منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   طريق الهجرتين وباب السعادتين - الامام بن قيم الجوزية شيخ الاسلام (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=24531)

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:14 AM

طريق الهجرتين وباب السعادتين - الامام بن قيم الجوزية شيخ الاسلام
 
الامام بن قيم الجوزية شيخ الاسلام
طريق الهجرتين وباب السعادتين


خطبةالكتاب

الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججا وحجب العقول والأبصار أن تجد إلى تكييفه منهجا وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجا وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجا وأعقب من ضيق الشدائد وضنك الأوابد لمن توكل عليه فرجا وجعل قلوب أوليائه متنقلة في منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا فسبحان من أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوأم وسخر لهم البر والبحر والشمس والقمر والليل والنهار والعيون والأنهار والضياء والظلام وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره في دار
السلام فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا فسبحان من أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ورفع لمن ائتم به فأحل حلاله وحرم حرامه وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه في مراقي السعادة درجا ووضع قهره على من أعرض عنه ولم يرفع به رأسه ونبذه وراء ظهره وابتغى الهدى من غيره فجعله في دركات الجحيم متولجا فإنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأ العظيم وحبل الله المتين المديد بينه وبين خلقه وعهده الذي من استمسك به فاز ونجا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا سمي له ولا كفوا له ولا صاحبة له ولا ولدا ولا شبيه له ولا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه خلقه شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجا ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجا
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فشرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره فهدى به من الضلالة وعلم به من
الجهالة وكثر به بعد القلة وأعز به بعد الذلة وأغنى به بعد العيلة وبصر به من العمي وأرشد به من الغي وفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فلم يدع خيرا إلا دل أمته عليه ولا شرا إلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه ففتح القلوب بالإيمان والقرآن وجاهد أعداء الله باليد والقلب واللسان فدعا إلى الله على بصيرة وسار في الأمة بالعدل والإحسان وخلقه العظيم أحسن سيرة إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها وسارت دعوته سير الشمس في الأفطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعا وإذعانا وامتلأت بعد خوفها وكفرها أمنا وإيمانا فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء وصلى عليه صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لربوبيته واختصهم بنعمته وفضلهم على سائر خليقته فهي كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح في السماء فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقر به عيون صاحب الأصل وعيون حفظته وعيون أهله وأصحابه ومن قرب منه فإن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأمن به كل خائف وشهد به كل
غائب وذكرت رؤيته بالله فإذا رؤي ذكر الله فاطمأن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءه كله لله فإن سمع سمع بالله وإن أبصر أبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإن مشى مشى بالله فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي فإذا أحب فلله وإذا أبغض فلله وإذا أعطى فلله وإذا منع فلله قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه واتخذ رسوله وحده دليله وإمامه وقائده وسائقه فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه وله في كل وقت هجراتان
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجا والأفتقار في كل نفس إليه
وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته ولا يقبل الله من أحد دينا سواه وكل عمل سواه تعيش النفس وحظها لا زاد المعاد وقال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه الطرق كلها
مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي فإن الله عز وجل يقول وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك وقال بعض العارفين كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس
ولما كانت السعادة دائرة نفيا وإثباتا مع ما جاء به كان جديرا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفا على معرفته وإرادته مقصورة على محابه وهذا أعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون فلا جرم ضمنا هذا الكتاب قواعد من سلوك الهجرة المحمدية وسميناه طريق الهجرتين وباب السعادتين وابتدأناه بباب الفقر والعبودية إذ هو باب سبب تسميته السعادة وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه وختمناه بذكر طريق الهجرتين طبقات المكلفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاوة فجاء الكتاب غريبا في معناه عجيبا في مغزاه لكل قوم منه نصيب ولكل وارد منه مشرب وما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو الله المان به فإن التوفيق بيده وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء
فيا أيها القارىء له والناظر فيه هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك وهذا فهمه وعقله معروض عليك لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ولك ثمرته وعليه عائدته فإن عدم منك حمدا وشكرا فلا يعدم منك عذرا وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح وقد
استأثر الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
والله المسؤول أن يجعله لوجهه خالصا وينفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه في الدنيا والآخرة إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:15 AM

فصل في أن الله هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه



قال الله سبحانه يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي له فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا % كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك إذا ما بالذات لا يعلل فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون فإن الفلاسفة قالوا علة الحاجة الإمكان والمتكلمون قالوا علة الحاجة الحدوث والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيا كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا والرب إلا ربا
إذا عرف هذا فالفقر فقران فقر اضطراري وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقا ومصنوعا
والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه والثاني معرفته بنفسه فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى بل لم يزل عبدا فقيرا بذاته إلى بارئه وفاطره فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا وخلع عليه ملابس إنعامه وجعل له السمع والبصر والفؤاد وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام بني جنسه وسخر له الخيل والإبل وسلطه على دواب الماء واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية وحفر الأنهار وغرس الأشجار وشق الأرض وتعلية البناء والتحليل على مصالحه والتحرز والتحفظ لما يؤذيه ظن المسكين أن له نصيبا من الملك وادعى لنفسه ملكا مع الله سبحانه ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج بل كأن ذلك شخصا آخر غيره كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال قال الله تعالى يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ومن ههنا خذل من خذل ووفق من وفق فحجب المخذول عن حقيقته ونسي نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه فطغى وعتا فحقت عليه الشقوة قال تعالى كلا إن الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى وقال فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
وكان يدعو يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئا وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء كيف وهو يتلو قوله تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه منه ومنزلته عنده وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه وكان يقول لهم أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد وكان يقول لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه وقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة إن المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكماله مغفرة الله له فتأمل قوله تعالى في الآية أنتم الفقراء إلى الله باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر فإنه كما تقدم نوعان فقر إلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأسرها وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير
قال شيخ الإسلام الأنصاري الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية
فقوله الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة يعني أن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكا بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكا عبدا مستعملا فيما أمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس مالكا لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أعماله بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه كرجل اشترى عبدا بخالص ماله ثم علمه بعض الصنائع فلما تعلمها قال له إعمل وأد إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئا بل يراه كالوديعة في يده وأنها أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده مستودعا متصرفا فيها لسيده لا لنفسه كما قال عبدالله ورسوله وخيرته من خلقه والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرف
العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده فالله هو المالك الحق وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك
وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عز وجل فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقربا إليه وطلبا لمرضاته أم يكون البذل والإمساك منهم صادرا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع ! فيعطي لهواه ويمنع لهواه فيكون متصرفا تصرف المالك لا المملوك فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكا فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وحقيق بهذا الممتحن أن يوكل إلى ما ادكعته نفسه من الإحالات والملكات مع المالك الحق سبحانه فإن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إليها ومن كل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب وأغلق عنه باب الفوز والسعادة فإن كل شيء ما سوى الله باطل ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه كما قال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي بغير الله ولغير الله تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه وكل سعي لغيره باطل ومضمحل وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو مال فإذا زال ذلك الذي عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعي ولم يبق في يده سوى الحرمان ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة أليس عدلا مني أني أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا فيتولى عباد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار ويتولى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم فإذا كورت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده فإنه يحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدم والموحد حوالته على المليء الكريم فيا بعد ما بين الحوالتين ..

يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:15 AM

وقوله البراءة من رؤية الملكة ولم يقل من الملكة لأن الإنسان قد يكون فقيرا لا ملكة له في الظاهر وهو عري عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت وقد يكون العبد قد فوض إليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه كما كان سليمان بن داود أوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء وكذلك أعنياء الصحابة فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكا حقيقيا بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه إن أعطي رضي وإن منع سخط فهو عبد الدينار والدرهم يصبح مهموما ويمسي كذلك يبيت مضاجعا له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه وهو فقير إليه دون ما سواه فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ولم يقل إن استغنى بل جعل الطغيان ناشئا عن رؤيته غنى نفسه ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بدا من امتثال أوامره ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه أعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ومن فسرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان وبها تنال الحسنى ومن فسرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أكبر من ذلك وإن كان الخلف جزءا من أجزاء الحسنى والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لك عسرى ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه وكلاهما مناف للفقر والعبودية
قوله الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا فهو لا يضبط يده مع وجودها شحا وضنا بها ولا يطلبها مع فقدها سؤالا وإلحافا وحرصا فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضد ذلك وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها وأيضا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذما ومدحا لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحا أو ذما فإنه إن حصلت له مدحها وإن فاتته ذمها ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها في القلب لأن الشيء إنما يذم على قدر الاهتمام به والاعتناء شفاء الغيظ منه بالذم وكذلك تعظيم الزهد فيها إنما هو على قدر خطرها في القلب إذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها فإن الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحا أو ذما وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم عن النظر إلى تركها وهو الذي تقدم من ذكر خطر الزهد فيها لأن نظر العبد إلى كونه تاركا لها زاهدا فيها تتشرف نفسه بالترك وذلك من خطرها وقدرها ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها ولو اهتم القلب بمهم من المهمات المطلوبة التي هي مذاقات أهل القلوب الأرواح لذهل عن النظر إلى نفسه بالزهد والترك فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلها من مرض الضبط والطلب والذم والمدح والترك فهي بأسرها وإن كان بعضها ممدوحا في العلم مقصودا يستحق المتحقق به الثواب والمدح لكنها آثار وأشكال مشعرة بأن صاحبها لم يذق حال الخلو والتجريد الباطن فضلا عن أن يتحقق من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتي الداخل بكليته في الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واتخذها وطنا وجعلها له سكنا وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها وارتقى إلى ما يسر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو في البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحا ومساء فإن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها فهكذا هذا الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث هي ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى فلا بد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين ولذلك كان النبي أبا للمؤمنين كما في قراءة أبي النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ولهذا تفرع على هذه الأبوة أن جعلت أزواجه أمهاتهم فإن أرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد فشاهدت حقائق أخر وأمورا لم يكن لها بها شعور قبله قال تعالى الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وقال هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين
والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة قلب لم يولد ولم يأن له أنواع القلوب بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب وأنست بقربه الأرواح وذكرت رؤيته بالله فاطمأن بالله وسكن إليه وعكف بهمته عليه وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى لا يقر بشيء غير الله ولا يسكن إلى شيء سواه ولا يطمئن بغيره يجد من كل شيء سوى الله عوضا ومحبته قوته لا يجد من الله عوضا أبدا فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه ومحبته قوته ومعرفته أنيسه عدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا فهذان قلبان متباينان غاية التباين وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء قد أصبح على فضاء التجريد وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربا إلى من السعادة كلها بقربه والحظ كل الحظ في طاعته وحبه وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الداعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات وبقي عليه مفاوز وفلوات والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقق به ظاهرا وباطنا وسلم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده فهو فقير حقيقي ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر
واعلم أنه يحسن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ولا يأمن من إجابة الداعي فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد ..

يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:15 AM

فصل في تفسير الفقر ودرجاته



وقوله الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات فهذه الدرجة أرفع من الأولى وأعلى والأولى كالوسيلة إليها لأن في الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أن يتأله غير مولاه الحق وأن يضيع أنفاسه في غير مرضاته وأن يفرق همومه في غير محابه وأن يؤثر عليه في حال من الأحوال فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص الود فيصبح ويمسي ولا هم له غير ربه قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه كما قيل
لقد كان يسبي القلب في كل ليله =ثمانون بل تسعون نفسا وأرجح
يهيم بهذا ثم يألف غيره =ويسلوهم من فوره حين يصبح
وقد كان قلبي ضائعا قبل حبكم =فكان بحب الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه =فلست أراه عن خبائك يبرح
حرمت الأماني منك إن كنت كاذبا =وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيء في الوجود سواكم =يقر به القلب الجريح ويفرح
إذا لعبت أيدي الهوى بمحبكم =فليس له عن بابكم متزحزح
فإن أدركته غربة عن دياركم =فحبكم بين الحشا ليس يبرح
وكم مشتر في الخلق قد سام قلبه =فلم يره إلا لحبك يصلح
هوى غيركم نار تلظى ومحبس =وحبكم الفردوس أو هو أفسح
فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم =ويا رحمة مما يجول ويكدح

والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله فهو إناء واحد والأشربة متعددة فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره وإنما يمتلىء الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليا فأما إذا صادفه ممتلئا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه كما قال بعضهم
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى % فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأن كل شراب مسكر ولا بد وما أسكر كثيره فقليله حرام وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة ولكن رضي المسكين بالدون وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون فسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون وخسر المبطلون .

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:16 AM

فصل في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله



وإذا كان التلوث بالأعراض قيدا يقيد القلوب عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره ولا راحة لها إلا فيه ولا سرور لها إلا في منازله ولا أمن لها إلا بين أهله فكذلك الذي باشر قلبه روح التأله وذاق طعم المحبة وآنس نار المعرفة له أعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق وصحة الاضطرار إليه والفناء التام به البقاء الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك وهو الغاية التي شمر إليها السالكون والعلم الذي أمه العابدون ودندن حوله العارفون فجميع ما يحجب عنه أن يقيد القلب نظره وهمه يكون حجابا يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذي لا بد منه وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل فالأول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض والثاني مقيد عن النهايات برؤية الأحوال فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة وترتب على هذا القيد عدم النفوذ وذلك مؤخر مخلف
وإذا عرف العبد هذا وانكشف له علمه تعين عليه الزهد في الأحوال والفقر منها كما تعين عليه الزهد في المال والشرف وخلو قلبه منهما ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إلى الآخرة فأوجب الاستغراق في هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إلى فضل الله سبحانه ومطالعة سبقه الأسباب والوسائط فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة والمقامات العلية وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته وموالاته وكان سبحانه هو الأول في ذلك كله كما أنه الأول في كل شيء وكان هو الآخر في ذلك كما هو الآخر في كل شيء فمن عبده باسمه الأول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر فإن انضاف إلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرا وباطنا
فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته وأنه هو المبتدىء بالإحسان من غير وسيلة من العبد إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده أي وسيلة كانت هناك وإنما هو عدم محض وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد وفضله سابق على الوسائل والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرا خاصا وعبودية خاصة
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية ويبقى الدائم الباقي بعدها فالتعلق بها تعلق بعدم وينقضي والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها فكان الله ولم يكن شيء غيره وكل شيء هالك إلا وجهه فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع فهو المبتدىء بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل فهو أول كل شيء وآخره وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ فكما كان واحدا في إيجادك فاجعله واحدا في تألهك إليه لتصح عبوديتك وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأتباعهم فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي بقوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء
فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه قاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه صار لقلبه أمما يقصده وربا يعبده وإلها يتوجه إليه بخلاف من لا يدري أين ربه فإنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إليه قصده وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلها يسكن إليه ويتوجه إليه وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتحاد ولا بد وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات فاتخذ إلهه من دون إله الحق وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة وإنما تأله وتعبد لمخلوق مثله ولخيال نحته بفكره واتخذه إلها من دون الله سبحانه وإله الرسل وراء ذلك كله إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون وقال الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون




يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:16 AM

فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه وإن زعم أنه مقربه والمقصود أن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود ويجعل له ربا يقصده وصمدا يصمد إليه في حوائجه وملجأ يلجأ إليه فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته ويكل اللسان عن وصفه وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه وذوقا صحيحا سليما من أذواق أهل الانحراف فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وضح له التعبد به وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام وضلت فيه أفهام وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين لنبو الأفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه الله بصيرة في الحق ونورا يميز به بين الهدى والضلال وفرقانا يفرق به بين الحق والباطل ورزق مع ذلك اطلاعا على أسباب الخطأ وتفرق الطرق ومثار الغلط وكان له بصيرة في الحق والباطل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته وأن العوالم كلها في قبضته وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد قال تعالى وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وقال والله من ورآئهم محيط ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى وهو العلي العظيم وقال تعالى وهو العلي الكبير وقال ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه فهذا أقرب لإحاطة العامة
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابديه وسائليه ودادعيه وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال الله تعالى وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فهذا قربه من داعيه وقال تعالى إن رحمت الله قريب من المحسنين فذكر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذانا بقربه تعالى من المحسنين فكأنه قال إن الله برحمته قريب من المحسنين وفي الصحيح عن النبي قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة وقرب البطون وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال أيها الناس اربعوا على أنفسكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب الى أحدكم من عنق راحلته فهذا قربه من داعيه وذاكره يعني فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت كما يسمعها إذا رفعت فإنه سميع قريب وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه وإلا طرق باب الحلول إن لم يلجه وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة واستيلاء المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة ما سواه وفي مثل هذه الحال يقول سبحاني أو ما في الجبة إلا الله ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفوة الوداد وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه مع كونه ظاهرا ليس فوقه شيء ومن كثف ذهنه وغلط طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحا إلى ما هو أولى به فقد قيل
إذا لم تستطع شيئا فدعه % وجاوزه إلى ما تستطيع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب وإن كان بينهما غاية المسافة ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها فإن المحب كثيرا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه وبينهما من البعد ما بينهما وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي وفي لسانه وجوده اللفظي فيستولي هذا الشهود عليه ويغيب به فيظن أن في عينه وجوده الخارجي لغلبة حكم القلب والروح كما قيل
خيالك في عيني وذكرك في فمي % ومثواك في قلبي فأين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه وما بينهما من البعد وإن قربت الأبدان وتلاصقت الديار والمقصود أن المثال العلمي غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابقا لها لكن المثال العلمي محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه
واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأوليته سبقه لكل شيء وآخريته بقاؤه بعد كل شيء وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيءومعنى الظهور يقتضي العلو وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه هذا لون وهذا لون فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه وما من باطن إلا والله ودونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده فالأول قدمه والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه فسبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا على كل شيء بظهوره ودنا من كل شيء ببطونه فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا يحجب عنه ظاهر باطنا بل الباطن له ظاهر والغيب عنده شهادة والبعيد منه قريب والسر عنده علانية فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا
والتعبد بهذه الأسماء رتبتان الرتبة الأولى أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:16 AM

والمرتبة الثانية من التعبد أن يعامل كل اسم بمقتضاه فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من أفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئا مذكورا حتى سماك باسم الإسلام ووسمك بسمة الإيمان وجعلك من أهل قبضة اليمين وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين فعصمك عن العبادة للعبيد وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم وقضى لك بقدم الصدق في القدم أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بلا سبب منك واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إلى الرسوم والآثار ولا تقنع بالخسيس الدون وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله فإن الله سبحانه قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك بل هو الذي جاد عليك بالأسباب وهيأ لك وصرف عنك موانعها وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة فتوكل عليه وحده وعامله وحده وآثر رضاه وحده واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفا بها مستلما لأركانها واقفا بملتزمها فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك ثم تعبد له باسمه الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه فكما انتهت إليه الأواخر وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه فإن إلى ربك المنتهى إليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهي إليه وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر وأما التعبد باسمه الباطن فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدو السرائر وأنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر
فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله وجماع العبودية له فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئا إلا به وبحوله وقوته وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل والإنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمل فطرته وأوقفه على مبادىء الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كمفلس حقا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول أستغفر الله من علمي ومن عملي أي من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين أحدهما الخلاص من رؤية الأعمال حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائبا عنها ذاهبا عنها فانيا عن رؤيتها الثواب الثاني أن يقطعه عن شهود الأحوال أي عن شهود نفسه فيها متكثرة بها فإن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إنيتها لأنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل والظلم
فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة وشهد معنى اسمه المنان وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيرا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول فصار مقطوعا عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصوما مقطوعا عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه فينعكس هذا الأمر في حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأولية عن حال يعتز بها العبد أو يشرف بها وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أدناس مطالعات المقامات فالمقام ما كان راسخا فيه والحال ما كان عارضا لا يدوم فمطالعات المقامة وتشوفه بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أن ينسب إليه ويوصف به مثل أن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض فكونه يرى نفسه مستحقا بأن تضاف المقامات إليه وبأن يوصف بها على وجه الاستحقاق لها خروج عن الفقر إلى الغنى وتعد لطور العبودية وجهل بحق الربوبية فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأدناس فيصير مصفى بنور الله سبحانه عن رذائل هذه الأرجاس


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:17 AM

قوله والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية هذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أرباب السلوك وهي الغاية التي شمروا إليها وحاموا حولها فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية والفقر الثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود فيبقى الوجود الحادث في قبضة الحق سبحانه كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه ويسير في شاهد العبد كما هو في الخارج فتمحو رؤية التوحيد من العبد شواهد استبداده واستقلاله بأمر من الأمور ولو في النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة إلا بإرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاء والقدر تقلبها كيف شاءت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأمر وتفرده بذلك دون ما سواه وهذا الأمر لا يدرك بمجرد العلم ولا يعرفه إلا من تحقق به أو لاح له منه بارق وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إلى الحي القيوم وشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرا تاما إليه من جهة كونه ربا ومن وجهة كونه إلها معبودا لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم بل هو قطب تلك الرحى وإنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما معرفة حقيقة الربوبية والإلهية ومعرفة حقيقة النفس والعبودية فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر فإن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالا فما أغناه حينئذ من فقير وما أعزه من ذليل وما أقواه من ضعيف وما آنسه من وحيد فهو الغني بلا مال القوي بلا سلطان العزيز بلا عشيرة المكفي بلا عتاد قد قرت عينه بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك يتم له ذلك إلا بالبراءة من فرث الجبر ودمه فإنه إن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية وخلع ربقة الإسلام من عنقه وشهد أفعاله كلها طاعات للحكم القدري الكوني وأنشد
أصبحت منفعلا لما يختاره % مني ففعلي كله طاعات
وإذا قيل له اتق الله ولا تعصه يقول إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لحكمه وإرادته فهذا منسلخ من الشرائع بريء من دعوة الرسل شقيق لعدو الله إبليس بل وظيفة الفقير في هذا الموضوع وفي هذه الضرورة مشاهدة الأمر والشرع ورؤية قيامه بالأفعال وصدورها منه كسبا واختيارا وتعلق الأمر والنهي بها طلبا وتركا وترتب الذم والمدح عليها شرعا وعقلا وتعلق الثواب والعقاب بها آجلا وعاجلا فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته والفاقة التامة إلى مقلب القلوب ومن بيده أزمة الاختيار ومن إذا شاء وجب وجوده وإذا لم يشأ امتنع وجوده وأنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذي يحرك القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت تسخيره مذللة تحت قهره وأنها أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته وأن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأشجار وأنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضي وخالق السبب خالق للمسبب فخالق الإرادة الجازمة التي هي سبب الحركة والفعل الاختياري خالق لهما وحدوث الإرادة بلا خالق محدث محال وحدوثها بالعبد بلا إرادة منه محال وإن كان بإرادته فإرادته للإرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التي هي سبب الفعل فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إلى مالك الإرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاء فما شاء أن يزيغه منها أزاغه وما شاء أن يقيمه منها أقامه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى وعطل ملك الملك الحق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وثوابه وعقابه وحكم هذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين وكل نفس أنه إن حرك بطاعة أو نعمة شكرها وقال هذا من فضل الله ومنه وجوده فله الحمد وإن حرك بمبادىء معصيته صرخ ولجأ واستغاث وقال أعوذ بك منك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك فإن تم تحريكه بالمعصية التجأ التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفكه سيده من الأسر ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده وهو قادر قد اشتدت ضرورته إليه وصار اعتماده كله عليه قال سهل إنما يكون الالتجاء على معرفة الابتلاء يعني على قدر الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي ومن عرف قوله وأعوذ بك منك /ح/ وقام بهذه المعرفة شهودا وذوقا وأعطاها حقها من العبودية فهو الفقير حقا ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة فمن فهم سر هذا فهم سر الفقر المحمدي فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه وهو الذي يدفع ما منه بما منه فالخلق كله له والأمر كله له والحكم كله له وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو ولا يصرف سيئها إلا هو وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء بها والخروج عن ربقة العبودية إلى دعوى ما ليس له وكيف يدعي مع الله حالا أو ملكة أو مقاما من قلبه وإرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه لا يملك هو منها شيئا وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد ومتى انحل من القلب انحل نظام التوحيد فسبحان من لا يوصل إليه إلا به ولا يطاع إلا بمشيئته ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته ولا سبيل إلى طاعته بتوفيقه ومعونته فعاد الأمر كله إليه كما ابتدأ الأمر كله منه فهو الأول والآخر وإن إلى ربك المنتهى
ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد التقطع والتجريد وأشرف على مقام التوحيد الخاصي فإن التوحيد نوعان عامي وخاصي كما أن الصلاة نوعان والذكر نوعان وسائر القرب كذلك خاصية وعامية فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها والعامية ما لم يكن كذلك فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطنا وظاهرا أمر لا يحصيه إلا الله عز وجل
..


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:17 AM

وقد ظن كثير من الصوفية أن التوحيد الخاص أن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته ويشهد نفسه شبحا فانيا يجري على تصاريف المشيئة كمن غرق في البحر فأمواجه ترفعه طورا وتخفضه طورا فهو غائب بها عن ملاحظة حركته في نفسه بل قد اندرجت حركته ضمن حركة الموج وكأنه لا حركة له بالحقيقة وهذا وإن ظنه كثير من القوم غاية وظنه بعضهم لازما من لوازم التوحيد فالصواب أن من ورائه ما هو أجل منه وغاية هذا الفناء في توحيد الربوبية وهو أن لا يشهد ربا وخالقا ومدبرا إلا الله وهذا هو الحق ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في النجاة فضلا عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم فالغاية التي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها الفناء في توحيد الإلهية وهو أن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه وبتألهه عن تأله ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه وبالذل له والفقر إليه من جهة كونه معبوده وإلهه ومحبوبه عن الذل إلى كل ما سواه وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه فيرى أنه ليس في الوجود ما يصلح له ذلك إلا الله ثم يتصف بذلك حالا وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه فهذا هو التوحيد الخاصي الذي شمر إليه العارفون والورد الصافي الذي حام حوله المحبون ومتى وصل إليه العبد صار في يد التقطع والتجريد واشتمل بلباس الفقر الحقيقي وفرق حب الله من قلب كل محبة وخوفه كل خوف ورجاءه كل رجاء فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه فتعدد المطلوب وانقسامه قادح في التوحيد والإخلاص وانقسام الطلب قادح في الصدق والإرادة فلا بد من توحيد الطلب والإرادة وتوحيد المطلوب المراد فإذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمألوهه عن تأله غيره صار من أهل التوحيد الخاصي وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو رجائه وصاحب توحيد الربوبية في قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده وهو كما كان صاحب الدرجة الأولى مجردا عن أمواله وصاحب الثانية مجردا عن أعماله وأحواله فصاحب الفناء في توحيد الإلهية مجرد عن سوى مراضي بمحبوبه وأوامره قد فني بحبه وابتغاء مرضاته عن حب غيره وابتغاء مرضاته وهذا هو التجريد الذي سمت إليه همم السالكين فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقا وهذا تجريد القوم الذي عليه يحومون وإياه يقصدون ونهايته عندهم التجريد بفناء وجوده وبقاؤه بموجوده بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل ولا غاية عندهم وراء هذا ولعمر الله إن وراءه تجريد أكمل منه ونسبته إليه كتفلة في بحر وشعرة في ظهر بعير وهو تجريد الحب والإرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ فيتوحد حبه كما توحد محبوبه ويتجرد عن مراده من محبوبه بمراد محبوبه منه بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد الحب وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التي تفسدها إلا بهذا فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأنك إنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أنه أهل أن يحب وأما الاتحاد في الإرادة فمحال كما أن الاتحاد في المريد محال فالإرادتان متباينتان وأما مراد المحب والمحبوب إذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد وقد جعله صاحب منازل السائرين من قسم النهايات وحده بأنه الانخلاع عن شهود الشواهد وجعله على ثلاث درجات الدرجة الأولى تجريد الكشف عن كسب اليقين والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم والثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد
فقوله في الأولى تجريد الكشف عن كسب اليقين يريد كشف الإيمان ومكافحته للقلب وهذا وإن حصل باكتساب اليقين من أدلته وبراهينه فالتجريد أن يشهد سبق الله بمنته لكل سبب ينال به اليقين أو الإيمان فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أو وسيلة بل يقطع الأسباب والوسائل وينتهي نظره إلى المسبب وهذه إن أريد تجريدها عن كونها أسبابا فتجريد باطل وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إليه وصيرورتها عنوان اليقين إنما كان به وحده فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إثبات الأسباب فإن نفاها عن كونها أسبابا فسد تجريده
وقوله في الدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم لما كانت الدرجة الأولى تجريدا عن الكسب وانتهاء إلى عين الجمع الذي هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إثبات وسيلة أو سبب اقتضت تجريدا آخر أكمل من الأول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به فالأولى تجريد عن رؤية السبب والفعل والثانية تجريد عن العلم والإدراك وهذا يقتضي أيضا تجريدا ثالثا أكمل من الثاني وهو تجريد التخلص من شهود التجريد وصاحب هذا التجريد الثالث في عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به قد استغرق ذلك قلبه فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به فلا التفات له إلى تجريده ولو بقي له التفات إليه لم يكمل تجريده ووراء هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إليه كشعرة من ظهر بعير إلى جملته وهو تجريد الحب والإرادة عن تعلقه بالسوى وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب فهذا تجريد الحنيفية والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به..

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:18 AM

فصل في تقسيم الغنى إلى عال وسافل
ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به فأفقر الناس إلى الله أغناهم به وأذلهم له وأعزهم وأضعفهم بين يديه أقواهم وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله كان ذكر الغنى بالله مع الفقر إليه متلازمين متناسبين فنذكر فصلا نافعا في الغنى العالي واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع وكما أن كونه مخلوقا أمر ذاتي له فكونه فقيرا أمر ذاتي له كما تقدم بيانه وغناه أمر نسبي إضافي عارض له فإنه إنما استغنى بأمر خارج عن ذاته فهو غني به فقير إليه ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته فهو الغني بذاته عما سواه وهو الأحد الصمد الغني الحميد
والغنى قسمان غنى سافل وغنى عال فالغنى السافل الغني بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهذا أضعف الغنى فإنه غنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها وكأن الغنى بها كان حلما فانقضى ولا همة أضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون وإياه يطلبون وحوله يحومون ولا أحب إلى الشيطان وأبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده قال بعض السلف إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء مؤمن قتل مؤمنا ورجل يموت على الكفر وقلب فيه خوف الفقر وهذا الغنى محفوف بفقرين فقر قبله وفقر بعده وهو كالغفوة بينهما فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه بل إذا حصل له جعله سببا لغناه الأكبر ووسيلة إليه ويجعله خادما من خدمه لا مخدوما له وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبدها لغير مولاه الحق أو يجعلها خادمة لغيره ..

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:18 AM

فصل في الغنى العالي

وأما الغنى العالي فقال شيخ الإسلام هو على ثلاث درجات الدرجة الأولى غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة والدرجة الثانية غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة والدرجة الثالثة الغنى بالحق وهو ثلاث مراتب الأولى شهود ذكره إياك والثانية دوام مطالعة أوليته والثالثة الفوز بوجوده
قلت ثبت عن النبي أنه قال ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس
ومتى استغنت النفس استغنى القلب ولكن الشيخ قسم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلقه فقال غنى القلب سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة ومعلوم أن هذا شرط في الغنى لا أنه نفس الغنى بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب لا أن غناه بها نفسها وإنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالغني إنما يصير غنيا بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء وإن فاته فاته كل شيء فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح والله المستعان
وإنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب وصلاح النفس متقدم على إصلاحها هكذا قيل وفيه ما فيه لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أولى بالتقديم
وقد قال النبي إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد إلا وهي القلب /ح/

والقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأمراء والرعية خلعا تناسبها فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات فأدت الحقوق سمحة لا كظما بانشراح ورضا ومبادرة وذلك لأنها جانست القلب حينئذ ووافقته في أكثر أموره واتحد مرادهما غالبا فصارت له وزير صدق بعد أن كانت عدوا مبارزا بالعداوة فلا تسأل عما أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أهل الجنة هذا ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار لولا قدرة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح فالمرابطة على ثغري الظاهر والباطن فرض متعين مدة أنفاس الحياة
وتنقضي الحرب محمودا عواقبها % للصابري وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاء وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغض عن المحارم وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعه للعبد في معاشه ومعاده وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوة وأيد وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ فغدا العبد وراح يرفل في هذه الخلع ويجر لها في الناس أذيالا وأردانا فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تخلع عليه فيستغني حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصةوالمحبة الناصحة الخالصة وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات وهذا أمر تضيق عن شرحه عدة أسفار بل حظ العبد منه علما وإرادة كما يدخل إصبعه في اليم بل الأمر أعظم من ذلك والله سبحانه أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى وصارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت عنها أيضا اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد فإذا صارت يبوستها حرارة وبرودتها رطوبة وسقيت بماء الحياة الذي أنزله الله عز وجل على قلوب أنبيائه وجعلها قرارا ومعينا له ففاض منها على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأنينتها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فلنرجع إلى كلامه
فقوله في الدرجة الأولى وهي غنى القلب إنه سلامته من السبب أي من الفقر إلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إليه والثقة به فمن كان معتمدا على سبب غناه واثقا به لم يطلق عليه اسم الغنى لأنه فقير إلى الوسائط بل لا يسمى صاحبه غنيا إلا إذا سلم من علة السبب استغناء بالمسبب بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره فلذلك يصير صاحبه غنيا بتدبير الله سبحانه فمن كملت له السلامة من علة الأسباب ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة أي بالانقياد لحكمه حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته
فإذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف وإن لم ينضم إليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار ومن كان فقيرا إلى شيء لم يرده الله لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله فلا يتم الغنى بتدبير الله سبحانه لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره
ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه فإن منازعة الخلق دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة ومن كان فقيرا إلى حظ من الحظوظ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه لا يطلق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ استحق أن يكون غنيا بتدبير مولاه مفوضا إليه لا يفتقر قلبه إلى غيره ولا يسخط شيئا من أحكامه ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله ومحاكمته إلى الله كما كان النبي يقول في استفتاح صلاة الليل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت
فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه وقد قالت عائشة ما انتقم رسول الله لنفسه قط


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:18 AM

وهذا لتكميل عبوديته ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت وقد أمر أن يكفر به ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأمر والحكم نوعان حكم كوني قدري وحكم أمري ديني فهذا الذي ذكره الشيخ في منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون إنما مراده به الحكم الكوني القدري وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المناعة له فإن هذا الإطلاق غير مأمور به ولا ممكن للعبد في نفسه بل الأحكام ثلاثة حكم شرعي ديني فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة بل بالانقياد المحض وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات بل اندرج خلاقه تحت الأمر واضمحل خوضه في معرفته بالحق فاطمأن إلى الله معرفة به ومحبة له وعلما بأمر وإرادة لمرضاته فهذا حق الحكم الديني الحكم الثاني الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة بل ينازع بالحكم الكوني أيضا فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والعارف من يكون منازعا للقدر لا واقفا مع القدر اه
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراه من الطاعون فقيل له أتفر من قدر الله فقال نفر من قدر الله إلى قدره

ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس فقد دفع قدر الله بقدره وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفىء قدر الله بقدر الله وما خرج في ذلك عن قدر الله وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم وبهذا أمر هذا حقيقةالشرع والقدر ومن لم يستبصر فيه هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال في العبودية اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة وخرج الأمر عن يده فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه وعدله في قضائه وحكمته في جريانه عليه وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة
استأثر الله بالمحامد والف % ضل وولي الملامة الرجلا
ويتبين هذا المقام في أربع آيات إحداها قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله ومن أصابك من سيئة فمن نفسك
والثانية قوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
والثالثة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
والرابعة قوله تعالى وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
فمن نزل هذه الآيات على هذا الحكم علما ومعرفة وقام بموجبها إرادة وعزما وتوبة واستغفارا فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم وهذا قدر زائد على مجرد التسليم والمسالمة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل في تفسير غنى النفس

قوله في غنى النفس أنه استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره وإيمانا به واحتسابا لثوابه وخشية من عقابه لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربا من ذمهم وازدرائهم وطلبا للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه فكيف لا تكون قرة العين وكيف تقر عين المحب بسواها فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق سبحانه فجرى أثر ذلك النور في سمعه ونثره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا وقوله نورا ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة كما قال تعالى إن الصلواة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا وفي القراءة الأخرى يدفع فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما إغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى فاستقم كما أمرت وقال سبحانه إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل فيما يغني القلب ويسد الفاقة

وهذه الاستقامة ترقيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهي أعلى درجات الغنى فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك قبل ذكرك له وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك فقدر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئا البتة وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله قال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل فجعلك أهلا لما لم تكن أهلا له قط وإنما هو الذي أهلك بسابق ذكره فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن لك إليه سبيل ومن الذي ذكرك باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك وبعث دواعيك وأحيى عزماتك الصادقة عليها حتى ثبت إليه وأقبلت عليه فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجبت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إليك أولا حتى تقربت إليه ثم أثابك على هذا التقرب تقربا آخر فصار التقرب منك محفوفا بتقربين منه تعالى تقرب قبله وتقرب بعده والحب منك محفوفا بحبين منه حب قبله وحب بعده والذكر منك محفوفا بذكرين ذكر قبله وذكر بعده فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقر إليه فهذه كلها آثار ذكره لك ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك وتعرف بها إليك وتتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده إذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاء منك ولا لحاجة دعته إلى ذلك كيف وهو الغني الحميد فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها فلتعظم عندك لذكره لك بها فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك بمعروفه وتحبب إليك بنعمته هذا كله مع غناه عنك
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذه وسيده يذكره ولا ينساه فهو يحصل له بشعوره بذكر أستاذه له غنى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له فهذا هو غنى ذكر الله للعبد وقد قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره به حتى جعله ذاكرا وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائدا على إنعام ربه عليه وعطاياه له وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده وذكرنا قريبا من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها وهو كتاب عظيم النفع جدا والمقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغني قلبه ويسد فاقته وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم فإن الفقر من كل خير حاصل لهم وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:19 AM

فصل في بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل

الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل دوام شهود أوليته سبحانه وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله والغنى به أتم من الغنى المذكور لأنه من مبادي الغنى بالحقيقة لأن العبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره وهو الإله الحق الكامل في أسمائه وصفاته الغني بذاته عما سواه الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأزل والأبد لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الجلال منعوتا بنعوت الكمال وكل شيء سواه فإنما كان به وهو سبحانه بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه فإذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن وبقي من لم يزل واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها فيستغني العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى به عن فاقاته وحاجاته وإنما كان هذا عندهم أفضل مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه وصارت كأوليتها وهو العدم فأفنتها أولية الحق سبحانه فبقي العبد محوا صرفا وعدما محضا وإن كانت انيته مشخصة مشارا إليها لكنها لما نسبت إلى أولية الحق عز وجل اضمحلت وفنيت وبقي الواحد الحق الذي لم يزل باقيا فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه وشهد العبد حينئذ أن كل شيء ما سواه باطل وأن الحق المبين هو الله وحده ولا ريب أن الغنى بهذا الشهود أتم من الغنى الذي قبله وليس هذا مختصا بشهود أوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستواءه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والمصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسمه نافذة فيها كما يشاء يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه علما تفصيليا ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها سواء عنده من أسر القول ومن جهر به لا يشغله جهر من جهر عن سمعه لصوت من أسر ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين وهو مشهد الربوبية وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد ويصلى له ويسجد ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله فهو المطاع وحده على الحقيقة والمألوه وحده وله الحكم وحده فكل عبودية لغيره باطلة وعناءو ضلال وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها وكل غنى لغيره فقر وضلال وكل عز بغيره ذل وصغار وكل تكثر بغيره قلة وفاقة فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات ويستحيل أن يكون معه إله آخر فإن الإله على حقيقة هو الغني الصمد ولا حاجة به إلى أحد وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل فإن استقلالهما ينافي استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون أجعل الألهة إلها واحدا مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما وأنه المنفرد بملك ذلك كله فأرسل الله تعالى يذكر بما في فطرتهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء وهو مشهد جامع للأسماء والصفات وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله فإن هذا الاسم هو الجامع ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية فقد تم له غناه بالإله الحق وصار من أغنى العباد ولسان حال مثل هذا يقول
غنيت بلا مال عن الناس كلهم % وإن الغنى العالي عن الشيء لا به
فيا له من غنى ما أعظم خطره وأجل قدره تضاءلت دونه الممالك فما دونها وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:20 AM

فصل في بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب

الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده هذا الغنى أعلى درجات الغنى لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه ففاض على القلب من صدق التوجه أنوار الصفات المقدسة واستغنى القلب بذلك وجعل له أيضا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضا وأما هذا الغنى الثالث الذي هو الغنى بالحق فهو من آثار وجود الحقيقة وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات وإنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد فهذا أوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات الأفعال يغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأرواح من أنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم فما لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش ألذ من المنى فلا تستعجز
نفسك عن البلوغ إلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب وإنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون وقد جاء في أثر إلهي يقول الله عز وجل ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء /ح/ فمن طلب الله بصدق وجده ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء فأصبح حرا في غنى ومهابة على وجهه أنواره وضياؤه وإن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات وقد قال من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة وكان الله بكل خير إليه أسرع /ح/ فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه فهذا من باب التنبيه والأولى

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى

قال يحيى بن معاذ الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأسباب كلها
قلت يريد عدمها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها بل تصير عدما بالنسبة إلى سبق مسببها بالأولية وتفرده بالأزلية وسئل محمد بن عبدالله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه والاستغناء به فقال إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الاستغناء به وإذا صح الاستغناء به صح الافتقار إليه فلا يقال أيهما أكمل لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر قلت الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه وهما عبارتان عن معنى واحد لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته وحقيقة العبودية كمال الافتقار إليه من كل وجه وهذا الافتقار هو عين الغنى به فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أحدهما على الآخر وإنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إليه فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى غنى بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية وفقرا بالنسبة إلى قصر همته وجمعها على الله سبحانه وتعالى فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره فسفرها عن الغير غنى وسفرها إلى الله يصير فقرا فإذا وصلت إليه استغنت به بكمال فقرها إليه إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول وإنما يكمل فقرها بهذا الوصول
وسئل رويم عن الفقر فقال إرسال النفس في أحكام الله تعالى قلت إن أراد الحكم الديني فصحيح وإن أراد الحكم الكوني القدري فلا يصح هذا الإطلاق بل لا بد فيه من التفضيل كما تقدم بيانه وإرسال النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها وإرسالها في أحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبودية
وقيل نعت الفقير ثلاثة أشياء حفظ سره وأداء فرضه وصيانة فقره قلت حفظ السر كتمانه صيانة له من الأغيار وغيرة عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه وأداء الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأغيار وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع
وقال إبراهيم بن أدهم طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال هو الأمن بالله عز وجل وسئل أبو حفص بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربه فقال ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره وقال بعضهم إن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذرا أن يدخله فيفسد عليه فقره كما يخشى الغني الحريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه
وقال بشر بن الحارث أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر قلت ومن ههنا قال القائل
قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه % فقتل خلعة ساق حبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما % قلب يرى ألفة الأعياد والجمعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي % والعيد ما دمت لي مرأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاء متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له كيف ذلك فقال إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له قلت معنى هذا أنه لا يبقى عليه بقية من نفسه فإذا كان لنفسه فليس لها بل قد اضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها وإذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له فهذا من الذين خسروا أنفسهم وقيل حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره وقال أبو حفص أحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال
وقال بعضهم ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته قلت يشير إلى تعلق همته بواجب وقته وأنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله وأيضا يشير إلى قصر أمله وأن همته غير متعلقة بوقت لا يحدث نفسه ببلوغه وأيضا يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت ولا يضعفها بتقسيمها على الأوقات
وقيل أقل ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه
وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربي إنما هو فقر وذل فقال منصور بل فقر وعز فقال أبو سهل فقر وثرى فقال منصور بل فقر وعرش قلت أشار أبو سهل إلى البداية ومنصور إلى الغاية وقال الجنيد إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه فقلت يا أبا القاسم كيف يكون فقير يوحشه العلم فقال نعم الفقير إذا كان صادقا في فقره فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص في النار
وقال المظفر القرميسيني الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة
قال أبو القاسم القشيري وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم وإنما أشار قائله إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضى بما يجريه الحق سبحانه قلت وبعد فهو كلام مستدرك خطأ فإن حاجات هذا العبد إلى الله بعدد الأنفاس إذ حاجاته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام بل حاجات هؤلاء في حاجة هذا العبد كتفلة في بحر فإن حاجته إلى الله في كل طرفة عين أن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه في مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها فأي حاجات أكثر وأعظم من هذه فالصواب أن يقال الفقير هو الذي حاجاته إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله لا يشعر بكثير منها فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها وإن كان لا بد من إطلاق تلك العبارة على أن منها كل بد فيقال هو الذي لا حاجة له إلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء وأما أن يقال لا حاجة له إلى الله فشطح قبيح وأما حمل أبي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضى بمجاري الأقدار فإنما يحسن في بعض الحالات وهو في القدر الذي يجري عليه بغير اختياره ولا يكون مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم وأما إذا كان مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر هو أحب إلى الله منه وهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب فإسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار فيه والسعي عين العجز والله سبحانه يلوم على العجز
وقال ابن خفيف الفقر عدم الأملاك والخروج عن أحكام الصفات قلت يريد عدم إضافة شيء إليه إضافة ملك وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي توجب له دعوى الملك والتصرف والإضافات ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجب له العجز والفقر والفاقة كما في دعاء الاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد وخروج عن أحكام صفات النفس
وقال أبو حفص لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ وليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم وإنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد وقال بعضهم الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأشياء سوى ربه تبارك وتعالى وسئل سهل بن عبدالله متى يستريح الفقير فقال إذا لم ير لنفسه غيرالوقت الذي هو فيه وقال أبو بكر بن طاهر من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة وإن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال الذي لا يملك ولا يملك وقال ذو النون دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

فصل في تحقيق نعت الفقير

فجملة نعت الفقير حقا أنه المتخلي من الدنيا تطرفا والمتجافي عنها تعففا لا يستغني بها تكثرا ولا يستكثر منها تملكا وإن كان مالكا لها بهذا الشرط لم تضره بل هو فقير غناه في فقره وغني فقره في غناه ومن نعته أيضا أن يكون فقيرا من حاله وهو خروجه عن الحال تبريا وترك الالتفات إليه تسليا وترك مساكنة الأحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغني بها اعتمادا عليها ولا يفتقر إليها مساكنة لها ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله فالفقير خلص بكليته لله سبحانه ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب بل عمله بقيام شاهد الحق وفناء شاهد نفسه قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله فمعوله على الله وهمته لا تقف دون شيء سواه قد فني بحبه عن حب ما سواه وبأمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه فهو في واد والناس في واد خاضع متواضع سليم القلب سلس القياد للحق سريع القلب إلى ذكر الله بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله زاهد في كل ما سوى الله راغب في كل ما يقرب إلى الله قريب من الناس أبعد شيء منهم يأنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأنسون به منفرد في طريق طلبه لا تقيده الرسوم ولا تملكه الفوائد ولا يفرح بموجود لا يأسف على مفقود من جالسه قرت عينه به ومن رآه ذكرته رؤيته بالله سبحانه قد حمل كله ومؤنته على الناس واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه وصفه الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال لا يتوقع لما يبذله للناس عوضا منهم ولا مدحة لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أحد حقا ولا يرى له على أحد فضلا مقبل على شأنه مكرم لإخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه قد رفع له علم الحب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه أجاب منادي المحبة إذ دعاه حي على الفلاح ووصل السرى في بيداء الطلب فحمد عند الوصول سراه وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح
فحي على جنات عدن فإنها % منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى % نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على روضاتها وخيامها % وحي على عيش بها ليس يسأم
وحي على يوم المزيد وموعد ال % / محبين طوبى للذي هو منهم
وحي على واد بها هو أفيح % وتربته من أذفر المسك أعظم
ومن حولها كثبان مسك مقاعد % لمن دونهم هذا الفخار المعظم
يرون به الرحمن جل جلاله % كرؤية بدر التم لا يتوهم
أو الشمس صحوا ليس من دون أفقها % ضباب ولا غيم هناك يغيم
وبينا هم في عيشهم وسرورهم % وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم
إذا هم بنور ساطع قد بدا لهم % فقيل ارفعوا أبصاركم فإذا هم
بربهم من فوقهم وهو قائل % سلام عليكم طبتم وسلمتم
فيا عجبا ما عذر من هو مؤمن % بهذا ولا يسعى له ويقدم

فبادر إذا ما دام في العمر فسحة % وعدلك مقبول وصرفك قيم
فما فرحت بالوصل نفس مهينة % ولا فاز قلب بالبطالة ينعم
فجد وسارع واغتنم ساعة السرى % ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعا فالسير خلفك مسرع % وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته % عليها قدوم أو عليك ستقدم
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك ال % معنى رهين في يديها مسلم
وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوى % لها منك والواشي بها يتنعم
فدعها وسل النفس عنها بجنة % من الفقر في روضاتها الدر يبسم
ومن تحتها الأنهار تخفق دائما % وطير الأماني فوقها يترنم
وقد ذللت منها القطوف فمن يرد % جناها ينله كيف شاء وينعم
وقد فتحت أبوابها داعي الهدى % هلموا إلى دار السعادة تغنموا
وقد طاب منها نزلهاومقيلها % فطوبى لمن حلوا بها وتنعموا
وقد غرس الرحمن فيها غراسه % من الناس والرحمن بالغرس أعلم
فمن كان من غرس الإله فإنه % سعيد وإلا فالشقا متحتم
فيا مسرعين السير بالله ربكم % قفوا بي على تلك الربوع وسلموا
وقولوا محب قاده الشوق نحوكم % قضى نحبه فيكم تعيشوا وتسلموا
قضى الله رب العالمين قضية % بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم
وحبكم أصل الهدى ومداره % عليه وفوز للمحب ومغنم
وتفنى عظام الصب بعد مماته % وأشواق وقف عليه محرم
فيا أيها القلب الذي ملك الهوى % أعنته حتام هذا التلوم
وحتام لا تصحو وقد قرب المدى % ودقت كؤوس السير والناس نوم
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا % ويبدو لك الأمر الذي كنت تكتم
ويا موقدا نارا لغيرك ضوؤها % وحر لظاها بين جنبيك يضرم
أهذا جنى العلم الذي قد غرسته % وهذا الذي قد كنت ترجوه تطعم
وهذا هو الحظ الذي قد رضيته % لنفسك في الدارين لو كنت تفهم

وهذا هو الربح الذي قد كسبته % لعمرك لا ربح ولا الأصل يسلم
بخلت بشيء لا يضرك بذله % وجدت بشيء مثله لا يقوم
وبعت نعيما لا انقضاء له ولا % نظير ببخس عن قليل سيعدم
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما % ولكن أضعت الحزم إن كنت تعلم
وتهدم ما تبني بكفك جاهدا % فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الحق تفنى كميت % وعند مراد النفس تسدى وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا % ظهيرا على الرحمن للجبر تزهم
تنزه تلك النفس عن سوء فعلها % وتغتاب أقدار الإله وتظلم
وتزعم مع هذا بأنك عارف % كذبت يقينا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم % وإنك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه % فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم
وفي مثل هذا كان قد قال من مضى % وأحسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة % وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ولو تبصر الدنيا وراء ستورها % رأيت خيالا في منام سيصرم
كحلم بطيف زار في النوم وانقضى ال % منام وراح الطيف والصب مغرم
وظل أرته الشمس عند طلوعها % سيقلص في وقت الزوال ويفصم
ومزنة صيف طاب منها مقيلها % فولت سريعا والحرور تضرم
فجزها ممرا لا مقرا وكن بها % غريبا تعش فيها حميدا وتسلم
أو ابن سبيل قال في ظل دوحة % وراح وخلى ظلها يتقسم
أخا سفر لا يستقر قراره % إلى أن يرى أوطانه ويسلم
فيا عجبا كم مصرع عطبوا به % بنوها ولكن عن مصارعها عموا
سقتهم بكأس الحب حتى إذا انثنوا % سقتهم كؤوس السم والقوم قد ظموا
واعجب ما في العبد رؤية هذه ال % عظائم منها وهو فيها متيم
وأعجب من ذا أن أحبابها الألى % تهين وللأعدا تراعي وتكرم
وذلك برهان على أن قدرها % جناح بعوض أو أدق وألأم
وحسبك ما قال الرسول ممثلا % لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان في اليم إصبعا % وينزعها منه فما ذاك يغنم
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة % على حذر منها وأمري محكم
وهل أردن ماء الحياة وأرتوي % على ظمأ من حوضه وهو مفعم
وهل تبدون أعلامهم بعدما سفت % عليها السوافي تستبين وتعلم
وهل أفرشن خدي ثرى عتباتهم % خضوعا لهم كيما يرقوا ويرحموا
وهل أرين نفسي طريحا ببابهم % وطير أماني الحب فوقي تحوم
فواأسفي تفنى الحياة وتنقضي % وعتبكم باق بقيتم وعشتم
فما منكم بد ولا عنكم غنى % ومالي من صبر فأسلو عنكم
فمن شاء فليغضب سواكم فلا أذى % إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
وعقبى اصطباري في رضاكم هوى % لكم حميد ولكنه عقاب ومغرم
وما أنا بالشاكي لما ترتضونه % ولكنني أرضى به وأسلم
وحسبي انتسابي من بعيد إليكم % وذلك حظ مثله يتيمم
إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم % تهلل بشرا ضاحكا يتبسم
وها هو قد أبدى الضراعة قائلا % لكم بلسان الحال والحال يعلم
أحببتنا عطفا علينا فإننا % بنا ظمأ والمورد العذب أنتم
فيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى % صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده % سوى جنة أو حر نار تضرم
وبالسنة الغراء كن متمسكا % هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله % وعض عليها بالنواجذ تسلم

وإياك مما أحدث الناس بعدها % فمرتع هاتيك الحوادث أوخم
وهيء جوابا عندما تسمع الندا % من الله يوم العرض ماذا أجبتم
به رسلي لما أتوكم فمن يجب % سواهم سيخزى عند ذاك ويندم
وخذ من تقى الرحمن أسبغ جنة % ليوم به تبدو عيانا جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها % فهاو ومخدوش وناج مسلم
ويأتي إله العالمين لوعده % فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقه % فيا ويح من قد كان للخلق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع ال % موازين بالقسط الذي ليس يظلم
فلا مجرم يخشى هناك ظلامة % ولا محسن من أجره الذر يهضم
وتشهد أعضاء المسيىء بما جنى % لذاك على فيه المهيمن يختم
ويا ليت شعري كيف حالك عندما % تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتابك أم ترى % بيسراك خلف الظهر منك يسلم
وتقرأفيه كل شيء عملته % فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
تقول كتابي هاؤم اقرؤوه لي % تبشر بالجنات حقا وتعلم
وإن تكن الأخرى فإنك قائل % ألا ليتني لم أوته فهو مغرم
فلا والذي شق القلوب وأودع ال % محبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإنه % ليضعف عن حمل القميص ويألم
وذللها حتى استكانت لصولة ال % محبة لا تلوي ولا تتلعثم
وذلل فيها أنفسا دون ذلها % حياض المنايا فوقها هي حوم
قد فاز أقوام وحازوا مراحبا % بتركهم الدنيا والإقبال منهم
على ربهم طول الحياة وحبهم % على نهج ما قد سنه فهم هم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:21 AM

قاعدة شريفة عظيمة القدر

حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس بل وإلى الروح التي بين جنبيه
اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب فلا بد من أمرين
أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه فهاهنا أربعة أشياء أمر محبوب مطلوب الوجود والثاني أمر مكروه مطلوب العدم والثالث الوسيلة إلى حصول المحبوب والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله لا يقوم صلاحه إلا بها إذا عرف هذا فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه وهذا معنى قول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه فالأول من مقتضى ألوهيته والثاني من مقتضى ربوبيته لأن الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين أحدهما قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين الثاني قوله تعالى عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه الرابع قوله تعالى عليك توكلنا وإليك أنبنا الخامس قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده السادس قوله عليه توكلت وإليه متاب السابع قوله واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة إليهم من النظر إليه ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحركين ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال فمن أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ويحشره يوم القيامة أعمى ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أيضا محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذي يرضى به ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها وهذا أعظم فرح يكون وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إلى لقائه فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذاب في مبدئه عذاب في نهايته كما قال قائل
مآرب كانت في الشباب لأهلها % عذابا فصارت في المشيب عذابا
لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلها حقا إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمي له ولا مثل له فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين
إذا عرفت هذا فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما والله الموفق المعين وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة والمقصود أن إله العبد الذي لا بد له منه في كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين وهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل والذي أينما كان فهو معه وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة لهذا قال إمام الحنفاء لا أحب الأفلين والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان أصلين عظيمين مبني عليهما ما تقدم

وهذا مبني على أصلين أحدهما أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان وكما دل عليه القرآن لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل أو لأجل التعويض بالأجر لما في إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم فقرة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم ومفارقة أوطانهم وبذل نحورهم لأعدائهم
ومحبتهم للقتل وإيثارهم له على البقاء وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم ووقوع هذا من البشر بدون أمر يذوقه قلبه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع والواقع شاهد ذلك بل ما قام بقلوبهم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقه به
فيا منكرا هذا تأخر فإنه % حرام على الخفاش أن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله وحياته في معرفته ومحبته في التوجه إليه وذكره وطمأنينته به وسكونه إليه وحده عرف هذا وأقر به
الأصل الثاني كمال النعيم في الدار الآخرة أيضا به سبحانه برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وفي دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في صحيحيهما أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة وفتنة مضلة /ح/ ولهذا قال تعالى في حق الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه ولذة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه
وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان ويتكلم فيهما مشايخ الطرق العارفون وعليهما أهل السنة والجماعة وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد تارة وبالفطرة تارة وبالقياس والأمثال تارة وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه المورد الصافي والظل الضافي في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرا أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء بل ربه سبحانه الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إليه بالمعاصي مع فقره إليه فإذا مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإذا أصابه بنعمة فلا راد لها ولا مانع كما قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم و ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله فالأمر كله لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء المتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع والخفض والرفع ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهذا الوجه أعظم لعموم الناس من الوجه الأول ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أن الله سبحانه يدعو عباده بهذا إلى الوجه الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به والدعاء له ومسألته دون ما سواه ويقتضي أيضا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه فإذا عبده وأحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأول وهكذا من نزل به بلاء عظيم وفاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإيمان والإنابة إليه وما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه فعرفه إياه بما اقدمه له من الأسباب التي أوصلته إليه والقرآن مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات وليس عند المخلوق شيء من هذا فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه ومما يوضح ذلك ويقويه أن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجاته ضره أو أهلكه وكذلك من النكاح واللباس وإن أحب شيئا بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه أو يفارقه فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد فإن فقد تعذب بالفراق وتألم وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أن كل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه ويزيد ذلك إيضاحا أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته فإنه يخذل من تلك الجهة وهذا أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء أنه ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ولا استنصر بغيره إلا خذل قال تعالى واتخذوا من دون الله الهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال واتخذوا من دون الله الهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون
وقال عن إمام الحنفاء أنه قال للمشركين إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ولما كان غاية صلاح العبد في عبادة الله وحده واستعانته وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته ومما يوضح الأمر في ذلك ويبينه أن الله سبحانه غني حميد كريم رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه سبحانه ولا لدفع مضرة بل رحمة وإحسانا وجودا محضا فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته فإحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك كما أن قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إلا كذلك وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لحظوظهم فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة وذلك من تيسير الله وإذنه لهم به فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أيديهم ومع بهذا فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء فطلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وكذلك من أحب إنسانا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله فأجناد الملوك وعبيد المماليك وأجراء المستأجر وأعوان الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد علم وهذب من جهة أخرى فيدخل ذلك في الجهة الدينية أو يكون فيه طبع عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان منفعة الحق ومنفعة الخلق وما بينهما من التباين

إذا تبين هذا ظهر أن أحدا من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد منفعته بك وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة فملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلا أو آجلا فهو يريد نفسه لا يريدك ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه فتأمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأسا من المخلوقين سدا لباب عبوديتهم وفتحا لباب عبودية الله وحده فما أعظم حظ من عرف هذه المسألة ورعاها حق رعايتها ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم فكما لا تخافهم لا ترجوهم ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم وكم اتخذوك جسرا ومعبرا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين وكم فوتوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها وقطعوا طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دعيت إليها وقالوا نحن أحبابك وخدمك وشيعتك وأعوانك والساعون في مصالحك وكذبوا والله إنهم لأعداء في صورة أولياء وحرب في صورة مسالمين وقطاع طريق في صورة أعوان فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذي يغيث ولا يغاث يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون
فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله وآثر الله ولم يؤثرهم على الله وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه وأحيى حب الله وخوفه ورجاءه فيه فهذا هو الذي يكتب عليهم وتكون معاملته لهم كلها ربحا بشرط أن يصبر على أذاهم ويتخذه مغنما لا مغرما وربحا لا خسرانا
ومما يوضح الأمر أن الخلق لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة
البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله قال النبي لعبدالله بن عباس واعلم أن الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك وإذا كانت هذه حال الخليقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:22 AM

فصل في بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده

وجماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغي فغيرك أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ولا قادرا عليها ولا مريدا لها والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك ولا لتكثر بك ولا لتعزز بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا أخرجه أثر ذلك في غناه وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك وأنت المعوق لوصول فضله إليك وأنت حجر في طريق نفسك وهذا هو الأغلب على الخليقة فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته ولا استديمت بغير شكره ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإنما أنت المسبب في سلبها عنك فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم فما أزيلت نعم الله بغير معصيته
إذا كنت في نعمة فارعها % فإن المعاصي تزيل النعم
فآفتك من نفسك وبلاؤك من نفسك وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك كما قيل
ما يبلغ الأعداء من جاهل % ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية وتتهم أقداره وتعانيها وتلومها فقد ضيعت فرصتك وفرطت في حظك وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال فأنت المعني بقول القائل
وعاجز الرأي مضياع لفرصته % حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ولو شعرت برأيك وعلمت من أين ذهبت ومن أين أصبت لأمكنك تدارك ذلك ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه فأعرضت عمن أصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به فقال يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك
وإذا أتتك مصيبة فاصبر لها % صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما % تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وإذا علم العبد حقيقة الأمر وعرف من أين أتي ومن أي الطرق أغير على سرحه ومن أي ثغرة سوق متاعه وسلب استحى من نفسه إن لم يستح من الله أن يشكوا أحدا من خلقه أو يتظلمهم أو يرى مصيبته وآفته من غيره قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
فإن أصررت على اتهام القدر وقلت فالسبب الذي أصبت منه وأتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم وكان في الكتاب مسطورا فلا بد منه على الرغم مني وكيف لي أن أنفك منه وقد أودع الكتاب الأول قبل بدء الخليقة والكتاب الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم وأنا في ظلمات الأحشاء حين أمر الملك بكتب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة فلو جريت إلى سعادتي ما جريت حتى بقي بيني وبينها شبر لغلب علي الكتاب فأدركتني الشقاوة فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاء ويصرفه كيف أراد إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء ان يزيغه أزاغه وهو الذي يحول بين المرء وقلبه وهو الذي يثبت قلب العبد إذا شاء ويزلزله إذا شاء فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته قال أعلم الخلق بربه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه /ح/ ثم قال اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك /ح/ وكان أكثر يمينه لا ومقلب القلوب /ح/

وقال بعض السلف مثل القلب مثل الريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه وهل له مشيئة بدون مشيئته كما قال تعالى وما تشآءون إلا إن يشاء الله رب العالمين
وروي عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد قال تلا رسول الله قوله عز وجل أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها وغلام جالس عند رسول الله فقال بلى والله يا رسول الله إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها فلما ولي عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال لم يقل ذلك إلا من عقل
وقال طاوس أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر وقال أيوب السختياني أدركت الناس وما كلامهم إلا إن قضى إن قدر
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة قال والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوما بيوم فذلك قوله إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
وفي الآية قول آخر إن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أن يعملوه وقد يقال وهو الأظهر إن الآية تعم الأمرين فيأمر الله ملائكته فتستنسخ من أم الكتاب أعمال بني آدم ثم يكتبونها عليهم إذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أم الكتاب ذرة ولا تنقصها
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر خلق الله الخلق كلهم بقدر وخلق الخير والشر فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة
وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة قال قلت لا بل فيما قضي عليهم ومضى قال أفيكون ذلك ظلما قال ففزعت فزعا شديدا وقلت إنه ليس شيء إلا خلقه وملكه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فقال سددك الله إنما سألتك لأحرز عقلك إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم قال فيما قضي عليهم ومضى فقال الرجل ففيم العمل قال رسول الله من كان خلقه الله لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
وقال مجاهد في قوله تعالى إنى أعلم مالا تعلمون قال علم من إبليس المعصية وخلقه لها
وقال تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة قال ابن عباس إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ثم قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمن وكافر
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه قال يحول بين المؤمن الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله
وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السلف في قوله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قالوا خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف وقال تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شاء ربك ما فعلوه وقال تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي نصيبهم مما كتب لهم وقال كذلك سلكناه في قلوب المجرمين قال الحسن وغيره الشرك والتكذيب
وقال سبحانه كلا إن كتاب الفجار لفي سجين قال محمد بن كعب القرظي رقم الله سبحانه كتاب الفجار في أسفل الأرض فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب ورقم كتاب الأبرار فجعله في عليين فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب
وقال ابن عباس تبت يدا أبي لهب وتب بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ
وقال مجاهد في قوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال عن الحق
وفي قوله إنا جعلنا على قلوبهم أكنة قال كالجعبة فيها السهام
وقال ابن عباس في قوله تعالى وأضله الله على علم قال أضله في سابق علمه


وقال في قوله تعالى حكاية عن عدوه إبليس فبما أغويتني قال أضللتني
وقال في قوله ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم قال من قضيت له أنه صالي الجحيم
وقال عمر بن عبدالعزيز لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس وقد فصل لكم وبين لكم ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قدر أن يصلى الجحيم وقال وهيب بن خالد أنبأنا خالد قال قلت للحسن ألهذه خلق آدم يعني السماء أم للأرض فقال لا بل للأرض قال قلت أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها أكان ترك في الجنة قال سبحان الله أكان لا بد من أن يعملها وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال واجعلنا للمتقين إماما أي أئمة يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضالين يدعون إلى النار وقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله
وقال زيد بن أسلم والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كما قال أهل الجنة ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس قال الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله وقالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال شعيب وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله
وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وقال أهل النار غلبت علينا شقوتنا وقال أخوهم إبليس رب بما أغويتني وقال مجاهد في قوله وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال مكتوب في عنقه شقي أو سعيد


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

وقال ابن عباس في قوله ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا يقول ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئا
وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعد عن سوار بن مصعب عن أبي حمزة عن مقسم عن ابن عباس صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم بسط يده اليمنى فقال بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل أولهم على آخرهم لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بلى هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة وقد يسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة فصاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل عمل أهل النار وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل بعمل أهل الجنة ثم قال رسول الله الأعمال بخواتيمها
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وفي قوله ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وفي قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وفي قوله تعالى ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها وقوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وقوله إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا وقوله ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ونحو هذا من القرآن وإن رسول الله كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ثم قال لنبيه لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ويقول إن نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعين ثم قال ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ويقول ليس لك من الأمر شيء
وفي صحيح مسلم عن طاوس أدركت ناس من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر وسمعت عبدالله بن عمر يقول قال رسول الله كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله يقول كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئا لم يكن الله قدره ولكن النذر يوافق القدر فيخرج ذلك من البخيل مالم يكن يريد أن يخرجه وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبي عن الإيمان قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق وفيه فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
وذكر الطبري عن الحسن بن علي الطوسي أنبأنا محمد بن يزيد الأسفاطي البصري محدث البصرة قال رأيت رسول الله في النوم فقلت يا رسول الله حديث عبدالله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق أعني حديث القدر فقال إي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به رحم الله عبدالله بن مسعود حيث حدث به ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به ورحم الله الأعمش حيث حدث به ورحم الله من حدث به قبل الأعمش ورحم الله من يحدث به بعد الأعمش
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وقد روي حديث تقدير السعادة والشقاوة في بطن الأم من حديث عبدالله بن مسعود وأنس بن مالك وعبدالله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة
وقال أبو الحسن علي بن عبيد الحافظ سمعت أبا عبدالله بن أبي خيثمة يقول سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول انحدرت من سر من رأى إلى بغداد في حاجة لي فبينما أنا أمشي في بعض الطريق إذا بجمجمة قد نخرت فأخذتها فإذا على الجبهة مكتوب شقي والياء مكسورة إلى خلف وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ ذكره الطبري في السنة
وفي الصحيحين حديث علي عن النبي ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي سئل أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال نعم كل ميسر لما خلق له
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت دعي رسول الله إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك السوء ولم يعمله قال أو غير ذلك إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم
وفي الصحيحين عن ابن عباس وأبي بن كعب عن النبي قال الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله يقول إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره وفي لفظ فجعلهم في ظلمة واحدة فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة فمن أصابه النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله
وذكر راشد بن سعد عن أبي عبدالرحمن السلمي أن أبا قتادة سمع النبي يقول خلق الله آدم وأخرج الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قيل على ما نعمل قال على مواقع القدر
وذكر أبو داود في كتاب القدر عن عبدالله بن مسعود أنه مر على رجل فقالوا هذا هذا ونالوا منه فقال عبدالله أرأيتم لو قطعتم يده كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يدا قالوا لا قال فلو قطع رأسه أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأسا قالوا لا قال فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أن تغيروا خلقه إن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكا فكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعا إنما هما اثنتان الهدي والكلام فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وإن كل بدعة ضلالة وإن كل ما هو آت قريب وإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره /ح/
وقال ابن وهب أخبنري يونس عن ابن شهاب أن عبدالرحمن بن هنيدة حدثه أن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام تعرفا يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله قال فذكره سواء قال الزهري وحدثني عبدالرحمن بن هنيدة عن ابن عمر مثل ذلك
وذكر أبو داود أيضا عن عائشة يرفعه إن الله حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل على الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا قال فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم
وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن المني إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب سبحانه في راحته فيقول يا رب عبدك ذكر أم أنثى فيقضي الله ما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين عينيه قال أبو تعيم وقرأ أبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات
قال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين يوما جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فقال اخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم يدفع إلى الملك فيسأل الملك عن ذلك فيقول يا رب سقط أم تم فيبين له ثم يقول يا رب واحد أو توأم فيبين له ثم يقول يا رب ذكر أم أنثى فيبين له فيقول يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل فيبين له ذلك ثم يقول يا رب أشقي أم سعيد فيبين له ثم يقول يا رب اقطع رزقه مع خلقه فيهبط بهما جميعا فوالذي نفسي بيده ما ينال من الدنيا إلا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض
في صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي قال يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره ورزقه ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيهاه ولا ينقص
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب ذلك في بطن أمه
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وفي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير وهذه الكتابة في الطور الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه وفي الأحاديث التي ذكرت أيضا أنفا أن ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقة ومضغة وفي رواية صحيحة إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وفي رواية إن ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة والله أعلم

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

فصل في الجمع بين الروايات المتقدمة

الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة وأنه يقول يا رب هذه نطفة هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله وهو أعلم بها وبكلام الملك فتصرفه في أوقات أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني ولهذا والله أعلم وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إذ خلقه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيبته وهذا إنما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره فههنا تقديران وكتابان التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق في النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت في طور العلقة ولهذا في إحدى الروايات إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة والتقدير الثاني الكتابة إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرا أو أنثى فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثاني الثاني أخص من الأول ونظير هذا أيضا أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر في كل سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم وبعد كمال تصوير الجنين وقد تقدم ذكر تقدير شأنها قبل خلق السموات والأرض فهو تقدير بعد تقدير
ونظير هذا أيضا رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال قال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم /ح/ ويعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبي ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الإثنين والخميس والعرض فيها أخص من العرض في شعبان ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف وهذا عرض آخر وهذه المسائل العظيمة القدر هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادي الأمة محمد
فإن قيل ما تقولون في قوله إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث وهذا يوافق الرواية الأخرى يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد ويوافق الرواية الأخرى إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى قيل لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة ولا يقع عقيب الأولى هذا أمر معلوم بالضرورة فإما أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتبارا بأول أحوالها وما كانت عليه أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى كتابة تصويره وتقديره تخليقا اعتبارا بما يؤول فيكون قوله صورها وخلق سمعها وبصرها أي قدر ذلك وكتبه وأعلم به ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به أي الأربعين الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة وحينئذ يكون أول مبدإ التخليق فيكون مع هذا المبدإ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتيعن ولا بد ولا يجوز غير هذا البتة إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر والله أعلم بمراد رسوله غير أنا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق عند أول تخليقه ويحتمل وجها رابعا وهو أن النطفة في الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتني بشأنها فإذا جاوزتها وقعت في أطوار التخليق طورا بعد طور ووقع حينئذ التقدير والكتابة فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة وحديث حذيفة بن أسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها وقد قيدها ووقتها في حديث ابن مسعود والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها وذلك يقع في أوقات متعددة وكله بعد الأربعين الأولى وبعضه متقدم على بعض كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونهها مضغة متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك فيصح أن يقال إن النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة ويصور خلقها وتركب فيها العظام والجلد ويشق لها السمع والبصر وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل وهذ وجه حسن جدا


والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا فأسكنه الجنة أو النار وهو في بطن أمه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة الحديث
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي قال ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصمه الله
وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنه قال أتيت النبي فقال يا عدي أسلم تسلم قلت وما الإسلام قال تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها
وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن تغلب قال أتى النبي مال فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل
وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من القناعة والخير الحديث
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وخلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء
وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبي قال لأشج عبدالقيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله خلقين تخلقت بهما أم جلبت عليهما قال بل جبلت عليهما قال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
وقال أبو هريرة قال النبي جف القلم بما أنت لاق رواه البخاري تعليقا
وذكر البخاري أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون قال سبقت لهم السعادة
وفي سنن أبي داود وابن ماجة من حديث عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار وقاله زيد بن ثابت عن النبي
وفي سنن أبي داود عن أبي حفصة الشامي قال قال عبادة بن الصامت يا بني إنك لم تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ومن أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وما أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله يقول من مات على غير هذا فليس مني
وفي الصحيحين عن علي قال كنا في جنازة فيها رسول الله ببقيع الغرقد فجاء رسول الله فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها في النار أو في الجنة إلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أولا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة قال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قرأ نبي الله فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني إدم من ظهورهم ذريتهم فقال سمعت رسول الله قد سئل عنها فقال رسول الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينيه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون قال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:23 AM

وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي . حديث حسن صحيح .
وذكر الطبري من حديث مالك بن عبادة أن رسول الله قال لابن مسعود لا يكثر همك ما يقدر يكن وما ترزق يأتك
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال قال رسول الله بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء
وقال ابن وهب أنبأنا عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج النبي فسمع ناسا من أصحابه يذكرون القدر فقال إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغور فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم ولقد أخرج يوما كتابا فقال هذا كتاب من الله الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل على آخرهم لا ينقص منهم أحد فريق في الجنة وفريق في السعير
وفي الترمذي عن ابن عباس قال ردفت رسول الله يوما فقال يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله رفعت الأقلام وجفت الصحف لو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يعطه الله لم يقدروا عليه ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئا قدره الله لك ما استطاعوا فاعبد الله مع الصبر على اليقين
وقال علي بن الجعد أنبأنا عبدالواحد البصري عن عطاء بن أبي رباح قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت قال جعل يقول يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتق الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبت كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره قال تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن مت على غير هذا دخلت النار سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد
وذكر الطبري من حديث بقية أنبأنا أبو بكر العنسي عن زيد بن أم حبيب ومحمد بن يزيد قالا حدثنا نافع عن ابن عمر قال قالت أم سلمة يا رسول الله لا تزال نفسك في كل عام وجعة من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها قال ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في خطبة النبي الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
وفي صحيحه أيضا عن زيد بن أرقم كان النبي يقول اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
وفي صحيحه أيضا عن علي عن النبي في دعاء الاستفتاح اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سييء الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت
وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبي علم أباه هذا الدعاء اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن عبدالأعلى عن عبدالله بن الحارث قال قام عمر بن الخطاب خطيبا فقال في خطبته من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وعنده الجاثليق يسمع ما يقول قال فنفض ثوبه كهيئة المنكر فقال عمر ما تقولون قالوا يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا قال كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون قال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه
وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال خلق الله الخلق فكانوا في قبضته فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في يده الأخرى ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة
وقال ابن عمر جاء رجل إلى أبي بكر فقال أرأيت الزنا بقدر الله فقال نعم قال فإن الله قدره علي ثم يعذبني قال نعم يا ابن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك
وذكر عن علي أنه ذكر عنده القدر يوما فأدخل إصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما باطن يده فقال أشهد إن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب
وذكر عنه أيضا أنه قال إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستقين يقينا غير ظن أن ما اصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله
وذكر البخاري عن ابن مسعود أنه قال في خطبته الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره
وقال ابن مسعود لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن
وقال لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت
وقال الأعمش عن ابن مسعود إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملائكة اصرفعوه عنه فإني إن يسرته له أدخلته النار قال فيصرفه الله عنه قال فيقول من أين دهيت أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله سبحانه
وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أن عبدالرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه وأفاق فقال أغمي علي قالوا نعم قال إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي فقالا انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بي فتلقاهما رجل فقال أين تريدان به قالا نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه
وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال أشهد لسمعت ابن عباس يقول العجز والكيس بقدر
وقال مجاهد قيل لابن عباس إن ناسا يقولون في القدر قال يكذبون بالكتاب إن أحدث سعر أحدهم لا تصونه إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه
وقال ابن عباس أيضا القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها
وقال عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال يا ابن عباس أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة واردا ألا تراه قد ظلمني فقال إن كان الهدى شيئا كان لك عنده فقد فمنعكه فقد ظلمك وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك قم فلا تجالسني
وقال عكرمة عن ابن عباس كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له فكيف ذاك الهدهد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك إذا جاء القضاء ذهب البصر
وقال الإمام أحمد أنبأنا إسمعيل أنبأنا أبو هرون الغنوي أنبأنا سليمان الأزدي عن أبي يحيى مولى بني عفراء قال أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه فقلت يا ابن عباس ما تقول في القدر فإن هؤلاء يسألونك عن القدر إن زنى وإن شرب وإن سرق فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم إن زنى فبقدر وإن سرق فبقدر وإن شرب الخمر فبقدر
وصح عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر قال له إن ناسا يقولون لا قدر وإن الأمر أنف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر بريء منهم وأنهم براء منه
وقد تقدم قول أبي بن كعب وحذيفة وابن مسعود وزيد بن ثابت لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة بن الصامت لن تؤمن حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال قتادة عن أبي السوار عن الحسن بن علي قال قضي القضاء وجف القلم وأموت بقضاء في كتاب قد خلا



يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:24 AM

وقال عمرو بن العاص انتهى عجبي إلى ثلاث المرء يفر من القدر وهو لاقيه ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبها ويكون في عنيه مثل الجذع فلا يعيبها ويكون في دابته الطفر فيقومها جهده ويكون في نفسه الطفر فلا يقومها
قال أبو الدرداء ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والإستسلام للرب
وقال الحجاج الأزدي سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر فقال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال سلمان أيضا إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذراري إلى يوم القيامة وكتب الآجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن عمل السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن عمل الشقاوة عمل الشر ومجالس الشر
وقال جابر بن عبد الله لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة فصل
فالجواب أن ههنا مقامين مقام إيمان وهدى ونجاة ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس وهذه الآثار كلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم
الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاف مغالبته حتى يقول قائل هؤلاء
ما حيلة العبد والأقدار جارية % عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له % إياك إياك أن تبتل بالماء
ويقول قائلهم
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى % دخولي سبيل بينوا لي قصتي
ويقول الآخر
وضعوا اللحم للبزاة % على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ % خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي % ستروا وجهك الحسن
وقال بعضهم وقد ذكر له ما يخاف من إفساده فقال لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره وصعد رجل يوما على سطح دار له فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما فقال الغلام إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك فقال لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء أنت حر لوجه الله
ورأى آخر يفجر بامرأته فبادر ليأخذه فهرب فأقبل يضرب المرأة وهي تقول القضاء والقدر فقال يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا فقالت أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال لولاك لضللت ورأى آخر رجلا آخر يفجر بامرأته فقال ما هذا فقالت هذا قضاء الله وقدره فقال الخيرة فيما قضى الله فقبل بالخيرة فيما قضى الله وكان إذا دعي به غضب

وقيل لبعض هؤلاء أليس هو يقول ولا يرضى لعباده الكفر فقال دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده ومن أفسدنا غيره ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال القدر عذر لجميع العصاة وإنما مثلنا في ذلك كما قيل
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم % وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
وبلغ بعض هؤلاء أن عليا أمر بقتلى النهروان فقال بؤسا لكم لقد ضركم من غركم فقيل من غرهم فقال الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأماني فقال هذا القائل كان علي قدريا وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد
واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله وزين لهم الشيطان أعمالهم فقال كان الهدهد قدريا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان وجميع ذلك فعل الله وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أيمنعه ثم يسأله ما منعه قال نعم قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ولعنه عليه قال له فما معنى قوله وماذا عليهم لو آمنوا بالله إذا كان هو الذي منعهم قال استهزاء بهم قال فما معنى قوله ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم قال قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه وليس للآية معنى

وقال بعض هؤلاء وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله فقال إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لإرادته
وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه فقال إلى متى هذا اللوم ولو خلي لسجد ولكن منع وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين تبا لك سائر اليوم أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن
وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه فلما رجع قال كنت أصلح بين قوم فقيل له أصلحت بينهم قال أصلحت إن لم يفسد الله فقيل له بؤسا لك أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك
ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال مسكين مظلوم أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها
وقيل لبعضهم أترى الله كلف عباده مالا يطيقون ثم يعذبهم عليه قال والله قد فعل ذلك ولكن لا نجسر أن نتكلم
وأراد رجل من هؤلاء السفر فودع أهله وبكى فقيل استودعهم الله واستحفظهم إياه فقال ما أخاف عليهم غيره
وقال بعض هؤلاء ذنبة أذنبها أحب إلي من عبادة الملائكة قيل لم قال لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها ولم يقضها إلا والخيرة لي فيها وقال بعض هؤلاء العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر

ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدا فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور فجعل يقول كيف أنتم في قدر الله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لي المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراد فأي شيء أبغض منه قال فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له قال فكأنما ألقم حجرا
وقرأ قارىء بحضرة بعض هؤلاء قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فقال هو والله منعه ولو قال إبليس ذلك لكان صادقا وقد أخطأ إبليس الحجة ولو كنت حاضرا لقلت له أنت منعته
وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فقال ليس من هذا شيء بل أضلهم وأعماهم قالوا فما معنى الآية قال مخرقة بمخرق بها
فيقال الله أكبر على هؤلاء الملاحده أعداء الله حقا الذين ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه ولا نزهوه عما لا يليق به وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم وهؤلاء خصماء الله حقا الذين جاء فيهم الحديث يقال يوم القيامة أين خصماء الله فيؤمر بهم إلى النار /ح/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته
ويدعى خصوم الله يوم معادهم % إلى النار طرا فرقة القدرية
سواء نفوه أو سمعوا ليخاصموا % به الله أو ماروا به للشريعة
وسمعته يقول القدرية المذمومون في السنة على لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث نفاته وهم القدرية المجوسية والمعارضون به للشريعة الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا وهم القدرية الشركية والمخاصمون به الرب سبحانه وهم أعداء الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية وشيخهم إبليس وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال بما أغويتني ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم ومن أشبه أباه فما ظلم ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب ونزهوه أن يعاقب العبد على مالا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه ونحو ذلك كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتي بطرار أحوال فقال له الوالي ما ترى فيه فقال اضربه خمسة عشر يعني سوطا فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا خمسة عشرة لطرة ومثلها لحوله فقال الجبري كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه فقال كما ضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك فبهت الجبري وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع عدو الله ورسله لا يقر بأمر ولا نهي وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا اباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون وقال تعالى وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل


يتبع

أرب جمـال 14 - 5 - 2012 12:24 AM

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق

الفرقة الأولى جعلت هذه الآيات حجة صحيحة وأن للمحتج بها الحجة على الله ثم افترق هؤلاء فرقتين فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلما والله لا يظلم من خلقه أحدا وفرقة صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت ليس ذلك بظلم والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده إذ العبد لا فعل له والملك ملكه ولا يسأل عما يقول وهم يسألون فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التي حكاها الله عنهم استهزاء منهم ولو قالوها اعتقادا للقضاء والقدر وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر عليهم ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا
الفرقة الثانية جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب ونفى عنهم العلم دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به ولم يقل لهم قل هل عندكم من علم وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات وأنه لا يقدر أن يضل أحد ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده ولا يجعل في قلبه الإيمان ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر
والطائفتان ضالتان وإحداهما أضل من الأخرى
والفرقة الثالثة آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي ونزلوا كل واحد منزلته فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به والأمر النهي يتمثل ويطاع فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والقيام بالأمر والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله وقالوا من لم يقر بالقضاء والقدر ويقم بالأمر والنهي فقد كذب الشهادتين وإن نطق بهما بلسانه ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين فرقة قالت إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلا على رضاه به ومحبته له إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته وكلاهما ممتنع في حق الله فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به وقد وافق هؤلاء من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها ولكن حالفهم في أنه نهى عنها وأمر باضدادها ويعاقب عليها فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره على لسان رسوله لا بمجرد خلقه فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه فهكذا في الأفعال خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته وقالت الفرقة الثانية إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره نهيه دفعوه بقضائه وقدره فجعلوا القضاء والقدر إبطالا لدعوة الرسل ودفعا لما جاؤوا به وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إما في جميع تركتهم وإما في كثير منها وإما في جزء منها وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا إيمانا يثابون عليه ويقبل منهم يرضى به عنهم وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى الأولى علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم
الثانية كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض
الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه
الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه فإنه لا خالق إلا الله والله خالق كل شيء فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق ويؤمنون مع ذلك بحكمته وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه وإن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمه به كسائر صفاته وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها بل هي أمر وراء ذلك وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى وأحيا وأسعد وأشقى وأضل وهدى ومنع وأعطى وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات وهو محال إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة بل قوله حق ولازم الحق حق كائنا ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي وصدقوا بالوعد والوعيد فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
واعلم أن الإيمان بحقيقةالقدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر ومنهم من يرده إلى العلم ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر وكذلك الحكمة فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته والقدرية النفاة لا يرضون بهذا بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته كما قالوا في كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها وكذلك الأمر والشرع فإن من أنكر كلام الله وقال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له ولم يكلف أحدا ما يقدر عليه بل كل تكليفه تكلف مالا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة ويجوز أن يعذب رجالا إذ لم يكونوا نساء ويعذب نساء إذ لم يكونوا رجالا وسودا حيث لم يكونوا بيضا وبيضا حيث لم يكونوا سودا ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدي الكذابين ويرسل رسولا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ولكن مشى الحال بعض المشي بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ولهذا كان المنكرون القدرة فرقتين فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم وقال تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال في حم بعد ذكر تخليق العالم ذلك تقدير العزيز العليم وذكر نظير هذا فقال فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته فهو عليم بخلقه وأمره ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة والحكمة هي سنة الرسول وهي تتضمن العلم بالحق والعلم به والخبر عنه والأمر به فكل هذا يسمى حكمة وفي الأثر الحكمة ضالة المؤمن وفي الحديث إن من الشعر حكمة فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم

جمال جرار 14 - 5 - 2012 12:49 AM


ابو فداء 14 - 5 - 2012 02:27 AM

يسلمووووو
موضوع متكامل
سلمتي

أبو جمال 14 - 5 - 2012 11:06 AM

طرح موفق
سلمت الايادي على انتقاء الكتاب
بوركت
تحياتي

روح الياسمين 14 - 5 - 2012 07:33 PM

يسلمو ارب
اكيد لي عودة ان احتجت للقراءة
بورك بك

الغريب 16 - 5 - 2012 01:45 AM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير

أرب جمـال 19 - 5 - 2012 02:41 AM

شاكرة مروركم اعزائي على الموضوع
تقديري لكم ومحبتي

سفير بلادي 23 - 6 - 2012 12:28 PM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير

أرب جمـال 23 - 6 - 2012 10:37 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سفير بلادي (المشاركة 263197)
مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير

شكرا لمرورك سعادة السفير
تقديري لك


الساعة الآن 03:08 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى