منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 3 - 8 - 2010 09:34 PM

كتاب تاريخ ابن خلدون
 

تاريخ ابن خلدون

المؤلف : عبد الرحمان بن محمد بن خلدون الحضرمي

الجزء الأول


تمهيد


يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغني بلطفه عبد الرحمان بن محمد بن خلدون الحضرمي وفقه الله تعالى‏:‏ الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شي في السماوات والأرض ولا يفوت‏.‏ أنشأنا من الأرض نسماً واستعمرنا فيها أجيالاً وأمماً ويسر لنا منها أرزاقاً وقسماً‏.‏ تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمخض لفصاله الكون قبل ان تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وشهد بصدقه الحمائم والعنكبوت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في محبته واتباعه الأثر البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم كثيراً‏.‏ أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاختفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها ألاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق‏.‏ وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل‏.‏ والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل‏.‏ هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا‏.‏ والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون‏.‏ أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار‏.‏ ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك‏.‏ ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة هن الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه‏.‏ وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره واقتصر على أحاديث دولته ومصره‏.‏ كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان‏.‏ شم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال‏.‏ فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انتضيت من أغمادها ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها‏.‏ ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال مبادىء الدول ومراتبها مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثاً عن المقنع في تباينها أوتناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب‏.‏ ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل‏.‏ وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد‏.‏ ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم‏.‏ فأنشأت في التاريخ كتاباً رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف من الملوك والأنصار وهم العرب البربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما‏.‏ فهذبت مناحيه تهذيباً وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً‏.‏ وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك‏.‏ ورتبتة على مقدمة وثلاثة كتب‏:‏ المقدمة‏:‏ في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين‏.‏ الكتاب الأول‏:‏ في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب‏.‏ الكتاب الثاني‏:‏ في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة‏.‏ الكتاب الثالث‏:‏ في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول‏.‏ ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فأفدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت بها ما كتبته فى تلك الأسطار وأدرجتها في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النواحي وملوك الأمصار والضواحي سالكاً سبيل الاختصار والتلخيص مفتدياً بالمرام السهل من العويص داخلاً من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعاباً وذلك من الحكم النافرة صعاباً وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً ؤأصبح للحكمة صواناً وللتاريخ جراباً‏.‏ ولما كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر من أهل المدن والوبر والإلماع بمن عاصرهم من الدول الكبر وأفصح بالذكرى والعبر في مبتدإ الأحوال وما بعدها من الخبر سميته‏:‏ كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر‏.‏ ولم أترك شيئاً في أولية الأجيال والدول وتعاصر الأمم الأول وأسباب التصرف والحول في القرون الخالية والملل وما يعرض في العمران من دولة وملة ومدينة وحلة وعزة وذلة وكثرة وقلة وعلم وصناعة وكسب وإضاعة وأحوال متقلبة مشاعة وبدو وحضر وواقع ومنتظر إلا واستوعبت جمله وأوضحت براهينه وعلله‏.‏ فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة‏.‏ وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء راغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء‏.‏ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة والحسنى من الإخوان مرتجاة والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل‏.‏ وبعد أن استوفيت علاجه وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه أتحفت بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح الماهد المتحلي منذ خلع التمائم ولوث العمائم بحلى القانت الزاهد المتوشح من زكاء المناقب والمحامد وكرم الشمائل والشواهد بأجمل من القلائد في نحور الولائد المتناول بالعزم القوي الساعد والجد المؤاتي المساعد والمجد الطارف والتالد ذوائب ملكهم الراسي القواعد الكريم المعالي والمصاعد جامع أشتات العلوم والفوائد وناظم شمل المعارف الشوارد ومظهر الآيات الربانية في فضل المدارك الإنسانية بفكره الثاقب الناقد ورأيه الصحيح المعاقد النير المذاهب والعقائد نور الله الواضح المراشد ونعمته العذبة الموارد ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد ورحمته الكريمة المقالد التي وسعت صلاح الزمان الفاسد واستقامة المائد من الأحوال والعوائد وذهبت بالخطوب الأوابد وخلعت على الزمان رونق الشباب العائد وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان الكبير المجاهد المقدس أمير المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام من بني مرين الذين جددوا الدين ونهجوا السبيل للمهتدين ومحوا آثار البغاة المفسدين‏.‏ أفاء الله على الأمة ظلاله وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله‏.‏ وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم حيث مقر الهدى ورياض المعارف خضلة الندى وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى والإمامة الكريمة الفارسية العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف وفضلها الغني عن التعريف تبسط له من العناية مهاداً وتفسح له في جانب القبول آماداً فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهاداً‏.‏ ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب ومن مدد بصائرها منيرة نتائج القرائح والالباب‏.‏ والله يوزعنا شكر نعمتها ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها ويجعلنا من السابقين في ميدانها المجلين في حومتها ويضفي على أهل إيالتها وما أوى من الإسلام إلى حرم عمالتها لبوس حمايتها وحرمتها وهو سبحانه المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏


ميارى 3 - 8 - 2010 09:35 PM



المقدمة في فضل علم التاريخ



وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا‏.‏ فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق‏.‏ وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سميناً لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار‏.‏ فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد‏.‏ وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني اسرائيل وأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون‏.‏ ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش‏.‏ لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة‏.‏ ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر‏.‏ والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء‏.‏ ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم وهو من بعض عمال مملكة فارس‏.‏ يقال إنه كان مرزبان المغرب من تخومها‏.‏ وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير‏.‏ ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريباً منه‏.‏ وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفاً كلهم متبوع على ما نقله سيف قال‏:‏ وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف‏.‏ وعن عائشة والزهري‏:‏ أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفاً كلهم متبوع‏.‏ وأيضاً فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم وانفسح مدى لدولتهم فإن العمالات والممالك في الدول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأول‏.‏ والقوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن وفلسطين من الشام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف‏.‏ وأيضاً فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله كذا نسبه في التوراة‏.‏ والمدة بينهما على ما نقله المسعودي قال‏:‏ دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفساً وكان مقامهم بمصر إلى أن يخرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة‏.‏ ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد‏.‏ وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضاً إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أباً‏.‏ فإنه سليمان بن داود بن إيشا بن عوفيذ ويقال ابن عوفذ بن باعز ويقال بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب ويقال حميناذاب بن رم بن حصرون ويقال حسرون بن بارس ويقال بيرس بن يهوذا بن يعقوب‏.‏ ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئين والآلاف فربما يكون وأما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد‏.‏ واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلاً ونقلهم كاذباً‏.‏ والذي ثبت في الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفاً خاصة وأن مقرباته كانت ألفاً وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه‏.‏ هذا هو الصحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم‏.‏ وفي أيام سليمان عليه السلام وملكه كان عنفوان دولتهم واتساع ملكهم‏.‏ هذا وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث في عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغلوا في العدد وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإغراب‏.‏ فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لن تجد معشار ما يعدونه‏.‏ وما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتخذ آيات الله هزواً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة‏.‏ ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلوله كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية والبربر من بلاد المغرب وأن افريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل‏.‏ غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنه الذي سماهم بهذا الأسم حين سمع رطانتهم وقال‏:‏ ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة ومن هذا ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والبيلي إلى أن صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصحيح‏.‏ وذكر المسعودي أيضاً أن ذا الإذعار من ملوكهم قبل إفريقش وكان على عهد سليمان عليه السلام غزا المغرب ودوخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنه بلغ وادي الرمل من بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكاً لكثرة الرمل فرجع‏.‏ وكذلك يقولون في تبع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأنف من ملوك الفرس الكيانية إنه ملك الموصل وأذربيجان ولقي الترك فهزمهم وأثخن ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك وإنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر وإلى بلاد الروم فملك الأول البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى لصين فوجد أخاه الثاني الذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد الصين ورجعا جميعاً بالغنائم وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فحرسها ودوخ بلاد الروم ورجع‏.‏ وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة‏.‏ وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم صنعاء اليمن‏.‏ وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها‏:‏ فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب كماتراه في مصور الجغرافيا‏.‏ فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقاً من غير السويس‏.‏ والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما‏.‏ ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله هذا ممتنغ في العادة‏.‏ وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط بمصر ثم ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشام ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحداً من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئاً من تلك الأعمال‏.‏ وأيضاً فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا انتهاب الزرع والنعم وانتهاب البلاد فيما يمرون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرواحل بنقله فلا بد وأن يمروا في طريقهم كلها بأعمال قد ملكوها ودوخوها لتكون الميرة‏.‏ منها‏.‏ وإن قلنا إن تلك العساكر تمر بهؤلاء الأمم من غير أن تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد وأشد امتناعاً فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة‏.‏ وأما وادي الرمل الذي يعجز السالك فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقص طرقه من الركاب والقرى في كل عصر وكل جهة وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوافر الدواعي على نقله‏.‏ وأما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك وإن كانت طريقه أوسع من مسالك لسويس إلا أن الشقة هنا أبعد وأمم فارس والروم معترضون فيها دون الترك‏.‏ ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم وإنما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال وقد وقع ذلك بين يدي الإذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانية وبين تبع الأصغر أبي كرب ويستاسف منهم أيضاً ومع ملوك الطوائف بعد الكيانية والساسانية من بعدهم بمجاوزة أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتبت وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم والحاجة إلى الأزودة والعلوفات مع بعد الشقة كما مر‏.‏ فالأخبار بذلك واهية مدخولة‏.‏ وهي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحاً فيها فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح‏.‏ وقول ابن إسحق في خبر يثرب والأوس والخزرج‏:‏ إن تبعا الآخر سار إلى المشرق محمول على العراق وبلاد فارس‏.‏ وأما بلاد الترك والتبت فلا يصح غزوهم إليها بوجه لما تقرر‏.‏ فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك وتأمل الأخبار وأعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه‏.‏ والله الهادي إلى الصواب‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:37 PM

فصل فيما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقلة المفسرون في تفسير سورة والفجر في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ‏"‏ فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين‏.‏ وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنين مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة‏.‏ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم‏.‏ ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدرعليه وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي‏:‏ ‏"‏ إرم ذات العماد ‏"‏ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمرأشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال‏:‏ هذا والله ذلك الرجل‏.‏ وهذه المدينة لم يسمع لها خبرمن يومئذ في شيء من بقاع الأرض‏.‏ وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانها متعاقباً والأدلاء تقص طرقها من كل وجه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم‏.‏ ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه‏.‏ إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة‏.‏ وبعضهم يقول إنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها‏.‏ وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى إنها غائبة وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر‏.‏ مزاعم كلها أشبه بالخرافات‏.‏ والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء‏.‏ ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين‏.‏ ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة والتي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات‏.‏ وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام‏.‏ وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم ة لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها‏.‏ وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار‏.‏ وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه مثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة‏.‏ ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصاً على اجتماعهما في مجلسه وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة سكر فحملت ووشي بذلك للرشيد فاستغضب‏.‏ وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده‏.‏ والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته وإمامة الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش‏.‏ فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والزكاء إذا فقد من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول وأشراف قريش‏.‏ وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف‏.‏ وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم أبائه ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه‏.‏ وأين قدر العباسة والرشيد من الناس وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجافهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه‏.‏ فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم واحتازوها عن سواهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم‏.‏ ويقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيساً من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب ودفعوهم عنها بالراح لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة حتى شب في حجره ودرج من غشه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت‏.‏ فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وسيرت إلى خزائنهم في سبيل التزلف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنو لعفافهم الجوائز والصلات واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم ولا وزعتهم أواصر القرابة‏.‏ وقارن ذلك عند مخدومهم نواشي الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج على المنصور‏.‏ ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم‏.‏ على أمان الرشيد بخطه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري ودفعه الرشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره‏.‏ فحبسه مدة ثم حملته الدالة على تخلية سبيله والاستبداد بحل عقاله حرماً لدماء أهل البيت بزعمه ودالة على السلطان في حكمه‏.‏ وسأله الرشيد عنه لما وشي به إليه ففطن وقال‏:‏ أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان وأسرها في نفسه‏.‏ فأوجد السبيل بذلك على نفسه وقومه حتى ثل عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفاً ومثلاً للآخرين أيامهم‏.‏ ومن تأمل أخبارهم واستقصى سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الآثر ممهد الأسباب‏.‏ وانظرما نقله ابن عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم وما ذكر في باب الشعراء من كتاب العقد في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه وكذلك ماتحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله‏:‏ ليت هنداً أنجزتنا ماتعد وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد وأن الرشيد لما سمعها قال‏:‏ ‏"‏ إي والله إني عاجز ‏"‏ حتى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته وسلطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء الحال‏.‏ وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر واقتران سكره بسكر الندمان فحاش لله ما علمنا عليه من سوء‏.‏ وأين هذا من حال الرشيد وهيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ومكاتبته سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها‏.‏ حكى الطبري وغيره أنه كان يصلي في كل يو مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج عاماً‏.‏ ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرأ ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني ‏"‏ وقال والله ما أدري لم فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضباً وقال يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً‏!‏ إياك إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدهما‏.‏ وأيضاً فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن إنما خلفه غلاماً‏.‏ وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها‏.‏ وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ‏:‏ ‏"‏ يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة ‏"‏‏.‏ قال مالك‏:‏ ‏"‏ فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ ‏"‏‏.‏ ولقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال‏.‏ ودخل عليه يوماً وهو بمجلسه يباشر الخياطين في أرقاع الخلقان من ثياب عياله فاستنكف المهدي من ذلك وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين علي كسوة العيال عامنا هذا من عطائي فقال له لك ذلك ولم يصده عنه ولا سمح بالإنفاق من أموال المسلمين‏.‏ فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوته وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها‏.‏ وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة ولم يكن الكرم شجرتهم وكان شربها مذمة عند الكثير منهم والرشيد وأباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم والتخلق بالمحامد وأوصاف الكمال ونزعات العرب‏.‏ وانظر ما نقله الطبري والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرشيد وارتاب به ودس خادمه حتى عاينه يتناوله فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح‏:‏ خلط إحداهما باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد والحلوى وصب على الثانية ماء مثلجاً وعلى الثالثة خمراً صرفاً‏.‏ وقال في الأول والثاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه وقال في الثالث‏:‏ هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد وأحضره للتوبيخ أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما‏.‏ فكانت له في ذلك معذرة‏.‏ وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع‏.‏ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق‏.‏ وفتاويهم فيها معروفة وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه به ولا تقليد الأخبار الواهية فيها‏.‏ فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة‏.‏ ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد‏.‏ فما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلية إلى الحرمة‏.‏ ولقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللجم والسروج وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد‏.‏ وهكذا كان حالهم أيضاً في ملابسهم فما ظنك بمشاربهم ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله‏.‏ والله الهادي إلى الصواب‏.‏ ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه فدفن في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه‏:‏ يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل والدين وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد‏.‏ وشرابه إنما كان النبيذ ولم يكن محظوراً عندهم‏.‏ وأما السكر فليس من شأنهم وصحابته للمأمون إنما كانت خفة في الدين‏.‏ ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت‏.‏ ونقل من فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس ويتلمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم‏.‏ وثبت أنهما كانا يصليان الصبح جماعة‏.‏ فأين هذا من المعاقرة‏.‏ وأيضاً فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث‏.‏ وقد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وخرج عنه الترمذي كتابه الجامع وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامح فالقدح فيه قدح في جميعهم‏.‏ وكذلك ما يثبجه المجان بالميل إلى الغلمان بهتاناً على الله وفريه على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسوداً في كماله وخلته ولقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا وأنكر ذلك إنكارا شديداً‏.‏ وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد وقال أيضاً‏:‏ يحيي بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمى به من أمر الغلمان ولقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنه كانت فيه دعابة وخسن خلق فرمي به‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات وقال‏:‏ لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه‏.‏ ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب العقد من حديت الزنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران وأنه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى من بعض السطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل من الحرير فاقتعده وتناول المعالق فاهتزت وذهب صعداً إلى مجلس شأنه كذا‏.‏ ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطرف ويملك النفس وأن امرأة برزت له من خلل الستور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن فحيته ودعته إلى المنادمة فلم يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد شغفته حباً بعثه‏.‏ على الإصهار إلى أبيها‏.‏ وأين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من أبائه وأخذه بسير الخلفاء الأربعة‏.‏ أركان الملة ومناظرته للعلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه‏.‏ فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر سبيل عشاق الأعراب‏.‏ وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف‏.‏ وأمثال هذه الحكايات كثيرة وفي كتب المؤزخين معروفة وإنما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة وهتك قناع المخدرات ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونة من طاعة لذاتهم فلذلك تراهم كثيراً ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين‏.‏ ولو ائتسوا ا بهم في هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيراً لهم لو كانوا يعلمون‏.‏ ولقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار وقلت له‏:‏ ليس هذا من شأنك نذ ولا يليق بمنصبك فقال لي‏:‏ أفلا ترى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه فقلت له‏:‏ ياسبحان الله وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم‏!‏ فصم عن عذلي وأعرض‏!‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين والأثبات في العبيدين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق‏.‏ يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنناً الشمات بعدوهم حسبما نذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم‏.‏ فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدإ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي أبي القاسم خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر وأنهما خرجا من الإسكندرية في زي التجار ونمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر والإسكندرية فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا به من الشارة والزي فأفلتوا إلى المغرب وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بآخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر إليسع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة هذا قبل أن تظهر الشيعة على الأغالبة بالقيروان‏.‏ ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية ثم باليمن ثم بالإسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز‏.‏ وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الإبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون من أمرهم‏.‏ ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولاً كاملاً‏.‏ وما زال بنو العباس يغضون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم‏.‏ وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر‏.‏ واعتبر حال القرمطي إذ كان دعياً في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت أتباعه وظهر سريعاً على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم‏.‏ ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة‏:‏ ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم فقد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم عليه السلام ومصلاه وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ومدفنة وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق‏.‏ ولقد خرجوا مراراً بعد ذهاب الدولة ودروس آثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصيه ممن سلف قبلهم من الأئمة‏.‏ ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحلة‏.‏ والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النطارمن المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف‏.‏ فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم وليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها‏:‏ ‏"‏ يا فاطمة اعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً ‏"‏‏.‏ ومتى عرف امرؤ قضية أو استيقن أمراً وجب عليه أن يصدع به والله يقول الحق وهو يهدي السييل والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرر خروجهم مرة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون كما قيل‏:‏ فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت وأين مكاني ما عرفن مكانيا حتى لقد سمي محمد بن اسماعيل جد الإمام عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه من إخفائه حذراً من المتغلبين عليهم‏.‏ فتوسل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم‏.‏ وازدلفوا بهذا الرأي الفائل للمستضعفين خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتاميين شيعة العبيديين وأهل دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب وشهد بذلك عندهم من أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي وأخوه المرتضى وابن البطحاوي ومن العلماء أبو حامد الأسفراييني والقدوري والصيمري وابن الأكفاني والأبيوردي وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة وغيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم مشهود وذلك لسنة ستين وأربعمائة في أيام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب فنقله الإخباريون كما سمعوه حسبما وعوه والحق من ورائه‏.‏ وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد‏.‏ والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع وتلتمس فيه ضوال الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار وما نفق فيها نفق عند الكافة‏.‏ فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل والأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والبطل نفق البهرج والزائف‏.‏ والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه‏.‏ ومثل هذا وأبعد منه كثيراً مايتنناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرضون تعريض الحسد بالتظنن في الحمل المخلف عن إدريس الأكبر أنه لراشد مولاهم قبحهم الله وأبعدهم ما أجهلهم‏!‏ أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنه منذ دخل المغرب إلى أن توفاه الله عز وجل عريق في البدو وأن حال البادية في مثل ذلك غير خافية إذ لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من جاراتهن ومسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران وتطامن البنيان وعدم الفواصل بين المساكن‏!‏ وقد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاة بمشهد من أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافتهم‏.‏ وقد اتفق برابرة المغرب الأقصى عامة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه وأتوه طاعتهم عن رضا وإصفاق وبايعوه على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته‏.‏ ولو حدثوا أنفسهم بمثل هذه الريبة أو قرعت أسماعهم ولو من عدو كاشح أو منافق مرتاب لتخلف عن ذلك ولو بعضهم‏.‏ كلا والله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس أقتالهم ومن بني الأغلب عمالهم كانوا بإفريقية وولاتهم‏.‏ وذلك أنه لما فر إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبه أن يقعدوا له بالمراصد ويذكوا عليه العيون فلم يظفروا به وخلص إلى المغرب فتم أمره وظهرت دعوته وظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على الإسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية وإدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب‏.‏ فقتلة ودس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس فأظهر اللحاق به والبراءة من بني العباس مواليه‏.‏ فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله الشماخ في بعض خلواته سماً استهلكه به‏.‏ ووقع خبر مهلكه من بني العباس أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب واقتلاع جرثومتها‏.‏ ولما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا ولا‏.‏ وإذا بالدعوة قد عادت والشيعة بالمغرب قد ظهرت ودولتهم بإدريس بن إدريس قد تجمدت فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السهام وكان الفشل والهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية - فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب واشتمال البربر عليه إلا التحيل في إهلاكه بالسموم‏.‏ فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سد تلك الفرجة من ناحيتهم وحسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم واقتلاع تلك العروق قبل أن تشبح منهبم يخاطبهم بذلك المأمون ومن بعده من خلفائهم‏.‏ فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز ولمثلها من الزبون على ملوكهم أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها وامتطائهم صهوة التغلب عليها وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم‏:‏ خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول ما قالا له كما تقول الببغا فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات وتلوا بالمعاذير فطوراً باحتقار المغرب وأهله وطوراً بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التخوم من عمله وينفذون سكته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم تعريضاً باستفحاله وتهويلاً باشتداد شوكته وتعظيماً لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه وتهديداً بقلب الدعوة إن ألجئوا إليه وطوراً يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطعن الكاذب تخفيضاً لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه لبعد المسافة وأفن عقول من خلف من صبية بني العباس ومماليكهبم العجم في القبول من كل فائل والسمع لكل ناعق‏.‏ ولم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء وصر عليها بعص الطاعنين أذنه واعتدها ذريعة إلى النيل من خلفهم عند المنافسة‏.‏ وما لهم قبحهم الله والعدول عن مقاصد الشريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون‏.‏ وإدريس ولد على فراش أبيه والولد للفراش‏.‏ على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً‏.‏ ففراش إدريس طاهر من الدنس ومنزة عن الرجس بحكم القرآن‏.‏ ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه‏.‏ وإنما أطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب ودفعاً في صدر الحاسد لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم بفريته وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب ممن انحرف عن أهل البيت وارتاب في الإيمان بسلفهم‏.‏ وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه ونفي العيب حيث يستحيل العيب عيب‏.‏ لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة‏.‏ ولتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإن ادعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريض على الأمم والأجيال من أهل الأفاق فتعرض التهمة فيه‏.‏ ولما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فاس وسائر ديار المغرب قد بلغ من الشهرة والوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف وبيت جدهم إدريس مختط فاس ومؤسسها بين بيوتهم ومسجده لصق محلتهم ودروبهم وسيفه منتضى برأس المئذنة العظمى من قرار بلدهم وغير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود التواتر مرات وكادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها وما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم بالمغرب واستيقن أنه بمعزل عن ذلك وأنه لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه وأن غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن يسلم لهم حالهم لأن الناس مصدقون في أنسابهم وبون ما بين العلم والظن واليقين والتسليم فإذا علم ذلك من نفسه غص بريقه وود كثير منهم لو يردونهم عن شرفهم ذلك سوقة ووضعاء حسداً من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب اللجاج والبهت بمثل هذا الطعن الفائل والقول المكذوب تعللاً بالمساواة في الظنة والمشابهة في تطرق الاحتمال وهيهات لهم ذلك‏.‏ فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن‏.‏ وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الحوطي بن محمد يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة إن شاء الله تعالى‏.‏ ويلحق بهذه المقالات الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما آتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي قبله وتكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت‏.‏ وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه‏.‏ فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطأ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته‏.‏ وأيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك لمتونة أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السذاجة وانتحال الديانة‏.‏ فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشورى كل في بلده وعلى قدره في قومه‏.‏ فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحرباً لعدوهم ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهما والتثريب عليهم والمناصبة لهم تشيعاً للمتونة وتعصباً لدولتهم‏.‏ ومكان الرجل غير مكانهم وحاله على غير معتقداتهم‏.‏ وماظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من أصولها وجعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصاراً وحامية وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت ووقوه بأنفسهم من الهلكة وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم ودالت بالعدوتين من الدول وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا حتى قبضه الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس وتخادع عن تمنيه‏.‏ فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله‏.‏ ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ وأما إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم مع أنه إن ثبت أنه ادعاه وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدقون في أنسابهم‏.‏ وإن قالوا إن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب والرجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا بانباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دغوته فاعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه ولا اتبعه الناس بسببه وإنما كان اتباعهم له بعصبية الهرغية والمصمودية ومكانه منها ورسوخ شجرته فيها‏.‏ وكان ذلك النسب الفاطمي خفياً قد درس عند الناس وبقي عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم‏.‏ فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء وظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته إذ هو مجهول عند أهل العصابة‏.‏ ومثل هذا واقع كثيراً إذ كان النسب الأول خفياً‏.‏ وانظر قصه عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهم منه وجه الحق‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏ وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والأراء وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً وناظره مرتبكاً وعد من مناحي العامة‏.‏ فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث واقفاً على أصول كل خبر‏.‏ وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً وإلا زيفه واستغنى عنه‏.‏ وما استكير القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور‏.‏ ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الأحاد من أهل الخليقة‏.‏ وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع‏!‏ في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم‏.‏ ثم جاء من بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها‏.‏ ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السلف‏.‏ ثم درلست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين شيدوا عزهم ومهدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهما أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها‏.‏ والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكمية‏:‏ الناس على دين الملك‏.‏ وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذ الكثير منها ولايغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك‏.‏ فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول‏.‏ فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضاً بعض الشيء وكانت للأولى أشد فخالفة‏.‏ ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة‏.‏ فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة‏.‏ والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد وقد يكون الفرق بينهما كثيراً فيقع في مهواة من الغلط‏.‏ فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن أباه كان من المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية والمعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم‏.‏ فيتشوف الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات لهم‏.‏ فتذهب بهم وساوس المطامع وربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف ولا يعلمون استحالتها في حقهم وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش وأن التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك ولم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلاً لما سمع من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة‏.‏ ويشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدين‏.‏ بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم‏.‏ فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها فاحتاج ذلك القانون لمن يحفظه من الخطإ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأاصبح من حملة الصنائع والحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم والتعليم واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع للعلم من قام به من سواهم وأصبح حرفة للمعاش وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقراً عند أهل العصبية والملك‏.‏ والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت‏.‏ ولم يكن تعليمة للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في ا لإسلام‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرياسة في الحروب وقود العساكر فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل يظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا إن أباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد ولا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من الكتاب الأول‏.‏ وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها وكان مكانهم فيها معلوماً ولم يكن نيلهم لما نالوه كل الرياسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب‏.‏ وانظر خروجهم بالعساكر في الطوائف وتقليدهم عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في ذلك ويحمل الأحوال على غيرما هي‏.‏ وأكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار بعيدة لفناء العرب ودولتهم بها وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر فبقيت أنسابهم العربية محفوظة والذريعة إلى العز من العصبية والتناصر مفقود بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبدهم القهر ورئموا للمذلة يحسبون أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب والتحكم فتجد أهل الحرف والصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله‏.‏ فأما من باشر أحوال القبائل والعصبية ودولهم بالعدوة الغربية وكيف يكون التغلب بين الأمم والعشائر فقلما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره‏.‏ ومن هذا الباب أيضاً ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم‏.‏ والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم‏.‏ والقضاة أيضاً كانوا من أهل عصبية الدولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله‏.‏ وأما حين تباينت الدول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في قوتها وغلبتها ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد والغفلة وعن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم كالحجاج وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الأخشيدي وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الإلماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك‏.‏ ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل‏.‏ فأما ذكر الأحوال العامة للأفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره‏.‏ وقد كان الناس يفردونة بالتآليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم والأفاق لعهده في عصر الثلاثين والثلاثمائة غرباً وشرقاً وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم فصار إماماً للمؤرخين يرجعون إليه وأصلاً يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه‏.‏ ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من الأحوال لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغير‏.‏ وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن‏.‏ وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه‏.‏ وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر باإاجابة‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديداً ونشأة مستأنفة وعالم محدث‏.‏ فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبذلت لأهلها ويقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده‏.‏ وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحاً أو مندرجاً في أخباره وتلويحاً لاختصاص قصدي في التآليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه وأن الأخبار المتناقلة لا توفي كنه ما أريده منه‏.‏ والمسعودي إنما استوفى ذلك لبعد رحلته وتقلبه في البلاد كما ذكر قي كتابه مع أنه لما ذكر المغرب قصر في استيفاء أحواله وفوق كل ذي علم عليم ومرد العلم كله إلى الله والبشر عاجز قاصراً والاعتراف متعين واجب ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب وأنجحت له المساعي والمطالب‏.‏ ونحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التآليف والله المسدد والمعين وعليه التكلان‏.‏ وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا‏.‏ اعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الحنك والحلق والأضراس أو بقرع الشفتين أيضاً فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع وتجيء الحروف متمايزة في السمع وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر‏.‏ وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف‏.‏ فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى‏.‏ والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفاً كما عرفت‏.‏ ونجد للعبرانيين حروفاً ليست في لغتنا وفي لغتنا أيضاً حروف ليست في لغتهم وكذلك الأفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم‏.‏ ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملاً عن الدلالة الكتابية مغفلاً عن البيان وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده‏.‏ وليس ذلك بكاف في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله‏.‏ ولما كان كتابنا مشتملاً على أخبار البربر وبعض العجم وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه‏.‏ فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه ليتوسط القارىء بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الأشمام كالصراط في قراءة خلف فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين‏.‏ فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافاً وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف‏.‏ وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر‏.‏ وما جاء من غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معاً ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك فنكون قد دللنا عليه‏.‏ ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم‏.‏ فاعلم ذلك والله الموفق للصواب بمنه وفضله‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:39 PM

الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة
وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال‏.‏ ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه‏.‏ فمنها التشيعات للأراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الإنتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله‏.‏ ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح‏.‏ ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب‏.‏ ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين‏.‏ ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رأها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه‏.‏ ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها‏.‏ ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جمبع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض‏.‏ وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم‏.‏ كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية وكيف اتخذ تابوت الخشب وفي باطنه صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى كتب صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية ونصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم له بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرر ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينتظرون به رجوعه عن غروره ذلك طرفة عين ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكل وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة‏.‏ وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية‏.‏ والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله‏.‏ وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك مكانه‏.‏ وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد والمتدلين في الأبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤه بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلي فيها يهلك لحينه‏.‏ وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هوحار بإفراط والماء الذي يعدله بارد والهواء الذي خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك‏.‏ ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ومنه يتخذون زيتهم‏.‏ وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاد الزيت‏.‏ ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة تشتمل على عشرة آلاف باب‏.‏ والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم‏!‏‏.‏ وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص‏.‏ وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر‏.‏ ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الأنية والخرثي وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع‏.‏ وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح‏.‏ ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول الففظ وتأويلة بما لا يقبله العقل‏.‏ وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط‏.‏ وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة‏.‏ فلذلك وجب أن ينظر في إمكان ؤقوعه وصار في ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة‏.‏ وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الأجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له‏.‏ وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصور من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه‏.‏ وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الضد والصواب فيما ينقلونه‏.‏ وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تآليفنا‏.‏ وكان هذا علم مستقل بنفسه‏.‏ فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة أخرى‏.‏ وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً‏.‏
واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص‏.‏ وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه‏.‏ ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية إذ السياسه المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهورعلى منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤة‏.‏ فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه‏.‏ وكأنه علم مستنبط النشأة‏.‏ ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة‏.‏ ما أدري ألغفلتهم عن ذلكظ وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل‏.‏ فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل وما ظهر عليهم آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها‏.‏ ولم نقف على شيء من علوم غيرهم‏.‏ وإذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب إن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه‏.‏ لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم ‏"‏ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏.‏ وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب‏:‏ مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب اثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخف ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع وأن القتل أيضاً مفسد للنوع وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران فكان لها النظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة‏.‏ وكذلك أيضاً يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة لكنهم لم يستوفوه‏.‏ فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي‏:‏ ‏"‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلاأ بالمال ولا سبيل إلى المال إلاأ بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك ‏"‏‏.‏ ومن كلام أنو شروان في هذا المعنى بعينه‏:‏ ‏"‏ الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمال وإصلاح العمال باستقامة الوزراء ة ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها‏.‏ يملكها ولاتملكه ‏"‏‏.‏ وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة المتداول بين الناس جزء صالح منه إلا أنه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها وهو قوله‏:‏ ‏"‏ العالم بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تحيا به السنة السنة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرعية الرعية عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه العالم العالم بستان‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏"‏ ثم ترجع إلى أول الكلام‏.‏ فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض وارتدت أعجازها على صدورها واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره عليها وعظم من فوائدها‏.‏ وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك وأعطيته حقه من التصفح والتفهم عثرت في أثنائه على تفسير الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفى بيناً بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان‏.‏ وكذلك تجد في كلام ابن المقفع وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام‏.‏ وكذلك حوم الماضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك وبوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلة إنما يبوب الباب للمسألة ثم يستكثر من الأحاد والآثار وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة ولا يكشف عن التحقيق قناعاً يرفع بالبراهين الطبيعية حجاباً إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقق قصده ولا استوفى مسائله‏.‏ ونحن ألهمنا الله إلى ذلك الهاماً وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره‏.‏ فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية‏.‏ وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق‏.‏ والله يهدي بنوره من يشاء‏.‏ ونحن الأن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول‏:‏ لما كان الإنسان متميزاً عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها‏.‏ فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الني تميز به عن الحيوانات وشرف بوصفه على المخلوقات‏.‏ ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية‏.‏ ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ‏"‏‏.‏ ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه‏.‏ ومن هذا العمران ما يكون بدوياً وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضرياً وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها‏.‏ وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضاً ذاتياً له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول‏:‏ الأول‏:‏ في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض‏.‏ والثاني‏:‏ في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية‏.‏ والثالث‏:‏ في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية‏.‏ والرابع‏:‏ في العمران الحضري والبلدان والأمصار‏.‏ والخامس‏:‏ في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه‏.‏ والسادس‏:‏ في العلوم واكتسابها وتعلمها‏.‏ وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمالي وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبين لك بعد‏.‏ والله الموفق للصواب والمعين عليه‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:40 PM

الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة
وفيه مقدمات
المقدمة الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري
ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم‏:‏ ‏"‏ الإنسان مدني بالطبع ‏"‏ أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران‏.‏ وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله‏.‏ إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه‏.‏ ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ‏.‏ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري‏.‏ هب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل‏.‏ ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير‏.‏ ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد‏.‏ فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف‏.‏ وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه‏.‏ لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته‏.‏ ولما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره‏.‏ وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد‏.‏ فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له الألات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع‏:‏ مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة والتراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك مما ذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء‏.‏ فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الألات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه‏.‏ وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل قوت ولا غذاء ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته ويبطل نوع البشر‏.‏ وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه‏.‏ فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم وهذا هو معنى العمران الذي جعلناة موضوعاً لهذا العلم‏.‏ وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له‏.‏ وهذا وإن لم يكن واجباً على صاحب الفن لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضاً من الممنوعات عندهم فيكون إثباته من التبرعات والله الموفق بفضله‏.‏ ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم‏.‏ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدو عنهم لأنها موجودة لجميعهم‏.‏ فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم والهاماتهم‏.‏ فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك‏.‏ وقد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية ولا بد لهم منها‏.‏ وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد لما استقرىء فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة‏:‏ ‏"‏ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ‏"‏‏.‏ وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي وأنها خاصة طبيعية للإنسان فيقررون هذا البرهان إلى غايته وأنه لا بد للبشر من الوازع ثم يقولون بعد ذلك‏.‏ وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف‏.‏ وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته‏.‏ فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب‏.‏ بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع‏.‏ وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة‏.‏ والله ولي التوفيق والهداية‏.‏ المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم اعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه‏.‏ فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها‏.‏ وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض وليس بصحيح وإنما التحت الطبيعي قلب الأرض ووسط كرتها الذي هو مركزها والكل يطلبه بما فيه من الثقل وما عدا ذلك من جوانبها‏.‏ وأما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض‏.‏ وإن قيل في شيء منها أنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه‏.‏ وأما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحراً يسم البحر المحيط ويسمى أيضاً لبلاية بتفخيم اللام الثانية ويسمى أوقيانوس أسماء أعجمية ويقال له البحر الأخضر والأسود‏.‏ ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال وإنما المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الاستواء ومن جهة الشمال‏.‏ إلى خط كروي ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج ومأجوج‏.‏ وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة‏.‏ وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم السبعة‏.‏ وخط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق وهو طول الأرض وأكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر خط في الفلك‏.‏ ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستين درجة والدرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخاً والفرسخ اثنا عشر آلف ذراع في ثلاثة أميال لأن الميل أربعة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن‏.‏ وبين دائرة معدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين وتسامت خط الاستواء من الأرض وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة‏.‏ لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع وستون درجة والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى‏.‏ ثم أن المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وما فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرمال مثل‏:‏ بطليموس في كتاب الجغرافيا وصاحب كتاب روجار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول فالأقليم الأول أطول مما بعده وكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة الأرض‏.‏ وكل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي‏.‏ وفي كل جزء

ميارى 3 - 8 - 2010 09:42 PM

الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه
البحار‏:‏ وذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج منه من جهة المغرب في الإقليم الرابع البحر الرومي المعروف‏.‏ ويبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشر ميلاً أو نحوها ما بين طنجة وطريف ويسمى الزقاق ثم يذهب مشرقاً وينفسح إلى عرض ستمائة ميل‏.‏ ونهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ ومائة وستين فرسخاً من مبدئه وعليه هنالك سواحل الشام‏.‏ وعليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أولها طنجة عند الخليج ثم إفريقية ثم برقة إلى الإسكندرية‏.‏ ومن جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج ثم البنادقة ثم رومة ثم الإفرنجة ثم الأندلس إلى طريف عند الزقاق قبالة طنجة‏.‏ ويسمى هذا البحر الرومي والشامي وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية ودانية‏.‏ قالوا‏:‏ ويخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين‏.‏ أحدهما مسامت للقسطنطينية يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض رمية السهم ويمر ثلاثة بحار‏:‏ فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال ويمر في جريه ستين ميلاً ويسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال فيمد بحر نيطش وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هريقلية وينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف وثلاثمائة ميل من فوهته وعليه من الجانبين أمم من الروم والترك وبرجان والروس‏.‏ والبحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي وهو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة وينتهي الي بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدئه‏.‏ وعلى حافتيه من البنادقة والروم وغيرهم أمم ويسمى خليج البنادقة‏.‏ قالوا‏:‏ وينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر إلى الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم الأول ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة والزنج وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ من مبدئه ويسمى البحر الصيني والهندي والحبشي‏.‏ وعليه من جهة الجنوب بلاد الزنج وبلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره وليسوا من البربر الذين هم قبائل المغرب ثم بلد مقدشو ثم بلد سفالة وأرض الواق واق وأمم أخر ليس بعدهم إلا القفار والخلاء‏.‏ وعليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم الهند ثم السند ثم سواحل اليمن من الأحقاف وزبيد وغيرها ثم بلاد الزنج عند نهايته وبعدهم الحبشة‏.‏ قالوا‏:‏ ويخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقاً ثم يمر مستبحراً إلى ناحية الشمال ومغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى مدينة القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه ويسمى بحر القلزم وبحر السويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل‏.‏ وعليه من جهة الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز وجدة ثم مدين وأيلة وفاران عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل الصعيد وعيذاب وسواكن وزيلع ثم بلاد الحبشة عند مبدئه وأخره عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش وبينهما نحو ست مراحل‏.‏ وما زال الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتم ذلك‏.‏ والبحر الثاني من هذا البحر الحبشي ويسمى الخليج الأخضر يخرج ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن ويمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة فرسخ وأربعين فرسخاً من مبدئه ويسمى بحر فارس‏.‏ وعليه من جهة الشرق سواحل السند ومكران وكرمان وفارس والأبلة عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل البحرين واليمامة وعمان والشحر والأحقاف عند مبدئه‏.‏ وفيما بين بحر فارس والقلزم جزيرة العرب كأنها داخلة من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب وبحر القلزم من الغرب وبحر فارس من الشرق وتفضي إلى العراق فيما بين الشام والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما‏.‏ وهنالك الكوفة والقادسية وبغداد وإيوان كسرى والحيرة‏.‏ ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم‏.‏ وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها وبلاد اليمامة والبحرين وعمان جهة الشرق منها وبلاد اليمن في قالوا‏:‏ وفي هذا المعمور بحر أخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان وطبرستان طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربيه أذربيجان والديلم وفي شرقيه أرض الترك وخوارزم وفي جنوبيه طبرستان وفي شماليه أرض الخزر واللان‏.‏ هذه جملة البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا‏.‏ الأنهار قالوا‏:‏ وفي هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة ونهر بلخ المسمى جيحون‏.‏ فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل‏.‏ ويخرج من هذه البحيرة نهران‏.‏ يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية ويسمى نيل مصر وعليه الصعيد من شرقيه والواحات من غربيه‏.‏ ويذهب الأخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمرعلى سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأمهم كلهم على ضفتيه‏.‏ وأما الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس ويمر جنوباً في أرض الروم وملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة ثم بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء التي بين البصرة وواسط ومن هناك يصب في البحر الحبشي وتنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة‏.‏ وأما دجلة فمبدؤه عين ببلاد خلاط من أرمينية أيضاً وتمر على سمت الجنوب بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى واسط فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة وتفضي إلى بحر فارس وهو في الشرق على يمين الفرات‏.‏ وينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كل جانب‏.‏ وفيما بين الفرات ودجلة من أوله جزيرة الموصل قبالة الشام من عدوتي الفرات وقبالة أذربيجان من عدوة دجلة‏.‏ وأما نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة وتنجلب إليه أنهار عظام ويذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان ثم يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس فيصب في بحيرة الجرجانية التي بأسفل مدينتها وهي مسيرة شهر في مثله وإليها ينصب نهر فرغانة والشاش الأتي من بلاد الترك‏.‏ وعلى غربي نهر جيحون بلاد خراسان وخوارزم وعلى شرقيه بلاد بخارى وترمذ وسمرقند ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد الترك وفرغانة والخزرجية وأمم الأعاجم‏.‏ وقد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه والشريف في كتاب ‏"‏ روجار ‏"‏ وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر وبالأوطان التي للعرب من المشرق واللة الموفق‏.‏

تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمراناً من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأول والثاني من الأقاليم المعمورة أقل عمراناً مما بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرماد والبحر الهندي الذي في الشرق منهما‏.‏ وأمم هذين الإقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك‏.‏ والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك‏.‏ فالقفار فيها قليلة والرمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحد عدداً والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس والجنوب خلاء كله‏.‏ وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحروقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس‏.‏ فلنوضح ذلك ببرهانه ليتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع فنقول‏:‏ إن قطبي الفلك الجنوبي والشمالي إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب وتسمى دائرة معدل النهار‏.‏ وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك التي في جوفه قهراً وهذه الحركة محسوسة‏.‏ وكذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في السرعة والبطء‏.‏ وممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجاً وهي على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أول الحمل وأول الميزان فتقسمها دائرة معدل النهار بنصفين‏:‏ نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال وهو من أول الحمل إلى أخر السنبلة ويصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أول الميزان إلى آخر الحوت‏.‏ وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار يمر من المغرب إلى المشرق ويسمى خط الاستواء‏.‏ ووقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدأ الإقليم الأول من الأقاليم السبعة والعمران كله في الجهة الشمالية عنه‏.‏ والقطب الشمالي يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستين درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السابع‏.‏ وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهي التي يين القطب ودائرة معدل النهار صار القطب على سمت الرؤوس وصارت دائرة معدل النهار على الأفق وبقيت ستة من البروج فوق الأفق وهي الشمالية وستة تحت الأفق وهي الجنوبية‏.‏ والعمارة فيما بين الأربعة والستين إلى التسعين ممتنعة لأن الحر والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما فلا يحصل التكوين‏.‏ فإذا الشمس تسامت الرؤوس على خط الاستواء في رأس الحمل والميزان ثم تميل عن المسامتة إلى رأس السرطان ورأس الجدي ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعاً وعشرين درجة‏.‏ ثم إذا ارتفع القطب الشمالي عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبي كذلك بمقدار متساو في الثلاثة وهو المسمى عند أهل المواقيت عرض البلد‏.‏ وإذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان وانخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه‏.‏ فلا يزال الأفق الشمالي يرتفع حتى يصير أبعد الشمالية وهو رأس السرطان في سمت الرؤوس وذلك حيث يكون عرض البلد أربعاً وعشرين في الحجاز وما يليه‏.‏ وهذا هو الميل الذي إذا مال رأس السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالي حتى صار مسامتاً‏.‏ فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشمس عن المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً وستين ويكون انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبي عن الأفق مثلها فينقطع التكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحر‏.‏ ثم إن الشمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعة على الأرض على زوايا قائمة وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادة‏.‏ وإذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادة‏.‏ فلهذا يكون الحر عند المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعده لأن الضوء سبب الحر والتسخين‏.‏ ثم إن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد‏.‏ ولا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان والجدي إلا أن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة وئفرط في شدتها‏.‏ وكذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربع وعشرين فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً ويبساً يمنع من التكوين لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبات وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة‏.‏ ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمس وعشرين فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً فيكون التكوين ويتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضو وكون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين ويفسد‏.‏ إلا أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد‏.‏ فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثاني قليلاً وفي الثالث والرابع والخامس متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء وفي السادس والسابع كثيراً لنقصان الحر وإن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع‏.‏ فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خط الإستواء وما وراءه‏.‏ وأورد عليهم أنه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة‏.‏ فكيف يتم البرهان على ذلك والظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قوي بإفراط الحر والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي‏.‏ وهو كذلك فإن خط الاستواء والذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جداً‏.‏ وقد زعم ابن رشد أن خط الأستواء معتدل وأن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا‏.‏ والذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التكوين وإنما امتنع فيما وراء خط الإستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابلاً للتكوين ولما امتنع المعتدل لغلبة الماء تبعه ما سواه لأن العمران متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع‏.‏ وأما القول بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر والله أعلم‏.‏ ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏ تفصيل الكلام على بدء الجغرافيا اعلم أن الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب يسمون كل قسم منها إقليماً‏.‏ فانقسم المعمور من الأرض كله على هذه السبعة الأقاليم كل واحد منها أخذ من الغرب إلى الشرق على طوله‏.‏ فالأول منها مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب وليس وراءه هنالك إلا القفار والرمال وبعض عمارة إن صحت فهي كلا عمارة‏.‏ ويليه من جهة شماليه الإقليم الثاني ثم الثالث كذلك ثم الرابع والخامس والسادس والسابع وهو آخر العمران من جهة الشمال‏.‏ وليس وراء السابع إلا الخلاء والقفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحال فيما وراء الإقليم الأوال في جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمال أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة الجنوب‏.‏ ثم أن أزمنة الليل والنهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالي عن أفاقها‏.‏ فيتفاوت قوس النهار والليل لذلك‏.‏ وينتهي طول الليل والنهار في آخر الإقليم الأول وذلك عند حلول الشمس برأس الجدي لليل وبرأس السرطان للنهار كل واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة‏.‏ وكذلك في آخر الإقليم الثاني مما يلي الشمال فينتهي طول النهار فيه عند حلول الشمس برأس السرطان وهو منقلبها الصيفي إلى ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة‏.‏ ومثله أطول الليل عند منقلبها الشتوي برأس الجدي‏.‏ ويبقى للأقصر من الليل والنهار ما يبقى بعد الثلاث عشرة ونصف من جملة أربع وعشرين الساعات الزمانية لمجموع الليل والنهار وهي دورة الفلك الكاملة‏.‏ وكذلك في آخر الإقليم الثالث مما يلي الشمال أيضاً ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة وفي آخر الرابع إلى أربع عشرة ساعة ونصف ساعة وفي آخر الخامس إلى خمس عشر ساعة وفي آخر السادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف وفي آخر السابع إلى ست عشرة ساعة وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها ونهارها بنصف ساعة لكل إقليم يتزايد من أوله في ناحية الجنوب إلى آخره في ناحية الشمال موزعة على أجزاء هذا البعد‏.‏ وأما عرض البلدان في هذه الأقاليم فهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدل النهار الذي هو سمت رأس خط الاستواء وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبي عن أفق ذلك البلد‏.‏ يرتفع القطب الشمالي عنه وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمى عرض البلد كما مر ذلك قبل‏.‏ والمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ويذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها في المسالك ونحن الأن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار والبحار في كل جزء منها ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب ‏"‏ نزهة المشتاق ‏"‏ الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة‏.‏ وجمع له كتباً جمة للمسعودي وابن خرداذبه والحوقلي والدمري وابن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنه وفضله‏.‏ الإقليم الأول وفيه من جهة غربيه الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس يأخذ أطوال البلاد‏.‏ وليست في بسيط الإقليم وإنما هي في البحر المحيط جزر متكثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة ويقال إنها معمورة‏.‏ وقد بلغنا أن سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض أساراهم بسواحل المغرب الأقصى وصاروا إلى خدمة السلطان‏.‏ فلما تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم وإنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون وأن الحديد مفقود بأرضهم وعيشهم من الشعير وماشيتهم المعز وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت ولا يعرفون ديناً ولم تبلغهم دعوة‏.‏ ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح ومعرفة جهات مهابها وإلى أين يوصل إذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب‏.‏ وإذا اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتية والملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر‏.‏ والبلاد التي في حافات البحر الرومي وفي غدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحرعلى ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة ويسمونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم‏.‏ وهذا كله مفقود في البحر المحيط‏.‏ فلذلك لا تلج فيه السفن لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدي إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها‏.‏ فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها‏.‏ وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه ويسمى نيل السودان‏.‏ ويذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك‏.‏ وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان‏.‏ وإلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثمين ومفاوز يجولون فيها‏.‏ وفي جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال لهم لملم وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب وكلهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة وربما يأكل بعضهم بعضاً وليسوا في عداد البشر‏.‏ وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان‏.‏ فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح‏.‏ وقال صاحب كتاب روجار أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن‏.‏ وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان مالي‏.‏ وفي شرقي هذا البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد كوكو على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك‏.‏ ويمر مغرباً فيغوص في رمال الجزء الثاني‏.‏ وكان ملك كوكو قائماً بنفسه ثم استولى عليها سلطان مالي وأصبحت في مملكته وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر‏.‏ وفي جنوبي بلد كوكو بلاد كانم من أمم السودان‏.‏ وبعدهم ونغارة على ضفة النيل من شماليه‏.‏ وفي شرقي بلاد ونغارة وكانم بلاد زغاوة وتاجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم‏.‏ وفيه يفر نيل مصرذاهباً من مبدئه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي فى الشمال‏.‏ ومخرج هذا النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة‏.‏ واختلفوا في ضبط هذه اللفظة‏.‏ فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه وكثرة ضوئه‏.‏ وفي كتاب المشترك لياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند وكذا ضبطه ابن سعيد‏.‏ فيخرح من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل خمسة منها في بحيرة وبينهما ستة أميال‏.‏ ويخرج من كل واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال‏.‏ وينقسم ماؤها بقسمين‏:‏ فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان‏.‏ وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة وهي في غربي هذا النيل وبعدها علوة وبلاق وبعدهما جبل الجنادل على ستة مراحل من بلاق في الشمال وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صباً هائلاً فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل‏.‏ وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة‏.‏ والواحات في غربيها عدوة النيل وهي الأن خراب وبها آثار العمارة القديمة‏.‏ وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر‏.‏ وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر‏.‏ وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل‏.‏ وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس ينتهي بحر الهند الذي يدخل من ناحية الصين ويغمرعامة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلا ما كان في الجزائر التي في داخله وهي متعددة يقال تنتهي إلى ألف جزيرة أو فيما على سواحله الجنوبية وهي آخر المعمور في الجنوب أو فيما على سواحله من جهة الشمال وليس منها في هذا الإقليم الأول إلا طرف من بلاد الصين في جهة الشرقي وفي بلاد اليمن‏.‏ وفي الجزء السادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهندي إلى جهة الشمال وهما بحر قلزم وبحر فارس وفيما بينهما جزيرة العرب‏.‏ وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشحر في شرقيها على ساحل هذا البحر الهندي وعلى بلاد الحجاز واليمامة‏.‏ وما إليهما كما نذكره في الإقليم الثاني وما بعده فأما الذي على ساحل هذا البحر من غربيه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجة في شمالي الحبشة ما بين جبل العلاقي في أعالي الصعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهندي وتحت بلاد زالع من جهة الشمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهندي ممتداً مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشمال في طول اثني عشر ميلاً فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في غرض ثلاثة أميال أو نحوها ويسمى باب المندب وعليه تمر مراكب اليمن إلى ساحل السويس قريباً من مصر‏.‏ وتحت باب المندب جزيرة سواكن ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجة من أمم السودان كما ذكرناه‏.‏ ومن شرقيه في هذا الجزء تهائم اليمن ومنها على ساحله بلد علي بن يعقوب‏.‏ وفي جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيه قرى بربر يتلو بعضها بعضاً‏.‏ وينعطف مع جنوبيه إلى آخر الجزء السادس‏.‏ ويليها هنالك من جهة شرقيها بلاد الزنج ثم بلاد سفالة على ساحله الجنوي في الجزء السابع من هذا الإقليم‏.‏ وفي شرقي بلاد سفالة من ساحله الجنوبي بلاد الواق واق متصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط‏.‏ وأما جزائر هذا البحر فكثيرة من أعظمها جزيرة سرنديب مدورة الشكل وبها الجبل المشهور يقال ليس في الأرض أعلى منه وهي قبالة سفالة‏.‏ ثم جزيرة القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشرق منحرفة بكثير إلى الشمال إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصين ويحتف بها في هذا البحر من جنوبيها جزائر الواق واق ومن شرقيها جزائر السملان إلى جزائر آخر في هذا البحر كثيرة العدد وفيها أنواع الطيب والأفاوية وفيها يقال معادن الذهب والزمرد وعامة أهلها على دين المجوسية وفيهم ملوك متعددون‏.‏ وبهذه الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا‏.‏ وعلى الضفة الشمالية من هذا البحر في الجزء السادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلها‏.‏ فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن وبعدها بلد صعدة مقر الإمامة الزيدية وهي بعيدة عن البحر الجنوبي وعن البحر الشرقي‏.‏ وفيما بعد ذلك مدينة عدن وفي شماليها صنعاء وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفار وبعدها أرض حضر موت ثم بلاد الشحر ما بين البحر الجنوبي وبحر فارس‏.‏ وهذه القطعة من الجزء السادس هي التي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى وينكشف بعدها قليل من الجزء التاسع وأكثر منه من العاشر فيه أعالي بلاد الصين ومن مدنه الشهيرة خانكو وقبالتها من جهة الشرق جزائر السيلان وقد تقدم ذكرها‏.‏ وهذا آخر الكلام في الإقليم الأول الإقليم الثاني وهو متصل بالأول من جهة الشمال‏.‏ وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها وفي الجزء الأول والثاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية وبعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان وفي الجانب الأسفل منهما صحراء نيستر متصلة من الغرب إلى الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان وفيها مجالات الملثمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة‏.‏ وعلى سمت هذه المفاوز شرقاً أرض فزان ثم مجالات أزكار من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثالث على سمتها في الشرق وبعدها من هذا الجزء بلاد كوار من أمم السودان ثم قطعة من أرض الباجويين‏.‏ وفي أسافل هذا الجزء الثالث وهي جهة الشمال منه بقية أرض ودان وعلى سمتها شرقاً أرض سنترية وتسمى الواحات الداخلة‏.‏ وفي الجزء الرابع من أعلاه بقية أرض الباجويين‏.‏ ثم يعترض في وسط هذا الجزء بلاد الصعيد حافات النيل الذاهب من مبدئه في الإقليم الأول إلى مصبه في البحر فيمر في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين وهما جبل الواحات من غربيه وجبل المقطم من شرقيه وعليه من أعلاه بلد أسنا وأرمنت ويتصل كذلك حافاته إلى أسيوط وقوص ثم إلى صول‏.‏ ويفترق النيل هنالك على شعبين ينتهي الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللاهون والأيسر عند دلاص وفيما بينهما أعالي ديار مصر‏.‏ وفي الشرق من جبل المقطم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهي إلى بحر السويس وهو بحر القلزم الهابط من البحر الهندي في الجنوب إلى جهة الشمال‏.‏ وفي عدوته الشرقية من هذا الجزء أرض الحجاز من جبل يلملم إلى بلاد يثرب‏.‏ وفي وسط الحجاز مكة شرفها الله وفي ساحلها مدينة جدة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربية من هذا البحر‏.‏ وفي الجزء السادس من غربيه بلاد نجد أعلاها في الجنوب وتبالة وجرش إلى عكاظ من الشمال‏.‏ وتحت نجد من هذا الجزء بقية أرض الحجاز وعلى سمتها في الشرق بلاد نجران وخيبر وتحتها أرض اليمامة وعلى سمت نجران في الشرق أرض سبأ ومأرب ثم أرض الشحر‏.‏ وينتهي إلى بحر فارس وهو البحر الثاني الهابط من البحر الهندي إلى الشمال كما مر‏.‏ ويذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمر ما بين شرقيه وجوفيه قطعة مثلثة عليها من أعلاة مدينة قلهات‏.‏ وهي ساحل الشحر ثم تحتها على ساحله بلاد عمان ثم بلاد البحرين وهجر منها في آخر الجزء‏.‏ وفي الجزء السابع في الأعلى من غربيه قطعة من بحر فارس تتصل بالقطعة الأخرى في السادس‏.‏ ويغمر بحر الهند جانبه الأعلى كله‏.‏ وعليه هنالك بلاد السند إلى بلاد مكران ويقابلها بلاد الطوبران وهي من السند أيضاً‏.‏ فيتصل السند كله في الجانب الغربي من هذا الجزء وتحول المفاوز بينه وبين أرض الهند ويمر فيه نهره الآتي من ناحية بلاد الهند ويصب في البحر الهندي في الجنوب‏.‏ وأول بلاد الهند على ساحل البحر الهندي وفي سمتها شرقاً بلاد بلهرا وتحتها الملتان بلاد الصنم المعظم عندهم ثم إلى أسفل من السند ثم إلى أعالي بلاد سجستان‏.‏ وفي الجزء الثامن من غربيه بقية بلاد بلهرا من الهند وعلى سمتها شرقاً بلاد القندهار ثم بلاد منيبار وفي الجانب الأعلى على ساحل البحر الهندي وتحتها في الجانب الأسفل أرض كابل وبعدها شرقاً إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الداخلة وقشمير الخارجة عند آخر الإقليم‏.‏ وفي الجزء التاسع ثم في الجانب الغربي منه بلاد الهند الأقصى ويتصل فيه إلى الجانب الشرقي فيتصل من أعلاه إلى العاشر وتبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصين فيها مدينة شيغون ثم تتصل بلاد الصين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط والله ورسوله أعلم وبه سبحانه التوفيق وهو ولي الفضل والكرم‏.‏ وهو متصل بالثاني من جهة الشمال‏.‏ ففي الجزء الأول منه وعلى نحو الثلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيه عند البحر المحيط إلى الشرق عند آخره‏.‏ ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلا خالقهم حسبما يأتي ذكره‏.‏ وفي القطعة التي بين هذا الجبل والإقليم الثاني وعلى البحر المحيط منها رباط ماسة ويتصل به شرقاً بلاد سوس ونول وعلى سمتها شرقاً بلاد درعة ثم بلاد سجلماسة ثم قطعة من صحراء نيستر المفازة التي ذكرناها في الإقليم الثاني‏.‏ وهذا الجبل مطل على هذه البلاد كلها في هذا الجزء وهو قليل الثنايا والمسالك في هذه الناحية الغربية إلى أن يسامت وادي ملوية فتكثر ثناياه ومسالكه إلى أن ينتهي‏.‏ وفي هذه الناحية منه أمم المصامدة ثم هنتاتة ثم تينملك ثم كدميوة ثم مشكورة وهم آخر المصامدة فيه ثم قبائل صنهاكة وهم صنهاجة‏.‏ وفي آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة‏.‏ ويتصل به هنالك من جوفيه جبل أوراس وهو جبل كتامة‏.‏ وبعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم‏.‏ ثم أن جبل درن هذا من جهة غربيه مطل على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفيه‏.‏ ففي الناحيه الجنوبية منها بلاد مراكش وأغمات وتادلا‏.‏ وعلى البحر المحيط منها رباط أسفى ومدينة سلا‏.‏ وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة‏.‏ وهذه هي ائتي تسمى المغرب الأقصى في عرف أهلها‏.‏ وعلى ساحل البحر المحيط منها بلدان‏:‏ أصيلا والعرايش‏.‏ وفي سمت هذه البلاد شرقاً بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان وفي سواحلها على البحر الرومي بلذ هنين ووهران والجزائر‏.‏ لأن هذا البحر الرومي يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في الناحية الغريية من الإقليم الرابع ويذهب مشرقاً فينتهي إلى بلاد الشام فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوباً وشمالاً فدخل في الإقليم الثالث والخامس‏.‏ فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثاك الكثير من بلاده‏.‏ ثم يتصل ببلاد الجزائر من شرقيها بلاد بجاية في ساحل البحر ثم قسنطينة في الشرق منها‏.‏ وفي آخر الجزء الأول وعلى مرحلة من هذا البحر في جنوب هذه البلاد ومرتفعاً إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير ثم بلد المسيلة ثم الزاب وقاعدتها بسكرة تحت جبل أوراس المتصل بدرن كما مر‏.‏ وذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشرقي‏.‏ والجزء الثاني من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأول ثم جبل درن على نحو الثلث من جنوبه ذاهباً فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين‏.‏ ويغمر البحر الرومي مسافة من شماله‏.‏ فالقطعة الجنوبية عن جبل درن غربيها كله مفاوز وفي الشرق منها بلد غدامس وفي سمتها شرقاً أرض ودان التي بقيتها في الإقليم الثاني كما مر‏.‏ والقطعة الجوفية عن جبل درن ما بينه وبين البحر الرومي في الغرب منها جبل أوراس وتبسة والأوبس‏.‏ وعلى ساحل البحر بلد بونة‏.‏ ثم في سمت هذه البلاد شرقاً بلاد إفريقية‏.‏ فعلى ساحل البحر مدينة تونس ثم سوسة ثم المهدية‏.‏ وفي جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد‏:‏ توزر وقفصة ونفزاوة‏.‏ وفيما بينها وبين السواحل مدينة القيروان وجبل وسلات وسبيطلة‏.‏ وعلى سمت هذه البلاد كلها شرقاً بلد طرابلس على البحر الرومي‏.‏ وبإزائها في الجنوب جبل دمر ونقرة من قبائل هوارة متصلة بجبل دحرن وفي مقابلة غدامس التي مر ذكرها في آخر القطعة الجنوبية‏.‏ وآخر هذا الجزء في الشرق سويقة ابن مشكورة على البحر‏.‏ وفي جنوبها مجالات العرب في أض ودان‏.‏ وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم يمر أيضاً فيه جبل درن إلا أنه ينعطف عند آخره إلى الشمال ويذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرومي ويسمى هنالك طرف أوثان‏.‏ والبحر الرومي من شماليه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه وبين جبل درن‏.‏ فالذي وراء الجبل في الجنوب وفي الغرب منة بقية أرض ودان ومجالات العرب فيها ثم زويلة ابن الخطاب ثم رمال وقفار إلى آخر الجزء في الشرق‏.‏ وفيما بين الجبل والبحر في الغرب منه بلد سرت على البحر‏.‏ ثم خلاء وقفار تجول فيها العرب ثم أجدابية ثم برقة عند منعطف الجبل ثم طلمسة على البحر هنالك ثم في شرق المنعطف من الجبل مجالات هيب ورواحة إلى آخر الجزء‏.‏
وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم وفي الأعلى من غربيه صحارى برقيق وأسفل منها بلاد هيب ورواحة‏.‏ ثم يدخل البحر الرومي في هذا الجزء فيغمر طائفة منه إلى الجنوب حتى يزاحم طرفه الأعلى ويبقى بينة وبين آخر الجزء قفار تجول فيها العرب وعلى سمتها شرقاً بلاد الفيوم وهي على مصب أحد الشعبين من النيل الذي يمرعلى اللاهون من بلاد الصعيد في الجزء الرابع من الإقليم الثاني‏.‏ ويصب في بحيرة فيوم وعلى سمته شرقاً أرض مصر ومدينتها الشهيرة على الشعب الثاني الذي يمر بدلاص كل بلاد الصعيد عند آخر الجزء الثاني‏.‏ ويفترق هذا الشعب افتراقة ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شنطوف وزفتي‏.‏ وينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين ويصب جميعها في البحر الرومي‏.‏ فعلى مصب الغربي من هذا الشعب بلد الإسكندرية وعلى مصب الوسط بلد رشيد وعلى مصب الشرقي بلد دمياط‏.‏ وبين مصر والقاهرة وبين هذه السواحل البحرية أسافل الديار المصرية كلها محشوة عمراناً وفلجاً‏.‏ وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم بلاد الشام وأكثرها على ما أصف وذلك لأن بحر القلزم ينتهي من الجنوب وفي الغرب منه عند السويس لأنه في ممره مبتدئ من البحر الهندي إلى الشمال ينعطف آخذاً إلى جهة الغرب فتكون قطعة من انعطافه في هذا الجزء طويلة فينتهي في الطرف الغربي منه إلى السويس‏.‏ وعلى هن‏!‏ القطعة بعد السويس فاران ثم جبل الطور ثم أيلة مدين ثم الحوراء في آخرها‏.‏ ومن هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في أرض الحجاز كما مر في الأقليم الثاني في الجزء الخامس منه‏.‏ وفي الناحية الشمالية من هذا الجزء قطعة من البحر الرومي غمرت كثيراً من غربيه عليها الفرما والعريش وقارب طرفها بلد القلزم فيضايق ما بينهما من هنالك وبقي شبه الباب مفضياً إلى أرض الشام‏.‏ وفي غربي هذا الباب فحص التيه أرض جرداء لا تنبت كانت مجالاً لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم إلى الشام أربعين سنة كما قصه القرآن‏.‏ وفي هذه القطعة من البحر الرومي في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص وبقيتها في الأقليم الرابع كما نذكره‏.‏ وعلى ساحل هذه القطعة عند الطرف المتضايق لبحر السويس بلد العريش وهو آخر الديار المصرية وعسقلان وبينهما طرف هذا البحر ثم تنحط هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الأقليم الرابع عند طرابلس وغزة‏.‏ وهنالك ينتهي البحر الرومي في جهة الشرق‏.‏ وعلى هذه القطعة أكثر سواحل الشام‏.‏ ففي شرقه غزة ثم عسقلان بانحراف يسير عنها إلى الشمال بلد قيسارية‏.‏ ثم كذلك بلد عكا ثم صور ثم صيدا ثم ينعطف البحر إلى الشمال في الأقليم الرابع‏.‏ ويقابل هذه البلاد الساحلية من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيم يخرج من ساحل أيلة من بحر القلزم ويذهب في ناحية الشمال منحرفاً إلى الشرق إلى إن يجاوز هذا الجزء ويسمى جبل اللكام وكأنه حاجز بين أرض مصر والشام‏.‏ ففي طرفه عند أيلة العقبة التي يمر عليها الحجاج من مصر إلى مكة ثم بعدها في ناحية الشمال مدفن الخليل عليه الصلاة والسلام عند جبل السراه يتصل من عند جبل اللكام المذكور من شمال العقبة ذاهباً على سمت الشرق ثم ينعطف قليلاً‏.‏ وفي شرقه هنالك بلد الحجر وديار ثمود وتيماء ودومة الجندل وهي أسافل الحجاز‏.‏ وفوقها جبل رضوى وحصون خيبر في جهة الجنوب عنها‏.‏ وفيما بين جبل السراة وبحر القلزم صحراء تبوك‏.‏ وفي شمال جبل السراة مدينة القدس عند جبل اللكام ثم الأردن ثم طبرية‏.‏ وفي شرقها بلاد الغور إلى أذرعات وفي سمتها شرقاً دومة الجندل آخر هذا الجزء وهي آخر الحجاز‏.‏ وعند منعطف جبل اللكام إلى الشمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا وبيروت من القطعة البحرية وجبل اللكام يعترض بينها وبينها‏.‏ وعلى سمت دمشق في الشرق مدينة بعلبك ثم مدينة حمص في الجهة الشمالية آخر الجزء عند منقطع جبل اللكام‏.‏ وفي الشرق عن بعلبك وحمص بلد تدمر ومجالات البادية إلى آخر الجزء‏.‏ وفي الجزء السادس من أعلاه مجالات الأعراب تحت بلاد نجد واليمامة ما بين جبل العرج والصمان إلى البحرين وهجر على بحر فارس‏.‏ وفي أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة والقادسية ومغايض الفرات‏.‏ وفيما بعدها شرقاً مدينة ا البصرة‏.‏ وفي هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبادان والأبلة من أسافل الجزء من شماله‏.‏ ويصب فيه عند عبادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة وتختلط به جداول أخرى من الفرات ثم تجتمع كلها عند عبادان وتصب في بحر فارس‏.‏ وهذه القطعة من البحر متسعة في أعلاه متضايقة في آخره في شرقيه وضيقة عند منتهاه مضايقة للحد الشمالي منه‏.‏ وعلى عدوتها الغربية منه أسافل البحرين وهجر والأحساء وفي غربها أخطب والصمان وبقية أرض اليمامة وعلى عدوته الشرقية سواحل فارس من أعلاها وهو من عند آخر الجزء من الشرق على طرف قد امتد من هذا البحر مشرقاً‏.‏ ووراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان وتحت هرمز على الساحل بلد سيراف ونجيرم على ساحل هذا البحر‏.‏ وفي شرقيه إلى آخر هذا الجزء وتحت هرمز بلاد فارس مثل سابور ودار أبجرد ونسا واصطخر والشاهجان وشيراز وهي قاعدتها كلها‏.‏ وتحت بلاد فارس إلى الشمال عند طرف البحر بلاد خوزستان ومنها الأهواز وتستر وصدى وسابور والسوس ورام هرمز وغيرها وأرجان وهي حد ما بين فارس وخوزستان‏.‏ وفي شرقي بلاد خوزستان جبال الأكراد متصلة إلى نواحي أصبهان وبها مساكنهم ومجالاتهم وراءها في أرض فارس وتسمى الرسوم‏.‏ وفي الجزء السابع في الأعلى منه من المغرب بقية جبال القفص ويليها من الجنوب والشمال بلاد كرمان ومكران ومن مدنها الرودان والضيرجان وجيرفت ويزدشير والبهرج‏.‏ وتحت أرض كرمان إلى الشمال بقية بلاد فارس إلى حدود أصبهان ومدينة أصبهان في طرف هذا الجزء ما بين غربه وشماله‏.‏ ثم في المشرق عن بلاد كرمان وبلاد فارس أرض سجستان وكوهستان في الجنوب‏.‏ وأرض كوهستان في الشمال عنها‏.‏ ويتوسط بين كرمان وفارس وبين سجستان وكوهستان في وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها‏.‏ ومن مدن سجستان بست والطاق‏.‏ وأما كوهستان فهي من بلاد خراسان‏.‏ ومن مشاهير بلادها سرخس وكوهستان آخر الجزء‏.‏ وفي الجزء الثامن من غربه وجنوبه مجالات الجلح من أمم الترك متصلة بأرض سجستان من غربها وبأرض كابل الهند من جنوبها‏.‏ وفي الشمال عن هذه المجالات جبال الغور وبلادها وقاعدتها غزنة فرضة الهند‏.‏ وفي آخر الغور من الشمال بلاد أستراباذ ثم في الشمال غرباً إلى آخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان‏.‏ وبها أسفراين وقاشان وبوشنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان‏.‏ وتنتهي خراسان هنالك إلى نهر جيحون‏.‏ وعلى هذا النهر من بلاد خراسان من غربيه مدينة بلخ وفي شرقيه مدينة ترمذ ومدينة بلخ كانت كرسي مملكة الترك‏.‏ وهذا النهر نهر جيحون مخرجه من بلاد وجار في حدود بذخشان مما يلي الهند‏.‏ ويخرخ من جنوب هذا الجزء وعند آخره من الشرق فينعطف عن قرب مغرباً إلى وسط الجزء ويسمى هنالك نهر خرناب ثم ينعطف إلى الشمال حتى يمر بخراسان ويذهب على سمته إلى إن يصب في بحرة خوارزم في الإقليم الخامس كما نذكره‏.‏ ويمده عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشمال خمسة أنهارعظيمة من بلاد الختل والوخش من شرقيه وأنهار أخرى من جبال البتم من شرقيه أيضاً وجوفي الجبل حتى يتسع ويعظم بما لا كفاء له ومن هذه الأنهار الخمسة الممدة له نهر وخشاب يخرج من بلاد التبت وهي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء فيمر مغرباً بانحراف إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء يعترضة فى طريقه جبل عظيم يمر من وسط الجنوب في هذا الجزء ويذهب مشرقاً بانحراف إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء فيجوز بلاد التبت إلى القطعة الشرقية الجنوبية من هذا الجزء‏.‏ ويحول بين الترك وبين بلاد الختل وليس فيه إلا مسلك واحد في وسط الشرق من هذا الجزء جعل فيه الفضل بن يحيى سداً وبنى فيه باباً كسد يأجوج ومأجوج‏.‏ فإذا خرج نهر وخشاب من بلاد التبت واعترضه هذا الجبل فيمر تحتة في مدى بعيد إلى أن يمر في بلاد الوخش ويصب في نهر جيحون عند حدود بلخ ثم يمر هابطاً إلى الترمذ في الشمال إلى بلاد الجوزخان‏.‏ وفي الشرق عن بلاد الغور فيما بينها وبين نهر نهر جيحون بلاد الناسان من خراسان‏.‏ وفي العدوة الشرقية هنالك من النهر بلاد الختل وأكثرها جبال وبلاد الوخش ويحدها من جهة الشمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربي نهر جيحون وتذهب مشرقة إلى أن يتصل طرفها بالجبل العظيم الذي خلفه بلاد التبت‏.‏ ويمر تحته نهر وخشاب كما قلناه فيتصل به عند باب الفضل بن يحيى‏.‏ ويمر نهر جيحون بين هذه الجبال وأنهاز أخرى تصب فيه منها نهر بلاد الوخش يصب فيه من الشرق تحت الترمذ إلى جهة الشمال ونهر بلخ يخرج من جبال البتم من مبدئه عند الجوزجان ويصب فيه من غربيه‏.‏ وعلى هذا النهر من غربيه بلاد آمد من خراسان‏.‏ وفي شرقي النص من هنالك أرض الصغد وأسروشنة من بلاد الترك وفي شرقها أرض فرغانة آخر الجزء شرقاً‏.‏ وكل بلاد الترك يحوزها جبال البتم إلى شمالها‏.‏ وفي الجزء التاسع من غربيه أرض التبت إلى وسط الجزء وفى جنوبيها بلاد الهند وفي شرقيها بلاد الصين إلى آخر الجزء‏.‏ وفي أسفل هذا الجزء شمالاً عن بلاد التبت الخزلجية من بلاد الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالاً‏.‏ ويتصل بها من غربيها أرض فرغانة أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً ومن شرقيها أرض التغرغر من الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالاً‏.‏ وفي الجزء العاشر في الجنوب منه جميعاً بقية الصين وأسافله‏.‏ وفي الشمال بقية بلاد التغرغر‏.‏ ثم شرقاً عنهم بلاد خرخير من الترك أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً‏.‏ وفي الشمال من أرض خرخير بلاد كتمان من الترك‏.‏ وقبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها ولا مسلك والصعود إلى أعلاه من خارجه صعب في الغاية‏.‏ وفي الجزيرة حيات قتالة وحصى من الياقوت كثيرة فيحتال أهل الناحية في استخراجه بما يلهمهم الله إليه‏.‏ وأهل هذه البلاد في هذا الجزء والعاشر فيما وراء خراسان والجبال كلها مجالات للترك أمم لا تحصى وهم رحالة أهل إبل وشاة وبقر وخيل للنتاج والركوب والأكل وطوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلا خالقهم وفيهم مسلمون مما يلي بلاد النهر نهر جيحون ويغزون الكفار منهم الدائنين بالمجوسية فيبيعون رقيقهم لمن يليهم ويخرجون إلى بلاد خراسان والهند والعراق‏.‏ الإقليم الرابع يتصل بالثالث من جهة الشمال والجزء الأول منه في غربيه قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوله جنوباً إلى آخره شمالاً وعليها في الجنوب مدينة طنجة ومن هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرومي في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلاً ما بين طريف والجزيرة الخضراء شمالاً وقصر المجاز وسبتة جنوباً ويذهب مشرقاً إلى إن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الأقليم وينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة أجزاء وأكثر الخامس ويغمر عن جانبيه طرفاً من الأقليم الثالث والخامس كما سنذكره‏.‏ ويسمى هذا البحر البحر الشامي أيضاً‏.‏ وفيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة ثم مايرقة ثم منرقة ثم سردانية ثم صقلية وهي أعظمها ثم بلونس ثم أقريطش ثم قبرص كما نذكرها كلها في أجزائها التي وقعت فيها‏.‏ ويخرج من هذا البحر الرومي عند آخر الجزء الثالث منه وفي الجزء الثالث من الإقليم الخامس خليج البنادقة يذهب إلى ناحية الشمال ثم ينعطف عند وسط الجزء من جوفيه ويمر مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الثاني من الخامس‏.‏ ويخرج منه أيضاً في آخر الجزء الرابع شرقاً من الإقليم الخامس خليج القسطنطنية يمر في الشمال متضايقاً في عرض رمية السهم إلى آخر الإقليم‏.‏ ثم يفضي إلى الجزء الرابع من الإقليم السادس وينعطف إلى بحر نيطش ذاهباً إلى الشرق في الجزء الخامس كله ويصف السادس من الإقليم السادس كما نذكر ذلك في أماكنه‏.‏ وعندما يخرج هذا البحر الرومي من البحر المحيط في خليج طنجة وينفسح إلى الإقليم الثالث يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين وبعدها مدينة سبتة على البحر الرومي ثم قطاون ثم باديس‏.‏ ثم يغمر هذا البحر بقية هذا الجزء شرقاً ويخرج إلى الثالث‏.‏ وأكثر العمارة في هذا الجزء في شماله وشمال الخليج منه وهي كلها بلاد الأندلس الغربية ومنها ما بين البحر المحيط والبحر الرومي أولها طريف عند مجمع البحرين وفي الشرق منها على ساحل البحر الرومي الجزيرة الخضراء ثم مالقة ثم المنكب ثم المربة‏.‏ وتحت هذه من لدن البحر المحيط غرباً وعلى مقربة منه شريش ثم لبلة وقبالتها فيه جزيرة قادس وفي الشرق عن شريش ولبلة أشبيلية ثم استجة وقرطبة ومديلة ثم غرناطة وجيان وأبدة ثم وادياش وبسطة وتحت هذه شنتمرية وشلب على البحر المحيط غرباً وفي الشرق عنهما بطليوس وماردة ويابرة ثم غافق وبزجالة ثم قلعة رياح وتحت هذه أشبونة على البحر المحيط غرباً وعلى نهر باجة وفي الشرق عنها شنترين وموزية على النهر المذكور ثم قنطرة السيف‏.‏ ويسامت أشبونة من جهة الشرق جبل الشارات يبدأ من المغرب هنالك ويذهب مشرقاً مع آخر الجزء من شماليه فيتتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النصف منه‏.‏ وتحت هذا الجبل طلبيرة في الشرق من فورنة ثم طليطلة ثم وادي الحجارة ثم مدينة سالم‏.‏ وعند أول هذا الجبل فيما بينه عيبن أشبونة بلد قلمرية وهذه غربي الأندلس‏.‏ وأما شرقي الأندلس فعلى ساحل البحر الرومي منها بعد المرية قرطاجنة ثم لفتة ثم دانية ثم بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشرق وتحتها شمالاً ليورقة وشقورة تتاخمان بسطة وقلعة رياح من غرب الأندلس‏.‏ ثم مرسية شرقاً ثم شاطبة تحت بلنسية شمالاً ثم شقر ثم طرطوشة ثم طركونة آخر الجزء‏.‏ ثم تحت هذه شمالاً أرض منجالة وريدة متاخمان لشقورة وطليطلة من الغرب ثم أفراغة شرقاً تحت طرطوشة وشمالاً عنها‏.‏ ثم في الشرق عن مدينة سالم قلعة أيوب ثم سرقسطة ثم لاردة آخر الجزء شرقاً وشمالاً‏.‏ والجزء الثاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلا قطعة من غربيه في الشمال فيها بقعة جبل البرنات ومعناه جبل الثنايا‏.‏ والسالك يخرج إليه من آخر الجزء الأول من الإقليم الخامس يبدأ من الطرف المنتهي من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوباً وشرقاً ويمر في الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في هذا الإقليبم الرابع منحرفاً عن الجزء الأول منه إلى هذا الجزء الثاني فيقع فيه قطعة منه تفضي ثناياها إلى البر المتصل وتسمى أرض غشكونية وفيه مدينة خريدة وقرقشونة‏.‏ وعلى ساحل البحر الرومي من هذه القطعة مدينة برشلونة ثم أربونة‏.‏ وفي هذا البحر الذي غمر الجزء جزائر كثيرة والكثير منها غير مسكون لصغرها‏.‏ ففي غربيه جزيرة سردانية وفي شرقيه جزيرة صقلية متسعة الأقطار يقال إن دورها سبعمائة ميل وبها مدن كثيرة مشاهيرها سرقوسة وبلرم وطرابغة ومازر ومسيني وهذه الجزيرة تقابل أرض إفريقية وفيما بينهما جزيرة أعدوش ومالطة‏.‏ والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر إلا ثلاث قطع من ناحية الشمال الغربية منها أرض قلورية والوسطى من أرض أبكيردة والشرقية من بلاد البنادقة‏.‏ والجزء الرابع من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر كما مر وجزائره كثيرة وأكثرها غير مسكون كما في الثالث‏.‏ والمعمور منها جزيرة بلونس في الناحية الغربية الشمالية وجزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب والشرق منه‏.‏ والجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلثة كبيرة بين الجنوب والغرب ينتهي الضلع الغربي منها إلى آخر الجزء في الشمال وينتهي الضلع الجنوبي منها إلى نحو الثلثين من الجزء ويبقى في الجانب الشرقي من الجزء قطعة نحو الثلث يمر الشمالي منها إلى الغرب منعطفاً مع البحر كما قلناه‏.‏ وفي النصف الجنوبي منها أسافل الشام ويمر في وسطها جبل اللكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشام في الشمال فينعطف من هنالك ذاهباً إلى القطر الشرقي الشمالي ويسمى بعد انعطافه جبل السلسلة ومن هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس‏.‏ ويجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشرق‏.‏ ويقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متصلة بعضها ببعض إلى أن ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرومي متآخر إلى آخر الجزء من الشمال‏.‏ وبين هذه الجبال ثنايا تسمى الدروب وهي التي تفضي إلى بلاد الأرمن وفي هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال وبين جبل السلسلة‏.‏ فأما الجهة الجنوبية التي قدمنا أن فيها أسافل الشام وأن جبل اللكام معترض فيها بين البحر الرومي وآخر الجزء من الجنوب إلى الشمال فعلى ساحل البحر منه بلد أنطرطوس في أول الجزء من الجنوب متاخمة لغزة وطرابلس على ساحله من الإقليم الثالث وفي شمال أنطرطوس جبلة ثم اللاذقية ثم اسكندرونة ثم سلوقية وبعدها شمالاً بلاد الروم‏.‏ وأما جبل اللكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشام من أعلى الجزء جنوباً من غربيه حصن الحواني وهو للحشيشة الإسماعيلية ويعرفون لهذا العهد بالفداوية ويسمى الحصن مصياف وهو قبالة أنطرطوس‏.‏ وقبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلمية في الشمال عن حمص‏.‏ وفي الشمال عن مصياف بين الجبل والبحر بلد أنطاكية‏.‏ ويقابلها في شرق الجبل المعرة وفي شرقها المراغة وفي شمال أنطاكية المصيصة ثم أذنة ثم طرسوس آخر الشام‏.‏ ويحاذيها من غرب الجبل قنسرين ثم عين زربة‏.‏ وقبالة قنسرين في شرق الجبل حلب‏.‏ ويقابل عين زربة منبج آخر الشام‏.‏ وأما الدروب فعن يمييها ما بينها وبين البحر الرومي بلاد الروم التي هي لهذا العهد للتركمان وسلطانها ابن عثمان‏.‏ وفي ساحل البحر منها بلد أنطاكية والعلايا‏.‏ وأما بلاد الأرمن التي بين جبل الدروب وجبل السلمية ففيها بلد مرعش وملطية والمعرة إلى آخر الجزء الشمالي‏.‏ ويخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان ونهر سيحان في شرقيه فيمر بها جيحان جنوباً حتى يتجاوز الدروب ثم يمر بطرسوس ثم بالمصيصة ثم ينعطف هابطاً إلى الشمال ومغرباً حتى يصب في البحر الرومي جنوب سلوقية‏.‏ ويمر نهر سيحان موازياً لنهر جيحان فيحاذي المعرة ومرعش ويتجاوز جبال الدروب إلى أرض الشام ثم يمر بعين زربة ويجوز عن نهر جيحان ثم ينعطف إلى الشمال مغرباً فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة ومن غربها‏.‏ وأما بلاد الجزيرة التي يحيط بها منعطف جبل اللكام إلى جبل السلسلة ففي جنوبها بلد الرافضة والرقة ثم حران ثم سروج والرها ثم نصيبين ثم سمياط وآمد تحت جبل السلسلة‏.‏ و آخر الجزء من شماله وهو أيضاً آخر الجزء من شرقيه ويمر في وسط هذه القطعة نهر الفرات ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمران في بلاد الأرمن جنوباً إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة فيمر نهر الفرات من غربي سمياط وسروج وينحرف إلى الشرق فيمر بقرب الرافضة والرقة ويخرج إلى الجزء السادس‏.‏ ويمر دجلة في شرق آمد وينعطف قريباً إلى الشرق فيخرج قريباً إلى الجزء السادس‏.‏ وفي الجزء السادس من هذا الإقليم من غربيه بلاد الجزيرة وفي الشرق منها بلاد العراق متصلة بها تنتهي في الشرق إلى قرب آخر الجزء ويعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطاً من جنوب الجزء منحرفاً إلى الغرب فإذا انتهى إلى وسط الجزء من آخره في الشمال يذهب مغرباً إلى أن يخرج من الجزء السادس ويتصل على سمته بجبل السلسلة في الجزء الخامس فينقطع هذا الجزء السادس بقطعتين غربية وشرقية ففي الغربية من جنوبيها مخرج الفرات من الخامس وفي شماليها مخرج دجلة منه‏.‏ أما الفرات فأول ما يخرج إلى السادس يمر بقرقيسيا ويخرج من هنالك جدول إلى الشمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها ويمر من قرقيسيا غير بعيد ثئم ينعطف إلى الجنوب فيمر بقرب الخابور إلى غرب الرحبة ويخرج منه جداول من هنالك يمر جنوباً ويبقى صفين في غربيه‏.‏ ثم ينعطف شرقاً وينقسم بشعوب فيمر بعضها بالكوفة وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين وتخرج جميعاً في جنوب الجزء إلى الإقليبم الثالث فيغوص هنالك في شرق الحيرة والقادسية‏.‏ ويخرج الفرات من الرحبة مشرقاً على سمته إلى هيت من شمالها يمر إلى الزاب والأنبار من جنوبهما ثئم يصب في دجلة عند بغداد‏.‏ وأما نهردجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمر مشرقاً على سمته ومحاذياً لجبل السلسلة المتصل بجبل العراق على سمته فيمر بجزيرة ابن عمر على شمالها ثم بالموصل كذلك وتكريت وينتهي إلى الحديثة فينعطف جنوباً وتبقى الحديثة في شرقه والزاب الكبير والصغير كذلك ويمر على سمته جنوباً وفي غرب القادسية إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات ثم يمر جنوباً على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الأقليم الثالث فتنتشر هنالك شعوبه وجداوله ثم يجتمع ويصب هنالك في بحر فارس عند عبادان‏.‏ وفيما بين نهر الدجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة‏.‏ ويختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشرقية الشمالية منه وينتهي إلى بلاد النهروان قبالة بغداد شرقاً ثم ينعطف جنوباً ويختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثالث‏.‏ ويبقى ما بين هذا النهر وبين جبل العراق والأعاجم بلاد جلولاء وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة‏.‏ وأما القطعة الغربية من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرقاً إلى آخر الجزء ويسمى جبل شهرزور ويقسمها بقطعتين‏.‏ وفي الجنوب من هذه القطعة الصغرى بلد خونجان في الغرب والشمال عن أصبهان وتسمى هذه القطعة بلد الهلوس وفي وسطها بلد نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غرباً عند ملتقى الجبلين والدينور شرقاً عند آخر الجزء‏.‏ وفي القطعة الصغرى الثانية طرف من بلاد أرمينية قاعدتها المراغة والذي يقابلها من جبل العراق يسمى باريا وهو مساكن للأكراد والزاب الكبير والصغير الذي على دجلة من ورائه‏.‏ وفي آخر هذه القطعة من جهة الشرق بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبندقان‏.‏ وفي الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا الإقليم من غربه وجنوبه معظم بلاد الهلوس وفيها همذان وقزوين وبقيتها في الإقليم الثالث وفيها هنالك أصبهان ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها ويمر بالإقليم الثالث ثم ينعطف من الجزء السادس إلى الإقليم الرابع ويتصل بجبل العراق في شرقيه الذي مر ذكره هنالك وأنه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشرقية‏.‏ ويهبط هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثالث إلى جهة الشمال ويخرج إلى هذا الجزء السابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته هنالك قاشان ثم قم وينعطف في قرب النصف من طريقه مغرباً بعض الشيء ثم يرجع مستديراً فيذهب مشرقاً ومنحرفاً إلى الشمال حتى يخرج إلى الإقليم الخامس ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الري في شرقيه ويبدأ من منعطفه جبل آخر يمر غرباً إلى آخر الجزء ومن جنوبه من هنالك قزوين ومن جانبه الشمالي وجانب جبل الري المتصل معه ذاهباً إلى الشرق والشمال إلى وسط الجزء ثم إلى الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر طبرستان‏.‏ ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء في نحو النصف من غربه إلى شرقه ويعترض عند جبل الري‏.‏ وعند انعطافه إلى الغرب جبل متصل يمر على سمته مشرقاً وبانحراف قليل الجنوب حتى يدخل في الجزء الثامن من غربه‏.‏ ويبقى بين جبل الري وهذا الجبل من عند مبدئهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين ومنها بسطام‏.‏ ووراء هذا الجبل قتطعة من هذا الجزء فيها بقية المفازة التي بين فارس وخراسان وهي في شرقي قاشان وفي آخرها عند الجبل بلد استراباذ‏.‏ وحافات هذا الجبل من شرقيه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان‏.‏ ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثم مرو الشاهجان آخر الجزء‏.‏ وفي شماله وشرقي جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء شرقاً‏.‏ وكل هذه تحت الجبل‏.‏ وفي الشمال وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم وفي غربيه نهر جيحون ذاهباً من الجنوب إلى الشمال‏.‏ ففي عدوته الغربية رم وآمل من بلاد خراسان والظاهرية والجرجانية من بلاد خوارزم‏.‏ ويحيط بالزاوية الغربية الجنوبية منه جبل استراباذ المعترض في الجزء السابع قبله ويخرج في هذا الجزء من غربيه ويحيط بهذه الزاوية وفيها بقية بلاد هراة ويمر الجبل في الإقليم الثالث بين هراة والجوزجان حتى يتصل بجبل البتم كما ذكرناه هنالك‏.‏ وفي شرقي نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد بخارى ثم بلاد الصغد وقاعدتها سمرقند ثم بلاد أسروشنة ومنها خجندة آخر الجزء شرقاً‏.‏ وفي الشمال عن سمرقند وأشروسنة أرض إيلاق‏.‏ ثم في الشمال عن إيلاق أرض الشاش إلى آخر الجزء شرقاً ويأخذ قطعة من الجزء التاسع في جنوب تلك القطعة بقية أرض فرغانة ويخرج من تلك القطعة التي في الجزء التاسع نهر الشاش يمر معترضاً في الجزء الثامن إلى أن ينصب في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثامن في شماله إلى الإقليم الخامس‏.‏ ويختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التاسع من الإقليم الثالث من تخوم بلاد التبت ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التاسع نهر فرغانة‏.‏ وعلى سمت نهر الشاش جبل جبراغون يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقاً ومنحرفاً إلى الجنوب حتى يخرج إلى الجزء التاسع محيطاً بأرض الشاش ثم ينعطف في الجزء التاسع فيحيط بالشاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثالث‏.‏ وبين نهر الشاش وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب‏.‏ وبينه وبين أرض بخارى وخوارزم مفاوز معطلة‏.‏ وفي زاوية هذا الجزء من الشمال والشرق أرض خجندة وفيها بلد إسبيجاب وطراز‏.‏ وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في غربيه بعد أرض فرغانة والشاش أرض الخزلجية في الجنوب وأرض الخليجية في الشمال‏.‏ وفي شرق الجزء كله أرض الكيماكية‏.‏ ويتصل في الجزء العاشر كله إلى جبل قوقيا آخر الجزء شرقاً وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك وهو جبل يأجوج ومأجوج‏.‏ وهذه الأمم كلها من شعوب الترك انتهى‏.‏
الإقليم الخامس الجزء الأول منه أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه وشرقه لأن البحر المحيط بهذه الجهة الغربية دخل في الإقليم الخامس والسادس والسابع عن الدائرة المحيطة بالإقليم‏.‏ فأما المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلث متصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيتها‏.‏ ويحيط بها البحر من جهتين كأنهما ضلعان محيطان بزاوية المثلث ففيها من بقية غرب الأندلس سعيور على البحر عند أول الجزء من الجنوب والغرب وسلمنكة شرقاً عنها وفي جوفها سمورة‏.‏ وفي الشرق عن سلمنكة آبلة آخر الجنوب وأرض قشتالة شرقاً عنها وفيها مدينة شقونية‏.‏ وفي شمالها أرض ليون وبرغشت ثم وراءها في الشمال أرض جليقية إلى زاوية القطعة‏.‏ وفيها على البحر المحيط في آخر الضلع الغربي بلد سنتياقو ومعناه يعقوب‏.‏ وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلية عند آخر الجزء في الجنوب وشرقاً عن قشتالة‏.‏ وفي شمالها وشرقها وشقة وينبلونة على سمتها شرقاً وشمالاً‏.‏ وفي غرب ينبلونة قشتالة ثم ناجزة فيما بينها وبين برغشت‏.‏ ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضلع الشمالي الشرقي منه وعلى قرب ويتصل به وبطرف البحر عند ينبلونة في جهة الشرق الذي ذكرنا من قبل أن يتصل في الجنوب بالبحر الرومي في الإقليم الرابع ويصير حجراً على بلاد الأندلس من جهة الشرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونية من أمم الفرنج‏.‏ فمنها من الإقليم الرابع برشلونة وأربونة على ساحل البحر الرومي وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشمال‏.‏ ومنها من الإقليم الخامس طلوشة شمالاً عن خريدة‏.‏ وأما المنكشف في هذا الجزء من جهة الشرق فقطعة على شكل مثلث مستطيل زاويته الحادة وراء البرنات شرقاً‏.‏ وفيها على البحر المحيط على رأس القطعة التي يتصل بها جبل البرنات بلد نيونة‏.‏ وفي آخر هذه القطعة في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء‏.‏ وفي الجزء الثاني في الناحية الغربية منه أرض غشكونية وفي شمالها أرض بنطو وبرغشت وقد ذكرناهما‏.‏ وفي شرق بلاد غشكونية في شمالها قطعة أرض من البحر الرومي دخلت في هذا الجزء كالضرس مائلة إلى الشرق قليلاً وصارت بلاد غشكونية في غربها داخلة في جون من البحر‏.‏ وعلى رأس هذه القطعة شمالاً بلاد جنوة وعلى سمتها في الشمال جبل نيت جون‏.‏ وفي شماله وعلى سمته أرض برغونة‏.‏ وفي الشرق عن طرف جنوة الخارج من البحرالرومي طرف آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البر في البحر في غربيه نيس وفي شرقيه مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم‏.‏ وفيها من المباني الضخمة والهياكل الهائلة والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار‏.‏ ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروشاً قاعه ببلاط النحاس وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين وهما مدفونان بها‏.‏ وفي الشمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء‏.‏ وعلى هذا الطرف من البحر الذي في جنوبه رومة بلاد نابل في الجانب الشرقي منه متصلة ببلد قلورية من بلاد الفرنج‏.‏ وفي شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثالث مغرباً ومحاذياً للشمال من هذا الجزء وانتهى إلى نحو الثلث منه وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط‏.‏ وفي شماله بلاد أنكلاية في الإقليم السادس‏.‏ وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في غربيه بلاد قلورية بين خليج البنادقة والبحر الرومي يحيط بها من شرقيه يوصل من برها في الإقليم الرابع في البحر الرومي في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشمال إلى هذا الجزء‏.‏ وفي شرقي بلاد قلورية بلاد أنكيردة في جون بين خليج البنادقة والبحر الرومي ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرابع وفي البحر الرومي‏.‏ ويحيط به في شرقيه خليج البنادقة من البحر الرومي ذاهباً إلى سمت الشمال ثم ينعطف إلى الغرب محاذياً لآخر الجزء الشمالي‏.‏ ويخرج على سمته من الإقليم الرابع جبل عظيم يوازيه ويذهب معه في الشمال ثصم يغرب معه في الإقليم السادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليه في بلاد أنكلاية من أمم اللمانيين كما نذكر‏.‏ وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما داما ذاهبين إلى الشمال بلاد البنادقة فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثم بلاد الألمانيين عند طرف الخليج‏.‏ وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرومي خرجت إليه من الإقليم الرابع مضرسة كلها بقطع من البحر‏.‏ ويخرج منها إلى الشمال وبين كل ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما وفي آخر الجزء شرقاً قطع من البحر‏.‏ ويخرج منها إلى الشمال خليج القسطنطينية يخرج من هذا الطرف الجنوبي ويذهب على سمت الشمال إلى أن يدخل في الإقليم السادس وينعطف من هنالك عن قرب مشرقاً إلى بحر نيطش في الجزء الخامس وبعض الرابع قبله والسادس بعده من الإقليم السادس كما نذكر‏.‏ وبلد القسطنطينية في شرقي هذا الخليج عند آخر الجزء من الشمال‏.‏ وهي المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة وبها من آثار البناء والضخامة ما كثرت عنه الأحاديث‏.‏ والقطعة التي ما بين البحر الرومي وخليج القسطنطينية من هذا الجزء وفيها بلاد مقدونية التي كانت لليونانيين ومنها ابتداء ملكهم‏.‏ وفي شرقي هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس وأظنها لهذا العهد مجالات للتركمان وبها ملك ابن غثمان وقاعدته بها بورصة وكانت من قبلهم للروم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتركمان‏.‏ وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم من غربيه وجنوبه أرض باطوس وفي الشمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمورية وفي شرقي عمورية نهر قباقب الذي يمد الفرات يخرج من جبل هنالك ويذهب في الجنوب حتى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء الثاني إلى ممره في الإقليم الرابع‏.‏ وهنالك في غربيه آخر الجزء في مبدإ نهر سيحان ثم نهر جيحان غربيه الذاهبين على سمته وقد مر ذكرهما‏.‏ وفي شرقه هنالك مبدأ نهر الدجلة الذاهب على سمته وفي موازاته حتى يخالطه عند بغداد‏.‏ وفي الزاوية التي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميافارقين‏.‏ ونهر قباقب الذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين‏:‏ إحداهما غربية جنوبية وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء شمالاً ووراء الجبل الذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمورية كما قلناه والقطعة الثانية شرقية شمالية على الثلث في الجنوب منها مبدأ الدجلة والفرات وفي الشمال بلاد البيلقان متصلة بأرض عمورية من وراء جبل قباقب وهي عريضة وفي آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة‏.‏ وفي الزاوية الشرقية الشمالية قطعة من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية‏.‏ وفي الجزء السادس من هذا الإقليم في جنوبه وغربه بلاد أرمييية متصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشرق‏.‏ وفيها بلد أردن في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل‏.‏ وفي شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة وفي جنوبها بانحراف إلى الشرق مدينة أرمينية‏.‏ ومن هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع‏.‏ وفيها هنالك بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى وقد مر ذكره في الجزء السادس منه‏.‏ ويتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء وفي الإقليم الرابع قبله من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان وآخرها في هذا الجزء شرقاً بلاد أردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع ويسمى بحر طبرستان‏.‏ وعليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم التركمان‏.‏ ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس فتمر فيه منعطفة ومحيطة ببلد ميافارقين‏.‏ ويخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد ويتصل بجبل السلسلة في أسافل الشام ومن هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر‏.‏ وبين هذه الجبال الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين‏.‏ ففي جنوبيها بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان وعليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب‏.‏ وتتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد أرمينية‏.‏ وبينهما في الشرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة إلى بحر طبرستان‏.‏ وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها‏.‏ وفي زاوية الجزء كله قطعة أيضاً من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطييية وقد مر ذكره‏.‏ ويحف بهذه القطعة من بحر نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة وتتصل بلاد السرير بين جبل الأبواب والجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر‏.‏ وعند آخرها مدينة صول‏.‏ ووراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء من بحر طبرستان وآخر الجزء شمالاً‏.‏ والجزء السابع من هذا الإقليم غربيه كله مغمور ببحر طبرستان وخرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان وجبال الديلم إلى قزوبن‏.‏ وفي غربي تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الإقليم الرابع‏.‏ ويتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقيه أيضاً‏.‏ وينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في هذا البحر‏.‏ ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغز من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن ويذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس ثم ينعطف مع طرفه ويفارقه ويسمى هنالك جبل سياه ويذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم السادس ثم يرجع جنوباً إلى الجزء الساس من الإقليم الخامس‏.‏ وهذا الطرف منه هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السرير وأرض الخزر‏.‏ واتصلت بأرض الخزر في الجزء السادس والسابع حافات هذا الجبل المسمى جبل سياه كما سيأتي‏.‏ والجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم الترك وفي الجهة الجنوبية الغربية منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر جيحون دورها ثلاثمائة ميل ويصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات‏.‏ وفي الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل وماؤها حلو‏.‏ وفي الناحية الشمالية من هذا لجزء جبل مرغار ومعناه جبل الثلج لأنه لا يذوب فيه وهو متصل بآخر الجزء‏.‏ وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون وبه سميت البحيرة‏.‏ وينجلب منه ومن جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز وشرق بلاد الكيماكية‏.‏ ويحف به من جهة الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج يعترض هنالك من الجنوب إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر وقد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله واحتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشمال ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما دون نصفه وأحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرباً إلى آخره وبقيت في جنوبيه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء التاسع في شرقيه وفي الأعلى منه وانعطف قريباً إلى الشمال وذهب على سمته إلى الجزء التاسع من الإقليم السادس‏.‏ وفيه السد هنالك كما نذكره‏.‏ وبقيت منه القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب وهي من بلاد يأجوج ومأجوج‏.‏ وفي الجزء العاشرمن هذ الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متصلة فيه كله إلا قطعة من البحر المحيط غمرت طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله وإلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب والغرب جبل قوقيا حين مر فيه وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ فالجزء الأول منه غمر البحر أكثر من نصفه واستدار شرقاً مع الناحية الشمالية ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب وانتهى قريباً من الناحية الجنوبية فانكشفت قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطرفين وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه وينفسح طولاً وعرضاً وهي كلها أرض بريطانية‏.‏ وفي بابها بين الطرفين وفي الزاوبة الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلة ببلاد بنطو التي مر ذكرها في الجزء الأول والثاني من الإقليم الخامس‏.‏ والجزء الثاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربه وشماله فمن غربه قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشمالي من شرق أرض بريطانية في الجزء الأول واتصلت بها القطعة الأخرى في الشمال من غربه إلى شرقه وانفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء وفيه هنالك قطعة من جزيرة إنكلترة وهي جزيرة عظيمة متسعة مشتملة على مدن وبها ملك ضخم وبقيتها في الإقليم السابع‏.‏ وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية وبلاد أفلادش متصلين بها ثم بلاد إفرنسية جنوباً وغرباً من هذا الجزء وبلاد برغونية شرقاً عنها وكلها لأمم الأفرنجة وبلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء‏.‏ فجنوبه بلاد أنكلاية ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة وشطونية‏.‏ وعلى قطعة البحر المحيط في الزاوية وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشمال‏.‏ وفي الناحية الشرقية بلاد أنكوية في الجنوب وبلاد بلونية في الشمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من الجزء الرابع ويمر مغرباً بانحراف إلى الشمال أن يقف في بلاد شطونية آخر النصف الغربي‏.‏ وفي الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية‏.‏ وتحتها في الشمال بلاد الروسية‏.‏ وفصل جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى أن يقف في النصف الشرقي‏.‏ وفي شرق أرض جثولية بلاد جرمانية وفى الزاوية الجنوبية‏.‏ الشرقية أرض القسطنطينية ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي وعند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية من هذا الجزء ويمدها الخليج وبينهما في الزاوبة بلد مسيناه‏.‏ وفي الجزء الخامس من الإقليم السادس ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من الخليج في آخرالجزء الرابع ويخرج على سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله وفي بعض السادس طى طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدئه في عرض ستمائة ميل‏.‏ ويبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها بر مستطيل في غربة هرقلية على ساحل بحر نيطش على متصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس‏.‏ وفي شرقه بلاد اللانية وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش‏.‏ وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان وشرقاً بلاد الروسية وكلها على ساحل هذا البحر‏.‏ وبلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع ومن غربها في الجزء الرابع من هذا الإقليم‏.‏ وفي الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش وينحرف قليلاً إلى الشمال ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية وفي جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس‏.‏ وفي الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر‏.‏ وفي شرقها أرض برطاس وفي الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار‏.‏ وفي الزاوية الشرقية الجنولية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياه كوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده ويذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز في هذه القطعة ويدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس فيتصل هنالك بجبل الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازه جبل سياه بعد مفارقته بحر طبرستان‏.‏ وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً‏.‏ وفي شرقها القطعة من بحر طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها‏.‏ ووراء جبل سياه في الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس‏.‏ وفي الناجية الشرقية من الجزء أرض شحرب وفي الجزء الثامن والناحية الجنوبية منه كلها أرض الجولخ من الترك في الناحية الشمالية غرباً والأرض المنتنة وشرق الأرض التي يقال إن يأجوج ومأجوج خرباها قبل بناء السد‏.‏ وفي هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم وممره في بلاد الترك ومصبه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه‏.‏ وهو كثير الإنعطاف يخرج من جبل في الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمر على سمت الغرب إلى آخر السابع من هذا الإقليم فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع فيمر في طرفه بين الجنوب والمغرب فيخرج في الجزء السادس من السابع ويذهب مغرباً غير بعيد ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب ويرجع إلى الجزء السادس من الإقليم السادس ويخرج منه جدول يذهب مغرباً ويصب في بحر نيطش في ذلك الجزء ويمر هو في قطعة بين الشمال والشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من الإقليم السادس ثم ينعطف ثالثة إلى الجنوب وينفذ في جبل سياه ويمر في بلاد الخزر ويخرخ إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه فيصب هنالك في بحر طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية‏.‏ وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ من الترك وهم قفجاق وبلاد الشركس منهم أيضاً‏.‏ وفي الشرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط وقد مر ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال ويفارقه مغرباً وبانحراف إلى الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأول حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب وفي وسطه ههنا السد الذي بناه الأسكندر ثم يخرج على سمته إلى الإقليم السابع وفي الجزء التاسع منه فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع إلى الجزء الخامس منه فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه‏.‏ وفي وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الأسكندر كما قلناه‏.‏ والصحيح من خبره في القرآن وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً وبعث سلاماً الترجمان فوقف عليه وجاء بخبره ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا‏.‏ وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجرج متصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشمال وعريضة بعض الشيء في الشرق‏.‏ الإقليم السابع والبحر المحيط قد غمر عامته من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج‏.‏ فالجزء الأول والثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرة إنكلترة التي معظمها في الثاني وفي الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى الشمال وبقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثاني من الإقليم السادس وهي مذكورة هناك‏.‏ والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلاً‏.‏ ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة مستطيلة من الغرب إلى الشرق‏.‏ والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتسع في شرقها وفيها هنالك متصل أرض فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس وأنها في شماله وفي القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء‏.‏ ثم في الجانب الغربي منها مستديرة فسيحة وتتصل بالبر من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونية‏.‏ وفي شمالها جزيرة بوقاعة مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق‏.‏ والجزء الرابع من هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر المحيط من المغرب إلى المشرق وجنوبه منكشف وفي غربه أرض قيمازك من الترك وفي شرقها بلاد طست ثم أرض رسلاندة إلى آخر الجزء شرقاً وهي دائمة الثلوج وعمرانها قليل - ويتصل ببلاد الروسية في الإقليم السادس وفي الجزء الرابع والخامس منه‏.‏ وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية وينتهي في الشمال إلى قطعة من البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل‏.‏ وفي الناحية الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من الإقليم السادس وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء وهي عذبة تنجلب إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشمال‏.‏ وفي شمال الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض التتارية من التركمان إلى آخره‏.‏ وفي الجزء السادس من الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية وفي وسط الناحية بحيرة عثور عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية وهي جامدة دائماً لشدة البرد إلا قليلاً في زمن الصيف‏.‏ وفي شرق بلاد القمانية بلاد الروسية‏.‏ التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء الخامس منه وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس‏.‏ وفي الناحية الشرقية الشمالية من الجزء السادس منه وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة الأولى إلى الجنوب كما مر‏.‏ وفي آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا متصلاً من غربه إلى شرقه‏.‏ وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية أرض يخناك من أمم الترك‏.‏ وكان مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من الجزء السادس قبله وفي الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء‏.‏ ويخرج إلى الإقليم السادس من فوقه‏.‏ وفي الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً‏.‏ وفي آخر الجزء من جهة الشمال جبل قوقيا المحيط متصلاً من غربه إلى شرقه‏.‏ وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم في الجنوبية الغربية منه متصل الأرض المنتنة‏.‏ وفي شرقها الأرض المحفورة وهي من العجائب‏:‏ خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار والنيران في الليل تضيء وتخفى‏.‏ وربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال‏.‏ وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد‏.‏ وفي آخر الشمال منه جبل قوقيا متصلاً من الشرق إلى الغرب‏.‏ وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس ويمر معترضاً فيه‏.‏ وفي وسطه هنالك سد يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه‏.‏ وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من شرقه وشماله‏.‏ والجزء العاشر غمر البحر جميعه‏.‏ هذا آخر الكلام على الجغرافيا وأقاليمها السبعة ‏"‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏"‏‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:43 PM


المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم

قد بينا أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال‏.‏ ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً‏.‏ فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الإعتدال والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الإعتدال‏.‏ والأول والسابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجمبع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة الاعتدال‏.‏ وسكانها من البشر أعدل أجساما وألواناً وأخلاقاً وأدياناً حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها‏.‏ ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية‏.‏ وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس ‏"‏ وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله‏.‏ وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية‏.‏ وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير‏.‏ ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين‏.‏ ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم‏.‏ وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة‏.‏ ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات‏.‏ وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم‏.‏ فبناؤهم بالطين والقصب وأقواتهم من الذرة والعشب وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوبن مائلة إلى الانحراف‏.‏ ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات‏.‏ وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم‏.‏ حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض ويأكلون العشب وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً وكذا الصقالبة‏.‏ والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك‏.‏ وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال‏.‏ ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم‏:‏ ‏"‏ ويخلق ما لا تعلمون ‏"‏ ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر‏.‏ وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص‏.‏ ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير‏.‏ وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوانات‏.‏ وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر‏.‏ ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس‏.‏ شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها ويشتد البرد عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة‏.‏ ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور‏.‏ وتوسطت بينهما الأقاليم الثلاثة‏:‏ الخامس والرابع والثالث فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر‏.‏ والرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه‏.‏ فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم‏.‏ وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وإن لم يبلغا غاية التوسط لميل هذا قليلاً إلى الجنوب الحار وهذا قليلاً إلى الشمال البارد إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف‏.‏ وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم‏.‏ فالأول والثاني للحر والسواد والسابع والسادس للبرد والبياض‏.‏ ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة والزنج والسودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد وإن كان اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة واليمن والزنج بمن تجاه بحر الهند‏.‏ وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام ولا غيره‏.‏ وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام‏.‏ وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب تسود ألوان أعقابهم‏.‏ وفي ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء‏.‏ قال ابن سينا في أرجوزته في الطب‏:‏ والصقلب اكتسبت البياضا حتى غدت جلودها بضاضا وأما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء‏.‏ فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده‏.‏ ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والطغرغر والخزر واللان والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج أسماء متفرقة وأجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة‏.‏ وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الاعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرياسات والملك فكانت فيهم النبوات والفلك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة‏.‏ وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين‏.‏ ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب‏:‏ فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم فتكلفوا في تلك الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام‏.‏ وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو إخبار عن الواقع لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود‏.‏ وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط وليس كذلك‏:‏ فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعزب ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم‏.‏ فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بإنهما من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها‏:‏ ‏"‏ سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً ‏"‏ والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:44 PM

المقدمة الرابعة في أثرالهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر‏.‏ والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته‏.‏ ولهذا يجد المنتشي من الفرح السرور ما لا يعبر عنه وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح وتجيء طبيعة الفرح‏.‏ وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشىء عن السرور‏.‏ ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً ويجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة‏.‏ وقد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم وعامة مآكلهم من أسواقهم‏.‏ ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدخر قهوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم وللبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏ وقد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس ويعقوب بن أسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم‏.‏ وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه ‏"‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏"‏ المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الأثار في أبدان البشر وأخلاقهم اعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطينة ووفور العمران وفيها الأرض الحرة التي لا تنبت زرعاً ولا عشباً بالجملة فسكانها في شظف من العيش‏:‏ مثل أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثمين من صنهاجة الساكنين بصحراء المغرب وأطراف الرمال فيما بين البربر والسودان فإن هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة وإنما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللحوم ومثل العرب أيضاً الجائلين في القفار فإنهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها وعلى الإقلال لقلة وجدهم فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أودونها فضلاً عن الرغد والخصب وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوضهم من الحنطة أحسن معاض‏.‏ وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالاً في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش‏:‏ فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات‏.‏ هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم‏.‏ فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه وبين الملثمين وأهل التلول‏.‏ يعرف ذلك من خبره والسبب في ذلك واللة أعلم إن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد أقطارها في غير نسبة ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من ابخرتها الرديئة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة‏.‏ واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها وحسن رونقها وأشكالها وتناسب أعضائها وحدة مداركها‏.‏ فالغزال أخو المعز والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر والبون بينها ما رأيت‏.‏ وما ذااك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء‏.‏ واعتبر ذلك فى الأدميين أيضاً‏:‏ فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والأدم والفواكه يتصف أهلها غالباً بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم‏.‏ وهذا شأن البربر المنغمسين في الأدم مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم وجسومهم وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسون في الأدم والبر مع أهل الأندلس وخفة الأجسام وقبول التعليم مالايوجد لغيرهم‏.‏ وكذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار‏.‏ فإن أهل الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها وعامة مآكلهم لحوم الضآن والدجاج ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الرديئة‏.‏ فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار أهل الأمصار ألطف من جسوم أهل البادية المخشنين في العيش‏.‏ وكذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لافضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة‏.‏ واعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل الترف والخصب‏.‏ بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار لما يعمها من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر‏.‏ ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي‏.‏ وكذلك نجد حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفاً باختلاف حالها في الترف والخصب‏.‏ وكذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية وأهل الحواضر والأمصار إذا نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر والصحراء ولا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر ولا مثل أهل إفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير والزيت وأهل الأندلس الذين غالب عيشهم الذرة والزيت فإن هؤلاء وإن اخذتهم السنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر‏.‏ والسبب في ذلك والله أعلم أن المنغمسين في الخصب المتعودين للأدم والسمن خصوصاً تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعي اليبس والانكماش وهو عضو ضعيف في الغاية فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنه من المقاتل‏.‏ فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق‏.‏ وأما المتعودون للعيمة وترك الأدم والسمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفة عند حدها من غير زيادة وهي قابلة لجميع الأغذية الطبيعية فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس ولا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل‏.‏ وأصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة‏.‏ فمن عود نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفاً وصار الخروج عنه والتبدل به داء ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم واليتوع وما أفرط في الانحراف‏.‏ فأما ما وجد فيه التغذي والملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة‏.‏ فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد حصل له ذلك غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك‏.‏ وكذا من عود نفسه الصبرعلى الجوع والاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضات فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها‏.‏ والسب في ذلك العادة فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة التلون فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعية لها‏.‏ وما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكلية فإنه حينئذ ينحسم المعي ويناله المرض الذي يخشى معه الهلاك‏.‏ وإذا كان ذلك القدر تدريجاً ورياضة بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً كما يفعله المتصوفة فهو بمعزل عن الهلاك‏.‏ وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة‏.‏ فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعة خيف عليه الهلاك وإنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج‏.‏ ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً وصالاً وأكثر‏.‏ وحضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصح شأنهما واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتت‏.‏ ا ورأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس عشرة سنة كثير ولا يستنكر ذلك‏.‏ واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على منها وأن له أثراً في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم‏.‏ فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك‏.‏ وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذون بألبان الإبل ولحومها أيضاً مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا الضعف ولا ينالها من مضار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيرن ولا ينال أمعاءهم منها ضرر‏.‏ وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقه أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية‏.‏ ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون‏.‏ وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم‏.‏ وأمثال ذلك كثير فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثاراً في الأبدان لأن الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم‏.‏ والله محيط بعلمه‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:45 PM


المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا

اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة‏.‏ وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله ‏"‏‏.‏ واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة‏.‏ وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية‏.‏ ثم يتنزل إلى المدارك البشرية‏:‏ إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله‏.‏ ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوحى‏:‏ ‏"‏ أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول ‏"‏‏.‏ ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه‏.‏ ففي الحديث‏:‏ ‏"‏ كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة‏:‏ ‏"‏ كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ‏"‏‏.‏ ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون‏:‏ له رئي أو تابع من الجن‏.‏ وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال‏:‏ ‏"‏ ومن يضلل الله فما له من هاد ‏"‏‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع‏.‏ وهذا هو معنى العصمة‏.‏ وكأنه مفطورعلى التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته‏.‏ وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى أنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة‏.‏ فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ إني اناجي من لا تناجون ‏"‏‏.‏ وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت‏:‏ ‏"‏ إجعلني بينك وبين ثوبك ‏"‏ فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت‏:‏ ‏"‏ إنه ملك وليس بشيطان ‏"‏ ومعناه إنه لا يقرب النساء‏.‏ وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر الشياطين وأمثال ذلك‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف‏.‏ وقد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه‏.‏ وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال‏:‏ بم يأمركم فقال أبو سفيان‏:‏ بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال‏:‏ ‏"‏ إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين ‏"‏‏.‏ والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة‏.‏ فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة‏.‏ فدل على أن ذلك من علامات النبوة‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ‏"‏ وفي رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال‏:‏ ‏"‏ كيف هو فيكم ‏"‏ قال أبو سفيان‏:‏ ‏"‏ هو فينا ذو حسب فقال هرقل‏:‏ والرسل تبعث في أحساب قومها‏.‏ ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته‏.‏ ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم‏.‏ وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف‏.‏ فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم‏.‏ وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله وهو أن يستدل بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه‏.‏ فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق وتكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية‏.‏ فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي ولذلك كان التحدي جزءاً منها‏.‏ وعبارة المتكلمين صفة وهو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم‏.‏ والتحدي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسحر إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً‏.‏ وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبوة‏.‏ ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحق وغيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبوة عند التحدي بالولاية‏.‏ وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحى بغير مايتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً وربما حمل على وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد وأفعالهم معتادة فلا فرق‏.‏ وأما وقوعها على يد الكاذب تلبيساً فهو محال‏.‏ أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة والهداية ضلالة والتصديق كذباً واستحالت الحقائق وانقلبت صفات النفس وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً‏.‏ وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله‏.‏ وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي ولو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الأسباب والشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار وأن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين‏.‏ والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك‏.‏ والخارق عندهم يقع للنبي سواء أكان للتحدي أو لم يكن وهو شاهد بصدقه من حيث دلالتها على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق‏.‏ فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين ولا يكون التحدي جزءاً من المعجزة ولم يصح فارقاً لها عن السحر والكرامة‏.‏ وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه والساحر على الضد فأفعاله كلها شر وفي مقاصد الشر‏.‏ وفارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء والنفوذ في الأجسام الكثيفة وإحياء الموتى وتكليم الملائكة والطيران في الهواء وخوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء‏.‏ ويأتي النبي بجميع خوارقه ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء‏.‏ وقد قرر ذلك المتضوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم‏.‏ وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه‏.‏ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أتيته وحياً أوحي إلي‏.‏ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ‏"‏ يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة‏.‏
تفسير حقيقة النبوة ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة على ما شرحه كثيرمن المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب فنقول‏:‏ اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته‏.‏ وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني‏.‏ وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض‏.‏ وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الأوقات‏.‏ والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضهما ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها‏.‏ ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج‏.‏ آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده‏.‏ واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الانسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده‏.‏ وهذا غاية شهودنا‏.‏ ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعة‏:‏ ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام‏.‏ فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها وذلك هو النفس المدركة والمحركة‏.‏ ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها الإدراك والحركة ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً وهو عالم الملائكة‏.‏ فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية الى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه‏.‏ فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل‏:‏ فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان‏.‏ وهذا ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته وقواه بعضها ببعض‏.‏ ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنفس ولقواها أما الفاعلية فالبطش باليد والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعاً‏.‏ وأما المحركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى لظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن وأوله الحس وهو قةة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط‏.‏ وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ‏:‏ مقدمة للأولى ومؤخرة للثانية‏.‏ ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب‏.‏ والحافظة لإيداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها‏.‏ وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ‏:‏ أوله للأولى ومؤخره للأخرى‏.‏ ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر‏.‏ وآلته البطن الأوسط من الدماغ وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لماركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملإ الأعلى الروحاني‏.‏ وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية‏.‏ فهي متحركة دائماً ومتوجهة نحو ذلك‏.‏ وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك‏.‏ أصناف النفوس البشرية والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف‏:‏ صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن وكلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها وإن فسد فسد ما بعدها‏.‏ وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني‏.‏ وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم‏.‏ وصنف متوجة بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها‏.‏ وهذه مدارك العلما الأولياء أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ‏.‏ وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة‏.‏ الوحي وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة وهي حالة الوحي فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من لقصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها‏.‏ فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النةع من الانسلاخ متى شاؤوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة‏.‏ فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه وعاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد‏.‏ فتارة يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه‏.‏ وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله‏.‏ والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما ألقي عليه كله كأنة في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلها تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة ولذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع‏.‏ واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غيرالمرسلين على ما حققوه والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى‏.‏ وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال وكيف يأتيك الوحي فقال‏:‏ ‏"‏ أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول‏.‏ وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الإتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية بالسمع وصعب ما سواه‏.‏ وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها وخصوصاً الأوضح منها وهو إدراك البصر‏.‏ وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد‏.‏ واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ‏"‏ وقالت عائشة‏:‏ ‏"‏ كان مما يعاني من التنزيل شدة وقالت‏:‏ ‏"‏ كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً ‏"‏‏.‏ ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف‏.‏ وسبب ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر‏.‏ وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله‏:‏ ‏"‏ فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء وكذا ثانية وثالثة ‏"‏ كما في الحديث‏.‏ وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله‏.‏ ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة‏.‏ وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت وينزل الباقي في حين آخر‏.‏ وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها‏.‏ واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات‏.‏ والله المرشد للصواب‏.‏ هذا محصل أمر النبوة‏.‏ الكهانة وأما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية‏.‏ وذلك أنه وقد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاماً اوحركة ولا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشريه إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر‏.‏ وإذا كان كذلك وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطي التقسيم العقلي وإن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه وشتان مابينهما‏.‏ فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته حركتها الفكرية بالإردة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له‏.‏ وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة‏.‏ ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات‏.‏ ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائماً‏.‏ ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان‏.‏ وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به‏.‏ وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويهاً على السائلين‏.‏ وأصحاب هذا السجع هم المخصصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثله‏:‏ ‏"‏ هذا من سجع الكهان ‏"‏‏.‏ فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة‏.‏ وقد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار‏:‏ كيف يأتيك هذا الأمر قال‏:‏ يأتيني صادقاً وكاذباً فقال‏:‏ خلط عليك الأمر‏!‏ يعني أن النبوة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي‏.‏ والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطاً بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة‏.‏ وإنما قلنا أن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخف من سائر المغيبات من المرئيات والمسموعات‏.‏ وتدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشيء‏.‏ وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبوة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة وأن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن والكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ‏.‏ ولا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه‏.‏ وأيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك‏.‏ وأيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب‏.‏ وقد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة ثم تنقطع وهكذا مع كل نبوة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النبوة التي دل عليها ونقض ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قررناه‏.‏ فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص ويقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً‏.‏ فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله وانقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلايوجد منها شيء بعد‏.‏ وهذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره وهو غير مسلم‏.‏ فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئة الخاصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً لا أنه يقتضي ذلك الأثر ناقصا كما قالوه‏.‏ ثم أن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة كما لكل إنسان من أمر النوم‏.‏ ومعقولية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم‏.‏ ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ وكذا وقع لابن صياد ولمسيلمة وغيرهم‏.‏ فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان‏.‏ الرؤيا وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها‏.‏ وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها‏.‏ فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال‏.‏ والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة ومداركه حتى تصيرذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية‏.‏ إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره‏.‏ فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن‏:‏ ومنه خاص كالذي للأولياء ومنه عام للبشر على العموم وهو أمر الرؤيا‏.‏ وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات‏.‏ ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي وهو عندما يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً وإن كان حال النوم أدون منه بكثير‏.‏ فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وفي رواية ثلاثة وأربعين وفي رواية سبعين وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب‏.‏ وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين فكلام بعيد من التحقي‏.‏ لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة‏.‏ وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاماً في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل‏.‏ ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة‏.‏ ففطر اللة البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب‏.‏ ولذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال‏:‏ لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني وهو بخار لطيف مركزه بالتجوبف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره‏.‏ وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية‏.‏ ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده وتت أفعال القوى التي في بطونه‏.‏ فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري وهي متعلقة به لما اقتضتة حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته‏.‏ وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس وإدراك بالباطن بالقوى الدماغية‏.‏ وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة‏.‏ ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضة للوسن والفشل بما يدركها من التعب والكلال وتغشى الروح بكثرة التصرف‏.‏ فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة‏.‏ وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها ورجوعه إلى الحس الباطن‏.‏ ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن وتذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها وهو الروح الحيواني إلى الباطن‏.‏ ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل‏.‏ فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ورجع إلى القوى الباطنة وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب والتحليل صور خيالية وأكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً‏.‏ ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ‏.‏ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة‏.‏ والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام‏.‏ وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الرؤيا ثلاث‏:‏ رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان ‏"‏‏.‏ وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه‏:‏ فالجلي من الله والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل والشيطان ينبوع الباطل‏.‏ هذه حقيقة الرؤيا وما يسببها ويشيعها من النوم وهي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الأناسي رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة وحصل له على القطع أن النفس مدركه للغيب في النوم ولا بد‏.‏ وإذا جاز ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة وخواصها عامة في كل حال‏.‏ والله الهادي إلى الحق بمنه وفضله‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:47 PM


الإخبار بالمغيبات ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً

إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه‏.‏ وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه ويسمونها الحالومية‏.‏ وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ويذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم‏.‏ وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه‏.‏ وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي‏.‏ وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلاً على إيقاع المستعد له‏.‏ فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله‏.‏ والله الحكيم الخبير‏.‏

فصل ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها
بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثرمن النجوم ولا غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها‏.‏ وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها‏.‏ وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب‏.‏ وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة‏.‏ ونحن الآن نتكلم على هذه الإدراكات كلها ونبتدىء منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها‏.‏ ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها‏.‏ وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل وإنما تخرج من القوة إلى الفعل بالبدن وأحواله‏.‏ وهذا أمر مدرك لكل أحد‏.‏ وكل ما بالقوة فله مادة وصورة‏.‏ وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل‏.‏ فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية‏.‏ ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بوررود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنترع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل فتتم ذاتها وتبقى النفس كالهيولى والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة‏.‏ ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف بغيرهما‏.‏ وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم يتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات‏.‏ ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك‏:‏ إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني‏.‏ وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة‏:‏ إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية‏.‏ فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الإتصال في الوجود كما قررناه قبل‏.‏ وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر‏.‏ فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً‏.‏ وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به‏.‏ هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي‏.‏ ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه‏:‏ فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطرق بالحصى والنوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها فى نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك‏.‏ بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمائم يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه‏.‏ وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك وهو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف‏.‏ ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك‏.‏ وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة‏.‏ وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين‏.‏ والعالم أبو الغرائب‏.‏ وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أومسموع‏.‏ وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رأه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلتة فيكون عنها الرؤيا‏.‏ وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالباً وضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غيرمستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط‏.‏ فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال‏.‏ وربما نطق على لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق‏.‏ وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه‏.‏ ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ ذلك الاتصال والإدراك ويدعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة‏.‏ هذا تحصيل هذه الأمور‏.‏ وقد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقاً ولا إصابة‏.‏ ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله‏.‏ وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر‏.‏ فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم‏.‏ وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك‏.‏ واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسان وكان يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه إلا الجمجمة‏.‏ ومن مشهور الحكايات عنهما تأوبل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في قريش ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس‏.‏ وهذه كلها مشهورة‏.‏ وكذلك العرافون كان فى العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال‏:‏ فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب وقال الآخر‏:‏ جعلت لعراف اليمامة حكمه وعراف نجد إن هما شفياني وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة وعراف نجد الأبلق الأسدي‏.‏ ومن هذه المدارك الغبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد‏.‏ ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق وغايته أن يسمعه ويفهمه‏.‏ وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك‏.‏ ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع‏.‏ وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه فيخرج من ذلك الدهن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة‏.‏ وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني‏.‏ ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها‏.‏ ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع‏.‏ ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها‏.‏ فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده وتطلع النفس على المغيبات‏.‏ ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم‏.‏ وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد الهند‏.‏ ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة‏.‏ وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة‏.‏ لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية‏.‏ وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ‏"‏ من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ‏"‏‏.‏ فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه‏.‏ وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالغرض وغير مقصود لهم‏.‏ وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره‏.‏ وحصول ذلك لهم معروف‏.‏ ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً وما يقع لهم من التصرف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم‏.‏ وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها‏.‏ والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن فيكم محدثين وإن منهم عمر ‏"‏‏.‏ وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ يا سارية‏!‏ الجبل ‏"‏‏.‏ وهو سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام وكان بقربه جبل يتجهز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه‏:‏ ‏"‏ يا سارية‏!‏ الجبل ‏"‏ وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصة معروفة‏.‏ ووقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة‏.‏ فقال في سياق كلامه‏:‏ ‏"‏ وإنما هما أخواك وأختاك فقالت‏:‏ ‏"‏ إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال‏:‏ إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية ‏"‏ فكانت جارية‏.‏ وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل‏.‏ ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء‏.‏ إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها‏.‏ والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:49 PM


فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة

قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين‏.‏ ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب‏.‏ وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية لا تحصل إلا بالعبادة وهوغلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها‏.‏ وإذا كانت النفس الأنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه‏.‏ وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنما فقد لهم العقل الذي ينال به التكليف وهي صفة خاصة للنفس وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله‏.‏ وكإنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده‏.‏ وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف‏.‏ وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم‏.‏ ولك في تمييزهم علامات‏:‏ منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً‏.‏ ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة‏.‏ ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم والمجانين لا تصرف لهم‏.‏ وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصواب‏.‏





فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس



وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس‏:‏ فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الإمتزاج بين طباعها بالتناظر ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء‏.‏ وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التأثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس‏.‏ ونحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله‏.‏ وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء‏.‏ ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم‏.‏ ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجيه والفردية واستوائها فيهما فكانت ستة عشر شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبتين واحده فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال‏.‏ جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية بزعمهم وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه‏.‏ إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس وهذه إنما مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية ولا دليل يقوم على شيء منها‏.‏ ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها‏.‏ وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان نبي يخط فمن وافق خطه فذاك ‏"‏‏.‏ وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك بخط ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط‏.‏ وأما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا‏.‏ وهذا معنى الحديث والله أعلم‏.‏ فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً‏.‏ ثم يطرحون النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ئم يولدون منها أربعة أشكال آخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر‏.‏ ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً‏.‏ وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتآخرين وهي كما رأيت تحكم وهوى‏.‏ والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحس إلى عالم الروح‏.‏ ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب‏.‏ فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها أشغال الحس لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه‏.‏ وإن لم يكن كذلك وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وإنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل‏.‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمطط ومبادىء الغيبة عن الحس ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم‏.‏ فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه‏.‏ فصل ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة‏.‏ ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص‏.‏ فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك‏.‏ وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً وعشرات ومئين وألوفاً‏.‏ فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك‏.‏ ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة واحفظ بقية هذا وبقية هذا‏.‏ ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين‏:‏ فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معاً زوجين أو فردين معاً فصاحب الأقل منهما هو الغالب وإن كان أحدهما زوجاً والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب وإن كانا متساويين في الكمية وهما معاً زوجان فالمطلوب هو الغالب وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب‏.‏ ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما‏:‏ أرى الزوج والأفراد يسمو أقلها وأكثرها عند التخالف غالب ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي وعند استواء الفرد يغلب طالب ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي‏:‏ ‏"‏ أ ‏"‏ الدالة على الواحد و ‏"‏ ي ‏"‏ الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبه العشرات و ‏"‏ ق ‏"‏ الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين ‏"‏ وش ‏"‏ الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف‏.‏ وليس بعد الألف عدد يدل ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي ‏"‏ ايقش ‏"‏‏.‏ ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الألاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف‏:‏ وهي ‏"‏ ب ‏"‏ الدالة على اثنين في الأحاد و ‏"‏ ك ‏"‏ الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و ‏"‏ ر ‏"‏ الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي بكر‏.‏ ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس‏.‏ وكذلك إلى آخر حروف أبجد‏.‏ وصارت تسع كلمات نهاية عدد الأحاد وهي ‏"‏ إيقش بكر جلس دمت هنث وصخ زغد حفظ طضغ ‏"‏‏.‏ مرتبة على توالي الأعداد ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة أيقش والاثنان لكلمة بكر والثلاثة لكلمة جلس وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة‏.‏ فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات وأخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها وإلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه‏.‏ والسر في هذا القانون بين‏.‏ وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلثمائة والثلاثة الألاف كلها ثلاثة ثلاثة‏.‏ فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الأحاد والعشرات والمئين والألوف وصارعدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الأحاد أو العشرات أو المئين فيؤخد عدد كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه‏.‏ هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم‏.‏ وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه با لأخرى سواء وهي هذه أرب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خغ تضظ تسع كلمات على توالي العدد ولكل كلمة منها عدها الذي في مرتبته فيها الثلاثي والرباعي والثنائي‏.‏ وليست جارية على أصل مطرد كما تراه‏.‏ لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش‏.‏ والله أعلم كيف ذلك‏.‏ وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق‏.‏ والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الأراء البعيدة عن التحقيق والبرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ‏.‏ ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم ‏"‏ المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين‏.‏ وهي غريبة العمل صناعة‏.‏ وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه‏.‏ وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم‏.‏ وكل دائرة مقسومة بأفسام فلكها‏:‏ إما البروج وإما العناصر أو غيرهما‏.‏ وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار‏.‏ وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة‏.‏ وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان‏.‏ وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض ومائة وواحد وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف وجوانب التي عينت البيوت العامرة من الخالية‏.‏ وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة‏.‏ الا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح والجلاء‏.‏ وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب وهو مالك بن وهيب من علماء اشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت‏:‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها‏.‏ فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله ماراً إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع‏.‏ فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى أخره والأعداد المرسومة بينهما ويصيرونها حروفاً بحساب الجمل‏.‏ وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم‏.‏ ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى ا لمركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط‏.‏ ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى‏.‏ ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم ويضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج‏.‏ وأسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فإنه عندهم البعد عن أول المراتب‏.‏ ثم يضربونه في عدد آخر يسمون الأس الأكبر والدور الأصلي‏.‏ ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة وأعمال مذكورة وأدوار معدودة‏.‏ ويستخرجون منها حروفاً ويسقطون أخرى‏.‏ ويقابلون بما معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال وما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنه الدور يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة‏.‏ وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع‏.‏ وليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة وإنما المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال‏.‏ ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار‏.‏ والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح آخرى ومعاودة ذلك في الأدوار المعدودة ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر‏.‏ وقد يقع الأطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول‏.‏ فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس وطريق لحصوله ولا سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة القياس وزيادة في الفكر‏.‏ وقد مر تعليل ذلك غير مرة‏.‏ ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي‏.‏ ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله‏.‏ ولعمري أنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت‏.‏ ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه‏.‏ ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه‏.‏ وكثيرمن الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة‏.‏ وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات والتفاوت بين المدارك والعقول‏.‏ ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه‏.‏ ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذلك وحدس‏.‏ وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه وخفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها‏.‏ فلنذكر مسألة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا‏.‏ مثاله‏:‏ لو قيل لك خذ عدداً من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم والفلوس فجوابه أن تقول هي تسعة‏.‏ لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً وعلى سعره اشتريت بالدراهم فتكون تسعة‏.‏ فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة‏.‏ والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفتة‏.‏ وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها‏.‏ وهذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم‏.‏ وأما الكائنات المستقبلة إذ ا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته‏.‏ وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر‏.‏ وسر ذلك إنما هو من تناسب نينهما يطلع عليه بعض دون بعض‏.‏ فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين‏.‏ والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات‏.‏ وليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج‏.‏ ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه وقد استأثره الله بعلمه ‏"‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏"‏‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:50 PM


الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال

وفيه فصول وتمهيدات

الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية

اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي‏.‏ فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة ومنهم من ينتحل على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها‏.‏ وهؤلاء القائمون‏.‏ على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة ولا بد إلى البدو لأنه متسع لما له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك‏.‏ فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويحضل بلغة العيش من غير مزيد عليه ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر‏.‏ ثم تزيد أحوال الرفه والرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها فيتخذون القصور والمنازل ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون‏.‏ وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان‏.‏ ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة‏.‏ وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم‏.‏ فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه‏.‏

الفصل الثاني
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه وقد يأوون إلى الغيران والكهوف‏.‏ وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار‏.‏ فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال وهم عامة البربر والأعاجم‏.‏ ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم‏.‏ والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة ة وهولاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة‏.‏ وأما من كان معاشهم في الأبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الأبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله إذ الأبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفاءة فاضطروا إلى أبعاد النجعة‏.‏ وربما ذادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق‏.‏ إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها‏.‏ فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه
وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم‏.‏ ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليهما لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشىء عنه‏.‏ فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذ ا كان الضروري حاصلاً‏.‏ فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة‏.‏ ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها‏.‏ ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة‏.‏ وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم‏.‏ والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته‏.‏ ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه وأنهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر‏.‏ وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها فتفهمه‏.‏ ثم أن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه‏:‏ فرب حي أعظم من حي وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمراناً من مدينة‏.‏ فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية والله أعلم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:52 PM

الفصل الرابع من أهل الحضر
وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ‏"‏‏.‏ وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه‏:‏ فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر صعب عليه طريقه وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليها أيضاً عوائده‏.‏ وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك‏.‏ حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً‏.‏ وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها‏.‏ فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير‏.‏ فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر‏.‏ وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير‏.‏ فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر‏.‏ والله يحب المتقين‏.‏ ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكني البادية فقال له‏:‏ ‏"‏ ارتددت على عقبيك تعربت ‏"‏ فقال‏:‏ لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن لي في البدو ‏"‏‏.‏ فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب‏.‏ وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة‏:‏ ‏"‏ اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏ ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه‏.‏ وقيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة‏.‏ داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح‏.‏ وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح‏.‏ وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح‏.‏ والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الأفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة‏.‏ فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإ شارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه وهو قوله‏:‏ ‏"‏ ولا تردهم على أعقابهم ‏"‏‏.‏ وقوله تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون‏.‏ وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو‏.‏ ويكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة‏.‏ ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه كسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وأفضل فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه‏.‏ وعلى كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته لا لمذمة البدو‏.‏ فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل على مذمة التعرب‏.‏ والله سبحانه أعلم وبه التوفيق‏.‏ في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والذعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد فهم غارون آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة‏.‏ وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم‏.‏ فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق وبتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ‏.‏ وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم‏.‏ وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل‏.‏ وسبب ذلك ما شرحناه‏.‏ وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه‏.‏ فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة‏.‏ واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً‏.‏ والله يخلق ما يشاء‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:53 PM

الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للاحكام
مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الأدلال جبلة‏.‏ لا يعرفون سواها‏.‏ أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة بن جوية سلب الجالنوس وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له‏:‏ ‏"‏ هلا انتظرت في اتباعه إذني ‏"‏ وكتب إلى عمر يستأذنة فكتب إليه عمر‏:‏ ‏"‏ تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به وبقي عليك مابقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه‏!‏ وأمضى له عمر سلبه‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك‏.‏ وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا ببأسه‏.‏ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام‏.‏ ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً ولا لمن يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه‏.‏ وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والآخذ عن المشايخ والآ ئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقاروالهيبة‏!‏ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس‏.‏ ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لآن الشارع صلوات الله عليه لما‏.‏ أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وأدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الأيمان والتصديق‏.‏ فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم‏.‏ قال عمررضي الله عنه‏:‏ # من لم يؤدبه الشرع لاأدبه الله # حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد‏.‏ ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالآحكام الوازعة ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الأنقياد إلى الأحكام نقضت بذلك سورة البأس فيهم‏.‏ فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي‏.‏ ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب‏.‏ ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط نقله عن شريح القاضي واحتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات وهو ضعيف ولا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف‏.‏ والله الحكيم الخبير‏.‏

الفصل السابع في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية
اعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وهديناه النجدين ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ فألهمها فجورها وتقواها ‏"‏‏.‏ والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الأقتداء بالذين‏.‏ وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله‏.‏ ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض‏.‏ فمن أمتدت عينه إلى متاع أخيه أمتدت يده ألى أخذه ألا أن يصده وازع كما قال‏:‏ والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه أحكام والمدلة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض أو يعدوعليه فإنهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم إلا إذا كان من الحاكم بنفسه‏.‏ وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه ذياد الحامية من أوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة‏.‏ وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الرقار والتجلة‏.‏ وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم‏.‏ ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه‏:‏ ‏"‏ لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون ‏"‏ والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له‏.‏ وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً من التخاذل‏.‏ فلا وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏

الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل‏.‏ ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة‏.‏ فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك‏:‏ نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا‏.‏ فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها‏.‏ وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هومنسوب إليه بوجه‏.‏ ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها من وجوه النسب وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ‏"‏ بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والا التحام‏.‏ فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما‏.‏ قلناه‏.‏ وإذا كان إنما يستفاذ الخبر البعيد ضغف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الثسغل به مجاناً ومن أعمال اللهو المنهي عنه‏.‏ ومن هذا الاعتبار معنى قولهم‏:‏ النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس وانتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلامنفعة فيه حينئذ‏.‏ والله سبحانه وتعالى‏.‏

الفصل التاسع في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك
لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره ونتاجها في رماله كما تقدم والقفر مكان الشظف والسغب فصار لهم إلفاً وعادة وربيت فيه أجيائهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم ولا يأنس بهم أحد من الأجيال‏.‏ بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة‏.‏ واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها إختلاط ولا عرف فيهم شوب‏.‏ وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان و طيء وقضاغة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم‏.‏ ففي ك‏!‏ واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس وماتعرف‏.‏ وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم‏.‏ وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم وإنما هذا للعرب فقط‏.‏ قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏ تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا ‏"‏‏.‏ هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف‏.‏ من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب‏.‏ وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم وانتقل ذلك إلى الأندلس ولم يكن لاطراح العرب أمر النسب وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم‏.‏ ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فأطرحت‏.‏ ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:56 PM

الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع
اعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال‏.‏ وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنه التحم بهم‏.‏ ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر‏.‏ وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم‏.‏ وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك‏.‏ ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه وقالوا هو فينا لزيق أي دخيل ولصيق وطلبوا أن يولي عليهم جريراً‏.‏ فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة‏:‏ ‏"‏ صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قممي ولحقت بهم ‏"‏‏.‏ وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب‏.‏ فأفهمه واعتبر سر الله في خليقته‏.‏ ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود‏.‏ والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه‏.‏

الفصل الحادي عشر المخصوص من أهل العصبية
اعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات آخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو إخوة بني أب واحد لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين‏.‏ فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام‏.‏ والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة‏.‏ والرياسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكونه في الكل‏.‏ ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسه لأهلها‏.‏ فإذا وجب ذلك تعين أن الرياسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الآخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرياسة‏.‏ فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سر الغلب‏.‏ لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين‏.‏ فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية‏.‏ ومنه تعين استمرار الرياسة في النصاب المخصوص بها كما الفصل الثاني عشر في أن الرياسة على أهل العصبية
لا تكون في غير نسبهم وذلك أن الرياسة لا تكون إلا بالغلب والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه‏.‏ فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان والاتباع‏.‏ والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق وغاية التعصب له بالولاء والحلف وذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة وإذا فرضنا أنه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأول من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرياسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه‏.‏ والرياسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعتين له الغلب بالعصبية‏.‏ فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرياسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرياسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية‏.‏ وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب ويتورطون بالدعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رياستهم والطعن في شرفهم‏.‏ وهذا كثير في الناس لهذا العهد‏.‏ فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب‏.‏ ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين‏.‏ من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم ويسمونه الحجازي‏.‏ ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية أبي عبد القوي‏.‏ ولم يعلم دخول أحد من العباسيين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس‏.‏ ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم فكيف تتم له الرياسة عليهم في باديتهم وإنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب وهم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب‏.‏ وإنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد‏.‏ ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزناتية ما معناه‏:‏ أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله‏.‏ وأعرض عن التقرب إليه بذلك‏.‏ ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنى أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثيرة ورياستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب وأقوى عصبياته‏.‏ فاعتبره واجتنب المغالط فيه‏.‏ ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرياسة في هرثمة قومه وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين ودخول قبائل المصامدة في دعوته

الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالأصالة
والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما وقر في نفوسهم من تجلة سلفه وشرفهم بخلالهم‏.‏ والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الناس معادن‏:‏ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ‏"‏‏.‏ فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب وقد بينا أن ثمرة الأنساب وفائدتها أنما هي العصبية للنعرة والتناصر فحيث تكون العصبيه مرهوبه ومخشيه والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى‏.‏ وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب‏.‏ وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سرها‏.‏ ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز وإن توهموه فزخرف من الدعاوى‏.‏ وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار وجدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع وهذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب وتعديد الآباء ولكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخيم ومسالكه وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى‏.‏ وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة‏.‏ وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك‏.‏ وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل‏.‏ فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت‏:‏ أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء والرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب مفتهم وشريعتهم ثم بالعصبة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به‏.‏ ثم انسلخوا من ذلك أجمع وضربت عليهم الذلة والمسكنة وكتب عليهم الجلاء في الأرض وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين‏.‏ وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون‏:‏ هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة‏.‏ وكثيراً من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان‏.‏ وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكرالحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول‏.‏ والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرض لهم‏.‏ وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه‏.‏ فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط‏.‏ مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد‏.‏ وأما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو‏.‏ وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربي في جيل وبلد لم يمارسوا العصبية ولا أنسوا أحوالها فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة‏.‏ والله بكل شيء عليم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:58 PM

الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي
وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية‏.‏ فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا بهم كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مولى القوم منهم ‏"‏ وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر وفقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم‏.‏ فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال‏.‏ وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها وتعدد الآباء في ولايتها‏.‏ ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبلهم وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة‏.‏ فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه لا بالانتساب في الفرس‏.‏ وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها‏.‏ ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده‏.‏ وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنما بنى مجدة نسب الولاء في الدولة ولحمة الاصطناع فيها والتربية‏.‏ وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبيته ودولته فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها‏.‏ وانتفع بالثانية لوجودها‏.‏ وهذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النارعندهم ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم‏.‏ وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له‏.‏ والوجود شاهد بما قلناه‏.‏ و ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏‏.‏ والله ورسوله أعلم‏.‏

الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء
اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله‏.‏ فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات‏:‏ الإنسان وغيره كائنة فاسدة بالمعاينة‏.‏ وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصاً الإنسانية‏.‏ فالعلوم تنشأ ثم تدرس وكذا الصنائع وأمثالها‏.‏ والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة‏.‏ وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كرامة به وحياطة على السر فيه‏.‏ وأول كل شرف خارجية كما قيل وهي الخروج عن الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث‏.‏ ثم إن نهايته أربعة آباء وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه‏.‏ وابنه من بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلأ انه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له‏.‏ ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد‏.‏ ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم‏.‏ فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبييهم كما قلناه‏.‏ بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله‏.‏ فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول وينهدم بناء بيته‏.‏ هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب‏:‏ ‏"‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ‏"‏‏.‏ واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلأ فقد يدثر البيث من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم‏.‏ وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب‏.‏ واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان ومباشر له ومقلد وهادم‏.‏ وهو أقل ما يمكن‏.‏ وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ‏"‏ إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد‏.‏ وفي التوراة ما معناه‏:‏ أنا الله ربك طائق غيورمطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب‏.‏ ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان‏:‏ هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة‏.‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ بأي شيء قال‏:‏ من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم اتصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري وهم بيت قيس وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول‏.‏ فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا‏.‏ فقال كسرى‏:‏ كلهم سيد يصلح لموضعه‏.‏ وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني‏.‏ وهذا كله يدل على أن الاربعة الآباء نهاية في الحسب‏.‏ والله أعلم‏.‏

الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدرعلى التغلب ممن سواها
اعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم اقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار‏.‏ فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم‏.‏ واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف‏.‏ وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد‏.‏ وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة والعصبية‏.‏ وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم‏.‏ وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم‏.‏ وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً وعيشاً خصباً دون الحي الآخر‏.‏ فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافآ في القوة والعدد‏.‏ سنة الله في خلقه‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 09:59 PM

الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك‏.‏ وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر‏.‏ وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس‏.‏ ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً‏.‏ فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت‏.‏ ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع‏:‏ ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ‏"‏‏.‏ ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها‏.‏ فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم‏.‏ وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً وزادتها قوة في التغلب إلى قوتها وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد‏.‏ وهكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة‏:‏ فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها وصار الملك أجمع لها وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها‏.‏ وذلك ملك آخر دون الملك المستبد وهو كما وقع للترك في دولة بني العباس ولصنهاجة وزناتة مع كتامة ولبني حمدان مع ملوك الشيعة والعلوية والعباسية‏.‏ فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك‏.‏ وإن عاقها عن بلوغ الغاية

الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف
وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها‏.‏ فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك‏.‏ فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة‏.‏ وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض‏.‏ وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب‏.‏ وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة والتهمتهم الأمم سواهم‏.‏ فقد تبين أن الترف من عوائق الملك‏.‏ والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏
الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل
والانقياد إلى سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة‏.‏ واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها كيف عجزوا عن ذلك وقالوا‏:‏ ‏"‏ إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ‏"‏ ي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى‏.‏ ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له‏:‏ ‏"‏ اذهب أنت وربك فقاتلا ‏"‏‏.‏ وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما خبرهم به موسى من أن الشام لهم وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك وعجزوا تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به‏.‏ فعاقبهم الله بالتيه وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه‏.‏ ويظهرمن مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به وأفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة فنشأت لهم ذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب‏.‏ ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر‏.‏ سبحان الحكيم العليم‏.‏ وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله‏.‏ ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب‏.‏ فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلأ إذا استهونته عن القتل والتلف وأن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة قد حصل له الانقياد للذل والمذلة عائقة كما قدمناه‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الحرث لما رأى سكة المحراث في بعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل ‏"‏ فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للمذلة‏.‏ هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر‏.‏ فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر‏.‏ ومن هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك‏.‏ وهو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك ولا تمت لهم دولة‏.‏ وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له فقال‏:‏ أنا اليوم منكم يدي في أيديكم وصعري معكم فمرحباً بكم وبارك الله لنا ولكم وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحبون ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم‏.‏ فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كاف‏.‏

الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس
لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والملك إذ الخير هو المناسب للسياسة‏.‏ وقد ذكرنا أن المجد له أصل ينبني عليه وتتحقق به حقيقتة وهو العصبية والعشير وفرع يتم وجوده ويكفله وهو الخلال‏.‏ وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس‏.‏ وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب‏.‏ وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه‏.‏ فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق ووجدت فيه الصلاحية لذلك‏.‏ وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى‏.‏ فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية‏.‏ فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات والاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف وحمل الكل وكسب المعدم والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم ورغبة الدعاء منهم والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه وإنصاف المستضعفين من أنفسهم والتبذل في أحوالهم والانقياد للحق والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم وليس ذلك سدى فيهم ولا وجد عبثاً منهم والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم‏.‏ وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ‏"‏‏.‏ واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه‏.‏ والله يخلق ما يشاء ويختار‏.‏ واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون شاهدة لهم بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم‏.‏ وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية ويشاركهم في اتساع الجاه أمم طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه‏.‏ وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم ويتمحض القصد فيهم أنه للمجد وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية‏.‏ لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة‏.‏ فالصالحون للدين والعلماء للجأ إليهم في إقامة مراسم الشريعة والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم والغرباء من مكارم الأخلاق وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل‏.‏ فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها‏.‏ ولهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق‏.‏ فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم وارتقب زوال الملك منهم‏:‏ ‏"‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ‏"‏‏.‏ والله تعالى أعلم في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما قلناه واستعباد الطوائف لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة‏.‏ وأيضا فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء‏.‏ فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد ولا يقفون عند حدود أفقهم بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على اللأمم النائية‏.‏ وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضى الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال‏:‏ أن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فقال‏:‏ ‏"‏ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ‏"‏‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة وحمير كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى‏.‏ ولم يكن ذلك لغير العرب من الأمم‏.‏ وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول ومجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة‏.‏ وهذا شأن هذه الأمم الوحشية‏.‏ فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً وأبعد من مراكزها نهاية‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار لا شريك له‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:00 PM

الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب
من أمة فلا بد من عوده إلم شعب أخر منها ما دامت لهم العصبية‏.‏ والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون لسرير الملك‏.‏ ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة‏.‏ فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل وانفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها‏.‏ وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه‏.‏ فإذا استولت على الأولين الأيام وأباد خضراءهم الهرم فطبختهم الدولة وأكل الدهر عليهم وشرب بما أرهف النعيم من حدهم واشتفت غريزة الترف من مائهم وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي شعر‏:‏ كدود القز ينسج ثم يفنى بمركز نسجه في الانعكاس كانت حينئذ عصبية الأخرين موفورة وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأر ويصير إليهم‏.‏ وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضا منتبذاً عنه من عشائر أمتهم فلا يزال الملك ملجأ في الأمة إلا أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها‏.‏ سنة الله في الحياة الدنيا ‏"‏ والآخرة عند ربك للمتقين ‏"‏‏.‏ واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الأذواء كذلك ثم جاءت الدولة لمضر‏.‏ وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية ملك من بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام‏.‏ وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الروم‏.‏ وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثم الملثمين من بعدهم ثم المصامدة ثم من بقي من شعوب زناتة وهكذا‏.‏ سنة الله في عباده وخلقه‏.‏ وأصل هذا كله إنما يكون بالعصبية وهي متفاوتة في الأجيال والملك يخلقه الترف ويذهبه كما سنذكره بعد‏.‏ فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الأمر منهم من له عصب مشاركة لعصبيتهم التي عرف لها التسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيات‏.‏ وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسب التي هي فيه أو بعد‏.‏ حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامه بذلك التبديل‏.‏ كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً‏.‏

الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه‏:‏ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول‏.‏ ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله‏.‏ وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم‏.‏ وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجحران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله‏.‏ وتأمل في هذا سر قولهم‏:‏ العامة على دين الملك فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم‏.‏ والله العليم الحكيم وبه سبحانه وتعالى التوفيق‏.‏ في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التناسل والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية‏.‏ فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أولم يحصلوا‏.‏ وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي‏.‏ ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين‏.‏ فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولما فنيت حاميتهم في أيام العرب بقي منهم كثير وأكثر من الكثير‏.‏ يقال أن سعداً أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفاً منهم سبعة وثلاثون ألفاً رب بيت‏.‏ ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً ودثروا كأن لم يكونوا‏.‏ ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم أوعدوان شملهم فملكة الإسلام في العدل ما علمت وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره‏.‏ ولهذا إنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرق حصول رتبة أو إفادة مال أو عز كما يقع لممالك الترك بالمشرق والعلوج من الجلالقة والإفرنجة بالأندلس فإن العادة جارية باستخلاص الدولة لهم فلا يأملون من الرق لما يأملونه من الجاه والرتبة باصطفاء الدولة‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:01 PM

الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم‏.‏ فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له‏.‏ والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنهم لا يتسنمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر‏.‏ وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة فهي نهب لهم وطعمة لأكلهم يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم‏.‏ والله قادر على خلقه وهو الواحد القهار لا رب غيره‏.‏

الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان
أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة‏.‏ وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له‏.‏ فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له‏.‏ فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك‏.‏ والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك‏.‏ فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران‏.‏ هذا في حالهم على العموم‏.‏ وأيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم فى ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه‏.‏ فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران‏.‏ وأيضاً فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطاً من الأجر والثمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجاناً ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعر الساكن وفسد العمران‏.‏ وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو مغرماً فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد‏.‏ وربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها بل يكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهم كأنها فوضى دون حكم‏.‏ والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه أن وجود الملك خاصة طبيعية للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلا بها وتقدم ذلك أول الفصل‏.‏ وأيضاً فهم منافسون في الرياسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى من أجل الحياء فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلف الأيدي وتختلف الأيدي على الرعية والأحكام فيفسد العمران وينتقض‏.‏ قال الأعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران فقال‏:‏ تركته يظلم وحده‏.‏ وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه وبدلت الأرض فيه غير الأرض‏:‏ فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصارة وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر‏.‏ والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك
إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم‏.‏ فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك‏.‏ وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيىء لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإن كل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم‏.‏

الفصل الثامن والعشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالاً في القفر وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش ورئيسهم محتاج إليهم غالباً للعصبية التي بها المدافعة فكان مضطراً إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبييه فيكون فيها هلاكه وهلاكهم‏.‏ وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر وإلا لم تستقم سياسته‏.‏ وأيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض‏.‏ فإذا ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم‏.‏ وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعاً وربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه‏.‏ فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعاً شأن الفوضى كما قدمنا‏.‏ فبعدت طبع العرب لذلك كله عن سياسة الملك‏.‏ وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه‏.‏ واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شدد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم‏.‏ كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول‏:‏ أكل عمر كبدي يعلم الكلاب الآداب‏.‏ ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة فتوحشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم‏.‏ ولما ذهب أمر الخلافة وانمحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس‏.‏ لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة‏.‏ وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه‏.‏ واللة يؤتي ملكه من يشاء‏.‏

الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل
والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأن الأمور الضرورية في العمران ليس كلها موجودة لأهل البدو وإنما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادها معدومة ومعظمها الصنائع‏.‏ فلا توجد لديهم بالكلية من نجار وخياط وحداد وأمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم‏.‏ في الفلح وغيره‏.‏ وكذا الدنانير والدراهم مفقودة لديهم وإنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألباناً وأوباراً وأشعاراً وإهاباً مما يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم‏.‏ إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم الحاجي والكمالي‏.‏ فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم‏.‏ فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به‏.‏ وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك‏.‏ وإن لم يكن في المصر ملك فلابد فيه من رياسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلا انتقض عمرانه‏.‏ وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه‏:‏ إما طوعاً ببذل المال لهم ثم يبذل لهم ما يحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهم وإما كرهاً أن تمت قدرته على ذلك ولو بالتفريق بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلى طاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم‏.‏ وربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلى جهات أخرى لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرهم فلا يجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر‏.‏ فهم بالضرورة مغلوبون

الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية
وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة‏.‏ إنما يحصلان بالقبيل والعصبية وذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد منهم دون صاحبه‏.‏ ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالباً وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً‏.‏ وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل‏:‏ فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة إنما يدركون أصحاب الدولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التسليم لهم والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوله وما لقي أولهم من المتاعب دونه وخصوصاً أهل الأندلس في نسيان هنه العصبية وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب‏.‏ والله قادر على مايشاء وهو بكل شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية
والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه‏.‏ فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه‏.‏ ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها‏.‏ ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة‏:‏ إما بالموالي والمصطنعين الذين نشؤوا في ظل العصبية وغيرها وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها‏.‏ ومثل هذا وقع لبني العباس‏.‏ فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم‏.‏ ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم‏.‏ ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم‏.‏ ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة‏.‏ وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرت لهم الدولة مقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية‏.‏ وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة وجاء الموحدون بقوة قويه من العصبية في المصامدة فمحوا آثارهم‏.‏ وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها واقتسموا خطتها وتنافسوا بينهم وتوزعوا ممالك الدولة وانتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه‏.‏ وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممن ينقض ذلك عليهم أو يغيره لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمر لهم ذلك كما قال ابن شرف‏:‏ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب واستبد ابن أبي عامر على الدولة‏.‏ فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذاك حتى جاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهما ولم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم‏.‏ فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها‏.‏ وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب وإستحكام الصبغة لأهله‏.‏ فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة‏.‏ فإنه إنما أدرك دول الطوائف وذلك عند اختلال دولة بني أمية وانقراض عصبيتها من العرب واستبداد كل أمير بقطره‏.‏ وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين وهلاكهم ولم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة وبقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك ولم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة وأنه لا يتم إلا لأهل العصبية‏.‏ فتفطن أنت له وافهم سر الله فيه والله يؤتي ملكه من يشاء‏.‏

الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي
دولة تستغني عن العصبية وذلك أنه إذا كان لعصبيته غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقر ملكه ومنبت عزه اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله الأمر من يد أعياصه وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر ولا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته وانقياداً لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها‏.‏ وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديين بإفريقية ومصر لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية وابتعدوا عن مقر الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العباس بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد مناف‏:‏ لبني أمية أولاً ثم لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرة بعد أخرى فأوربة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوارة للعبيديين فشيدوا دولتهم ومهدوا بعصائبهم أمرهم واقتطعوا من ممالك العباسيين المغرب كله ثم إفريقية ولم يزل ظل الدولة يتقلص وظل العبيديين يمتد إلى أن ملكوا مصر والشام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة‏.‏ وهؤلاء البرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم‏.‏ وإنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم‏.‏ فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها‏.‏ ‏"‏ والله يحكم لا معقب لحكمه ‏"‏‏.‏

الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك
أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة‏.‏ وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ‏"‏ وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه وتعالى وبه التوفيق لارب سواه‏.‏ في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه‏.‏ وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات‏.‏ فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعاً وثلاثين ألفاً في كل معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفاً بالقادسية وجموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم‏.‏ واعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة ودولة الموحدين‏.‏ فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة‏.‏ واعتبر هذا في الموحدين مع زناتة لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشاً وكان للمصامدة الدعوة الدينية بأتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة أولاً وأستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم فلما خلوا عن تلك الصبغة الدييية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:04 PM

الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية‏.‏ وفي الحديث الصحيح كما مر ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ‏"‏ وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن أركش وأمكنهم من ثغره وكان أول داعية لهم بالأندلس وكانت ثورتة تسمى ثورة المرابطين‏.‏ ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء‏.‏ فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجورمن الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال‏:‏ ‏"‏ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ‏"‏ وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه‏.‏ وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة‏.‏ والله حكيم عليم‏.‏ فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك‏.‏ وأما إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة‏.‏ وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضا من آل الحسين فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغذاد وانطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصلاح وقطعوا السبيل وامتلأت أيديهم من نهاب الناس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم‏.‏ فتوافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم‏.‏ وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل‏.‏ ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري ويكنى أبا حاتم وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فاتبعه الناس كافة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتخذ الديوان وطاف ببغداد ومنع كل من أخاف المارة ومنع الخفارة لأولئك الشطار‏.‏ وقال له خالد الدريوس‏:‏ أنا لا اعيب على السلطان فقال له سهل‏:‏ لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان‏.‏ وذلك سنة إحدى ومائتين‏.‏ وجهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه‏.‏ ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم‏.‏ والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصقاعين‏.‏ وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي ولا ما هو‏.‏ وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم‏.‏ وقد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هنالك وزعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته‏.‏ فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش‏.‏ ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه‏.‏ وكذلك خرج في غمارة أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس وادعى مثل هذه الدعوة واتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة ثم قتل لأربعين يوماً من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأولين‏.‏ وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها‏.‏ وأما إن كان التلبيس فأحرى ألا يتم له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظالمين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لارب غيره ولا معبود سواه‏.‏ في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها والسبب في ذلك أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدو وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك‏.‏ فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة وتخماً لوطنها ونطاقاً لمركز ملكها‏.‏ فإن تكلفت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور ويعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر وخرق سياج الهيبة‏.‏ وما كانت العصابة موفورة ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته‏.‏ والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها‏.‏ والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق‏.‏ وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه‏.‏ ثم إذا أدركها الهرم والضعف فإنما‏:‏ تأخذ في التناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز‏.‏ وإذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق بل تضمحل لوقتها فإن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب القلب وملك انهزم جميع الأطراف‏.‏ وانظر هذا في الدولة الفارسية‏.‏ كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه‏.‏ وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأدن الله بانقراضه‏.‏ وانظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وإفريقية والمغرب ثم إلى الأندلس‏.‏ فلما تفرقوا حصصاً على الممالك والثغور ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدولة حتى تأذن الله با نقراضها‏.‏ وكذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء‏.‏ سنة الله في خلقه‏.‏

الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها
وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية‏.‏ وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها فما كان من الدولة العامة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً وكان ملكها أوسع لذلك‏.‏ واعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة‏.‏ فلما توجهو لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر فاستبيح حمى فارس والروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم والترك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال واستولوا على الأقاليم السبعة‏.‏ ثم انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحدين مع العبيديين قبلهم لما كان قبيل كتامة القائمون بدولة العبيديين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب والشام ومصر والحجاز‏.‏ ثم انظر بعد ذلك دولة زناتة لما كان عددهم أقل من المصامدة قصر ملكهم عن ملك الموحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أول أمرهم ثم اعتبر بعد ذلك حال الدولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد لما كان عدد بني مرين لأول ملكهم أكثر من بني عبد الواد كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقاً وكان لهم عليهم الغلب مرة بعد أخرى‏.‏ يقال إن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف وأن بني عبد الواد كانوا ألفاً إلا أن الدولة بالرفه وكثرة التابع كثرت من أعدادهم‏.‏ وعلى هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون اتساع الدولة وقوتها‏.‏ وأما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة لأن عمر الحادث من قوة مزاجه ومزاج الدول إنما هو بالعصبية فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها وكان أمد العمر طويلاً والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه‏.‏ والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وكل نقص يقع فلا بد له من زمن فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك واختصاص كل واحد منها بنقص وزمان فيكون أمدها طويلاً‏.‏ وانظر ذلك في دولة العرب الإسلامية كيف كان أمدها أطول الدول لا بنو العباس أهل المركز ولا بنو أمية المستبدون بالأندلس‏.‏ ولم ينقض أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة‏.‏ ودولة العبيديين كان أمدها قريباً في مائتين وثمانين سنة‏.‏ ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معز الدولة أمر إفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة

الفصل التاسع في أن الأوطان الكثيرة القبائل
والسبب في ذلك اختلاف الأراء والأهواء وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك بإفريقية والمغرب منذ أول الإسلام ولهذا العهد‏.‏ فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات فلم يغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئاً‏.‏ وعاودوا بعد ذلك الثورة والردة مرة بعد أخرى وعظم الإثخان من المسلمين فيهم‏.‏ ولما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة‏.‏ قال ابن أبي زيد‏:‏ ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة‏.‏ ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده‏.‏ وهذا معنى ماينقل عن عمران إفريقية مفرقة لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد‏.‏ ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام إنما كانت حاميتها من فارس والروم والكافة دهماء أهل مدن وأمصار‏.‏ فلما غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع ولا مشاق‏.‏ والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر‏.‏ وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والردة فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب‏.‏ وكذلك كان الأمر بالشام لعهد بني إسرائيل‏:‏ كان فيه من قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة وأكريكش والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعاً في العصبية‏.‏ فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرة بعد أخرى‏.‏ وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه ولم يكن لهم ملك موطد سائر أيامهم إلى أن غلبهم الفرس ثم يونان ثم الروم آخر أمرهم عند الجلاء‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏ وبعكس هذا أيضاً الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها ويكون سلطانها وازعاً لقلة الهرج والانتقاض ولا تحتاج فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيات كأن لم يكن الشام معدناً لهم كما قلناه‏.‏ فملك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب إنما هو سلطان ورعية ودولتها قائمة بملوك الترك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحداً بعد واحد وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت والخلافة مسماة للعباسي من أعقاب الخلفاء ببغداد‏.‏ وكذا شأن الأندلس لهذا العهد‏.‏ فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية ولا كانت كرات إنما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا من ذلك القلة وذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منه وملكهم البربر من لمتونة والموحدين سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضاءهم وأمكن الموحدون والسادة في آخر الدولة كثيراً من الحصون للطاغية في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملك الحضرة مراكش‏.‏ فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبية القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشيء ورسخوا في العصبية مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم‏.‏ فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق وحمل الناس على الخروج على الموحدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم واستقل ابن هود بالأمر بالأندلس‏.‏ ثم سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحدين وقام بالأمر وتناوله بعصابة قليلة من قرابته كانوا يسمون الرؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلة العصائب بالأندلس وأنها سلطان ورعية‏.‏ ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرباط‏.‏ ثم سما لصاحب المغرب من ملوك زنانة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثل أمره ورسخ وألفته النفوس وعجز الناس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد‏.‏ فلا تظن أنه بغير عصابة فليس كذلك وقد كان مبدؤه بعصابة إلا أنها قليلة وعلى قدر الحاجة فإن قطر الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبية فى التغلب عليهم‏.‏ والله غني عن العالمين‏.‏

الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد
وذلك أن الملك كما قدمناه إنما هو بالعصبية والعصبية متألفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها وتستولي عليها حتى تصيرها جميعاً في ضمنها وبذلك يكون الاجتماع والغلب على الناس والدول‏.‏ وسره أن العصبية العامة للقبيل هي مثل المزاج للمتكون والمزاج إنما يكون عن العناصر وقد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلاً بل لا بد أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها وتؤلفها وتصيرها عصبية واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها‏.‏ وتلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت ورياسة فيهم ولا بد أن يكون واحد منهم رئيساً لهم غالباً عليهم فيتعين رئيساً للعصبيات كلها لغلب منبته لجميعها‏.‏ وإذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة ة فيأخذ حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏‏.‏ فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلج شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم وتقرع عصبيتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملاً‏.‏ فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته‏.‏ وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة وقد لا يتم إلا للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها‏.‏ إلا أنه أمر لا بد منه في الدول‏.‏ ‏"‏ سنة الله التي قد خلت في عباده ‏"‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف
وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته‏.‏ ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والأنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب ولبس الأنيق وركوب الفاره ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة‏.‏ وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة أن تبلغها بحسب قوتها وعوائد من قبلها‏.‏ سنة الله في خلقه والله تعالى أعلم‏.‏

الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون
وذلك أن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة والمطالبة غايتها الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السعي إليها‏.‏ قال الشاعر‏:‏ عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرياض ويستمتعون بأحوال الدنيا ويؤثرون الراحة على المتاعب ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والأنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم‏.‏ ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم‏.‏

الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك
من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم وبيانه من وجوه‏:‏ الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه‏.‏ وما كان المجد مشتركاً بين العصابة وكان سعيهم له واحداً كانت هممهم في التغلب على الغير والذب عن الحوزة أسوة في طموحها وقوة شكائمها ومرماهم إلى العز جميعاً وهم يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده‏.‏ وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم وكبح من أعنتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ريحهم ورئموا المذلة والاستعباد‏.‏ ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم على الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهناً في الدولة وخضداً من الشوكة وتقبل به على والوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده وتمسهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدولة بضعفهم‏.‏ وأيضاً إذا كثر الترف في الدولة وصار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم ويزيح عللهم‏.‏ والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً‏.‏ فإذا وزعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات‏.‏ ثم يعظم الترف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية وثالثاً ورابعاً إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد فتضعف الحماية لذلك وتسقط قوة الدولة ويتجاسر عليها من يجاورها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب ويأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته‏.‏ وأيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر فتكون علامة على الأدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدولة مبادىء العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفاً وخلقاً صار لهم ذلك طبيعة وجبلة شأن العوائد كلها وإيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف والدعة وينقلب خلق التوحش وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس وتعود الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر‏.‏ فلا يفرق بينهم وبين السوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم‏.‏ ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئاً فشيئاً وينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية والمدافعة حتى يعودوا عيالاً على حامية اخرى إن كانت لهم‏.‏ واعتبر ذلك في الدول التي وربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره‏.‏ وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فأبى غالب جندها الموالي من الترك‏.‏ فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً فيكونون أجراً على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء الملوك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله وكذلك في دولة الموحدين بإفريقية فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمراً آخر سالماً من الهرم‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنة وهي سنة القمر الكبرى عند المنجمين‏.‏ ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها‏.‏ وأعمار هذه الملة ما بين الستين إلى السبعين كما في الحديث‏.‏ ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة وعشرون إلا في الصور النادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السلام وقليل من قوم عاد وثمود‏.‏ وأما أعمار الدول أيضاً وإن كانت تختلف بحسب القرانات إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال‏.‏ والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ‏"‏‏.‏ ولهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل‏.‏ ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد‏.‏ وإنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال‏:‏ لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون‏.‏ والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب ومن الأشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع‏.‏ ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية وإن ذهب منه ما ذهب ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم‏.‏ وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة وينسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها‏.‏ فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذن بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت‏.‏ فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها‏.‏ ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء‏.‏ وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الأنصاف‏.‏ وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مر‏.‏ ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يخضرها ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً ‏"‏ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ‏"‏‏.‏ فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف ثم إلى سن الرجوع‏.‏ ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة وهذا معناه‏.‏ فاعتبره واتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الأباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استرب في عددهم وكانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائة من السنين ثلاثة من الأباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحيح وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب وإن زادت بمثله فقد سقط واحد‏.‏ وكذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك فتأمله تجده في الغالب صحيحاً‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:06 PM

الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة
اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول‏.‏ فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس ولا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة فطور الدولة من أولها بداوة‏.‏ ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف وما تتلون به من العوائد‏.‏ فصار طور الحضارة في الفلك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك‏.‏ وأهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم‏.‏ فأحوالهم يشاهدون ومنهم في الغالب يأخذون ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة‏.‏ فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً وأمثال ذلك‏.‏ فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتفنن فيه مع ما حصل لهم من اتساع العيش والتفنن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح وركب إليها في السفين وما أنفق في إملاكها وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب‏.‏ فمنه أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملتوتة على الرقاع بالضياع والعقار مسوغة لمن حصلت في يده يقع لكل واحد منهم ما أداه إليه الاتفاق والبخت وفرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة ألاف وفرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك بعد أن أنفق في مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك‏.‏ ومنه أن المامون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من وهو رطل وثلثان وبسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر والياقوت‏.‏ وقال المأمون حين رآه‏:‏ ‏"‏ قاتل الله أبا نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر‏:‏ كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب وأعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلاً مدة عام كامل ثلاث مرات كل يوم‏.‏ وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت‏.‏ وأوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم‏.‏ وكثير من هذا وأمثاله‏.‏ وكذلك عرس المامون بن ذي النون بطليطلة نقله ابن بسام في كتاب الذخيرة وابن حبان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم وسذاجتهم‏.‏ ويذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس وقال‏:‏ أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له‏:‏ نعم أيها الأمير شهدث بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصائفها‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس‏.‏ وعلم انه لا يستقل بهذه الأبهة‏.‏ وكذلك كان‏.‏ ومن هذا الباب أعطية بني أمية وجوائزهم‏.‏ فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم‏.‏ ثم كانت الجوائز في دولة بني العباس والعبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثياب وإعداد الخيل بمراكبها‏.‏ وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بإفريقية وكذا بنو طغج بمصر وشأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس والموحدين كذلك وشأن زناتة مع الموحدين وهلم جرا تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة‏:‏ فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية وبني العباس وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين وزناتة لهذا العهد وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر والتتر بالعراقين‏.‏ وعلى قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف والترف من توابع الثروة والنعمة والثروة والنعمة من توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة‏.‏ فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله‏.‏ فاعتبره وتفهمه وتأمله تجده صحيحاً في العمران‏.‏ ‏"‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ‏"‏‏.‏

الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية فكثرت العصابة واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد‏.‏ فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها لأنهم ليس لهم من الأمر شيء إنما كانوا عيالاً على أهلها ومعونة لها فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدولة على حالها من القوة‏.‏ واعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام‏.‏ كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخلافة مائة وخمسين ألفاً أو ما يقاربها من مضر وقحطان ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر النعمة واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه‏.‏ يقال‏:‏ أن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف‏.‏ ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية والقاصية شرقاً وغرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين‏.‏ وقال المسعودي‏:‏ أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران وإناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مئتي سنة واعلم أن سببه إلى الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم وإلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا ولا قريباً منه‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏

الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار
اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطورلا يكون مثلة في الطور الأخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه‏.‏ وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار‏:‏ الطور الأول‏:‏ طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها‏.‏ فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها‏.‏ الطور الثاني‏:‏ طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه الضاربين في الملك بمثل سهمه‏.‏ فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعباً من الأمر‏.‏ الطور الثالث‏:‏ طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الأثار وبعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة‏.‏ وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة‏.‏ لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم موضحون الطرق لمن بعدهم‏.‏ الطور الرابع‏:‏ طور القنوع والمسالمة‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده‏.‏ الطور الخامس‏:‏ طور الإسراف والتبذير‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستلفون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون وهادماً لما كانوا يبنون وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخفص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها‏.‏ والله خير الوارثين‏.‏

الفصل الثامن عشر في أن أثار الدولة كلها
علي نسبة قوتها في أصلها والسبب في ذلك أن الأثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً وعلى قدرها يكون الأثر‏.‏ فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة‏.‏ فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل والتعاون فيه‏.‏ فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا كان الفعلة كثيرين جداً وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها فتم العمل على أعظم هياكله‏.‏ ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما‏.‏ وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركة العجز وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة‏.‏ فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لاتستطيع أخرى على هدمه هع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين‏.‏ وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الأثار الماثلة للعيان تعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف‏.‏ واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع‏.‏ ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما تجد بين الهياكل والآثار‏.‏ ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس‏.‏ ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وإنها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر هو الضوء وأن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له‏.‏ وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا‏.‏ يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت وجددت لم تزل محافظة على أشكالها ومقادير أبوابها‏.‏ وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار‏.‏ وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الأثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك‏.‏ وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم وهو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام المرة ونهاية القوة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت إنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد‏.‏ فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني‏.‏ ونحن نشاهد مساكن الأولين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتاً صغاراً وأبوابها ضيقة‏.‏ وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرقه وقال‏:‏ ‏"‏ لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ‏"‏‏.‏ وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقاً وغرباً‏.‏ والحق ما قررناه‏.‏ ومن آثار الدول أيضاً حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجاج وابن ذي النون وقد مر ذلك كله‏.‏ ومن آثارها أيضاً عطايا الدول وأنها تكون على نسبتها‏.‏ ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تتكون على نسبة قوة ملكهم وغلبهم للناس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشراً عشراً ومن كرش العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب وإنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس وإنما حملة على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب‏.‏ وكان الصنهاجيون بإفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالاً والكساء تخوتاً مملوءة والحملان نجائب عديدة‏.‏ وفي تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة‏.‏ وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية والنعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم‏.‏ وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلها على نسبة الدول جارية‏.‏ هذا جوهر الصقلي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال‏.‏ ولا تنتهى اليوم دولة إلى مثل هذا‏.‏ موارد بيت المال ببغداد أيام المأمون وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة‏:‏ غلات السواد سبع وعشرون ألف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل النجرانية كنكر‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وستمائة ألف درهم‏.‏ كوردجلة‏:‏ عشرون ألف ألف درهم وثمانمائة درهم‏.‏ حلوان‏:‏ أربعة آلاف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم‏.‏ الأهواز‏:‏ خمسة وعشرون ألف درهم مرة ومن السكر ثلاثون ألف رطل‏.‏ فارس‏:‏ سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزيت الأسود عشرون ألف رطل‏.‏ كرمان أربعة ألاف ألف درهم مرتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليماني الخمسمائة ثوب ومن التمر عشرون ألف رطل‏.‏ مكران‏:‏ أربعمائة ألف درهم مرة‏.‏ السند وما يليه‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهندي مائة وخمسون رطلاً‏.‏ سجستان‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين ومن الثياب المعينة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلاً‏.‏ خراسان‏:‏ ثمانية وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن نقر الفضة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة جرجان‏:‏ اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن الأبريسم ألف شقة‏.‏ قومس‏:‏ ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة‏.‏ طبرستان والربان ونهاوند‏:‏ ستة ألاف ألف مرتين وثلاثمائة ألف ومن الفرش الطبري ستمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة‏.‏ الري‏:‏ اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن العسل عشرون ألف رطل‏.‏ همدان‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وثلاثمائة ألف ومن رب الرمان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل‏.‏ ما بين البصرة والكوفة‏:‏ عشرة ألف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم‏.‏ ماسبذان والدينار‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين‏.‏ شهرزور‏:‏ ستة ألاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم‏.‏ الموصل وما إليها‏:‏ أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل‏.‏ أذربيجان‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين‏.‏ الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات‏:‏ أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرتين ومن الرقيق ألف رأس ومن العسل اثنا عشر ألف زق ومن البزاة عشرة ومن الأكسية عشرون‏.‏ أرمينية‏:‏ ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن القسط المحفور عشرون ومن الزقم خمسمائة وثلاثون رطلاً ومن المسايج السور ماهي عشرة ألاف رطل ومن الصونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون‏.‏ قنسرين‏:‏ أربعمائة ألف دينار ومن الزيت ألف حمل‏.‏ دمشق‏:‏ أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار‏.‏ الأردن‏:‏ سبعة وتسعون ألف دينار‏.‏ فلسطين‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار وعشرة ألاف دينار ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطل‏.‏ مصر‏:‏ ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار‏.‏ برقة‏:‏ ألف ألف درهم مرتين‏.‏ إفريقية‏:‏ ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن البسط مائة وعشرون‏.‏ اليمن‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع‏.‏ الحجاز‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار‏.‏ انتهى‏.‏ وأما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة ألاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار‏.‏ ورأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة ألاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنة‏.‏ فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض ولا تنكرن ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات‏.‏ فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر باب بالإنكار وليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها‏.‏ ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أمية والعبيديين وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بوناً وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه ة ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره‏.‏ فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقضه عليك من هذه الحكاية المستظرفة‏.‏ وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض‏.‏ وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان وفرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنه عند رجوعه من سفره في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناجى الناس بتكذيبه‏.‏ ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه‏.‏ فقال لي الوزير فارس‏:‏ إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن‏.‏ وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المحبس فلما أدرك وعقل سأل عن اللحم الذي كان يتغذى به فقال أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقرة إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر‏.‏ وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب‏.‏ فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمناً على نفسه ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته‏.‏ فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه‏.‏ وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء‏.‏ فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه ‏"‏ وقل رب زدني علماً وأنت أرحم الراحمين ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه
اعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهمو في سائر مهماته‏.‏ هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه‏.‏ فإذا جاء الطور الثاني وظهر الإستبداد عنهم والإنفراد بالمجد ودافعهم عنه بالراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولاهم دونه فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخص به قرباً واصطناعاً وأولى إيثاراً وجاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم‏.‏ فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون‏.‏ وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه ويتربصون به الدوائر ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها‏.‏ واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسري وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ونصر بن سيار وأمثالهم من رجالات العرب‏.‏ وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأتامش وباكناك وإبن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه‏.‏ سنة الله في عباده والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:07 PM

الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول
اعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها‏.‏ والسبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى والتخاذل في الجانب والبعداء كما قدمناه‏.‏ والولاية والمخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك لأن أمر النسب وإن كان طبيعياً فإنما هو وهمي والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة‏.‏ وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناضر وهذا مشاهد بين الناس‏.‏ واعتبر مثله في الاصطناع ة فإنه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة‏.‏ فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج وعقائدها أصح ونسبها أصرح لوجهين‏:‏ أحدهما أنهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم‏.‏ وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع لما تقتضيه أحوال الرياسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها فتتميز حالتهم ويتنزلون منزلة الأجانب ويكون الالتحام بينهم أضعف والتناصر لذلك أبعد وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان ويخفي شأن تلك اللحمة ويظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية‏.‏ وأما بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر فتتبين اللحمة وتتميز عن النسب فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة‏.‏ واعتبر ذلك في الدول والرياسات تجده‏.‏ فكل من كان اصطناغه قبل حصول الرياسة والملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به وأقرب قرابة إليه ويتنزل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه‏.‏ ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرياسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللحمة ما للأولين‏.‏ وهذا مشاهد بالعيان حتى أن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين في مهاوي الضعة‏.‏ وإنما يحمل صاحب الدولة على اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأولين ما يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة وقلة الخضوع له ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتصال بآبائه وسلف قومه والانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالة عليه واعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدولة ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريباً فلا يبلغون رتب المجد ويبقون على حالهم من الخارجية وهكذا شأن الدول في أواخرها‏.‏ وأكثر ما يطلق اسم الصنائع والأولياء على الأولين‏.‏ وأما هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان‏.‏ والله ولي المؤمنين وهو على كل شيء وكيل‏.‏

الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه
إذا استقر الملك في نصاب معين ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد بحسب الترشيح فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم‏.‏ وسببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ويوري عنه بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعة للملك‏.‏ فيحجب الصبي عن الناس ويعوده اللذات التي يدعوه إليها ترف أحواله ويسيمه في مراعيها متى أمكنه وينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه‏.‏ وهو بما عوده يعتقد أن حظ السطان من الملك إنما هو جلوس السرير وإعطاء الصفقة وخطاب التهويل والقعود مع النساء خلف الحجاب وأن الحل والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكية وتفقدها من النظر في الجيش والمال والثغور إنما هو للوزير ويسلم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرياسة والاستبداد ويتحول الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده‏.‏ كما وقع لبني بويه والترك وكافور الإخشيدي وغيرهم بالمشرق وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس‏.‏ وقد يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ويرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط إلا أن ذلك في النادر الأقل لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك وقل أن تخرج عنه لأن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه قد نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والاظآر وربوا عليها فلا ينزعون إلى رياسة ولا يعرفون استبداداً من تغلب إنما همهم في القنوع بالأبهة والتفنن في اللذات وأنواع الترف‏.‏ وهذا التغلب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم‏.‏ وهو عارض للدولة ضروري كما قدمناه‏.‏ وهذان مرضان لا برء للدولة منهما إلا في الأقل النادر‏.‏ ‏"‏ والله يؤتي ملكه من يشاء وهو على كل شيء قدير ‏"‏‏.‏ في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك وذلك أن الملك والسلطان حصل لأوليه مذ أول الدولة بعصبية قومه وعصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب وهي لم تزل باقية وبها انحفظ رسم الدولة وبقاؤها وهذا المتغلب وإن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي والصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها وليس له صبغة في الملك‏.‏ وهو لا يحاول في استبداده انتزاع الملك ظاهراً وإنما يحاول انتزاع ثمراته من الأمر والنهي والحل والعقد والإبرام والنقض يوهم فيها أهل الدولة أنه متصرف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه‏.‏ فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التهمة بذلك وإن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان وأولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة ومغالط عنه بالنيابة‏.‏ ولو تعرض لشيء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية وقبيل الملك وحاولوا الاستئثار به دونه لأنه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له والانقياد فيهلك لأول وهلة‏.‏ وقد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن المنصور بن أبي عامر حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة ولم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحل والعقد والمراسم المتتابعة‏.‏ فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش وبايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر وخرجوا عليه‏.‏ وكان في ذلك خراب دولة العامريين وهلاك المؤيد خليفتهم واستبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها واختلت مراسم ملكهم‏.‏ والله خير الوارثين‏.‏

الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه
الملك منصب طبيعي للإنسان لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم‏.‏ وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع وهو مما خصة الباري سبحانه بالمحافظة واستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم‏.‏ ولا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية‏.‏ وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر‏.‏ والعصبيات متفاوتة وكل عصبية فلها تحكم وتغلب على من يليها من قومها وعشيرها‏.‏ وليس الملك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة‏.‏ وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور‏.‏ فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغورأو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدولة العباسية‏.‏ ومن قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات والضرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضاً ملك ناقص لم تتم حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة‏.‏ وكثيراً ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين وزناتة مع الأمويين تارة والعبيديين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس ومثل أمراء البربر وملوكهم مع الفرنجة قبل الإسلام ومثل ملوك الطوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيين وكثير من هؤلاء‏.‏ فاعتبره تجده‏.‏ والله القاهر فوق عباده‏.‏

الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر
اعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع عمله أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافتة إليهم فإن الملك والسلطان من الأمور الإضافية وهي نسبة بين منتسبين‏.‏ فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان والصفة التي له من حيث إضافته لهم هي التي تسمى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم ويعود حسن الملكة إلى الرفق‏.‏ فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربما خذلوه في مواطن الحروب والمددافعات ففسدت الحماية بفساد النيات وربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية‏.‏ وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب‏.‏ وأما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك وأما النعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم والنظر لهم في معاشهم وهي أصل كبير في التحبب إلى الرعية‏.‏ واعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل‏.‏ وأقل ما يكون في اليقظ أنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطلاعه على عواقب الأمور في مباديها بألمعيته فيهلكون‏.‏ لذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سيروا على سير أضعفكم ‏"‏‏.‏ ومن هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء ومأخذه من قصة زياد بن أبى سفيان لما عزله عمر عن العراق وقال‏:‏ ‏"‏ لم عزلتني يا أمير المومنين ألعجز أم لخيانة ‏"‏ فقال عمر‏:‏ ‏"‏ لم أعزلك لواحدة منهما ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس ‏"‏‏.‏ فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب‏.‏ والله خير المالكين‏.‏ وتقرر من هذا أن الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود‏.‏ والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية والمحمود هو التوسط‏:‏ كما في الكرم مع التبذير والبخل وكما في الشجاعة مع الهوج والجبن وغير ذلك من الصفات الإنسانية‏.‏ ولهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك‏.‏ والله يخلق ما يشاء وهو العليم القدير‏.‏

الفصل الخامس والعشرون في معني الخلافة والإمامة
لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته ويختلف ذلك باختلاف المقاصد من الخلف والسلف منهم فتعسر طاعته لذلك وتجيء العصبية المفضية إلى الهرج والقتل‏.‏ فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم‏.‏ وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولا يتم استيلاؤها‏:‏ ‏"‏ سنة الله في الذين خلوا من قبل ‏"‏‏.‏ فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الأخرة‏.‏ وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء والله يقول‏:‏ ‏"‏ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم‏.‏ ‏"‏ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ‏"‏‏.‏ فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع‏.‏ فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب وإهمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية‏.‏ وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله‏:‏ ‏"‏ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ‏"‏‏.‏ لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما هي أعمالكم ترد عليكم ‏"‏ وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط‏.‏ ‏"‏ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏"‏ ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم‏.‏ وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء‏.‏ فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة والسياسي هو حمل الكافة على مقتضي النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في جراسة الدين وسياسة الدنيا به‏.‏ فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد‏.‏ والله الحكيم العليم‏.‏ في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماماً‏.‏ فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به ولهذا يقال‏:‏ الإمامة الكبرى‏.‏ وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال‏:‏ خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله‏.‏ واختلف في تسميته خليفة الله‏.‏ فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إني جاعل في الأرض خليفة ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ جعلكم خلائف الأرض ‏"‏‏.‏ ومنع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لما دعي به وقال‏:‏ ‏"‏ لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب وأما الحاضر فلا‏.‏ ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم‏.‏ وكذا في كل عصرمن بعد ذلك‏.‏ ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار‏.‏ واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام‏.‏ وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الإجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض‏.‏ فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية‏.‏ وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبوات في البشر‏.‏ وقد نبهنا على فساده وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة‏.‏ فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع وهو الاجماع الذي قدمناه‏.‏ وقد شد بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل ولا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء أحكام الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه‏.‏ وهؤلاء محجوجون بالإجماع‏.‏ والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك والنعي على أهله ومرغبة في رفضه‏.‏ واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنصفة وإقامة مراسم الدين والذب عنه وأوجب بإزائها الثواب وهي كلها من توابع الملك‏.‏ فإذا إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمه لذاته ولا طلب تركه كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين وليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليها وإنما المراد تصريفهما على مقتضى الحق‏.‏ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده‏.‏ ثم نقول لهم أن هذا الفرارعن الملك بعدم وجوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة وذلك لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة والعصبية مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام وهو وإذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعاً طاعته لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏"‏‏.‏ وأما شروط هذا المنصب فهي أربعة‏:‏ العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل‏.‏ واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشي‏.‏ فأما اشتراط العلم فظاهر لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها‏.‏ ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً لأن التقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال‏.‏ وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه‏.‏ ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها‏.‏ وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف‏.‏ وأما الكفاية فهو أن يكون جريئاً على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيراً بها كفيلاً بحمل الناس عليها عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء قوياً على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح‏.‏ وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالجنون والعمى والصمم والخرس وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرجلين والأنثيين فتشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه‏.‏ وإن كان إنما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال‏.‏ ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف‏.‏ وهو ضربان‏:‏ ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التصرف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غيرعصيان ولا مشاقة فينتقل النظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدين والعدل وحميد السياسة جاز قراره وإلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علته حتى ينفذ فعل الخليفة‏.‏ وأما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك واحتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة وقالوا‏:‏ ‏"‏ منا أمير ومنكم أمير ‏"‏ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الأئمة من قريش ‏"‏ وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الأمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار ورجعوا عن قولهم‏:‏ ‏"‏ منا أمير ومنكم أمير ‏"‏ وعدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك‏.‏ وثبت أيضاً في الصحيح‏:‏ ‏"‏ لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش وأمثال هذه الأدلة إلا أنة لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلبت عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية وعولوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة ‏"‏ وهذا لا تقوم به حجة في ذلك فإنة خرج مخرج التمثيل والفرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة ومثل قول عمر لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته ‏"‏ أو ‏"‏ لما دخلتني فيه الظنة ‏"‏ وهو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة وأيضاً فمولى القوم منهم وعصبية الولاء حاصلة لسالم‏.‏ في قريش وهي الفائدة في اشتراط النسب‏.‏ ولما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية وهي حاصلة من الولاء‏.‏ فكان ذلك حرصاً من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة‏.‏ ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء فأسقط شرط القرشية وإن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده‏.‏ وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور االمسلمين‏.‏ ورد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع‏.‏ ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول‏:‏ أن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها‏.‏ ونحن إذ ا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلاً لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها‏.‏ وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها‏.‏ وذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف‏.‏ فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويسكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرة فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة‏.‏ والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم ورفع التنازع والشتات بينهم لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية‏.‏ بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد خلاف عليهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها‏.‏ فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب‏.‏ ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم‏.‏ وقد ذكر ذلك ابن إسحق في كتاب السير وغيره‏.‏ فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القر شية وهي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية‏.‏ ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة‏.‏ وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه‏.‏ ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعاً للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس‏.‏ ثم أن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم‏.‏ وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:08 PM

الفصل السابع والعشرون في الشيعة
اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم‏.‏ ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وأن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة‏.‏ وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي‏:‏ فالجلي مثل قوله‏:‏ ‏"‏ من كنت مولاه فعلي مولاه ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولم تطرد هذه الولاية إلا في علي ولهذا قال له عمر‏:‏ ‏"‏ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة ‏"‏‏.‏ ومنها قوله‏:‏ أقضاكم علي ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله‏:‏ ‏"‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏"‏ والمراد الحكم والقضاء‏.‏ ولهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره‏.‏ ومنها قوله‏:‏ ‏"‏ من يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي ‏"‏ فلم يبايعه إلا علي‏.‏ ومن الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على تقديم علي‏.‏ وأيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي‏.‏ وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في غزاتين أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص اخرى‏.‏ وهذه كلها أدلة شاهدة بتعين علي للخلافة دون غيره‏.‏ فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم‏.‏ ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي وتشخيصه وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية ويتبرؤون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص ويغمصون في إمامتهما‏.‏ ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزيدية ولا يتبرؤون من الشيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل‏.‏ ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي‏:‏ فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً داعياً إلى إمامته وهؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن علي بن الحسين السبط وقد كان يناظر أخاه محمداً الباقر على اشتراط الخروح في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماماً لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج‏.‏ وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إياها عن واصل بن عطاء‏.‏ ولما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمة وبذلك سموا رافضة‏.‏ ومنهم من ساقها بعد علي وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه‏.‏ وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً‏.‏ ومنهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة‏.‏ إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات ألوهية أو أن الإله حل في ذاتهم البشرية وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه‏.‏ ولقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه وكذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ أن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتناسخ‏.‏ ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم وهؤلاء هم الواقفية‏.‏ فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس ويستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه وإنه في السحاب والرعد صوته والبرق في سوطه‏.‏ وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وإنه في جبل رضوى من أرض الحجاز وقال شاعرهم‏:‏ ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء‏:‏ علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لايذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء تغيب لايرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء وقال مثله غلاة الإمامية وخصوصاً الاثني عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم بالحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونة المنتظر لذلك ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قوموا مركباً فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون ويرجئون الأمر إلى الليلة الأتية وهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ وبعض هؤلاء الواقفية يقول‏:‏ أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا‏.‏ ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف والذي مر على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها‏.‏ ومثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة ولا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها‏.‏ وكان من هؤلاء السيد الحميري ومن شعره في ذلك‏:‏ إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضاب فقد ذهبت بشاشته وأودى فقم ياصاح نبك على الشباب إلى يوم تؤوب الناس فيه إلى دنيا همو قبل الحساب فليس بعائد ما فات منه إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأن ذلك دين حق وما أنا في النشور بذي ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التراب وأما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشمية‏.‏ ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي‏.‏ وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم‏.‏ وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس‏.‏ وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثير وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شيعة العباسية‏.‏ وربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبية العمومة‏.‏ وأما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص‏.‏ فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب‏.‏ وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة‏.‏ وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط ويقال له النفس الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله وهي معدودة في كراماته‏.‏ وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر وعمر هوأخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه‏.‏ وقال آخرون من الزيدية‏:‏ أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع المنصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وقال آخرون من الزيدية‏:‏ أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس وكان من بعده عقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وبقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم‏.‏ وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط وأخوه محمد بن زيد‏.‏ ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم وأسلموا على يده وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم‏.‏ وأما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضا إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق‏.‏ ومن هنا افترقوا فرقتين‏:‏ فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيلية وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر‏.‏ فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر‏.‏ وفائدة النص عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما‏.‏ قالوا‏:‏ ثم انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته‏.‏ قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة وتتابع الناس على دعوته ثم أخرجه من معتقله ويسمى هؤلاء الإسماعيلية نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد‏.‏ ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة وملك حصوناً بالشام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر وملوك التتر بالعراق فانقرضت‏.‏ ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل والنحل للشهرستاني‏.‏ وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل‏.‏ وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثيرة إلا أن هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ لابن حزم والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك‏.‏ والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العلي الكبير‏.‏ في انقلاب الخلافة إلي الملك اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ‏"‏‏.‏ ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏‏.‏ ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله‏.‏ وإنما حض على الألفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة‏.‏ واعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية فقد الوصول‏.‏ وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً وتتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ‏"‏‏.‏ فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد إعلاء كلمة الله وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً وهو من شمائله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية وكذا العصبية حيث ذمها الشارع وقال‏:‏ ‏"‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ‏"‏ فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية وأن يكون لأحد فخربها أو حق على أحد لأن ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الأخرة التي هي دار القرار‏.‏ فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل‏.‏ وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل وتصريف الأدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه‏.‏ فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحملهم على وقد قال سليمان صلوات الله عليه‏:‏ ‏"‏ رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ‏"‏ لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك‏.‏ ولما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال‏:‏ ‏"‏ أكسروية يا معاوية ‏"‏ فقال‏.‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة ‏"‏ فسكت ولم يخطئة لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين‏.‏ فلو كان القصد رفض الملك أصله لم يقنعه هذا الجواب في تلك الكسروية وانتحالها بل كان يحرض على وجه عنها بالجملة‏.‏ وإنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم وإنما قصده بها وجه الله فسكت‏.‏ وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل‏.‏ فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين‏.‏ فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام‏.‏ ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم‏.‏ ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضي الله عنهما والكل متبرئون من الملك متنكبون على طرقه‏.‏ وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم ولا من حيث بداوتهم‏.‏ ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه‏.‏ فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه‏.‏ وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم‏.‏ حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم زحفوا إلى أمم فارس والروم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق‏.‏ فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها‏.‏ فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر‏.‏ وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد وكان علي يقول‏:‏ ‏"‏ يا صفراء وبا بيضاء غري غيري ‏"‏‏.‏ وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ‏.‏ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنما كانوا يأكلون الحنطة بنخالها‏.‏ ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم‏.‏ قال المسعودي‏:‏ في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة‏.‏ وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخفف ألف فرس وألف أمة‏.‏ وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك‏.‏ وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة ألاف من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً‏.‏ وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار‏.‏ وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية‏.‏ وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج‏.‏ وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات‏.‏ وبني المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ كلام المسعودي‏.‏ فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم إذ هي أموال لأنها غنائم وفيوء ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد‏.‏ وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق واكتساب الدار الأخرة‏.‏ فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق‏.‏ ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد‏.‏ وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاد في الحق فاقتتلوا عليه‏.‏ وإن كان المصيب علياً فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق وأخطأ‏.‏ والكل كانوا في مقاصدهم على حق‏.‏ ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به‏.‏ ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه‏.‏ ولم حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة‏.‏ وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر‏:‏ ‏"‏ لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة‏.‏ وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية‏.‏ فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه‏.‏ ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبوة والحق‏.‏ وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم‏.‏ فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظن بمعاوبة غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا لله لمعاوية من ذلك‏.‏ وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد‏.‏ يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك‏.‏ وأما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين وعدالتهم معروفة‏.‏ ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه‏.‏ وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل‏.‏ ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها‏.‏ فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم‏.‏ وولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح‏.‏ ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم منه‏.‏ والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه‏.‏ وقد حكى المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أمية فقال‏:‏ ‏"‏ أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه وأما عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونة ويصونون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور ورفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات وركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره مع اطراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة وضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز وألبسهم الذل ونفى عنهم النعمة ‏"‏‏.‏ ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال‏:‏ ‏"‏ أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة فقلت له ما منعك من القعود على ثيابنا فقال‏:‏ إني ملك‏!‏ وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله‏.‏ ثم قال‏:‏ لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم فقلت‏:‏ اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم قلت‏:‏ فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم قلت‏:‏ ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا‏.‏ فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول‏:‏ عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ ‏"‏ ليس كما ذكرت‏!‏ بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم‏.‏ ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم‏.‏ وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم‏.‏ وإنما الضيافة ثلاث‏.‏ فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي‏.‏ فتعجب المنصور وأطرق‏.‏ فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأن الأمر كان في أوله خلافة ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة‏.‏ فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة ولو أدى إلى هلاكه‏.‏ وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته وتتفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام‏.‏ وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال‏:‏ لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي‏:‏ لا والله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم‏.‏ ولكن منعني مما أشرت به ذائد الحق‏.‏ وهكذا كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن‏:‏ نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً‏.‏ وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده‏.‏ ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكاً بحتاً وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ‏.‏ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب‏.‏ والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض‏.‏ ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء‏.‏ وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس والعبيديين بالقيروان‏.‏ فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة‏.‏ والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القهار‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:09 PM

الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمرنفسه وأمور المسلمين لا ينازغه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره‏.‏ وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي‏.‏ هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ ومنه بيعة الخلفاء‏.‏ ومنه أيمان البيعة‏.‏ كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب‏.‏ ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه‏.‏ وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الأداب من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين للرياسة وصون المنصب الملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته‏.‏ فافهم معنى البيعة في العرف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثاً ومجاناً واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك‏.‏ والله القوي العزيز‏.‏ في ولاية العهد اعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة وأن حقيقتها النظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل‏.‏ وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله لعمر بمحضر من الصحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم‏.‏ وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة‏:‏ بقية العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان وعلى علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الأقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته‏.‏ والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم‏.‏ فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته والإجماع حجة كما عرف‏.‏ ولا يتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب‏.‏ والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم‏.‏ فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك‏.‏ وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذة العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه‏.‏ وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه‏.‏ ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير وندور المخالف معروف‏.‏ ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني‏.‏ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف‏.‏ سأل رجل علياً رضي الله عنه‏:‏ ما بال المسلمين اختلفوا ا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر فقال‏:‏ لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين‏.‏ أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده‏.‏ وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية‏.‏ والملك لله يؤتيه من يشاء‏.‏ وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها‏:‏ فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته‏.‏ فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة‏.‏ ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه‏.‏ فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهي أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين‏.‏ والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم‏.‏ والأمر الثاني هو شأن العهد من النبي صلى الله عليه وسلم وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه‏.‏ وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال‏:‏ أن أعهد لقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر وأن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد‏.‏ وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى علي من ذلك وقال‏:‏ إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر وهذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص ولا عهد إلى أحد‏.‏ وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون وليس كذلك وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق‏.‏ ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع‏.‏ ويدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهماً كما هو اليوم وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة الناس دونه وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم‏.‏ فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة والملائكة المترددة التي وجموا منها ودهشوا من تتابعها‏.‏ فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع‏.‏ فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان‏.‏ فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهماً من المهمات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل‏.‏ فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها‏.‏ ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه‏.‏ ثم صارت اليوم من أهم الأمور للألفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل ومنشأ الاجتماع والتوافق الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها‏.‏ والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين‏.‏ فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا‏:‏ فإن قلنا أن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطىء فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطىء منها والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً وإن قلنا أن الكل على حق وأن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم‏.‏ وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية‏.‏ وهذا حكمه‏.‏ والذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة علي مع معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك‏:‏ فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي‏.‏ والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدري وكعب بن عجرة وكعب بن مالك والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة‏.‏ والذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه‏.‏ وظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتليه لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك‏.‏ ولقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط‏.‏ ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة‏:‏ دار النبي صلى الله عليه وسلم وموطن الصحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك‏.‏ ورأى الأخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالأفاق ولم يحضر إلا قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم وأن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام‏.‏ وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم المؤمنين عائشة والزبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمد وسعد وسعيد والنعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا‏.‏ إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رايه فيما ذهب إليه وتعين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصاً طلحة والزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين‏.‏ وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف‏.‏ ولقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء وقلبه نقي إلا دخل الجنة ‏"‏ يشير إلى الفريقين نقله الطبري وغيره‏.‏ فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق ولا عرج عليه‏.‏ وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصحابة من بعد وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر‏.‏ وكان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا هذبتهم سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان‏.‏ وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والروم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر‏.‏ فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية والعدل في القسم عن التسوية وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت‏.‏ فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر‏.‏ بعث ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً ولا رأوا عليهم طعناً وأدوا ذلك كما علموه‏.‏ فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار‏.‏ وما زالت الشناعات تنمو‏.‏ ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله‏.‏ ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال وشكوا إلى عائشة وعلي والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمال‏.‏ فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاص وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوة بالطريق وردوه معزولاً‏.‏ ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه عن العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة‏.‏ ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسك بالاجتهاد وهم أيضاً كذلك‏.‏ ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاؤوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله‏.‏ وفيهم من البصرة والكوفة ومصر‏.‏ وقام معهم في ذلك علي وعائشة والزبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم‏.‏ وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً‏.‏ ثم رجعوا وقد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا‏:‏ مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال عثمان ليس في الحكم أكثر من هذا‏.‏ فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس وقتلوه وانفتح باب الفتنة‏.‏ فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع وكلهم كانوا مهتدين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته‏.‏ ثم نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا‏.‏ والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم‏.‏ ونحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصادق فيهم‏.‏ وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره‏.‏ فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته وشوكته‏.‏ فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة‏.‏ وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين‏.‏ فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين والدين فيها محكم والعادة معزولة‏.‏ حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل‏.‏ فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه‏.‏ وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة على ذلك‏.‏ ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عما هو وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثموه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين‏.‏ ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه ويقول‏:‏ ‏"‏ سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم‏.‏ ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعلة عن اجتهاد منه‏.‏ وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي الحنفي على شرب النبيذ‏.‏ واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه‏.‏ ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة‏.‏ واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً‏.‏ وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه والحسين فيها شهيد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه أن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الأراء‏!‏‏.‏ وأما ابن الزبير فإنه رأى في قيامه ما رآه الحسين وظن كما ظن وغلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية ولا إسلام‏.‏ والقول بتعين الخطأ في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه لأن الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده ههنا‏.‏ وأما يزيد فعين خطأه فسقه‏.‏ وعبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير وهم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد والحل كبيعة مروان وابن الزبير على خلاف ذلك والكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر وإن لم يتعين في جهة منهما‏.‏ والقتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق‏.‏ هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين فهم خيار الأمة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب ‏"‏ فجعل الخيرة وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه‏.‏ فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحق وطرقة ما استطعت فهم أولى الناس بذلك وما اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله‏.‏ فافهم ذلك وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنه على كل شيء قدير وإليه الملجأ والمصير‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:10 PM

الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين‏:‏ أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران البشري‏.‏ وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح‏.‏ نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح‏.‏ فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها‏.‏ وقد ينفرد إذا كان في غير الملة‏.‏ وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم فيتم بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه‏.‏ وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين‏.‏ فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية‏.‏ فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم‏.‏ فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة‏.‏ ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم‏:‏ ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس‏.‏ وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان‏:‏ مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة وأخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة‏.‏ فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء‏.‏ وتعين ذلك إنما هو من طريق الأولى والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة‏.‏ وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً‏.‏ وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان‏.‏ وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره فلا نطول بذكرها‏.‏ ولقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس‏.‏ وانظر من طعن من إلى خلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنهم لم يكونوا يستخلفون بها‏.‏ وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها‏.‏ يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه‏:‏ قد جعلت لك حجابة بابي إلا عن ثلائة‏:‏ صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية‏.‏ فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصلوات العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويهاً‏.‏ فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس والعبيديين صدر دولتهم‏.‏ وأما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلاً لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس‏.‏ وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد‏.‏ فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها أو النظر فى أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك على إذن‏.‏ على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجرمن نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏"‏ أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على جراثيم جهنم ‏"‏‏.‏ فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد‏.‏ وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً في عمومها‏.‏ وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم‏.‏ وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة وولى شريحاً بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة‏.‏ وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه‏.‏ يقول‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك‏.‏ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‏.‏ والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً‏.‏ ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة‏.‏ ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها‏.‏ واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى‏.‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات‏.‏ وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام ‏"‏‏.‏ انتهى كتاب عمر‏.‏ وإنما كانوا يقفدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية‏.‏ فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس واستخلفو فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم‏.‏ وكانوا مع ذلك إنما يقفونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك‏.‏ وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصاً كتب الأحكام السلطانية‏.‏ إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى‏.‏ واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته‏.‏ وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء‏.‏ وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه‏.‏ ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصمين على الصلح واستحلاف الشهود وذلك أوسع من نظر القاضي‏.‏ وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس رربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دواد‏.‏ وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف‏.‏ وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس‏.‏ فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب‏.‏ وكان أيضاً النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس والعبيديين بمصر والمغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة وهي وظيفة آخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثابتة في محالها ويحكم في القود والقصاص ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة‏.‏ ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في المولى التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن‏.‏ وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين‏:‏ منها وظيفة التهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية ويسمى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشرطة‏.‏ وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته‏.‏ واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك‏.‏ وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة‏.‏ لأن الأمر لما كان خلافة دينية وهذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه‏.‏ ولما انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها‏.‏ وذلك أن العرب كانوا يرونه أن الشريعة دينهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم وغيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط‏.‏ فصاروا يقلدونها من غيرعصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة‏.‏ وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترف الدول منذ مئين من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم وقلة الممانعة عن أنفسهم وصارت هذه الخطط في المولى الملوكية من بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها‏.‏ ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم وإنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه إذ حقيقة الحل والعقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له ولا عقد لديه‏.‏ اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم وتلقي الفتاوى منهم فنعم‏.‏ والله الموفق‏.‏ وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك وأن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراح الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏‏.‏ فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه‏.‏ وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة‏.‏ فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها وإنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها‏!‏ اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة‏.‏ وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها‏.‏ وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏ فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها وفي بعض الأحوال‏.‏ والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها‏.‏ فمن حملها اتصافاً وتحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري‏.‏ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة الأربعه ومن اقتفى طريقهم وجاء على آثرهم‏.‏ وإذا انفرد واحد من الأئمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال ينصها علينا في كيفيات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا ‏"‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ‏"‏‏.‏ العدالة وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه‏.‏ وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم تحملاً عند الإشهاد وأداء عند التنازع وكتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم‏.‏ وشرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عبارتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه‏.‏ ولأجل هذه الشروط وما يحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له اختص ذلك ببعض العدول وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة وليس كذلك وإنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة‏.‏ ويجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه في ذلك كله وهو ضامن دركه‏.‏ وإذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف‏.‏ ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب‏.‏ وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح‏.‏ وقد يتواردان ويفترقان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزز ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة‏:‏ مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاع في ضربهم للصبيان المتعلمين‏.‏ ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه‏.‏ وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم‏.‏ وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها‏.‏ فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء‏.‏ وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره‏.‏ ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة وأما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصة به فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدولة الحاكمة فإن السبك والتخليص في النقود لا يقف عند غاية وإنما ترجع غايته إلى الاجتهادة فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها وسموها إماماً وعياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفاً‏.‏ والنظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة‏.‏ وهي دييية بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة‏.‏ وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحسبة‏.‏ هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانية‏:‏ فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانية نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها‏.‏ وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد‏.‏ والله مصرف الأمور كيف يشاء‏.‏

ميارى 3 - 8 - 2010 10:11 PM

الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين
وأنه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك‏.‏ فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وأنه يتزايد فيما بعد دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التمييز بتعدد الأضافات وكثرتها فلا يعرف‏.‏ فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله‏.‏ وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة‏.‏ وقد كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه وسلم أمير مكة وأمير الحجاز وكان الصحابة أيضاً يدعون واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به يقال‏:‏ أن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل‏:‏ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وقيل‏:‏ بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها اصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقاً فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس‏.‏ وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية‏.‏ ثم أن الشيعة خصوا علياً باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصوه بهذا الفقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له وعقدوا الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين‏.‏ وكذا الرافضة بإفريقية فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده‏.‏ فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين‏.‏ وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق‏:‏ المواطن التي هي ديار العرب ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح‏.‏ وازداد كذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث ذلك بنو العباس حجاباً لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في السنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة‏.‏ واقتفى آثرهم في ذلك العبيديون بإفريقية ومصر وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة والسذاجة لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة‏.‏ وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس‏.‏ حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط لأول المائة الرابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله وأخذت من بعده عادة ومذهباً لقن عنه ولم واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالي من العجم على بني العباس والصنائع على العبيديين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموة وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان‏.‏ فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه‏.‏ وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة‏.‏ فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها وعدولاً عن سمتها المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل‏.‏ ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون‏:‏ صلاح الدين أسد الدين نور الدين‏.‏ وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم‏:‏ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد وأما صنهاجة فاقتصروا على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه‏:‏ مثل نصير الدولة ومعز الدولة‏.‏ واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين‏.‏ ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان‏.‏ وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة والغضاضة‏.‏ ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه‏.‏ فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على مغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفاً له واختصاصاً فاتخذها لقباً‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدباً مع رتبة الخلافة لما كان عليه‏.‏ هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة‏.‏ وجاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف من مذهب الأشعرية‏.‏ وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير‏.‏ وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمي بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشاعة إلى مذهبه في عصمة الإمام‏.‏ وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق‏.‏ ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثاراً به عمن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها‏.‏ فكان ذلك دأبهم‏.‏ ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم‏.‏ ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:17 AM

الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية
واسم الكوهن عند اليهود اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف‏.‏ والنوع الأنساني أيضاً بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمى بالملك‏.‏ والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً‏.‏ وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني وهو ما اقتضتة لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم‏.‏ ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنما همهم إقامة دينهم فقط‏.‏ وكان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الصلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه لأن موسى لم يعقب‏.‏ ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخاً كانوا يتولون أحكامهم العامة‏.‏ والكوهن أعظم منهم رتبة في الدين وأبعد عن شغب الأحكام‏.‏ واتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية وتمحضت الشوكة للملك فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله - بيت المقدس وما جاورها - كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيين والأرمن وأردن وعمان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحواً من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك‏.‏ وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم فطلبوا على لسان شمويل من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين‏.‏ ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما‏.‏ واستفحل ملكه وامتد إلى الحجاز ثم أطراف اليمن ثم إلى أطراف بلاد الروم‏.‏ ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشام لبني يهوذا وبنيامين‏.‏ ثم غلبهم بختنصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أولاً الأسباط العشرة ثم ثانياً بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة وخرب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط والملك للفرس‏.‏ ثم غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم‏.‏ ثم فشل أمر اليونانيين فاعتز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية ودفعوهم عن الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا اليونان حتى انقرض أمرهم وغلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم‏.‏ ثم رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس اصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدة ثم افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثاني للمسجد ويسميه اليهود بالجلوة الكبرى‏.‏ فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم ومن بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن‏.‏ ثم جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدين والنسخ لبعض أحكام التوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من الناس وآمنوا به وأكثرهم الحواريون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلاً إلى الأفاق داعين إلى ملته وذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة وفي مدة هيرودس ملك اليهود الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره‏.‏ فحسده اليهود وكذبوه وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره‏.‏ وافترق الحواريون شيعاً ودخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية‏.‏ وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثم كتبوا الإنجيل الذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم‏:‏ فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية ونقله يوحنا بن زيدى منهم إلى اللسان اللاطيني وكتب لوقا منهم إنجيله باللطيني إلى بعض أكابر الروم وكتب يوحنا بن زبدى منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللطيني ونسبه إلى مرقاص تلميذه‏.‏ واختلفت هذه النسخ الأربع من الأنجيل مع أنها ليست كلها وحياً صرفاً بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام وبكلام الحواريين وكلها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جداً‏.‏ واجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملة النصرانية وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بها‏.‏ فمن شريعة اليهود القديمة التوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيين لابن كريون ثلاثة وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير وقصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود عليه السلام وكتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة ونبوات الأنبياء الكبار والصغار ستة عشر وكتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان‏.‏ ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الأبريكسيس في قصص الرسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنا بن زبدى‏.‏ واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة وتعظيم أهلها ثم تركها أخرى والتسلط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمروا عليها‏.‏ وكان صاحب هذا الدين والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية ويسمون الأسقف أي نائب البطرك ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس‏.‏ ويمفون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب‏.‏ وأكثر خلواتهم في الصوامع‏.‏ وكان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير التلاميذ برومة يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثم قام بخلافته في كرسي رومة أريوس‏.‏ وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعياً سبع سنين فقام بعده حنانيا وتسمى بالبطرك وهو أول البطاركة فيها‏.‏ وجعل معه اثني عشر قساً على أنه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانة ويختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر‏.‏ فكان أمر البطاركة إلى القسوس‏.‏ ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية ايام قسطنطين لتحرير الحق في الدين واتفق ثلثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين فكتبوه وسموه الإمام وصيروه أصلاً يرجعون إليه‏.‏ وكان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانيا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرأي وإنما يقدم عن ملإ واختيار من أئمة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدين وكانت لهم مجتمعات في تقريره‏.‏ ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك‏.‏ واتصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة‏.‏ وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضاً تعظيماً له‏.‏ فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركية هرقل بالإسكندرية فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الأباء‏.‏ وظهر هذا الأسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه‏.‏ ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم وهو كرسي رومة لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه فلم يزل سمة عليه إلى الأن‏.‏ ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقاً واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفون إلى غيرها وهم الملكية واليعقوبية والنسطورية‏.‏ ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية‏.‏ وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك‏.‏ واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد‏.‏ ولا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم‏.‏ وضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة‏.‏ ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرجاً من افتراق الكلمة ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمونه الأنبرذور وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين ومباشرة يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمى المتوج ولعله معنى لفظة الإنبرذور‏.‏ وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللذين هما البابا والكوهن والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:18 AM

الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها
اعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً فلا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه‏.‏ وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده‏.‏ وهو محتاج إلى حماية الكافة من عموهم بالمدافعة عنهم وإلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقد المعايش والمكاييل والموازين حذراً من التطفيف وإلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرضا بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم‏.‏ فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب‏.‏ قال بعض الأشراف من الحكماء‏:‏ ‏"‏ لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون علي من معاناة قلوب الرجال ‏"‏‏.‏ ثم أن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتم المشاكلة في الاستعانة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ‏"‏‏.‏ وهو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النظر في مهماتهم‏.‏ أو يدفع النظر في الملك كله ويعول على كفايته في ذلك واضطلاعه‏.‏ فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص‏.‏ وقد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة‏:‏ كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل والمخاطبات وقلم الصكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب وصاحب الشرطة وصاحب البريد وولاية الثغور‏.‏ ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه‏.‏ فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد‏.‏ والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبداداً على الخلافة وهو معنى السلطان أو تعويضاً منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقاً أو مقيداً أو في موجبات العزل أن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسلطان وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية‏.‏ لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك والسلطان‏.‏ إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته إنما هو بمقتضى طييعة العمران ووجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي وغيره من أعلام الققهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك‏.‏ وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردناها لنميز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط لا لتحقيق أحكامها الشرعية فليس من غرض كتابنا وإنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوزارة وهي أم الخطط السلطانية والرتب الملوكية لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة‏.‏ وقد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان وتصرفاته لا تعدو أربعة‏:‏ لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة وأسبابها من النظر في الجند والسلاح والحروب وسائر أمور الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف قي الدول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في المكان أو في الزمان وتنفيذه الأوامر فيمن هو محجوب عنه وصاحب هذا هو الكاتب وإما أن تكون في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضيعة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه‏.‏ فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه‏.‏ وكل خطة أو رتبة من رتب الملك والسلطان فإليها ترجع‏.‏ إلا أن الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف إذ هو يقتضي مباشرة السلطان دائماً ومشاركته فى كل صنف من أحوال ملكه‏.‏ وأما ما كان خاصاً ببعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصة أو النظر في أمر خاص كحسبة الطعام أو النظر في السكة فإن هذه كلها نظر في أحوال خاصة فيكون صاحبها تبعاً لأهل النظر العام وتكون رتبته مرؤوسة لأولئك‏.‏ وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلها بذهاب رسم الملك إلا ما هو طبيعي من المعاونة بالرأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بد منه‏.‏ فكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره‏.‏ ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام‏.‏ وكذا عمر مع أبي بكر وعلي وعثمان مع عمر‏.‏ وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده وكان قليلاً فيهم‏.‏ وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها‏.‏ وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للأمية التي كانت فيهم والأمانة العامة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء‏.‏ وأيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات‏.‏ ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عن له من يحسنه‏.‏ وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظوراً بالشريعة فلم يفعلوه‏.‏ فلما انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السلطان وألقابه كان أول شيء بدىء به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات‏.‏ فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب‏.‏ وقد جاء أن عبد الملك لما ولى حاجبه قال له‏:‏ قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة‏:‏ المؤذن للصلاة فإنه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطعام لئلا يفسد‏.‏ ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير‏.‏ وبقي أمر الحسبان في الموالي والذميين‏.‏ واتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنه إنما احتيج له من حيث الخط‏.‏ والكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد‏.‏ فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ‏.‏ هذا في سائر دولة بني أمية‏.‏ فكان النظر للوزير عاماً في أحوال التدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النظير في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهلية وغير ذلك‏.‏ فلما جاءت دولة بني العباس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد وتعينت مرتبته في الدولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرقاب وجعل لها النظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النظر فيه‏.‏ ثم جعل له النظر في القلم والترسيل لصون أسرار السلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللسان قد فسد عند الجمهور‏.‏ وجعل الخاتم لسجلات السلطان ليحفظها من الذياع والشياع ودفع إليه‏.‏ فصار اسم الوزير جامعاً لخطتي السيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسلطان أيام الرشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدولة‏.‏ ولم يخرج عنه من الرتب السلطانية كلها إلا الحجابة التي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك‏.‏ ثم جاء في الدولة العباسية شأن الاستبداد على السلطان وتعاور فيها استبداد الوزارة مرة والسلطان آخرى‏.‏ وصار الوزير إذا استبد محتاجاً إلى استنابة الخليفة إياه لذلك لتصح الأحكام الشرعية وتجيء على حالها كما تقدم‏.‏ فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السلطان قائماً على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبداً عليه‏.‏ ثم استمر الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطل رسم الخلافة‏.‏ ولم يكن لأولئك المتغلبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللقب لأنهم خول لهم فتسموا بالإمارة والسلطان‏.‏ وكان المستبد على الدولة يسمى أمير الأمراء أو بالسلطان إلى ما يحليه به الخليفة من ألقابه كما تراة في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولاها للخليفة في خاصته‏.‏ ولم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم‏.‏ وفسد اللسان خلال ذلك كله وصارت صناعة ينتحلها بعض الناس فامتهنت وترفع الوزراء عنها لذلك ولأنهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات واختصت به وصارت خادمة للوزير‏.‏ واختص اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية على أهل الرتب وأمره نافذ في الكل إما نيابة أو استبدادا‏.‏ واستمر الأمر على هذا‏.‏ ثم جاءت دولة الترك آخراً بمصر فرأوا أن الوزارة قد ابتذلت بترفع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعتقب بنظر الأمير فصارت مرؤوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرتبة المالية في الدولة عن اسم الوزارة‏.‏ وصار صاحب الأحكام والنظر في الجند يسمى عندهم بالنائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية‏.‏ وأما دولة بني أمية بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة ثم قسموا خطته أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً‏:‏ فجعلوا لحسبان المال وزيراً وللترسيل وزيراً وللنظر في حوائج المتظلمين وزيراً وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضمة لهم وينفذون أمر السلطان هناك كل فيما جعل له‏.‏ وأفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب كما نذكره‏.‏ ثم جاءت دولة الشيعة بإفريقية والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أولاً وتنقيح أسمائها حتى أدركت دولتهم الحضارة فصاروا إلى تقليد الدولتين قبلهم في وضع أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أولاً للبداوة ثم صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب‏.‏ وكان اسم الوزير في مدلوله‏.‏ ثم اتبعوا دولة الأمويين وقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه ويقف بالوفود والداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم وخطابهم والآداب التي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطة الحجابة عنه ما شاؤوا ولم يزل الشأن ذلك إلى هذا العهد‏.‏ وأما في دولة الترك بالمشرق فيسمون هذا الذي يقف بالناس على حدود الأداب في اللقاء والتحية في مجالس السلطان والتقدم بالوفود بين يديه الدويدار ويضيفون إليه استتباع كاتب السر وأصحاب البريد المتصرفين في حاجات السلطان بالقاصية وبالحاضرة‏.‏ وحالهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ والله مولي الأمور لمن يشاء‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:19 AM

الحجابة
قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأمويه والعباسية بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته‏.‏ وكانت هذه منزلة يومئذ عن الخطط مرؤوسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه‏.‏ وهكذا كانت سائر أيام بني العباس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب‏.‏ وأما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان في الخاصة والعامة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم‏.‏ فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجابهم‏.‏ ثم لما جاء الاستبداذ على الدولة اختص المستبد باسم الحجابة لشرفها‏.‏ فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك‏.‏ ولما بدؤوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدونها شرفاً لهم وكان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بد له من ذكر الحاجب وفي الوزارتين يعنون به السيف والقلم ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة وبذي الوزارتين على جمعه لخطتي السيف والقلم‏.‏ ثم لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة التي كانت فيهم‏.‏ وربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلا أنه قليل‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين لم تستمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخراً‏.‏ فلم يكن عندهم من الرتب إلا الوزير فكانوا أولاً يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره كابن عطية وعبد السلام الكومي‏.‏ وكان له مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية‏.‏ ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب وأما بنو أبي حفص بإفريقية فكانت الرياسة في دولتهم أولاً والتقديم لوزير الرأي والمشورة‏.‏ وكان يخص باسم شيخ الموحدين‏.‏ وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختص الحسبان والديوان برتبة أخرى ويسمى متوليها بصاحب الأشغال ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحدين‏.‏ واختص عندهم القلم أيضاً بمن يجيد الترسيل ويؤتمن على الأسرار لأن الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا الترسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النسب واحتاج السلطان لاتساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرهما وحصر الذخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصوه باسم الحاجب‏.‏ وربما أضافوا إليه كتابة العلامة على السجلات إذا اتفق أنه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره‏.‏ واستمر الأمر على ذلك وحجب السلطان نفسه عن الناس فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس وبين أهل الرتب كلهم‏.‏ ثم جمع له آخر الدولة السيف والحرب ثم الرأي والمشورة فصارت الخطة أرفع الرتب وأوعبها للخطط‏.‏ ثم جاء الاستبداد والحجر مدة من بعد السلطان الثاني عشر منهم‏.‏ ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطة الحجابة التي كانت سلماً إليه وباشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد‏.‏ والأمر على ذلك لهذا العهد‏.‏ وأما دولة زناتة بالمغرب‏:‏ وأعظمها دولة بني مرين فلا آثر لاسم الحاجب عندهم‏.‏ وأما رياسة الحرب والعساكر فهي للوزير‏.‏ ورتبة القلم في الحسبان والرسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصت ببعض البيوت المصطنعين في دولتهم‏.‏ وقد تجمع عندهم وقد تفرق‏.‏ وأما باب السلطان وحجبه عن العامة فهي رتبة عندهم يسمى صاحبها بالمزوار ومعناه المقدم على الجنادرة المتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك‏.‏ فالباب له وأخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه فكأنها وزارة صغرى‏.‏ وأما دولة بني عبد الواد‏:‏ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها‏.‏ وإنما يخصون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص بالسلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسجل كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدولة بما كانوا في تبعها وقائمين بدعوتها منذ أول أمرهم‏.‏ وأما أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ‏.‏ السلطان وسائر الأمور المالية يسمونه بالوكيل وأما الوزير فكالوزير إلا أنه قد يجمع الترسيل‏.‏ والسلطان عندهم يضع خطه على السجلات كلها فليس هناك خطة العلامة كما لغيرهم من الدول‏.‏ وأما دولة الترك بمصر‏:‏ فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل وهم الترك ينفذ الأحكام بين الناس في المدينة وهم متعددون‏.‏ وهذه الوظيفة تحت وظيفة النيابة التي لها الحكم في أهل الدولة وفي العامة على الإطلاق‏.‏ وللنائب التولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويثبتها وتنفذ أوامره كما تنفذ المراسم السلطانية‏.‏ وكان له النيابة المطلقة عن السلطان وللحجاب الحكم فقط في طبقات العامة والجند عند الترافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النيابة‏.‏ والوزير في دولة الترك هو صاحب الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها من خراج أومكس أوجزبة ثم في تصريفها في الإنفاقات السلطانية أو الجرايات المقدرة وله مع ذلك التولية والعزل في سائر العمال المباشرين لهذه الجباية والتنفيذ عنى اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة‏.‏ وقد يوليها السلطان بعض الأحيان لأهل الشوكة من رجالات الترك أو أبنائهم على حسب الداعية لذلك‏.‏ والله مدبر الأمور ومصرفها بحكمته لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين‏.‏ اعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك وهي القيام على الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج وإحصاء ا لعساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال وقهارمة الدولة وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرح مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمى ذلك الكتاب بالديوان وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها‏.‏ ويقال‏:‏ إن أصل هذه التسمية أن كسرى نظر يوماً إلى كتاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنهم يحادثون فقال‏:‏ ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفاً ققيل ديوان ثم نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمن للقوانين والحسبانات وقيل‏:‏ إنه اسم للشياطين بالفارسية سمي الكتاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجلي والخفي منها وجمعهم لما شذ وتفرق‏.‏ ثم نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال‏.‏ وعلى هذا فيتناول اسم الديوان كتاب الرسائل ومكان جلوسهم بباب السلطان على ما يأتي بعد‏.‏ وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كل صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدول النظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدولة وما قرره أولوها‏.‏ واعلم أن هذه الوظيفة إنما تحدث في الدول عند تمكن الغلب والاستيلاء والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد‏.‏ وأول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالديوان وقال‏:‏ رأيت ملوك الشام يدونون فقبل منه عمر‏.‏ وقيل‏:‏ بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له‏:‏ ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإن من تخلف أخل بمكانه وإنما يضبط ذلك الكتاب‏.‏ فأثبت لهم ديواناً‏.‏ وسأل عمر عن اسم الديوان فعبر له‏.‏ ولما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها الأقرب فالأقرب‏.‏ هكذا كان ابتداء ديوان الجيش‏.‏ وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين‏.‏ وأما ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل‏:‏ ديوان العراق بالفارسية وديوان الشام بالرومية‏.‏ وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين‏.‏ ولما جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكاً وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعيد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرجون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم‏:‏ اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم‏.‏ وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زاذان فروخ كاتب الحجاج قبله ولما قتل زاذان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحاً هذا مكانه وأمر أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس‏.‏ وكان عبد الحميد بن يحيى يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب‏!‏‏.‏ ثم جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العباس مضافة إلى من كان له النظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدولة‏.‏ وأما ما يتعلق بهذه الوظيفة من الأحكام الشرعية مما يختص بالجيش أو بيت المال في الدخل والخرج وتمييز النواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط الناظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السلطانية وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنما نتكلم فيها من حيث طبيعة الملك الذي نحن بصدد الكلام فيه‏.‏ وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأن الملك لا بد له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رياسة الملك‏.‏ وكذلك كان الأمر في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف بعدهم‏.‏ وأما في دولة الموحدين فكان صاحبها إنما يكون من الموحدين يستقل بالنظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقب نظر الولاة والعمال فيها ثم تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها‏.‏ وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربما يليها في الجهات غير الموحدين ممن يحسنها‏.‏ ولما استبد بنو أبي حفص بإفريقية وكان شأن الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحدين‏.‏ ثم استقل بها أهل الحسبان والكتاب وخرجت عن الموحدين‏.‏ ثم لما استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كل شأن من شؤون الدولة تعطل هذا الرسم وصار صاحبه مرؤوساً للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرياسة التي كانت له في الدولة‏.‏ وأما دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء‏.‏ هذه أصول الرتب والخطط السلطانية وهي الرتب العالية التي هي عامة النظر ومباشرة للسلطان‏.‏ وأما هذه الرتبة في دولة الترك فمتنوعة‏.‏ وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش صاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة وهو أعلى رتب الناظرين في الأموال لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتساع الأموال والجبايات عن أن يستقل بضبطها الواحد من الرجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعين للنظر العام منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السلطان وأهل عصبيته وأرباب السيوف في الدولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمى عندهم استاذ الدولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند وأرباب السيوف‏.‏ ويتبع هذه الخطة خطط عندهم آخرى كلها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النظر على أمور خاصة مثل ناظر الخاص وهو المباشر لأموال السلطان الخاصة به من إقطاعه أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية مما ليس من أموال المسلمين العامة‏.‏ وهو تحت يد الأمير استاذ الدار‏.‏ وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لاستاذ الدار نظر عليه‏.‏ وناظر الخاص تحت يد الخازن لأموال السلطان من مماليكه المسمى خازن الدار لاختصاص وظيفتهما بمال السلطان الخاص‏.‏ وهذا بيان هذه الخطة بدولة الترك بالمشرق بعدما قدمناه من أمرها بالمغرب‏.‏ والله مصرف الأمور لا رب غيره‏.‏ ديوان الرسائل والكتابة هذه الوظيفة غير ضرورية في الملك لاستغناء كثير من الدول عنها رأساً كما في الدول العريقة في البداوة التي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصنائع‏.‏ وإنما أكد الحاجة إليها في الدولة الإسلامية شأن اللسان العربي والبلاغة في العبارة عن المقاصد‏.‏ فصار الكتاب يؤدي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللسانية في الأكثر‏.‏ وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصحابة بالشام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم‏.‏ فلما فسد اللسان وصار صناعة اختص بمن يحسنه‏.‏ ‏.‏ وكانت عند بني العباس رفيعة‏.‏ وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمى طين الختم ويطبع به على طرفي السجل عند طيه وإلصاقه‏.‏ ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان ويضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حسب الاختيار في محلها وفي لفظها‏.‏ ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرئيس‏.‏ كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد صار حكم العلامة التي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة اتباعاً لما سلف من أمرها‏.‏ فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يصنعه ويتخير له من صيغ االإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة‏.‏ وقد يختص السلطان بنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمره قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته‏.‏ ومن خطط الكتابة التوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه‏:‏ فإما أن تصدر كذلك وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة‏.‏ ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتى قيل‏:‏ إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار‏.‏ وهكذا كان شأن الدول‏.‏ واعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الأداب والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها‏.‏ وقد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلد المال والسيف والكتابة منهم‏.‏ فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم وأما المال والكتابة فيضطر إلى ذلك للبلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة ويقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده ويكون نظره متصرفاً عن نظره‏.‏ كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الانشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار وتعويل السلطان ووثوقه به واستنامتة في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها‏.‏ وأما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره وانتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب وهي‏:‏ رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة‏.‏ بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها‏.‏ وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم‏.‏ لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم‏.‏ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون‏.‏ فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم‏.‏ وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم‏.‏ أيها الكتاب‏:‏ إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها والطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته‏.‏ فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الأداب وتفقهوا في الدين‏.‏ وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج‏.‏ وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب‏.‏ ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربؤوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات‏.‏ وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة‏.‏ وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم‏.‏ وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره‏.‏ وإن أقعد أحداً منكم الكير عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه‏.‏ فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه‏.‏ وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال‏.‏ فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لهم‏.‏ فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه‏.‏ فاستشعروا ذلك‏.‏ وفقكم الله من أنفسكم‏.‏ في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء‏.‏ فنعمت الشيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة‏.‏ وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن مع الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله‏.‏ ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيء موفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن أذاهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً‏.‏ وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة‏.‏ وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها‏:‏ فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من بين يديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها‏.‏ وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم‏.‏ والكاتب لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يجاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها‏.‏ إلا فارفقوا رحمكم الله في النظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المواخاة والشفقة إن شاء الله‏.‏ ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير‏.‏ واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم‏.‏ واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب‏.‏ ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الأداب‏.‏ وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم‏.‏ ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة‏.‏ واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته‏.‏ فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره‏.‏ وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه‏.‏ فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير كاف‏.‏ ولا يقول أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الالباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته‏.‏ وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثرعلى أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره‏.‏ وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته‏.‏ وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل‏:‏ من تلزمه النصيحة يلزمه العمل‏.‏ وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل‏.‏ فلذلك جعلته آخره وتممته به‏.‏ تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:19 AM

الشرطة
ويسمى صاحبها لهذا العهد بإفريقية الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة الترك الوالي‏.‏ وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان‏.‏ وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدائها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها‏.‏ فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك‏.‏ فكان الذي يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة وربما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق وأفردوها من نظر القاضي‏.‏ ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم‏.‏ ولم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدهماء وأهل الريب والضرب على أيدي الرعاع والفجرة‏.‏ ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس ونوعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى‏.‏ وجعل حكم الكبرى على الخاصة والدهماء‏.‏ وجعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه‏.‏ وجعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة‏.‏ ونصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان ورجال يتبؤون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه‏.‏ وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة‏.‏ وأما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه وإن لم يجعلوها عامة‏.‏ وكان لا يليها إلا رجالات الموحدين وكبراؤهم‏.‏ ولم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية‏.‏ ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين‏.‏ وأما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت من مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الكرد يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة والمضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد وحسم أبواب الدعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية والسياسية كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار وهو العزيز الجبار والله تعالى أعلم‏.‏ قيادة الأساطيل وهي من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرؤوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال‏.‏ ويسمى صاحبها في عرفهم الملند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الأفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم‏.‏ وإنما اختصت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الإسكندرية إلى الشام وعلى عدوته الشمالية بلاد الأندلس والإفرنجة والصقالبة والروم إلى بلاد الشام أيضاً ويسمى البحر الرومي والبحر الشامي نسبة إلى أهل عدوته‏.‏ والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار‏.‏ فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله‏.‏ ولما أسف من أسف منهم إلى ملك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة‏.‏ وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة‏.‏ ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث‏.‏ ولما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن صف لي البحر فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ‏"‏‏.‏ فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه‏.‏ ولم يركبه أحد من العرب إلا من افتأت على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمان فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه وعنفه أنه ركب البحر للغزو‏.‏ ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده‏.‏ والسبب في ذلك أن العرب كانوا لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته‏.‏ فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشؤوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس‏.‏ وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الألات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد‏.‏ ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزي صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات‏.‏ وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد والتخريب‏.‏ وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريباً منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن رماحس ومرفأها للحط والإقلاع بجاية والمرية‏.‏ وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد يتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبر أمر جريته بالريح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه‏.‏ فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة‏.‏ وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج‏.‏ وكان أبو القاسم الشيعي وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة‏.‏ وافتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النصارى لوقتها‏.‏ والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثيبر من لجة هذا البحر وسارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها‏.‏ وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعدداً واختلفت في طرقه سلماً وحرباً فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح‏.‏ حتى إذا أدرك الدولة العبيدية والأموية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها‏.‏ ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكا واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لإظهار دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر‏.‏ وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقية والمغرب فصارت مختصة بها‏.‏ وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو ولا كانت لهم به كرة‏.‏ فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعاً‏.‏ ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد‏.‏ وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صدغيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسره النصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلية واستكفاه ثم هلك وولي ابنه فأسخطه ببعض النزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السيد بها من بني عبد المؤمن وأجاز إلى مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة والكرامة وأجزل الصلة وقلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين‏.‏ وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه‏.‏ ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحر وتعدد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل‏.‏ فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتجول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من إمداد النصرانية بثغور الشام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه‏:‏ ‏"‏ فتح الله لسيدنا أبواب المناجح والميامن ‏"‏ حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القدسي‏.‏ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرها في نفسه وحملهم على مناهج البر والكرامة وردهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك‏.‏ وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الإستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده بشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة‏.‏ ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعديدهم‏.‏ ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية‏.‏ ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته وعلى أعواده‏.‏ وصار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأمصار والأعوان أو قوه من الدولة تستجيش لهم أعواناً وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكاً‏.‏ وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية‏.‏ والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله‏.‏ فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الجدثان انه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وإن ذلك يكون في الأساطيل‏.‏ والله ولي المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:21 AM

الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم
اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره‏.‏ إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة‏.‏ وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها‏.‏ فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين‏.‏ ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً‏.‏ وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والظبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلا إذا نابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة وما سوى ذلك فلا حاجة إليها‏.‏ فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر في أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره‏.‏ وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ‏"‏‏.‏ سنة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته‏.‏ فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ‏"‏ وفوق كل ذي علم عليم ‏"‏‏.‏ الآلة‏:‏ فمن شارات الملك اتخاذ الألة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون‏.‏ وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة‏.‏ ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه‏.‏ وهذا السبب الذي ذكره أرسطو - إن كان ذكره - فهو صحيح ببعض الاعتبارات‏.‏ وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه‏.‏ وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريخ كما علمت‏.‏ ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء‏.‏ وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى‏.‏ ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الألات الموسيقية لا طبلاً ولا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيدركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة‏.‏ ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه‏.‏ وكذلك زناتة من أمم المغرب‏.‏ يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيدرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت‏.‏ وأصله كله قرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما يحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام وأحوال النفوس وتلوناتها غريبة‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏ ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها‏.‏ فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء‏.‏ وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزهاً عن غلظة الملك ورفضاً لأحواله واحتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء‏.‏ حتى إذ ا انقلبت الخلافة ملكاً وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الألة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهاً بالملك وأهله‏.‏ فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم ونعياً على بني أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة‏.‏ ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء‏.‏ وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق‏.‏ وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الإذن فيها لعمالهم‏.‏ حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الألة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة‏.‏ وهم فيه بين مكثر ومقلل باختلاف مذاهب الدول في ذلك‏:‏ فمنهم من يقتصر على سبع من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة‏.‏ وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير‏.‏ ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك‏.‏ وأدا دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون أولاً راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق واحدها سنجق وهي الراية بلسانهم‏.‏ وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان‏.‏ وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم وهكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم‏.‏ ‏"‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏"‏‏.‏ السرير‏:‏ وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد‏.‏ ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم‏.‏ وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب‏.‏ وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب‏.‏ إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه‏.‏ وأما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه‏.‏ وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم‏:‏ إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة‏.‏ ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه وفاء له بما عقد معهم من الذمة واطراحاً لأبهة الملك‏.‏ ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار‏.‏ السكة‏:‏ وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً‏.‏ ولفظ السكة كان اسماً للطابع وهي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول‏.‏ وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة‏.‏ وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم‏.‏ ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب‏.‏ وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزناً وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم لغفلة الدولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدايني سنة خمس وسبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها‏:‏ ‏"‏ الله أحد الله الصمد ‏"‏‏.‏ ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسرفي في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده‏.‏ وقيل‏:‏ أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين‏:‏ ‏"‏ بركة الله ‏"‏ وفي الآخر ‏"‏ اسم الله ‏"‏ ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر‏.‏ وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل‏.‏ وكان السبب في ذلك ان أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً وثلاثة أسباع درهم‏.‏ وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق والطبري أربعة دوانق والمغربي ثمانية دوانق واليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي والطبري وهما اثنا عشر دانقاً‏.‏ وكان الدرهم ستة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً‏.‏ فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه واتخذ طابع الحديد واتخذ فيه كلمات لا صوراً لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور‏.‏ فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها‏.‏ وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً وتحميداً وصلاة على النبي وآله وفي الوجه الثاني التاريخ واسم الخليفة‏.‏ وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين‏.‏ وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً ومن الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد‏.‏ ولقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته‏.‏
وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب‏.‏ ‏"‏ ذلك تقدير العزيز العليم ‏"‏‏.‏ ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما‏.‏ مقدار الدرهم والدينار الشرعيين وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالأفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها‏.‏ فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما‏.‏ فاعلم أن الاجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتامعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهماً وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتنان وسبعون حبة من الشعير‏.‏ فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة‏.‏ وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع‏.‏ فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري وهو أربعة دوانق والبغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق‏.‏ فكانوا يوجبون الزكاة في مائة ددرهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطاً‏.‏ وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك وإجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه‏.‏ والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق‏.‏ وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما‏.‏ حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير‏.‏ وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه إثر الشهادتين الإيمانتين وطرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها‏.‏ فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه‏.‏ ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التى بينها وبين مقاديرها الشرعية‏.‏ وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق ورده المحققون وعدوه وهماً وغلطاً وهو الصحيح‏.‏ ‏"‏ ويحق الله الحق بكلماته ‏"‏‏.‏ وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها‏.‏ ‏"‏ والله خلق كل شيء فقدره تقديراً ‏"‏‏.‏ وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية‏.‏ والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له‏:‏ إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه‏:‏ ‏"‏ محمد رسول الله ‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ ‏"‏ جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال‏:‏ لا ينقش أحد مثله ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله‏.‏ وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه‏.‏ وذلك أن الخاتم يطلق على الألة التي تجعل في الأصبع ومنه تختم إذا لبسه‏.‏ ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر‏.‏ ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ختامه مسك ‏"‏ وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدونة في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشىء عنها‏.‏ وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مذاق من الطين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصفح‏.‏ وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه‏.‏ وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح كما كان في النقش من يمين أو يسار‏.‏ فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام‏.‏ وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب كائناً من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه ويسمى ذلك في المتعارف علامة ويسمى ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الأصفي في النقش ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته‏.‏ قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى‏:‏ ‏"‏ يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي ‏"‏‏.‏ فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم‏.‏ ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك‏.‏ ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره‏.‏ ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر‏.‏ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم‏.‏ وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله‏.‏ واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري‏.‏ وقال آخرون‏:‏ وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السداد‏.‏ وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان والختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم‏.‏ وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال‏.‏ والحزم للكتب يكون إما بمس الورق كما في عرف كتاب المغرب وأما بلصق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق‏.‏ وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطلاع على ما فيه‏.‏ فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع‏.‏ وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضاً قد غمس في مذاق من الطين معد لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه‏.‏ وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها‏.‏ فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل‏.‏ وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية‏.‏ ثم اختلف العرف وصار لمن إليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة‏.‏ ثم صاروا في دول المغرب يغدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للأصبع فيستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية‏.‏ والله مصرف الأمور بحكمه‏.‏ من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماوهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وأسداء بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته‏.‏ وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك‏.‏ ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات‏.‏ وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال‏.‏ وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك‏.‏ وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلالتهم ومشارفة أعمالهم‏.‏ وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم‏.‏ وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف من بعدهم وفي دولة العبيديين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق‏.‏ ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي وكانوا يتوزعون عن لباس الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفاً لم يكن بتلك النباهة‏.‏ وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر‏.‏ وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص ويسمونه المزركش لفظة أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها‏.‏ والله مقدر الليل والنهار والله خير الوارثين‏.‏ الفساطيط والسياج اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن بجدل الكتان والقطن فيباهى بها في الأسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك‏.‏ وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف‏.‏ ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم‏.‏ فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد‏.‏ وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه في الأخرى كشأن العرب‏.‏ ولذلك كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على آثره أن يقيموا إذا ظعن‏.‏ ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع وقصتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة‏.‏ ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته‏.‏ فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزنوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتاً مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة ويدير الأمير القائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله ‏"‏ أفراك بالكاف التي بين الكاف والقاف ويختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره‏.‏ وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان‏.‏ ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخف لذلك ظهرهم وتقاربت الساح بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه‏.‏ واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها‏.‏ وكذا كانت دولة الموحدين وزناتة التي أظلتنا‏.‏ كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطن حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى القصور عادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان‏.‏ إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر‏.‏ والله القوى العزيز‏.‏ وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي ولم يعرف في غير دول الإسلام‏.‏ فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه وما يليه‏.‏ فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي والقصة معروفة وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني‏.‏ ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة‏.‏ وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها‏.‏ وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها‏.‏ وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف‏.‏ وأما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة‏.‏ ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم‏.‏ ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف وجاء أبو يعقوب المنصوز ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس‏.‏ وهكذا كان الشأن في سائر الدول‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم‏.‏ فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والرضا عن أصحابه‏.‏ وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر‏.‏ وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها قال‏:‏ اللهم انصر علياً على الحق‏.‏ واتصل العمل على ذلك فيما بعد‏.‏ وبعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏ أما مد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك‏!‏ فعزمت عليك إلا ما كسرته‏.‏ فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما‏.‏ فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأن تلك ساعة مظنة للإجابة ولما ثبت عن السلف في قولهم‏:‏ من كانت له دعوة صالحة ليضعها في السلطان‏.‏ وكان الخليفة يفرد بذلك‏.‏ فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة بذذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه‏.‏ وذهب ذلك بذهاب تلك الدول وصار الأمر إلى ختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد يسمو إليه‏.‏ وكثيراً ما يغفل الماهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة ويقنعون بالدعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين‏.‏ ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه‏.‏ يحكى أن يغمراسن بن زيان ماهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن‏:‏ تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاؤوا‏.‏ وكذلك يعقوب بن عبد الحق ماهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له وكان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته‏.‏ وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة‏.‏ فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومعاني البذخ والأبهة انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها‏.‏ والعالم بستان‏.‏ والله على كل شيء رقيب‏.‏ في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله‏.‏ وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته‏.‏ فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل‏.‏ وسبب هذا الإنتقام في الأكثر‏:‏ إما غيرة ومنافسة وإما عدوان ة وإما غضب لله ولدينه ث وإما غضب للملك وسعي في تمهيده‏.‏ فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة‏.‏ والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم‏.‏ والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد‏.‏ والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب‏:‏ الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين‏:‏ نوع بالزحف صفوفاً ونوع بالكر والفر‏.‏ أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم‏.‏ وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب‏.‏ وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر‏.‏ وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً‏.‏ فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ‏"‏ أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات‏.‏ وفي الحديث الكريم‏:‏ ‏"‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان يسد بعضه بعضاً‏.‏ ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنه جرها على المسلمين وأمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة وتعديها إلى الدين بخرق سياجه فغد من الكبائر‏.‏ ويظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع‏.‏ وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف‏.‏ إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر والفر ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد‏.‏ ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساماً يسمونها كراديس ويسوون في كل كردوس صفوفه‏.‏ وسبب ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض فلدلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع‏.‏ ورئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب‏.‏ ويسمون هذا الترتيب التعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين صدر الإسلام‏.‏ فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده ورايته وشعاره ويسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمون الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمون الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب‏.‏ فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم إما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة والكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة‏.‏ وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخفف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره‏.‏ وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة ويعرف كل واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغني عن تلك التعبئة‏.‏ ضرب المصاف وراء العسكر ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب‏.‏ وقد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً وشدة‏.‏ فقد كان الفرس وهم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك في القادسية وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بها على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع‏.‏ وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرايات في أركان السرير ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة فيعظم هيكل السرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر‏.‏ وجعل ذلك الفرس أيام القادسية وكان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى إختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات وقتل‏.‏ وأما أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمونها المجبوذة وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة‏.‏ وهو أمر مشاهد‏.‏ وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل‏.‏ فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف‏.‏ وكان الحرب أول الإسلام كله زحفاً‏.‏ وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر‏.‏ لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران‏:‏ أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم الثاني‏:‏ أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ولما رسخ فيهم من الإيمان والزحف إلى الاستماتة أقرب‏.‏ وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والحبيري بعده‏.‏ قال الطبري‏:‏ لما ذكر قتال الحبيري‏:‏ فولى الخواربخ عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري ويلقب أبا الذلفاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ انتهى‏.‏ فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف‏.‏ وذلك إنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء‏.‏ فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الأبل والظعائن وصعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب‏.‏ ولايغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال‏.‏ فيخف الصبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:22 AM

فصل‏:‏ ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر
صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الأفرنج في جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر‏.‏ والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد وأن يكون أهك ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الأفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الأستعانة بأهل الكفر‏.‏ وإنما استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الأجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم‏.‏ مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطاعة وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالأتهم على المسلمين‏.‏ فصل‏:‏ وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف وأنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف ويترجلون عن خيولهم ويفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى‏.‏ وهي تعبئة محكمة غريبة‏.‏ فصل‏:‏ وكان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات والهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة‏.‏ فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم ويديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا‏.‏ وكانت للدول في أمثال هذا قوة وعليه اقتدار باحتشاد الرجال وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك‏.‏ فلما خرب العمران وتبعه ضعف الدول وقلة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشان جملة كأنه يكن‏.‏ والله خير القادرين‏.‏ وتحريضه لأصحابه يوم صفين‏:‏ وانظر وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه‏.‏ قال في كلام له‏:‏ ‏"‏ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر‏.‏ وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام‏.‏ والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة‏.‏ وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب‏.‏ واخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار‏.‏ وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم‏.‏ واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر ‏"‏‏.‏ وقال الأشتر يومئذ يحرض الأزد‏:‏ ‏"‏ عضوا على النواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدوا شدة قوم موتورين يثارون بآبائهم وإخوانهم حناقاً على عدوهم وقد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدنيا عار‏.‏ وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكره بأمور الحرب في وصايا وتحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها‏:‏ ومن الذي غدر العدو به دجى فانفض كل وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطعان يصدها عنه ويدمرها الوفاء فترجع والليل من وضح الترائك إنه صبح على هام الجيوش يلمع أنى فزعتم يا بني صنهاجة وإليكم في الروع كان المفزع إنسان عين لم يصبه منكم حضن وقلب أسلمته الأضلع وصددتم عن تاشفين وإنه لعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلا اسود خفية كل لكل كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذره بالفيل والعذر الذي لا يدفع ومنها في سياسة الحرب‏:‏ أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين وتنفع والبس من الحلق المضاعفة التي وصى بها صنع الصنائع تبع والواد لا تعبره وانزل عنده بين العدو وبين جيشك يقطع واجعل مناجزة الجيوش عشية ووراءك الصدق الذي هو أمنع وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توسع واصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع واجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لاتخدع لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع قوله‏:‏ ‏"‏ واصدمة أول وهلة لا تكترث ‏"‏ البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب‏.‏ فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس والعراق فقال له‏:‏ اسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف‏.‏ وقال له في أخرى‏:‏ ‏"‏ إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب‏.‏ وفي التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع‏.‏ والله لولا ذلك لأمرته‏.‏ لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث ‏"‏‏.‏ هذا كلام عمر وهو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب‏.‏ وذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه‏.‏ والله تعالى ولا وثوق في الحرب بالظفر وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق‏.‏ وبيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشجعان وترتيب المصاف ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفية وهي إما من خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكدى عن العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة وقد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة وأمثال ذلك‏.‏ وأما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة‏.‏ وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ ومن أمثال العرب‏:‏ ‏"‏ رب حيلة أنفع من قبيلة ‏"‏‏.‏ فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه‏.‏ فاعتبره وتفهم من وقوع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر ‏"‏ وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات‏.‏ فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها إلا أنه خفي عن العيون‏.‏ وقد ذكر الطرطوشي‏:‏ أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الأخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجح إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا وليس بصحيح‏.‏ وإنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم وفي الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة لأجل ذلك فتفهمه‏.‏ واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي ولم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلته وبلده وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية ولا نسباً‏.‏ وقد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا وأمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش العدة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب‏.‏ ونحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لايعارض الأسباب الخفية من الحيل والخداع ولا الأمور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي‏.‏ فافهمه وتفهم أحوال الكون‏.‏ والله مقدر الليل والنهار‏.‏ فصل‏:‏ ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت‏.‏ فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها‏.‏ وقد تصادف موضعها وتكون طبقاً على صاحبها‏.‏ والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل ويدخلها التعصب والتشيع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك والنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها وأين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه وتكون غير مطابقة‏.‏ وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.

ميارى 4 - 8 - 2010 12:23 AM

الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة‏.‏ والسبب في ذلك أن الدولة‏:‏ إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية وهي حدود لا تتعدى وإن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها‏.‏ وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها‏.‏ فإذا استمرت الدولة واتصلت وتعاقب ملوكها واحداً بعد واحد واتصفوا بالكيس وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافي وجاء الملك العضوض والحضارة الداعية إلى الكيس وتخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا وتنهضم وتصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً ولم يشعر أحد بمن زادها على التعيين ولا من هو واضعها إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة‏.‏ ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها‏.‏ وربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية ويحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الانفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوة به‏.‏ فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الأمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها‏.‏ وإذا فهمت ذلك علمت أن أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه‏.‏ والله سبحانه وتعالى مالك الأمور كلها ‏"‏ وبيده ملكوت كل شيء ‏"‏‏.‏

الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم‏.‏ ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها وتجري على نهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدولة ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية‏.‏ فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقل الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم‏.‏ فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدينة‏.‏ وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية‏.‏ وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الأمال ويؤن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل‏.‏ وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير وفرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم وأسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة وأعاضها بآثار الخير‏.‏ وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محا رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطينن‏.‏ وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:24 AM

الفصل الأربعون مفسدة للجباية
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جباييها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال‏.‏ فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية‏:‏ تكثير الفوائد‏.‏ وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة‏.‏ فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد‏.‏ ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن إذ لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه‏.‏ ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم‏.‏ وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن‏.‏ وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدد ذلك ويتكرر ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة ويؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش‏.‏ وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجياية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل‏.‏ ثم إنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس‏.‏ ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية‏.‏ ثم فيه التعرض لأهل عمرانه واختلال الدولة بفسادهم ونقصه فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات وكان فيها تلاف أحوالهم فافهم ذلك‏.‏ وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة‏.‏ واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولايدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية السلطان‏.‏ وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة‏.‏ وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون وببيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن‏.‏ وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم‏.‏ وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته‏.‏ فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم‏.‏

الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان
وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل‏.‏ فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة وله إليهم حاجة‏.‏ فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته‏.‏ فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته‏.‏ فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثلونها‏.‏ ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة‏.‏ ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة‏.‏ ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ فصل‏:‏ ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته‏.‏ وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم‏.‏ واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع‏.‏ فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر‏.‏ وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد وغيرة من خدمته لسواهم‏.‏ ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الجج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف‏.‏ وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به‏.‏ ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً لما يرون أنه مال الجباية والدول وأنه مستحق للإنفاق في المصالح‏.‏ وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة‏.‏ ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده وركب السفين من هنالك وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر حتى الكتب واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره‏.‏ فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم‏.‏ والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة‏.‏ والدول أنساب لكن‏:‏ النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرزاق وهو الموفق بمنه وفضله والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:24 AM

الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادة العمران‏.‏ فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم‏.‏ فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح‏.‏ ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج‏.‏ فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخرح فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه‏.‏ وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏

الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‏.‏ وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‏.‏ وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته‏.‏ والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين‏.‏ فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصارة واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‏.‏ وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له‏:‏ أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها وقال لها‏:‏ إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام‏.‏ فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده فقال له‏:‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل‏.‏ والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبة الرب وجعل له قيماً وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك‏.‏ ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها‏.‏ فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه‏.‏ فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض‏.‏ ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب‏.‏ واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر‏.‏ فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً لأن النقص إنما يقع بالتدريج‏.‏ فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين‏.‏ وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر‏.‏ والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه ووباله عائد على الدول‏.‏ ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك‏.‏ وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‏.‏ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله‏.‏ واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‏.‏ فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً‏.‏ وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‏.‏ ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر‏.‏ إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه‏.‏ ‏"‏ وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏‏.‏ ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع وهي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر‏.‏ فإن في الجواب عن ذلك طريقين‏.‏ أحدهما أن تقول‏:‏ العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة‏.‏ الطريق الثاني أن تقول‏:‏ المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ فصل‏:‏ ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق‏.‏ وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران‏.‏ فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك‏.‏ فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة‏.‏ وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ الاحتكار وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع‏.‏ وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم‏.‏ وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع وسائر السوقة وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات وتتوالى على الساعات وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا لأن عامته من البيع والشراء‏.‏ وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أواسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه‏.‏ ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة‏.‏ ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به‏.‏ هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض‏.‏ ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج‏.‏ ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:26 AM

الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول
وأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه‏.‏ فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن‏.‏ فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ من بحاشيته فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة‏.‏ ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك وهي خلق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها‏.‏ وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه‏.‏ فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم وعلى الناس من التعرض لعقابهم‏.‏ فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار اسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء داران للعباسية‏:‏ دار الخاصة ودار العامة كما هو مسطور في أخبارهم‏.‏ ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة‏.‏ وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه‏.‏ وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر‏.‏ ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها‏.‏ وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه‏.‏

الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها‏.‏ وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به يأنف حينئذ عن المشاركة ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه‏.‏ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاغترار والاسترابة‏.‏ ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها‏.‏ ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد‏.‏ وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً ونطاقها ممتداً في الاتساع وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية‏.‏ ثم لما خرج الأمر من بني أمية واستقل بنو العباس بالأمر وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف وآذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين‏.‏ ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين‏.‏ ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم‏.‏ ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثم مصر والشام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدولة دولتين أخريين وصارت الدولة العربية ثلاث دول‏:‏ دولة بني العباس بمركز العرب وأصلهم ومادتهم الإسلام ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز‏.‏ ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً‏.‏ وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى‏:‏ وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان والعلوية في الديلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء‏.‏ ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك‏.‏ ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً‏.‏ وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها‏.‏ ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها أورثه بنيه وقسموا به الدولة قسمين ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم‏.‏ وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره‏.‏ وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره‏.‏ وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها‏.‏ وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني‏.‏ والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل‏.‏ وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها‏.‏ والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه‏.‏ ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه‏.‏ وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي‏.‏ وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس‏.‏ فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر‏.‏ وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء‏.‏ فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه‏.‏ ‏"‏ ولكل أجل كتاب ‏"‏‏.‏

الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما‏.‏ فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال‏.‏ والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين‏.‏ فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية ثم نرجع واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة‏.‏ فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم‏.‏ ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر‏.‏ ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم والقرابة منها‏.‏ وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم لما جعل الله في ذلك‏.‏ فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد‏.‏ ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا‏.‏ فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية ويقلون لذلك فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم‏.‏ ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة‏.‏ وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود‏.‏ واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين‏.‏ وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره‏.‏ ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا‏.‏ وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدولة‏.‏ ثم خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة‏.‏ فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة‏.‏ وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك وتضمحل وتضعف الدولة المنقسمة كلها‏.‏ وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق‏.‏ ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده‏.‏ وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم‏.‏ فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر‏.‏ ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور‏.‏ ولكل أجل كتاب ولكل دولة أمد‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏ وهو الواحد القهار‏.‏ وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال‏.‏ ثم يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى الترف ويكثر الأنفاق بسببه فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة‏.‏ ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها‏.‏ ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده‏.‏ ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة‏.‏ ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة‏.‏ ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم‏.‏ فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم‏.‏ ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه‏.‏ فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند ولا يغني فيما يريد‏.‏ ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب‏.‏ فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء‏.‏ والله مالك الأمور ومدبر الأكوان لا إله إلا هو‏.‏ أولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك وهو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها‏.‏ واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها‏.‏ فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق‏.‏ وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى‏.‏ وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها‏.‏ وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس‏.‏ فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم‏.‏ وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية بمفارقة البداوة وخشونتها وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم فتفقد الأمراء والكبراء ويكثر التابع والمرؤوس فيفل ذلك من حد الدولة لكسر من شوكتها‏.‏ ويقع الخلل الأول في الدولة وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم‏.‏ ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز وتجاوز الحدود بالبذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية‏.‏ ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين‏.‏ وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم‏.‏ وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية‏.‏ فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال‏.‏ والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة‏.‏ فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل‏.‏ ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك ويقع فيه ما وقع في الأول‏.‏ فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى ومجددون ملكاً‏.‏ حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه‏.‏ واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس‏.‏ ثم تزايد الترف ونشأت الحضارة وطرق الخلل فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد وظهر دعاة العلوية من كل جانب وتمهدت لهم دول ثم قتل المتوكل واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف‏.‏ وانقطع الخراج منها وتزايد الترف‏.‏ وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان وبني الصفار السند وفارس وبني طولون مصر وبنى الأغلب إفريقية إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه‏.‏ ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولهم‏.‏ واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين‏.‏ وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام‏.‏ وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول‏.‏ ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت‏.‏ فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه‏.‏ و ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:27 AM

الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
اعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين‏:‏ إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتدريج وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلص ظلها عن القاصية واستبد بنو سامان بما وراء النهر وبنو حمدان بالموصل والشام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم‏.‏ وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها‏.‏ والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة
قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان‏:‏ نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة لأن قوتهم وافية بها فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب‏.‏ ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة‏.‏ والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر ولذلك كان الخداع من أنفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلا أن الأخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة‏.‏ فيرجع إلى الصبر والمطاولة حتى يتضح هرم الدولة المستقرة فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظفر والاستيلاء‏.‏ وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبهة الملكية ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم‏.‏ وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما ببلغهم من أحوال الدولة المستقرة ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يداً واحدة للمناجزة ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات وتنتهي المطاولة إلى حدها ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة‏.‏ واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد‏.‏ وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية‏.‏ وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية‏.‏ ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان ثم استولوا على الخليفة ببغداد‏.‏ وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد يطاول بني الأغلب بإفريقية حتى ظفر بهم واستولوا على المغرب كله وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت وبجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين‏.‏ ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختط القاهرة فجاء الخليفة بعد المعز لدين الله فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية‏.‏ وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني سامان وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته‏.‏ تم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر‏.‏ وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة‏.‏ وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثم استولوا عليه‏.‏ ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة فمكثوا نحواً من ثلاثين سنة يحاربونهم حتى استولوا على كرسيهم بمراكش‏.‏ وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحواً من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم‏.‏ ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول‏.‏ فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة‏.‏ سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏.‏ ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصاراً بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل‏.‏ فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة‏.‏ وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية‏.‏ والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يعترض بها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول‏.‏ وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر ويكثر التناسل‏.‏ وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل‏.‏ وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء‏.‏ ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج في الأمور الطبيعية‏.‏ ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول‏.‏ والسبب فيه‏:‏ أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالباً وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر والزرع والثمار والضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار‏.‏ فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا وكان بعض السنوات والاحتكار وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء‏.‏ وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة‏.‏ وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه‏.‏ فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة‏.‏ وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة‏.‏ وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك‏.‏ وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم وهو ظاهر‏.‏ ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح‏.‏ ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب‏.‏ والله يقدر ما يشاء‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:27 AM

الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري
اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم‏:‏ تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم‏.‏ فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط‏.‏ وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً‏.‏ ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة ‏"‏ والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك‏.‏ وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير‏.‏ ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين‏:‏ أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص‏.‏ وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة‏.‏ وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب وأحكام الملك مندرجة فيها‏.‏ الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً‏.‏ وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولاً ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم‏.‏ ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما‏.‏ فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة‏.‏ ونص الكتاب‏:‏ نص كتاب طاهر بن الحسين بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه‏.‏ واحفظ رعيتك في الليل والنهار‏.‏ والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه‏.‏ فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم‏.‏ ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت‏.‏ ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوقفك الله عليه‏.‏ وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوقعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رايك ونيتك واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ تنهى عن الفحشاء والمنكر ‏"‏‏.‏ ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده‏.‏ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عزوجل‏.‏ ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد‏.‏ وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها‏.‏ ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له ودركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك‏.‏ وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً منه‏.‏ والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها‏.‏ ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته‏.‏ واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك‏.‏ وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك‏.‏ ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم آثم إثم‏.‏ فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم‏.‏ ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك‏.‏ واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها‏.‏ ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك‏.‏ والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة‏.‏ واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما أساء‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه‏.‏ واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى‏.‏ وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك‏.‏ واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتتم لك مروءتك‏.‏ وإذا عاهدت عهداً فأوف به وإذا وعدت الخير فأنجزه‏.‏ واقبل الحسنة وادفع بها‏.‏ واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر‏.‏ وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق وأعن الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة‏.‏ واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك‏.‏ وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى‏.‏ واملك نفسك عند وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل‏.‏ وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به‏.‏ واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء‏.‏ ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله‏.‏ ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لحمائهم والإغاثة لملهوفهم‏.‏ واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامة وترتبت بها الولاية وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة‏.‏ فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله‏.‏ ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك‏.‏ وطب نفساً بكل ما أردت وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه‏.‏ وأعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار‏.‏ وليكن عملك لله عز وجل وفيه وارج الثواب منه فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله‏.‏ واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين‏.‏ ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً ولا تصلن كفوراً ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً ولا توالين فاسقاً ولا تتبعن غاوياً ولا تحمدن مرائياً ولا تحقرن إنساناً ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً ولا تلاحظن مضحكاً ولا تخلفني وعداً ولا تزهون فخراً ولا تظهرن غضباً ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحاً ولا تزكين سفيهاً ولا تفرطن في طلب الأخرة ولا ترفعن للنمام عيناً ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا‏.‏ وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة‏.‏ ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل ولا تسمعن لهم قولاً فإن ضررهم أكثر من نفعهم‏.‏ وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح‏.‏ واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم‏.‏ ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم‏.‏ واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه وأن العاصي بمنزلة الخزي وهو قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏ فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً‏.‏ وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم وأدر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً‏.‏ وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته‏.‏ فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً‏.‏ واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض‏.‏ وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة ويودى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين‏.‏ ويجري السنن والشرائع في مجاريها‏.‏ واشتد في أمر الله عز وجل‏.‏ وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود‏.‏ وأقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها‏.‏ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة ولأهله توسعة ومنعةً ولعدوه كبتاً وغيظاً ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له‏.‏ ولا تكلف أمراً فيه شطط‏.‏ واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة‏.‏ واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم‏.‏ فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم‏.‏ واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف‏.‏ ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف‏.‏ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة‏.‏ فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً تحمد عاقبة أمرك‏.‏ أن شاء الله تعالى‏.‏ واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً لأموره كلها‏.‏ وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره‏.‏ فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة‏.‏ وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك‏.‏ وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت‏.‏ واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه‏.‏ وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك‏.‏ وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم‏.‏ وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم‏.‏ وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة‏.‏ وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم‏.‏ وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال‏.‏ واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم‏.‏ وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة ومشقة‏.‏ وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى وتلتمس به رحمته‏.‏ وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك‏.‏ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى‏.‏ واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل‏.‏ واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها‏.‏ ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً‏.‏ وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها‏.‏ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر وإعلامك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك‏.‏ وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك‏.‏ ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتثبت منه‏.‏ ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم‏.‏ ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك‏.‏ وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله‏.‏ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً‏.‏ وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام‏.‏ وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه قال‏:‏ ما أبقى أبو الطيب يعني طاهراً شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به‏.‏ ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه‏.‏ هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:29 AM

الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح عل أثره وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته‏.‏ ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك وربما عارضوها ببعض الأخبار‏.‏ وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم‏.‏ ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ فنقول‏:‏ إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة‏:‏ مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره‏.‏ إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل‏.‏ فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها‏.‏ ولا تقولن‏:‏ مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين فإن الاجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الاجماع أعظم حماية وأحسن دفع‏.‏ وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك‏.‏ ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال‏:‏ ومن أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مسنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب ‏"‏‏.‏ وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب‏.‏ وحسبك هذا غلواً‏.‏ والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس‏.‏ على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع‏.‏ وأما الترمذي فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ وقال في رسالته المشهورة‏:‏ إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح‏.‏ ولفظ الترمذي‏:‏ ‏"‏ لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ حتى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح‏.‏ ورواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ رواه الثورى وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال‏:‏ وطرق عاصم عن زرعن عبد الله كلها صحيحة على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمة المسلمين‏.‏ انتهى‏.‏ إلأ أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل‏:‏ كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن خيراً ثقة والأعمش أحفظ منه‏.‏ وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث‏.‏ وقال العجلي‏:‏ كان يختلف عليه في زر وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما‏.‏ وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقة إلا أنه كثير الخطإ في حديثه‏.‏ وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ في حديثه اضطراب‏.‏ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ قلت لأبي أن أبا زرعة يقول‏:‏ عاصم ثقة فقال‏:‏ ليس محله هذا‏.‏ وقد تكلم فيه ابن علية فقال‏:‏ كل من اسمه عاصم سيىء الحفظ‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ محله عندي محل الصدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ‏.‏ واختلف فيه قول النسائي‏.‏ وقال ابن حراش‏:‏ في حديثه نكرة‏.‏ وقال أبو جعفر العقيلي‏:‏ لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال الدار قطني‏:‏ في حفظه شيء‏.‏ وقال يحيى القطان‏:‏ ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ‏.‏ وقال أيضاً سمعت شعبة يقول‏:‏ حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها وقال الذهبي‏:‏ ثبت في القراءة وهو في الحديث دون التثبت صدوق فهم وهو حسن الحديث‏.‏ وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً‏.‏ والله أعلم‏.‏ وخرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه من رواية فطر بن خليفة عن القاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ‏"‏‏.‏ وفطر بن خليفة وإن وثقه احمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم إلا أن العجلي قال‏:‏ حسن الحديث وفيه تشيع قليل‏.‏ وقال ابن معين مرة‏:‏ ثقة شيعي‏.‏ وقال أحمد بن عبد الله بن يونس‏:‏ كنا نمر على فطر وهو مطروح لا نكتب عنه‏.‏ وقال مرة‏:‏ كنت أمر به وأدعه مثل الكلب‏.‏ وقال الدار قطني‏:‏ لا يحتج به‏.‏ وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ زائغ غير ثقة‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن هارون بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق السبيعي قال‏:‏ قال علي ونظر إلى ابنه الحسين‏:‏ ‏"‏ إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلاً ‏"‏‏.‏ وقال هارون‏:‏ حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت علياً يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته ‏"‏ سكت أبو داود عليه‏.‏ وقال في موضع آخر في هارون‏:‏ هو من ولد الشيعة‏.‏ وقال السليماني‏:‏ فيه نظر‏.‏ وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس‏:‏ لا بأس به في حديثه خطأ‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ صدق له أوهام‏.‏ وأما أبو إسحاق السبيعي وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة‏.‏ وأما السند الثاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك من طريق علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ المهدي من ولد فاطمة ‏"‏‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المهدي فقال‏:‏ ‏"‏ نعم هو حق وهو من بني فاطمة ‏"‏‏.‏ ولم يتكلم عليه بصحيح ولا غيره وقد ضعفه أبو جعفرالعقيلي وقال‏:‏ ‏"‏ لا يتابع علي بن نفيل عليه ولايعرف إلا به ‏"‏‏.‏ وخرج أبوداود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح بن الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال‏:‏ ‏"‏ يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام فيبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه‏.‏ ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب‏.‏ والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين ‏"‏‏.‏ وقال بعضهم تسع سنين‏.‏ ثم رواه أبو داود من رواية أبي خليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول‏.‏ ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلس وقد عنعنه والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع‏.‏ مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً يملك سبع سنين ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعيش هكذا وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام وعقد ثلاثة ‏"‏ قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً‏.‏ وكان يحيى القطان لا يحدث عنه‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ليس بالقوي وقال مرة‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أرجو أن يكون صالح الحديث‏.‏ وقال يزيد بن زريع‏:‏ كان حرورياً وكان يرى السيف على أهل القبلة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو عبيد الأجري‏:‏ سالت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلا خيراً‏.‏ وسمعتة مرة أخرى ذكره فقال‏:‏ ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً ‏"‏‏.‏ زيد الشاك قال قلنا‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ سنين‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيجيء إليه الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ‏"‏‏.‏ لفظ الترمذي قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجة والحاكم‏:‏ ‏"‏ يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط تؤتي الأرض أكلها ولا يذخر منه شيء‏.‏ والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني‏!‏ فيقول خذ‏!‏‏.‏ انتهى‏.‏ وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح وزاد أحمد‏:‏ إنه فوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى إلا أنه قال فيه أبو حاتم‏:‏ ضعيف يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال يحيى بن معين في رواية أخرى‏:‏ لا شيء‏.‏ وقال مرة‏:‏ يكتب حديثة وهو ضعيف‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ متماسك وقال أبو زرعة‏:‏ ليس بقوي واهي الحديث ضعيف‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بذاك وقد حدث عنه شعبة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء على أن شعبة قد روى عنه ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه‏.‏ وقد يقال أن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً‏.‏ لا يعده عداً ‏"‏‏.‏ ومن حديث أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً ‏"‏‏.‏ ومن طريق أخرى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي ولا دليل يقوم على أنه المراد منها‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ‏"‏‏.‏ وقال فيه الحاكم‏:‏ هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثماني ‏"‏‏.‏ يعني حججاً‏.‏ وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏ مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حيان في الثقات ولم يرد أن أحداً تكلم فيه‏.‏ ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق وأبو هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ تملأ الأرض جوراً وظلماً فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعاً أو تسعاً فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ‏"‏‏.‏ وقال الحاكم فيه‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الوراق‏.‏ وأما شيخه الآخر وهو أبو هارون العبدي فلم يخرج له‏.‏ وهو ضعيف جداً متهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه‏.‏ وأما الراوي له عن حماد بن سلمة وهو أسد بن موسى ويلقب أسد السنة وإن قال البخاري‏:‏ مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه واحتج به أبو داود والنسائي إلا أنه قال مرة أخرى‏:‏ ثقة لو لم يصنف كان خيراً له‏.‏ وقال فيه محمد بن حزم‏:‏ منكر الحديث‏.‏ ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز وجل له القطر من السماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل على بيت المقدس ‏"‏‏.‏ وقال الطبراني فيه ورواه جماعة عن أبي الصديق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحداً ا إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصديق عنه‏.‏ وقال الذهبي في الميزان إنه مجهول‏.‏ لكن ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية وقال فيه‏:‏ يروي عن أنس وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر‏.‏ وخرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه وتغير لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال‏:‏ إنا أهل البيت اختار الله لنا الأخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً‏.‏ فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات‏.‏ ويزيد بن أبي زياد راوية قال فيه شعبة‏:‏ كان رفاعاً يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة‏.‏ وقال محمد بن الفضيل‏:‏ كان من كبار أئمة الشيعة‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لم يكن بالحافظ وقال مرة‏:‏ حديثه ليس بذلك‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال العجلي‏:‏ جائز الحديث‏.‏ وكان بآخره يلقن‏.‏ وقال أبو زرعة‏:‏ لين يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بالقوي‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ سمعتهم يضعفون حديثه‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ لا أعلم أحداً ترك حديثة وغيره أحب إلي منه‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه‏.‏ وروى له مسلم لكن مقروناً بغيره‏.‏ وبالجملة فالأكثرون على ضعفه‏.‏ وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرايات‏.‏ وقال وكيع بن الجراح فيه‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل‏.‏ وقال أبو قدامة‏:‏ سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته أهذا مذهب إبراهيم أهذا مذهب علقمة أهذا مذهب عبد الله‏!‏ وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ ليس بصحيح‏.‏ وخرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت يصلح الله به في ليلة ‏"‏‏.‏ وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاري‏:‏ فيه نظر‏.‏ وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً‏.‏ وأورد له ابن عدي في الكامل والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ بل منا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشرك وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك ‏"‏‏.‏ قال علي‏:‏ أمومنون أم كافرون قال‏:‏ ‏"‏ مفتون وكافر ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال‏.‏ وفيه عمر بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ روي عن جابر مناكير وبلغني أنه كان يكذب وقال النسائي‏:‏ ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل وكان يقول‏:‏ ‏"‏ علي في السحاب ‏"‏ وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول‏:‏ ‏"‏ هذا علي قد مر في السحاب ‏"‏‏.‏ وخرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن‏.‏ فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم‏.‏ فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفاً وأمارتهم ‏"‏ أمت أمت ‏"‏ يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعاً ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورايتهم‏.‏ وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال‏.‏ ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه في روايته‏.‏ ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى الفتهم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر‏.‏ وخرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال‏:‏ ‏"‏ كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال علي‏:‏ هيهات‏.‏ ثم عقد بيده سبعاً فقال ذلك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل ويجمع الله له قوماً قزعاً كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم عدتهم على عدة أهل بدر لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الأخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر‏.‏ قال أبو الطفيل قال ابن الحنفية‏:‏ أتريده قلت‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين‏.‏ قلت لا جرم والله ولا أدعها حتى أموت ومات بها يعني مكة قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط الشيخين‏.‏ انتهى‏.‏ وإنما هو على شرط مسلم فقط فإن فيه عماراً الذهني ويونس بن أبي إسحاق ولم يخرج لهما البخاري وفيه عمرو بن محمد العنقزي ولم يخرج له البخاري احتجاجاً بل استشهاداً مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الدهني وهو وإن وثقه أحمد وابن معيني وأبو حاتم والنسائي وغيرهم فقد قال علي بن المديني عن سفيان أن بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أي شيء قال‏:‏ في التشيع‏.‏ وخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ نحن ولد عبد المطلب سادات أهل الجنة أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة‏.‏ وقد ضعفه بعض ووثقه آخرون‏.‏ وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو مدلس فلا يقبل إلا أن يصرح بالسماع‏.‏ وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان‏:‏ لا ندري من هو ثم قال الصواب فيه عبد الله بن زياد‏.‏ وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلم فيه الثوري قالوا لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطىء فيها‏.‏ وقال ابن حيان‏:‏ كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك والناس ينكرون عليه ذلك وهو ههنا ببغداد لم يحج فكيف سمعها وجعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه‏.‏ وخرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفاً عليه قال مجاهد قال لي ابن عباس‏:‏ لو لم أسمع أنك مثل أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد‏:‏ فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره‏!‏ قال فقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ منا أهل البيت أربعة‏:‏ منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي‏.‏ قال فقال مجاهد‏:‏ بين لي هؤلاء الأربعة‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه وأما المنذر أراه قال فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقه وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وتأمن البهائم السباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها قال‏:‏ لاقلت وما أفلاذ كبدها قال‏:‏ أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة ‏"‏‏.‏ وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه‏.‏ وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرج له مسلم فالأكثرون على تضعيفه‏!‏‏.‏ وخرج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم‏.‏ ثم ذكر شيئاً لا أحفظه قال‏:‏ ‏"‏ فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي‏.‏ ورجاله رجال الصحيحين إلا أن فيه أبا قلابة الجرمي وذكر الذهبي وغيره أنه مدلس وفيه سفيان الثوري وهو مشهور بالتدليس وكل واحد منهما عنعن ولم يصرح بالسماع فلا يقبل وفيه عبد الرزاق بن همام وكان مشهوراً بالتشيع وعمي في آخر وقته فخلط قال ابن عدي حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد ونسبوه إلى التشيع‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي ‏"‏‏.‏ يعني سلطانه‏.‏ قال الطبراني تفرد به ابن لهيعة وقد تقدم لنا في حديث علي الذي خرجه الطبراني في معجمه الأوسط أن ابن لهيعة ضعيف وأن شيخه عمر بن جابر أضعف منه‏.‏ وخرج البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط واللفظ للطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع تنعم فيها أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها‏:‏ ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تذخر الأرض شيئاً من النبات والمال كدوس يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ‏!‏ قال الطبراني والبزار تفرد به محمد بن مروان العجلي‏.‏ زاد البزار‏:‏ ولا نعلم أنه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبان أيضاً بما ذكره في الثقات وقال فيه يحيى بن معين‏:‏ صالح وقال مرة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه‏.‏ قال أبو زرعة ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏:‏ رأيت محمد بن مروان العجلي حدث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنه ضعفه‏.‏ وخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ حدثني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق‏.‏ قال‏:‏ قلت وكم يملك‏.‏ قال خمساً واثنتين‏.‏ قال قلت‏:‏ وما ‏"‏ خمساً واثنتين قال‏:‏ ‏"‏ لا أدري ‏"‏‏.‏ وهذا السند وإن كان فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم لا يحتج به فقد احتج به الشيخان ووثقه الناس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتج به‏.‏ إلا أن فيه رجاء بن أبي رجاء اليشكري وهو مختلف فيه‏.‏ قال أبو زرعة‏:‏ ثقة وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف وقال أبو داود‏:‏ ضعيف وقال فيه‏:‏ صالح‏.‏ وعلق له البخاري في صحيحه حديثاً واحداً‏.‏ وخرج أبو بكر البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن قرة بن إياس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لتملأن الأرض جوراً وظلماً فإذا ملئت جوراً وظلماً بعث الله رجلاً من أمتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً فلا تمنع السماء من قطرها شيئاً ولا تدخر الأرض شيئاً من نباتها‏.‏ يلبث فيكم سبعاً أوثماني أوتسعاً ‏"‏‏.‏ يعني سنين‏.‏ وفيه داود بن المجبر بن قحذم عن أبيه وهما ضعيفان جداً‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المهاجرين والأنصار وعلي بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمييه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد العباس وبيد علي وقال‏:‏ ‏"‏ سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جوراً وظلماً وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً‏.‏ فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ستكون فتنة لا يسكن فيها جانب إلا تشاجر جانب حتى ينادي مناد من السماء أن أميركم فلان‏.‏ وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف جداً‏.‏ وليس في الحديث تصريح ذكر المهدي وإنما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناساً‏.‏ فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان‏.‏ هي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه‏.‏ وربما تمسك المنكرون لشأنه بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح بن أبي عياش عن الحسن البصري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ‏"‏‏.‏ وقال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي‏:‏ إنه ثقة‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ تفرد به محمد بن خالد‏.‏ وقال الحاكم فيه‏:‏ إنه رجل مجهول‏.‏ واختلف عليه في إسناده‏:‏ فمرة يروي كما تقدم وينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي ومرة يروي عن محمد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً‏.‏ قال البيهقي‏:‏ فرجع إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب‏.‏ وقد قيل في‏:‏ ‏"‏ أن لا مهدي إلا عيسى ‏"‏ أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريح‏.‏ ومثله من الخوارق‏.‏ وأما المتصوفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال وكان كلام الإمامية والرافضة من الشيعة في تفضيل علي رضي الله تعالى عنه والقول بإمامته وادعاء الوصية له بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم والتبري من الشيخين كما ذكرناه في مذاهبهم‏.‏ ثم حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التآليف في مذاهبهم‏.‏ وجاء الإسماعيلية منهم يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول وآخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين على ذلك بما قدمناه من الأحاديث في المهدي وغيرها‏.‏ ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس‏.‏ وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم‏.‏ وظهر منهم أيضاً القول بالقطب والأبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء‏.‏ وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة‏.‏ واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم‏.‏ ولايعلم هذا عن علي من وجه صحيح‏.‏ ولم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه بل الصحابة كلهم أسوة في طرق الهدى وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه‏.‏ وظهر منهم أيضاً القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة وكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر‏.‏ وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم من بعض وكأنه مبني على أصول واهية من الفريقين‏.‏ وربما يستدل بعضهم بكلام المنجمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام عليها في الباب الذي يلي هذا‏.‏ وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي ابن العربي الحاتمي في كتاب عنقاء مغرب وابن قسي في كتاب خلع النعلين وعبد الحق بن سبعين وابن أبي واطيل تلميذه في شرحه كتاب خلع النعلين‏.‏ وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال وربما يصرحون في الأقل و يصرح مفسر وكلامهم‏.‏ وحاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واطيل أن النبوة بها ظهر الحق والهدى بعد الضلال والعمى وأنها تعقبها الخلافة ثم يعقب الخلافة الملك ثم يعود تجبراً وتكبراً وباطلاً‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان في المعهود من سنة الله رجوع أمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النبوة والحق بالولاية ثم بخلافتها ثم يعقبها الدجل مكان الملك والتسلط ثم يعود الكفر بحاله‏.‏ يشيرون بهذا لما وقع من شأن نبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة‏:‏ هذه ثلاث مراتب‏.‏ وكذلك الولاية التي هي لهذا الفاطمي والدجل بعدها كناية عن خروج الدجال على أثره والكفر من بعد ذلك‏.‏ فهي ثلاث مراتب على نسبة الثلاث مراتب الأولى‏.‏ قالوا‏:‏ ولما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعياً بالإجماع الذي لا يوهنه إنكار من لم يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهراً كبني عبد المطلب وأما باطناً ممن كان من حقيقة الآل والآل من إذا حضر لم يغب من هو آله‏.‏ وابن العربي الحاتمي سماه في كتابه ‏"‏ عنقاء مغرب ‏"‏ من تأليفه‏:‏ خاتم الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضة إشارة إلى حديث البخاري في باب خاتم النبيين قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتاً وأكمله حتى إذا لم يبق منه إلا موضع لبنة فأنا تلك اللبنة ‏"‏‏.‏ فيفسرون خاتم النبيين باللبنة التي أكملت البنيان ومعناه النبي الذي حصلت له النبوة الكاملة‏.‏ ويمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبوة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزاً للمرتبة التي هي خاتمة النبوة‏.‏ فكنى الشارع عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور‏.‏ وهما على نسبة واحدة فيها‏.‏ فهي لبنة واحدة في التمثيل‏.‏ ففي النبوة لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين كما بين الذهب والفضة‏.‏ فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولبنة الفضة كناية عن هذ الولي الفاطمي المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء‏.‏ وقال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واطيل عنه‏:‏ وهذا الإمام المنتظر وهو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضي - خ ف ج - من الهجرة ورسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم المعجمة بواحده من أسفل ثلاثة وذلك ستمائة وثلاث وثمانون سنة وهي في آخرالقرن السابع‏.‏ ولما انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المئة مولده وعبر بظهوره عن مولده وأن خروجه يكون بعد العشر والسبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناحية المغرب ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وإذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً وعشرين سنة‏.‏ قال‏:‏ وزعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمدي وابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تمام ألف سنة لما‏.‏ قال ابن أبي واطيل في شرحه كتاب خلع النعلين‏:‏ الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي وخاتم الأولياء وليس هو بنبي وإنما هو ولي ابتعثه روحه وحبيه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العالم في قومه كالنبي في أمته ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل‏.‏ ولم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلم جرا ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وذكر الكندي أن هذا الولي هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر ويجدد الإسلام ويظهرالعدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح القسطنطينية ويصير له ملك الأرض فيتقوى المسلمون ويعلو الإسلام ويظهر دين الحنيفية فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ ما بين هذين وقت ‏"‏ وقال الكندي أيضاً‏:‏ الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجالية ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب‏.‏ ثم يبقى ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستين عاماً عدد حروف المعجم وهي - ق ي ن - دولة العدل منها أربعون عاماً ‏"‏‏.‏ قال ابن أبي واطيل‏:‏ ‏"‏ وما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى‏.‏ وهذا مدفوع بحديث جريج وغيره‏.‏ وقد جاء في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً‏.‏ وقد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام ومنهم من سيكون في آخره‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستة وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأول أمر معاوية فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء وأما سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز والباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي يؤيده قوله‏:‏ ‏"‏ إنك لذو قرنيها ‏"‏ يريد الأمة أي إنك لخليفة في أولها وذريتك في آخرها‏.‏ وربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة‏.‏ فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيلى لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله والذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حياً يفتح القسطنطينية‏:‏ فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجش‏.‏ كذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ومدة حكمه بضع ‏"‏ والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر‏.‏ وجاء ذكر أربعين - في بعض الروايات سبعين‏.‏ فأما الأربعون فإنها مدتة ومدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السلام قال‏:‏ ‏"‏ وذكر أصحاب النجوم والقرانات أن مدة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاماً فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً‏.‏ انتهى كلام ابن أبي واطيل‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ وذكر الكندي يعقوب بن إسحق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة والحاء المهملة يريد ثمانية وتسعين وستمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين له لمة كأنما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ كثير خيلان الوجه‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة‏.‏ وفي آخر‏:‏ إنه يتزوج في الغرب‏.‏ والغرب دلو البادية يريد أنه يتزوج منها وتلد زوجته‏.‏ وذكر وفاته بعد أربعين عاماً‏.‏ وجاء أن عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطاب‏.‏ وجاء أن أبا بكر وعمر يحشران بين نبيين ‏"‏‏.‏ قال ابن أبي واطيل‏:‏ والشيعة تقول إنه هو المسيح مسيح المسايح من آل محمد‏.‏ قلت وعليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع وعدم النسخ ‏"‏‏.‏ إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلة واهية وتحكمات مختلفة فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغوية وأشياء تخييلية وأحكام نجومية‏.‏ في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر‏.‏ وأما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة ومراسم الحق ويتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا‏.‏ فبعضهم يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه‏.‏ سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريا عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور‏.‏ هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا‏.‏ والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه‏.‏ وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك‏.‏ وعصبية الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإمارتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة‏.‏ فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته وحمل الناس عليها‏.‏ وأما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق ثمن غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة‏.‏ وأما ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يقيده فيتحينون ذلك على غير نسبة وفي غير مكان تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه‏.‏ وأكثر ما يتحينون في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران مثل الزاب بإفريقية والسوس من المغرب‏.‏ ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة واعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته زعماً لا مستند لهم إلا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلة أو ضعف أو قوة ولبعد القاصية عن منال الدولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن‏.‏ ربقة الدولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول لديهم في ذلك إلا هذا‏.‏ وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يميه تمامها وسواساً وحمقاً‏.‏ وقتل كثير منهم‏.‏ أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال‏:‏ خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويزري نسبة إلى توزر مصغراً وادعى أنه الفاطمي المنتظر واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً وانحل أمره‏.‏ وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس وادعى أنه الفاطمي واتبعه الدهماء من غمارة ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره‏.‏ وكثير من هذا النمط‏.‏ وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ والخادم‏.‏ قال وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان‏.‏ قال وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم وأنهم إنما جاؤوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطمي بالمغرب‏.‏ فلما عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل لتلمسان قال لأصحابه‏:‏ ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا‏.‏ ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحق وأقصر عن مطامعه وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب‏.‏ إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏ وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق والقيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر ويعتني بذلك ويكثر تابعه‏.‏ وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما قدمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا‏.‏ إلا أن الصبغة الدينية فيهم لا تستحكم لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم‏.‏ فتجد تابع ذلك المنتحل للدعوة القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الإقتداء والاتباع إنما دينهم الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم‏.‏ وشتان بين طلب هذا الأجر في صلاح الخلق وبين طلب الدنيا فاتفاقهما ممتنع لا تستحكم لهم صبغة في الدين ولا يكمل لهم نزوغ عن الباطل على الجملة ولا يكثرون‏.‏ ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه‏.‏ فإذا هلك انحل أمرهم وتلاشت عصبيتهم‏.‏ وقد ولع ذلك بإفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلم وكان يسمى سعادة وكان أشد ديناً من الأول وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح‏.‏ وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك ويلبسون فيها وينتحلون اسم السنة وليسوا عليها إلا الأقل فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم‏.‏ انتهى‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:30 AM

الفصل الثالث والخمسون في حدثان الدول والأمم
اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها‏.‏ ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام‏.‏ والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة‏.‏ ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه‏.‏ فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول كا يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية‏.‏ وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه‏.‏ وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة كما وقع لشق وسطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثم رجوعها إليهم ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك‏.‏ وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب‏.‏ وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن ويقال من غمرة وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل‏.‏ وهم يزعمون تارة أنه ولي وتارة أنه كاهن وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد يستند الجيل في ذلك إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإن انبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه‏.‏ وأما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا ومدتها على العموم وفيما يرجع إلى الدولة وأعمارها على الخصوص‏.‏ وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثار منقولة عن الصحابة وخصوصاً مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما‏.‏ ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه‏.‏ والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية‏.‏ وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن فيكم محدثين فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة‏.‏ وأما بعد صدر الملة وحين علق الناس على العلوم والاصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك والدول وسائر الأمور العامة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصة من الطوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها‏.‏ فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم نرجع لكلام المنجمين‏.‏ أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل وبقاء الدنيا على ما وقع في كتاب السهيلي فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه‏.‏ ومستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس أن الدنيا جمعة من جمع الأخرة ولم يذكر لذلك دليلاً‏.‏ وسره والله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات والأرض وهي سبعة ثم اليوم بألف سنة لقوله‏:‏ ‏"‏ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشمس ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى وقدر ما بين صلاة العصر وغروب الشمس حين صيرورة ظل كل شيء مثليه يكون على التقريب نصف سبع وكذلك وصل الوسطى على السبابة فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها هو خمسمائة سنة‏.‏ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم ‏"‏ فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة الأف وخمسمائة سنة‏.‏ وعن وهب بن منبه أنها خمسة الأف وستمائة سنة أعني الماضي‏.‏ وعن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة الأف سنة‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره مع وقوع الوجود بخلافه‏.‏ فأما قوله‏:‏ ‏"‏ لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم ‏"‏ فلا يقتضي نفي الزيادة على النصف‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بعثت أنا والساعة كهاتين ‏"‏ فإنما فيه الأشارة إلى القرب وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي غيره ولا شرع غير شرعه‏.‏ ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من محرك آخر لو ساعده التحقيق وهو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر قال‏:‏ وهي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك ‏"‏ ألم يسطع نص حق كره ‏"‏ فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة وثلاثة إضافة إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثه فهذه هي مدة الملة قال‏:‏ ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها‏.‏ قلت‏:‏ وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التعويل عليه‏.‏ والذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع فى كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أحبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حي حين سمعا من الأحرف المقطعة ‏"‏ آلم ‏"‏ وتأولاها على بيان المدة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلا المدة‏.‏ وجاء حي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله‏:‏ هل مع هذا غيره قال‏:‏ ‏"‏ آلمص ‏"‏ ثم استزاد ‏"‏ آلر ‏"‏ ثم استزاد ‏"‏ آلمر ‏"‏ فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدة‏.‏ وقال‏:‏ قد لبس علينا أمرك يا محمد حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم ذهبوا عنه‏.‏ وقال لهم أبو ياسر‏:‏ ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة وأربع سنين قال ابن إسحق‏:‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ‏"‏‏.‏ ولا يقوم من القصة دليل على تقدير المدة بهذا العدد لأن دلالة هذه الحروف على الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية وإنما هي بالتواضع والاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل‏.‏ نعم إنه قديم مشهور وقدم الأصطلاح لا يصير حجة‏.‏ وليس أبو ياسر وأخوه حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً ولا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غفلاً من الصنائع والعلوم حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملتهم وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة‏.‏ فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك‏.‏ ووقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال‏:‏ قال حذيفة بن اليمان‏:‏ والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته‏.‏ وسكت عليه أبو داود وقد تقدم أنه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها‏.‏ وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه‏.‏ فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء‏.‏ ولفظ البخاري‏:‏ ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره‏.‏ وفي كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه‏.‏ وهذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن والأشراط لا غير لأنه المعهود من الشارع صلوات الله وسلامه عليه في أمثال هذه العمومات‏.‏ وهذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذا الطريق شاذة منكرة مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله‏.‏ فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثة مناكير وقال البخاري يعرف منه وينكر وقال ابن عدي‏:‏ أحاديثه غير محفوظة‏.‏ وأسامة بن زيد وإن خرج له في الصحيحين ووثقه ابن معين فإنما خرج له البخاري استشهاداً وضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وقال أبو حاتم‏:‏ يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وأبو قبيصة بن ذؤيب مجهول‏.‏ فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر‏.‏ وقد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الأثار والنجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده‏.‏ واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي وهو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص‏.‏ وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء‏.‏ وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماة الجفر باسم الجلد الذي كتب عليه لأن الجفر في اللغة هو الصغير وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق‏.‏ وهذا الكتاث لم تتصل روايته ولا عرف عينه وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل‏.‏ ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح كما يقول‏.‏ وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف‏.‏ وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة‏.‏ وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد‏.‏ وفي أخبار دولة العبيديين كثير منه‏.‏ وانظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي مع ابنه محمد الحبيب وما حدثاه به وكيف بعثناه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبث الدعوة فيه على علم لقنه أن دعوته تتم هناك وأن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بإفريقية قال‏:‏ ‏"‏ بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار ‏"‏ وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها وبلغ هذا الخبر حافده إسماعيل المنصور فلما حاصره صاحب الحمار أبو يزيد بالمهدية كان يسائل عن منتهى موقفه حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينة جده عبيد الله فأيقن بالظفر وبرز من البلد فهزمه واتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به وقتله‏.‏ ومثل هذه الأخبار عندهم كثيرة‏.‏ التنجيم وأما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية‏.‏ أما في الأمور العامة مثل الملك والدول فمن القرانات وخصوصاً بين العلويين وذلك أن العلويين زحل والمشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة ثم يعود القران إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن ثم بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة ثم يعود ثالثة ثم رابعة فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن وينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القران الذي قبله في المثلثة‏.‏ وهذا القران الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط‏:‏ فالكبير هو اجتماع العلويين في برجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستين سنة مرة واحدة والوسط هو اقتران العلوي في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى والصغير هو اقتران العلويين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخرعلى تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه‏.‏ مثال ذلك وقع القران أول دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من القوس وبعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد وهذه كلها نارية وهذا كله قران صغير‏.‏ ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة ويسمى دور القران وعود القران وبعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها وهذا قران وسط‏.‏ ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة وستين سنة وهو الكبير‏.‏ والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها‏.‏ ويقع أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع‏.‏ وبرج السرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المريخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك الدماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك‏:‏ ‏"‏ ورجوع المريخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملة الأسلامية لأنه كان دليلها فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدين ونقصت أحوالهم وربما انهدم بعض بيوت العبادة‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه كان عند قتل علي رضي الله عنه ومروان من بني أمية والمتوكل من بني العباس‏.‏ فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام‏.‏ وذكر شاذان البلخي‏:‏ ‏"‏ أن الملة تنتهي إلى ثلثمائة وعشرين‏.‏ وقد ظهر كذب هذ القول‏.‏ وقال أبو معشر‏:‏ يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير ولم يصح ذلك ‏"‏‏.‏ وقال جراس‏:‏ ‏"‏ رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النبوة فيهم وأن دليلهم الزهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك في أربعين سنة‏.‏ وقال أبو معشر في كتاب القرانات‏:‏ القسمة إذا انتهت إلى السابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزهرة‏.‏ ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبي ويكون قوة ملكه ومدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدة ذلك ستمائة وعشر سنين‏.‏ وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة ووقوع القسمة أول الحمل وقال يعقوب بن إسحق الكندي‏:‏ أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة وثلاث وتسعين سنة قال‏:‏ لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة الحوت‏.‏ فالباقي إحدى عشرة درجة وثماني عشرة دقيقة ودقائقها ستون فيكون ستمائة وثلاثاً وتسعين سنة‏.‏ قال‏:‏ وهذه مدة الملة باتفاق الحكماء ويعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر واعتباره بحساب الجمل‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو الذي ذكره السهيلي والغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه‏.‏ قال جراس‏:‏ ‏"‏ سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير وولده وملوك الساسانية فقال‏:‏ دليل ملكه المشتري وكان في شرفه فيعطى أطول السنين وأجودها أربعمائة وسبعاً وعشرين سنة ثم تزيد الزهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب فيملكون لأن طالع القران الميزان وصاحبه الزهرة وكانت عند القران في شرفها فدل أنهم يملكون ألف سنة وستين سنة‏.‏ وسأل كسرى أنو شروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص إلى الزهرة وينتقل القران من الهوائية إلى العقرب وهو مائي وهو دليل العرب فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة وهي ألف وستون سنة‏.‏ وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر‏.‏ وقال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية‏:‏ ‏"‏ إن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة وستين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة وتغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الظن‏.‏ قال جراس‏:‏ ‏"‏ واتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك سائر المكونات وذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً وعشرين درجة التي هي حد المريخ وذلك بعد مضي تسعمائة وستين سنة‏.‏ وذكر جراس‏:‏ أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هدية وأنه تصرف للمأمون في الاختبارات بحروب أخيه وبعقد اللواء لطاهر وأن المامون أعظم حكمته فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتصاله في ولد أخيه وأن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثم يسوء حالهم ثم تظهر الترك من شمال المشرق فيملكونه إلى الشام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الروم ويكون ما يريده الله‏.‏ فقال له المأمون‏:‏ من أين لك هذا فقال من كتب الحكماء ومن أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج‏.‏ قلت والترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية وقد قال جراس‏:‏ وانتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث ثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملة سنة ثلاث وخمسين‏.‏ قال والذي في الحوت هو أول الانتقال‏.‏ والذي في العقرب يستخرج مف دلائل الملة‏.‏ قال‏:‏ وتحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان وستين وثمانمائة ‏"‏‏.‏ ولم يستوف الكلام على ذلك‏.‏ وأما مستند المنجمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة وجهاتها من العمران القائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات‏.‏ وقد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه فمن هذا يوجد الكلام في الدول‏.‏ وقد كان يعقوب بن إسحق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه‏:‏ الشيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس وأنها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة وأن بانقراضها يكون انقراض الملة‏.‏ ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولارأينا من وقف عليه ولعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء‏.‏ وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير والظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل ومطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه وكذب ما بعده‏.‏ وكان فى دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون وكتب في الحدثان‏.‏ وانظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة قال‏:‏ بعث إلي الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه فجئتهما جوف الليل فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان وإذا مدة المهدي في عشر سنين‏.‏ فقلت هذا الكتاب لا يخفى على المهدي وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه‏.‏ قالا‏:‏ فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي‏.‏ ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً ومنثوراً ورجزاً ما شاء الله أن يكتبوه وبأيدي الناس متفرقة كثير منها وتسمى الملاحم‏.‏ وبعضها في حدثان الملة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص‏.‏ وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة‏.‏ وليس منها أصل يعتمد على روايته الملاحم‏:‏ فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء وهي متداولة بين الناس‏.‏ وتحسب العامة أنها من الحدثان العائم فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل‏.‏ والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونة لأن الرجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود وملكهم لعدوة الأندلس‏.‏ ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها‏:‏ طربت وما ذاك مني طرب وقد يطرب الطائر المغتصب وما ذاك مني للهو أراه ولكن لتذكار بعض السبب قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال‏.‏ ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره‏.‏ والظاهر أنها مصنوعة‏.‏ ومن الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين والنحسين وغيرهما وذكر ميتته قتيلاً بفاس‏.‏ وكان كذلك فيما زعموه‏.‏ وأوله‏:‏ في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا فافهموا يا قوم هذي الإشارا نجم زحل أخبر بذي العلاما وبدل الشكلا وهي سلاما شاشية زرقا بدل العماما وشاش أزرق بدل الغرارا قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي يصلب ببلدة فاس في يوم عيد حتى يجيه الناس من البوادي وقتله ياقوم على الفراد وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين‏.‏ ومن ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين منسوبة لابن الأبار‏.‏ وقال لي قاضي قسنطينة الخطيب الكبير أبو علي بن باديس وكان بصيراً بما يقوله وله قدم في التنجيم فقال لي‏:‏ إن هذ ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر وإنما هو رجل خياط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ‏.‏ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها‏:‏ عذيري من زمن قلب يغر ببارقه الأشنب ومنها‏:‏ ويبعث من جيشه قائداً ويبقى هناك على مرقب فتأتي إلى الشيخ أخباره فيقبل كالجمل الأجرب ويظهر من عدله سيرة وتلك سياسة مستجلب فإما رأيت الرسوم انمحت ولم يرع حق لذي منصب فخذ في الترحل عن تونس وودع معالمها واذهب فسوف تكون بها فتنة تضيف البريء إلى المذنب ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده‏.‏ يقول فيها‏:‏ وبعد أبي عبد الإله شقيقه ويعرف بالوثاب في نسخة الأصل إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك‏.‏ ومن الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوشني على لغة العامة في عروض البلد التي أولها‏:‏ دعني بدمعي الهتان فترت الأمطار ولم تفتر واستقت كلها الويدان وأنى تملي وتنغدر البلاد كلها تروي فأولى ماميل ماتدري ما بين الصيف والشتوي والعام والربيع تجري قال حين صحت الدعوى دعني نبكي ومن عذر وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة‏.‏ ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه ألغاز لا يعلم تأويله إلا الله‏.‏ لتخلله أوفاق عددية ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامة ورؤوس مقطعة وتماثيل من حيوانات غريبة‏.‏ وفي آخرها قصيدة على روي اللام والغالب أنها كلها غير صحيحة لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها‏.‏ وسمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سينا وابن عقب وليس في شيء منها دليل على الصحة لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات‏.‏ ووقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجريقي وكلها ألغاز بالحروف أولها‏:‏ إن شئت تكشف سر الجفر يا سائلي من علم جفر وصي والد الحسن فافهم وكن واعياً حرفا وجملته والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن أما الذي قبل عصري لست أذكره لكنني أذكر الآتي من الزمن بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها بحاء ميم بطيش نام في الكنن شين له أثرمن تحت سرته له القضاء قضى أي ذلك المنن ومنها‏:‏ وآل بوران لما نال طاهرهم الفاتك الباتك المعني بالسمن لخلع سين ضعيف السن سين أتى لا لو فاق ونون ذي قرن قوم شجاع له عقل ومشورة يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن ومنها‏:‏ من بعد باء من الأعوام قتلته يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن ومنها‏:‏ هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به في عصره فتن ناهيك من فتن يأتي من الشرق في جيش يقدمهم عار عن القاف قاف جد بالفتن بقتل دال ومثل الشام أجمعها أبدت بشجو على الأهلين والوطن إذا أتى زلزلت يا ويح مصرمن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن طاء وظاء وعين كلهم حبسوا هلكا وينفق أموالاً بلا ثمن يسير القاف قافاً عند جمعهم هون به إن ذاك الحصن في سكن ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر‏:‏ يأتي إليه أبوه بعد هجرته وطول غيبته والشظف والزرن وأبياتها كثيرة والغالب أنها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير أو معروف الانتحال‏.‏ حكى المؤزخون لأخبار بغداد‏:‏ أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدنيالي يبل الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه كأنها ملاحم ويحصل على ما يريد منهم من الدنيا وأنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكررة ثلاث مرات وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر وكان عظيماً في الدولة فقال له‏:‏ هذا كناية عنك وهومفلح مولى المقتدر ميم في كل واحدة‏.‏ وذكر عندها ما يعلم فيه رضاه مما يناله من الدولة ونصب لذلك علامات من أحواله المتعارفة موه بها عليه فبذل له ما أغناه به‏.‏ ثم وضعه للوزير الحسن بن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها وأنه يلي الوزارة للثامن عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدنيا في أيامه وأوقف مفلحاً هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النوع مما وقع ومما لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح‏.‏ ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز‏.‏ والظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجريقي من هذا النوع‏.‏ ولقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية وهو الباجريقي وكان عارفاً بطرائقهم فقال‏:‏ كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية وكان يتحدث عما يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معينين عنده ويلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم‏.‏ وربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع الناس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر وشغل العامة بفك رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزه‏.‏ فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة‏.‏ ‏"‏ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏


الساعة الآن 03:02 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى