منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب " أسباب ورود الاحاديث تحليل وتأسيس " (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8849)

ميارى 1 - 8 - 2010 02:23 AM

كتاب " أسباب ورود الاحاديث تحليل وتأسيس "
 

كتاب :أسباب ورود الأحاديث / تحليل وتأسيس

للدكتور : محمد رأفت سعيد

تقديم : عمر عبيد حسنه



الحمد لله الذي اختص الأمة المسلمة بالرسالة الخاتمة، وناط بها حملها، ونقلها، وحراستها، والدعوة إليها، وجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وربط استمرار الخيرية والتمكين، بحمل الأمانة، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، في الكتاب والسنة، الذين يشكلان المعيار المعصوم، ومركز الرؤية، ودليل العمل، والتعامل مع الحياة والأحياء.. هذا المعيار، أو هذه المعيارية، تعتبر من أخص خصائص الرسالة السماوية الخاتمة، حتى لا يداخلها أي شك، أو احتمال تحريف أو تبديل، فالقرآن معيار، يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) (المائدة:48)، فالهيمنة هنا تعني فيما تعني: المعيارية، والتصويب، والرقابة، لما داخل الكتب السماوية السابقة، من التحريف، والتبديل، والإخفاء، والإلغاء، والنسيان.

فالقرآن الخالد بهذا يصوب التاريخ، ويصوب الحاضر، ويصوب التوجه نحو المستقبل.

والرسول صلى الله عليه وسلم بسنته، وسيرته، وبيانه للقرآن، وتجسيده له في الواقع ، معيارُ أيضاً، يقول تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّرًا ونذيرًا )(الأحزاب:45)، ويقول: (ليكون الرسول عليكم شهيدًا )(الحج 78)، والشهادة تعني: بيان الحق، وإدانة الباطل، وكشف الزيف.

والأمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب والسنة، هي أمة معيارية أيضاً، يقول تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شُهداء على الناس… )(البقرة:143).

فالشهادة على الناس، والقيادة لهم، وفق منهج الله في الكتاب والسنة، هي من أخص خصائص المعيارية. ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة يستحيل عليها عقلاً وواقعاً، أن تتواطأ على الخطأ، لأنها تمتلك القيم المعيارية المعصومة، ويمثلها ويجسدها باستمرار ظهور الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله، وهي على ذلك، الأمر الذي يقتضي عصمة عموم الأمة، التي يشير إليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تجتمع أمتي على خط أ)، وفي رواية: (ما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا )(رواه الحاكم).

لأن من لوازم الرسالة الخاتمة، أو من لوازم الخاتمية، وتوقف النبوات، والتصويب: استمرار القيم في الكتاب والسنة، صحيحة سليمة من كل تحريف، أو تبديل، أو تأويل، ليصبح التكليف صحيحاً عقلاً وشرعاً، ويترتب الثواب والعقاب.. ومن لوازمها أيضاً، الخلود، الذي يعني: استمرار تجسد هذه القيم في الواقع، وقدرتها على إنتاج نماذج تثير الاقتداء، وتظهر بالحق في كل زمان ومكان، وتمتلك الإمكانية لمعالجة المشكلات الطارئة، والتعامل مع المتغيرات، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولعل من مقتضيات الخاتمية أيضاً، تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة، من أي تحريف أو تبديل، سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، أو تحريفه بالتأويل، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9)، وقال: (إنَّ علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قُرآنه * ثم إن علينا بيانه )(القيامة:17-19) ، فالتكفل بالحفظ للنص الإلهي، والحفظ والحراسة لبيانه عن طريق النبوة، يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة، وأخص خصائصها.

والصلاة والسلام على معلِّم الناس الخير، المبين للناس ما نزل إليهم، يقول تعالى في بيان مهمته: (وأنزلنا عليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل:44)، فجاء حفظ السنة والبيان النبوي، والعناية بهما، ثمرة لازمة لحفظ القرآن. وامتازت الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم السابقة واللاحقة، بالرواية والإسناد، تلك الوسيلة التي لا بد منها لحفظ القيم، والقيام بمهمة البلاغ المبين، والتوصيل، والنقل الثقافي، على الوجه الصحيح، التي اعتبرها الله سبحانه وتعالى سبيل النجاة، بقوله: (قل لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً * إلا بلاغاً من الله ورسالاته )(الجن:22،23)، وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقوله: (ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلِّغ من هو أوعى له منه )(رواه البخاري)، وقال: (فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع )(رواه الترمذي وأحمد)، وبذلك لم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على أهمية النقل (الرواية)، وإنما نبه أيضاً إلى فقه الرواية ووعيها (الدراية)، وبهذا استحق المسلمون وراثة القيادة الدينية، بعد نقض بني إسرائيل للميثاق، وتحريفهم للقيم السماوية.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة السابع والثلاثون: (أسباب ورود الحديث، تحليل وتأسيس)،للدكتور محمد رأفت سعيد، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في بناء شخصية المسلم المعاصر، وتقويم سلوكه ، وضبط حركته بالقيم الإسلامية، الأمر الذي لا يتأتى إلا بإعادة بناء المرجعية، وتشكيل مركز الرؤية، التي تحققها معرفة الوحي في الكتاب والسنة، وتنطلق منها، وتمتد بها معارف العقل، ليستأنف المسلم دوره، ويستعيد فاعليته لحمل الأمانة، التي كلفه الله بها، وتحقيق العبودية لله، وإلحاق الرحمة بالناس أجمعين، وإبصار طريق العمران البشري، الذي ينسجم مع نسقه الحضاري، ومعادلته الاجتماعية، في ضوء قيمه، واستصحاب تطبيقها في الواقع، من خلال تحديد موقعه بدقة في المسيرة التاريخية للأمة المسلمة، بعيدًا عن الأنماط، والقيم الاستعمارية لحضارة الغالب، المفروضة عليه.

وقد تكون المعادلة الصعبة المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم، والتي يُطْلبُ إليه الإحاطة بعلمها، ليكتشف الخلل، ويبصر سبيل الخروج: هي في انتمائه لماضٍ متألق، على الأصعدة المتعددة، ومعايشته لواقع متخلف، يعاني منه على مختلف الأصعدة أيضاً، على الرغم من أن أمته المسلمة، صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة، وأنها تمتلك الخطاب الإلهي السليم، الذي يصوب طريقها، ويمنحها الطاقات الفاعلة، والقيم الروحية، والتجربة الحضارية التاريخية، كما تمتلك الإمكانات، والطاقات المادية الهائلة، المركوزة في بلادها، والتي يمكن - لو أُحسن توظيفها - أن تقود حركة العالم، وتعيّن وجهته، وتسترد إنسانية إنسانه، وفقاً لمنهج الله.

وإذ حق لنا أن نقول: بأن الحاضر هو مستقبل الماضي، أدركنا أن واقعنا وحاضرنا، جاء ثمرة لأصول حضارية، ومذهبيات وفلسفات عقائدية، بعيدة عن قيمنا،وتاريخنا، ونسقنا الحضاري؛ وأن فجوة التخلف التي نعاني منها، أو المعادلة الصعبة التي نعيشها، إنما هي بسبب انسلاخنا عن قيمنا في الكتاب والسنة، وليس بسبب التزامنا بها، وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا، ونحاول قياسه، وتصويبه، بقيم غريبة عنه، مع أن الأمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض، وإبصار سبل الخروج، أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها، بأصولها وقيمها الحضارية، لا بأصول وقيم حضارية غريبة عنها، لنكتشف الخلل، ونصوّب المعادلة.

وإذا صح لنا، من استقراء التاريخ، ودراسة سنن التداول الحضاري، القول: بأن نهوض أي مجتمع، مرهون إلى حد كبير، بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، أدركنا في ضوء ذلك، قولة الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأدركنا الأبعاد الكاملة، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أبو داود في الملاحم: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".. هذا التجديد، الذي يعني فيما يعني: العودة إلى الأصول، والينابيع الأولى، ومحاولة إزالة الغبش، واستئصال نابتة السوء والابتداع، وتحكم بعض التقاليد الاجتماعية، واختلاطها بالتعاليم الشرعية، واستلهام التطبيق في المجتمع الأول القدوة، واستدعاء المناخ التربوي والنفسي والثقافي، لظروف وشروط الميلاد الأول، الذي يمكن من التجديد، والانبعاث، وإعادة النهوض.

ومن هنا يتأكد لنا أيضاً، وفي كل الظروف والأحوال، أهمية العودة باستمرار إلى دراسة الكتاب والسنة، كقيم معيارية؛ ودراسة السيرة النبوية، كأنموذج بياني تطبيقي، لتنزيل هذه القيم على الواقع، والأخذ بيده للارتقاء، وتقويم سلوكه بها؛ والتبصر بأسباب النزول للقرآن، والورود للحديث، كوسائل إيضاح معينة على فهم آليات التطبيق والتنزيل للقيم على الواقع، وكيفيات التعامل معها، من خلال الاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة.

ولعل من الأمور الأساسية، التي لا بد من مداومة التأكيد عليها، وتكرار القول فيها: أن من لوازم الخاتمية وتوقف النبوة: سلامة خطاب التكليف، من التحريف، والتبديل والانتحال، والغلو، والتأويل، حتى يكون التكليف صحيحاً، ويترتب عليه الثواب والعقاب - كما أسلفنا - ويتحقق العدل الإلهي.. وأن من لوازم الخاتمية أيضاً: الخلود، وتجرد النص الإلهي في الكتاب والسنة، عن حدود الزمان والمكان، وأسباب النزول والورود، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو مقرر عند علماء الأصول، فالخلود يعني: القدرة على العطاء، والامتداد، وتوليد الأحكام، والبرامج، والاستجابة لمعالجة المشكلات، ومواجهة المتغيرات، في كل زمان ومكان، والقدرة على إنتاج النماذج التي تظهر بالحق، وتثير الاقتداء في كل زمان ومكان أيضاً.

وقد يكون من أخطر الإشكالات والإصابات، التي لحقت بالنص السماوي السابق، هي في عملية تحريف الكلم عن مواضعه.. والتحريف كما هو معلوم، قد يكون بتبديل الألفاظ، ليتغير المعنى والتكليف المطلوب، تبعاً لذلك، أو تغييب وإخفاء بعض ما أنزل الله، وإبراز الآخر، لكي يتوافق مع الرغبات والأهواء، ويحقق المصالح الموهومة في الدنيا.. هذا التقطيع للرؤية الشاملة، التي يمنحها النص الإلهي، أو هذا الإيمان، ببعض الكتاب والكفر ببعض، هو سبب الخزي الذي لحق بأهل الكتاب، والذي اعتُبر من علل التدين، وأسباب الانقراض، التي حُذِّر المسلمون من الوقوع فيها، يقول تعالى: (فبما نقضهم مّيثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكِّروا به ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )(المائدة:13).. وذاك اللون من التحريف الذي وقع به أهل الكتاب، يتناسب مع شيوع العامية، وانعدام وسائل الكتابة، والقراءة، جاء ليمثل مرحلة من مراحل التحريف.. ويكاد هذا أن يكون مستحيلاً بالنسبة للمسلمين، لأن الله تكفل بحفظ النص السماوي، وتكفل بحفظ بيانه أيضاً، كما هو معلوم، ولشيوع الكتابة والقراءة والحفظ، التي بدأت منها الخطوات الأولى للرسالة الإسلامية.

وقد تكون المشكلة بالنسبة للمسلمين، أو احتمالات التحريف، هي: الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، لذلك كان من الأهمية بمكان - إلى جانب حفظ النص الإلهي، الذي تعهد الله بحفظه، وقراءته - حفظ السنة، والتعهد بحفظ البيان النبوي أيضاً: (ثُمّ إنّ علينا بيانه )(القيامة:19) الذي يحول دون التحريف، أو التأويل، الذي يعني عدم مس ألفاظ وحروف النص، بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى تأويلاً عما وضع له اللفظ.

فالسنة والسيرة هما البيان العملي، الذي يحول دون التأويل المنحرف، والذي يمنح ملكة فقه التنزيل للنص على الواقع، لذلك فالاجتهاد يعني: تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة (سبب النزول وسبب الورود)، والامتداد به، وتعدية الرؤية، وامتلاك القدرة في التنزيل على الواقع، بواسطة العقل القائس.. نقول: بأن العقل الذي أطلقه الإسلام لتحقيق خلود النص، بالاجتهاد، وفسح أمامه آفاقاً رحبة للامتداد به، له أن يمتد، ويمتد، ويلمح آفاقاً بعيدة، ويولد أحكاماً وروئً، ويضع من البرامج ، في ضوء قيم، ومقاصد النص الإلهي، ما شاء الله له الامتداد، ليحقق الاستجابة لكل جديد، ومتغير.. لكن لا يجوز للعقل، أو الاجتهاد، والتفسير بالرأي، بحال من الأحوال، أن يخرج، أو يغير، أو يلغي، الإطار العام للتفسير بالمأثور، أو البيان النبوي، وإلا كان الخروج، والتأويل الفاسد، وتحريف الكلم عن مواضعه.

لذلك يمكن أن نقول: إن البيان النبوي، أو التفسير بالمأثور، (الذي يشكل سبب النزول والورود وسيلته المعينة)، يشكل الإطار المرجعي، والضابط المنهجي، والنسق المعرفي، لأي بيان أو استنباط، أو تفسير بالرأي للنص، كما يعتبر من عواصم العقل من التجاوز، والانحراف، والإلغاء، والقطيعة، أو التقطيع للنص.. فللمجتهد أن يكتشف آفاقاً وأبعاداً لمقاصد النص، ومراميه، في ضوء الظروف المستجدة، لكن ليس له أن يتجاوز البيان النبوي، أو يخرج عليه، باسم التفسير، أو التأويل، الذي يقود إذا ما تجاوز المأثور، إلى التحريف في المقاصد، والانحراف في السلوك.

وقد يكون -ولأمر يريده الله- انقطاع استمرار الرشد الكامل، بعد جيل القدوة، الذي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، بقوله: (…فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ… )(رواه أحمد)؛ ليبقى هذا الجيل وحده، هو محل الاقتداء والتأسي، ولا تحسب الممارسات التاريخية للأفراد والحكام، على الإسلام، وذلك حتى لا يصبح التاريخ، أو الأشخاص، هم المعيار.

لذلك كان التفسير بالمأثور، أو فقه التنزيل على الواقع، في السنة والسيرة، وفهم خير القرون، هو المأمن، والعاصم، من التأويل الباطني، أو الإشاري، أو العرفاني، الذي يخرج عن كل الضوابط المنهجية، ويعتمد التذوق الذاتي، وبذلك يصير لكل إنسان كتاب وسنة.

ولعل مفرق الطريق، أو نقطة الانطلاق للتفسير العرفاني الصوفي والباطني غير المنضبط، تبدأ من توهين إسناد السنة، أو البيان النبوي.

ونحن بسبيل الكلام عن التفسير بالمأثور، وأهمية اعتماده كإطار مرجعي، في النظر العقلي، والتفسير بالرأي، لا بد أن نذكر أن الكثير من أصحاب التفسير الباطني، والصوفي، والإشاري، أو بكلمة مختصرة: التفسير العرفاني، حاولوا توهين إسناد ومتون بعض الأحاديث المبينة للقرآن، ليكون ذلك مندوحة لهم، للخروج، والرفض، والتجاوز، وإذا لم يجدوا في إسنادها ومتونها وهناً، ردوها على أنها من خبر الآحاد، الذي يفيد الظن، ولا يحقق علم اليقين. مع أن المعتمد عند جميع العلماء، أن أحاديث الآحاد، وأخبار الآحاد، يؤخذ بها في أحكام الفروع، وفي بيان آيات القرآن، أي في التفسير بالمأثور، حتى في مجال بيان آيات العقائد، عند من لم يعتمدها في إثبات العقائد.. وقد يكون الأمر المستغرب حقًا، أن تُلغى أحاديث الآحاد، لأنها تفيد الظن -وقد توفر لها صحة النقل، بشروطه المعروفة عن المعصوم- باجتهاد لا يخرج عن نطاق الظن، من شخص لا عصمة له، أي يرد الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم -لأن سند نقله، لا يفيد اليقين- باجتهاد ونظر عقلي، ممن يجري عليه الخطأ والصواب -بأصل الخلق- حيث الأصل في اجتهاده الظن، وعدم اليقين.

وأسباب النزول والورود -وهي من البيان النبوي- هي أشبه ما تكون بوسائل إيضاح، لتنزيل النص على الواقع، ولتكون أداة معينة على التنزيل في كل زمان ومكان. لكن هذه الوسائل من أسباب النزول والورود، لا تعتبر قيوداً للنص، تجمده في نطاق المناسبة، بمقدار ما تمنح من فقه للتنزيل على الواقع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - كما أسلفنا- ذلك أن أسباب النزول والورود، أو البيان النبوي، هو أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية، التي تعتبر الأساس للانطلاق منها، والتصنيع في ضوئها، واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة، داخل المجتمع، التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبرية، ولا تخرج عليها.

وقد يكون من المفيد، أن نتوقف قليلاً، عند قضية فقه التنزيل، التي يمكن أن نعبر عنها: بالاجتهاد في مورد النص..والاجتهاد في مورد النص الذي نعنيه، أمر آخر غير الاجتهاد المرفوض، حيث لا اجتهاد مع النص، على خلاف ما هو شائع من أنه لا اجتهاد في مورد النص، خاصة إذا اعتبرنا أن مورد النص، هو محله، وأن هذا المحل، لا بد أن تتوفر فيه استطاعات معينة، ليصبح أهلاً ومحلاً لتنزيل الحكم - النص - عليه، ذلك أن فقه المحل، يعتبر من الأهمية بمكان، إلى جانب فقه النص، أو حفظ النص.. فحفظ النص، أو حمله، أو فقه حكمه، يمثل نصف المطلوب، أو نصف الحقيقة، ويبقى النصف الآخر، وهو فقه المحل، أو الاجتهاد في معرفة استطاعة المحل، ومدى إمكانية حصول التكليف، وتنزيل النص عليه، وهي قضية على غاية الأهمية، لو تأملنا في الفقه النبوي، و فقه خير القرون، لوجدنا أنها مدار ومدى التكليف كله، وقد تنبه لأهميتها بعض علمائنا بشكل خاص.. وقد يكون من المفيد استدعاء بعض ما قدموه إلى ساحة الاهتمام المعاصر: يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (المتوفى عام 790هـ): "ليس كل ما يُعلم مما هو حق، يُطلب نشرُه، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب على الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص ".

ويضيف موضحاً، ومفصلاً، ومنبهاً إلى المنهج العلمي، في التعامل مع أحكام الشرع، وتوجيهاته، وقضايا الأفراد والمجتمع، فيقول: "ليس كلُّ علمٍ يُبث وينشر، وإن كان حقاً، وقد أخبر مالك عن نفسه، أنه عنده أحاديث، وعلماً، ما تكلم فيها، ولا حدَّث بها، وكان يكره الكلام، فيما ليس تحته عمل، فتنبه لهذا… وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر مآلها، بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبلها العقول، وإما على الخصوص، إن كانت غير لائقة بالعموم.. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري، وفق المصلحة الشرعية والعقلية" (الموافقات 4/189-190).

فالأمر لا يتعلق فقط بمعرفة الحكم، وما يطلبه الشرع منا، والتأكد منه، والانطلاق لإنجازه، بل يتعلق أيضاً، باستكمال أبعاد أخرى تخص المحل ومساحة التنفيذ، والتنزيل على الواقع وكيفياته، ومنهجية ومرحلية الإنجاز، خصوصاً في مراحل انتقاص آثار النبوة في الخلق، وضعف صلة الناس بالإسلام فهمًا وممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد إلى بصيرة نافذة، وعقل راشد، وفقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة، التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمصلحة والمفسدة، وهو ما عناه الفقهاء بقولهم: "ليس الفقيه هو من يعرف: بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة، بل الفقيه هو الذي يعرف: خير الخيرين ، وشر الشرين".

فالعَالِمُ كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله (661-728 هـ): "تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت، عن الأمر والنهي، أو الإحاطة.. كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر، عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر.

فالعَالِمُ، في البلاغ والبيان كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء، إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكام، إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها.

فالمحيي للدين، والمجدد للسنة، لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه، والعمل به، كما أن الداخل في الاسلام، لا يمكن حين دخوله، أن يُلَقّنَ جميع شرائعه ، ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن أول الأمر، أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإن لم يطقه، لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً، لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي، بما لا يمكن علمه وعمله، إلى وقت الإمكان، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه، إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة، أو محرمة في ا لأصل، لعدم إمكان البلاغ، الذي تقوم به حجة الله، في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان في الأصل" (مجموعة الفتاوى 20/58-60).

وقد تكون الحكمة من أن القرآن، جاء ترتيب آياته وسوره توقيفيًا من الله، ولم يرتب بحسب تاريخ وأسباب النزول - والله أعلم - إنما هي لتحقيق الخلود، وتحرير النص الإلهي الخاتم، من قيد الزمان والمكان والمناسبة، وتقديم الرؤية الشاملة، التي تصلح لكل الأحوال، والأزمان، والأماكن، والمتغيرات، وبذلك يمكن تنزيل أحكامه على الواقع، في ضوء استطاعاته وظروفه، دون التجمد على حال واحدة، بحيث يصبح الاجتهاد المطلوب: أين يكون موقع الحاضر - من خلال ظروفه، واستطاعاته - من الرؤية الشاملة؟ وما هي الأحكام التي تناسبه في هذه المرحلة، في إطار هذه الرؤية؟

لذلك فقد يكون فقه المحل، وما يتنزل عليه من الأحكام، بحسب استطاعته، من أهم الأمور المطلوبة للفقيه المسلم اليوم، ذلك أن الكثير من النصوص في الكتاب والسنة، أحاطت بها ظروف، وشروط، ومناسبات، لا بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع. ولعلي أعتبر سبب النزول، وسبب الورود، نوعًا من فقه المحل، وإعانة للمجتهد على إدراك وأهمية توفر الشروط والظروف نفسها، للتنزيل.

فعندما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي - إذا لم نعلم السبب - قد نقع في مشكلة تأبيد التحريم، في الأحوال كلها، بينما لو علمنا سبب الورود، ندرك أن التحريم كان بسبب طروء الفقر: "للدافة"، ثم لما انتهت الحال التي عليها الناس، عاد الحل، وسُمح بالأكل والادخار بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم - أي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث - من أجل الدافة التي دفت، فكلوا، وادّخرو، وتصدقوا" (رواه مسلم) وقوله: (كلوا وأطعموا وادّخروا، فإن ذلك العام -أي العام الذي نهى فيه عن الادخار- كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها )(رواه البخاري).

إن هذا الفهم للمحل واستطاعته، وظروفه، الذي يمنحه لنا فقه سبب النزول والورود، يدفعنا قبل تنزيل الأحكام على الواقع، إلى فهم ظروف وشروط الواقع، وهذا هو الاجتهاد المطلوب في مورد النص، ومعرفة مدى استطاعته، وحدود تكليفه.

والقضية التي لا بد أن نعرض لها أيضًا، هي: أننا أثناء التنزيل للنص على الواقع، الذي قد يقتضينا: الاستثناء، أو التأجيل، أو التدرج في الحكم، فإن ذلك لا يعني أن هذه الحال التي عليها المحل، هي الصورة النهائية، أو المرحلة النهائية للحكم الشرعي، وإنما يعني مرحلة في طريق الترقي، وتحضير المحل، ليكون أهلاً للحكم النهائي.. والمشكلة كل المشكلة - في نظري - قد تكون في هذا الفقه الغائب، الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه (سبب النزول والورود)، ذلك أن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة، شاملة لجميع الأحوال والظروف، التي يكون عليها الناس، حتى يرث الله الأرض، ومن عليها، لكن تبقى المشكلة المطروحة هي: الفقه بكل حالة، وما يناسبها من الأحكام، في هذه المرحلة، وتحضيرها لما بعدها من المراحل، في طريق التدرج والترقي للوصول إلى الكمال.

فالأحكام الشرعية، أشبه ما تكون بالأدوية المتوفرة، لكل الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، لكن تبقى المشكلة، أو الفقه المطلوب والغائب، هو : أي دواء من الأدوية يحتاج إليها الحال، والمرض الذي نعاني منه؟

إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود، أصاب عملية الاجتهاد والتجديد، أو فقه التنزيل، في مقاتل، وجعل الكثير من الاجتهادات، هي أقرب للتجريدات النظرية ، منها إلى البصارة والفقه العملي الميداني، وجعلنا ننزل النص، أو الحكم الشرعي، على غير محله، وتوهمنا أن كل حكم، يصلح لكل الأحوال، أو أنه ينزل بإطلاق، دون مراعاة الشروط والظروف وملابسات الحال، حتى أصبحنا نوقع النّسخ في غير موقعه، وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم، والدعوة، والبلاغ، ونعطل الكثير من الأحكام، على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع الإسلامي الأول، في مراحل تحويله إلى الإسلام، ثم تجاوزها إلى ما فوقها، فأصبحت منسوخة أو معطلة، دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة، يعني خلود المشكلات التي عرضا لها، والحلول التي قدماها، وأن الأمة في تاريخها الطويل، سوف تتعرض لحالات كثيرة من السقوط والنهوض، والهزيمة والنصر، والضعف والقوة، وأن لكل حالة حكمها، وفقهها، وأنه لا يكفي حفظ النصوص، وفهمها، بعيدًا عن أسباب نزولها، وورودها، التي تعين على فهم الحال التي تتنزل عليه.

وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان، وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية إلى الأشباه والنظائر، وقياس المستجد، الذي لا نص فيه، على المشابه الذي فيه نص وحكم، في ضوء مقاصد الدين وكلياته العامة، بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته، وقدرته، وما يلائمه من النصوص والأحكام.. فالقضية الاجتهادية، ذات أبعاد متعددة، وحالات مختلفة.

وقد تكون المشكلة، أو الإشكالية، التي يعاني منها العقل المسلم، بشكل عام، أو المعادلة الصعبة، التي لا بد من حلها وتصويبها، حتى يستقيم الحال، أن الكثير من الذين يفقهون النص، يجهلون العصر، وأن جل الذين يفهمون العصر، يجهلون فقه النص، وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في الكتاب والسنة، إنما يتنزل من خالق الإنسان، العالم بأحواله وحاجاته الأصلية، التي فطر عليها، فإن فهم العصر، محل تنزيل الحكم، هو من فقه الحكم أيضًا.. ولعلنا نقول: إن فهم أسباب النزول والورود، يشكل مدخلاً أو منهجا للفقيه والباحث، لإدراك أهمية فهم العصر، والظروف والملابسات التي تحيط بالحكم الشرعي، وليس فقط فهم أبعاد النص.

إن فهم العصر، لا يتأتى إلا بإدراك السنن والقوانين الاجتماعية، والتمكن من آليات الفهم الاجتماعي، التي لها علومها ومعارفها، والتي لم يمتد بها المسلمون بالأقدار المطلوبة، بحيث أصبح خطابهم في توصيل الإسلام، وبيان أحكامه إلى الناس، يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون، دون معرفة ما هو كائن، وما يناسبه من الأحكام في هذه المرحلة، ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس، حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون.

وما لم تحل هذه المعادلة في العقل المسلم، فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط الأحكام، وبعدها عن مواقع التنزيل.

وهنا أمر آخر، قد يكون من المفيد التوقف عنده: فلقد بذل علماؤنا وما يزالون، جهودا فائقة ومتميزة، في مجال استنباط الحكم الشرعي، أو الفقه التشريعي، وكان ميدان اجتهادهم ونظرهم هو آيات الأحكام، التي لا تزيد عند أكثرهم على خمسمائة آية، وعلى أحاديث الأحكام أيضاً، وكان نظرهم في هذه الآيات والأحاديث، لا يتجاوز بعض مقاصدها وأغراضها في بيان أحكام الحلال والحرام.

ومع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وتأكيدنا لأولويته في النظر العقلي، والفقهي، حتى يكون المؤمن على بينة من أمره، فيما يفعل وما يدع، ذلك أن خلاصة الشريعة عند علماء الأصول، تكاد تتلخص في كلمتين: افعل، أو لا تفعل، ليطابق سلوك المسلم، منهج الله وهديه؛ نقول: مع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وما اقتضاه من مناهج في أصول الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، فإنه يبقى يشكل بعض مقاصد القرآن والسنة، ويمثل بعض جوانب الرؤية القرآنية والبيان النبوي.

ولعل السبب في ذلك، لعل السبب هو أن الجيل الأول، أو المجتمع الإسلامي الأول، كان يتمثل عملـيَّا الرؤية القرآنية الشاملة، في تصوره، وسلوكه، ولم يكن بحاجة إلى الاجتهاد، وتوليد القواعد والمناهج والعلوم في شعب المعرفة المختلفة، أو في الميادين المعرفية الأخرى، الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والتربوية، وما إلى ذلك، كحاجته إلى فقه الحلال والحرام.

وكم كان الإنسان يتمنى أن يتوجه الاجتهاد، وتؤصل مناهجه أيضاً، في ميادين الحياة المختلفة، ولا يقتصر على ميدان الفقه التشريعي.. كم كان الإنسان يتمنى أن تتوجه الاجتهادات إلى إنتاج فقه تربوي، وفقه اجتماعي، وفقه سياسي، وفقه اقتصادي، وفقه أخلاقي. أو بكلمة مختصرة: (فقه حضاري) بشكل عام، وأن تكون آيات القرآن والأحاديث كلها محلاً للاستنباط والاجتهاد، وألا يقتصر على بعض المقاصد، أو بعض الآيات والأحاديث.. فبمقدار ما نعتقد أن الفقه التشريعي، يشكل ضرورة وحاجة ودليلا لسلوك الإنسان، بمقدار ما نعتقد أن بناء الإنسان، وتشكيله طبقاً للرؤية القرآنية، في التربية، والاجتماع، والسياسة، وتحضيره ليصبح محلاً للحكم التشريعي، ضروري أيضاً، ذلك أن الاعتناء بتوليد الأحكام التشريعية فقط، بعيدًا عن بناء الإنسان ، محل الحكم، والامتداد بشعب المعارف المختلفة، قد يفتقد قيمته العملية إذا اقتصرنا عليه.. فلا قيمة للحكم إذا افتقدنا محله، الذي هو الإنسان.

إن الاهتمام بالحكم التشريعي، المعرفة التشريعية، أو اعتبار أن القرآن والسنة مصدر للفقه التشريعي فقط، يشكل خللاً لا بد من استدراكه، ببذل الجهود لاعتبار القرآن وبيانه الخالد، مصدرا للمعرفة بشكل عام، أو مصدرًا لشعب المعرفة جميعا، ذلك أن آيات وأحاديث الأحكام التشريعية، هي بعض آيات القرآن وبيانه، وأن الأحكام التشريعية هي بعض مقاصد آيات وأحاديث الأحكام.

إن هذا التبعيض في التعامل مع آيات القرآن عمليا، وترك بقية آياته ومقاصدها للتبرك، أقول: إن هذا التبعيض في التعامل، ولا أقول في الإيمان بآيات القرآن كلها، أورثنا الكثير من الخزي، والتخاذل، والتخلف عملياً.

إن مجتمعات الأنبياء، وما كانت تعانيه من أمراض وعلل اجتماعية، وما كان يشيع فيها من مسالك وأخلاق، ومواقف الكبراء وأتباعهم، من دعوة الأنبياء، يعتبر منجماً لا ينضب للفقه الاجتماعي، أو لعلم الاجتماع.. كما أن السنن التي أشار إليها القرآن الكريم، والحديث الشريف، واستشهد لها من تاريخ البشرية على الأرض، وطلب من الإنسان التوغل في التاريخ الإنساني ، للتأكد من حتميتها، ونفاذها، وتحدى بترتب عواقبها نفسها، إذا توفرت مقدماتها؛ يعتبر من القوانين الاجتماعية الصارمة، الخالدة في الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي، والتي ما تزال معطلة في حياة المسلمين.. ولعل الكثير من الإصابات التي تلحق بنا، إنما هي بسبب الغفلة عن هذه السنن الاجتماعية، والنفسية، والمادية، التي ما تزال تعمل عملها فينا، دون أن نلتفت إليها، ونظن أن غاية الاجتهاد، والتأصيل، والمنهجية، هي في الوصول إلى الفقه التشريعي، أو الاقتصار على المطالبة بتطبيق الشريعة فقط.

إن الكثير من المخاطر والإصابات الفكرية، أو الغزو الثقافي لأمتنا، إنما جاء بسبب منا، لأننا توقفنا عن الامتداد بالكثير من شعب المعرفة، التي تمنحها الرؤية القرآنية والحديثية، في المجالات الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والتربوية، والأخلاقية، ولم نؤصل لها المناهج والأصول، ونستنبط قوانينها أو نظرياتها من مصدرها في الكتاب والسنة.

إن توقفنا في ذلك، أحدث فراغًا مخيفًا، سمح بامتداد المناهج والآليات والنظم المعرفية الغربية، وطغيانها على رؤيتنا القرآنية، ومرجعيتنا الإسلامية ، ولسوف تستمر هذه الإصابات، وتمتد، وتتأصل، وتتجذر في مجتمعنا، ما لم نمتلك القدرة على جعل الكتاب والسنة مصدراً للمعرفة بشكل عام، مصدرًا للفقه التربوي، والفقه السياسي، والفقه الاجتماعي، والأخلاقي.. إلخ، ونحسن التوجه صوب الإنسان، محل الحكم ، بالقدر نفسه، أو يزيد، عن توجهنا إلى تأصيل الحكم واستنباطه.

وقد يكون من البدهيات التي لا بد من إثباتها: أن مدرسة الحديث، أو أهل الأثر والاجتهاد الذي يعتمد البيان النبوي كإطار مرجعي، كانوا وما يزالون، هم السد العظيم، الذي حال دون تسلل الخرافة بشكل أعم، وتفشي البدع، وتجاوزات الرأي، وكانوا دائمًا وراء حركات التصويب، وإعادة الأمة إلى الينابيع الأولى، والوقوف بالمرصاد لكل دارس، أو باحث، أو عابد، تضل به الطريق، إلى درجة لم يعد أحد معها أن يجرؤ على القول في الدين بدون تحقيق وتثبت.

والحقيقة أن الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء، وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ، في حفظ شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة من قبلهم، حيث حفظوا القرآن، وكتبوه، ورووه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، متواترًا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، كما حفظوا كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو المبلغ عن ربه، والمبين لشرعه؛ تعتبر مفخرة من مفاخر الحفظ.، والنقل الثقافي.

لكن على الرغم من القيمة العظيمة، التي قدمها علماء مصطلح الحديث لتنقية السنة من الدخيل،وما قام به الباحثون في تحقيقهم للنصوص ونشرهم للمخطوطات، إلا أن هذه الجهود إذا توقفنا عندها، تبقى تمثل نصف الطريق إلى المطلوب، أو تشكل الوسيلة والمقدمة، التي لا بد من توفيرها، لتبدأ المرحلة الأهم، والتي تشكل المقصد والنتيجة، وهي فقه هذه النصوص، والإفادة منها، في الإجابة عن أسئلة الحاضر، واستشراف وتشكيل المستقبل، واكتشاف أسباب السقوط والنهوض، وإعادة البناء.

إن حامل الفقه، وناقل الفقه، ليس بالضرورة أن يكون فقيهًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "نضّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلّغها عني، فرُبّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (رواه ابن ماجة - وهو صحيح).. فالحمل، والتوصيل، والنقل الثقافي، لا بد منه، لأنه يشكل المقدمة والأساس، لكن لا قيمة كاملة لهذا الحمل، إذا لم يحقق الفقه، والحل المطلوب لمشكلات الحاضر.

وبعــــد:

فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة، قد يتميز بطبيعته التخصصية الدقيقة، التي لم يألفها قارئ السلسلة، حيث كان خطابنا له، أو الموقع الذي اخترناه للسلسلة، مخاطبة المثقف المسلم بشكل عام، وترك شأن الكتب المتخصصة إلى مجالاتها، لكن هذا - في نظرنا- لا يمنع، بين الفترة والأخرى، من تقديم بعض الكتب التخصصية، التي تشكل لنا نقاط ارتكاز، وتسهم ببناء المرجعية، وتعيد إلى بيان كيفية التلقي عن الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، وتفتح نوافذ على العلوم الأصلية، وتمنح الضوابط الضرورية، للحيلولة دون المجازفات، والجنوح الفكري، وتكسب الاطمئنان إلى مواريثنا الفكرية، التي تضمها القيم في الكتاب والسنة، وتحقق لنا التقوى من الزلل والانحراف.

ميارى 1 - 8 - 2010 02:24 AM

المقدمة

نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد:

فقد شغلت بموضوع أسباب ورود الحديث منذ وقت طويل؛ يعود إلى مرحلة الدراسة للماجستير؛ فقد كانت تتطلب مني تتبع مرويات "معمر بن راشد الصنعاني" في كتب السنة، باعتباره من أوائل من جمع العلم؛ لأتعرف على مصادره، ومنهجه، وأثره في رواية الحديث من خلال هذه المرويات.

وأتاحت لي هذه الدراسة تأمل مرويات كثيرة، وجدت بعضها يرتبط ببعضها الآخر ارتباطًا لا سبيل إلى حسن الفهم لها جميعًا، إلا بتجميع هذه الروايات في موضع واحد، وفي مصنف واحد.

فهو ارتباط السبب بالمسبب أحيانًا، وارتباط العام بمخصصه أحيانًا، والمطلق بمقيده، والسؤال بجوابه، والوصف بملابساته وظروفه، والحكم بمقاصده.

واستمر البحث والجمع في هذا، وتأخر إخراج نتائج هذا البحث وصياغته إلى هذا الوقت رغبة في العثور على ما فقد من جهود مذكورة في هذا الموضوع.

ولما استقر الأمر على الجزم (النسبي) بعدم وجود المؤلفات المذكورة اسمًا وعنوانًا، لم أجد مبرراً في تأخير إخراج هذا البحث، محللاً ما وجدت من مؤلفات في موضوعه، ومؤسساً للمنهج الذي أراه في تقديم مصنفات جديدة، تأخذ بإيجابيات الأعمال السابقة، وتتجاوز ما يمكن الاستغناء عنه من الأمور التي وجدت في بدايات التصنيف في هذا الموضوع.

ورأيت ضرورة التقديم لهذا بفصل تمهيدي، أعرض فيه أهم الأسس في حسن الفهم للأحاديث النبوية، والتي تقي من الزلل في التعامل معها. وأتناول منها الأساس اللغوي، والتوثيق، والجمع بين الأحاديث، وإعمال قاعدة النسخ، والترجيح ووجوهه، مع تقديم بعض النماذج التي توضح هذا، لنتناول بعد ذلك بالتفصيل البحث في أسباب ورود الحديث لنتعرف على بداية التأليف في أسباب الورود، وارتباط سبب الورود بسبب النزول، واعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي، ومعرفة السببين تعين على إدراك حقيقة السبب وأبعاده، وتزيل الإشكال في الفهم.

وأسباب الورود عند السابقين: البلقيني، والسيوطي، وابن حمزة الدمشقي.

وفي الخاتمة أهم النتائج، وتقديم المنهج لتصنيف جديد.

والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:25 AM

أسس التعامل مع الأحاديث النبوية

إن حسن الفهم لما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، يقتضي تحصيل مجموعة من الأسس التي لا غنى عنها لقارئ السنة، تحقيقًا لهذا الفهم الصحيح.

وإهمال أساس من هذه الأسس يحدث اضطرابًا في الفهم واختلافًا بين النصوص؛ ليس اختلافًا ذاتياً في النصوص، وإنما اختلاف نشأ من هذا التقصير في التحصيل لدى الناظرين في السنة.

فلا يتوقع الاختلاف والتضاد بين النصوص، عندما يكون المصدر واحدًا، فإذا أضفنا إلى وحدة المصدر عصمته لأنه من وحي الله، فمحال أن يوجد بينها اختلاف (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا )(النساء:82). فالاختلاف في نصوص الوحي، ليس ذاتيًا فيها، وإنما هو من طرف واحد -إن حدث- وهو طرف الناظرين فيها بغير كفاءة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من وحي الله وتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيانه له، وتشهد بذلك آيات القرآن الكريم (وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم )(النحل:44). وقال تعالى: (ثُمّ إنّ علينا بيانه )(القيامة:19). فالبيان للقرآن الكريم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا البيان تكفل به تعليمًا لرسوله (وعلّمك ما لم تكن تعلم )(النساء:113). وحفظًا له (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9).

ولذلك فإن وجود الاختلاف والتضاد، لا يتجاوز عقول الناظرين في السنة. والتخلص منه، يكون بالوقوف على هذه الأسس التي نذكرها في هذا المبحث على سبيل الإجمال، مصحوبة بنماذج من تصحيح الفهم تشهد لسلف هذه الأمة، بالعناية بهذه المسألة لنفرد بعد ذلك بشيء يسير من التفصيل أساسًا يحتاج إلى تحليل ما كتب فيه -وهو يسير- وتأسيس منهج نسير عليه، طلبًا للمزيد من هذه النماذج، التي عُني فيها بأسباب ورود الحديث. فمن هذه الأسس:


ميارى 1 - 8 - 2010 02:27 AM

الأساس اللغوي



وهو الأساس الأول في فهم النص، وهو أساس عام لكل نص في كل لغة، فلا يتوقع فهم لمن لا يعرف لغة "ما" لنص مكتوب بها.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتميز به اللغة العربية -التي نزل بها القرآن الكريم (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسانٍ عربيٍّ مُبين )(الشعراء:193). وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه، وهو أفصح العرب- من أساليب متعددة منها الحقيقة والمجاز، وما طرأ على المفردات اللغوية على سعتها من تغير في الدلالات، وما تتسع له اللغة العربية من الاشتقاق، وغير ذلك مما تحفل به مراجع اللغة بنحوها وصرفها وفقهها وأساليبها وبلاغتها وآدابها - عرفنا كيف يخطئ في الفهم، ويقع في التناقض، من يجهل هذه الجوانب اللغوية في التعامل مع النصوص الواردة بها، وأهمها وأشرفها بعد كتاب الله تعالى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإهمال هذا الأساس يجعلنا كذلك المستشرق الذي فسر كلمة "الطائر" في قوله تعالى: (وكل إنسانٍ ألزمناه طائره في عُنُقه )(الإسراء:13). بأنه العصفور وغيره من الطيور التي عنى بها في حياته.




ميارى 1 - 8 - 2010 02:31 AM

توثيق النص

وذلك لأن النصوص الواردة ليست سواء في درجة ثبوتها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد كفانا علماؤنا منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم هذا الجانب المعين على التوثيق في جانبي الرواية؛ أي في جهة السند، وفي جهة المتن.

وقدمت الدراسات التي تشهد لعلماء الحديث بالسبق والريادة والدقة العلمية في توثيق الروايات، وتمييز بعضها من بعض، بالفوارق اليسيرة التي لا يتنبه إليها إلا من عُني بتحقيق اليقين، فيما ينسب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الدين.

فنُظِر إلى الإسناد على أنه دين، فلينظر المرء عمن يأخذ دينه، وقدمت المصنفات في أسماء الرواة وكناهم وصفاتهم، بل نظر في تطور أحوالهم خلال سنوات أعمارهم، وفي شيوخهم وتلاميذهم، ووضع لكل راو لقبه المناسب، وإن اختلفت الأنظار إليهم عرف ذلك، وكيف يكون التعامل مع الموثِّقين والمجرِّحين، بل اشتهر من عرف بالتشدد في الحرج والتعديل، ومن عرف بالاعتدال، أو التساهل.

ودوّن كل هذا ، ويسر تصنيفه، للرجوع إليه عند الحكم على الحديث.

كما فصّل القول في متن الحديث، وعلامات قبوله، وعلامات ردّه، وكل ما يتعلق به؛ لأنه الغاية من السند.

وعرف لكل حديث بسنده ومتنه درجته المطابقة لحاله، بل عرف للدرجة الواحدة مستويات متفاوتة، فالحديث الصحيح درجات، وكذلك الحسن، بل الضعيف له مستويات.

فإذا لم يحصل الناظر في الحديث هذه المعارف، كان نظره قاصرًا، ووقوعه في الخطأ محققا، وظهور الاختلاف والتناقض بين النصوص التي ينظر فيها مؤكدًا.

وهذا ما جعل بعض المغرضين الذين حرموا المعرفة بهذه المقاييس في التصحيح والتضعيف، يستشهدون على أفكار سقيمة بروايات ضعيفة أو موضوعة، وفي مصادر ليست معتبرة عند علماء الحديث، ليضربوا بها نصوصًا صحيحة -أو على الأقل- أرجح منها.

ولذلك فإن بداية التعامل مع الروايات تكون بتوثيقها، وإعمال المعايير النقدية لأهل الحديث فيها، ومعرفة كل رواية وما قيل في الحكم عليها.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:34 AM

الجمع بين النصوص الصحيحة

فإذا تحقق التوثيق، وتيقن الناظر من صحة الروايات في الموضوع الذي يدرسه، فإن المنهج الصحيح في النظر أن يجمع بين هذه الروايات، وذلك بحسن توجيهها في الموضوع الذي وردت فيه - بلا تعسف - ودون أن يهمل رواية منها، فالجمع بينها مقدم؛ لأن إعمال النص الصحيح خير من إهماله. وهذا يقتضي من الباحث سعة العلم، وحسن الفهم، حتى يكون تأويله لها صحيحاً، وحتى يكون جمعه فيما بينها موفقًا غير متكلف، وغير متناقض، مع المعاني القرآنية الكريمة، والمقاصد الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة.

وهذا الجمع بين الروايات له أهميته؛ لأنه يدل على استيعاب السنة لجوانب الموضوع الواحد، عل الرغم من ورود الروايات عل لسان رواة متعددين، وفي مواقف متعددة، وفي أزمان متعاقبة.

فطبيعة البيان النبوي، تقتضي هذا التعدد حسب المبين لهم، وعلى مقتضى الحال، الذي يقدم فيه البيان، وبجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد، يتبين للعلماء كيف أحاطت السنة بجوانب الموضوع، مما يؤكد جانب الوحي فيها.

فضلاً عن أن هذا الجمع بهذا التتبع، يتيح الفهم الدقيق لكل رواية على حدة، لارتباطها بموقفها وظروفها وملابساتها، قبل أن تنسجم في بناء الموضوع الواحد. وأقدم لبيان ذلك تطبيقاً لبيان كيفية الجمع بين الأحاديث الواردة في الغنى والفقر، وما يتصل بذلك من المعاني.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:35 AM

الجمع بين أحاديث الغنى والفقر

ولما وجدت أن بعض المصنفين للحديث النبوي، قد جعلوا أبواباً مستقلة بعضها يمتدح الفقر، ويذم الغنى، وفي الوقت نفسه، نجد أحاديث أخرى فيها الاستعاذة بالله من الفقر، وفيها الثناء على المال الصالح، ووجدت أن هذا المسلك، يحدث اضطرابًا في الفهم، لأحاديث الغنى والفقر، رأيت أن هذه الدراسة ينبغي أن تستوعب الأحاديث الواردة في الجانبين، وتحليل ما ورد فيها، والخلوص إلى النتيجة التي تلازم القارئ، عندما يقرأ حديثًا متفردًا يذكر الغنى أو الفقر؛ سواء بُوِّب له بالمدح أو الذم.

فعندما نقرأ كتاب "الرقاق" من صحيح الإمام البخاري نجد أنه رحمه الله، جعل منه بابًا بعنوان "فضل الفقر".

فهل يفهم من هذه الترجمة، الفضل المطلق للفقر فيرد به ما جاء في مدح الغنى؟ سواء كان هذا المدح في أحاديث مفردة تحت عناوين أخرى، أو كانت تحت عناوين تمدح الغنى؟

إن المتأمل في الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري تحت هذا العنوان تجيبنا عن هذا التساؤل.

فأول حديث في الباب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده، جالس: ما رأيك في هذا؟

فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حريُّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفّع.

قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا ؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".

فهل استحق الرجل الفقير هذه الخيرية بسبب فقره؟

إن الحديث لا يذكر هذا، وإنما يصحح مفاهيم الناس في موازين الرجال، وأن الفضل قد يكون للرجل الفقير إذا كان صالحًا، وقد يكون للغني إذا كان صالحًا، أما اتخاذ الغنى وحده مقياسًا للتفاضل بين الناس، فهذا ما صححه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

والحديث الذي يليه يؤكد هذا المعنى، قال فيه الأعمش: سمعت أبا وائل قال: عُدنا خبابًا فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أُحد، وترك نمرة، فإذا عطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الاذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهْدُبُها".

فكلام خباب رضي الله عنه في بيان حال المهاجرين وكان منهم أغنياء وفقراء، والكل يريد وجه الله.

وكان منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكان مترفًا في الجاهلية يرفل في النعيم، فلما منَّ الله عليه بالإسلام، بذل نفسه معلمًا ومجاهدًا واستشهد في أُحد، وما زال المسلمون في بداية الدعوة، لم تفتح لهم الدنيا، حتى كان حاله أن تُغطى رجلاه بالإذخر. فهذا الذي نوّر الله قلبه بالإيمان قد دعاه حب الله ورسوله إلى هذه الحالة، وأجره على الله.

ومن المهاجرين كذلك من مَدَّ الله في عمره وجمع بين أجر الهجرة والجهاد وما فتح الله من الطيبات فهو "يهدبها" أي يجتني الثمرة التي نضجت وحان قطافها.

ففضيلة مصعب رضي الله عنه وسائر المهاجرين رضوان الله عليهم بجهادهم وبذلهم مع إيمانهم وحبهم لله ولرسوله.

ويدعم هذا التوجيه ما رواه أحمد والبزار ورواتهما ثقات، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تُسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم؛ فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني، ولا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب (سلامُ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )(الرعد:24).

فأعمال هؤلاء وجهادهم وبذلهم وإيمانهم من ناحية، وصبرهم ورضاهم على قلة المال، حتى أن أحدهم يموت وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء. فالفقر -إذن- لا يكون بإطلاقه سببًا للفضل، بل الفقر إن كان المبتلى به صابرًا راضياً له درجة صبره ورضاه، وقد وعد الله سبحانه الصابرين بقوله تعالى: (إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب )(الزمر:10). كما أن الغنى -كذلك- لا يكون سببًا للمذمة أو المدح، إلا بما يقترن به من أعمال وأحوال، فمن ابتلي بالغنى فشكر وصبر نفسه مع الغنى على ما أمر كان الغنى محمودًا.

ويتفاضل الناس بما جعله الله ميزانًا للتفاضل (إنّ أكرمكم عند الله أتقاك م)(الحجرات:13).

يتضح ذلك -أيضًا- في رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ "قلت: نعم يا رسول الله، قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش، قال: "هل تعرف فلانًا؟ " قلت نعم يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟" قلت: إذا سأل أُعطي، وإذا حضر أُدخل، قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة، فقال: "هل تعرف فلانًا؟" قلت: لا والله يا رسول الله، فما زال يُجلّيه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله، قال: "فكيف تراه، أو تُراه؟" قلت : هو رجل مسكين من أهل الصفة، فقال: "هو خير من طلاع الأرض من الآخر". قلت: يا رسول الله، أفلا يعطى من بعض ما يُعطى الآخر؟ قال: "إذا أُعطي خيرًا فهو أهله، وإذا صُرف عنه فقد أٌعطي حسنة "..

فغنى القلب، وفقر القلب، وما يتبعهما من سلوك، هو أساس الفضل والخيرية، وعلى ذلك إذا ذكر الفقراء بالمدح فالتقييد لهذا الإطلاق بما جاء في الأحاديث الأخرى من مواصفات التفضيل والتقديم، وكذلك إذا ذكر الأغنياء بالذم فإنما بما يصحب الغني من كفران النعمة، أو استعمالها في الفخر والكبر، أو منع ما في المال من حقوق، أو ما يتبع الكثرة من الحساب؛ من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟

وعلى هذا يفهم الحديث الثالث، الذي أورده الإمام البخاري رحمه الله في فضل الفقر، والذي رواه عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ".

فهو تقرير لما يكون، وليس لبيان علة دخول الجنة أو النار، وهو كذلك تحذير من طغيان المال، وتصبير لمن ابتلوا بالفقر، حتى يجدّوا في الصالحات، وتنبيه للنساء حتى لا يكفرن العشير.

وأما الحديثان الأخيران في الباب فيتعلقان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي كان فيها قدوة للناس أجمعين، والذي يعنينا -هنا- أنه صلى الله عليه وسلم قدوة للأغنياء حيث كان يجتمع أمامه المال الكثير، فلا يمضي وقت يسير إلا وقد وجد المال طريقه إلى الناس.

وهو قدوة للفقراء، كيف يصبرون، وكيف يرضون، فلم يختر لنفسه حياة المترفين، وفي الوقت نفسه بيّن للناس كيف أحل الله الطيبات من الرزق.

فتذكر رواية أنس -في الباب نفسه- رضي الله عنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على "خوان" حتى مات، وما أكل خبزًا مُرققًا حتى مات ".

والرواية الأخيرة في الباب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رَفّي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شَطْرُ شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عَليّ فكلتُه فَفَنِيَ".

فهذا ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم من حياة العبودية لله سبحانه، وعدم الترف فيجوع يومًا ويشبع يومًا؛ ليكون قدوة للجائع كيف يتوجه ويدعو، وللشبعان كيف يحمد ويشكر.

فأحاديث الباب - إذن - توجه إلى ما يصحب حالة الفقر من الصبر والرضى، والخفة التي تدفع إلى الهمة والنشاط في الطاعة والمسارعة في الخيرات.

وقبل أن ندعم هذا التوجيه في أحاديث الباب بما ذكره الإمام البخاري رحمه الله من أحاديث أخرى في كتب وأبواب سابقة. نذكر ما أحس به الكرماني نحو أحاديث الباب، فقد ذكر تعليقًا عليها يقول: واعلم أن الأمة طائفتان: القائلون بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، والقائلون بالعكس.

فالطائفة الأولى قالوا: ليس في الأحاديث ما يوجب أفضلية الفقراء؛ إذ حديث سهل يحتمل أن يكون خيرًا منه لفضيلة أخرى كالإسلام، وحديث خباب ليس فيه ما يدل على فضله فضلاً عن أفضليته؛ إذ المقصود منه أن يبقى منهم إلى حين فتح البلاد، ونالوا من الطيبات، خشوا أن يكون قد عجل لهم أجر طاعتهم بما نالوا منها، إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.

وحديث عمران يحتمل أن يكون إخبارًا عن الواقع، كما يقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الأكل على الخوان؛ فلأنه لم يرض أن يستعمل من الطيبات، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها.

ثم إنه معارض باستعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر، وبقوله تعالى: "ترك خيرًا": أي مالاً ، وبقوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى )(الضحى:8)، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في أكمل حالاته وهو موسر بما أفاء الله عليه، وبأن الغنى وصف للحق، والفقر وصف للخلق.

فأجابت الطائفة الأخرى بأن السياق يدل على الترجيح للفقراء؛ إذ الترجيح بالإسلام ونحوه لا حاجة له إلى البيان، وبأن من لم ينقص من أجره شيء في الدنيا يكون أفضل وأكثر ثوابًا عند الله يوم القيامة، وبأن الإيماء إلى أن علة دخول الجنة الفقر يشعر بأفضليته، وأما حكاية ترك النبي صلى الله عليه وسلم فهي دليل لنا لا علينا؛ إذ معناه أنه اختار الفقر، ليكون يوم القيامة ثوابه أكثر، وحديث الاستعاذة من الفقر معارض بحديث الاستعاذة من الغنى، وأما الآيتان فنحن لا ننكر أن المال خير، إنما النزاع في الأفضلية، لا في الفضل، أو المراد بالأغنياء في الآية الثانية غنى النفس، وأما قصة وفاته فلا نسلم الإيسار إذ كان ما أفاء الله صدقة، وكان درعه رهنا عند يهودي بقليل من الشعير، وأما غنى الله سبحانه وتعالى، فليس بمعنى الذي نحن فيه فليس من البحث"، والكرماني رحمه الله عرض قول الطائفتين دون أن يذكر ترجيحًا لقول طائفة على أخرى.

إلا أن قول الطائفة الثانية فيه نظر يجعل الطائفة الأولى أرجح في قولها لموافقة النصوص المجموعة في الموضوع.

فالسياق ليس فيه دلالة على ترجيح الفقراء بسبب الفقر، وكما سنرى في سائر النصوص، أن علة الفقر ليست هي المعتبرة وحدها، وإلا فما قيمة فقر بغير رضى، أو صبر أو طاعة؟

ثم إن فضل الله على عباده في الدنيا بالرزق الحلال والطيبات ليس معناه قلة في ذلك بالآخرة فدعاء المؤمنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار )(البقرة:201). ويقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نُفصل الآيات لقوم يعلمون )(الأعراف:32). وعلة دخول الجنة وجعلها في الفقر مجردًا لا دليل عليه، بل النصوص متضافرة بخلاف ذلك.

وأما اختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد سبق الإشارة إلى ارتباط ذلك بالقدوة لجميع الأمة فقيرها وغنيها، كيف يكون حاله مع الغنى، وكيف يكون حاله مع الفقر، والاستعاذة في الحالتين إنما هي استعاذة من الغنى المطغي، فالغنى مع الطغيان مذموم، كما أن الفقر غير مرغوب، وإذا كان الدافع - كما يرى أصحاب هذا القول - طلب المزيد من الحسنات، فإن الغني الشاكر، يستطيع أن يفعل بالمال الصالح ما لا يستطيعه الفقير، ولذلك جاء في الحديث (ذهب أهل الدثور بالأجور )، وسيأتي هذا الحديث بعد قليل.

فالأفضلية في نهاية الأمر، تكون بما يصحب الغنى أو الفقر من قرائن، وليس الأمر على إطلاق أفضلية الفقر.

والذي يدعم هذا التوجيه، تصنيف الإمام البخاري رحمه الله واختياره للأحاديث قبل هذا الباب، ويكفي أن نعرض بعض هذه الاختيارات.

ففي كتاب الدعوات: باب "الدعاء بعد الصلاة" عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: كيف ذاك، قال: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال، قال: أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم إلا من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا ".

ففي هذا الحديث بيان لقيمة المال عندما يكون في أيد صالحة، فليس الغنى وحده سببًا للسبق، كما أن الفقر ليس سببًا للبعد؛ فالمرء يمكن بهذا التوجيه مع ابتلائه بالفقر أن يتدارك الأمر، وأن يدرك الأجر بالتسبيح والتحميد والتكبير دُبر كل صلاة -كما جاء في الحديث-.

وفي هذا جبْر لقلوب الفقراء، وأنه لا يفوتهم الأجر بسبب الفقر. فالدثور: هي الأموال الكثيرة.

وذهاب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم مقترن بالأعمال، وذكر منها ، الصلاة، والجهاد، والزيادة التي تناسب حالهم، أنهم ينفقون من فضول أموالهم. وعُوض الفقراء -فضلاً من الله- بإمكانية اللحاق بهم بشيء يستطيعونه -كذلك- في هذا الذكر.

فالغنى والفقر -إذًا- ليسا مادة تفضيل بإطلاق، بل بما يصحبهما من قرائن، ولا شك أن من يملك أكثر يستطيع أن يعمل أكثر.

ولذلك فإن أهل الدثور يستطيعون -أيضًا- مشاركة الفقراء في الأذكار بعد الصلاة، ويكون ذلك من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.

وفي الكتاب نفسه في باب "دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر، وبكثرة ماله" نجد حديث أنس رضي الله عنه قال: قالت أمي : يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له، قال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".

فأم أنس وهي الرميصاء الأنصارية المشهورة بأم سليم رضي الله عنها، تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوا لأنس، فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بما هو محبوب للناس من تكثير المال، والولد، والبركة فيما يعطي الله سبحانه، يقول الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه، فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله.

ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم دليل على محبة هذا المدعو به عند الله وعند رسوله؛ عندما يكون لمثل أنس رضي الله عنه.

ومما يدعم كذلك وجهتنا في النظر إلى الغنى والفقر، وأن المدح والذم يرتبط بالقرائن، ما أورده الإمام البخاري في كتاب الدعوات - كذلك - وفي باب التعوذ من المأثم والمغرم.

فقد أخرج عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمأثم، والمغرم؛ ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ".

فالاستعاذة في هذا من شر فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، فإذا كانت الفتنة في الغنى أو الفقر فهي مما يستعاذ بالله منها، وهذا تأكيد لهذه القرينة فيذم الغنى بها، وكذلك الفقر.

كما جعل الإمام البخاري رحمه الله باباً ترجم له بقوله: "الاستعاذة من فتنة الغنى" وأتبعه بباب آخر في "التعوذ من فتنة الفقر" أورد في الأول عن هشام عن أبيه عن خاله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ".

كما يورد في الباب الثاني حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد سبق ذكره وفيه: "وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر".

كما يكرر الإمام البخاري رحمه الله بابًا ذكره من قبل، ولكن برز في ترجمته -هنا- المعنى المراد فيقول "باب الدعاء بكثرة المال مع البركة". ويورد فيه حديث أم سليم رضي الله عنها ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال والولد والبركة".

وأما في كتاب الرقاق فقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لأبواب كثيرة تؤدي إلى المعنى نفسه، وهو التحذير من الاغترار بكثرة المال، وليس الذم المجرد له، وقد ذكرنا بعضها في المباحث السابقة، ونذكر ما لم يرد من قبل،فمن ذلك:

باب (مثل الدنيا في الآخرة) وقوله تعالى: (اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهوُ وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكُفارَ نباتُه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطامًا، وفي الآخرة عذابٌ شديد ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ، وما الحياة الدنيا إلا متاعُ الغرو ر)(الحديد:20).

وفي باب "ما يُحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها" يورد أحاديث منها: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا ).

فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه يُنْزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه فقال: أين السائل، قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرةٌ حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا، أو يُلم إلا آكلة الخضرة أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونةُ هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع".

فالتحذير -هنا- من التنافس في التكاثر مع عدم الحذر، وكان هذا المعنى في بيان الخوف مما يخرج من بركات الأرض، ووصف هذا بأنه خير، وكان سؤال الصحابي: وهل يأتي الخير بالشر؛ أي هل تصير النعمة عقوبة، وكان سؤال السائل سببًا في هذه الإفادة، فكان السائل في موضع الحمد، بعد أن خشي الصحابة أن يكون صمت النبي صلى الله عليه وسلم دليلا على مذمة السؤال.

وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم : أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وما قضى الله أن يكون خيرًا، لا بد أن يكون ، والذي يخاف عليه هو التصرف فيه زائدًا على الكفاية، ولا يتعلق ذلك بالنعمة نفسها، وضرب لذلك المثل: "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا". والمعنى: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة وانتفاخ البطن لكثرة الأكل، أو يقارب القتل، إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية المقتصدة؛ فإنه لا يضره.

وهكذا "المال" هو كنبات الربيع، مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم: من يستكثر منه، ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه، أو يقارب إهلاكه.

ومنهم: من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرًا، وإن أخذ كثيرًا فرقه في وجوهه، كما تثلط الدابة فهذا لا يضره.

فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع.

قال الأزهري: فيه مثلان:

أحدهما: للمكثر من الجمع، المانع من الحق، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا "؛ لأن الربيع ينبت أجرار البقول، فتستكثر منه الدابة حتى تهلك.

والثاني : للمقتصد، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إلا آكلة الخضر " لأن الخضر ليس من أجرار البقول.

وقال عياض: ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً بحالتي المقتصد والمكثر، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: أنتم تقولون : إن نبات الربيع خير، وبه قوام الحيوان، وليس هو كذلك مطلقًا، بل منه ما يقتل، أو يقارب القتل، فحالة المبطون المتخوم، كحالة من يجمع المال، ولا يصرفه في وجوهه، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال، والتوسط في الجمع أحسن.

ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره، وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية. ووجه الشبه: أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط. وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم.

وفي باب (ما يتقى من فتنة المال) وقوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة )( الأنفال: 28) يورد الإمام البخاري رحمه الله ما يؤكد أن الذم لا يكون إلا بالخروج عن الحق مع المال، فإذا كان الأصل في علاقة الإنسان بالمال أن يستخدمه، وأن ينتفع به، فإن المذمة عند انقلاب الحال، فيستعبد المال صاحبه، وعندئذ تكون تعاسته بالمال.

فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض ".

والتعاسة بمعنى الهلاك والسقوط، وعبد الدينار: أي خادمه وطالبه؛ كأنه عبد له، والقطيفة هي الدثار المخمل، والخميصة هي الكساء الأسود المربع، ومعنى ذلك أن الفتنة بالمال أخذت عليه حواسه، وصار خادمًا للمال في صورته النقدية، أو في مظاهره الأخرى ومنها الملبوسات.

وفي ظل هذه العبودية للمال يهلك الإنسان نفسه، حيث لا يرضى إن لم يعط كما في هذا الحديث،وإن أعطي كذلك لم يرض، ولم يشبع، كما سيأتي في الحديث الآتي من الباب نفسه.

والذي رواه البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ".

كما يبين البخاري رحمه الله موقف صحابي جليل كعمر رضي الله عنه من المال وزينته. وأن الإنسان لا يستطيع إلا أن يفرح بما زينه الله لنا، والمحمود من يجعل الفرحة صحيحة بالتعامل الصحيح مع المال، ويدعو الله أن يحقق له ذلك.

فيروى في باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا المال خضرة حلوة "، وقال الله تعالى: (زُين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ) قال عمر: "اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه".

وفي ارتباط ما يشعر بذم الإكثار بالقرائن من الأعمال نجد - كذلك - في كتاب "الرقاق" باب " المكثرون هم المقلون" وقوله تعالى: (من كان يُريد الحياة الدنيا وزينتها نُوفّ إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يُبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )(هود:15،16). يروي الإمام البخاري رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟. قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك، قال: يا أبا ذر تَعَالَه، قال: فمشيت معه ساعة فقال: إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفح فيه يمينه وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيرًا… ".

بل نجد من روايات البخاري في كتاب الرقاق باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا" ما يؤكد أنه لا مذمة في الغنى وحده، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكره، أو يُشعر بمذمة من يكون له مثل أحد ذهبًا، وهذا مال كثير، ما دام سيفعل مثلما جاء في الحديث الذي يرويه أبو ذر- أيضًا- رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أُحُــدٌ، فقال يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينارُ، إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم مشى، فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، ومن خلفه، وقليل ما هم… ".

ولا يخفى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التزام ما يأمر الله به نحو هذا المال، ومداومة التذكير والتحذير من الفتنة بالمال عند كثرته وتضييع ما يرتبط به من حقوق الله في الزكاة والصدقات، وفي حقوق العباد من ديون، فالغنى -إذن- ما دام بحقه في كل مجالاته، وما دام مقترنًا بما لا يخرجه عن حقه، فهو في موضع المحمدة وليس المذمة.

ولذلك يجمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للأمة بين الغنى الحسي المادي، والغنى النفسي، الذي يعين على صيانة الحق مع الغنى، ويجعل الإمام البخاري رحمه الله بابًا لذلك في كتاب الرقاق بعنوان: "الغنى غنى النفس" وقول الله تعالى: (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين ) إلى قوله تعالى: (من دون ذلك هُم لها عاملون )(المؤمنون:55-63) قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بد من أن يعملوها":

يقول الكرماني: غرض البخاري من ذكر الآية أن المال مطلقًا ليس خيرًا، وأما كلام سفيان بن عيينة، فهو تفسير لقوله تعالى: "ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ". يروي البخاري رحمه الله في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".

والعرض -بفتح الراء- حطام الدنيا، وبالسكون: المتاع، يعني: ليس الغنى الحقيقي المعتبر هو من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس وعدم الحرص على الدنيا، ولهذا ترى كثيرًا من المتموّلين فقير النفس مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدة شرهه، وشدة حرصه على جمعه كأنه فقير، وأما غنى النفس فهو من باب الرضا بقضاء الله تعالى لعلمه أن ما عند الله لا ينفد وهو خير له؛ لأن ما قضى به لأوليائه فهو الخيار.

وبعد تتبعنا لأبواب الإمام البخاري، فيما يتصل بالغنى والفقرة، نرى من حسن صنيع البخاري رحمه الله، أن يورد الأحاديث في أبواب متعددة مقترنة بالترجمة التي تعين على فهم المراد منها، إلا أنه ينبغي أن تجمع هذه الروايات في الموضوع الواحد حتى يتسق الفهم لها.

ظهر لنا ذلك من إمساكنا في بداية الأمر بباب "فضل الفقر" وتبين لنا -بعد الجمع- المراد من هذا، وأنه ليس من قبيل المدح المطلق للفقر، وإنما يقترن بالفقر أحوال، تجعل المبتلى به في موضع الفضل، والحال نفسه مع الغنى، فيمكن أن نقول: "فضل الغنى" ولكن ليس بإطلاق -أيضًا- أي إذا اقترن بالغنى ما يجعل المبتلى به في موضع الحمد.

وهكذا يزول ما يشعر بالتعارض بين الأحاديث عند جمعها، والنظر فيها مجتمعة.

وقد قدمنا ما يدعم هذا في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.

وأما ما جاء في كتب السنة الأخرى فكثير، وفيه ما يشعر بمدح الفقراء، وذم الأغنياء والبعد عنهم.

وهذا يحتاج إلى تدبر النصوص الواردة في ذلك؛ لأن كل رواية فيها ما ينسجم مع النتيجة التي توصلنا إليها من تتبع أبواب البخاري رحمه الله، فإذا ما جمعت زاد الأمر وضوحًا.

فمثلاً توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكفاف، وعدم مجالسة الأغنياء، من باب استمرار القدوة في بيت النبوة، والذي يشهد المال الكثير، ويتحقق فيه معنى الغنى، ولكن لا يبقي شيئًا من المال، لأنه يجد طريقه إلى الناس، ويبقى البيت قدوة للفقراء في الصبر والرضى، وقد وجه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كُنتن تُردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرِّحكن سراحًا جميلاً * وإن كُنتن تُرِدن اللهَ ورسولهَ والدارَ الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا )(الأحزاب:28-29). واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وكن على هذه الحالة التي ترضي الله ورسوله.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن سرك اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب. وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوبًا حتى تُرقِّعيه " أخرجه الترمذي، وزاد رزين: قال عروة: فما كانت عائشة تستجدّ ثوبًا حتى ترقع ثوبها وتنكسه، ولقد جاءها يومًا من عند معاوية ثمانون ألفًا فما أمسى عندها درهم، فقالت جاريتها: فهلاً اشتريت لنا منه بدرهم لحما؟ فقالت: لو ذكرتيني لفعلت".

فهذا صنيع بيت النبوة الذي يملك، ولا يبقي لنفسه شيئًا مما يملك، بل يخرجه للمحتاجين.

وهذا ما اختاره الرسول الكريم لنفسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وفي أخرى "كفافًا" أخرجه الشيخان والترمذي. و "الكفاف" الذي لا يفضل عن الحاجة.

وهذا يفسر لنا معنى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي رواها أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. قالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء أربعين خريفًا. يا عائشة! لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة ". والمراد بالخريف السنة، وفي حديث آخر خمسمائة عام. والجمع بينهما: أن المراد بالأربعين تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص، وبالخمسمائة تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، فكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، وهذا نسبة الأربعين إلى خمسمائة.

يقول ابن الأثير: وهذا التقدير وأمثاله لا يجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جُزافًا ولا اتفاقًا، بل لسر أدركه، ونسبة أحاط بها علمه، فإنه لا ينطق عن الهوى. فهذه الدعوة -إذن- من باب القدوة، ومن باب جبر القلوب، وإعانة أهل البلاء بالفقر على الصبر والرضى والسعي الجميل والتعفف. وأما الإخبار بالسبق فالاستواء في القرائن الصالحة، والتي نبه إليها ابن الأثير في الجمع بين الأربعين والخمسمائة، فيكون الزائد من الفقير صبره، والمناسب للغنى كثرة حسابه على كثرة ماله.

وإن كان أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي قد وجه المسكنة توجيهًا آخر نفى فيه أن يكون المراد بالمسكنة الفقر فقال في ذلك: "قرأ بعضهم الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري والطبراني عن عبادة بن الصامت: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ".

ففهم من المسكنة الفقر من المال، والحاجة إلى الناس، وهذا ينافي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الفقر، وسؤاله من الله تعالى العفاف والغنى، وقوله لسعد: "إن الله يحب العبد الغني التقي الحفي " وقوله لعمرو بن العاص: "نعم المال الصالح للمرء الصالح ".

ومن أجل ذلك رد الحديث المذكور، والحق أن المسكنة - هنا - لا يراد بها الفقر، كيف وقد استعاذ بالله منه وقرنه بالكفر: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر "، وقد امتن ربه عليه بالغنى فقال: "ووجدك عائلاً فأغنى ".

إنما المراد بها التواضع وخفض الجناح، قال العلامة ابن الأثير: أراد به التواضع والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين. وهكذا عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن حياة المستكبرين".

وإذا كان ظاهر الرواية التي ذكرتها تعني الفقراء، فيبقى التوجيه الذي استخلصناه من دراسة الأحاديث مجتمعة في ارتباط الأمر بالقرائن من ناحية، وفي استمرار تهذيب النفس، حتى لا تطغى بالمال من ناحية أخرى، وفي تسلية الفقراء من ناحية ثالثة.

قال الحافظ المنذري: "وقد ورد من غير ما وجه، ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبوًا لكثرة ماله" ولا يسلم أجودها من مقال، ولا يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن، ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح ". فأنَّى تنقص درجاته في الآخرة، أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمة؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره، إنما صح سبق فقراء هذه الأمة أغنياءهم على الإطلاق، والله أعلم".

والسبق الذي ذكره الحافظ المنذري لمن تساووا في النسبة إلى هذه الأمة، ويبقى المعنى الذي ذكرناه في السبق مع الاستواء في كثرة الحساب الناشئ عن كثرة المال.

فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار. وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" أخرجه الشيخان.

ومما يدعم ما ذهبنا إليه كذلك من اعتبار القرائن، ما جاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وتوفني مسكينًا،واحشرني في زمرة المساكين، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" رواه ابن ماجة إلى قوله: المساكين، والحاكم بتمامه،وقال: صحيح الإسناد.

فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الفقر وحده ليس محمدة فأشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة؛ لأنه لم يكن على ما يرضي الله من أحوال.

ولتسلية الفقراء وتشجيعهم على الصبر والرضا بقضاء الله، تأتي كثير من الأحاديث التي قد يفهم منها الثناء على الفقر.

ففي حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاره، فقال: "يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك" فأتاهم أبو بكر، فقال: "يا أخوتاه أغضبتكم؟" قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي " رواه مسلم، وغيره.

وفي هذا المعنى -أيضًا- رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير: أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين، والدنوّ منهم، وأوصاني أن أصل رحمي، وإن أدبرت" الحديث رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه.

وفي حديث مصعب بن سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " رواه البخاري، والنسائي وغيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما تنصر هذه الأمة بضعفائها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ".

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " رواه أبو داود، والترمذي والنسائي.

وعن علي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ طلع علينا مصعب بن عمير رضي الله عنه ، ما عليه إلا بُرْدة مُرقّعة بفرو ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم ، بكى للذي كان فيه من النعمة، ثم قال: كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في أخرى ووضعت بين يديه صَحْفَة ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، نكفي المؤنة ونتفرغ للعبادة. فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ. أخرجه الترمذي.

وهكذا -رأينا- أن الأحاديث الواردة في الفقر والغنى تبين أن الإنسان مبتلى بهما، والذي يكون في موضع المحمدة منهما، هو من يفلح في الاختبار، وعلى ذلك فإن الفقر والغنى يرتبطان بأسباب المدح والذم.

وأن ما يرد من الثناء على الفقر والفقراء فهو لبيان منزلة الصبر على الفقر، وعدم الطغيان بالغنى، والحب والاحترام المتبادل بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق التكافل في الأمة.

وما يكون من التحذير من الغنى فلحماية الإنسان من الطغيان بالمال والتنبيه إلى شدة الحساب وكثرته.

ونختم هذا المبحث بما يدل على ذلك فيما رواه محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب".

ميارى 1 - 8 - 2010 02:37 AM

الجمع بين أحاديث ترك التزين والتزين

ويرتبط بهذا الموضوع ما ورد في "ترك التزين" وفي "التزين" مما يشعر بالاختلاف، ولكن يزول بجمع الأحاديث وتأملها وتوجيه المعاني فيها. ففي تيسير الوصول نجد عنوانين في كتاب اللباس: أحدهما "ترك الزينة" والآخر يليه "التزين". ووضع العنوان "ترك الزينة" يتعارض مع الآية الكريمة "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده" فكيف لا يكون متعارضًا مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الزينة. إلا أن المتأمل في أحاديث ترك الزينة يرى أن الترك إنما يعود إلى أسباب أخرجت الزينة وصاحبها من منزلة الحلال إلى الحرام.

فمثلاً نجد رواية معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس متواضعًا، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ). فهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن. إلا أن في إسناده عبد الرحيم بن ميمون، وقد ضعفه ابن معين، وفيه أيضًا سهل بن معاذ، وضعفه كذلك ابن معين. ولكن مع افتراض حسنه، فإن المعنى فيه: أن من كان لديه دواعي الكبر في الملبس وتغلب على نفسه وهواها، وترك اللباس إخضاعًا لنفسه وكسرًا لمظاهر الكبر فيها، فإن جزاء هذه المجاهدة أن يُدعى من قبل الله سبحانه على رءوس الخلائق، وفي هذا دلالة على أنه تغلب على شهوة الكبر على الخلائق ورغبة الظهور عليهم في الدنيا، فأبدله الله عزًّا وكرامة أمامهم في الآخرة. وإذا كان قد ترك ثوب شهرة وخيلاء تواضعًا لله، فإن الله سبحانه يخيره من أي الحلل شاء.

ويتضح هذا المعنى، ويذكر بالتصريح في الروايتين الباقيتين تحت هذا العنوان فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ". وفي رواية: (ألبسه الله إياه يوم القيامة، ثم ألهب فيه النار ). أخرج الرواية الأولى أبو داود، والثانية رزين، وهي -أيضًا- في أبي داود.

وثوب الشهرة: هو الذي إذا لبسه الإنسان افتضح به واشتهر بين الناس، والمراد به ما لا يجوز للرجال لبسه شرعًا ولا عرفًا. فترك الزينة - إذًا - مقيد بوجود المخالفة الشرعية فيها، وإلا فإن التزين هو الأصل، وقد أمرنا به في القرآن الكريم في أطهر الأماكن "خذوا زينتكم عند كل مسجد " (الأعراف:31).

وجاء التحريض عليه في أحاديث النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها: عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليّ ثوب دونٍ فقال: ألك مال؟ قلت: نعم.

قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله تعالى.

قال: فإذا آتاك الله تعالى مالاً فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته".

فعدم التزين من الرجل مع وجود المقدرة المالية عنده كان سبب هذا التوجيه الذي يأخذ أمرًا عامًا في نعم الله كلها، وأن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وهذا يرد على الذين يكتمون نعمة الله خشية الحسد، فالمؤمن يرى كالشامة وإن خشي شيئًا فليستعذ بالله من شره.

وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته ". وهذا التخصيص ليكون المؤمن في أحسن زينة، وهو يلتقي بإخوانه في يوم الجمعة، فما يلبسه في عمله قد يصيبه من أثر العمل ما ينقص من جماله ونظافته.

وعن جابر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب لنا يرعى ظهرًا لنا وعليه بُردان قد أخلقا. فقال: أما له غير هذين؟ قلت: بلى له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: ادعه، فليلبسهما، فلبسهما. فلما ولّى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما له ، ضرب الله عنقه. أليس هذا خيرًا؟ فسمعه الرجل، فقال : في سبيل الله يا رسول الله. فقال: في سبيل الله. فقتل الرجل في سبيل الله.

فالرسول الكريم لم يكتف في هذا الحديث بالتوجيه فحسب، وإنما دعا إلى التنفيذ، وأن يلبس الثوبين، ولبسهما، وقارن الرسول الكريم بين الحالتين مستحسنًا التزين.

ويختم هذا العنوان ببيان المنهج الوسط الذي يتزين فيه المرء بلا إسراف، وبلا تقتير.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هاتين اللبستين: المرتفعة والدّون.

ومن هذا يتضح لنا أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها اختلاف، وإنما يحتاج الأمر إلى جمعها في الموضوع الواحد حتى نحسن فهمها وتوجيهها، دون أن نضرب بعض الأحاديث ببعض.

وعلى ذلك فإن الإنسان في جملة النصوص يقبل على رزق الله، وهو واثق فيما عند الله، يطلبه بما أحل الله، فإذا وصله لم يفتن به، بل تعامل فيه بمنطق إيمانه، لا يفرح بما أوتي، ولا يحزن على ما فات، ولا بأس أن يصل في الجلال إلى ما شاء الله، وإن ضيق عليه في الرزق فهذا قضاء الله، وعليه أن يصبر، وأن يسعى سعيًا حميدًا للخروج من الفقر، كما أن أثر النعمة يُرى عليه.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ".

وهكذا تصحب وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن في أحواله كلها ليكون سعيدًا في غناه، وفي فقره، لا يطغيه غناه، ولا يجزع في فقره، بل يتقلب في حياته بين الشكر والصبر والرضى، يجد حلاوة القليل، كما يعم غيره بسرور غناه.

وتتابع مثل هذه التوجيهات في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لترسخ هذا المعنى:

فعن عبيد الله بن مُحصّن الخطمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيره ا". فالأمن النفسي مع المعافاة في البدن، ولو كان يحوز قوت اليوم فحسب يحقق للمؤمن الشعور بأنه يملك الدنيا بأسرها.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سأل ناس من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، ثم سألوه، فأعطاهم ما سألوه، حتى إذا نفد ما عنده. قال: "ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير له أوسع من الصبر ".

فتعليق النبي صلى الله عليه وسلم على موقف هؤلاء الناس مع عطائه لهم ثلاث مرات حتى نفد ما عنده يوجه نحو القناعة والرضى، وأن الذي يطلب ذلك من الله يحققه له.

وقد مر بنا كيف سمي المال بالخير، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير كذلك: "ما يكون عندي من خير" أي من مال.

وفي تحقيق هذا الرضا يروى أبو هريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" أخرجه الشيخان والترمذي. وزاد رزين في رواية : قال عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر همًا مني. كنت أرى دابة خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي. فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت ".

وقد مر بنا كيف حقق الرسول الكريم في حياته المباركة ما يجعل منها مواساة للفقراء ورضا بالقضاء، وإشعارًا للأغنياء باحترام الفقراء وعدم الكبر عليهم، كما ينبه إلى عدم التعلق بزخارف الحياة، والتفكير في المصير تفكيرًا يجمع بين عمارة الحياة الدنيا والفوز بالآخرة.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نام على رمال حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله ! لو اتخذنا لك وطاءً نجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟ فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركه ا".

وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء ".

وعن علي رضي الله عنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة ! وإن لكل واحدة منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

فالبنوة للآخرة تعني الجمع بين الدنيا والآخرة؛ أي بين العمل الصالح الذي تعمر به الحياة، والحساب الذي يجازى فيه على الصالحات في الآخرة.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:39 AM

النسخ

فإذا تعذر الجمع بين الروايات، أو كان متكلفًا صرنا إلى النسخ، أي إلى تحديد السابق واللاحق من الروايات، فإذا علم التاريخ فإن المتأخر منها ينسخ المتقدم.

وقد تكون ألفاظ الروايات مصرحة بتحديد المتقدم والمتأخر كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ".

فالنهي عن الزيارة كان أولاً، ثم الأمر بالزيارة كان آخرًا، وعلى ذلك يكون العمل المتبع الزيارة لما لها من المنافع المذكورة في الروايات من رقة القلب وتذكر الآخرة والدعاء للموتى وغير ذلك.

وقد يكون لفظ الصحابي ناطقًا بهذا التحديد للسابق واللاحق كما جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس.

وعن عبادة بن الصامت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتَّبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر من اليهود فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : "خالفوهم واجلسوا ".

وقد يكون التاريخ معلومًا من حكاية الصحابة رضوان الله عليهم - كذلك - نحو ما رواه أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصل ". فهذا حديث يدل على أنه لا غسل مع الإكسال، وأن موجب الغسل الإنزال.

يقول أبو بكر الحازمي: ثم لما استقرينا طرق الحديث أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام، واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل".

وفي رواية الترمذي عن أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها".

وقد يكون تحديد السابق واللاحق استنباطًا من فهم الروايات.

مثال ذلك ما ورد في أحاديث النهي عن الكتابة والأمر بها، فلدينا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النا ر".

فهذا هو الحديث الوحيد الذي يتضمن النهي عن الكتابة، أما ما ورد وفيه أمر بالكتابة فكثير منه:

- ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق ".

ويشهد الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بأنه استمر في الكتابة، فيقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب".

- رورى البخاري ومسلم وغيرهما أنه "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خطب فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي فلان" قال ابن حجر هو أبو شاه، وقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي ، قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- وروى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد وجعه قال: "ائتوني بكتاب، اكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده…".

فهذه أحاديث الأمر بالكتابة، وبالنظر إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو الوحيد في النهي - كما أشرنا - قد ذكر فيه ما يعين على تحديد السابق منها واللاحق، فقد ذكر النهي مقترنًا بذكر القرآن الكريم.

فالنهي - في الحديث - عن الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة، أو مطلقًا خشية وقوع الخلط واللبس بين القرآن الكريم والحديث الشريف.

وخشية الخلط بين الأسلوبين لا تكون إلا في بداية الأمر، فإذا ألف الناس أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم أمنوا من الوقوع في الخلط، وعلى ذلك فإن مضمون الحديث حدد لنا السابق واللاحق في أحاديث الأمر بالكتابة والنهي عنها، فالنهي أولاً، والأمر بالكتابة آخرًا.

وتكون أحاديث الأمر بالكتابة قد نسخت حديث النهي عنها.


ميارى 1 - 8 - 2010 02:40 AM


الترجيح

فإذا تعذر الجمع بين الروايات، أو كان متكلفًا، وإذا لم نستطع إعمال قاعدة النسخ لتعذر تحديد السابق منها واللاحق صرنا إلى الترجيح، وللترجيح وجوه كثيرة تتسع باتساع علم المرجّح، وحسن النظر إلى المرجحات وتطبيقها على الروايات، ولذلك ليس للمرجحات حصر دقيق فقد عدّ الحازمي منها في كتابه "الاعتبار" خمسين وجهًا ثم قال: فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات، وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها كيلا يطول به هذا المختصر. وفي تدريب الراوي (وهو يتكلم عن ترجيحات الحازمي): ووصلها غيره إلى أكثر من مائة، كما استوفى ذلك العراقي في نكته، وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام:

الأول: الترجيح بحال الراوي:

وذلك بوجوه: أحدها كثرة الرواة؛ لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل.

ثانيها: قلة الوسائط، أي علو الإسناد حيث الرجال الثقات؛ لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل.

ثالثها: فقه الراوي؛ سواء كان الحديث مرويًا بالمعنى أو اللفظ؛ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمْلُه على ظاهره بحث عنه حتى يطّلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف العامي.

رابعها: علمه بالنحو؛ لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره.

خامسها: علمه باللغة.

سادسها: حفظه، بخلاف من يعتمد على كتابه.

سابعها: أفضليته في أحد الثلاثة، بأن يكونا فقيهين، أو نحويين، أو حافظين، وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر.

ثامنها: زيادة ضبطه، أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به.

تاسعها: شهرته، لأن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى.

عاشرها إلى العشرين:

كونه ورعًا، أو حسن الاعتقاد، أي غير مبتدع، أو جليسًا لأهل الحديث، أو غيرهم من العلماء، أو أكثر مجالسة لهم، أو ذكرًا، أو مشهور النسب، أو لا لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف، وصعب التمييز بينهما، أو له اسم واحد، ولذلك أكثر ولم يختلط، أو له كتاب يرجع إليه.

حادي عشريها: أن تثبت عدالته بالإخبار بخلاف من تثبت بالتزكية أو العمل بروايته، أو الرواية عنه إن قلنا بهما.

ثاني عشريها إلى سابع عشريها:

أن يعمل بخبره من زكاه، ومعارضه لم يعمل به من زكاه، أو يتفق على عدالته، أو يذكر سبب تعديله، أو يكثر مزكوه؛ أو يكونوا علماء، أو كثيري الفحص عن أحوال الناس.

ثامن عشريها:

أن يكون صاحب القصة، كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم لمن أصبح جنبًا على خبر الفضل بن العباس في منعه؛ لأنها أعلم منه.

أورد الإمام الطحاوي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن يقول: كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فذكر أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: "من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم".

فقال مروان: أقسمت عليك لتذهبن إلى أمّي المؤمنين، عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فتسألهما عن ذلك.

قال : فذهب عبد الرحمن، وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها ، فسلم عليها عبد الرحمن ثم قال: " يا أم المؤمنين، إنا كنا عند مروان، فذُكر له أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: "من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم". فقالت عائشة رضي الله عنها: "بئس ما قال أبو هريرة، يا عبد الرحمن، أترغب عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؟".

فقال: لا والله.

قالت: "فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم".

قال: ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة رضي الله عنها فسألها عن ذلك فقالت كما قالت عائشة رضي الله عنها فخرجنا حتى جئنا إلى مروان، فذكر له عبد الرحمن ما قالتا..

فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد، لتركبنّ دابتي، فإنها بالباب، فلتذهبن إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فتحدث معه عبد الرحمن ساعة، ثم ذكر ذلك له.

فقال أبو هريرة رضي الله عنه : "لا علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر".

وفي رواية أخرى عن يعلى بن عقبة قال: أصبحت جنبًا وأنا أريد الصوم، فأتيت أبا هريرة رضي الله عنه فسألته فقال لي "أفطر".

فأتيت مروان فسألته وأخبرته بقول أبي هريرة رضي الله عنه فبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى عائشة رضي الله عنها فسألها فقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لصلاة الفجر، ورأسه يقطر من جماع، ثم يصوم ذلك اليوم".

فرجع إلى مروان فأخبره فقال: إيت أبا هريرة رضي الله عنه فأخبره، فأتاه فأخبره فقال: "أما إني لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثنيه الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

فموقف أبي هريرة رضي الله عنه موقف المرجح لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأم ا لمؤمنين أم سلمة رضي الله عنهما فهما أعلم.

ونسب السماع إلى الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا ما جعل البزار يعلق على رجوع أبي هريرة عما كان يقول من ذلك بقوله في مسنده: "ولا نعلم روى أبو هريرة عن الفضل بن العباس إلا هذا الحديث الواحد".

وقال البيهقي: ورواه البخاري مدرجًا في روايته عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن، إلا أنه قال في حديثه: "فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم". وروى أنه قال: "أخبرني بذلك أسامة بن زيد". وقد صحّ رجوعه عن ذلك صريحًا.

وأخرج البيهقي في سننه عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب: "أن أبا هريرة رجع عن قوله قبل موته" وروى مثله عن عطاء ثم قال: قال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في هذا أن يكون ذلك محمولاً على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرمًا على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل، أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه".

فهذا كان منهج الصحابة في الرواية والفتوى؛ الدقة في نسبة القول إلى سامعه، والرجوع إلى الصواب في الفتوى دون الاستبداد في الرأي لأنّ الوصول إلى الحق غايتهم.

وأجيب بجواب ثان على رواية أبي هريرة وفتواه، وهو حمله على من طلع الفجر عليه وهو يجامع فاستدام.

وجواب ثالث: أنه إرشاد إلى الأفضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وتركه عليه الصلاة والسلام لذلك في حديث السيدة عائشة والسيدة أم سلمة لبيان الجواز.

يقول الإمام الزركشي: "واعلم أنه وقع خلاف في ذلك للسلف - أيضا - ثم استقر الإجماع على صحة صومه كما نقله ابن المنذر، وكذلك الماوردي في الاحتلام.

ونظر الإمام الطحاوي إلى رواية أبي هريرة والروايات الأخرى ومنها عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما والسيدة أم سلمة رضي الله عنها وقال: "فذهب ذاهبون إلى ما روى أبو هريرة رضي الله عنه من ذلك عن الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا به وقلدوه.

وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: يغتسل ويصوم يومه ذلك.

وذهبوا في ذلك إلى ما رويناه عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنه: رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يحدث عن أبيه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا، ثم يغتسل، ثم يغدو إلى المسجد ورأسه يقطر، ثم يصوم ذلك اليوم.

فأخبرته مروان، فقال: إيت أبا هريرة رضي الله عنه فأخبره بذلك.

فقلت: إنه لي صديق، فاعفني، فقال: عزمت عليك لتأتينه.

فانطلقت أنا وأبي إلى أبي هريرة رضي الله عنه فأخبرت بذلك.

فقال أبو هريرة رضي الله عنه : عائشة رضي الله عنها أعلم مني.

وقال شعبة: وفي الصحيفة: "أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني".

وبعد أن يستقصي الإمام الطحاوي الروايات بطرقها المتعددة عن أمّي المؤمنين السيدة عائشة والسيدة أم سلمة يقول:

"قالوا: فلما تواترت الآثار بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز لنا خلاف ذلك إلى غيره.

فكان من حجة أهل المقالة الأولى عليهم في ذلك أن قالوا: هذا الذي روته أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما إنما أخبرتا به عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر الفضل في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد خالف ذلك.

فقد يجوز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على ما ذكرت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما في حديثهما، ويكون حكم سائر الناس على ما ذكره الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الخبران غير متضادين على ما يخرج عليه معاني الآثار.

فكان من الحجة للآخرين عليهم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي روى حديث الفضل، وقد رجع فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وعُدّ ذلك أولى مما حدثه الفضل، عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حجة في هذا الباب.

وحجة أخرى: أنا قد وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على حكم الناس في ذلك -أيضًا- كحكمه.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع " يا رسول الله، إني أصبح جنبًا وأنا أريد الصوم".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأنا أصبح جنبًا، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم".

فقال: يا رسول الله، إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" .

فلما كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك السائل هو إخباره عن فعل نفسه في ذلك ثبت بذلك أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء.

فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.

وأما وجهه من طريق النظر في ذلك، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه.

فأردنا أن ننظر أنه هل يكون داخلاً في الصوم وهو كذلك؟ أو يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟.

فرأينا الأشياء التي تمنع من الدخول في الصوم، من الحيض والنفاس، إذا طرأ ذلك على الصوم، أو طرأ عليه الصوم، فهو سواء.

ألا ترى أنه ليس لحائض أن تدخل في الصوم وهي حائض، وأنها لو دخلت في الصوم طاهرًا، ثم طرأ عليها الحيض في ذلك اليوم، أنها بذلك خارجة من الصوم.

فكانت الأشياء التي تمنع من الدخول في الصوم، هي الأشياء التي إذا طرأت على الصوم أبطلته.

وكانت الجنابة إذا طرأت على الصوم باتفاقهم جميعًا، لم تبطله.

فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه، فثبت بذلك ما قد وافق ما روته أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى.

تاسع عشريها: أن يباشر ما رواه.

الثلاثون: تأخر إسلامه، وقيل عكسه؛ لقوة أصالة المتقدم ومعرفته.

وقيل: إن تأخر موته إلى إسلام المتأخر لم يرجح بالتأخير؛ لاحتمال تأخر روايته عنه، وإن تقدم أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح.

الحادي والثلاثون إلى الأربعين:

كونه أحسن سياقًا واستقصاءً لحديثه. أو أقرب مكانًا. أو أكثر ملازمة لشيخه، أو سمع من مشايخ بلده، أو مشافها مشاهدًا لشيخه حال الأخذ. أو لا يجيز الرواية بالمعنى. أو الصحابي من أكابرهم، أو على رضي الله تعالى عنه وهو في الأقضية، أو معاذ وهو في الحلال والحرام، أو زيد وهو في الفرائض، أو الإسناد حجازي، أو من بلد لا يرضون التدليس.

- القسم الثاني : الترجيح بالتحمل، وذلك بوجوه:


أحدها: الوقت. فيرجح منهم من لم يتحمل بحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله، أو بعضه بعده؛ لاحتمال أن يكون هذا مما قبله. والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط.

ثانيها وثالثها: أن يتحمل بحدثنا والآخر عرضًا، أو عرضًا والآخر كتابة، أو مناولة أو وجادة.

- القسم الثالث : الترجيح بكيفية الرواية، وذلك بوجوه:


أحدها: تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه؛ والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى.

ثانيها: ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه؛ لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه، وهذا سيتضح تفصيلاً في هذه الدراسة.

ثالثها: أن لا ينكره راويه ولا يتردد فيه.

رابعها إلى عاشرها: أن تكون ألفاظه دالة على الاتصال؛ كحدثنا وسمعت، أو اتفق على رفعه أو وصله، أو لم يختلف في إسناده، أو لم يضطرب لفظه، أو روي بالإسناد وعزى ذلك لكتاب معروف، أو عزيز والآخر مشهود.

- القسم الرابع : الترجيح بوقت الورود وذلك بوجوه:

أحدها وثانيها: بتقديم المدني على المكي، والدال على علو شأن المصطفى عليه الصلاة والسلام على الدال على الضعف كبدأ الإسلام غريبًا، ثم شهرته، فيكون الدال على العلو متأخرًا.

ثالثها: ترجيح المتضمن للخفيف لدلالته على التأخر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أول أمره زجرًا عن عادات الجاهلية، ثم مال للتخفيف، كذلك قال صاحب المنهاج، ورجح الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عكسه وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جاء أولاً بالإسلام فقط، ثم شرعت العبادات شيئًا فشيئًا.

رابعها: ترجيح ما تحمل بعد الإسلام على ما تحمل قبله، أو شك؛ لأنه أظهر تأخرًا.

خامسها وسادسها: ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم، وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرخ، قال الرازي : والترجيح بهذه السنة، أي إفادتها للرجحان غير قوية.

- القسم الخامس : الترجيح بلفظ الخبر، وذلك بوجوه:


أحدها إلى الخامس والثلاثين: ترجيح الخاص على العام، والعام الذي لم يخصص على المخصص لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده، والمطلق على ما ورد على سبب، والحقيقة على المجاز، والمجاز المشبه للحقيقة على غيره، والشرعية على غيرها، والعرفية على اللغوية، والمستغنى على الإضمار، وما يقل فيه اللبس، وما اتفق على وضعه لمسماه، والمومي للعلة، والمنطوق، ومفهوم الموافقة على المخالفة، والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر، والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء، على النكرة المنفية. أو من الجمع المعرف على "من" و "ما"، أو من الكل وذلك من الجنس المعرف، وما خطابه تكليفي على الوضعي، وما حكمه معقول المعنى، وما قدم فيه ذكر العلة، أو دل الاشتقاق على حكمه، والمقارن للتهديد، وما تهديده أشد، والمؤكد بالتكرار، والفصيح وما بلغة قريش، وما دل على المعنى المراد، بوجهين فأكثر وبغير واسطة، وما ذكر من معارضه كـ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". والنص والقول، وقول قارنه العمل، أو تفسير الراوي، وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم، وما فيه زيادة.

القسم السادس : الترجيح بالحكم، وذلك بوجوه:

أحدها : تقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها، وقيل عكسه.

ثانيها: تقديم الدال على التحريم على الدال على الإباحة. والوجوب.

ثالثها : تقديم الأحوط.

رابعها: تقديم الدال على نفي الحد.

- القسم السابع : الترجيح بأمر خارجي:

كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن، أو سنة أخرى، أو ما قبل الشرع، أو القياس، أو عمل الأمة، أو الخلفاء الراشدين، أو معه مرسل آخر، أو منقطع، أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة، أو له نظير متفق على حكمه، أو اتفق على إخراجه الشيخان.

فهذه أكثر من مائة مرجح، وثم مرجحات أخر لا تنحصر ومثارها غلبة الظن.

ولذلك فإن حسن الفهم للنصوص والأمن من الزلل في التعامل معها يقتضي هذه السعة العلمية التي تضرب في كل اتجاه؛ولذلك قال الإمام النووي في النوع السادس والثلاثين من أنواع علوم الحديث وهو معرفة مختلف الحديث وحكمه: هذا من أهم الأنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرًا فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني، وصنف فيه الإمام الشافعي، ولم يقصد رحمه الله استيفاءه، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه، ثم صنف فيه ابن قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة، لكون غيرها أقوى وأولى، وترك معظم المختلف، ومن جمع ما ذكرنا لا يشكل عليه إلا النادر في الأحيان.


ميارى 1 - 8 - 2010 03:09 AM

التوقف

فإذا تساوت الروايات في الصحة وعجز الباحث عن الجمع بينها، وعجز عن الترجيح بالمرجحات على كثرتها - وهذه الحالة نادرة إذا حصّل الباحث الأسس السابقة - فالأوفق له التوقف، ومعناه عدم الرفض له - لثبوته - بسبب العجز عن الجمع أو الترجيح حتى يفتح الله سبحانه على الباحث بفهم جديد، مع مداومة النظر، أو يفتح على غيره.

والتوقف أسلم من الرفض وإهمال النص مع ثبوته.

فهذه جملة الأسس التي رأيت ضرورة الوقوف عليها بصورة مجملة مع توضيح يسير بنماذج تطبيقية، وإلا فكل أساس منها في حاجة إلى تفصيل، نكتفي منه في هذه الدراسة بالأساس الذي ندرت الكتابة فيه، مع أهميته في فهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو فهم الأحاديث في ضوء أسباب ورودها، لبيان أهمية هذا الأساس، والجهود السابقة التي بذلت في ذلك، ومتابعة هذه الجهود بتأسيس منهج تسير عليه الدراسة القادمة، ونتناول ذلك في الفصل الآتي.


ميارى 1 - 8 - 2010 03:11 AM

تحليل وتأسيس أسباب ورود الحديث بداية التأليف في أسباب الورود

لقد كانت البدايةُ، في محاكاة ما كُتب في أسباب النزول للكتاب العزيز؛ لما وقَفَ عليه العلماءُ من أهمية المعرفة بأسباب نزول آيات القرآن الكريم في فهمِ معاني الآيات الكريمة المرتبطة بأسباب لنزولها، فشرع بعض العلماء من أهل الحديث في تصنيف أسباب ورود الحديث بمنهجِ أسبابِ نزولِ آيات القرآن الكريم، يقول الإمام السيوطي: "…من أنواع علوم الحديث معرفة أسبابه، كأسباب نزول القرآن، وقد صنّف فيه الأئمة كتبًا في أسباب نزول القرآن، واشتُهر منها كتابُ الواحدي، ولي فيه تأليف جامع يُسمى "لباب النقول في أسباب النزول".

وأما أسبابُ الحديث : فألف فيه بعضُ المتقدمين، ولم نقف عليه، وإنما ذكروه في ترجمته، وذكره الحافظُ أبو الفضل ابنُ حجر في شرح النخبة.

وقد أحببتُ أن أجمع فيه كتابًا، فتتبعت جوامع الحديث، والتقطت منها نُبذًا، وجمعتها في هذا الكتاب. والله الموفق والهادي للصواب" ويقصد السيوطي بذلك كتابه " اللمع في أسباب الحديث".

ويذكر جهد من سبقه في ذلك بقول شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كتابه: "محاسن الاصطلاح": "النوع التاسعُ والستون: معرفةُ أسباب الحديث، قال الشيخُ أبو الفتح القُشيريُّ المشهور بابن دقيق العيد رحمه الله في شرح العمدة في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات" في البحث التاسع: "شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف أسباب الحديث، كما صُنِّف في أسباب النزول للكتاب العزيز، فوقفت من ذلك على شيء يسير له، وحديثُ "إنما الأعمال بالنيات" يدخل في هذا القبيل، ويَنْضمُّ إلى ذلك نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه.

وإذا كان الإمام السيوطي قد ذكر ما وقف عليه من نماذج سابقة "في أسباب الورود" - كما رأينا - فإنه أشار في الوقت نفسه إلى مصنفات مفقودة في هذا الموضوع منها:

- تصنيف أبي حفص العُكْبري.

- وتصنيف أبي حامد بن قتاده الجوباري.

وذكر السيوطي قول الذهبي - بعد هذا التصنيف - : "ولم يسبق إلى ذلك".

كما أشار صاحب مفتاح السعادة إلى وجود مصنفات في هذا الفن لكنه لم يرها.

وعلى ذلك فالمصنفات التي بين أيدينا في هذا النوع من أنواع علوم الحديث، والتي يمكن أن نتعامل معها تحليلاً ودراسة، هي على هذا الترتيب:

1- ما كتبه الحافظ البلقيني في كتابه محاسن الاصطلاح، وتضمين كتاب ابن الصلاح، والذي تتبع فيه مقدمة ابن الصلاح فقرةً فقرة، فأعاد صياغتها تضمينًا، ثم عقَّب عليها بفوائد وزيادات تُفصِّل ما أجمل ابن الصلاح، وتستدرك ما فاته، وتناقشُ ما يرد على كلامه، حيثما بدا وجه اعتراض، ثم لما وصل في محاسنه إلى نهاية المقدمة، تابع تقديم أنواعٍ خمسةٍ من علوم الحديث لم يتكلم عنها "ابن الصلاح" في مقدمته، ومنها النوع التاسع والستون: "معرفة أسباب الحديث".

والذي يجعلني أعدُّ هذا الصنيع، من المصنفات، أن الإمام البلقيني لم يتعامل مع هذا النوع تعامله مع الأنواع الأخرى في ذكر قوانين الرواية، وما عُرف من منهج مصطلح الحديث، ولكنه زاد على ذلك. تصنيفًا لمجموعة من الأحاديث بأسبابها، مبينًا كيف يكون التصنيف في هذا النوع؛ فلم يكتف بمثالٍ أو مثالين، وإنما قدّم مجموعةً من الروايات، تُعدُّ مثالاً يُحتذى في هذا الموضوع.

2- "اللُّمع في أسباب الحديث"، أو "أسباب ورود الحديث" للحافظ جلال الدين السيوطي، وقد قام بتحقيقه الدكتور يحيى إسماعيل، في عمله للماجستير.

3- "البيانُ والتعريفُ في أسباب ورود الحديث الشريف" تأليف السيد الشريف إبراهيم بن محمد بن كمال الدين الشهير بابن حمزة الحُسيني الدمشقي،وقد حققه وعلق عليه فضيلة الدكتور الحسيني عبد المجيد هاشم رحمه الله.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:12 AM

ارتباط سبب الورود بسبب النزول

وإذا كان ابن دقيق العيد والسيوطي قد نبّها - كما مر - إلى هذه العلاقة، بين أسباب الورود وما كتب فيها، وأسباب النزول وما كتب فيها، فإن المتأمل في هذه الكتابات، يجد أن المصنفين في أسباب النزول، هم المشتغلون بالروايات وما يتصل بعلوم الحديث؛ فقد ذكر الإمام الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"، عناية المفسرين في كتبهم بمعرفة أسباب النزول، وأنهم أفردوا فيه تصانيف، منهم "علي بن المديني" شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي.

واتفق الإمام السيوطي مع الإمام الزركشي في وصف كتاب أسباب النزول لأبي الحسن "علي بن أحمد الواحدي النيسابوري" بأنه أحسنها.

كما يقول السيوطي: ثم شيخ الإسلام حافظ العصر، أبو الفضل "ابن حجر".

غير أن الإمام السيوطي - وقد ألف في هذا كتابه لباب النقول في أسباب النزول - يذكر في كتابه "الإتقان"، ما يشعر بسبب تأليفه لهذا الكتاب، على الرغم من شهادته بالحسن لكتاب الواحدي، فيقول: "ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره "الجعبري" فحذف أسانيده، ولم يزد عليه شيئًا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابًا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملاً، وقد ألف فيه كتابًا حافلاً موجزًا محرراً، لم يؤلف مثله في هذا النوع.

وعلى كل حال، فكل من كتب - بعد ذلك - في أسباب النزول، فإن مصادره الأساسية ما ذكر في البرهان، والإتقان، وما جمع من أسباب النزول في الكتب السابقة، ومن أجمع ما كتب من دراسة حديثة في هذا، ما سطره الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن".

وتعود الصلة بين أسباب النزول وأسباب الورود، إلى ما يلي:


ميارى 1 - 8 - 2010 03:14 AM

أولا : اعتماد النوعين على رواية الصحابي أو التابعي

فيذكر السيوطي في الإتقان قول الواحدي: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها، وقد قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله من القرآن.

وقال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي، الذي شهد الوحي والتنزيل، عن آية من القرآن الكريم أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره.

ويقول السيوطي: "وما كان منه عن صحابي، فهو مسند مرفوع، إذ قول الصحابي فيهما لا مدخل فيه للاجتهاد، مرفوع.

أو تابعي فمرسل. وشرط قبولهما صحة السند، ويزيد الثاني (وهو المرسل) أن يكون راويه معروفًا بأنه لا يروي إلا عن الصحابة، أو ورد له شاهد مرسل أو متصل،ولو ضعيفًا.

وإذا تعارض فيه حديثان؛ فإن إمكن الجمع بينهما فذاك؛ كآية اللعان، ففي الصحيح عن سهل بن سعد الساعدي أنها نزلت في قصة عُويْمر العجلاني، وفيه أيضاً - أنها نزلت في قصة هلال بن أمية، فيمكن أنها نزلت في حقهما، أي بعد سؤال كل منهما، فيُجمع بهذا.

وإن لم يكن قُدّم ما كان سنده صحيحًا، أو له مُرجّح، ككون راويه صاحب الواقعة التي نزلت فيها الآية، ونحو ذلك،

فإن استويا، فهل يُحمل على النزول مرتين، أو يكون مضطربًا يقتضي طرح كل منهما.

عندي فيه احتمالان.

وفي الحديث ما يشبهه.

وربما كان في إحدى القصتين "فتلا" فوهم الراوي فقال: "فنزلت". مثال ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس، قال: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ فأنزل الله: (وَما قدروا الله حق قدْرِه… )(الأنعام:91). والحديث في الصحيح بلفظ "فتلا" رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصواب، فإن الآية مكية".

ومثال ذلك - أيضًا - ما أخرجه البخاري رحمه الله، عن أنس رضي الله عنه ، قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي:

ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد، إلى أبيه أو أمه؟

قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا، قال: جبريل؟

قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة.. فقرأ هذه الآية: (مَن كان عدُوًّا لجبريل فإنه نزله على قلْبِك )(البقرة:97).

قال ابن حجر في شرح البخاري: ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردًا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام.

وعلى ذلك فإن سبب النزول، يجري عليه من الأحكام ما يجري على الأحاديث، من جهة التوثيق للروايات، والتأليف - بالطرق العلمية المعروفة لدى علماء الحديث - بين مختلفها، غير أن سبب النزول يتميز بارتباطه بآيات الذكر الحكيم وقت نزولها.

ولذلك ينبغي أن نعمق النظر للتفريق بين السبب في النزول، وما يجري في الأحاديث من بيان المعاني فيما تضمنته آيات القرآن الكريم، فمجئ عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، سبب لورود الحديث، ومن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء ذكر جبريل عليه السلام، وجاء قول عبد الله بن سلام في جبريل من خلال تصور اليهود له، فجاء ذكر الآية الكريمة، بسبب ورود الحديث السابق، وذكرها - هنا - لا يعد سببًا لنزولها، حيث نزلت بسبب آخر، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، من طريق بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله فقالوا: يا أبا القاسم ! إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ، فذكر الحديث.. وفيه أنهم سألوه عما حرّم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي ،وعن الرعد وصوته، وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمّن يأتيه بخبر السماء، إلى أن قالوا: فأخبرنا من صاحبك؟

قال جبريل؟ قالوا: جبريل ! ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوّنا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان خيرًا، فنزلت.

وعلى ذلك فإن الدقة في التفريق بين سبب النزول، وسبب الورود، ضرورية، حتى يكون الاجتهاد في فهم النصوص، واستنباط الأحكام منها، صحيحًا.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:16 AM

ثانيًا: معرفة سبب النزول، وكذلك سبب الورود، تجعل الإنسان مدركًا لحقيقة المعنى وأبعاده:


ويعايش جزئيات الأسباب، ووجه الارتباط بين النص والحكم، والحكمة التي تكون في هذا الارتباط، وهذا يعين المجتهدين في كل عصر، لمعرفة الصفات المشتركة بين الفرع والأصل عند القياس، كما ييسر على المجتهدين الوقوف على تحقق الحكمة عند استنباط الأحكام للمشكلات المعاصرة، يقول الزركشي : "وأخطأ مَنْ زعم أنه لا طائل تحته، لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:18 AM

ثالثًا : معرفة سبب النزول، وكذلك سبب الورود، يزيل الإشكال

عند الوقوف أمام المعاني في بعض الآيات، وفي بعض الأحاديث، يقول الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها".
ويقول ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول، طريق قوي في فهم معاني القرآن".
ويقول ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
ومن أمثلة ذلك:
أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: (لا تحْسبنّ الذين يفرحون بما أتوا وّيُحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذابُ أليم )(آل عمران:188).. فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذبًا، لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيننه للناس ولا تكتُمونه فنبَذُوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذاب أليم )(آل عمران:187-188).

وأما الأمثلة التي تتعلق بأسباب الورود، فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي، مجموعة منها في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط"، قدم لها بقوله: " لا بد لفهم الحديث فهمًا سليمًا دقيقًا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانًا لها، وعلاجًا لظروفها، حتى يتحدد المرادُ من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.

ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يُعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله، حتى لا يقع فيما وقع فيه بعضُ الغلاة من الخوارج وغيرهم، ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين، وطبّقوها على المسلمين، ولهذا كان ابنُ عمر يراهم شرار الخلق، بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه.

فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره، كانت أسبابُ ورود الحديث أشدّ طلبًا.

ذلك أن القرآن بطبيعته عامّ وخالدُ، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات، والتفصيلات، والآنيات، إلا لتُؤخذ منها المبادئ والعبر.

أما السنة فهي تعالج كثيرًا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن.

فلا بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو خالد، وما هو جزئيُّ، وما هو كليُّ، فلكلّ منها حكمُه، والنظرُ إلى السياق والملابسات والأسباب، تساعد على سداد الفهم، واستقامته لمن وفقه الله".

والأمثلة التي قُدمت لبيان أهمية أسباب الورود، وأثرها في الفهم الصحيح، تجمع بين ذكر الحديث، والفهم الخطأ له، والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هذا الحديث.

فمثلاً يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنهما ، وكذلك عن أنس رضي الله عنه : "أنتم أعلم بأمور دنياكم".

وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأةً للفصل بين الدنيا والدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكَلَ إلى الناس أمر دنياهم، فهم أعلم بها. وهذا خطأ في الفهم، يُردّه هذا الموقف التعليمي التربوي، الذي يُفهم من قصة هذا الحديث، وسبب وروده، وهي قصة تأبير النخل.

ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير، تخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي تخضع للخبرة، والتجربة، والتحسين المستمر، بما يفتح الله سبحانه به على عباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله سبحانه لعباده من الأصول العامة، التي ترشد هذه المتغيرات، فشأن المسلم في هذا، أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة، والتجربة، والنتيجة العلمية، ولا يقول: كان الشأن في ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال فيها بكذا، ما لم يكن هذا القول وحيًا مُلزمًا، وهذا - عادة - يكون في الجوانب الثابتة من أمور العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأخبار، وأصول المعاملات، التي ترشّد ما يكون فيها من متغيرات.

والمثال الآخر، يذكر فيه الحديث الذي رواه أبو داود في الجهاد، ورواه الترمذي في السير: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين - لا تتراءى نارُهما"، والفهم الخطأ لهذا الحديث، تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين بصفة عامة، مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا، للتعلم، وللتداوي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، ولغير ذلك.

ويصحح هذا الفهم، بمعرفة سبب ورود الحديث، والذي جاء فيه: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى نارُهم ا".

فجعل لهم نصف الدّية وهم مسلمون؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم، بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله.

وعلل الإمام الخطابي إسقاط نصف الدية، بأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقطت حصة جنايته من الدية.

فقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، أي برئ من دمه إذا قُتل؛ لأنه عرّض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام .

ميارى 1 - 8 - 2010 03:21 AM

أسباب الورود عند الإمام البلقيني

وتتبع النماذج التي قدمها الإمام البلقيني، وتحليلها، يؤكد لنا ضرورة العناية بالاستقراء الشامل لكل روايات السنة المطهرة، للوقوف على علاقة النصوص بأسبابها.

ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث، "معرفة أسباب الحديث"، بعبارة ابن دقيق العيد، في شرح العمدة، في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات".

ويفيد كلام ابن دقيق العيد، أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخرًا، وهذا قد يعود إلى قرب عهد الرواة بمعرفة الأسباب والملابسات، التي قيلت فيها الأحاديث، واعتبار أن هذه المعرفة قد تجد طريقها في مباحث التاريخ والسير، إلا أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث، وأسباب النزول للكتاب العزيز، وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض الآيات، فكذلك الحال في كثير من الأحاديث النبوية، التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة، بمعرفة أسباب ورودها، وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث، كما صُنِّف في أسباب النزول للقرآن الكريم، ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هذا المجال، فقد وجد أن ما ورد في ذلك من الكتابات شيءٌ يسيرٌ، وأن الأمر يحتاج إلى تتبعٍ، وإلى نظر في الأحاديث؛ فقد يكون السبب موجودًا في الحديث نفسه، وهذا أمرُ يسيرُ، يحدده راوي الحديث أو القارئ له، ولكن الأصعب في ذلك أن يكون الحديث مجردًا من سببه، ويحتاج إلى تتبع هذا السبب في روايات أخرى، وفي كتب أخرى، وعند رواة آخرين.

والحديث الذي يذكر كمثالً لوجود السبب في الحديث نفسه، هو حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فقد ذكر أنهم نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى "أم قيس"، فسمّي "مهاجر أم قيس"، ولهذا ذُكر في الحديث شأن هذه المرأة، دون سائر ما يُنوى به الهجرة، من أفراد الأغراض الدنيوية.

ويورد البلقيني حديثًا آخر ليدلل به على وجود السبب في الحديث نفسه، مثل حديث (سؤال جبريل عن الإيمان، والإسلام ، والإحسان، وغيرها)، وكذلك حديث (القلتين) "إذا بلغ الماءُ قلتين لم يحمل نجسًا: سُئِل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب"… وكذلك حديث (الشفاعة)، سببه قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيدُ ولد آدم ولا فخر".. وكذلك حديث (سؤال النجدي).. وحديث (صلِّ فإنك لم تصلّ).. وحديث (خذي فرصة مُمسّكةً فتطهري بها" والفرصة بكسر الفاء.. وحديث (السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب).. وحديث (السائل: أيُّ الأعمال أفضل).. وحديث (سؤال: أيُّ الذنب أكبر)، وذلك كثير.

ونلاحظ أن البلقيني قد جعل السبب في هذه الأحاديث يعود إلى "السؤال"، ولكن هل السؤال المجرد يمكن أن يكون سببًا؟

إذا قلنا: إن السبب يعني الملابسات، والظروف والمواقف التي صاحبت ورود الحديث، ومعرفتها تبرز لنا المعنى في الحديث؛ فإن السؤال وحده، دون النظر إلى طبيعة السائل، وحاله، وصفاته، وما كان فيه عند السؤال من موقف، لا يحقق هذا المراد، ولذلك؛ فلا بد مع السؤال المجرد، من تتبع هذه الأحوال، وهذه الظروف والملابسات في مواضع أخرى، وعلى ذلك فإن هذا القسم الذي أشار إليه البلقيني، يتداخل مع القسم الثاني الذي ذكره في هذا الشأن بقوله: "وقد لا ينقل السبب في الحديث، أو ينقل في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناء به"… (ومن ذلك حديث: "أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة "). رواه البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وقد ورد في بعض الأحاديث، أنه ردُّ على سؤال سائل، وهذا أسنده ابن ماجه في سننه، والترمذي في الشمائل، من حديث عبد الله بن سعد، قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيُّما أفضل: الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: "ألا ترى إلى بيتي، ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحبُّ إليّ من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة" ، أخرجه ابن ماجه، وهذا لفظه من حديث شيخه أبي بكر بن خلف، وأخرجه الترمذي في الشمائل، عن عباس العنبري، عن عبد الرحمن بن مهدي بسنده.. إلا أنه قال: عن "حرام بن حكيم"، وعندما ننظر في هذا الحديث، نجد أن السؤال قد صُحِب ببيان حالة أخرى، نبه إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها تدعيم لهذا الحكم في الحديث، من أفضلية صلاة التطوع في البيت، وهي التي جاءت في صيغة هذا الاستفهام، الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليقرر قرب بيته من المسجد، ومحبته لصلاة التطوع في بيته، مع قرب المسجد منه إلا في الصلاة المكتوبة.

ومن ذلك حديث: "من صلى قاعًدا فله نصف أجر القائم "، رواه عمران بن حصين وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث عمران في صحيح البخاري، وأما سببه فرواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، عن معمر عن الزهري، أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قدمنا المدينة، فباء لنا وباء من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم، جلوسًا، فقال: "صلاة الجالس نصف صلاة القائم"، قال: فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام، قال عبد الرزاق عقيب هذا: أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي مُحِمّة فَحُمَّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون قعودًا فقال: "صلاة القاعد نصف صلاة القائم "، فتجشم الناس الصلاة قيامًا.

والطريق الثاني أجود، فإن الزهري لم يسمع عبد الله بن عمرو، وأيضًا فقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك، وهو ما رواه مسلم وغيره من حديث هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: حُدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة "، قال: فأتيت فوجدته يصلي جالسًا، فوضعت يدي على رأسي، فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدًا، قال: "أجل ولكن لست كأحدكم"، فظهر من هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو، لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بخلاف ما يشعر به ظاهر حديث عبد الرزاق، ولعله سمعه من بعض الصحابة أولاً، فلا تنافي.

وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للقاعد في الصلاة نصف أجر القائم، ولم يتعرض في هذا الحديث لذكر السبب. وما سبق من السبب، يستفاد منه أن هذا النصف لمن صلى وبه بعض مرض لا يلحقه حرج بالقيام، ويظهر من هذا السبب أن الصلاة كانت في المسجد وذلك لأحد أمرين:

(1) إما لأن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك، أنهم لا بيوت لهم بالمدينة، وهذا إنما يستفاد بذكر السبب المذكور.

(2) أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز، وحديث عبد الله بن سعد السابق نص في تفضيل صلاة النافلة في بيوت المدينة، على صلاة النفل بمسجد المدينة.

وقد اتضح لنا أن تتبع أسباب الورود، يظهر لنا ما قد يكون من أسباب ترجيح رواية على أخرى، وإدراك ما بين الرواة من وصف دقيق لطرق التحمل والأداء وما ينشأ عن ذلك من ترجيح رواية على أخرى، كما أن هذا التتبع بعين المتأمل في معاني النصوص لكي يحسن توجيهها، فإذا وجد هذا التقرير الذي يفيد أن صلاة الجالس نصف صلاة القائم، وجه ذلك إلى النافلة، وأن المرء إذا تجشم القيام فهو أفضل له، وأن الصلاة من جلوس في النافلة جائزة، ولكن هل تستوى الفريضة مع النافلة في هذا التصنيف المذكور؟.

الظاهر من النصوص أن هذا لا يكون مع الفريضة إذا لم تكن هناك استطاعة، فالمرء يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فجالسًا، وهكذا، ويكون أداؤه في هذه الحالة جريًا على القاعدة القرآنية الكريمة (لا يُكلف الله نفسًا إلا وُسعها )(البقرة:286). كما يتضح لنا من تتبع هذه الأسباب ما يكون من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم .

ولذلك كان توجيه سفيان الثوري: هذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره، فصلى جالسًا، فله مثل أجر القائم.

وحديث: "لا تصوم المرأة وبعْلُها شاهد إلا بإذنه" ، جاء في رواية (غير رمضان)، ورواه أبو هريرة، وهذا الحديث في الصحيحين والسنن.

وأما سببه: فرواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده فسأله عما قالت، قال: يا رسول الله أما قولها: (يضربني إذا صليت) فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس "، وأما قولها: (يفطرني) فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها " وأما قولها: (إني لا أصلي حتى تطلع الشمس)، فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: "فإذا استيقظت فصل ّ". أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يومئذ"، وفيه دلالة تشعر بأن مبدأ هذا الحكم، وسماعهم له، كان ذلك اليوم على هذا السبب، ومعنى ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة، ولجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم، لكي يتوجه النص الوجهة الصحيحة، فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج، فليس ذلك عامًا، وإنما يخص النافلة التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج، وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام التطوع، والذي قد تبالغ فيه.

وقد ظهر من تتبع هذا السبب، كيف صارت المرأة في الناحية العملية، إلى حفظ الكثير من القرآن الكريم، وإلى كثرة القراءة منه في صلاتها، وكيف أقبلت على عبادتها برغبة، جعلت الزوج يطلب أن تحد منها، كما وجدنا شجاعة المرأة في عرض حالتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وزوجها شاهد، لأنها لا تريد الانتقاص من استمتاعها بهذه العبادات، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق بسنته التوازن في العلاقات، فلها أن تقرأ، ولكن بما تيسر، حفاظًا على حق الزوج، ولها أن تصوم التطوع، ولكن بالتنسيق مع زوجها، حتى لا تضيّع حقه، كما أنها لا تسكت على منكر، فقد أخذت عليه أنه يصلي الفجر بعد طلوع الشمس، وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن هذه حالة تخص هذا الرجل، لأعذار لم تذكر في الحديث، إلا في قوله: إنا أهل بيت عرف لنا ذلك. فهل هذا يعود إلى عمل لهم في الليل، أو إلى حالات قد تكون مرضية لا تمكنهم من الاستيقاظ حتى تطلع الشمس، قد يكون ذلك، لأن الأحاديث الأخرى أخذت على من ينام حتى يصبح، أن الشيطان بال في أذنيه.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح! قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه -أو قال- اُذُنه " متفق عليه.

ولقد كان لتتبعي ما يتصل بهذا السبب المذكور، من ملابسات وأسباب، من النتائج ما يؤكد أن ما نعده سببًا لحديث، قد يكون هو - أيضًا - في حاجة إلى بيان ما يرتبط به من أسباب.

فالإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان بن المعطل، والمذكور في الحديث السابق: "فإذا استيقظت فصلّ"، جعلني أتساءل أولاً عن موقف العلماء من هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. فوجدت أن الإمام الذهبي قد ذكر الحديث في ترجمة صفوان بن المعطل، ولكن علق عليه بقوله: "فهذا بعيد من حال صفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم على ساقة الجيش: فلعله آخر باسمه، فهذا الاستبعاد من الذهبي والذي بلغ التشكيك في كونه المراد بذلك على الرغم من أن محقق الكتاب ومخرج أحاديثه ذكر في تخريجه للحديث أن أبا داود أخرجه، وكذلك أحمد، ورجاله ثقات، وقال الحافظ في الإصابة: وإسناده صحيح.

وأما الإمام ابن القيم رحمه الله فقال: "وقال غير المنذري: ويدل على أن الحديث وهم، لا أصل له: أن في حديث الإفك المتفق على صحته قالت عائشة: "وإن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط، قال: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله شهيدًا". وفي هذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك، والله أعلم.

ويذكر صاحب عون المعبود من الملابسات والظروف، ما يوضح هذا الإذن فيقول: "فإنا أهل بيت"، أي إنا أهل صنعة لا ننام الليل، "قد عرف لنا ذلك" أي عادتنا ذلك، وهي أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليالي، "لا نكاد نستيقظ" أي إذا رقدنا آخر الليل. "قال: فإذا استيقظت فصلِّ" ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ، ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يُغمى عليه، فعذر فيه، ولم يثرب عليه.

ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم، حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال، فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات، وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي مثل هذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده، والله أعلم.

والذي جعل صاحب عون المعبود، يسلك مسلك التأويل المذكور، هو ما قاله أبو داود في تخريج هذا الحديث بعد روايته له: "قال أبو داود: رواه حماد - يعني ابن سلمة - عن حُميد أو ثابت، عن أبي المتوكل".

وطريق أبي داود في هذه الرواية: "حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال:".

وأبو المتوكل هو الناجي البصري، "والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه، ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضًا - بل تابعه حميد أو ثابت، وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة".

يقول صاحب عون المعبود: "وفي هذا كله رد على الإمام أبي بكر البزار، وسيجيء كلامه، قال المنذري: قال أبو بكر البزار: هذا الحديث كلامه منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: ولو ثبت احتمل: إنما يكون أمرها بذلك استحبابًا، وكان صفوان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أتى نكرة هذا الحديث أن الأعمش لم يقل: حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه عن غير ثقة، وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه، و رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدح هذا الرجل، ويذكره بخير، وليس للحديث عندي أصل".

ومن التتبع الذي أرى ضرورته، لتجلية العلاقات بين الروايات ورواتها، وجدت في تاريخ دمشق لابن عساكر روايتين، لهما علاقة بصحو صفوان رضي الله عنه ونومه، وبهما يرجح تأويل قول صفوان: "إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك" وأن هذا لم يكن عادة دائمة فيه، بل يدخل هذا الأمر في دائرة الضرورة التي تقدر بقدرها، فإذا كان مجهدًا متعبًا من أثر العمل الليلي، وغلبه النوم فليس في النوم، تفريط.

أما الرواية الأولى، يقول فيها صفوان رضي الله عنه : "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرمقتُ صلاته، فصلى العشاء الآخرة ثم نام، فلما كان نصف الليل استنبه، فتلا العشر آيات آخر سورة آل عمران، ثم قام، ثم تسوك، ثم قام فتوضأ، وصلى ركعتين، فلا أدري أقيامه، أم ركوعه، أم سجوده، أطول، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ ففعل مثل ذلك، فلم يزل يفعل كما فعل أول مرة، حتى صلّى إحدى عشرة ركعة".

فالذي يصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل وفي السفر؛ في أقواله وأفعاله، لا نستطيع أن نقول: إن عادته النوم ليلاً حتى تطلع الشمس.

ووجدت هذا الحديث في سير أعلام النبلاء، مع تخريج محقق الكتاب، ويذكر أن إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن جعفر المديني والد علي، والحديث في المسند، والطبراني.

والرواية الثانية يقول فيها أبو هريرة رضي الله عنه :

جاء صفوان بن المعطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إني سائلك عن أمر أنت به عالم، وأنا به جاهل. قال: وما هو؟

قال: هل من ساعات من الليل والنهار ساعة تكره فيها الصلاة؟

قال: "نعم. إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، ثم الصلاة محضورة متقبّلة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح، فإذا كانت على رأسك فدع الصلاة، فإن تلك الساعة التي تُسجر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فصلّ، فإن الصلات محضورة متقبلة، حتى تصلي العصر، ثم ذكر الصلاة حتى تغرب الشمس ".

فهذا البيان لأوقات الصلاة، فيه ما يتعلق بالوقت ا لمذكور في حديث امرأة صفوان. وجاء في بيان الأوقات: "إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس"، فهو خطاب مباشر دون ذكر للحالة التي يمكن أن تطرأ من غلبة النوم.

وعلى كل حال، فإن تتبع الروايات، يمنح المزيد من تجلية المعاني والمواقف، ويصحح الفهم للروايات جميعها.

وحديث: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا "، وفي رواية: (فاقضوا).

وقد فسر ابن الأثير السعي بالعدو، أي المشي السريع، ويدل ذلك على أن المسبوق يدخل مع الإمام على أي حالة وجده، ثم إذا سلّم الإمام أتى المسبوق بما بقي.

وسبب هذا الحديث: ما رواه أبو نعيم قال: حدثنا سليم بن أحمد قال: أنا أبو زُرعه، أنا يحيى بن صالح الوحاظي، أنا فُليح بن سليمان، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مُرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنا نأتي الصلاة، فإذا جاء رجل وقد سبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه، قد سبقت بكذا، فيقضي، قال: وكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئت يومًا وقد سبقت ببعض الصلاة، وأشير إليّ بالذي سبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلا كنت عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت، فصليت واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: من القائل كذا وكذا؟ قالوا : معاذ بن جبل، فقال: قد سن لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام فلْيقض ما سبقه به .

وروى أبو نعيم عن سليمان بن أحمد قال: أنا محمد بن محمد بن التمار البصري، ثنا حرمي بن حفص العتكي، أنا عبد العزيز بن مسلم، عن حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سبق أحدهم بشيء من الصلاة، سألهم، فأشاروا إليه بالذي سبق به، فيصلي ما سبق به ثم يدخل معهم في صلاتهم، فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم فقعد معهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ما سبق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا ما صنع معاذ).

فذكر السبب.. بيّن القصة التي شرحت الأمر السابق، وما صار إليه بعد فعل معاذ، الذي وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم التقريرية لفعل معاذ، فبيّن السبب أن المسبوق كان يبتدئ بعد أن يكون منفردًا، وقد أجاز ذلك جمْع من أهل العلم، ومنهم الشافعي في أرجح قولية، وقال في موضع آخر: ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتمّ بغيره، وهذا منسوخ.

وقد كان المسلمون يصنعون ذلك، حتى جاء معاذ بن جبل، أو عبد الله بن مسعود، وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الصلاة، فدخل معه، ثم قام يقضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"إن ابن مسعود -أو معاذًا- قد سن لكم سنة فاتبعوها"، قال المزني: قوله عليه الصلاة والسلام: "إن معاذًا قد سن لكم"، يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستن بهذه السنة، فوافق ذلك فعل معاذ.

ويرى البلقيني: أن ما قاله المزني يشير به إلى أن معاذًا أقدم على ذلك بأمرٍ ظهر له من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وبقي للمجتهدين أن يفسروا ماذا يُراد بالقضاء أو الإتمام. فهل القضاء يعني أن ما فاتهم يؤدى على ما أداه الإمام؟ أم أن الإتمام سيجعل المسبوق يحسب لنفسه ما صلاه مع الإمام ثم يتم ما بقي من صلاته؟

ويكفينا من هذا التساؤل، الإشارة إلى بحث هذا في موضعه.

وحديــث: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ".

وفي هذا الحديث الذي يقول: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله"، وهذا الحديث له سبب، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، من حديث أبي نملة الأنصاري، وهو عمار بن معاذ بن زرارة بن عمر بن غُنْم الخزرجي الأنصاري، أنه قال: بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود، مُرَّ بجنازة فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أعلم. فقال اليهودي: إنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقًا لم تكذبوه " أخرجه أبو داود في كتاب العلم، في الباب الثاني منه.

ففي هذا السبب، بيان واضح للحديث، وتفسير النهي المذكور فيه، والذي قد يلتبس على من لم يعلم سبب ورود الحديث.. كما أن معرفة السبب، بيّنت جوانب أخرى، هي من فوائد معرفة أسباب ورود الحديث، ومنها: موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشيء الغيبي، الذي لا يعلمه، فإنه يقول فيه: لا أعلم، حتى يخبره الله سبحانه بما شاء من علمه، وفي هذا تعليم لأمته، إذا استفتي أحدهم فلا يستحي من قول: لا أعلم، أو لا أدري، فإن من ترك هذه العبارة في مواضعها فقد أصيبت مقاتله كما ذكر العلماء.

كما أفاد هذا الموقف بيان طبيعة اليهود، ومظاهر التعنت التي سلكوها، ومنها : توجيه الأسئلة للإحراج، والمصحوبة بادّعاء العلم والكذب على الله.

وموقف النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي فسره سبب الورود، يصيب الحقيقة دون الانفعال الغاضب من فعل اليهود، فلا تصديق لهم فيما يحدثون به، لأنهم يكذبون ، ولا تكذيب لهم كذلك فيما يحدثون، لأنهم قد يخلطون بين حق وباطل، وإنما يكون التصديق بأصل ما نزل على موسى عليه السلام من التوراة، وأما ما في أيديهم فقد حرفوه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "وقولوا آمنا بالله ورسله ".

ومن ذلك، حديـث: "الخراج بالضمان "، فقد رواه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وأصحاب السنن، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ؛ وحسنه "الترمذي" من طريق مخلد بن خُفاف، عن عروة عن عائشة، وصححه "ابن حبان" من هذا الطريق.

ورواه "الترمذي" من حديث عمرو بن علي المقدمي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام، واستغربه "البخاري" من حديث عمرو بن علي، وللحديث طرق أخرى.

وقد ذكر سبب هذا الحديث في بعض طرقه.

فذكر الإمام "الشافعي" رحمه الله، من رواية مسلم بن خالد الزنجي، فقال: ولا أحسب، بل لا أشك -إن شاء الله- أن مسلمًا نصّ الحديث، (ومعنى "نصّ الحديث":رفعه، ومسلم -هنا- هو ابن خالد الزنجي).

فذكر أن رجلاً ابتاع عبدًا فاستعمله، ثم ظهر منه على عيب، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيب، فقال المقضيّ عليه؛ قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الخراج بالضمان".

(وفسر ابن الأثير الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة، وتقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي سببه).

والذي ذكره الإمام الشافعي، قد أسنده "أبو داود"، من حديث مسلم بن خالد على الجزم، فقال: ثنا إبراهيم بن مروان، قال: ثنا أبي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما، أن رجلاً ابتاع عبدًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".. ورواه ابن ماجه من حديث شيخه هشام بن عمار، قال: "ثنا مسلم بن خالد، ثنا هشام" فذكره.

قال "أبو داود" عقب روايته الحديث: هذا إسناد ليس بذاك. وإنما قال "أبو داود" هذا من أجل مسلم بن خالد الزنجي، ومسلم بن خالد قد وثقه يحيى بن معين في رواية عباس الدوري والدارمي، ولم ينفرد برواية الحديث عن هشام، فقد رواه عمر بن علي المقدمي عن هشام - كما سبق - وتابعه على ذلك جرير، وإن كان جرير قد نُسب فيه إلى التدليس.

ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب، فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد، قال الشافعي رحمه الله : "أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللتُه، ثم ظهرت فيه علي عيب، فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى له بردّه، وقضى عليّ بردّ غلّته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر رحمه الله، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر عليّ من قضاء قضيته - والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغني سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له".

وقد رواه "أبو داود الطيالسي"، عن ابن أبي ذئب بمعنى رواية "الشافعي"، ورواية الشافعي أتم، وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة.

وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر، يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب.

قال "أبو داود": ثنا محمد بن خالد، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن مخلد الغفاري، قال: كان بيني وبين أناس شركة في عبد، فاكتريته، وبعضنا غائب، فأغلّ عليّ غلّة خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان".

وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين، والأخذ بالسبب المرفوع أقوى، لأمور ليس هذا موضع بسطها.

هكذا يحكي الإمام البلقيني وهو يورد حديث "الخراج بالضمان"، ويتتبع أسباب وروده بالطرق المتعددة، وقد بيّن لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق ولا يكون في غيره.

ولهذا فإن التتبع، هو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود.

وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض، وقد يكون بعضها واهياً لا يعتد به.

ومعنى ذلك أن الأسباب تعامل في الحكم عليها، معاملة الحديث ذاته، من جهة سندها ومتنها، ولا فرق، وذلك لأن اعتماد سبب الورود سيؤثر في فهمنا للحديث نفسه.

وقد رأينا كيف أن سنن أبي داود قد جاء فيها ما يفيد أمرًا آخر، وهو تعدي ذلك إلى الغاصب.

ولذلك وجدنا عبارة البلقيني، والتي جعلها نتيجةً لتتبعه طرق الحديث: "والأخذ بالسبب المرفوع أقوى".

فهذه العبارة وإن كان أرجأ البسط فيها إلا أنها تفيد خضوع طرق الأسباب إلى المرجحات المعروفة لدى علماء الحديث، كما أنها تفيد في الوقت نفسه، أن ترجيح السبب المرفوع، يعود إلى الوقوف المباشر على الظروف، والملابسات، والقرائن، التي صاحبت الحديث.

وهذا يعين على فهم الحديث، كما يعين على حسن فقه المسألة، والانتفاع المعاصر بها بالقياس عليها، وقد صرح بذلك "البلقيني" في قوله: "وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة".

ويذكر البلقيني مثالاً آخر، وهو الإرخاص في "العَرايا".

فيقول: ومن ذلك الإرخاص في العرايا، رواه "البخاري، ومسلم" من حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم، ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، تقييد الرخصة بما دون خمسة أوْسُق، أو خمسة أوسُق - شكّ داود بن الحصين، أحد رواة الحديث.

أما سبب ورود هذا الحديث، فقد ذكره "الشافعي" وغيره، قال الشافعي رحمه الله في "كتاب البيوع": "وقال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إما زيد بن ثابت، وإما غيره - ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وفلان -وسمى رجالاً محتاجين من الأنصار- شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر؛ فرخّص لهم أن يبتاعوا العرايا بِخًرْصها، من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبًا".

وقال الشافعي رحمه الله في "كتاب اختلاف الحديث" : "والعرايا التي أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما ذكره محمود بن لبيد قال: سألت زيد بن ثابت فقلت: ما عراياكم هذه التي تحلونها؟ فذكر معنى ما ذكره في البيوع، قال الشافعي رحمه الله : "وحديث سفيان يدل على مثل هذا الحديث". وهو ما رواه الشافعي رحمه الله ، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، قال: سمعت سهل بن أبي حثْمة يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا.

وأراد الشافعي بذلك قوله: "يأكلها أهلها رطبًا" ، وليس يدل على تتمة السبب.

فتتبع سبب الورود، فسر العرايا من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة أخرى.

واختيار البلقيني لهذا المثال، يدل على ذلك.

وأكد البلقيني هذه الفائدة من فوائد تتبع أسباب الورود، وهو إزالة التعارض في هذا المثال الآخر، وهو حديث النهي عن كراء الأرض - وفي لفظ: كراء المزارع، وهو المراد بالأول.

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، جماعة من الصحابة، منهم "رافع بن خديج"، ولحديث طرق، منها ما رواه نافع: أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافته أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخل عليه وأنا معه وسأله فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع"، فتركها ابن عمر بعد ذلك، فكان إذا سُئل عنها بعد، قال: "زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها" ، رواه "مسلم" بهذا اللفظ.

وفي "البخاري" نحوه إلى قوله: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: "قد علمتُ أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء بشيء من التبن".

والحديث في كتاب البيوع، من صحيح البخاري، قال "القسطلاني" على هامشه: "قوله: الأربعاء، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة ممدودًا: جمع ربيع، وهو النهر الصغير.

وقوله: من التبن، بالموحدة الساكنة. وحاصل حديث ابن عمر هذا، أنه ينكر على رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض، ويقول: "الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، هو الذي كانوا يدخلون فيه الشرط الفاسد، وهو أنهم يشترطون ما على الأربعاء، وطائفة من التبن، وهو مجهول".

وفي رواية لنافع، أن ابن عمر كان يؤجر الأرض، قال: فنبئ حديثًا عن رافع، قال: فانطلق بي معه إليه. قال: فذكر عن بعض عمومته، ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض، قال: فتركه ابن عمر فلم يأجُرْه"، رواه "مسلم" بهذا اللفظ.

ومنها رواية سالم بن عبد الله: "أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج، ماذا تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟

قال رافع بن خديج لعبد الله: "سمعت عمّي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تُكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض" رواه مسلم. وأخرج البخاري قول عبد الله بن عمر الذي في آخره.

وفيها رواية أبي النجاشي، مولى رافع بن خديج، عن رافع أن ظهير بن رافع - وهو عمه - قال ظهير: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا، فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو حق.

قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربع، والأوسق من التمر والشعير، قال: "فلا تفعلوا، ازرعوها، أو أُزرِعوها، أو امسكوها""رواه "البخاري"، وفي روايته: "قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة" ، ورواه مسلم وهذا لفظه.

ومنها رواية سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج، قال: "كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمّى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا: نهانا أن نحاقل الأرض، فنكريها على الثلث، والربع، والطعام المسمّى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، وكره كِراها، وما سوى ذلك". رواه "مسلم" بهذا اللفظ، وله طرق.

وممن رواه من الصحابة: "جابر بن عبد الله" وله ألفاظ كلها في "الصحيح"، منها عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض".

ومنها، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليُزْرِعها أخاه ".

ومنها، قال "جابر": كان لرجال فضولُ أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كانت له فضل أرض فليزرعْها أو ليمْنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه". ومنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعْها، أو ليُزْرِعها أخاه، ولا يَكْرِها".

والكلُّ من رواية "عطاء" عنه.

ومنها رواية "سعيد بن ميناء" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له فضل أرض فليزرعْها أو ليُزرِعها أخاه، وقال ولا تبيعوها" قال الراوي عن ابن ميناء: ما "ولا تبيعوها"؟، يعني الكراء؟ قال: نعم.

وممن روى ذلك من الصحابة "أبو هريرة" رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "من كانت له أرض فليزرعْها أو ليمْنحها أخاه، فإن أبى فليُمسك أرضه". رواه "مسلم" مسندًا عن حسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة، عن معاوية، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وذكره البخاري تعليقًا.

يقول البلقيني: ولذلك سبب، وهو ما جاء عن رافع بن خديج "قال: كنا أكثر أهل المدينة مزرعًا، كنا نكري الأرض بالناحية منها على مسمى، فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري. وعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً، كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، قال: فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك. "فأما الورق فلم ينهنا"، رواه مسلم، وهذا لفظه.

وروى البخاري عنه قال: "كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم -وفي لفظ له أيضًا- فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهينا عن ذلك، ولم نُنْه عن الورق".

ولمسلم عن حنظلة بن قيس الأنصاري، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، قال: فقلت: أفي الذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به".

وفي رواية لمسلم عن حنظلة، قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر الناس عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به".

فهكذا يتتبع الإمام البلقيني الروايات التي تتضمن سبب الورود، وما تتضمنه هذه الروايات من مواقف للصحابة رضوان الله عليهم، كموقف عبد الله عمر رضي الله عنه من تسليمه وإذعانه لأمر لم يكن يعلمه من قبل، وإذعان رافع لما أمر به، وإذعان الرجل من بني عمومته،ولو كان في تصوره لا يطابق منفعة كما قال: "…عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا".

وما يصحب هذه المواقف من بيان ما كان عليه الناس في معاملاتهم، وتوافق الفتوى على ما كانوا عليه، وبيان أسباب النهي وملابساته، وغير ذلك من الفوائد العلمية، التي يقف عليها المتتبع لأسباب الورود.

يقول البلقيني - بعد إيراد هذه الروايات -:

فقد صرّحت هذه الروايات بالسبب المقتضى للنهي: وأما ما سبق من رواية سليمان بن يسار، عن رافع، عن رجل من عمومته، التي فيها النهي عن كراء الأرض بالطعام المسمى - وقد رواها مسلم من طريق أبي الطاهر عن رافع، من غير ذكر: بعض عمومته 0 فهو محمول على الطعام المسمى من تلك الأرض، لا على المضمون في الذمة، ولهذا السبب طرق أخرى من رواية رافع. وأما رواية جابر -يرفعه- قال: كنا نخاير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له أرض فليزرعها، أو فليُحْرثها أخاه، وإلا فليدعْها" رواه مسلم.

وله عنه قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نأخذ الأرض بالثلث أو الربع، بالماذيانات؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من كانت له أرض فليزرعْها، فإن لم يزرعْها فليمْنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها ".

ويخلص البلقيني إلى تحرير القول في هذه الروايات، فيقول: فظهر بذلك أن النهي عن كراء الأرض في حديث "جابر"، إنما كان لهذا السبب، لا أنه نهى عن الإجارة مطلقًا.

ويكون نهي عن كراء الأرض بما كان يعتاد من الأمور التي فيها الغرر والجهل، ويؤدي إلى النزاع.

ويشهد له ما جاء عن "سعد بن أبي وقاص": أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كانوا يُكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع، وما سُقي بالماء مما حول البئر، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكروا بذلك، وقال: "اكروا بالذهب والفضة ". رواه الإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبو داود، والنسائي. وللعلماء في هذه الأحاديث مقالات ليس هذا موضع بسطها.

وينبه "البلقيني" في دراسة أسباب ورود الحديث، إلى أن السبب قد يكون من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون في طريق من طرق الرواية، وقد لا يكون في آخر. وهذا يقتضي التتبع والجمع للأسباب، يقول البلقيني: وما ذكر في هذا النوع من الأسباب: قد يكون ما ذكر عقد ذلك السبب من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد يكون تكلم به قبل ذلك لنحو ذلك السبب، أو لا لسبب. وقد يتعين أن يكون أول ما تكلم به في ذلك الوقت لأمور تظهر للعارف بهذا الشأن.

ويشير إلى موارد هذه الأسباب بقوله: وفي أبواب الشريعة والقصص وغيرها، أحاديث لها أسباب يطول شرحها. وما ذكرناه أنموذجُ لمن يريد تَعرّف ذلك، ومدخل لمن يريد أن يضيف مبسوطًا في ذلك. والمرجو من الله سبحانه وتعالى، الإعانة على مبسوط فيه، بفضله وكرمه. فهذا الأنموذج الذي قدمه الإمام البلقيني في أسباب ورود الحديث، هل يعد مدخلاً لمن يريد أن يضيف مبسوطًا في ذلك؟

لقد قدم البلقيني هذه الدراسة الموجزة لتكون مدخلاً لمن يريد الإضافة، ولكنها مع إيجازها قد وفت بما يرجوه القارئ والدارس من الأعمال الأولى الممهدة للطريق، فقد بين في دراسته ما يلي:-

ميارى 1 - 8 - 2010 03:22 AM

نتائج التحليل لنماذج البلقيني

أولاً: بين أهمية معرفة أسباب ورود الحديث، وأنها تتساوى في تحقيق الأغراض العلمية مع معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية الكريمة.

ثانياً: نظر إلى ما كتب قبل ذلك، فوجد نفسه أول من سيكتب في هذا الموضوع، فله فضل السبق، ومعاناة المؤسس، وما سبق في ذلك إلا بشيء يسير.

ثالثًا: استطاع أن ييسر لنا تقسيم الأسباب - وفق ما ورد في الأحاديث - إلى : أسباب تذكر في الحديث نفسه، وهذه لا تحتاج أكثر من حسن التدبر والتأمل، للربط بين الحديث وسببه، في الفهم والاستنباط.

وأسباب لا تذكر في الحديث نفسه، وإنما تأتي عن طرق أخرى، وخرجت في مصنفات أخرى.

وهذا القسم هو الذي يتطلب جهدًا علميًا في تتبع هذه الطرق، ويقتضي هذا التتبع القراءة الواسعة الواعية في كتب السنة، وحسن الربط بين المعاني في الرواية.

رابعًا: من خلال نماذجه، استطعنا أن نتعامل مع هذه الأسباب، باعتبارها روايات، مستقلة يجري عليها ما يجري على الروايات من قواعد النقد الحديثي، في السند والمتن.

خامسًا: قدم - لنا - نماذج لأسباب لا تتجاوز معنى سؤال السائل والإجابة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما دعاني إلى القول: بأن مثل هذه الأسباب في حاجة إلى مزيد من التتبع، لمعرفة أحوال السائل عند سؤاله، وطبيعة السؤال والبيئة التي قيل فيها، وغير ذلك من الملابسات والقرائن، التي تجعل للسؤال قيمة في معنى سبب الورود.

سادساً: قدم لنا أسبابًا في صورة قصة للحديث، أو تفسير حالة كان من أجلها الحكم الوارد في الحديث، أو بيان موقف كان له أثر في هذا الحكم، أو ملابسات اقترنت بهذا الحكم، أو خصوصية اقتضت هذا الحكم، أو تفصيلات لا بد من معرفتها لإمضاء هذا الحكم في الحديث.

سابعًا: نبّهنا إلى قيمة هذا التتبع في مقارنة الطرق، وظهور العلل الخفية - أحيانًا - عند هذه المقارنة بين الأسانيد.

ثامنًا : وجه الباحثين إلى موارد هذه الأسباب في أبواب الشريعة، حيث الأحكام، وفي القصص حيث المواقف والملابسات والظروف، وغيرها من الأبواب، التي تُطرق في تتبع هذه الأسباب.

تاسعًا: قدم لنا بهذا التتبع المصحوب الدراسة، كيف نجمع بين الروايات في الموضوع الواحد، وكيف نزيل ما يكون من تعارض أو اختلاف بينها.

عاشرًا: قدم في نماذجه، كيف تعين الأسباب على معرفة الحكمة من التشريع، والناسخ والمنسوخ، وحسن الفهم للمعاني، ومواجهة التعنت من المخالفين في الدين، وتعدد وجهات النظر في فهم الروايات، وطبيعة الصحابة في السماحة وحسن السمع والطاعة، والرجوع إلى السنة وما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم، على الفور، عند العلم بها.

ونستطيع بعد هذا التقديم لعمل البلقيني، أن نقول: إنه وفق في فتح الطريق أمام البسط والتتبع لأسباب ورود الحديث، فمن قدم لنا مبسوطًا بعده؟؛ وما المنهج الذي سار عليه؟.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:24 AM

الإمام السيوطي وأسباب الورود


لقد كان للإمام السيوطي، الأثر الكبير في إبراز الجهود السابقة، في أسباب الحديث، والإفادة؛ في بيان منهجها، والتأسيس لنفسه في تقديم مبسوط في ذلك.

وقد مر بنا قوله في ذلك عند الحديث عن بداية الكلام في أسباب الورود، وارتباط ذلك بأسباب النزول، والمؤلفات المفقودة في هذا الموضوع، وأُحب أن يجمع كتابًا في ذلك، فسلك مسلك التتبع للجوامع الحديثية، والالتقاط منها.

وسار على المنهج الذي استخلصه من طريقة الإمام البلقيني في الأمثلة التي ذكرها، أي تتبع في المع والالتقاط الأسباب على النحو الآتي:-

- قد لا يُنقل السبب في الحديث، ولكن يُنقل في بعض طرقه، وهذا سبله التتبع وهو ما ينبغي الاعتناء به، وبذل الجهد فيه.

- وقد يكون ما ذكر عقب السبب من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.

- وقد يكون تكلم به قبل ذلك، لنحو ذلك السبب.

- وقد يكون تكلم به، لا لسبب.

- وقد يكون تكلم به لأمور تظهر للعارف بهذا الشأن.

فهذه الأسباب التي حكاها عن منهج السابقين فيها، واختارها لتطبيق جمعه وتصنيفه عليها، فارتضى السؤال في الحديث نفسه، أو السبب المنفصل عن الحديث، وجاء بطرق أخرى، والظروف والملابسات التي ترتبط بأقوال الرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف بالخبرة والتتبع الواسع.

ولكن تطبيق الإمام السيوطي لهذا المنهج السابق، والذي وافق عليه، جعله يأخذ معه الأمثلة التي ذكرها الإمام البلقيني، تصريحًا بها في مقدمته مع الإيجاز، ونسبتها إلى البلقيني، وأغفل نسبتها عند التفصيل.

ففي خطبة كتابه، أشار إلى حديث "إنما الأعمال بالنيات"، وتناوُلِ ابن دقيق العيد له، وكذلك البلقيني في أسباب الورود.

وما ذكره البلقيني كذلك، في حديث سؤال جبريل عن الإسلام ، وحديث القلتين، وحديث الشفاعة، وحديث سؤال النجدي، وحديث "صلّ فإنك لم تصلِّ"، وحديث "خذي فِرْصةً من مسك"، وحديث "السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب"، وحديث "السائل": "أيُّ الأعمال أفضل"، وحديث سؤال: "أيُّ الذنب أكبر"، وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".. فهذه نسبها عند الإجمال، ولكنه فصّلها في جملة اختياراته، وزاد عليها الأمثلة الأخرى التي ذكرها البلقيني.

ولكن هل الإمام السيوطي يعد في ذلك ناقلاً دون إضافة؟

إننا لا نستطيع الحكم في ذلك، إلا بعرض مقارنة سريعة بين ما ذكره البلقيني، وما ذكره السيوطي.

فأما الجانب المختصر عند البلقيني، فقد بسطه السيوطي بذكر الرواية وأسبابها، على النحو الآتي:-

حديث : أخرج الأئمة الستة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

سببه: قال الزبير بن بكار في أخبار المدينة: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وُعِك فيها أصحابه، وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية (ثلاثًا)، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته في دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما هجرته إلى ما هاجر إليه، ثم رفع يديه، فقال: اللهم انقل عنا الوباء (ثلاثًا). فلما أصبح قال: أتيتُ هذه الليلة بالحُمّى، فإذا بعجوز سوداء ملبّبة في يَدَي الذي جاء بها، فقال: هذه الحمى فما ترى؟ فقلت اجعلوها بخُمٍ.

وقد جعل السيوطي هذا الحديث في بداية كتابه على الرغم من تبويبه للكتاب على الطريقة الفقهية، حيث بدأ بباب الطهارة، وسلك في ذلك مسلك الإمام البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح، باعتبار أن النية أساس الأقوال والأعمال، وعلقها بالطهارة - كذلك - بيِّنٌ في تنقية القلب وتطهيره.

وأما حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإحسان، فلم يورده السيوطي في التفصيل، وهذا يدل على أنه اختار من النماذج السابقة، والسبب الذي ذكر فيه هو ما يتصل بمجيء جبريل عليه السلام في صورة رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، وكيف جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقول الرسول الكريم: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".

وأما حديث القلتين، فإن السيوطي رحمه الله، قد ذكره في باب الطهارة، ولكنه قدم من اختياراته في باب الطهارة ثمانية أحاديث، وتسعة عشر سببًا للورود، ومعنى ذلك أنه ليس بجامع لجهد غيره، وإنما أفاد من النماذج، والمنهج، وأحسن التطبيق في اختيارات أفادت من بعده.

وقال في حديث القلتين: حديث: أخرجه أبو أحمد الحاكم، والبيهقي عن يحيى بن يعمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان الماء قلتين، لم يحمل نجسًا، ولا بأسًا، أو قال خبثًا ".

سبب: أخرج أحمد عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يسأل عن الماء، يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ".

وقد وُفق محقق "أسباب ورود الحديث" الدكتور يحيى اسماعيل، في إضافة ما يراه من أسباب مناسبة في الهامش فيقول: وللحديث سبب ثان: أخرجه أحمد في 2/107 ، من حديث عاصم بن المنذر، قال: كنا في بستان لنا، أو لعبيد الله بن عبد الله بن عمر، نرمي فحضرت الصلاة، فقام عبيد الله إلى مقْرى البستان، فيه جلد بعير، فأخذ يتوضأ فيه، فقلت: أتتوضأ فيه، وفيه هذا الجدل؟ فقال: حدثن أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قُلتين أو ثلاثًا، فإنه لا يَنْجس".. والمَقرى والمَقْراء: الحوض الذي يجمع فيه الماء.

وترك السيوطي حديث الشفاعة، وسببه قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". والحديث أخرجه أحمد في المسند 1/281، والترمذي في أبواب التفسير، تفسير سورة الإسراء 4/370، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وترك حديث سؤال النجدي، والذي أخرجه البخاري في كتاب الحيل، باب الزكاة 229، وكتاب الإيمان باب الزكاة من الإسلام 1/18، ومسلم في كتاب الإيمان 1/141، وأبو داود في كتاب الصلاة 1/92 عن طلحة بن عبيد الله قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجدٍ ثائر الرأس، يُسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّعٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان. قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن تطوّع، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق ".

وكذلك لم يذكر حديث: "صلّ فإنك لم تصلّ"، وقد أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الالتفات في الصلاة، عن أبي هريرة 1/192.

ولم يذكر حديث: "خذي فِرْصة من مسك" ، ولم يذكر حديث: "السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب"، وحديث السائل: "أيُّ الأعمال أفضل"، وحديث سؤال: "أيُّ الذنب أكبر". وعلى ذلك، فإن اختيار الإمام السيوطي من هذه الأسباب السابقة، كان يسيرًا، والذي اختاره منها هو من النوع الذي يُذكرُ فيه السبب بطريق آخر، أو في رواية أخرى. ومعنى ذلك أنه اختار في تصنيفه، الطريق الذي يحتاج إلى جهد وتتبع، وليس سؤالاً في حديث، أو موقفًا، أو طرفًا في الرواية نفسها.

ولذلك سنجده قد توسع في الاختيار من الأمثلة الأخرى، التي ذكرها البلقيني بأسباب منفصلة عن الروايات.

فمثلاً ذكر حديثًا أخرجه أحمد، عن السائب بن أبي السائب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. وأخرج البخاري عن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم ".

سبب: أخرج عبد الرزاق في المصنف، وأحمد عن أنس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي مُحمّة، فَحُمّ الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس قعود يصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صلاة القاعد نصف صلاة القائ م"، فتجشم الناس الصلاة قيامًا.

وأخرج عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمرو، قال: قدمنا المدينة، فنالنا وباءُ من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سُبُحتهم جلوسًا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عند الهاجرة وهم يصلون في سبحتهم جلوسًا، فقال: "صلاة الجالس نصف صلاة القائم" قال: فطفق الناس حينئذٍ يتجشمون القيام.

وذكر كذلك حديث: "لا تصوم امرأةُ وبعلُها شاهدُ إلا بإذنه، غير رمضان"، وذكر سببه في حديث امرأة صفوان بن المعطل.

وذكر كذلك - مع إضافةٍ منه لما وقع عليه - الحديث الذي أخرجه الأئمة الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمو ا".

والسبب: أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم عن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ سمع جَلَبَةَ رجالٍ، فلما صلى دعاهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله استعجلنا إلى الصلاة، قال: "فلا تفعلوا. إذا إتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما سبقكم فأتموا".

ولكن إذا كان البلقيني قد جعل حديث معاذ سببًا لورود الحديث: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، فإن السيوطي قد جعله سببًا لحديث آخر أخرجه الترمذي، عن عليّ وعن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمامُ على حال، فليصنع كما يصنع الإمام" .

وهذا يدل على أن تحديد السبب، أمرُ اجتهادي، وأن السبب قد يصلح لأكثر من رواية، وأن السبب قد يتعدد.

وترك حديث: "ما حدثكم أهل الكتاب…".

وذكر حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان"، وأورد ما ذكره البلقيني، وزاد من اختياره أسبابًا أخرى، منها: ما أخرجه أحمد، عن عروة بن الزبير، قال: قال زيد بن ثابت: "يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، وإنما أتى رجلان قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع، فسمع رافع قوله: لا تُكروا المزارع".

وذكر السيوطي كذلك، حديث زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخّص في العرايا.

ومع هذا الاختيار، الذي اتبعه السيوطي مع من سبقه، إضافة عظيمة لأحاديث أخرى بأسباب مستقلة بلغت جميعها ثمانية وتسعين حديثًا (98)، وأربعة وسبعين ومائتي سبب. صنفها على أبواب الطهارة، والصلاة، والجنائز، والصيام، والحج، والبيع، النكاح، والجنايات، والأضحية، والأطعمة، والأدب.

ونستطيع أن نقول: إن صنيع الإمام السيوطي، قد أرسى دعائم هذا النوع العظيم من أنواع علوم الحديث، في كثرة العدد، وتنوع الموضوعات، وتتبع الأسباب خارج الحديث.

وفتح الطريق أمام السالكين لهذا النوع الجدير ببذل المزيد من الجهود فيه.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:25 AM


ابن حمزة وأسباب الورود


نجد ابن حمزة الحسيني، الحنفي، الدمشقي، بعد ذلك قد استوعب المنهج، والأمثلة التي قدمها البلقيني، وقدمها السيوطي، ويضيف إضافات تغرس اليقين في إمكانية استيعاب كتب السنة جميعها، في اختيار الأسباب، التي تُربط بأحاديثها.

لقد انطلق ابن حمزة في عمله، من القاعدة السابقة، التي أرساها البلقيني والسيوطي، حتى نجد التطابق في استعماله لعبارات السابقة في هذا الموضوع. فمعرفة الأسباب عنده، من أجلّ أنواع علوم الحديث.

والذين ألفوا فيه، قد ذكرهم - كما سبق - فقال: "وقد ألف فيها أبو حفص العكبري كتابًا، وذكر الحافظ ابن حجر أنه وقف منه على انتخاب، ولما لم أظفر في عصرنا بمؤلف مفرد في هذا الباب، غير أوائل تأليفٍ شَرع فيه الحافظ السيوطي، ورتبه على الأبواب، فذكر فيه نحو مائة حديث.. واخترمته المنيةُ قبل إتمام الكتاب، سنح لي أن أجمع في ذلك كتابًا، تقربه عيون الطلاب، فرتبته على الحروف والسّنن المعروف، وأضفت له تتمات تمس الحاجة إليها، وتحقيقات يعوّل عليها، وسميته: "البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف..". وأسباب الورود عنده كأسباب نزول القرآن الكريم. والحديث الشريف عنده - في الورود 0 على قسمين: ما له سبب قيل لأجله، وما لا سبب له. والسبب عنده - كذلك - قد يذكر في الحديث، وقد لا يذكر السبب في الحديث، أو يذكر في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناءُ به، ويورد الأمثلة ذاتها.

ويضيف ما أفاده الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، من أن سبب الحديث، يأتي تارة في عصر النبوة، وتارة بعدها، وتارة يأتي بالأمرين.. ويقصد بما يكون بعد عصر النبوة، ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد حفظوا الأقوال والأفعال، وحافظوا على الأطوار والأحوال، فيكون السبب في الورود عنهم، مبينًا لما لم يعلم سببه عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما عُني في منهجه بتخريج أحاديثه من المعاجم والمسانيد، والكتب الستة، وابتدأ بحديث "إنما الأعمال بالنيات".

وقدم لنا بهذا المنهج من الأحاديث، تسعة وثلاثين وثمانمائة وألف، بأسباب كثيرة. وقد حقق هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، فضيلة الأستاذ الدكتور الحسيني هاشم رحمه الله.

وهذا مثال، اشترك فيه مع السابقين، وقدّمه على النحو الآتي: "إذا أتى أحدكم الصلاة، والإمامُ على حال، فليصنع كما يصنع الإمام ". أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال الترمذي: هذا حديث غريب.

سببه: ما أخرج الطبراني عن معاذ، قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سبق أحدهم شيء من الصلاة سألهم، فأشاروا إليه بالذي سُبق به، فيصلي ما سُبق، ثم يدخل معهم في صلاتهم، فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم، فقعد معهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فقضى ما سُبق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا ما صنع معاذ".

وفي رواية له عن معاذ: فقلت: لا أجده إلا لبث عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد سنّ لكم معاذ، فاقتدوا به.. إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة، فليصلِّ مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام، فليتم ما سبقه به، والعمل على هذا عند أهل العلم.

وقد يذكر للحديث الواحد أكثر من سبب.

ميارى 1 - 8 - 2010 03:27 AM

الخاتمة

وبعد هذه الدراسة التحليلية، لتأسيس منهجٍ في تتبع أسباب الورود، لتقديم مصنفاتً جديدة فيها، نُبرزُ أهم النتائج التي توصلنا إليها:

- إن إدراك أهمية المعرفة لأسباب الورود في فهم الحديث، بدأ بالصحابة رضوان الله عليهم، حيث كانت مدارستهم لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، تُصحب بذكر المواقف التي قيل فيها الحديث -كما جاء في كراء الأرض- والزمن الذي قيل فيه، كإشارتهم بقولهم: "يومئذ"، والحوار الذي يدور بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.

- ربط العلماء بين أسباب ورود الحديث وأسباب نزول القرآن في أهمية المعرفة لتوجيه المعاني في النصوص.

ووجدت أن هذا الربط بينهما -كذلك- في اعتماد السببين على الرواية، وجريان قوانين الرواية في مصطلح الحديث على روايات السببين.

والرواية في السببين قد تكون من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وهي في مثل هذه الحالة، في حكم المرفوع، أو من أقوال التابعين، ويشترط في ذلك أن يكون التابعي معروفًا بالتحديث عن الصحابة وحدهم.

والتفريق بين السببين في استعمال صيغة: "فنزلت"، مع آيات القرآن الكريم، و "ورد" مع الحديث الشريف.

كما وجدنا أن التشابه بين السببين في أن آيات القرآن الكريم، منها ما يرتبط بأسباب نزول، ومنها ما نزل ابتداء، وكذلك الأحاديث منها ما يرتبط بأسباب ورود، ومنها ما قيل ابتداء.

- وإذا كان الجمع والتصنيف قد استوعب أسباب النزول، فإن الجمع والتصنيف في أسباب الورود، ما زال في حاجة إلى إضافات جديدة، لكثرة المصنفات في الحديث النبوي، وقلة ما صنف في أسباب الورود.

- بدأ التصنيف في أسباب ورود الحديث، بأبي حفصٍ العكبري (المتوفى 399هـ)، ولكن مصنفه في ذلك مفقود، وكذلك فقد مصنف أبي حامد عبد الجليل الجوباري.

- أول عمل يجمع بين التقنين والنماذج في أسباب الورود، هو النوع التاسع والستون في محاسن الاصطلاح للبلقيني (المتوفى 805 هـ).

- سار على منهجه، واختار بعض نماذجه، وأضاف إليها عددًا كبيرًا اقترب من المائة، الإمام السيوطي (المتوفى 911هـ) في مصنف بعنوان: "اللُّمع في أسباب الحديث".

- وعلى المنهج نفسه، توسع في النماذج والاختيارات ابن حمزة الحسيني الحنفي الدمشقي (المتوفى 1110هـ)، في كتابه: "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف".

- بقي من الأحاديث التي تحتاج إلى تتبع، لربطها بأسبابها، الكثير، وهذا ما يدعوني إلى تقديم هذا المقترح، المقترن بالمنهج، والأساس الذي يسير عليه الجهد المعاصر في هذا السبيل، وهو التتبع الشامل لكتب الحديث، وكتب التاريخ، التي تسير على منهج المحدثين في ذكر الروايات بأسانيدها، وكذلك كتب التراجم.

- وهذا التتبع يسترشد بالنتائج، التي وقفنا عليها من دراسة طبيعة الأسباب، والتي وجدناها على النحو التالي:

- أسباب تذكر في الحديث نفسه (كوجود موقف فيه، أو ظروف وملابسات تذكر في الحديث، أو سؤال يوجه) وأكثر هذا النوع يكون سؤالاً، أو حوارًا، وقد يحتاج مجرد وجود سؤال أن يتتبع صاحب السؤال، لمعرفة ما يتعلق به من صفات وأحوال.

ولذلك استنتجنا أن ما ورد من أسباب، قد يكون في السبب ما يحتاج إلى سبب آخر، يأتي باستمرار التتبع والنظر.

واستنتجنا -كذلك- أن النظر في الأسباب، وربطها بأحاديثها، يتضمن الاجتهاد، وبذل أقصى الجهد الفعلي في إدراك العلاقات بين الأحاديث وأسبابها؛ فإذا كان الاعتماد في السبب على الرواية، فإن الاجتهاد يدخل في الربط بين الأسباب وأحاديثها. كما يدخل هذا الجهد في توثيق الروايات والاطمئنان إلى صحتها، قبل الجمع، أو الترجيح بينها.

وهذه الأسباب المتضمنة في الأحاديث، يكون تتبعها بالمنهج السابق، من الأعمال التي ينهض بها الباحث على انفراد، ولكن نظرًا لكثرة الروايات في المصنفات الحديثية، فإن النهوض بهذا الجهد، يحتاج إلى عمل فريق من المتخصصين، في الأقسام العلمية، والمراكز البحثية، لحصر كتب السنة، والتاريخ، والسير، والتراجم، وتوزيعها توزيعًا يتيح للفرد الواحد، قدرًا مناسبًا يتيح النظر، والتدبر، لتحديد الأسباب، ووجه العلاقة بين الحديث والسبب.

كما يضاف إلى هذا الجهد الفردي، جهد جماعي في عرض عمل الفرد على مجموعة من الباحثين، لتبادل وجهات النظر فيما وصل إليه كل باحث على حجه، وبذلك نجمع بين جهد الباحث والفرد، والاطمئنان عليه، برأي الجماعة.

- أسباب لا تذكر في الحديث نفسه، وإنما تذكر في روايات أخرى، أو في طرق أخرى للحديث، وهذا يقوم به -أيضًا- الباحث، الذي يوسع قراءاته في المصادر الحديثية المذكورة، ليتتبع هذه الأسباب المتناثرة، وبعد أن يجمع في ذلك قدرًا مناسبًا، يطمئن على صنيعه، بالعرض على الفريق المتخصص، للاطمئنان على سلامة هذا الربط والتصنيف.

- هذا ما يتعلق بخطة العمل لما يكون من الأسباب الجديدة في التصنيف.. وأما ما يتعلق بما صنف سابقًا، فإن العمل الذي يناسبه، أن توثق فيه روايات الأسباب، لتمييز الصحيح منها، من الحسن، من الضعيف، وخاصة في البيان والتعريف لابن حمزة الدمشقي.

سماح 1 - 8 - 2010 06:02 AM

حفظك الله ميارى و بارك فيك
على هذة المعلومات القيمة
وحعلها الله في ميزان حسسناتك
مودتي لك

ملك القلوب 1 - 8 - 2010 11:14 AM

شكرا لك اختي العزيزة ميارى
دائما تأتينا بما هو جديد ونافع
بارك الله فيك

ميارى 1 - 8 - 2010 06:55 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سماح (المشاركة 62949)
حفظك الله ميارى و بارك فيك
على هذة المعلومات القيمة
وحعلها الله في ميزان حسسناتك
مودتي لك



أسعد دائما بمرورك الجميل سماح العزيزة ، أسعدك الله في الدارين ومتعك بالصحة والعافية

ميارى 1 - 8 - 2010 06:58 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ملك القلوب (المشاركة 62962)
شكرا لك اختي العزيزة ميارى
دائما تأتينا بما هو جديد ونافع
بارك الله فيك

تشرفت بمرورك العطر ملك القلوب ، شكرا لك على هذا التواصل الطيب


الساعة الآن 12:44 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى