الأمر الثالث‏.‏
وهو صفة تطبيقها وإدخالها في الأحكام الشرعية، فمتى وفق لهذه الأمور الثلاثة، وقصد العدل، وفق له، وهدي إليه، ومتى فاته واحد منها، حصل الغلط، واختل الحكم‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الرابع والتسعون
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلْ واشرب، والبَسْ وتصدق، من غير سَرَف ولا مَخيلة‏)‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وعلقه البخاري‏.‏
هذا الحديث مشتمل على استعمال المال في الأمور النافعة في الدين والدنيا، وتجنب الأمور الضارة‏.‏ وذلك أن الله تعالى جعل المال قواماً للعباد، به تقوم أحوالهم الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية‏.‏ وقد أرشد الله ورسوله فيه – استخراجاً واستعمالاً، وتدبيراً وتصريفاً – إلى أحسن الطرق وأنفعها، وأحسنها عاقبة‏:‏ حالاً ومآلاً‏.‏
أرشد فيه إلى السعي في تحصيله بالأسباب المباحة والنافعة، وأن يكون الطلب جميلاً، لا كسل معه ولا فتور، ولا انهماك في تحصيله انهِماكاً يخلّ بحالة الإنسان، وأن يتجنب من المكاسب المحرمة والرديئة ثم إذا تحصل سعي الإنسان في حفظه واستعماله بالمعروف، بالأكل والشرب واللباس، والأمور المحتاج إليها، هو ومن يتصل به من زوجة وأولاد وغيرهم، من غير تقتير ولا تبذير‏.‏
وكذلك إذا أخرجه للغير فيخرجه في الطرق التي تنفعه، ويبقى له ثوابها وخيرها، كالصدقة على المحتاج من الأقارب والجيران ونحوهم، وكالإهداء والدعوات التي جرى العرف بها‏.‏
وكل ذلك معلق بعدم الإسراف، وقصد الفخر والخيلاء، كما قيده في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}
فهذا هو العدل في تدبير المال‏:‏ أن يكون قواماً بين رتبتي البخل والتبذير‏.‏ وبذلك تقوم الأمور وتتم‏.‏ وما سوى هذا فإثم وضرر، ونقص في العقل والحال‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث الخامس والتسعون
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏قيل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده – أو يحبه – الناس عليه‏؟‏ قال‏:‏ تلك عاجل بشرى المؤمن‏)‏ رواه مسلم‏.‏
أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه – وهم المؤمنون المتقون – بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة‏.‏
و‏"‏البشارة‏)‏ الخبر أو الأمر السار الذي يعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول‏.‏
أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كم تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة‏.‏
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين؛ نموذجاً وتعجيلاً لفضله، وتعرفاً لهم بذلك، وتنشيطاً لهم على الأعمال فأعمها توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة‏)‏‏.‏
فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظاً بحفظ الله من الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين‏.‏ وإذا ابتدأ عبد بالإحسان أتمه‏.‏ فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني‏.‏ فيسرّ المؤمن بذلك أكمل سرور‏:‏ سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعله‏.‏ وسرور ثان بطمعه الشديد في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله‏.‏
ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ إذا عمل العبد عملاً من أعمال الخير – وخصوصاً الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له - كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيراً وبركة‏.‏
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبة المؤمنين للعبد‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا‏}‏ أي محبة منه لهم، وتحبيباً لهم في قلوب العباد‏.‏
ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له‏.‏ والمؤمنون شهداء الله في أرضه‏.‏
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات‏.‏
ومن البشرى أن يقدر الله على العبد تقديراً يحبه أو يكرهه‏.‏ ويجعل ذلك التقدير وسيلة إلى إصلاح دينه، وسلامته من الشر‏.‏
وأنواع ألطاف الباري سبحانه وتعالى لا تعدّ ولا تحصى، ولا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 24 - 8 - 2010 12:35 AM

الحديث السادس والتسعون
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رضى الله في رضى الوالدين‏.‏ وسخط الله في سخط الوالدين‏)‏ أخرجه الترمذي‏.‏ وصححه ابن حبان والحاكم‏.‏
هذا الحديث دليل على فضل برّ الوالدين ووجوبه، وأنه سبب لرضى الله تعالى‏.‏ وعلى التحذير عن عقوق الوالدين وتحريمه، وأنه سبب لسخط الله‏.‏
ولا شك أن هذا نم رحمة الله بالوالدين والأولاد؛ إذ بين الوالدين وأولادهم من الاتصال ما لا يشبهه شيء من الصلات والارتباط الوثيق، والإحسان من الوالدين الذي لا يساويه إحسان أحد من الخلق‏.‏ والتربية المتنوعة وحاجة الأولاد، الدينية والدنيوية إلى القيام بهذا الحق المتأكد؛ وفاء بالحق، واكتساباً للثواب، وتعليماً لذريتهم أن يعاملوهم بما عاملوا به والديهم‏.‏
هذه الأسباب وما يتفرع عنها موجب لجعل رضاهم مقروناً برضا الله، وضده بضده‏.‏
وإذا قيل‏:‏ فما هو البر الذي أمر الله به ورسوله‏؟‏
قيل‏:‏ قد حَدَّه الله ورسوله بحد معروف، وتفسير يفهمه كل أحد‏.‏ فالله تعالى أطلق الأمر بالإحسان إليهما‏.‏ وذكر بعض الأمثلة التي هي أنموذج من الإحسان‏.‏ فكل إحسان قولي أو فعلي أو بدني، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإن هذا هو البر‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ ذكر غاية البر ونهايته التي هي رضي الوالدين؛ فالإحسان موجب وسبب، والرضى أثر ومسبب‏.‏ فكل ما أرض الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية، وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر، كما أن العقوق، كل ما يسخطهما من قول أو فعل‏.‏ ولكن ذلك مقيد بالطاعة لا بالمعصية‏.‏ فمتى تعذر على الولد إرضاء والديه إلا بإسخاط الله، وجب تقديم محبة الله على محبة الوالدين‏.‏ وكان اللوم والجناية من الوالدين، فلا يلومان إلا أنفسهما‏.‏
وفي هذا الحديث‏:‏ إثبات صفة الرضى والسخط لله، وأن ذلك متعلق بمحابه ومراضيه‏.‏ فالله تعالى يحب أولياءه وأصفياءه‏.‏ ويحب من قام بطاعته وطاعة رسوله‏.‏ وهذا من كماله وحكمته وحمده، ورحمته ورضاه وسخطه، من صفاته المتعلقة بمشيئته وقدرته‏.‏
والعصمة في ذلك‏:‏ أنه يجب على المؤمن أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله من صفات الكمال الذاتية والفعلية، على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه ومجده‏.‏ ويعلم أن الله ليس له نِدٌّ، ولا كفو، ولا مثيل في ذاته وأسمائه، وصفاته وأفعاله‏.‏ والله أعلم‏.‏


الحديث السابع والتسعون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث لا يَغُلُّ عليهن قلب مسلم‏:‏ إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏)‏ رواه مسلم‏.‏
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم رحمه الله‏:‏ أي لا يبقى في القلب غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه منه؛ فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل‏.‏ وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال‏.‏ فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً‏.‏ ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة‏.‏ انتهى‏.‏
أي فمن أخلص أعماله كلها لله، ونصح في أموره كلها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلاف، وعدم الاختلاف‏.‏ وصار قلبه صافياً نقياً، صار لله ولياً‏.‏ ومن كان بخلاف ذلك امتلأ قلبه من كل آفة وشر‏.‏ والله أعلم‏.‏
الحديث الثامن والتسعون
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الناس كالإبل المائة‏.‏ لا تكاد تجد فيها راحلة‏)‏ متفق عليه‏.‏
هذا الحديث مشتمل على خير صادق، وإرشاد نافع‏.‏
أما الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر، أن النقص شامل لأكثر الناس، وأن الكامل – أو مقارب الكمال – فيهم قليل، كالإبل المائة، تستكثرها‏.‏ فإذا أردت منها راحلة تصلح للحمل والركوب، والذهاب والإياب، لم تكد تجدها‏.‏ وهكذا الناس كثير‏.‏ فإذا أردت أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو الإمامة، أو الولايات الكبار أو الصغار، أو للوظائف المهمة، لم تكد تجد من يقوم بتلك الوظيفة قياماً صالحاً‏.‏ وهذا هو الواقع؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل سبب للنقائص، وهي مانعة من الكمال والتكميل‏.‏
وأما الإرشاد، فإن مضمون هذا الخير، إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة، أن يسعوا، ويجتهدوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات، والأمور الكلية العامة النفع‏.‏
وقد أرشد الله إلى هذا المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏.‏ فأمر بالجهاد، وأن يقوم به طائفة كافية، وأن يتصدى للعلم طائفة أخرى؛ ليعين هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء‏.‏ وأمره تعالى بالولايات والتولية أمر بها، وبما لا تتم إلا به، من الشروط والمكملات‏.‏
فالوظائف الدينية والدنيوية، والأعمال الكلية، لابد للناس منها‏.‏ ولا تتم مصلحتهم إلا بها، وهي لا تتم إلا بأن يتولاها الأكفاء والأمناء‏.‏ وذلك يستدعي السعي في تحصيل هذه الأوصاف، بحسب الاستطاعة‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ والله أعلم‏.‏
الحديث التاسع والتسعون
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر‏)‏ رواه الترمذي‏.‏
وهذا الحديث أيضاً يقتضي خبراً وإرشاداً‏.‏
أما الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر، أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل‏.‏ وهذا القيل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهراً وباطناً، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المعين والمساعد‏.‏
ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدراً‏.‏
وأما الإرشاد، فإنه إرشاد لأمته، أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه – مع هذه المعارضات – فإن له عند الله أعلى الدرجات‏.‏ وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه؛ فإن المعونة على قدر المؤنة‏.‏
وما أشبه زماننا هذا بهذا الوصف، الذي ذكره صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سراً وعلناً للقضاء على الدين، وإلحاد وماديات، جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق‏.‏ ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، بحيث أصبحت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا، وتدمير الدين، واحتقاره والاستهزاء بأهله، وبكل ما ينسب غليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشرورها قد شاهده العباد‏.‏
فمع هذه الشرور المتراكمة، والأمواج المتلاطمة، والمزعجات الملمة، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة – مع هذه الأمور وغيرها – تجد مصداق هذا الحديث‏.‏
ولكن مع ذلك، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصوراً على الأسباب الظاهرة‏.‏ بل يكون ملتفتاً في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل له بعد عسر يسراً، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات، وحلول المنغصات‏.‏
فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال‏:‏ ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ و ‏(‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ على الله توكلنا‏.‏ اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى‏.‏ وأنت المستعان‏.‏ وبك المستغاث‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏)‏ ويقوم بما يقدر عليه من الإيمان والنصح والدعوة‏.‏ ويقنع باليسير، إذا لم يمكن الكثير‏.‏ وبزوال بعض الشر وتخفيفه، إذا تعذر غير ذلك ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ - وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً‏}‏ ‏.‏
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‏.‏ وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين‏.‏


الساعة الآن 09:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى