منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   سِير أعلام وشخصيات (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=57)
-   -   أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=402)

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:33 PM

أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة
 
أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة

1 - عبد الملك بن مروان

نظر إليه أبو هريرة -رضي الله عنه- وهو غلام، فقال: هذا يملك العرب!!
في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولد (عبد الملك بن مروان) في
سنة 24هـ في أول عام من خلافة (عثمان بن عفان) رضي الله عنه، حفظ القرآن الكريم، وسمع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمِّه عثمان بن عفان وأبي هريرة، وأم سلمة، ومعاوية، وابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-.
وكثيرًا ما كان عبد الملك في طفولته المبكرة يسأل أباه وعمه ومن حوله من الصحابة عن سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبونه بما يثير دهشته، ويزيد من إعجابه بعظمة الإسلام، ولكنه وهو في العاشرة من عمره رأى مقتل خليفة المسلمين (عثمان بن عفان) فترك ذلك أثرًا حزينًا في نفسه، لكنه تعلم منه الدرس، وهو أن يتعامل مع المعتدين والمشاغبين بالقوة والحزم.
ثم لازم الفقهاء والعلماء حتى صار فقيهًا، سئل ابن عمر -رضي الله عنه- ذات مرة في أمر من أمور الدين فقال: (إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه) وقال الأعمش: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعروة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن
مروان، وكان لا يترك الصلاة في المسجد، حتى سمي حمامة المسجد لعبادته ومداومته على تلاوة القرآن.
نال عبد الملك في حداثته إعجاب الجميع لتمسكه بمبادئ الإسلام، يحكي أن معاوية جلس يومًا ومعه سعيد بن العاص -رضي الله عنه- فمرَّ بهما عبد الملك، فقال معاوية: لله در هذا الفتى ما أعظم مروءته؟ فقال سعيد: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثًا: أخذ بحسن الحديث إذا حَدَّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث، وحسن البِشْر إذا لقي، وخفة المئونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر منه، وترك مخالطة اللئام من الناس، وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته).
وخرج عبد الملك من المدينة في ربيع الآخر سنة 64هـ عند حدوث الفتنة واضطراب الأمر بالشام وظهور عبد الله بن الزبير بمكة والحجاز وإعلان نفسه خليفة للمسلمين، ولم تكد تمضِ ستة أشهر حتى تولى أبوه مروان الخلافة، لكنه لم يستمر سوي عشرة أشهر حتى توفي، فخلفه في رمضان من عام 65هـ عبد الملك بن مروان وأقبل عليه كبراء بني أمية وأمراء الجنود ورؤساء القوم وكبار رجال الدولة
فبايعوه.
وحين تولى عبد الملك خلفًا لأبيه لم يكن في يده غير الشام ومصر فقط، وهكذا كانت الأخطار تحيط بدولته من كل جانب في الداخل، فوجد الدولة الإسلامية منقسمة تسودها الفتن والاضطرابات، فهناك ابن الزبير في الحجاز، ودولة بني أمية في الشام، والخوارج الأزارقة بالأهواز، والخوارج (النجدات) بجزيرة العرب، والشيعة بالكوفة في العراق، وفي الخارج كانت الروم تكيد له، وتنتهز فرصة الانقسام لتغير على الحدود في الشمال والغرب، تهديدات من كل اتجاه، فأدرك (عبد الملك) أنه لابد من توحيد الجهود الإسلامية ضد الأعداء، وبدأ في تجهيز الجيوش، وأحسن معاملة قواده وحاشيته، يكرمهم، ويعطف عليهم، ويزورهم إذا مرضوا، ويحضرهم مجالسه، ويعاملهم كأصدقاء، فكان ذلك من أكبر عوامل نجاحه وانتصاره.
وبحلول عام 74هـ اجتمعت كلمة الأمة بعد خلاف طويل، وانتهى النزاع حول الخلافة، حتى سمي هذا العام بعام الوحدة، وتمت البيعة لعبد الملك من الحجاز والعراق، كما تمت له من قَبْلُ في الشام ومصر، وجاءته أيضًا من خراسان، واستردت الدولة الإسلامية مكانتها وهيبتها وسيادتها على الأعداء، واتسعت حدودها بعد أن أضاف إليها عبد الملك أقاليم جديدة؛ حيث أرسل جنوده ففتحوا بعض بلاد المغرب وتوغل فيها.
واتبع عبد الملك سياسة الحزم والشدة، فكان قوي الإرادة والشخصية؛ لذلك قالوا: (كان معاوية أحلم وعبد الملك أحزم) وقال أبو جعفر المنصور: كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأمضاهم عزيمة، وكان عبد الملك حريصًا على نزاهة من يعملون في دولته.. بلغه ذات يوم أن أحد عماله قبل هدية، فأمر بإحضاره إليه، فلما حضر قال له: أقبلتَ هدية منذ وليتك؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك
موفورة، رعيتك على أفضل حال.. قال: أجب عما سألتك.. قال: نعم قد
قبلت؛ فعزله عبد الملك.
ولم يكن عبد الملك رجل سياسة فحسب، ولكنه كان أديبًا يحب الأدباء، ويعقد المجالس الأدبية، وينتقد ما يلْقَى عليه من الشعر انتقادًا يدل على ذوق أدبي رفيع، وقد أظهر عبد الملك براعة في إدارة شئون دولته وتنظيم أجهزتها مثلما أظهر براعة في إعادة الوحدة إلى الدولة الإسلامية، فاعتمد على أكثر الرجال في عصره مهارةً ومقدرةً وأعظمهم كفاءةً وخبرةً مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وبشر بن مروان وعبد العزيز بن مروان وتفقد عبد الملك أحوال دولته بنفسه، وتابع أحوال عماله وولاته، وراقب سلوكهم، وأنجز أعمالاً إدارية ضخمة دفعت بالدولة الإسلامية أشواطًا على طريق التقدم.
فهو أول من ضرب الدنانير وكتب عليها القرآن، فكتب على أحد وجهي الدنانير (قل هو الله أحد) وكتب على الوجه الآخر: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق، ونقلت في أيامه الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية، وهو ما يُعرف في التاريخ بـ(حركة تعريب الدواوين).
ورغم شدة وحزم عبد الملك فإنه كان رقيق المشاعر، يخشى الله ويتضرع إليه، خطب ذات مرة، فقال: (اللهم إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك يا
كريم فاغفرها لي) وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قيل له: كيف تجدك؟ فقال: أجدني كما قال الله تعالي: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94].
ومات عبد الملك سنة 86 من الهجرة، وعمره 60 سنة، وصلى عليه ابنه الوليد.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:34 PM

2 - عمــر بن عبد العزيز
رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا، فقام من نومه يردد: مَنْ هذا الأشجُّ من بني أمية، ومِنْ ولد عمر يُسَمى عمر، يسير بسيرة عمر ويملأ الأرض عدلاً.
ومرت الأيام، وتحققت رؤيا أمير المؤمنين، ففي منطقة حلوان بمصر حيث يعيش وإلى مصر عبد العزيز بن مروان وزوجته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وُلِد
عمر بن عبد العزيز سنة 61هـ، وعني والده بتربيته تربية صالحة، وعلَّمه القراءة والكتابة، لكن عمر رغب أن يغادر مصر إلى المدينة ليأخذ منها العلم، فاستجاب
عبد العزيز بن مروان لرغبة ولده وأرسله إلى واحد من كبار علماء المدينة وصالحيها وهو (صالح بن كيسان).
حفظ عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم، وظهرت عليه علامات الورع وأمارات التقوى، حتى قال عنه معلِّمه صالح بن كيسان: ما خَبَرْتُ أحدًا -الله أعظم في صدره- من هذا الغلام، وقد فاجأته أمه ذات يوم وهو يبكي في حجرته، فسألته: ماذا حدث لك يا عمر؟ فأجاب: لا شيء يا أماه إنما ذكرتُ الموت، فبكت أمه.
وكان معجبًا إعجابًا شديدًا بعبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وكان دائمًا يقول لأمه: تعرفين يا أماه لأكونن مثل خالي عبد الله بن عمر، ولم تكن هذه الأشياء وحدها هي التي تُنبئ بأن هذا الطفل الصغير سيكون علمًا من أعلام الإسلام، بل كانت هناك علامات أخرى تؤكد ذلك، فقد دخل عمر بن العزيز إلى إصطبل
أبيه، فضربه فرس فشجَّه (أصابه في رأسه) فجعل أبوه يمسح الدم عنه، ويقول: إن كنتَ أشجَّ بني أمية إنك إذن لسعيد.
وكان عمر نحيف الجسم أبيض الوجه حسن اللحية، وتمضي الأيام والسنون ليصبح عمر بن عبد العزيز شابًّا فتيًّا، يعيش عيشة هنيئة، يلبس أغلى الثياب، ويتعطر بأفضل العطور، ويركب أحسن الخيول وأمهرها، فقد ورث عمر عن أبيه الكثير من الأموال والمتاع والدواب، وبلغ إيراده السنوي ما يزيد على الأربعين ألف دينار، وزوَّجه الخليفة عبد الملك بن مروان ابنته فاطمة، وكان عمر -رضي الله عنه- وقتها في سن العشرين من عمره، فازداد غِنًى وثراءً.
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز الخامسة والعشرين، اختاره الخليفة الأموي الوليد بن
عبد الملك ليكون واليًا على المدينة وحاكمًا لها، ثم ولاه الحجاز كله، فنشر الأمن والعدل بين الناس، وراح يعمِّر المساجد، بادئًا بالمسجد النبوي الشريف، فحفر الآبار، وشق الترع، فكانت ولايته على مدن الحجاز كلها خيرًا وبركة، شعر فيها الناس بالأمن والطمأنينة.
واتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة على رأسهم التابعي الجليل (سعيد بن المسيِّب) فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة، وذات مرة جمعهم، وقال لهم:
إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل (حاكم) ظلامة فأُحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فشكروه ثم انصرفوا، وظل عمر بن عبد العزيز في ولاية المدينة ست سنوات إلى أن عزله الخليفة الوليد بن
عبد الملك لأن الحجاج أفهمه أن عمر أصبح يشكل خطرًا على سلطان بني أمية.
ذهب عمر إلى الشام ومكـث بها إلى أن مـات الـوليد بن عبد الملك، وتولى الخلافة بدلاً منه أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان يحب عمر، ويعتبره أخًا وصديقًا ويأخذ بنصائحه، وذات يوم مرض الخليفة مرض الموت، وشعر بأن نهايته قد
اقتربت، فشغله أمر الخلافة حيث إن أولاده كلهم صغار لا يصلحون لتولي أمور الخلافة، فشاور وزيره (رجاء بن حيوة) العالم الفقيه في هذا الأمر، فقال له:
إن مما يحفظك في قبرك ويشفع لك في أخراك، أن تستخلف على المسلمين رجلا صالحًا.
قال سليمان: ومن عساه يكون؟
قال رجاء: عمر بن عبد العزيز.
فقال سليمان: رضيت، والله لأعقدن لهم عقدًا، لا يكون للشيطان فيه نصيب، ثم كتب العهد، وكلف (رجاء) بتنفيذه دون أن يَعْلَمَ أحدٌ بما فيه.
مات سليمان، وأراد (رجاء بن حيوة) تنفيذ العهد لكن عمر كان لا يريد
الخلافة، ولا يطمع فيها، ويعتبرها مسئولية كبيرة أمام الله، شعر عمر بن عبد العزيز بالقلق وبعظم المسئولية، فقرر أن يذهب على الفور إلى المسجد حيث يتجمع المسلمون، وبعد أن صعد المنبر قال: لقد ابتليتُ بهذا الأمر على غير رَأْي مِنِّي
فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا
لأنفسكم، لكن المسلمين الذين عرفوا عدله وزهده وخشيته من الله أصرُّوا على أن يكون خليفتهم، وصاحوا في صوت واحد: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين، فبكي عمر.
وتولى الخلافة في يوم الجمعة، العاشر من صفر سنة 99هـ، ويومها جلس حزينًا مهمومًا، وجاء إليه الشعراء يهنئونه بقصائدهم، فلم يسمح لهم، وقال لابنه: قل
لهم {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15].
دخلت عليه زوجته فاطمة وهو يبكي، فسألته عن سرِّ بكائه، فقال: إني تَقَلَّدْتُ (توليت) من أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أسودها وأحمرها، فتفكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمجهود، والمظلوم المقهور، والغريب
الأسير، والشيخ الكبير، وذوي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حجة فبكيتُ.
وترك عمر زينة الحياة الدنيا، ورفض كل مظاهر الملك التي كانت لمن قبله من الخلفاء، وأقام في بيت متواضع بدون حـرس ولا حجاب، ومنع نفسه التمتع بأمواله، وجعلها لفقراء المسلمين، وتنازل عن أملاكه التي ورثها عن أبيه، ورفض أن يأخذ راتبًا من بيت المال، كما جرَّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها وجواهرها الثمينة، وطلب منها أن تعطيها لبيت المال، فقال لها:
اختاري..إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد، فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر، فقالت: بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي، فأمر عمر بتلك الجواهر فوضعت في بيت المال.
وبلغه أن أحد أولاده اشترى خاتمًا له فصٌّ بألف درهم، فكتب إليه يلومه، ويقول له: بِعه وأشبع بثمنه ألف جائع، واشترِ بدلاً منه خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
ويحكى أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كان يقسم تفاحًا للمسلمين، وبينما هو يفرقه ويقسمه على من يستحقه إذ أخذ ابن صغير له تفاحة، فقام عمر وأخذ التفاحة من فمه، فذهب الولد إلى أمه وهو يبكي، فلما علمت السبب، اشترت له تفاحًا، فلما رجع عمر شم رائحة التفاح، فقال لزوجته: يا فاطمة، هل أخذت شيئًا من تفاح المسلمين؟ فأخبرته بما حدث، فقال لها: والله لقد انتزعتها من ابني
فكأنما انتزعتُها من قلبي، لكني كرهتُ أن أضيِّع نفسي بسبب تفاحة من تفاح المسلمين!!
وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي تحت تصرفه وطوع أمره أموال الدولة وكنوزها، يقول لزوجته يومًا: تشتهي نفسي عسل لبنان، فأرسلت فاطمة إلى ابن معد يكرب، عامل (أمير) لبنان، وذكرت له أن أمير المؤمنين يشتهي عسل
لبنان، فأرسل إليها بعسل كثير، فلما رآه عمر غضب، وقال لها: كأني بك يا فاطمة قد بعثتِ إلى ابن معد يكرب، فأرسل لك هذا العسل؟ ثم أخرج عمر العسل إلى السوق، فباعه، وأدخل ثمنه بيت المال، وبعث إلى عامله على لبنان يلومه، ويقول له: لو عُدْتَ لمثلها فلن تلي لي عملا أبدًا، ولا أنظر إلى وجهك.
وكان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلاً، خرج ذات ليلة إلى المسجد ومعه رجل من الحراس، فلما دخل عمر المسجد مرَّ في الظلام برجل نائم، فأخطأ عمر وداس
عليه، فرفع الرجل رأسه إليه وقال أمجنون أنت؟ فقال: لا، فتضايق الحارس وهَمَّ أن يضرب الرجل النائم فمنعه عمر، وقال له: إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه
سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- رقيق المشاعر، رحيمًا بالإنسان
والحيوان، كتب ذات يوم إلى واليه في مصر قائلاً له: بلغني أن الحمالين في مصر يحملون فوق ظهور الإبل فوق ما تطيق، فإذا جاءك كتابي هذا، فامنع أن يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل.
وقد حرص عمر الزاهد العادل التقي على ألا يقرب أموال المسلمين ولا يمد يده إليها، فهي أمانة في عنقه، سيحاسبه الله عليها يوم القيامة، فكان له مصباح يكتب عليه الأشياء التي تخصه، ومصباح لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفًا..وذات مرة سخنوا له الماء في المطبخ العام، فدفع درهمًا ثمنًا للحطب!!
لقد كان همه الأول والأخير أن يعيش المسلمون في عزة وكرامة، ينعمون بالخير والأمن والأمان، كتب إلى أحد أمرائه يقول: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، وكان يأمر عماله بسداد الديون عن المحتاجين، وتزويج من لا يقدر على الزواج، بل إن مناديه كان ينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى استطاع بفضل من الله أن يغنيهم جميعًا.
خرج عمر راكبًا ليعرف أخبار البلاد، فقابله رجل من المدينة المنورة فسأله عن حال المدينة، فقال: إن الظالم فيها مهزوم، والمظلوم فيها ينصره الجميع، وإن
الأغنياء كثيرون، والفقراء يأخذون حقوقهم من الأغنياء، ففرح عمر فرحًا شديدًا وحمد الله، وهكذا رجـل مـن ولـد (زيـد بن الخطــاب) يقول: (إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفًا، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال
العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يبحث عمن يعطيه فما يجد، فيرجع بماله، قد أغنى الله الناس على يد عمر).
طُلب منه أن يأمر بكسوة الكعبة،كما جرت العادة بذلك كل عام، فقال: إني رأيت أن أجعل ذلك (ثمن كسوة الكعبة) في أكباد جائعة،فإنه أولى بذلك من البيت، وبعد فترة حكمه التي دامت تسعة وعشرين شهرًا، اشتد عليه المرض، فجاءه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا توصي لأولادك، فإنهم
كثيرون، وقد أفقرتهم، ولم تترك لهم شيئًا؟!
فقال عمر: وهل أملك شيئًا أوصي لهم به، أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين؟ والله لا أعطيهم حق أحد، وهم بين رجلين: إما أن يكونوا صالحين فالله
يتولاهم، وإما غير صالحين فلا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله، وجمع أولاده، وأخذ ينظر إليهم، ويتحسس بيده ثيابهم الممزقة؛ حتى ملئت عيناه
بالدموع، ثم قال: يا بَنِي، إن أباكم خُيِّر بين أمرين: بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل أبوكم النار، وبين أن تفتقروا، ويدخل أبوكم الجنة، فاختار
الجنة.. يا بَنِي، حفظكم الله ورزقكم، وقد تركتُ أمركم إلى الله وهو يتولى الصالحين.
ثم قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا، وجلس على الباب مَسْلَمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعاه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83].
ومات عمر بعد أن ضرب المثل الأعلى في العدل والزهد والورع... مات أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين!!

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:34 PM

3- المأمون بن الرشيد
اليوم يوم الخلفاء.. فقد مات خليفة، وتولى خليفة، وولد خليفة، أما الذي مات فهو الخليفة (موسى الهادي) وأما الذي تولى الخلافة فهو هارون الرشيد، أما الخليفة الذي ولد فهو المأمون، وكان هذا اليوم في سنة 170هـ.

كان المأمون أول غلام يولد للرشيد، وللطفل الأول غالبًا في نفس والده قدر من الإعزاز والمحبة؛ لذلك ظل الرشيد يحب المأمون ويؤثره كل الإيثار، خاصة أنه فقد أمه (مراجل) التي ماتت بعد ولادته بأيام قليلة، فنشأ محرومًا من عطف الأم، وكان الرشيد معجبًا بذكاء ابنه وانصرافه إلى العلم، فحين دخل على المأمون وهو ينظر في كتاب، قال له: ما هذا؟ فأجاب المأمون: كتاب يشحذ الفكرة، ويحسن
العشرة، فقال الرشيد: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر مما يرى بعين جسمه.
وكان هارون الرشيد يفتخر دائمًا بخُلُق المأمون وشخصيته، يقول: (إني لأتعرف في عبد الله المأمون حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شاء أن أنسبه إلى الرابع لنسبته، يعني نفسه).
تلقى المأمون العلم على خيرة علماء عصره، فتلقى علم العربية على يد
الكسائي، أحد علماء الكوفة المشهورين في القراءات والنحو واللغة، وتلقى دروس الأدب على يد أبي محمد اليزيدي وهو واحد من خيرة علماء عصره، ودرس المأمون الحديث حتى صار واحدًا من رواته، وسمع منه كثيرون ورووا عنه، وقد ساعدته على رواية الحديث ذاكرته القوية الحافظة التي كانت مضرب المثل، فيحكى أن الرشيد أراد الحج فدخل الكوفة وطلب المحدِّثين (علماء الحديث) فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فبعث إليهما الأمين والمأمون، فحدثهما (ابن إدريس) بمائة حديث، فقال المأمون: يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي؟ فأعادها فعجب ابن إدريس من حفظه.
وشب المأمون وكل اهتمامه كان بقراءة الفقه والتاريخ والأدب والفلسفة وغيرها من العلوم، ولما جاء الوقت لكي يختار الرشيد خليفة للمسلمين من بعده، كان في حيرة من أمره، فقد كان في قرارة نفسه يحب المأمون، ويثق في قدرته على تحمل أعباء الحكم بعده، إلا أن رأيه استقر أخيرًا على أن يكون الأمين وليًّا للعهد، ثم جعل المأمون وليًّا للعهد بعد أخيه.
وبعد موت هارون الرشيد أخذ الأمين البيعة من الناس بالخلافة، ثم أرسل إلى المأمون يدعوه للسمع والطاعة، فأعلن المأمون ولاءه وطاعته لأخيه، غير أن بطانة السوء نجحوا في جعل الأمين يحول ولاية العهد إلى ابنه بدلا من أخيه المأمون، لكن المأمون رفض هذا الأمر واستطاع بمعاونة وزيره الفضل بن سهل وأكبر قواده
طاهر بن الحسين أن يصبح خليفة للمسلمين.
امتاز عصر المأمون بأنه كان غنيًّا بالعلماء الكبار في كل فروع المعرفة من أمثال الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان بن عيينة، والفَرَّاء، وغيرهم من كبار
العلماء، وكان يحب العلم والعلماء، ويروي الأحاديث، ويهتم بالفلسفة، ويعمل على تشجيع العلماء والأدباء، فأرسل البعوث إلى القسطنطينية واليونان والهند
وأنطاكية.. وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان وترجمتها إلى اللغة العربية، وكان يسعى إلى إحضار العلماء الأجانب للاستفادة بعلمهم وخبرتهم، حتى أصبحت بغداد في عصره منارة للعلم.
واهتم المأمون بالشعر اهتمامًا كبيرًا، فكان يعقد مجالس تُنْشَدُ فيها الأشعار، ولم يكن المأمون يحب الشعر فحسب، بل كان شاعرًا رقيق المشاعر؛ ومن شعره في وصف الصديق المخلص:
إِنَّ أَخَاكَ الحَقَّ مَن يَسْعَى مَعَـكْ
وَمــــنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَــــكْ
وَمَنْ إِذَا صَرْفُ الزَّمَانِ صَدَّعَكْ
بَدَّدَ شَمْلَ نَفْسِــــــهِ لِيَنْفَعَــكْ
واشتهر المأمون بكرمه الواسع، وكان يقول: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وكان حريصًا كل الحرص على قراءة كل الشكاوى والمظالم التي تصل إليه، يحققها
بنفسه، وينصف المظلوم من الظالم.
تقدمت إليه امرأة تشكو ابنه العباس، فطلب من وزيره أحمد بن أبي خالد أن يأخذ بيد العباس ويجلسه مع المرأة مجلس الخصوم، وارتفع صوت المرأة وأخذ يعلو على كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير
المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه، ثم قضى لها بحقِّها وأمر لها بنفقة.
وعنف المأمون واحدًا من رجال حاشيته ظلم رجلا فارسيًّا، فقال له: والله لو ظلمت العباس ابني كنت أقل نكيرًا عليك من أن تظلم ضعيفًا لا يجدني في كل وقت، وكان المأمون متسامحًا، يعفو عمن ظلمه أو ناله بسوء، حتى إنه يقول: أنا والله ألذ العفو حتى أخاف أن لا أُؤْجَر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو، لتقربوا إلى بالجرائم، ويقول أيضًا: وددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف ويخلص السرور إلى قلوبهم، لكنه وإن كان متسامحًا في حق نفسه فإنه لم يكن يتهاون في حق الدين أو الدولة.
وكان لينًا مع الناس حليمًا رفيقًا، يذكر عبد الله بن طاهر وهو واحد من رجاله المقربين قال: كنت عند المأمون فنادى بالخادم: يا غلام.. فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيًا وصاح: يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ولا يشرب؟! كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام؟ فنكس المأمون رأسه طويلاً فما شككت أن يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إليَّ، وقال: يا
عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت
أخلاقه حسنت أخلاق خدمة، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتتحسن أخلاق خدمنا.
إلى جانب هذا الحلم الواسع كان المأمون جامعًا لكثير من الفضائل؛ من ذلك تواضعه الشديد لكل من يعرفه، ولقد كان قاضيه (يحيى بن أكثم) في ضيافته، فقام الخليفة المأمون بإحضار ماء له، فاندهش يحيى من ذلك، فكيف يأتي له أمير المؤمنين بالماء ويخدمه وهو جالس في مكانه؟! فلما رأى المأمون علامات الاستفهام على وجه
يحيى قال له: سيد القوم خادمهم.
وعُرِفَ المأمون بذكائه وكثرة علمه، فقد جاءته امرأة، وقالت له: مات أخي، وترك ستمائة (600) دينار، فأعطوني دينارًا واحدًا، وقالوا: هذا ميراثك من أخيك، ففكر المأمون وقال: أخوك ترك أربع بنات، قالت: نعم.. قال: لهن أربعمائة (400) دينار (ثلث الميراث) قالت: نعم، قال: ترك أمًّا، فلها مائة (100) دينار (سدس الميراث) وزوجة لها خمسة وسبعون (75) دينارًا (ثمن الميراث).. بالله ألك اثنا عشر (12) أخًا؟ قالت: نعم.. قال: لكل واحد ديناران، ولك دينار.
وكان المأمون رجاعًا إلى الحق، فقد أمر أن ينادي بإباحة نكاح المتعة، فدخل عليه يحيى بن أكثم، فذكر له حديث علي -رضي الله عنه- بتحريها، فلما علم صحة الحديث، رجع إلى الحق وأمر من ينادي بتحريمها، وقامت في عهده عدة
حروب، فقضى على بعض الثورات، كما جاهد الروم وحاربهم، واستمرت خلافة المأمون عشرين سنة من سنة 198هـ إلى سنة 218 هـ.
لما أحس بدنو أجله قال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، يا من لا يموت ارحم من يموت.
ومات المأمون بعد حياة حافلة بالخير والعطاء، وهو في الثامنة والأربعين من عمره في مدينة (طرطوس) سنة 218هـ

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:43 PM

4 - هارون الرشيد

أتبكي يا أمير المؤمنين؟! تبكي وأنت الذي تصلى كل يوم مائة ركعة، وتتصدق من مالك الخاص بألف درهم في كل يوم؟! تبكي وأنت الذي عظَّمت حرمات الإسلام، وبالغت في احترام العلماء والوعاظ، وجاهدت في سبيل الله؟!
كان كثير البكاء على نفسه، تسيل دموعه كالسيل إذا وعظ، ولم يذكر له النبي
صلى الله عليه وسلم إلا قال: صلى الله على سيدي.
هناك في مدينة (الري) تلك المدينة القديمة التي تقع في الجنوب الشرقي من
طهران وُلِد هارون الرشيد بن المهدي بن جعفر المنصور في أواخر ذي الحجة
سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان أبوه (المهدي) في تلك الأيام أميرًا على الري وخراسان من قبل الخليفة المنصور، ثم أصبح خليفة للمسلمين بعد وفاة
أبيه المنصور.
نشأ هارون تحيطه رعاية والده الذي دربه منذ حياته المبكرة على الحياة
العسكرية، فجعله أميرًا لحملة عسكرية كانت تسمى بالصوائف حيث كانت تخرج للجهاد في الصيف، والشواتي نسبة إلى الشتاء لتهديد العدو البيزنطي وتخويفًا
له، وولاه المغرب كله، ثم عينه والده وليًّا للعهد بعد أخيه الهادي.
تولي الرشيد خلافة المسلمين سنة 170هـ، وسنه خمسة وعشرين عامًا وأصبحت بغداد في عصره من أعظم مدن الدنيا، فريدة في حضارتها وعمارتها، وشمل بعدله القوي والضعيف والعاجز والمريض وذا الحاجة، وازدهرت فترة ولايته بوجود الكثير من أئمة العلم العظام كالإمام مالك بن أنس، والليث بن سعد، والكسائي
ومحمد بن الحسن من كبار أصحاب أبي حنيفة.
وكان يضرب به المثل في التواضع، يحكى أن أبي معاوية الضرير وهو من العلماء المحدثين قال: أكلت مع الرشيد ثم صبَّ على يدي الماء رجل لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من صب عليك؟ قلت: لا. قال: أنا، إجلالاً للعلم.
وجاوزت خشيته من الله الحدود، فكان جسده يرتعد، ويسمع صوت بكائه إذا وعظه أحد من الناس، يحكي أنه جالس (أبا العتاهية) الشاعر، وكلف أحد جنوده بمراقبته، وإخباره بما يقول، فرآه الجاسوس يومًا وقد كتب على الحائط:
إلى ديان يوم الـدين نمضــــي وعند الله يجتمع الخصـــــوم
فأخبر الجاسوس الرشيد بذلك، فبكي وأحضر أبا العتاهية، وطلب منه أن
يسامحه، وأعطاه ألف دينار.
وقال الأصمعي: وضع الرشيد طعامًا، وزخرف مجالسه وزينها، وأحضر أبا العتاهية وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال أبو العتاهية:
فعش ما بدا لك سالمـــًا في ظـل شاهقــة القصـــــور
فقال الرشيد: أحسنت ثم ماذا؟ فقال:
يسعى إليك بما اشتهيـــــت لدى الرواح وفي البكــــــور
فقال: حسن؟ ثم ماذا؟ فقال أبو العتاهية مندفعًا:
فـــإذا النفـــوس تقعقعت في ظل حشرجــــة الصـــدور
فهنــــاك تعلــم موقـنًا مـــا كنت إلا فـي غــــرور
فبكى الرشيد، فزجر أحد الحاضرين أبا العتاهية لأن المقام مقام فرح وسرور، فقال الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا منه.
وكان كثير الغزو والحج يغزو سنة ويحج سنة، فإذا حج حجَّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج قام بالإنفاق على ثلاثمائة رجل ليؤدوا فريضة الحج، ورغم هذه الرقة والشفافية والزهد، كان شجاعًا لا يخاف في الله لومة لائم، غيورًا على
دينه، صلبًا كالحديد في وجه أعداء الله، ففي سنة سبع وثمانين ومائة (187هـ) نقض ملك الروم الهدنة التي كانت بين المسلمين وبين الملكة (ذيني) ملكة الروم، فكتب للرشيد كتابًا يقول فيه: (أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ
(طائر ضخم خيالي) وأقامت نفسها مقام البيدق (الطائر الصغير) فحملت إليك من أموالها أحمالاً لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيني وبينك).
فلما قرأ الرشيد رسالته كتب إليه: (قد قرأت كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع) وسار إليه بجيش كبير حتى فتح مدينة (هرقل) وانتصر عليه انتصارًا عظيمًا، وفي عهده لم يبق في الأسر مسلم، وظل طيلة حياته يحب الجهاد والفتوحات الإسلامية، فغزا الروم، وفتح هرقلة، وبلغ جيشه أنقره، وسار الرشيد نحو خراسان ليغزوها، فوصل (طوس) فمرض بها ومات في ثالث جمادى الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة (193هـ).
مات هارون الرشيد، وود العلماء لو يفتدوه بأنفسهم، يقول الفضيل بن عياض: (ما من نفس تموت أشد على من موت أمير المؤمنين هارون الرشيد، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره) ويحكي أنه لما احتضر قال: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة.. يا من لا يموت ارحم من يموت.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:43 PM

5 - المعتصم بالله
بلغه أن ملك الروم الظالم خرج وأغار على بلاد الإسلام، وأن امرأة مسلمة صاحت وهي في أيدي جند الروم: (وامعتصماه!!) فأجابها على الفور وهو جالس على سرير ملكه (لبيك لبيك!!) وجهز جيشًا عظيمًا ليثأر لكرامة امرأة مسلمة أهانها

أعداء الله!!
هو الخليفة أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي عرف بالمعتصم بالله، ولد
سنة 180هـ، وكان يقال له المثمن؛ لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس ولأنه استمر في ملكه ثماني سنين وفتح ثمانية فتوح، وأسر ثمانية ملوك.
كان المعتصم شجاعًا، كتب إليه ملك الروم يهدده، فأمر أن يقرءوا له رسالته، فلما قرأها أمر برميها، وقال للكاتب اكتب: (أما بعد.. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) وكانت له فتوحات وغزوات كثيرة في سبيل الله، قيل: إنه لما أراد غزو (عمورية) زعم المنجمون أنه لن ينتصر، وطلبوا منه ألا يخرج، ولكنه خرج وانتصر بإرادة الله.
وكان المعتصم كريم الخلق، متواضعًا، يحكي عنه أنه خرج مع أصحابه في يوم
ممطر، وتفرق عنه أصحابه، فبينما هو يسير إذ رأي شيخًا معه حمار عليه حمل
شوك، وقد وقع الحمار وسقط الحمل، والشيخ قائم ينتظر من يمر به فيساعده، فنزل المعتصم عن دابته، وخلص الحمار عن الوحل، ورفع عليه حمله وانتظر أصحابه حتى جاءوا، وأمرهم أن يسيروا مع الشيخ ليعينوه.
كما كان المعتصم سخيًّا، فلقد روى أحمد بن أبي داود: تصدق المعتصم على
يدي، ووهب ما قيمته ألف ألف درهم، وفي عهده كثر العمران، وبنيت القصور وارتفع البنيان، وقد مرض المعتصم فأخذ يقول: ذهبت الحيلة، فليس حيلة، ولقي ربه في سنة 227هـ بعد حياة حافلة بالأعمال النافعة للمسلمين.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:43 PM

6 - صلاح الدين الأيوبي

يا صلاح الدين.. أيها القائد العظيم.. لقد بعثك الله إلينا لتخَلِّص المسلمين من الذل والهوان.. لتعيد إليهم عِزَّتهم وكرامتهم المسلوبة.. ولتعلِّمهم أن النصر لا يتم إلا بالإيمان بالله ورسوله، وأَنَّ راياتِ الإسلام لن تُرفَع ماداموا متفرقين غير معتصمين بحبل الله.
في سنة 492هـ استولى الصليبيون على بيت المقدس، فقتلوا الأطفال واغتصبوا النساء ومثلوا بالشيوخ، وهدموا المساجد، وأحرقوا البيوت، وذبحوا الآلاف من شباب المسلمين الأبرياء، واقتحموا المسجد الأقصى، وقتلوا كل من احتمى به من
المسلمين، فقتلوا أكثر من سبعين ألفًا من أئمة المسلمين وعلمائهم وعُبَّادهم وزهادهم ممن فارقوا الأوطان، وجاوروا ذلك الموضع الشريف، ليحتموا به ظنًّا منهم أن الصليبيين لن يقتحموا الأماكن المقدسة.
وبعد هذه المذبحة الوحشية التي حدثت في المسجد الأقصى، أمروا الأسرى فغسلوا شوارع المدينة الملطخة بدماء المسلمين، ودموعهم تنهمر من أعينهم، وظل المسلمون ينتظرون مجاهدًا من مجاهدي الإسلام ينقذ بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وبعد حوالي 40 سنة من الزمان، وفي سنة 532هـ ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب من أسرة كردية عريقة الأصل، في بلدة صغيرة من بلاد العراق تسمى (تكريت) وتولِّى والده ولاية (تكريت) في نفس الليلة التي وُلِد فيها صلاح الدين؛ لإخلاصه لـ(عماد الدين زنكي) أتابك الموصل.
رحلت أسرة صلاح الدين إلى الموصل، واستقرت بها، وفيها نشأ صلاح الدين ينعم بخيراتها، ولما وصل إلى سن البلوغ، أرسله والده إلى مدرسة المدينة، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وكان صلاح الدين معروفًا بين زملائه بالذكاء الشديد، وهدوء الطبع، وحبه الشديد للمطالعة ودراسة الكتب، ولم يَنْسَ أبوه أن يعلمه الفروسية، ويدربه على استعمال أدوات الحرب، وفنون القتال، فأظهر فيها مهارة حربية كبيرة، أدهشت والده وزملاءه.
كان صلاح الدين يقرأ ويستمع إلى سِيَرِ قادة الحروب من المسلمين الذين يجاهدون في سبيل الله، ويتمني أن يكون واحدًا منهم لينقذ المسلمين من بطش
الصليبيين، استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه؛ عندما صحب عمه (أسد الدين شيركوه) على رأس حملة أرسلها (نور الدين محمود) وهو ابن عماد الدين زنكي إلى مصر لحمايتها من أطماع الصليبيين، وأظهر صلاح الدين من الشجاعة والثبات والبأس ما أدهش القادة، وتمَّ النصر لجيش عمه (شيركوه) الذي عينه الخليفة الفاطمي (العاضد) وزيرًا له، وأقام صلاح الدين مع عمه في القاهرة.
وشاءت الأقدار أن يموت (شيركوه) في مارس سنة 1169م، فاختار الخليفة الفاطمي صلاح الدين وزيرًا له بدلاً من عمه وهو في الحادية والثلاثين من عمره، فنشر صلاح الدين العدل بين الناس، وتقرَّب إلى الشعب المصري، يعطف على المساكين، ويساعد الفقراء، حتى أحبوه وأعجبوا بشخصيته.
ولما مات الخليفة الفاطمي تولى صلاح الدين حكم مصر، وثبت ملكه؛ فقضى على عناصر الخيانة فيها، وتخلص من القوى التي هددت سلطانه، ونجح في إزالة الخلاف المذهبي بين المسلمين عن طريق القضاء على الخلافة الفاطمية الشيعية ونشر المذهب السني، ورأى صلاح الدين أن الفرصة قد جاءته ليحقق ما كان يتمناه من إنقاذ المسلمين ورد اعتبارهم، وطرد الصليبيين من بيت المقدس، فأعد جيشًا قويًّا، كامل الأسلحة، كثير العدد، ثم قاد الجيش بنفسه، وسار إلى البلاد الخاضعة للصليبيين وأخذ يحررها واحدة بعد أخرى حتى وصل إلى بيت المقدس، فضرب حوله الحصار؛ مما اضطر الصليبيين إلى تسليم المدينة له.
ودخل جيش صلاح الدين بيت المقدس سنة (583هـ- 1188م) تقريبًا، ظافرًا منتصرًا، رافعًا رايات النصر والتوحيد، مكبرًا.. الله أكبر.. الله أكبر، لم يقتل طفلاً أو امرأة أو شيخًا كبيرًا، بل عاملهم بالرحمة والشفقة، وأطلق صلاح الدين سراح الشيوخ والضعفاء، ولم تنهب جيوشه بيتًا من البيوت أو تخرب زرعًا أو تقطع
شجرًا، وحينما جمعت غنائم الحرب وقسمت بين الجنود والقادة، تنازل صلاح الدين عن نصيبه للفقراء من المسيحيين، وجعل الأسرى الذي كانوا من حظِّه أحرارًا.
وبينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس قابله شيخ مسيحي كبير السن، يعلق صليبًا ذهبيًّا في رقبته وقال له: أيها القائد العظيم لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس، فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ.. يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة
بالضعفاء، ويحرم على قتل الأطفال والشيوخ والنساء، فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم..إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء
بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب.. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحق، ثم سأل: وماذا يفعل من يريد الدخول في دينكم؟ فأجابه صلاح الدين: يؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه، وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.
وذات يوم كان صلاح الدين يتفقد أحوال جنده؛ فرأى امرأة من الصليبيين تبكي وتضرب على صدرها، فسألها عن قصتها، فقالت: دخل المسلمون في خيمتي وأخذوا ابنتي الصغيرة فنصحني الناس بأن أذهب إليك، وقالوا: إن السلطان صلاح الدين رجل رحيم، فدمعت عينا صلاح الدين، وأمر أحد الجنود أن يبحث عن الصغيرة وعمن اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، ففرحت الأم فرحًا شديدًا وشكرت صلاح الدين على مروءته وحسن صنيعه.
ولما علمت أوربا بانتصار القائد صلاح الدين ودخوله بيت المقدس جهزوا جيشًا كبيرًا من الفرسان البواسل والقادة الشجعان؛ لاسترداد بيت المقدس من يد
صلاح الدين، ووصلت الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام تحت قيادة (ريتشارد قلب الأسد) الذي حاصر عكا ودخلها وغدر بأهلها بعد أن أمنهم، لكنه لم يستطع دخول بيت المقدس، وتحرك ريتشارد في نهاية أكتوبر عام 1191م من (يافا) قاصدًا بيت المقدس، ولكن صلاح الدين حصنها بنفسه، فتراجع ريتشارد وارتفعت الروح المعنوية لدى المسلمين، وتمَّ عقد صلح الرملة بين المسلمين والصليبيين، وكان من شروط الصلح وقف القتال بينهما لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ورجع ريتشارد إلى بلاده يجر أذيال الخيبة.
وبعد أن أتمَّ الله النصر للمسلمين، وخلص بيت المقدس من الصليبيين عاد صلاح الدين إلى مصر بعد أن طال غيابه عنها؛ فبنى المساجد والمدارس، وبنى قلعة فوق هضبة جبل المقطم، وبنى حول القاهرة سورًا عظيمًا من الحجر يحميها من مكائد الأعداء، ثم توجه صلاح الدين يتفقد القلاع والمواقع البحرية، وبعدها توجه إلى دمشق، مارًّا ببيت المقدس، وفي دمشق مرض صلاح الدين واشتد المرض عليه
ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 589هـ، وبات في غيبوية طويلة لم يفق منها إلا نادرًا، فاستحضر أحد المقرئين ليقرأ عنده القرآن حتى وصل القارئ إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت.. تبسم وجه صلاح الدين، وتهلل وانتقلت روحه إلى رضوان الله، ودفن صلاح الدين في قلعة دمشق إلى أن شيدت له قبة ضريح في شمال (الكلاسة) شمالي جامع دمشق قرب المدرسة العزيزية التي بناها العزيز
عثمان بن صلاح الدين؛ فنقل إليها.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:44 PM

7 - سيف الدين قطز
ازداد خطر التتار، وأصبحت مصر مهددة بغزوهم بعد أن نزل (هولاكو) قائد التتار بجيوشه إلى بغداد في سنة 656هـ، فقتل مئات الألوف من أهلها، ونهبوا
خزائنها، وقضوا على الخلافة العباسية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد
أسرته، وكبار رجال دولته.
امتد زحفهم إلى بلاد الجزيرة، واستولوا على (حرَّان) و(الرُّها) و(ديار بكر) ونزلوا على (حلب) في سنة 658هـ، فاستولوا عليها، ووصلوا إلى دمشق، فهرب سلطانها (الناصر يوسف بن أيوب) ثم دخلوا المدينة بعد أن استسلم أهلها، وواصل التتار زحفهم، فوصلوا إلى (نابلس) ثم إلى (الكرك) وبيت المقدس، وتقدموا إلى (غزة) دون أن يقاومهم أحد، ولم يبْقَ غير اليمن والحجاز ومصر، التي كان يتولى عرشها في ذلك الوقت المنصور على بن عز الدين أيبك، وكان صغيرًا لم يتجاوز عمره خمس عشرة سنة، ولم يكن قادرًا على تحمل أعباء الملك في هذه الظروف العصيبة؛ لذلك طلب علماء الإسلام من قطز أن يتولى العرش مكانه؛ لإنقاذ مصر والبلاد الإسلامية من خطر التتار.
ووصلت رسالة إلى قطز من زعيم التتار (هولاكو) وكانت الرسالة مليئة بالتخويف والتهديد، ومن بين ما جاء فيها: (... فلكم بجميع البلاد معتبر وعن عزمنا
مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء
فتندموا، ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى ولا نرق لمن شكا، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم
بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق ينجيكم، وأي بلاد تحميكم؟!).
جمع قطز الأمراء بعد أن استمع إلى الرسالة، واتفق معهم على قتل رسل هولاكو فقبض عليهم واعتقلهم وأمر بإعدامهم، ثم علق رءوسهم على (باب زويلة) كان هذا التصرف من جانب قطز يعني إعلانه الحرب على التتار، فجمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم وأخذ رأيهم في الجهاد، وفي دار السلطنة بقلعة الجبل حضر العالم الكبير الشيخ (عز الدين بن عبد السلام)، والقاضي (بدر الدين السنجاري) قاضي الديار المصرية، واتفق الجميع على التصدي للتتار والموت في سبيل الله.
خرج قطز يوم الاثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658هـ بجميع عسكر
مصر، ومن انضم إليهم من عساكر الشام والعرب والتركمان .. وغيرهم من قلعة الجبل، فنادى في القاهرة وكل أقاليم مصر، يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله والتصدي لأعداء الإسلام، وجمع الأمراء، وطلب منهم أن يساعدوه في قتال
التتار، لكنهم امتنعوا عن الرحيل معه، فقال لهم: (يا أمراء المسلمين.. لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين).
وقبل المسير جمع (قطز) قادته، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار من الخراب والتدمير وسفك الدماء، وطلب منهم وهو يجهش بالبكاء أن يبذلوا أرواحهم وأنفسهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين، ولم يتمالك القادة أنفسهم فأخذوا يبكون لبكائه، ووعدوه أن يضحوا بكل شيء لنصرة الإسلام.
وخرج قطز لملاقاة التتار خارج مصر، ولم يقف موقف المدافع، وذلك لإيمانه بأن الهجوم خير وسيلة للدفاع، وحتى يرفع معنويات رجاله، ويثبت لأعدائه أنه لا يخافهم ولا يرهبهم، وتحرك قطز من مصر في شهر رمضان سنة 658هـ، ووصل مدينة (غزة) وكانت فيها بعض جموع التتار بقيادة (بيدرا) الذي فوجئ بهجوم أحد كتائب المماليك بقيادة بيبرس أحد قواد قطز الشجعان، لتتحقق بشائر النصر، ويستعيد قطز (غزة) من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم اتجه شمالا نحو سهل البقاع بلبنان حيث التتار بقيادة (كَتُبْغَا) الذي فشل في إنقاذ التتار الذين هزمهم المسلمون في غزة.
وكان قطز رجلا عسكريًّا من الدرجة الأولى، فهو يعد لكل شيء عدته، فقد أرسل حملة استطلاعية استكشافية تحت قيادة الأمير (ركن الدين بيبرس) وكان قائدًا ذا خبرة واسعة بالحروب، لكي تجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التتار، عن قوتهم وعددهم وسلاحهم، وبعد أن انتهى (بيبرس) من استطلاع الأخبار اشتبك مع التتار في مكان يسمى (عين جالوت) وظل القتال مستمرًّا حتى وصل قطز مع قواته إلى ميدان المعركة الفاصلة.
وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من سنة 658هـ، دارت معركة حاسمة بين الطرفين، واقتحم قطز صفوف القتال، وتقدم جنوده وهو يصيح:
(وا إسلاماه.. وا إسلاماه) يضرب بسيفه رءوس الأعداء، ويشجع
أصحابه، ويطالبهم بالشهادة في سبيل الله، واشتدت المعركة، فأخذ قطز يصرخ أمام جيشه: (وا إسلاماه.. وا إسلاماه.. يا الله.. انصر عبدك قطز على التتار) وقتل فرس قطز، وكاد يتعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه، فسارع قطز إلى قيادة رجاله، ودخل دون خوف في صفوف الأعداء حتى ارتبكت
صفوفهم، ولجأ القائد العظيم إلى حيلة ذكية؛ فقد أخفى بعض قواته من المماليك بين التلال؛ حتى إذا زادت شدة المعركة، ظهر المماليك من كمائنهم، وهاجموا التتار بقوة وعنف.
وكانت هناك مزرعة بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها مجموعة من جنود
التتار، فأمر (قطز) جنوده أن يشعلوا النار في تلك المزرعة، فاحترق من فيها من التتار، وبدأ المسلمون يطاردون التتار، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالفرح والسرور، ولم تمضِ أسابيع قليلة، حتى طهرت بلاد الشام من التتار، فخرج من دمشق عائدًا إلى مصر، وفي طريق عودته انقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه حسدًا منهم وحقدًا على ما أكرمه الله به من نصر، وذلك يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة سنة 658هـ، ودفن في المكان الذي قتل
فيه، وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:44 PM

8 - عقبه بن نافع

كان والده من المسلمين الأوائل الذين جاهدوا في سبيل الله، فلم يكن غريبًا أن يشب (عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري) وحب الجهاد يجري في عروقه، وتمنى أن يكون أحد أبطال مكة وفرسانها، تعلم المبارزة، وتدرب مع الشباب المسلم على حمل السلاح، وازداد عقبة حبًّا واشتياقًا للجهاد من سماعه لقصص البطولة التي قام بها المسلمون أثناء حروبهم ضد أعداء الإسلام، حكاها له ابن خالته (عمرو بن العاص).
ولما بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال، منتظرًا اللحظة المواتية ليدافع عن دين الله، وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة العادل (عمر بن الخطاب) فتح بعض بلاد الشام إلى عمرو بن العاص، وجعل عمرو (عقبة بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين، وكان عقبة عند حسن ظن عمرو بن العاص، فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف الأعداء، ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل الله.
وفي أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا، واستطاع بمهارته الحربية أن يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم، وكان كل يوم يمر على عقبة يزداد حبًّا للجهاد في سبيل الله، وشغفًا بنشر دين الإسلام في كل بقاع الأرض؛ حتى ينعم الناس بالأمن والعدل والرخاء، وظل عقبة بن نافع جنديًّا في صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود، على الرغم من براعته في القتال وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه، إلى أن كلفه عمرو بن العاص ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان (مجموعة الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) .
وانطلق عقبة إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه، وعندما وصل عقبة إليها دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى فرَّ البربر من أمامه ورفعوا راية الاستسلام، وأراد عمرو بن العاص فتح إفريقية كلها، لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود، فبعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في فتحها، لكن الخليفة عمر -رضي الله عنه- كان من رأيه الانتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت إمارتهم ويزداد جيش المسلمين ويقوى عدةً وعتادًا.
انتقل عقبة -رضي الله عنه- إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛ لِيُعَلِّمَ المسلمين فيها أمور دينهم، وينشر الإسلام في هذه المنطقة، ومكث -رضي الله عنه- مخلصًا في نشر نور الإسلام، وتدعيم شعائره في نفوس الذين أقبلوا على تعلم لغة القرآن .. فأسلم على يديه كثير منهم، وأحبوه حتى استطاع عقبة أن يكتسب خبرة واسعة بكل أحوال البربر.
وتمر الأيام والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (40هـ) وهي السنة التي تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان قد بدأها في برقة رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفة بحياة البربر وعاداتهم وتقاليدهم.
وبدأ عقبة الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية وأن جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكان يبلغ عدده عشرة آلاف جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا
فحسن إسلامهم.
انطلق عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلاد، ويقاتل القبائل التي ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان يعاملهم معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن يستولي على منطقة (ودان) وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على الجيش أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة، ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا.
وهنا تظهر عبقرية عقبة الحربية، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب، تراجع بجيشه مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حيله الحربية، فقد علم أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجيء بأن هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير.
فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى؛ أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماء عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير منهم الإسلام.
وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلاً، ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة يعسكر فيها المسلمون، فاختار مكانًا كثيف الأشجار يسمي (قمونية)
جيد التربة، نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لأصحابه: انزلوا بسم الله.
وانشغل عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح الإسلامي، وطلب (مسلمة بن مخلد الأنصاري) وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار) وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد الخليفة يزيد بن معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب (وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم والبربر، والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم النصر بإذن الله تعالى، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال، حيث خرج ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق على كل مطالبهم.
وظل عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء وقال:
يا رب .. لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك..
وظن القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام وأنهم ليس لديهم استعداد للحرب مرة أخرى، فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية، ولما علم بعض أعداء الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس (سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم (عقبة بن نافع) فرحمه الله رحمة واسعة، جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.
وكان استشهاد عقبة في مدينة تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يستشهد بعد أن حمل راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:45 PM

9 - طارق بن زياد
يا خيول (طارق) جاوزي الموانع والسدود، وتخطي البحار والأنهار، لا تتراجعي ولا تترددي، ستصمت أصوات الأجراس، وترتفع أصوات المآذن، ليذكر اسم الله في أرض كان يسودها الظلم والطغيان، وتسود مبادئ العدل والحق والحرية، فانطلقي على بركة الله !!
ولد (طارق بن زياد) وفتح عينيه على الحياة ليجد المسلمين يجاهدون في سبيل
الله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم لنصرة دينه، وينتقلون من نصر إلى نصر، وأصبح الطفل الصغير شابًّا فتيًّا، فوهب نفسه لخدمة الإسلام، ولم يتردد لحظة في القيام بأي عمل من شأنه أن يرفع رايته، وتدرج في المناصب حتى أصبح أميرًا لمدينة (طنجة) وقائدًا لجيوش المسلمين، وعامة جنوده كانوا من البربر الذين تميزوا بالشجاعة والإقدام.
كان (طارق بن زياد) يحلم بذلك اليوم الذي ينتشر فيه الإسلام في كل أرجاء الدنيا، ويتمنى بينه وبين نفسه أن يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم، وجاءت الفرصة، فقد علم (موسى بن نصير) والي إفريقية بضعف الأندلس وملوكها، فأرسل إلى الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) يستأذنه في فتحها، فأذن له الخليفة بشرط ألا يعرض المسلمين للهلاك دون فائدة، وأن يحترس من أعدائه، فرح (موسى بن نصير) فرحًا شديدًا وجهز الجيش، ولم يجد خيرًا من (طارق بن زياد) لقيادته.
وبمجرد أن تولى طارق بن زياد أمور القيادة أرسل بعض الجواسيس لمعرفة أخبار هذه البلاد، فعادوا ليخبروه بضعفها وتنازع أمرائها على السلطة، وأعد (طارق) الخطة لفتح الأندلس) وبعد أن اطمأن على الإعداد الجيد لجيشه، عبر بجنوده البحر حتى وصلوا إلى الشاطئ، وانطلق طارق كالحصان الجامح يفتح هذه البلاد، يساعده في ذلك بعض الثائرين على الملك (ردريك) ملك القوط، ولما علم هذا الملك بنزول العرب المسلمين إلى الأندلس -وكان مشغولاً بثورة قامت ضده- جمع أعدادًا هائلة من الجنود استعدادًا لملاقاة المسلمين.
ولما رأى طارق هذه الأعداد الكبيرة، طلب الإمداد من موسى بن نصير والي إفريقية فأرسل إليه اثني عشر ألفًا من الجنود، والتقي الجيشان؛ جيش طارق بن زياد، وجيش ردريك في معركة حامية عرفت باسم (وادي البرباط) أو معركة (شذونة) استطاع طارق أن ينتصر عليهم، ويقتل ملكهم ردريك بعد أن استمرت المعركة من 28 رمضان إلى 5 شوال سنة 92هـ.
وسعد المسلمون بهذا النصر العظيم، وتوافدوا إلى بلاد الأندلس التي سمعوا عن اعتدال جوها، وخيراتها التي لا تعد ولا تحصى، ولم يكتف القائد العظيم طارق بن زياد بهذا الانتصار العظيم،بل واصل فتوحاته حتى استطاع في صيف هذه السنة (92هـ) أن يفتح أكثر من نصف الأندلس.
وتلقى طارق أوامر من موسى بن نصير بالتوقف عن الفتح خشية محاصرة جيوش الأعداء لهم، وقطع الإمداد عنهم، وحتى لا يكونوا صيدًا سهلاً في أيديهم، وبعدها جهز (موسى بن نصير) جيشًا كبيرًا عبر به إلى الأندلس؛ ففتح مدينة (إشبيلية) التي كانت خلف ظهر المسلمين، والتقى بقائد جيشه (طارق بن زياد) عند مدينة (طليطلة) وانطلق الاثنان لفتح باقي مدن الأندلس.
وظل جيش المسلمين يحقق الانتصارات وينتقل من فتح إلى فتح، حتى وصلت رسالة إلى القائدين موسى، وطارق من خليفة المسلمين (الوليد بن عبد الملك) تأمرهما بالعودة إلى دمشق، خوفًا من انتشار جيش المسلمين في مناطق مجهولة وغير آمنة، وصل القائدان المنتصران إلى دمشق قبل وفاة (الوليد بن عبد الملك) بأربعين يومًا في موكب مهيب، أمامهما الأسرى والغنائم، والجنود يرفعون شارات النصر، وظل طارق على العهد مخلصًا لدين الله حتى لقي ربه بعد أن كتب اسمه في صفحات التاريخ بحروف من نور.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:45 PM

10 - موسى بن نصير
(وايم الله لا أريد هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها، ويذل
أمنعها، ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين).. ما أروع كلامك أيها القائد العظيم.
في خلافة (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- ولد (موسى بن نصير) سنة 19هـ/640م في قرية من قرى الخليل في شمال فلسطين تسمي (كفر مترى) فتعلم الكتابة، وحفظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، ونظم الشعر، ولما كان والده (نصير) قائدًا لحرس معاوية بن أبي سفيان ومن كبار معاونيه؛ تهيأت الفرصة لـ(موسى) لأن يكون قريبًا من كبار قادة الفتح، وأصحاب الرأي والسياسة، ويرى عن قرب ما يحدث في دار الخلافة .
وشب موسى وهو يشاهد جيوش المسلمين تجاهد في سبيل الله، لنشر الدين الإسلامي في ربوع الأرض، ورأى والده وهو يستعد لإحدى الحروب، وقد لبس خوذته، وتقلد سيفه، فنظر إليه وأطال النظر، وتمنى أن يكون مثل أبيه يجاهد في سبيل الله ويرفع راية الإسلام، وجاءت اللحظة الموعودة لينال موسى قيادة بعض الحملات البحرية التي وجهها معاوية لإعادة غزو (قبرص) التي سبق أن فتحها معاوية في سنة 27هـ؛ فنجح في غزوها، وبنى هناك حصونًا، ثم تولى إمارتها، وفي سنة 53هـ (673م)، كان موسى أحد القادة الذين خرجوا لغزو جزيرة (رودس) التي انتصر المسلمون فيها.
وتمر الأيام والسنون ويتولى مروان بن الحكم الخلافة، ويتحين موسى بن نصير الفرصة ليحقق أحلامه وطموحاته، ففي سنة 65هـ/ 684م أمر مروان بتجهيز الجيش للسير به نحو مصر، وزحف الجند مسرعين بقيادة ابنه (عبد العزيز) وصديقه (موسى بن نصير) ووصل الجيش إلى مصر، واستطاع مروان أن يضمها تحت لواء المروانيين الأمويين، ثم غادرها إلى دمشق بعد أن عين ابنه (عبد العزيز) واليًا، وجعل موسى بن نصير وزيرًا له.
وعاش موسى مع عبد العزيز بن مروان في مصر، فكان موضع سره، ووزيره الأول، يساعده في حكم مصر، حتى ازدادت خبرة موسى في شئون السياسة والحكم، ومات مروان، وتولى الخلافة بدلاً منه ابنه (عبد الملك) وكان عبد العزيز بن مروان يشيد بشجاعة موسى وإخلاصه أمام الخليفة مما جعله يخص موسى بالحفاوة والتكريم.
وفي يوم من الأيام حمل البريد رسالة من الخليفة إلى أخيـه عبد العزيز والي مصر يخبره فيها بأنه قد عين أخاه بشر بن مروان واليًا على البصرة، وجعل موسى بن نصير وزيرًا يساعده على إدارة الولاية ورئيسًا لديوان العراق، ومكن الله لموسى، وثبت أركان وزارته، فلم يمضِ وقت طويل، حتى عين الخليفة أخاه بشرًا على الكوفة، وبذلك ترك لموسى بن نصير ولاية البصرة ليدير شئونها وحده بوعي وبصيرة، ثم عَيَّنَه صديقه عبد العزيز بن مروان واليًا على شمال إفريقية بدلاً من
حسان بن النعمان الذي غضب عليه عبد العزيز.
وتمكن موسى في زمن قصير من تجهيز جيش إسلامي قوي قادر على النصر، وسار برجاله، ووقف بينهم خطيبًا، فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه: إنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضَّ على مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها، فإني أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون.. ثم انطلق موسى بجيشه نحو المغرب حيث تزعزع الأمن هناك برحيل الأمير السابق حسان بن النعمان وقيام البربر بالعديد من الغارات على المسلمين.
واستطاع موسى أن يهزم قبائل البربر التي خرجت عن طاعة المسلمين، ولما وصل إلى مدينة القيروان، صلى بالجند صلاة شكر لله على النصر، ثم صعد المنبر وخطب قائلاً: (وايم الله لا أريد هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها، ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) وانتشرت جيوش (موسى بن نصير) في شرق المغرب وشماله تفتح كل ما يصادفها من الحصون المنيعة، حتى أخضع القبائل التي لم تكن قد خضعت بعد للمسلمين.
وتطلع موسى إلى فتح (طنجة) التي كانت تحت سيادة الأمير الرومي (يوليان) فانطلق من قاعدته في القيروان بجيش كبير تحت قيادة طارق بن زياد حتى وصل إلى (طنجة) فحاصرها حصارًا طويلا وشديدًا حتى فتحها، وأقام للمسلمين مُدنًا جديدة فيها، وأسلم أهلها، وبعث موسى لصديقه عبد العزيز يبشره بالفتح، وأن خُمس الغنائم قد بلغ ثلاثين ألفًا، وجاءت الرسل إلى الخليفة في دمشق تزفُّ إليه خبر النصر، ففرح فرحًا شديدًا لانتصارات موسى، وكافأه على انتصاراته، ولم يكتفِ موسى بهذه الانتصارات، بل أخذ يجهز أسطولا بحريًّا، وأمر في الحال ببناء ترسانة بحرية في تونس، فجاء بصانعي المراكب، وأمرهم بإقامة مائة مركب.
وبعد أن تمَّ له إنشاء السفن أمر جنوده بأن يركبوا السفن وعلى رأسهم ابنه عبد الله، ثم أمره بفتح جزيرة (صقلية) وسار عبد الله بن موسى بجند الحق حتى وصل إلى الجزيرة فدخلها، وأخذ منها غنائم كثيرة، حتى وصل نصيب الجندي مائة دينار من الذهب، وكان عدد الجنود المسلمين ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم عـاد عبد الله بن موسى من غزواته سالمًا غانمًا، وبعث موسى قائده (عياش بن أخيل) على مراكب أهل إفريقية، ففتح جزيرة صقلية للمرة الثانية، واستولى على مدينة من مدنها تسمي (سرقوسة) وعاد منتصرًا.
وفي سنة 89هـ بعث موسى بن نصير (عبد الله بن فرة) لغزو (سردينيا) ففتحها، وفي العام نفسه، جهز موسى ولده عبد الله، بما يحتاجه من جند وعتاد، ثم سار في البحر، ففتح جزيرتي (ميورقة) و(منورقة) وهما جزيرتان في البحر بين صقلية والشاطئ الأندلسي.
وبدأ موسى بن نصير ينشر دين الله في المدن المفتوحة، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، وحكم بين أهل هذه البلاد بالعدل، لا يفرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، فأحبوا الإسلام، واستجابوا لدعوة الحق، ودخلوا في دين الله أفواجًا، وتحولوا من الشرك والكفر إلى الإسلام والتوحيد بفضل الله أولا، ثم بجهود موسى وبطولاته.
ولما ضمن موسى ولاء أهل المغرب واستمساكهم بدعوة الإسلام، أخذ يعد العدة لغزو جديد، وبينما هو يفكر في هذا الأمر إذ جاءه رسول من قبل طارق بن زياد يخبره بأن يوليان حاكم (سبته) عرض عليه أن يتقدم لغزو أسبانيا، وأنه على استعداد لمعاونة العرب في ذلك، وتقديم السفن اللازمة لنقل الجنود المسلمين، وبعث موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستشيره، فردَّ عليه الخليفة بقوله: (خضها أولاً بالسرايا يعني بقلة من الجنود حتى ترى وتختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال).
فأرسل موسى رجلاً من البربر يسمى (طريف بن مالك) في مائة فارس وأربعمائة رجل، وركب هو وجنوده البحر في أربعة مراكب حتى نزل ساحل الأندلس فأصاب سبيًا كثيرًا ومالاً وفيرًا، ثم رجع إلى المغرب غانمًا سالمًا، وفي شهر رجب من عام 92هـ جهز موسى جيشًا خليطًا من العرب والبربر تعداده سبعة آلاف جندي بقيادة طارق بن زياد، وانطلق طارق بالجيش إلى أن وصل سبتة، وهناك خطط لعبور المضيق، وفي اليوم الخامس من شهر رجب سنة 92هـ (إبريل 710م) وبفضل الله كانت آخر دفعة من الجنود بقيادة طارق تعبر المضيق الذي حمل اسم طارق بن زياد منذ ذلك الوقت.
ونزل طارق -قائد جيش موسى بن نصير- أرض الأندلس، وبعد عدة معارك فتح الجزيرة الخضراء، وعلم الإمبراطور (لذريق) بنزول المسلمين في أسبانيا من (بتشو) حاكم إحدى المقاطعات الجنوبية الذي بعث إليه يقول: أيها الملك، إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء أم من الأرض، فالنجدة ..النجدة، والعودة على عجل.
وزحف لذريق بجيش كبير ليوقف المسلمين عن الزحف، فأرسل طارق إلى موسى مستنجدًا، فأمده بخمسة آلاف من المسلمين على رأسهم طريف بن مالك وأكثرهم من الفرسان فأصبح تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا، وكان اللقاء الحاسم بين جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد، وجيش الإمبراطور لذريق يوم الأحد 28 من شهر رمضان المبارك عام 92هـ، واستمرت المعركة حوالي سبعة أيام، انتهت بانتصار المسلمين بفضل الله في معركة عرفت باسم معركة (شذونة) أو معركة (وادي البرباط).
واصل طارق بن زياد فتوحاته في الأندلس، وخشي موسى بن نصير من توغله في أراضيها، فعبر إليه على رأس حملة كبيرة وأخذ القائدان يتمَّان فتح ما بقي من مدن الأندلس، وظل موسى يجاهد في سبيل الله حتى أصبحت الأندلس في قبضة المسلمين، وبعد أن انتهي موسى من فتوحاته ألحَّ عليه (مغيث الرومي) رسول الخليفة بالعودة إلى دار الخلافة في دمشق، فاستجاب له موسى، وبدأ يستعد لمغادرة الأندلس، وواصل موسى السير، حتى وصل إلى دمشق فاستقبله الوليد وأحسن استقباله، وتحامل على نفسه -وهو مريض- وجلس على المنبر لمشاهدة الغنائم وموكب الأسرى، فدهش الخليفة مما رأى وسجد لله شكرًا، ثم دعا موسى بن نصير وصبَّ عليه من العطر ثلاث مرات، وأنعم عليه بالجوائز.
ولم يمضِ أربعون يومًا على ذلك حتى مات الوليد بن عبد الملك، وتولى الخلافة أخوه سليمان بن عبد الملك ومن يومها بدأت متاعب موسى بن نصير، فقد أراد سليمان أن يعاقب موسى بن نصير لخلاف بينهما فأمر به أن يظل واقفًا في حرِّ الشمس المتوهجة، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلما أصابه حر الشمس وأتعبه الوقوف سقط مغشيًّا عليه، وبعدها اندفع موسى يقول في شجاعة مخلوطة بالأسى للخليفة سليمان بن عبد الملك: (أما والله يا أمير المؤمنين ما هذا بلائي ولا قدر
جزائي).
وعاش موسى في دمشق وهو راض عما نزل به من قضاء الله، وندم سليمان على ما فعله في حق موسى، وكان يقول: ما ندمت على شيء ندمي على ما فعلته بموسى، وأراد سليمان أن يكفر عن ذنبه، فاصطحب موسى بن نصير معه إلى الحج في سنة 99هـ، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في أثناء الرحلة، وفرح شيخ المجاهدين بلقاء ربه بعدما قضى أعوامًا رفع فيها راية الجهاد.. فسلامًا عليك يا شيخ المجاهدين.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:45 PM

11 - أسد بن الفرات
ولد في (حرَّان) من ديار بكر، ولد أبو عبد الله الحراني، أسد بن الفرات سنة 144هـ/ 761م، ثم قدم القيروان وهو ابن سنتين مع أبيه الذي كان من أعيان الجند في جيش (محمد بن الأشعث الخزاعي) والي إفريقية من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور.

تلقى (أسد) دراسته الأولى بالقيروان، ثم رحل مع أبيه إلى تونس فأقام بها تسع سنين لزم خلالها الفقيه المعروف (علي بن زياد) وتعلم منه وتفقَّه عليه، ولم يكتفِ بذلك، بل أراد أن يستزيد من العلم فقرر الرحيل إلى المدينة المنورة سنة 172هـ/ 788م، لينهل من علم الإمام مالك عدة سنين تعلم فيها الكثير، وبعدها قرر الرحيل إلى العراق، فدخل على الإمام مالك مودعًا وشاكرًا، وسأله أن يوصيه، فقال له: (أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة للناس).
ورحل (أسد) إلى العراق حيث الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، فلزمه، فكان يحضر دروسه العامة، ثم أحب أن يكون له درس خاص يغرف فيه ما استطاع من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده، فأخذه الإمام محمد إلى بيته، وأعطاه غرفة كان يسهر معه فيها الليل كله، ويضع أمام التلميذ قدح ماء، فإذا نعس نضح وجهه ليصحو، فكان (أسد) أول من جمع بين مذهب الإمام مالك ومذهب أبي حنيفة، ولم يكتفِ أسد بن الفرات بذلك العلم، بل رحل إلى مصر حيث يوجد بها عالمان من تلاميذ الإمام مالك هما (أشهب بن عبد العزيز) و(ابن القاسم) وهناك جمع ما أخذه من ابن القاسم من مسائل، وأفاض عليها من ذهنه وجعلها في رسالة مدونة سُميت بـ (الأَسَدِيَّة).
ثم قدم ابن الفرات إلى (القيروان) عاصمة المغرب سنة 181هـ بعد غيبة امتدت نحو عشرين سنة صام نهارها وأحيا ليلها بالعلم والدرس فيها، ولم ينفق لحظة في راحة
ولا لعب، ولم يصحب فيها إلا الأئمة والعلماء، حتى قارب الخمسين، فجلس للتدريس والإفتاء، وكان من تلاميذه (سحنون بن سعيد) و(معمر بن منصور) و(سليمان بن عمر) ثم تقلد القضاء مع (أبي محرز) فكان أبو محرز فيه لينًا، وأما أسد فكان شديدًا في الحق، ومتمكنًا من علمي الحديث والفقه.
وكان مع توسعه في علمه فارسًا شجاعًا مقدامًا، فقد طلب أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين في الحرب ضد الروم في جزيرة صقلية فأبى الأمير خوفًا عليه، فألح أسد في طلبه وقال: (وجدتم من يسير لكم المراكب من النوتية (الملاحين) وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة).
وكان يريد أن يكون جنديًّا متطوعًا لا يريد الإمارة، فلما أعطيها تألم وقال
للأمير: أَبَعْدَ القضاء والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟! فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة فأنت قاضٍ وأمير، وكان أول من جمع له المنصبان، واجتمع الناس لوداع الجيش والأمير أسد بن الفرات، فقال
أسد للناس في وداعهم: (والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم تبلغوا به الدنيا والآخرة).
وزحف الجيش إلى جزيرة صقلية سنة 212هـ/827م، وخرج لهم صاحب صقلية في مائة ألف وخمسين ألفًا، قال رجل: رأيت أسدًا وبيده اللواء يقرأ سورة (يس) ثم حمل بالجيش حملة عنيفة على صاحب صقلية، حتى سقط أسد بن الفرات شهيدًا
سنة 213هـ/ 828م، وهو يحمل راية النصر ولم يعْرَفْ له قبر.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:46 PM

12 - يوسف بن تاشفين
في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، في أقصى بلاد المغرب العربي، التفت جماعة من الناس حول عالم فقيه يدعى (عبد الله بن ياسين) وكان هدفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر تعاليم الإسلام، أطلق عليهم الملثمون لأنهم كانوا يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، وهي عادة لهم كانوا يتوراثونها جيلاً بعد جيل، وحين قتل عبد الله بن ياسين سنة 461هـ/1068م في حرب جرت مع (برغواطة) قام مقامه أبو بكر بن عمر الذي عين ابن عمه يوسف بن تاشفين أميرًا على الملثمين، لانشغاله بقتال عبدة الأصنام في جنوب المغرب، والقضاء على فتنتهم.

وكان يوسف بن تاشفين يتمتع بصفات جعلته محبوبًا؛ فهو شهم، حازم، شجاع علاوة على قدرته على القيادة والزعامة، ومهابة الناس له، مما جعل الناس تلتف حوله، وتساعده في العمليات العسكرية، ونشر تعاليم الإسلام في المغرب الأقصى، وبناء دولة المرابطين، ولما عاد أبو بكر بن عمر بعد قضائه على الفتنة وجد يوسف بن تاشفين يتمتع بمكانة عالية بين جنده ورعيته، فتنازل له رسميًّا عن السلطة وخلع نفسه وأقام مكانه ابن عمه يوسف.
اتخذ ابن تاشفين مدينة (مراكش) التي أنشأها عاصمة لملكه سنة 465هـ لتكون نقطة الانطلاق لتوحيد وتجميع قبائل المغرب الأقصى تحت سيطرته، وبناء دولة قوية، كما أنشأ أسطولاً بحريًّا، ساعده على ضم المناطق المطلة على مضيق جبل طارق مما سهل ضم المغرب الأوسط، وأقام ابن تاشفين علاقات سياسية مع جيرانه من أمراء المغرب والمشرق، كما أحاط نفسه بمجموعة من الأتباع ينظمون أمور الدولة، فأعطى دولته طابع الملك.
وفي ذلك الوقت كانت الأندلس تعاني من التفكك تحت حكم ملوك الطوائف الذين كانوا يواجهون خطر غزوات المسيحيين، وسيطرة ملوكهم وتعسفهم في مطالبة الولاة المسلمين بما لا طاقة لهم به، وكان يوسف يفكر في حال المسلمين في بلاد الأندلس وما يفعله النصارى بهم ويتجه إلى الله تعالى مستخيرًا إياه يتلمس منه النصر، وكان إذا أجبر على الكلام قال: أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر إلا أنا.
واستنجد أمراء الأندلس بابن تاشفين لينقذهم من النصارى وكان على رأس من استنجد به (المعتمد بن عباد) أمير إشبيلية، فأعد ابن تاشفين جيشه وقبل أن يعبر البحر نحو الأندلس بسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلاً: اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا أي (اجتياز البحر) هذا خيرًا للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه.
والتقي بجيش النصارى بقيادة ألفونسو السادس في موقعة (الزلاقة)
سنة 480هـ/1087م وانتصر جيش ابن تاشفين انتصارًا هائلاً، وبعدها وحَّد المغرب والأندلس تحت قيادته الخاصة، ورأى شيوخ المرابطين ما يقوم به يوسف من أعمال عظيمة فاجتمعوا عليه وقالوا له : أنت خليفة الله في المغرب وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين، فقال لهم: حاشا لله أن أتسمى بهذا
الاسم، إنما يتسمى به الخلفاء، وأنا رجل الخليفة العباسي، والقائم بدعوته في بلاد المغرب، فقالوا له: لابد من اسم تمتاز به ، فقال لهم: يكون (أمير المسلمين).
وبعد انتهاء موقعة الزلاقة بايعه من شهدها معه من ملوك الأندلس وأمرائها أميرًا على المسلمين، وكانوا ثلاثة عشر ملكًا، واستطاع يوسف بن تاشفين أن يوقف زحف جيوش النصارى، وأن يعيد ما استولوا عليه من الأندلس، وقد امتدت دولته فشملت الأندلس والمغرب الأقصى، وازدهرت البلاد في عصره، وضرب السكة (أي العملة) ونقش ديناره: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك: أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين، وكتب في الدائرة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وكتب على الوجه الآخر من الدينار: الأمير عبد الله
أمير المؤمنين العباسي، وفي الدائرة تاريخ ضرب الدينار وموضع سكه.
وكان ابن تاشفين كثيرَ العفو، مقربًا للعلماء، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه، ولما بلغ الإمام أبا حامد الغزالي ما عليه ابن تاشفين من الأوصاف الحميدة وميله إلى أهل العلم، عزم على التوجه إليه فوصل الإسكندرية، وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه، وعندما وصله خبر وفاة
ابن تاشفين رجع عن ذلك العزم، ففي سنة 498هـ أصيب يوسف بن تاشفين بمرض أدى إلى وفاته ودفن في مدينة مراكش.
وقال عنه المستشرق يوسف أشباخ: (يوسف.. أحد أولئك الرجال الأفذاذ الذين يلوح أن القدر قد اصطفاهم لتغيير وجهة سير الحوادث في التاريخ، فقد بثَّ بما استحدث من نظم وأساليب روحًا قوية في القبائل والشعوب التي يحكمها، وقد فاضت هذه الروح إلى تحقيق العجائب).. رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:46 PM

13 - عمر المختار
اتركوه.. لا تقتلوا شيخًا كبيرًا جاوز السبعين من عمره.. أي ذنب جناه؟! لم يفعل شيئًا سوى أنه دافع عن تراب وطنه وعزة دينه!! لم يستجيبوا لنداء الرحمة.. أعدموه وسط أهله وعشيرته.. لم يتركوهم ليعبروا عن أحزانهم.. حبسوا دموعهم في عيونهم.. قتلوا البطل المجاهد.. قتلوا العزة والكرامة.. ألا ساء ما يفعلون!! وهب حياته من أجل حرية بلاده والجهاد في سبيل الله، وتمنى أن يلقى الله شهيدًا فحقق الله أمنيته.

ولد في (البطنان) ببرقة الليبية عام 1275هـ/1858م لأبوين صالحين، وشاءت إرادة الله أن ينشأ (عمر المختار) يتيمًا، فقد توفي والده أثناء سفره إلى الحج بعد أن أوصى أحد رفاقه بولديه عمر، ومحمد، وكانا يقيمان بـ (زنزور) يدرسان بزاويتها.
ذهب عمر إلى زاوية (الجغبوب) لإتمام دراسته، وظل بها ثمانية أعوام يحفظ القرآن الكريم، ويتعلم العلوم الإسلامية وخلال الدراسة ظهرت صفاته الخلقية السامية، ولما كان عمر المختار قد تأدب بآداب الإسلام، فقد أحبه شيوخ الطريقة السنوسية وزعماؤها الذين كانت لهم مقاليد الأمور في ليبيا، ونال ثقتهم، ولذلك اصطحبه السيد محمد المهدي السنوسي معه عندما انتقل إلى (الكُفْرة) وكان محل ثقته، كما عينه شيخًا لزاوية القصور بالجبل الأخضر.
واحتل الاستعمار الإيطالي ليبيا سنة 1911م، وارتكبوا الكثير من الفظائع، وعاثوا في الأرض الفساد، وبدأ نضال المجاهدين من أبناء ليبيا، ودعا الزعماء السنوسيون في بني غازي وغيرها شيوخَ الزوايا للجهاد، وأسرع عمر المختار يلبي النداء، وأظهر في كفاحه ضد المستعمر الغاصب شجاعة نادرة، ومقدرة كبيرة على القتال، فقد كان مؤمنًا بحق وطنه في الحرية والكرامة.
وتولى عمر المختار قيادة المجاهدين، وبدأ في رسم الخطط لأتباعه، وقد التزم في بداية الأمر موقف الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الجنود الإيطاليون من مواقعهم؛ انقض المجاهدون عليهم كالصقور، فقاتلوهم قتالاً شديدًا، وأخذوا منهم ما يحتاجون إليه من أسلحة، وبعد أن بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، فاجأ المجاهدون المعسكرات الإيطالية، وأشعلوا الثورة في الجهات التي يحتلها الإيطاليون.
وسافر الأمير إدريس السنوسي إلى مصر في سنة 1922 للعلاج، ولطلب المساعدة من مصر، فعين عمر المختار نائبًا عنه، نظم عمر المختار صفوف المجاهدين بعد هجمات الإيطاليين المتتالية، وأخذ مجموعة المجاهدين، وذهب بهم إلى الجبل الأخضر، وأنشأ قاعدة عسكرية، ومراكز لتدريب المتطوعين، فتوافد عليه الناس من كل ناحية؛ ليشاركوا في الجهاد ضد المستعمر.
فعين لكل قبيلة رئيسًا منها، وأجمع الرؤساء على أن يكون عمر المختار قائدًا عامًا ورئيسًا لكل المجاهدين، بعد أن أقسموا على الجهاد حتى آخر لحظة في حياتهم، حتى يخلصوا وطنهم العزيز من أنياب المستعمر، وازداد القتال شراسة بين المجاهدين والإيطاليين، وكانت معركة (الرحيبة) ومعركة (عقيره المطمورة) و(كرِسَّة) وهي أسماء أماكن في الجبل الأخضر.. من أعظم تلك المعارك التي شهدتها منطقة الجبل الأخضر، وانتهت كلها بانسحاب الإيطاليين مخذولين، مما رفع من شأن عمر المختار في نفوس المجاهدين، فالتفوا حوله، وتعاهدوا على مناصرته.
لم يركن البطل عمر المختار إلى الراحة، بل ظل يقاتل، وكيف لا يستمر في القتال وأمام عينيه صور الفظائع والانتهاكات وأصناف العذاب التي صبها الإيطاليون على شعبه، فقد قتلوا الآلاف، ومثلوا بالكثيرين، وهتكوا أعراض النساء، وألقوا في السجون أعدادًا عظيمة من الرجال والنساء، وأذلوا الشيوخ والأطفال، وحرقوا الزروع والثمار، فكان لابد من القتال حتى الموت أو النصر، وبعد أن انتشر القتال في كل أنحاء ليبيا، قرر عمر المختار الذهاب إلى مصر لمقابلة الأمير إدريس السنوسي ليتلقى منه التعليمات بشأن الجهاد.
وفي طريق عودته من مصر إلى برقة عن طريق السلوم أبلغ جواسيس الجيش الإيطالي رؤساءهم أن عمر المختار عبر الحدود الشرقية، فأعدوا له كمينًا للقبض عليه، وما إن ظهر عمر المختار ورفاقه حتى أطلق عليهم العدو مدافعهم الرشاشة، لكن المجاهدين استطاعوا التصدي لهم وانقضوا على القوة الإيطالية وأبادوها عن آخرها، ولمع اسم عمر المختار في سماء الجهاد.. عرفه الصغير والكبير كقائد بارع يتقن أساليب الكر والفر، وانضمت إليه القبائل المقيمة بالجبال، وتعاطف معه الشعب؛ فأمدوه بما يقدرون عليه من مؤن وأسلحة.
ولم يعرف المجاهد الكبير طعم الراحة، وحاول مشايخ قبيلته، ذات مرة منعه من الجهاد لكبر سنه، فقال لهم: (إن ما أسير فيه هو طريق الخير، ومن يبعدني عنه فهو عدو لي، ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عنه).. ولم تفلح مدافع الجيش الإيطالي في وقف هجمات عمر المختار ورفاقه، فحاولوا استمالته وشراءه بالمال، ووعدوه بحياة ناعمة هنيئة، لكنه رفض، وأخذ يدافع عن تراب وطنه بكل قوة وشراسة، وألحق بالإيطاليين خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، مما دفع(موسوليني) إلى تعيين المارشال (بادوليو) حاكمًا على (طرابلس وبرقة) وبمجيئه إلى ليبيا بدأت مرحلة جديدة من النضال في (برقة والجبل الأخضر).
واتصل الحاكم الجديد بعمر المختار لإنهاء الخلاف، وقبل عمر بشروط فيها الكرامة والعزة لوطنه، لكن الإيطاليين حاولوا خداعه، وتأكد غدرهم عندما قامت الطائرات الإيطالية بإلقاء قذائفها على عمر المختار ورفاقه من المجاهدين، فبدأ النضال من جديد!!
اشتبك المجاهدون مع الإيطاليين في معركة كبيرة في أكتوبر عام 1930م، وقد عثر الإيطاليون بعد انتهائها على نظارة عمر المختار، كما عثروا على جواده المشهور مقتولاً في ميدان المعركة، فقال (جرازياني) نائب المارشال بادوليو متوعدًا: لقد أخذنا اليوم نظارة عمر المختار، وغدًا نأتي برأسه، وظل عمر المختار يقاومهم وهو متسلح بالإيمان حتى وقع البطل في الأسر؛ ففرحت إيطاليا كلها فرحًا شديدًا.
ودعيت المحكمة إلى الانعقاد، ونصبت المشنقة، وجاءوا بالبطل الكبير عمر المختار مقيد اليدين بالسلاسل والقيود، وحكموا عليه بالإعدام شنقًا في محاكمة صورية لم تستغرق سوى ساعة وربع الساعة، وكان الشيخ آنذاك في السبعين من عمره، وسار المجاهد الكبير إلى حبل المشنقة بقدم ثابتة وشجاعة نادرة، لا يتوقف لسانه عن ترديد الشهادتين؛ حتى نفذ فيه حكم الإعدام، وعندما وجدوا أنه لم يمت أعادوا شنقه مرة ثانية.
واستشهد البطل بعد أن غرس الحرية والكرامة في نفوس شعبه، وحقق الله ما
نتمناه، فقد أشرقت شمس الحرية على ليبيا من جديد، ورحلت إيطاليا
عنها، وحصلت على استقلالها 1951م ولا ينسى العالم الإسلامي عامة والشعب الليبي خاصة واحدًا من أبرز مجاهديها، بعدما ضحى بكل ما يملك في سبيل نصرة الإسلام، واستقلال وطنه.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:47 PM

14 - معاويه بن ابي سفيان
عندما أصبح معاوية خليفة للمسلمين، كانت الدولة الإسلامية تقوم على شبه الجزيرة العربية، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد الجزيرة، وخراسان.
أما الجهات التى وصلت إليها الجيوش الإسلامية فيما وراء تلك البلاد فإنها كانت تفتقر إلى الاستقرار.
وكان للفتنة التى حدثت فى عهد عثمان، وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية أثرهما فى توقف حركة الفتوحات الكبرى، ومتابعة الجهاد فى سبيل حماية الإسلام، وأداء رسالته، واستكمال بناء الدولة الإسلامية.
فلابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ولابد أن تعود الفتوحات الإسلامية كما كانت، بل وأكثر مما كانت.
لقد أصبحت "دمشق" عاصمة الخلافة، ومنها تنطلق الجيوش باسم الله.
وعمل معاوية منذ توليه الخلافة على تجهيز الجيوش بشن حرب شاملة ضد "الإمبراطورية البيزنطية"، وهى "إمبراطورية الروم".
لقد كانت مركز القوة الرئيسية المعادية للدولة الإسلامية، وطالما حاولت فى لحظات الخلاف والفتنة أن تسترد الشام ومصر، أغلى أقاليم "الإمبراطورية الرومانية" قبل فتح العرب لهما.
إن أراضى آسيا الصغرى التابعة لتلك الإمبراطورية تتاخم الجهات الشمالية من بلاد الشام والعراق، وتنطلق منها الجيوش الرومية لتخريب هذين الإقليمين العربيين ! فلماذا لا يحاول معاوية القضاء على ذلك العدو اللدود؟ لماذا لا يستولى على القسطنطينية نفسها عاصمة تلك الإمبراطورية ؟
أعد معاوية الحملة الأولى، وزودها بالعَدد والعُدد، وجعل على رأسها ابنه وولى عهده يزيد، ولم يتخلف صحابة رسول الله ( عن الجهاد فى سبيل الله، فانضموا إلى هذه الحملة متمثلين أمام أعينهم، قول الرسول ( "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" [أحمد والحاكم]، آملين أن يتحقق فيهم قول الرسول (. فقد ثبت عن رسول الله (: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" [البخارى].
ولقد اشترك فى هذه الحملة أبو أيوب الأنصارى الذى نزل النبى ( فى بيته عند الهجرة. ولم يستطع المسلمون فتح المدينة هذه المرة، ولكن حسبهم أنهم أول جيش يغزو القسطنطينية.
ولقد سعد معاوية باشتراك الصحابة فى هذه الغزوة، فهم خير وبركة، فبهم تعلو راية المجاهدين. واتجهت هذه الجيوش إلى القسطنطينية حتى فتحوا بلادًا عديدة فى آسيا الصغرى وضَربوا الحصار على العاصمة الحصينة. وعزز معاوية هذه الغزوة بأسطول سار تحت قيادة فضالة بن عبيد الأنصارى، وسار هذا الأسطول إلى مياه العاصمة البيزنطية.
وأثناء الحصار، مرض "أبو أيوب الأنصارى" ولم يلبث أن توفى، ودفن جثمانه قرب أسوار القسطنطينية، وأظهر الجنود المسلمون ضروبًا من الشجاعة أذهلت الروم، ثم انسحبت الجيوش الإسلامية بعد ذلك تأهبًا لكرّة أخرى من الجهاد. .
حرب السنوات السبع:
بعث معاوية حملة ثانية ضد القسطنطينية؛ إنه يدرك خطر البيزنطيين، ويعمل جاهدًا على تدمير قوتهم.
لقد دام الحصار للقسطنطينية سبع سنوات (54 - 60 هـ / 674 - 680م)، وكان التعاون قائمًا بين القوات البحرية والأسطول الإسلامى، فقد اتخذ الأسطول مقرّا له فى جزيرة "أرواد" قرب مياه القسطنطينية، وبمطلع الربيع، تم إحكام الحصار، فانتقلت القوات البرية لإلقاء الحصار على أسوار العاصمة، على حين تولت سفن الأسطول حصار الأسوار البحرية.
وباقتراب فصل الشتاء نقل الأسطول قوات المسلمين إلى جزيرة "أرواد" حماية لها من برد تلك الجهات القارص، ثم عاد فنقلها لمتابعة الحصار بمطلع الربيع.
ولم تستطع هذه " الحملة الثانية" اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامى من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين المسلمين والبيزنطيين مدته ثلاثون عامًا، عام 56هـ / 676م.
وبرغم عجز هاتين الحملتين عن الاستيلاء على القسطنطينية فإنهما حققتا أهدافًا واسعة، فلقد تخلى أباطرة الروم عن مشاريعهم وأحلامهم القديمة فى استعادة مصر والشام، وغيرهما من الأراضى التى كانت تابعة لهم من قبل، وعلموا أن جيوش الإسلام باتت قوية، وراحت تدق أبواب عاصمتهم بعنف.
لقد زلزلت القوات الإسلامية إمبراطوريتهم نفسها، وشلت نشاط القوات البيزنطية، وقلمت أظفارها، مما أتاح للأمويين بسط رقعة الدولة شرقًا وغربًا.
الجهاد فى الميدان الشرقى:
فإذا انتقلنا من الشام إلى الميدان الشرقى نجد أن الفتوحات التى توقفت أواخر خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضى الله عنه- قد استأنفها الأمويون، فعندما تولى معاوية الحكم بعث الجيوش لنشر الإسلام فى مواطن جديدة سكنها الأتراك فى بلاد ما وراء النهر، وإلى بلاد الهند التى كانت موطن حضارة من أقدم الحضارات فى جنوب شرق آسيا.
وفى بلاد الشرق، حيث كان زياد بن أبيه واليًا على تلك البلاد من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، غزا المسلمون أفغانستان فسقطت "كابول" فى أيديهم سنة 664م، وعبروا نهر جيحون، واستولوا على بخارى سنة 674م، ثم على سمرقند سنة 676م، ثم واصلوا زحفهم حتى نهر سيحون، وذلك على يد قادة من شباب الإسلام مثل محمد بن القاسم الثقفى وقتيبة بن مسلم الباهلى وغيرهما.
الجهاد فى الميدان الغربى:
وانطلقت الفتوحات الأموية منذ ولى معاوية بن أبى سفيان نحو الميدان الغربى فى البلاد التى تلاصق مصر من جهة الغرب، وتمتد من "برقة" إلى المحيط الأطلسى، وكانت معروفة عند العرب باسم بلاد المغرب، وكان يسكنها أناس عرفوا باسم البربر، وهم ينتمون فى أصلهم إلى العنصر الليبى القديم الذى يرتبط مع الأصول التى ينتمى إليها المصريون القدماء.
وكان هؤلاء البربر ينقسمون بحسب مسكنهم إلى قسمين: حضر يزرعون الأرض ويعيشون مستقرين قرب الساحل، وعلى سفوح الجبال الخصبة، واشتهروا باسم "البرانس". وبدو يرعون قطعانهم من الماشية فى الصحاري، وعرفوا باسم "البتر".
عقبة فى بلاد المغرب:
وأسند الخليفة معاوية بن أبى سفيان فتح تلك البلاد وإفريقية سنة 50هـ إلى "عقبة بن نافع الفهرى"، الذى كان مقيمًا ببرقة منذ أن فتحها عمرو بن العاص أثناء ولايته الأولى على مصر، فكان عقبة من أكثر الناس خبرة ودراية بأحوال هذه البلاد، وعهد إليه معاوية بقيادة بعض السرايا الحربية التى توغلت فى شمال إفريقية، ورأى عقبة أن أفضل الطرق لفتح بلاد المغرب يقتضى إنشاء قاعدة للجيوش العربية فى المنطقة التى عرفها العرب باسم إفريقية، وهى جمهورية تونس الحالية.
واستطاع عقبة تنفيذ مشروعه حين انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها، لقد اختار موقعًا يلتقى عنده "البرانس" و "البتر" وأقام عليه قاعدته التى سماها "القيروان"، وشرح عقبة أهدافه من تأسيس القيروان قائلا لجنوده: وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها (أى بأفريقية) مدينة نجعل فيها عسكرًا، وتكون عز الإسلام إلى أبد الدهر.
وكان عقبة بن نافع صادق الإيمان، فيروى أنه لما بدأ فى بناء القيروان، وكان مكانها مكان ملتف بالشجر تأوى إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شىء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن هاربة من أحجارهن، ولما رأى البربر ذلك أسلم منهم عدد كبير.
الأحوال الداخلية للدولة:
1- دمشق العاصمة الجديدة:
كان على -رضى الله عنه- قد اتخذ من "الكوفة" مركزًا للخلافة، فاتخذ معاوية بن أبى سفيان مدينة "دمشق" لتكون مقرّّا لخلافته ولآل بيته من بعده.
وكانت هذه الخطوة تعنى أن مقر الخلافة أصبح محصنًا بقوة مادية وبشرية كبيرة، وشجعه على ذلك أن أهل الشام برهنوا له عن ولائهم للبيت الأموى، ووقفوا إلى جانب معاوية خلال تلك الفترة التى قامت فيها الفتنة.
وكان معاوية قد راح يدعم علاقته بالقبائل الكبيرة منذ ولايته على الشام، فصاهر أقواها وأعزها، وأكثرها نفرًا، وهى قبائل كلب اليمانية، فكانت زوجته ميسون من بنى بحدل من قبيلة كلب، وأنجب منها ابنه يزيد الذى صار ولى عهد الدولة الأموية.
أما عن موقع مدينة دمشق عاصمة الخلافة الجديدة، فقد كان موقعًا فريدًا، فهى تقع على حافة بادية البلقاء، فى واحة الغوطة الخصيبة، ويغذيها نهر بردى، وتحيط بها جبال شاهقة من جميع نواحيها وهى إلى جانب هذا كله متجرًا للقوافل التجارية المعروفة باسم "رحلات الصيف".
وها هى ذى قد أصبحت بعد الفتح الإسلامى معسكرًا للجيوش الإسلامية، وقاعدة تباشر منها مهامها الحربية، وتستطيع مراقبة العدو الأول للدولة الإسلامية، وهو إمبراطورية الروم.
2- الوراثة فى الحكم:
وكانت السمة الثانية التى ميزت الدولة الأموية: تطبيق مبدأ الوراثة فى الحكم، لقد تخلى معاوية عن القواعد التى جرى عليها انتخاب الخلفاء الراشدين من قبله، معتقدًا أن المجتمع الإسلامى بعد هذه السنين قد تطور، وأن قوى جديدة فيه قد ظهرت تريد أن تبحث لها عن دور، وأن القبائل الكبرى التى قامت بالدور البارز فى حركة الفتوح وقيادة الجيوش لم تعد تقبل بسهولة أن تنقاد لمن لا ترى مصالحها عنده، وتضمن نفوذها لديه، وأن الأمصار والولايات الجديدة قد أصبحت حريصة على جعل جهاز الحكم فيها، أو قريبًا منها، مما يهدد الدولة الإسلامية بالتنازع والحروب الداخلية فرأى أن يستخلف ولده يزيد إذ تؤيده قوة أهل الشام وتحميه قوة قبيلة كلب التى منها أمه وأخواله. .
وبالرغم من العقبات التى اعترضت معاوية فإنه استطاع الحصول على البيعة لابنه يزيد سنة 56هـ / 676م، وبهذا تم تحويل الخلافة إلى سلطة مبدأ التوريث.
وصار معاوية بذلك مؤسس الدولة الأموية، وأول من طبق الوراثة فى الخلافة الإسلامية.
منجزات معاوية:
أما عن عهد معاوية فقد كان حافلا بالإنجازات، فقد أعاد حبات العقد التى انفرطت فنظمها من جديد، وبعث الجيوش شرقًا وغربًا، وقضى على الفتنة، وأتاح للراية الإسلامية أن تواصل تقدمها فى كل اتجاه، ولقن أعداء الأمة دروسًا لا تنسى!
ولقد تحقق له ما أراد، فأقام دولة لبنى أمية وَوَرَّثَ ابنه يزيد الخلافة من بعده، ثم أجاب داعى الله بعد حياة حافلة، وقد قال فيه رسول الله (: "اللهم اجعله هاديًا مهديّا واهدِِ به" [أحمد والترمذى].
وقد لقى معاوية ربه، فى رجب سنة 60هـ / 680م.


أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:47 PM

15 - يزيد بن معاويه (60 - 64 هـ/ 679- 683م )
بويع له فى حياة أبيه ليكون وليّا للعهد من بعده، ثم أكد البيعة لنفسه بعد موت والده فى النصف الثانى من رجب سنة ستين، واستمر فى منصبه إلى أن توفى سنة أربع وستين !
وقد واجهته المشاكل والعقبات عقب تسلمه الحكم، فقد قامت ضده ثلاث ثورات، ترجع دوافعها إلى تقرير "مبدأ الوراثة" فى بنى أمية.
الفتنة:
ما كاد يزيد يتسلم زمام الحكم حتى واجه نفرًا من المسلمين يمتنعون عن مبايعته، ثم ما لبثت معارضتهم لبيعته أن تحولت إلى ثورة مسلحة.
وكان يزيد قد طلب من أمير المدينة المنورة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان الحصول على البيعة من الحسين بن على، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، لكن الحسن وابن الزبير رفضا، وخرجا من المدينة إلى مكة، وتوقف ابن عمر فقال: إن بايع الناس بايعت. فلما بايع الناس بايعه ابن عمر، وتعقَّد الموقف فى الحجاز.
وعلم أهل العراق برفض الحسين مبايعة يزيد وتوجهه إلى مكة، فوجدوا الفرصة سانحة للتخلص من الأمويين وإعادة الدولة كما كانت فى عهد على؛ ليتولى أمرهم الحسين بن على، فهو أحب إليهم من يزيد بن معاوية! وبقاء الحكم فى العراق أحب إليهم من بقائه فى الشام.
فأرسلوا رسلهم إلى الحسين، ليحرضوه على المطالبة بالخلافة، ويطلبوا منه المسير إلى الكوفة، فبعث الحسينُ ابنَ عمِِّه "مسلم بن عقيل بن أبى طالب" إلى الكوفة ليتبين الموقف؛ وليمهد له الأمر، حتى إذا رأى إجماع الناس على بيعته أسرع بإحاطته علمًا بذلك. وعندما أقبل "مسلم بن عقيل" على الكوفة رأى من أهلها إقبالا ورغبة فى مبايعة الحسين، فبعث إليه على الفور يستعجل قدومه.
لكن الأمويين كانوا قد أحيطوا علمًا بما يدور فى الكوفة فأرسلوا على الفور عبيد الله بن زياد واليًا عليها ليحفظ الأمن والنظام، وليضبط الأمر على النهج الذى اتبعه والده زياد من قبل أيام الخليفة معاوية بن أبى سفيان.
استطاع عبيد الله أن يُحكم سيطرته على البلاد، ويقتل قادة الدعوة إلى الحسين، ومن بينهم "مسلم بن عقيل" ويخرس الألسنة التى تنادى بالحسين خليفة.
وتحرك ركب الحسين إلى الكوفة فى هذا الجو المتأزم الملبد بالغيوم، فنصحه كبار الصحابة وكبار شيعته مثل أخوه: محمد بن الحنفية، وعبد الرحمن بن الحارث المخزومى، وعبد الله بن عباس، ليصرف النظر عن الذهاب إلى العراق، وعدم الاطمئنان لما نقل إليه من موافقة أهلها على مبايعته، غير أن الحسين -رضى الله عنه- لم يستمع لنصح الناصحين.
حادث كربلاء:
خرج -رضى الله عنه- فى جماعة من شيعته لا يزيدون عن ثمانين رجلا، ومعه نساؤه وأطفاله قاصدًا الكوفة دون أن يعلم بما حدث !
فلما بلغه ما حدث لم يتراجع، بل واصل المسير وكانت القوات الأموية فى انتظاره، ولم يكن اللقاء متكافئًا. وفى "كربلاء" التحم الفريقان، فسالت الدماء وسقط الحسين شهيدًا بالقرب من الكوفة يوم عاشوراء فى العاشر من المحرم سنة 61هـ / 681م، وتخلص يزيد من أحد منافسيه الأقوياء، وبقى عبد الله بن الزبير.
مواجهة عبدالله بن الزبير:
ذهب عبدالله إلى مكة محتميًا بها، وسمى نفسه العائذ بالبيت. فلما بلغه استشهاد الحسين أخد البيعة لنفسه من أصحابه فى وجود والى مكة الأموي "عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق" الذى كان فى استطاعته أن يتغلب على ابن الزبير، لكنه كان يرفق به.
فماذا يفعل يزيد، وقد لجأ ابن الزبير إلى الحمى ؟!
ولى على الحجاز الوليد بن عتبة بن أبى سفيان الذى اشتد على "ابن الزبير" فلم يجد ابن الزبير بدّا من اللجوء إلى حيلة معقولة؛ لكى يتخلص من الوليد. وهداه تفكيره إلى أن يطلب إلى يزيد تغيير هذا الوالى حتى يتسنى له أن يفكر فى مصالحته.
وسرعان ما استجاب يزيد، فعزل الوليد وعين مكانه "عثمان ابن محمد بن أبى سفيان".
وقد نجحت حيلة ابن الزبير، فعثمان كان شابّا صغيرًا لم تصقله التجارب، ولا خبرة له بسياسة الناس وقيادتهم، فأساء من حيث أراد الإصلاح.
لقد أرسل وفدًا من أشراف أهل المدينة إلى دمشق ؛ لكى يرى الخليفة بنفسه مدى طاعتهم وولائهم، وأحسن يزيد وفادتهم، وأغدق عليهم، ومنحهم العطايا ليستميل قلوبهم، وليكونوا خير دعاة له إذا رجعوا إلى أهليهم وذويهم، فمن رأى ليس كمن سمع، ولكنهم بعد أن رأوا فى عاصمة الخلافة الجديدة مظاهر البذخ والإسراف، وسمعوا مالا يتفق مع تقاليد الخلفاء الراشدين من مظاهر الترف، عادوا وهم يعلنون بين أهليهم وذويهم أنهم قد خلعوا طاعة يزيد، ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر "ابن غسيل الملائكة" وتوجهوا بعد ذلك إلى والى يزيد على المدينة فأخرجوه منها، وحاصروا دار مروان بن الحكم بالمدينة تعبيرًا عن سخطهم ورفضهم لبنى أمية.
واستغاث مروان بن الحكم بيزيد، وتأزم الموقف من جديد، فقد أعد يزيد جيشًا ضخمًا من جند الشام، وأسند قيادته إلى مسلم ابن عقبة، ليحمى بنى أمية بالمدينة، وليخضع الثائرين عليه.
وعلم أهل المدينة بمقدم الجيش فلم يجدوا بدّا من إخراج بنى أمية إلى الشام بعد أن يأخذوا عليهم العهود والمواثيق ألا يساعدوا عليهم أحدًا.
وخرج بنو أمية مطرودين من المدينة، لكنهم تقابلوا مع جيش مسلم بن عقبة، فطلب منهم أن يشيروا عليه بما ينبغى أن يفعله، فأرشده عبد الملك بن مروان إلى كيفية الزحف على المدينة، والدخول إليها، وزحف مسلم كما أشار عليه عبد الملك، ونفذ الخطة فوصل إلى الحرة شمالى شرق المدينة، وهى أرض صخرية بركانية، فخرج إليه أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة، والتحموا مع جند الخليفة فى معركة شديدة انتهت بهزيمة أهل المدينة، وقتل عدد كبير من بنى هاشم وقريش والأنصار.
وفى جو الهزيمة هذا دعا مسلم الناس للبيعة؛ محذرًا من عاقبة المخالفة بعد أن رأوا بأعينهم ما حل بغيرهم.
فبعد أن انتهى مسلم من إجبار الناس على البيعة، سار بمن معه من الجند إلى البيت الحرام بمكة؛ حيث يعتصم ابن الزبير، لكن القدر لم يمهله، فتوفاه الله قبل أن يصل إلى مكة.
ويتولى على الفور قيادة الجيش الأموى الزاحف على مكة للقاء عبد الله بن الزبير: "الحصين بن نمير السكوني" ، ويواصل مسيرته إلى مكة المكرمة، ويشتد على الثائرين، ولا يمنعه شىء مما يحتمون به، ويستمر الحصار شهرين، وابن الزبير متحصن بالبيت الحرام، وتأتى الأنباء بوفاة الخليفة يزيد، فيتوقف القتال، ويرفع الحصار، ويعود الجيش الأموى إلى الشام، ويخرج ابن الزبير على الناس فتذعن جزيرة العرب كلها له، ويبايعه كثير من أنصار الدولة الأموية وسط العواصف خليفة للمسلمين.
الفتوحات الإسلامية فى عهد يزيد:
وبالرغم من الصراعات الشديدة التى حدثت فى عهد يزيد، فإن الفتوحات الإسلامية لم تتوقف، واستمرت فى العديد من الجهات، فهناك فى الشرق واصلت الجيوش الإسلامية فتوحاتها فى خراسان وسجستان تحت قيادة مسلم بن زياد، فغزا سمرقند وحُجَنْدة، أما هناك فى الغرب فقد أعاد يزيد بن معاوية، عقبة بن نافع واليًا على إفريقية، وكان معاوية قد عزله عنها، فواصل عقبة بن نافع فتوحاته بحماس منقطع النظير وقال: إنى قد بعت نفسى لله-عز وجل-، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. ففتح مدينة "باغاية" فى أقصى إفريقية، وهى مدينة بالمغرب، وهزم الروم والبربر مرات عديدة، ثم واصل المسير إلى بلاد الزاب، فافتتح مدينة "أَرَبَة" وافتتح "تَاهَرْت" و"طَنْجة" و"السُّوس الأدنى"، ثم صار إلى بلاد السوس الأقصى، واستمر فى فتوحاته حتى بلغ "مليان"، حتى رأى البحر المحيط (المحيط الأطلنطى) فوقف عليه وقال مقالته التى حفظها له التاريخ: يا رب لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد مجاهدًا فى سبيلك. ثم عاد راجعًا إلى القيروان.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:48 PM

16 - عبد الملك بن مروان
(65 - 86 هـ/ 684- 705م )
كان الأمويون عندما عقدوا "مؤتمر الجابية" لمبايعة مرْوان بن الحكم قد اتفقوا على أن يخلفه: "خالد بن يزيد بن معاوية" ثم "سعيد بن العاص" من بعده. "
غير أن "مروان بن الحكم" نقض ذلك العهد وعهد بالخلافة لابنه "عبد الملك" ومن بعده ابنه " عبد العزيز" وراح يصرف الأنظار عن "خالد بن يزيد" الذى كان شابّا محدود الخبرات فى الإدارة.. بما أوتى من وسائل، ورغم ما فى ذلك من إيثار لابنه ونقض لعهده فإنه كان خيرًا لاستقرار الدولة وكان خيرًا للإسلام والمسلمين.
وباتت الدولة الإسلامية الموحدة تتقاسمها خلافتان:
الأولى: عليها عبد الله بن الزبير وتضم الحجاز والعراق.
أما الثانية: فيتولاها عبد الملك بن مروان الذى تولى عقب وفاة أبيه، ولم تعد تضم إلا الشام ومصر.
وقد نجح عبد الملك بن مروان فى ضبط الأمور، والقضاء على الفتن، فانتشل الدولة من الفوضى التى وصلت إليها، وأعاد الأمن والاستقرار إلى ربوعها.
لقد ظهر بالكوفة المختار بن عبيد الله الثقفي، وجمع من حوله شيعة على -رضى الله عنه-، وراح يتتبع قتلة الحسين هنا وهناك وقتل منهم الكثير وعلى رأسهم أمير الجيش الذى حارب الحسين " عمر بن سعد بن أبى وقاص"، وقتل "عبيد الله بن زياد" أمير العراق الأموى، وشتت جيشًا قوامه (40) ألفًا، كما قتل "الحصين ابن نمير" واستولى على الموصل، وراح يدعو لمحمد بن الحنفية ابن الإمام على كرم الله وجهه، ويناديه بالإمام المهدى يريد المهدى المنتظر.
لقد انتشر نفوذ الشيعة فى شرق الدولة وكان هذا العامل هو المعول الذى مهد لزوال الدولة الأموية على مر الزمن!
وقد عمد الشيعة فى ذلك الوقت وعلى رأسهم المختار إلى الانتساب لمحمد بن الحنفية، ليستفيدوا من هذه النسبة فى اكتساب مزيد من المؤيدين الناقمين على بنى أمية والثائرين من أجل المطالبة بدم الحسين وآله.
والمعروف أن محمد بن الحنفية كان عالمًا زاهدًا، قد رفض أن يبايع لأحد من الخليفتين ابن الزبير أو ابن مروان، وقال لا؛ حتى يبايع الناس أجمعون فإن بايعوا بايعت. وهكذا فعل عبد الله بن عباس، ولم يكن له مطمع فى الخلافة، أو هدم البيت الأموى أوالقضاء على ابن الزبير.
ولقد أغضب الدعوة باسم محمد بن الحنفية "عبد الله بن الزبير" فأرسل أخاه "مصعب بن الزبير"؛ ليكون أميرًا على العراق، وأمره بالقضاء على "المختار الثقفى".
وقد نجح مصعب فى حصار المختار بالكوفة وقتله، وأصبح الحجاز والعراق لابن الزبير ومصر والشام لعبد الملك بن مروان.
وفى سنة 70هـ /690م خرج عبد الملك بن مروان إلى العراق لأخذها من الزبيريين، وتدور بينه وبين مصعب عدة معارك، وأخيرًا يتمكن "عبد الملك بن مروان" من القضاء على "مصعب ابن الزبير" فى معركة "دير الجاثليق" وكان ذلك سنة 71هـ/691م وقيل: سنة 72هـ/692م. المهم أن عبد الملك بعد مقتل "مصعب ابن الزبير" دخل "الكوفة" معقل الزبيريين، وأخذ البيعة من أهلها لنفسه، وولَّى ولاة من قِبله على العراق.
الحجاج وابن الزبـير:
ولم يبق إلا الحجاز يسيطر عليه عبد الله بن الزبير من مكة، وقد حانت الساعة الفاصلة، ساعة الحزم والحسم، فأمر عبدالملك ابن مروان "الحجاج بن يوسف الثقفى" -الذى يمكن أن يتخذ من الطائف مسقط رأسه قاعدة لعملياته الحربية- أن يتصدى لعبد الله ابن الزبير المتحصن بمكة المكرمة.
وتحرك جيش الحجاج من الطائف إلى مكة فحاصرها كما فعل الحصين بن نمير من قبل، وقذف ابن الزبير بالمنجنيق، وظل يضيق على ابن الزبير وأنصاره الخناق حتى تفرق عنه معظم أنصاره، لكن ابن الزبير ظل يقاوم رافضًا أن يستسلم حتى قتل سنة 73هـ/ 693م، وكانت خلافته تسع سنين.
وبمقتل ابن الزبير دخلت الحجاز من جديد تحت حكم بنى أمية، وكوفئ الحجاج بأن ظل واليًا على الحجاز من قبل عبد الملك ابن مروان حتى سنة 75هـ/ 695م.
ثورات ابن الأشعث:
ولا يكاد عبد الملك بن مروان يلتقط أنفاسه ليتفرغ للبناء والتعمير، ومواصلة الفتوح حتى يرى أن جماعات الشيعة فى مدن العراق مثل الكوفة تشكل خطرًا على الدولة؛ بسبب قربها من بلاد فارس، التى رأى أهلها فى الشيعة خير سبيل لتحقيق أطماعهم القومية فى ضرب الأمويين باعتبارهم ممثلين للعنصر العربى وسلطانه فى الدولة الإسلامية، وركز الفرس نشاطهم فى سبيل وصول أبناء الحسين بن على بن أبى طالب إلى منصب الخلافة، مدعين بأنهم من سلالة الحسين؛ وذلك لأنه تزوج من شهر بانوه بنت يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس، وزعموا أن تلك السلالة من أبناء الحسين تجمع بين دم عربى، وأشرف دم فارسى.
وتصدى الحجاج بن يوسف لهذه الفتنة مرة أخرى، ويحقق الأمن والاستقرار فى ربوع البلاد.
ويصدر الأمر من الخليفة الأموى بأن يتولى الحجاج أمر العراق والمشرق الإسلامى، ويسير إليها فى جيش من أهل الشام.
وكان الحجاج شديدًا عنيفًا، فراح يواجه عدة ثورات كانت إحداها بقيادة "عبد الرحمن بن الأشعث".
وتدور معارك شرسة مثل "دير الجماجم" بين الجيش الأموى وبين جيش ابن الأشعث، يتبادل فيها الفريقان النصر والهزيمة، وتستمر سجالا بينهما فى أكثر من ثمانين موقعة، تدور الدائرة بعدها على ابن الأشعث، فيهرب إلى بلاد الهند. ولكن الحجاج يرسل من يلاحقه ويتابعه حتى يأتى إليه برأسه فى الكوفة.
وهكذا استطاع الحجاج إخضاع بلاد العراق وما والاها من بلاد المشرق لسلطان عبد الملك بن مروان، وبهذا توطدت دعائم الدولة فى عهده، وانتشر الأمن فى البلاد، ويتفرغ عبد الملك لجانب من الإصلاح الداخلى، فيصدر أمره بصك الدنانير الإسلامية، عليها شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله، فكان أول من ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية، لتحمل محل العملة البيزنطية فيتحقق للدولة استقلالها المالى والاقتصادى.
وأصدر أمره بجعل اللغة العربية هى اللغة الرسمية التى تكتب بها الدواوين فى أرجاء الدولة، وينفذ ابنه عبد الله بن عبدالملك بن مروان والى مصر هذه التعليمات؛ حيث كانت مصر ما تزال تكتب باللغة القبطية، بما أدى إلى انتشار اللغة العربية لغة القرآن والحديث، فهى بلا شك إحدى المقومات الأساسية للدولة الإسلامية.
وسوف تظل هذا الخطوة الرائدة صفحة مضيئة يسجلها التاريخ لعبد الملك بن مروان على مر الزمان.
الفتوحات الإسلامية فى عهد عبدالملك:
وبعد أن استقرت الدولة فى الداخل، وتم القضاء على الفتن والثورات، راح عبد الملك يواصل ما بدأه السابقون من الفتوحات، ويعمل على تأمين الحدود التى تعرضت للإغارة والمهاجمة والاستيلاء على بعضها من جانب الروم، منذ أن أصدر معاوية أمره إلى الجيش الذى كان يحاصر القسطنطينية بالعودة إلى البلاد، وتمكن عبد الملك من استرداد الثغور الإسلامية، وإخضاع أرمينية، وسواحل سورية، وكثير من الثغور الإسلامية، وفَتْح عدد من حصون الروم منها: "مرعش" و"عمورية" و"أنطاكية"، وأظهر للروم أن الدولة الإسلامية باقية، وأنها لم تضعف ولم تهن!
وما كاد عام 62هـ/682م يأتى حتى صدر الأمر بأن يتولى "عقبة بن نافع" إفريقية للمرة الثانية؛ ليواصل حروبه وفتوحاته، ويتمكن من فتح الجزائر، ويتوغل نحو بلاد "السوس" فى المغرب الأقصى.
وكان عقبة فى عهد معاوية قد انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها واختار "القيروان" قاعدة له، ولكن بعد الانتهاء من بناء القيروان صدر قرار بتعديل القيادة العليا بالميدان الإفريقى سنة 55هـ/ 675م.
فقد استعمل معاوية بن أبى سفيان مسلمة بن مخلد على مصر وإفريقية، فاستعمل مسلمة على إفريقية مولى له يقال له "أبو المهاجر" فلما وصلها عزل عقبة.
وكان معاوية يهدف من ذلك إلى مواجهة الإمبراطورية البيزنطية صاحبة السيادة إذ ذاك على شمال إفريقية، ومحاولاتها إيقاف الزحف الإسلامى المنتظر من القيروان.
واستطاع "أبو المهاجر دينار" أن يفسد خطط البيزنطيين باكتساب البربر إليه، ونشر الإسلام بينهم.
وتجلّى نجاح هذا القائد حين اكتسب إلى صفوفه زعيم قبيلة البربر وهو "كسيلة" فدعاه إلى الإسلام، فأسلم وترتب على ذلك انتشار الإسلام بين كثير من البربر، فراحوا يتفهمون حقيقة الإسلام، ويقبلون عليه، وراح الفتح الإسلامى فى شمال إفريقية يمتد وينتشر.
ولكن الفتوحات الإسلامية تتعرض لأول نكسة خطيرة لها لعدم معرفة نتيجة السلطة المركزية فى "دمشق" بالتطورات التى طرأت على السياسة البيزنطية فى تلك البلاد، فعندما أعادت السلطات "عقبة بن نافع" سنة 62هـ/682م إلى القيادة العليا للميدان الإفريقى، ووصل إلى "القيروان" قاعدته الحربية التى أنشأها من قبل، انطلق منها لممارسة المهمة التى عين ثانية من أجلها، بل إن عقبة لما عاد إلى ولاية إفريقية جازى المهاجر عما فعله به عندما عزله سنة 55هـ، فقبض عليه وأوثقه فى الحديد، وخرج به مكبلا فى زحف خاطف، وصل به إلى ساحل المحيط الأطلسى، وعند ذلك النهر الذى تقوم عليه مدينة مراكش اليوم أدخل عقبة ابن نافع فرسه فى المحيط وراح يرفع رأسه فى عزة المؤمن، وتواضع المعترف بفضل الله عليه قائلا: "اللهم فاشهد أنى لو كنتُ أعلم وراء هذا البحر أرضًا لخضته غازيًا فى سبيلك".
لكن عقبة فاته أن يستمع إلى أبى المهاجر ونصائحه حول البيزنطيين وسياستهم، ولجوئهم إلى أسلوب الغدر والخديعة والمكر والخيانة، فقد انتظروا حتى عاد قاصدًا القيروان، وكان يسير فى مؤخرة جيشه، وأعدوا له كمينًا وهو فى طريق العودة بالتعاون مع كسيلة -الزعيم البربرى- الذى تحالف مع الروم، وادعى أن عقبة قد عزم على تأديب البربر؛ لأنه أساء الظن فى حقيقة إسلامهم.
والتقى الجميع فى معركة "تهوذة" عام 63هـ/ 683م، وأحاطت قوات البزنطيين بعقبة بن نافع وراح "أبو المهاجر" يدافع عنه دفاع الأبطال ولكنهم تمكنوا من قتله، واستشهد عقبة ولحق بالرفيق الأعلى.
وبعثت الخلافة الأموية بجيوش جرارة على رأسها قائد من خيرة قادتها هو "حسان بن النعمان" الذى عمل على تحرير شمال إفريقية تمامًا من البيزنطيين، والقضاء على أساليبهم الغادرة.
دخل حسان القيروان سنة 74هـ / 694م، وبادر بالزحف على "قرطاجنة"، وهى أكبر قاعدة للبيزنطيين فى إفريقية "تونس الحالية" ودمرها تمامًا، ثم طارد فلول الروم والبربر، وهزمهم فى "صطفورة" و"بنزرت" ولم يترك حسان موضعًا من بلادهم إلا دخله بجنوده، ثم عاد "حسان" إلى القيروان، فأقام بها حتى استراح الجيش وضمدت جراح المصابين.
واضطر حسان إلى اتخاذ مراكزه فى "برقة" حتى جاءته الإمدادات من مصر سنة 81هـ/ 700م، فخرج بالجيوش لملاقاة جيوش البربر بقيادة امرأة منهم تدعى الكاهنة، واستطاع الانتصار على البربر، وأعاد القيروان إلى حضن الإمبراطورية الإسلامية.
وأخذ حسان يعمل بعد ذلك على تدعيم الفتوحات الإسلامية بشمال إفريقية، فأسس قاعدة بحرية إسلامية باسم "تونس".
واستعان بعمال مصر وخبرتهم فى بناء تلك القاعدة، ثم أقبل حسان على إفساد خطط البيزنطيين، وراح يعمل للقضاء على مكرهم وألاعيبهم. فحبب الإسلام وزينه فى قلوب أبناء الكاهنة، ثم قربهم إليه، وجعلهم فى الرئاسة العليا على أبناء قبيلتهم، مبينًا لهم أن العزة لله ولرسوله وللمسلمين، وأن الإسلام يستهدف عزة أبناء إفريقية وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهكذا عادت إفريقية إلى الإسلام والمسلمين.
وعلى الجانب الآخر، فى خراسان، تابع "المهلب بن أبى صُفرة" أمر الفتوح فى تلك البلاد بعد أن أسند إليه الحجاج ولايتها!
لقد فتح خُجَنْدة وغزا "كَشّ" سنة 80هـ/699م، واتخذها مركز القيادة، وأرسل منها أولاده لغزو كثير من البلاد، لكنه مات فى شهر ذى الحجة على مقربة من "مرو" وتولى ابنه يزيد بعد أبيه، فاستهل عهده بغزو "خوارزم".
ويأتى عام 85هـ فيتولى "المفضل بن أبى صفرة" أمر خراسان ويفتح "باذغيش" و"أخرون" "وشومان"، لكن الحجاج سعى بآل المهلب لدى عبد الملك حتى لا يولى منهم أحدًا، واتهمهم بأنهم كانوا من أتباع عبد الله بن الزبير، وأشار على "عبد الملك" بأن يولى قتيبة بن مسلم الباهلى على خراسان، وهو من باهلة التى تنتمى إلى قيس، وبذلك يستطيع أن يجذب إليه القيسيين فى خراسان.
ووصل قتيبة بن مسلم إلى "مرو" فى نهاية سنة 85هـ/704م.
ولكنه لم يكد يستقر فى خراسان حتى وصلت الأنباء فى سنة 86هـ/705م بوفاة الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله رحمة واسعة.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:48 PM

17 - أبو العباس السفاح
( 132 - 136هـ / 750 - 754 م)
هو عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ولم تطل مدة خلافته، إنما هى سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة.
انتشار الإسلام:
فقد سكن الكوفة، ثم تركها وأقام بالحيرة، ثم اختار مدينة "الأنبار" فبنى بها قصورًا وأحب الإقامة بها، وظل فيها حتى توفى. وكان لابد من تأمين الحدود، ورفع راية الإسلام ونشره فى ربوع الأرض لتصبح كلمة الله هى العليا، فبدأت من جديد تلك الحملات لتأديب الروم أعداء الإسلام والمسلمين.
عقد أبو العباس لعبد الله بن على أمر هذه المهمة سنة 136هـ/ 754م، فقاد عبد الله جيشًا من أهل الشام وخراسان.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيطر الجيش الإسلامى فى عصره من جديد على بلاد ما وراء النهر، وهى المنطقة الواقعة فى حوض نهرى جيحون وسيحون مما يعرف الآن بالجمهوريات الإسلامية فى آسيا الوسطى التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى مؤخرًا.
قمع الثورات:
ولم يخل عهده من ثورات قام بها بعض قواد الأمويين فى أول عهده بالخلافة وفى آخره، فقضى على ثورة "أبى الورد" الذى انضم إليه أهل "قنسرين"، و"حمص"، و"دمشق"، وكان ذلك عام تولّيه الحكم.
وفى آخر عهده، أعلن أهل دمشق تمردهم على خلافة العباسيين سنة 136 هـ، وبايعوا أحد الأمويين، ولكنهم ما لبثوا أن هربوا أمام الجيش العباسى الذى داهمهم وطاردهم.
ويموت أبو العباس فى هذا العام بعد أن أوصى لأخيه "أبى جعفر المنصور" بالخلافة من بعده.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:49 PM

18 - ابو جعفر المنصور
(136 - 158هـ/ 754 - 775م)
يعتبر أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقى لدولة بنى العباس وإن تولَّى الخلافة بعد أخيه أبى العباس (سنة 136هـ/ 754م).
ترى لماذا يُعَدُّ أبو جعفر المنصور المؤسس الأول على الرغم من أنه الخليفة العباسى الثانى؟
إن "أبا جعفر المنصور" بذل جهودًا عظيمة لتدعيم الأسرة العباسية فى الحكم، وإعلاء شأن الخلافة، وإضفاء روح المهابة والإجلال على الدولة فى الداخل والخارج.
لقد بُويع بالخلافة بعد عودته من الحج ووفاة أخيه أبى العباس، بايعه أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام التى كان عمه "عبد الله بن على" أميرًا، فقد رفض مبايعته اعتقادًا منه بأنه أولى بالخلافة، فما كان من أبى جعفر إلا أن أرسل إليه القائد "أبا مسلم الخراسانى" ومعه جماعة من أمراء بنى العباس فهزموهم هزيمة منكرة، وخضعت بلاد الشام لأبى جعفر.
نهاية أبى مسلم الخراسانى:
وبدأ الجو يصفو لأبى جعفر بعد مقتل عمه "عبد الله" إلا من بعض الإزعاج الذى كان يسببه له أبو مسلم الخراسانى؛ وبسبب مكانته القوية فى نفوس أتباعه، واستخفافه بالخليفة المنصور، ورفضه المستمر للخضوع له؛ فأبو مسلم يشتد يومًا بعد يوم، وساعده يقوى، وكلمته تعلو، أما وقد شم منه رائحة خيانة فليكن هناك ما يوقفه عند حده، وهنا فكر المنصور جديّا فى التخلص منه.
وقد كان، فأرسل إلى أبى مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ؛ ليكون قريبًا من الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان ؛ حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ونقض البيعة، ولم يستجب لنصيحة أحد، فأغراه المنصور حتى قدم إليه فى العراق، وقتله فى سنة 137هـ/ 756م، ولأن مقتل رجل كأبى مسلم الخراسانى قد يثير جدلا كبيرًا، فقد خطب المنصور مبينًا حقيقة الموقف، قال: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنفنا فى إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه". ومع ذلك فلم تهدأ الأمور، ولم يصفُ الجو لأبى جعفر المنصور كما كان يتوقع.
ثورة سُنباد:
كان ممن غضب لمقتل أبى مسلم الخراسانى، رجل مجوسى اسمه "سُنباد"، فثار والتف حوله الكثيرون من أهل "خراسان"، فهجموا على ديار المسلمين فى "نيسابور" و"قومس" و"الرى"، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا، فقالوا: إنهم عامدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور ابن مرار العجلى، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر يتخلص من "سنباد" سنة 137هـ/ 756م، حتى واجه ثائرًا ينادى بخلع المنصور.. تعلمون من هو؟!
إنه "جمهور بن مرار العجلي" قائد جيوش المنصور التى هزمت "سنباد".. فكيف كان هذا؟
لما هزم "جمهور" سنباد، واسترد الأموال، كانت خزائن أبى مسلم الخراسانى من بينها، فطمع "جمهور"، فلم يرسل المال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة ونادى بخلع المنصور، فماذا كان؟
أرسل المنصور القائد الشجاع "محمد بن الأشعث" على رأس جيش عظيم، فهزم "جمهورًا" وفر هاربًا إلى "أذربيجان"، وكانت الموقعة فى سنة 137هـ/ 756م.
ثورات الخوارج:
ترى هل صفا الجو للمنصور بعد هذا ؟ لا.. فلقد كانت هناك ثورات وثورات تهدد الحياة وتحول دون الاستقرار والأمن. كما كانت هناك ثوارت للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج للدولة العباسية.
لقد خرج آنذاك "مُلَبّد بن حرملة الشيبانى" فى ألف من أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، فغلب بلادًا كثيرة، إلى أن تمكنت جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة من هزيمته فى سنة 138هـ/ 757م.
وتحرك الخوارج مرة ثانية فى خلافة المنصور سنة 148هـ بالموصل تحت قيادة "حسا بن مجالد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل.
وواجه الخليفة المنصور العباسى ثورات منحرفة لطوائف من الكافرين، ففى سنة 141هـ/ 759م.. واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج يقال لها "الراوندية" ينتسبون إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان.
إنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو الهيثم بن معاوية -رجل من بينهم-، بل لقد خرجوا عن الإسلام زاعمين أن ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين: هذا قصر ربنا. ولم يكن ينفع هؤلاء إلا القتال، فقاتلهم المنصور حتى قضى عليهم جميعًا بالكوفة.
ثورة محمد "النفس الزكية":
من أخطر الثورات التى واجهت المنصور خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان من أشراف بنى هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين "المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا طلب محمد هذا خشية مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له فى كثير من الأمصار. وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس" و"واسط" و"الكوفة"، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.
وبعث المنصور إلى "محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن يدخل فى طاعته هو؛ ليمنحه الأمان.
وكانت المواجهة العسكرية هى الحل بعد فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة وتقتله، وتقضى على أتباع إبراهيم فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله.
ثورة كافر خراسان:
ويظل مسلسل الثورات يتوالى على مر الأيام، ففى سنة 150هـ يخرج أحد الكفرة ببلاد خراسان ويستولى على أكثرها، وينضم له أكثر من ثلاثمائة ألف، فيقتلون خلقًا كثيرًا من المسلمين، ويهزمون الجيوش فى تلك البلاد، وينشرون الفساد هنا وهناك، ويبعث أبوجعفر المنصور بجيش قوامه أربعون ألفا بقيادة "خازم بن خزيمة"، فيقضى على هؤلاء الخارجين، وينشر الأمن والاستقرار فى ربوع خراسان.
بناء بغداد:
وراح المنصور يواصل ما بدأ به.. راح يبنى ويعمر بعد أن خَلا الجو، ودانت له البلاد والعباد، لقد فكر -منذ توليه- فى بناء عاصمة للدولة العباسية يضمن من خلالها السيطرة على دولته، وإرساء قواعدَ راسخة لها.
فشرع فى بناء بغداد سنة 145هـ على الضفة الغربية لنهر دجلة عند أقرب نقطة بين دجلة والفرات، لتصبح ملتقى الطرق القادمة من الشام شمالا، ومن الصين شرقًا، ومن طوائف مصر، ومن الحجاز جنوبًا، إلى جانب موقعها العسكرى الخطير، فهى بين نهرى الفرات ودجلة، فلا وصول إليها إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطع الجسر وخربت القنطرة لم يتمكن معتدٍ من الوصول إليها، ولبغداد مزايا أخرى عديدة، أغرت المنصور بالإسراع فى بنائها، فراح أبو جعفر يأمر بإحضار الفعلة والصناع من بلاد العالم؛ ليحققوا نهضة، وليقيموا حضارة، وليصنعوا المستقبل لدولة الإسلام والمسلمين. وكان مِنْ بين مَنْ استعان بهم المنصور فى ضبط العمل ببغداد: الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان.
ووضع المنصور بنفسه أول لبنة وهو يقول: باسم الله، والحمد لله، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وكان الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان هو القائم على بناء المدينة والمتولى لضرب اللبن. وأصبحت بغداد عاصمة لها شأنها بين عواصم العالم.
وكانت بغداد تتمتع بالطرق الواسعة النظيفة التى تمتد إليها المياه من فروع نهر دجلة فى قنوات مخصوصة تمتد بالشوارع صيفًا وشتاءً، وكانت شوارعها تكنس كل يوم، ويحمل ترابها خارجها، وعيَّن المنصور على أبوابها جندًا يحفظون الأمن بها، فصانها وحفظ لها نظامها ونظافتها من الداخل، وقد فرغ من بناء بغداد وسورها وأسواقها وخندقها بعد 4 سنوات أى سنة 149هـ/ 766م.
وأمام كثرة النازحين إلى عاصمة الخلافة أجمل مدن العالم آنذاك، كان لابد أن يهتمَّ المنصور ببناء سوق يضم أصحاب الصناعات والتجار والباعة. وفعلا بنيت "الكرخ" سنة 157هـ/ 774م لتظل عاصمة الخلافة محتفظة بجمالها وسحرها وتألقها.
وكانت الكرخ سوقًا نموذجية، فلكل تجارة سوق خاصة بها، ولم يبقَ إلا أن يبنى المنصور مسجدًا جامعًا يجتمعون فيه حتى لايدخلوا بغداد، فبنى للعامة جامعًا، وهو غير جامع المنصور الذى كان يلى القصر، وفى سنة 151هـ/ 768م يبنى المنصور مدينة أخرى لابنه المهدى على الضفة الشرقية لنهر دجلة وهى مدينة "الرصافة" ثم بنى "الرافقة" وكانت هاتان المدينتان صورة من بغداد.
العدل أساس الملك:
وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها.
وإذا كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغى أن يتم اختيارهم بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن "الربيع ابن يونس" وزير "أبى جعفر" قال له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضى حقه وتوليه ناحية. فقال المنصور:
يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا فى أموالنا لا فى أعراض الناس وأموالهم. ثم بين للربيع أن لا يولى إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم أصحاب النسب والقرابة. وكان يقول: ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر، لا يكون على بابى أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:
أما أحدهم: فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم.
والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.
والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإنى عن ظلمها غنى.
ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول فى كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة (رجل يخبرنى بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة العدل، ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولا بأول، ويتلقَّى يوميّا الكتب التى تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث فى استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا فى ذلك بما كان يفعل الخليفة الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-!
العناية بالمساجد:
وأعطى المنصور كل العناية للمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة 140هـ، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذى حدث بالشام، فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع الذين يقفون فى منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة إنشائية وعمرانية، روعى فيها بناء العديد من المساجد فى البصرة والكوفة وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.
العناية بالاقتصاد:
يذكر التاريخ للمنصور- إلى جانب هذه النهضة الإصلاحية العمرانية- اهتمامه بالزراعة والصناعة وتشجيعه أصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة والملاحة فى الخليج العربى حتى الصين من خطر القراصنة الهنود الذين كانوا يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواد البحر بالغنائم والأسرى حتى انقطعت القرصنة بعد سنة 153هـ/ 770م، ولقد تم فى عهده إعادة فتح "طبرستان" سنة 141هـ/ 759م، فيما وراء النهر.
العناية بالحدود:
أعطى المنصور اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على حدود بلاد الروم الأعداء التقليديين للدولة الإسلامية.
وكانت الغزوات المتتابعة سببًا فى أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة 155هـ. ولا ننسى للمنصور حملته التأديبية على قبرص لقيام أهلها بمساعدة الروم، ونقضهم العهد الذى أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون قبرص.
هذا هو "المنصور"، وهذه هى إصلاحاته فى الداخل والخارج رحمه الله رحمة واسعة، لقد كان يعرف لنفسه حقها، وللناس حقهم، ولربه حقه.
وصية المنصور:
لقد ذهب ليحج سنة 158هـ/ 775م، فمرض فى الطريق، وكان ابنه محمد "المهدى" قد خرج ليشيعه فى حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم، وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقبل أن يدخل مكة لقى ربه ليقول له: إننى تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.
رحمه الله، كان يلبس الخشن، ويرقع القميص ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ فى بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللعب، ويذهب المنصور إلى رحمة الله.
وتعالوا بنا نقرأ وصية أبى جعفر المنصور لولده وولى عهده المهدى، قال المنصور لولده المهدى:
"ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أنى أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، وإنما حدانى على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل لك فى كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى: احفظ محمدًا ( فى أمته، يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند الله عظيم، وعار فى الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك فى الآجل، وصلاحك فى العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به فى كتابه.
واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى فى الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فالسلطان يا بنى حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع فى الدواء، وعفّ عن الفىء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهى من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ.
يا بنى: لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك".

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:51 PM

خولة بنت الأزور


خولة بنت الأزور الأسدي: شاعرة كانت من أشجع النساء في عصرها، وتشبه خالد بن الوليد في حملاتها. وهي أخت ضرار ، توفيت أواخر عهد عثمان 35هـ . مقدمـة: خولة بنت الأزور امرأة ليست ككل النساء، تميزت عنهن بالكثير من الصفات والمواصفات، تربت في البادية العربية مع أبناء قبيلتها بني أسد، ولازمت أخاها ضراراً ، فكانا دوماً معاً ، ودخلت الإسلام مع من دخل من أبناء العروبة في ذلك الزمن الأول للإسلام، وشاء الله أن تكون وأخوها ضرار مع الكتائب الطلائعية المتقدمة للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق والدين…فشاركت بكل قوة وببسالة نادرة بين الرجال وبين النساء وعلى مر العصور في الكر والفر ،في حمل الرماح ورمي السهام ، وضربت بالحسام خاصة عندما وقع أخوها ضرار في الأسر بعد أن أبلى بلاءً منقطع النظير .


ومن موقعاتها( في أجنادين وهي قرية تقع شرقي القدس في فلسطين ) أن خالد بن الوليد نظر إلى فارس طويل وهو لا يبين منه إلا الحدق والفروسية ، تلوح من شمائله، وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته ، وقد حزم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره، وقد سبق أمام الناس كأنه نار. فقال خالد: ليت شعري من هذا الفارس؟ وأيم الله إنه لفارس شجاع. ثم لحقه والناس وكان هذا الفارس أسبق إلى المشركين .فحمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم ثم غاب في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء من الروم وقد قتل رجالاً وجندل أبطالاً وقد عرّض نفسه للهلاك ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم.

فقلق عليه المسلمون وقال رافع بن عميرة: ليس هذا الفارس إلاّ خالد بن الوليد ، ثم أشرف عليهم خالد ، فقال رافع : من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته ؟ ، فقال خالد: والله أنني أشد إنكاراً منكم له، ولقد أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله، فقال رافع : أيها الأمير إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يميناً وشمالاً ، فقال خالد: معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله، فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم ونظر إلى الفارس فوجده كأنه شعلة من نار والخيل في إثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل فحمل خالد ومن معه ، ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين ، فتأملوه فرأوه وقد تخضب بالدماء، فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس .. بذل مهجته في سبيل الله وأظهر شجاعته على الأعداء .. اكشف لنا عن لثامك، فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم ، فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون وقالوا: أيها الرجل الكريم أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه، اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيماً . فلم يرد عليهم جواباً ، فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال له: ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك ، من أنت ؟

فلما ألح خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث وقال: إنني يا أمير لم أعرض عنك إلاّ حياءً منك لأنك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور، فقال لها: من أنت ؟ فقالت: خولة بنت الأزور وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن ضراراً أسير فركبت وفعلت ما فعلت، قال خالد: نحمل بأجمعنا ونرجو من الله أن نصل إلى أخيك فنفكه.

قال عامر بن الطفيل: كنت عن يمين خالد بن الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور ، وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم طاقة.

وجعلت خولة تجول يميناً وشمالاً وهي لا تطلب إلاّ أخاها وهي لا ترى له أثراً، ولا وقفت له على خبر إلى وقت الظهر. وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على أعدائهم وقتلوا منهم عدداً عظيماً.

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:51 PM


أبو محجن الثقفي

- 30 هـ / عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف. أحد الأبطال الشعراء الكرماء في الجاهلية والإسلام، أسلم سنة 9هـ، وروى عدة أحاديث. وكان منهمكاً في شرب النبيذ، فحده عمر مراراً، ثم نفاه إلى جزيرة بالبحر. فهرب، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه، فحبسه سعد عنده. واشتد القتال في أحد أيام القادسية، فالتمس أبو محجن من امرأة سعد (سلمى) أن تحل قيده، وعاهدها أن يعود إلى القيد إن سلم، وأنشد أبياتاً في ذلك، فخلت سبيله، فقاتل قتالا عجيباً، ورجع بعد المعركة إلى قيده وسجنه. فحدثت سلمى سعداً بخبره، فأطلقه وقال له: لن أحدك أبداً. فترك النبيذ وقال: كنت آنف أن أتركه من أجل الحد! وتوفي بأذربيجان أو بجرجان.

اشعار ابو محجن:

أتوبُ إِلى الله الرحيم فإنه

أتـوبُ إِلـى الله الرحيـم فـإنـه غفورٌ لذنبِ المرءِ ما لـم يُعـاودِ
ولستُ إِلى الصَّهباءِ ما عِشتُ عائداً ولا تابعاً قـولَ السفيـهِ المُعانـدِ
وكيفَ وقد أعطَيتُ ربَّـي مَواثِقـاً أعودُ لها واللهُ ذو العرشِ شاهـدي
سأترُكُهـا مَذمومـةً لا أذوقُـهـا وإِن رَغِمَت فيها أنوفُ حواسـدي

ألَم تَرَني وَدَّعتُ ما كنتُ أشربُ

ألَــم تَـرَنــي وَدَّعــتُ مــا كـنــتُ أشـــربُ
مـن الـخـمـر إذ رأسـي لَـكَ الـخـيــرُ أشـيــبُ
وكـنــتُ أروِّي هـامَـتــي مـــن عُـقــارهــا
إذِ الــحــدُّ مــأخــوذٌ وإذ أنــــا أُضــــرَبُ
فـلـمّــا دَرَوا عـنِّــي الـحــدودَ تـركـتُــهــا
وأضـمـرتُ فـيـهـا الـخـيـرَ والـخـيـرُ يُـطـلَـبُ
وقــال لــيَ الـنَـدمــانُ لــمــا تـركـتُــهــا
أألـجِــدُّ هــذا مِــنــكَ أم أنـــتَ تَـلــعــبُ
وقـالــوا عـجـيــبٌ تـركُــكَ الـيــومَ قـهــوةً
كــأنَــي مـجــنــون وجِــلــديَ أجــــربُ
سـأتــركُــهــا لــلـــهِ ثــــم أذُّمــهـــا
وأهـجـرُهـا فـي بـيـتـهــا حـيــثُ تُـشــرَبُ

إن كانتِ الخمرُ قد عَزّت وقد مُنِعَت

إن كانتِ الخمرُ قد عَزّت وقد مُنِعَت وحالَ من دونها الإسلامُ والحـرَجُ
فقـد أباكِرُهـا رِيـاً وأشربُـهـا صِرفاً وأطـرَب أحيانـاً فأمتـزجُ
وقد تقـومُ علـى رأسـي مُغنّيـةٌ فيها إذا رَفعت من صوتهـا غُنُـجٌ
تُرفِّعُ الصـوتَ أحيانـاً وتخفِضُـهُ كما يَطِنُّ ذبابُ الروضـةِ الهَـزِجُ

الحمد لله نجَّاني وخَلَّصَني

الـحـمــد لــلــه نـجَّــانــي وخَـلَّـصَــنــي
مـن ابـن جَـهــراءَ والـبـوصِــيَّ قــد حَـبَـســا
مَـن يَـركـبِ الـبـحـرَ والـبـوصِـيَّ مُـعـتَـرِضــاً
إِلـى حَـضَـوضـى فـبـئـس الـمـركـبُ الـتـمـسـا
أبـلــغ لـديــك أبــا حـفــصٍ مُـغَـلـغَــلَــةً
عَـبــدَ الإلـــه إذا مـــا غـــارَ أو جـلــســا

أرب جمـال 1 - 11 - 2009 04:53 PM

عمرو بن العاص..داهية العرب وفاتح مصر
http://www.moheet.com/image/41/225-300/412940.jpg

عمرو بن العاص بن وائل السهمي قائد إسلامي عظيم تمتع بعقلية قيادية مميزة، بالإضافة لدهاء وذكاء مكنه من اجتياز العديد من المعارك والفوز بها، أعلن إسلامه في العام الثامن للهجرة مع كل من خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وفي الإسلام كان ابن العاص مجاهداً وبطلاً، يرفع سيفه لنصرته، عندما أعلن إسلامه قال عنه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" { أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص }.

لقب "بداهية العرب" لما عرف عنه من حسن تصرف وذكاء، فما كان يتعرض إلى أي مأزق حتى كان يتمكن من الخروج منه، وذلك بأفضل الحلول الممكنة، فكان من أكثر رجال العرب دهاء وحيلة.



حياته
ولد عمرو بن العاص في الجاهلية والده هو العاص بن وائل أحد سادة العرب في الجاهلية، شرح الله صدره للإسلام في العام الثامن من الهجرة، ومنذ ذلك الحين كرس عمرو حياته لخدمة المسلمين فكان قائد فذ تمتع بذكاء ودهاء كبير، قام الرسول "صلى الله عليه وسلم" بتوليته قائداً على الكثير من البعثات والغزوات، فكان احد القادة في فتح الشام ويرجع له الفضل في فتح مصر.



قبل الإسلام
قبل أن يعلن عمرو بن العاص إسلامه كانت له إحدى المواقف مع النجاشي حاكم الحبشة والذي كان قد هاجر إليه عدد من المسلمون فراراً بدينهم من المشركين واضطهادهم لما عرف عن هذا الحاكم من العدل، ولكن قام المشركون بإرسال كل من عمرو بن العاص - كان صديقاً للنجاشي - وعبد الله بن ربيعة بالهدايا العظيمة القيمة إلى النجاشي من أجل أن يسلم لهم المسلمين الذين هاجروا ليحتموا به، فرفض النجاشي أن يسلمهم لهم دون أن يستمع من الطرف الأخر وهم المسلمين ولما استمع لهم رفض أن يسلمهم إلى عمرو وصاحبه.


قال له النجاشي ذات مرة : يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمك؟ فوالله إنه لرسول الله حقًا، قال عمرو: أنت تقول ذلك؟ قال: أي والله، فأطعني، فخرج عمرو من الحبشة قاصدًا المدينة، وكان ذلك في شهر صفر سنة ثمان من الهجرة، فقابله في الطريق خالد بن الوليدوعثمان بن طلحة، وكانا في طريقهما إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" فساروا جميعًا إلى المدينة، وأسلموا بين يدي رسول الله، وكان النجاشي قد أعلن إسلامه هو الأخر.



قال عمرو بن العاص عندما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟، قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟، وما كان أحد أحب إلى من رسول الله "ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأنني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة".



عمرو قائداً حربياً
كانت أولى المهام التي أسندت له عقب إسلامه، حينما أرسله الرسول "صلى الله عليه وسلم" ليفرق جمعاً لقضاعة يريدون غزو المدينة، فسار عمرو على سرية "ذات السلاسل" في ثلاثمائة مجاهد، ولكن الأعداء كانوا أكثر عدداً، فقام الرسول "صلى الله عليه وسلم" بإمداده بمائتين من المهاجرين والأنصار برئاسة أبي عبيدة بن الجراح وفيهم أبو بكر وعمر، وأصر عمرو أن يبقى رئيساً على الجميع فقبل أبو عبيدة، وكتب الله النصر لجيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص وفر الأعداء ورفض عمرو أن يتبعهم المسلمون، كما رفض حين باتوا ليلتهم هناك أن يوقدوا ناراً للتدفئة، وقد برر هذا الموقف بعد ذلك للرسول حين سأله انه قال " كرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، وكرهت أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم " فحمد الرسول الكريم حسن تدبيره.


بعد وفاة الرسول "صلى الله عليه وسلم" وفي خلافة أبي بكر "رضي الله عنه"، قام بتوليته أميراً على واحداً من الجيوش الأربعة التي اتجهت إلى بلاد الشام لفتحها، فانطلق عمرو بن العاص إلى فلسطين على رأس ثلاثة ألاف مجاهد، ثم وصله مدد أخر فأصبح عداد جيشه سبعة ألاف، وشارك في معركة اليرموك مع باقي الجيوش الإسلامية وذلك عقب وصول خالد بن الوليد من العراق بعد أن تغلب على جيوش الفرس، وبناء على اقتراح خالد بن الوليد تم توحيد الجيوش معاً على أن يتولى كل قائد قيادة الجيش يوماً من أيام المعركة، وبالفعل تمكنت الجيوش المسلمة من هزيمة جيش الروم في معركة اليرموك تحت قيادة خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم وتم فتح بلاد الشام، انتقل بعد ذلك عمرو بن العاص ليكمل مهامه في مدن فلسطين ففتح منها غزة، سبسطية، ونابلس ويبني وعمواس وبيت جيرين ويافا ورفح.

كان عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" إذا ذُكر أمامه حصار "بيت المقدس" وما أبدى فيه عمرو بن العاص من براعة يقول: لقد رمينا "أرطبون الروم" "بأرطبون العرب".


فتح مصر
http://www.moheet.com/image/fileimag...63_1332_14.jpg
مسار فتح مصر

بعد أن توالت انتصارات وفتوحات عمرو بن العاص في الشام، توجه نظره إلى مصر، فرغب في فتحها فأرسل إلى الخليفة ليعرض عليه الأمر وكان حينها عمر بن الخطاب متولياً الخلافة، وبعد تفكير وتردد أقتنع عمر بن الخطاب بفكرة عمرو.


وبالفعل قام ابن العاص بإعداد العدد والعتاد من أجل التوجه لفتح مصر فسار على رأس جيش مكون من أربعة ألاف مقاتل فقط، ولكن بعد أن قام الخليفة باستشارة كبار الصحابة في الأمر رأوا ألا يدخل المسلمين في حرب قاسية، وقام عمر بن الخطاب بكتابة رسالة إلى عمرو بن العاص جاء فيها " إذا بلغتك رسالتي قبل دخولك مصر فارجع، و إلا فسر على بركة الله"، وحين وصل البريد إلى عمرو بن العاص وفطن إلى ما في الرسالة، فلم يتسلمها حتى بلغ العريش، فاستلمها وفضها ثم سأل رجاله: انحن في مصر الآن أم في فلسطين؟، فأجابوا : نحن في مصر ، فقال : إذن نسير في سبيلنا كما يأمر أمير المؤمنين".



توالت انتصارات عمرو فدخل بجيشه إلى مدينة الفرما والتي شهدت أول اشتباك بين الروم والمسلمين، ثم فتح بلبيس وقهر قائدها الروماني ارطبون الذي كان قائداً للقدس وفر منها، وبعد أن وصل المدد لجيش عمرو تابع فتوحاته لأم دنين، ثم حاصر حصن بابليون حيث المقوقس حاكم مصر من قبل هرقل، لمدة سبعة أشهر وبعد أن قبل المقوقس دفع الجزية غضب منه هرقل واستدعاه إلى القسطنطينية ونفاه، فأنتهز المسلمون الفرصة وهاجموا حصون بابليون مما اضطر الروم إلى الموافقة على الصلح ودفع الجزية.



توالت فتوحات عمرو بن العاص بعد ذلك في المدن المصرية الواحدة تلو الأخرى حتى بلغ أسوار الإسكندرية فحاصرها وبها أكثر من خمسين ألفاً من الروم، وخلال فترة الحصار هذه مات هرقل وجاء أخوه بعده مقتنعاً بأن لا أمل له في الانتصار على المسلمين، فأستدعى المقوقس من منفاه وكلفه بمفاوضة المسلمين للصلح.


وجاءت عدد من البنود في اتفاقية الصلح هذه منها: أن تدفع الجزية عن كل رجل ديناران ماعدا الشيخ العاجز والصغير، وأن يرحل الروم بأموالهم ومتاعهم عن المدينة، وأن يحترم المسلمون حين يدخلونها كنائس المسيحيين فيها، وان يرسل الروم مئة وخمسين مقاتلاً وخمسين من أمرائهم رهائن لتنفيذ الشروط، وقام عمرو بن العاص بإرسال رسول إلى الخليفة عمر ليبلغه بشارة الفتح، وقد مهد فتح الشام لفتح مصر وذلك بعد ما علمه الروم والأقباط من قوة المسلمين.



عمرو حاكماً لمصر

http://www.moheet.com/image/fileimag...63_1332_13.jpg
جامع عمرو بن العاص


قضى عمرو بن العاص في فتح مصر ثلاث سنوات، وقد استقبله أهلها بالكثير من الفرح
والترحيب لما عانوه من قسوة الروم وظلمهم، وقد كانوا خير العون لعمرو بن العاص ضد الروم، وكان عمرو يقول لهم: يا أهل مصر لقد أخبرنا نبينا أن الله سيفتح علينا مصر وأوصانا بأهلها خيرا، حيث قال الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم": ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لهم ذمة ورحما.

وقد كان عهد ولاية عمرو على مصر عهد رخاء وازدهار فكان يحب شعبها ويحبوه وينعموا في ظل حكمه بالعدل والحرية، وفيها قام بتخطيط مدينة الفسطاط، وأعاد حفر خليج تراجان الموصل إلى البحر الأحمر لنقل الغنائم إلى الحجاز بحراً، وانشأ بها جامع سمي باسمه وما يزال جامع عمرو بن العاص قائماً إلى الآن بمصر، وظل عمرو والياً على مصر حتى جاء عثمان على الخلافة وقام بعزله.



اللقاء الثاني بين الروم والمسلمين
كان الأقباط في فترة حكم الروم يعانون من قسوتهم واضطهادهم، وإجبارهم على ترك مذهبهم واعتناق المذهب الرومي، فجاءت إحدى المواقف الهامة والتي أكدت على مدى احترام المسلمين للديانات الأخرى، فقد كان للأقباط رئيس ديني يدعى بنيامين حين تعرض للقهر من الروم اضطر للفرار، وعندما علم المسلمون بالأمر بعد الفتح أرسلوا إليه ليبلغوه انه في أمان، وعندما عاد أحسنوا استقباله وأكرموه، وولوه رئاسة القبط، وهو الأمر الذي نال استحسان وإعجاب الأقباط بالمسلمين، فأحسنوا التعامل معهم.


جاءت المعركة الثانية بين المسلمين والروم بعد أن علم ملك الروم أن الحامية الإسلامية بالإسكندرية قليلة العدد، فانتهز هذه الفرصة وأرسل بثلاثمائة سفينة محملة بالجنود، وتمكن من اختراق الإسكندرية واحتلالها وعقد العزم على السير إلى الفسطاط، وعندما علم عمرو بن العاص بذلك عاد من الحجاز سريعاً وجمع الجيش من أجل لقاء الروم ودحرهم، وبالفعل تمكن عمرو من قيادة جيشه نحو النصر فكانت الغلبة لجيش المسلمين، ولم يكتفي أبن العاص بهذا بل سارع بملاحقة الروم الهاربين باتجاه الإسكندرية، وفرض عليها حصاراً وفتحها، وكسر شوكة الروم وأخرجهم منها، كما قام بمساعدة أهل الإسكندرية لاسترداد ما فقدوه نتيجة لظلم الروم والفساد الذي قاموا به أثناء فترة احتلالهم للمدينة.

بعد معركة الإسكندرية، وأثناء خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قام بعزل عمرو عن ولاية مصر وولي عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم في عهد معاوية بن أبي سفيان عاد إليها عمرو مرة أخرى واستمر والياً عليها حتى وفاته.

الوفاة
كانت أخر الكلمات التي انطلقت من فمه قبل وفاته " اللهم آمرتنا فعصينا .. ونهيتنا فما انتهينا .. ولا يسعنا إلا عفوك يا ارحم الراحمين"، وقد كانت وفاة عمرو بن العاص في مصر هذه البلد التي فتحت على يديه، وشهدت أزهى عصورها عندما كان والياً عليها، فتوفى عام 43هـ.


ميارى 4 - 5 - 2010 03:30 PM

http://alfrasha.com/up/12653013071411644944.gif

زهرة عمان 7 - 8 - 2010 11:47 AM


سما 7 - 6 - 2012 07:05 PM

شكرا على اختيارك وجهودك
ورودي والتقدير لك

ناجي أبوشعيب 1 - 1 - 2013 05:40 PM

رد: أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة
 
zolz#cc#zolz

هذه موسوعة يا أرب
بارك الله فيك
نعود إليها كلّما احتجنا إلى معلومات
دمت بألف ودّ
إحتراماتي

zolz#cc#zolz

أرب جمـال 15 - 1 - 2013 04:29 PM

رد: أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة
 
شكرا لمروركم وردودكم المميزة
سعدت بتواجدكم
تقديري

عاشق تراب الأقصى 7 - 2 - 2013 12:43 AM

رد: أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة
 
يعطيك العافية على الطرح
شكرا لك وتحيتي

أرب جمـال 10 - 4 - 2013 10:33 PM

رد: أعـلام وشخصيـات ساهمـت فـي بنـاء حضارتنـا العربيـة
 
شكر الله لكم
حسن المتابعة
كل الود والتحية
باقة ورد والتقدير


الساعة الآن 11:03 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى