منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6759)

ميارى 13 - 5 - 2010 06:00 PM

الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
 
الدولة الأموية
عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار

الشيخ الفاضل الدكتور :
علي محمد محمد الصًّلاَّبيَّ حفظه الله



المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون)) (آل عمران ، الآية : 102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء ، الآية : 1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (الأحزاب ، الآيتان : 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد:
هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وقد صدر منها السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، والحسن بن علي، رضي الله عنهم جميعاً، وقد سميت هذا الكتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار ويتحدث هذا الكتاب عن الجذور التاريخية للأسرة الأموية، وشهادة التاريخ بين الهاشميين والأمويين، وموقف بني أمية من الدعوة الإسلامية، وعن الأمويين الذين أسلموا منذ بداية الدعوة الإسلامية وعن المصاهرات بين بني هاشم وبني أمية، وعن شخصية معاوية بن أبي سفيان وعصره رضي الله عنه، فيتطرق لأسمه ونسبه وكنيته وأسرته وعن إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنه، وعن هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما، وعن أخوان وأخوات معاوية ويتحدث عن زوجات معاوية وأولاده وعن إسلام معاوية رضي الله عنه وشيء من فضائله، وعن رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً، ويتكلم الكتاب عن دور بني أميه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلافة الراشدة، ويشير إلى متى بدأ نجم معاوية في الظهور وعن ولايته على دمشق وبعلبك والبلقان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلاقته بعمر رضي الله عنهما، ويبين الكتاب جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام، وعن سنّ نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر، وعن تكوين أسطول إسلامي في البحر، وعن أعمال معاوية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فيوضح فتوحاته في عهده، وإصراره في الطلب من عثمان السماح له بالغزو البحري، وعن غزوه لقبرص واستسلام أهلها وطلب الصلح ثم نقض القبارصة للصلح ثم فتحها، ويتعرض الكتاب لحقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه ويرد الكتاب عن الشبهات التي ألصقت بعثمان رضي الله عنه كاتهامه بإعطاء أقاربه من بيت المال، وتعيينه لأقاربه في مناصب الدولة على حساب المسلمين، ويتطرق الكتاب لأسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه كالرخاء وأثره في المجتمع وطبيعة التحول الاجتماعي في عهده وظهور جيل جديد، واستعداد المجتمع لقبول الشائعات، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات بسبب موانع طبيعية أو بشرية، والمفهوم الخاطيء للورع، وظهور جيل جديد من الطامحين، ووجود طائفة موتورة من الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان رضي الله عنه واستخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس، ودور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة، وموقف معاوية بن أبي سفيان في الفتنة، ويتحدث عن مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك، وعن مقتل عثمان وموقف الصحابة منه، وعن معاوية في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ويتطرق الكتاب إلى اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان، وإلى معركة صفين وإلى تسلسل الأحداث، ابتداءً من إرسال أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان لنعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام، ودوافع معاوية رضي الله عنه في عدم بيعه علي رضي الله عنه ورده على أمير المؤمنين علي، وعن تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام، وإرساله جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل لدعوته للبيعة، ومسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام، وخروج معاوية إلى صفين، وبداية المناوشات بين الطرفين، والموادعة بينهما ومحاولات الصلح ثم نشوب القتال ثم الدعوة إلى التحكيم ويتكلم الكتاب عن مقتل عمّار بن ياسر رضي الله وأثره على المسلمين، وعن المعاملة الكريمة أثناء الحرب المواجهة، ومعاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وعن عدد القتلى، وعن تفقد أمير المؤمنين علي للقتلى وترحمه عليهم، وعن موقف لمعاوية مع ملك الروم في تلك الأحداث، وعن قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين، وعن إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه أن تستمر المعركة وعن نهي أمير المؤمنين علي شتم معاوية ولعن أهل الشام، وعن التحكيم، وعن نص وثيقة التحكيم وعن قصة التحكيم المشهورة وبيان بطلانها، وعن حقيقة قرار التحكيم، ومكان انعقاد المؤتمر، وأشار الكتاب إلى إمكانية الاستفادة من حادثة التحكيم في فض المنازعات بين الدول الإسلامية هذا وقد بينت موقف أهل السنة والجماعة من تلك الحروب، وتكلمت عن تغيير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين، وعن المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وعن استشهاد أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله، ثم تحدثت عن المشروع الإصلاحي الكبير في عهد الحسن بن علي والذي توّج بوحدة الأمة وذلك بتنازل الحسن بالخلافة لمعاوية رضي الله عنهما وأشرت إلى مراحل الصلح وشروطه وأسبابه ومعوقاته، ونتائجه، كما وضحت الفقه الكبير في مقاصد الشريعة وفقه المصالح والمفاسد وفقه الخلاف الذي تميز به الحسن بن علي والذي بنى عليه مشروعه الإصلاحي العظيم والذي ترتب عليه دخول الأمة الإسلامية في مراحل جديدة تمّ فيها بيعة معاوية رضي الله عنه من كافة الصحابة الأحياء وأبناء الأمة ووضحت صفات معاوية رضي عنه والتي من أهمها، العلم والفقه، والحلم والعفو، والدهاء والحيلة، وعقليته الفذة وقدرته على الاستيعاب، وتواضعه وورعه، وبكاؤه من خشيت الله، ونقلت ثناء العلماء على معاوية، وأشرت إلى دخول دولة بني أمية في خير القرون والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم[1]، وتحدثت عن عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل أهل الشام، وعن أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه، وعن الشورى، وحرية التعبير وعن سياسته الداخلية، من الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة، وأبنائهم، وحسن علاقته مع الحسن والحسين وابن الزبير وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم وبينت بيان بطلان تعميم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة، الأموية؟ وزعم بعض المؤرخين بأن معاوية سمّ الحسن بن علي، فأثبتت بالحجج العلمية والبراهين الساطعة بطلان ذلك أيضاً، وتعرضت لموقف معاوية من قتلة عثمان بعد ما أصبح أمير المؤمنين، وكذلك مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، وموقف عائشة أم المؤمنين من مقتله كما أوضحت حرص معاوية على مباشرة الأمور بنفسه وتوطين الأمن في خلافته، فتحدثت عن مجلسه في يومه، وعن الدواوين المركزية التابعة له، كديوان الرسائل، وديوان الخاتم، وديوان البريد وعن نظام الحجابة، والحرس، والشرطة، وعن حسن اختياره للرجال والأعوان وعن استخدامه للمال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب وإتباعه سياسة الشدة واللين، وسياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم، واتخاذه سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم، وعن اهتمامه بجهاز الاستخبارات، وبناء الجيش الإسلامي وتطويره وعن فقهه الكبير في سياسة الموازنات بين القبائل، والعشائر، وأعيان المجتمع وعن سياسته مع الأسرة الأموية، وتكلمت عن حياته في المجتمع وعن اهتماماته العلمية والتاريخية والشعرية واللغوية والعلوم التجريبية، وأفردت مباحثاً في علاقته بالخوارج، ووسائله في تحجيم دورهم وإضعافهم، وبينت النظام المالي في عهده، ومصادر دخل الدولة، كالزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والصوافي، والغنائم، وعن النفقات العامة، كالنفقات العسكرية، والإدارية، والاجتماعية واهتمامه بالزراعة والتجارة الداخلية والخارجية، والحرف والصناعات، وأثرت قضية الشبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية وناقشتها بعلم وأنصاف، كالتفرقة في العطاء وكذبة أعطاء مصر طعمه لعمرو بن العاص وكالتوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار، ومظاهر النزف عند الأمويين، وأفردت مبحثاً عن القضاء في عهد معاوية، والدولة الأموية، وصلته بالعهد الراشدي وتخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء وفصل السلطات، ومرتبات القضاة وتسجيل الأحكام والأشهاد عليها، وأعوان القضاة، كالمنادي والحاجب، والترجمان أو المترجم، والمراقبة والمتابعة وعن مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي وعن اختصاص القضاة وذكرت أسماء أشهر القضاة في عهد معاوية كما أشرت إلى ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً وإلى خطاب عمر بن الخطاب إلى معاوية رضي الله عنهما في القضاء، وتكلمت عن مؤسسة الشرطة في عهد معاوية وواجباتها، كحماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل، ومعاقبة المذنبين والخارجين عن القانون، وتنفيذ العقوبات الشرعية، وعن قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة كالحرس والعرفاء، وصاحب الاستخراج أو العذاب، وجهاز الحسبة، ونظام المراقبة، ومؤسسة الدرك، وتحدثت عن مؤسسة الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه وأهم الأقاليم التابعة لدولته وأسماء أشهر ولاته وأهم أعمالهم في تلك الأقاليم، وعند ما تحدثت عن المدينة النبوية ترجمت لشخصية أبي هريرة رضي الله عنه حيث توفي بها عام 58 هـ أو 59 هـ وقد عاش في عهد معاوية ما يقرب من ثمانية عشر سنة وقد تعرض هذا الصحابي الجليل لهجمة ظالمة من قبل أعداء الصحابة في القديم والحديث وتلقف تلك الاتهامات الباطلة مجموعة من المستشرقين فرأيت لازماً عليّ أن أدافع عن هذا الصحابي الجليل الذي يعتبر من أكبر رواة السنة النبوية الشريفة، فعرفت به وبشيء من حياته، كعبادته وعفافه وحلمه وعفوه، واهتمامه بالعلم ورددت على الشبهات التي أثيرت حوله والتي هدفها التشكيك في ما وصل إلينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالطعن في هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان لسان حالي في مجادلة أولئك الكذابين قول الشاعر:

وإذا اضطررت على الجدال ولم تجد

لك مهـربا وتلاقت الصَّفان
فاجعل كتـاب الله درعـاً سابغاً
والشرع سيفك وابد في الميدان
والسُّنةُ البيضـاء دونـك جنـة
واركب جواد العزم في الجولان
واثبت بصبرك تحـت ألوية الهدى
فالصـبر أوثق عـدة الإنسان
واطعن برمح الحـق كـل معاند
للـه درُّ الفــارس الطعـان
واحمـل بسـيف الصِّـدق حملة
مخلص متجرداً للـه غير جبان

هذا وقد وصفت حركة الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه وقدمت بين يدي حركة الفتوحات مقدمه تناقش الشبهات التي ألصقت كذباً وزوراً وبهتاناً بحركة الفتوحات إن معاوية رضي الله عنه حمى وعزّز منجزات الموجة الأولى في حركة الفتح التي قادها وخطط لها الخلفاء الراشدون، فالموجة الثانية لحركة الفتوح هي التي بدأت في عهد معاوية نفسه واستمرت فيما بعد لكي تبلغ أقصى أتساعها في عهد الوليد بن عبد الملك، لقد وصفت ما قام به معاوية من حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية واهتمامه بفتح القسطنطينية، وتخطيطه الاستراتيجي للاستيلاء عليها، كاهتمامه بدور صناعة السفن في مصر والشام وتقوية الثغور البحرية بهما، واستيلاؤه على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط، وتحصينه أطراف الشام الشمالية، وقد قام بحصار القسطنطينية، وقد توفي أبو أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية، وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى ما يمكن من أرض العدو ، وهذه صورة رائعة تدل على تعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيداً عليه بعد مماته، وهذا مالا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق.

هذا وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة براً وبحراً وقد أرهق البيزنطيين وأذاقهم ألوان الضنك والخوف وأنزل بهم خسائر فادحة بالرغم من كل ذلك لم يستطع اقتحام القسطنطينية بسبب عوامل عديدة سيراها القاريء في الكتاب بإذن الله تعالى، وقد دخل معاوية في علاقات سلمية مع الدولة البيزنطية وتم تبادل المراسلات والخبرات، والسفراء فيما بين الدولتين الأموية والبيزنطية وواصل معاوية فتوحاته في الشمال الإفريقي، وانطلقت حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه في عهده، وبرز اسم عقبة بن نافع في تلك الفتوحات وقام ببناء مدينة القيروان بتونس اليوم وكان ذلك في عهد معاوية وقد أصبحت القيروان مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي بالمغرب وعاصمتها العلمية وسيمضي القاريء مع الفتوحات في الشمال الإفريقي حتى استشهاد عقبة رحمه الله تعالى وتحدثت في فتوحات معاوية في الجناح الشرقي للدولة الأموية في خراسان وسجستان وما وراء النهر، وعن فتوحات السند في عهده ولخصت أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات والتي من أهمها، أثر الآيات والأحاديث النبوية في نفوس المجاهدين، وسنن الله في الفتوحات، كسنة الله في الاتحاد والاجتماع، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة التدافع، وسنة الله في الظلم والظالمين، وسنة الله في المترفين، وسنة الله في الطغيان والطغاة، وسنة التدرج، وسنة تغيير النفوس، والتخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية، وسياسته تجاه الروم، وجبهة الشمال الإفريقي، وجبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر، وإدارته للشورى في حركة الفتوحات، ومركزية القيادة والإمداد في إدارته، ونظام الألوية والرايات واهتمامه بالعيون والبريد، والحدود البرية للدولة، واهتمامه بالأسطول والحدود البحرية، وبديوان الجند والعطاء، والأثر العلمي والاقتصادي والاجتماعي في عهده، وتحدثت عن بعض كرامات المجاهدين في عهده.
إن من فضائل الدولة الأموية في عهد معاوية وعبد الملك وبنيه الوليد وسليمان الفتوحات الواسعة التي تمت على أيديهم والتي امتدت ديار الإسلام نتيجة ذلك بين الصين في الشرق وبلاد الأندلس وجنوبي فرنسا في الغرب وكان الخلفاء يرسلون أبناءهم إلى الجهاد ويشهدون القتال وكان الصحابة وكبار التابعين من ضمن تلك الجيوش، فحركة الفتوحات أشرفت عليها الدولة وتفاعل معها المجتمع الإسلامي بكافة ألوانه من العلماء والفقهاء والتجار والزهاد والعباد وتحركت تلك الجيوش في المشارق والمغارب، كان الفاتحون لتلك الشعوب المترامية الأطراف قد جاؤوها بالعدل والإحسان ومطالب الروح ومطالب البدن، وجاءوا إليهم بدين الإسلام الذي يقرّر الإنسانية بمعناها الصحيح في هذه الأرض لذلك كان الإسلام سريع المدخل إلى نفوسهم، لطيف التخلل في الأفكار، قوي التأثير على الألباب والعقول وجاء الفاتحون لتلك الشعوب بالحقائق التي سعد بها أصحاب محمد وأسعدوا بها تلك الأمم قال الشاعر:
الله أكبـر إن ديــن محمــد
وكتابه أقوى وأقـوم قيـلا
طلعت بـه شمس الهـداية للورى
وأبى لها وصف الكمال أفولا
والحـق أبلـج فـي شريعته التي
جمعت فروعاً للهدى وأصولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده
طلع الصباح فأطفئوا القنديلا

لقد كانت الفتوحات الكبرى في عهد معاوية والدولة الأموية دليلاً ملموساً على حيوية الأمة وتفاعلها مع دين الله وحرصها على هداية الشعوب.

هذا وقد تكلمت عن فكرة ولاية العهد والخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد، من مشاورات، وحملات إعلامية وقبول أهل الشام لبيعة يزيد، وبيعة الوفود، وطلب البيعة من أهل المدينة واعتراض عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم عن تلك البيعة وعن أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد، كالحفاظ على وحدة الأمة، وقوة العصبية القبلية، ومحبة معاوية لابنه وقناعته به، وعن الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد، وعن المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية وعن الأيام الأخيرة من حياته وعن دعائه وهو في سكرات الموات وقوله: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل ما لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة مهرب إلا إليك ثم مات وتحدث الكتاب عن عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وأهم صفاته وبيعته وموقف الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير منها والأسباب التي أدت إلى خروج الحسين والفتوى التي بنها على خروجه، وعزم الحسين على الذهاب إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في ذهابه إليها، وعن موقف يزيد من أحداث الكوفة ودور عبيد الله بن زياد في القضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره وعن أحداث معركة كربلاء واستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه وعن المواقف الرائعة التي كانت بجانب الحسين رضي الله عنه وموقف يزيد بن معاوية من قتله ومن أبناء الحسين وذريته وبينت من المسئول عن قتل الحسين وذكرت أقوال الناس في يزيد بن معاوية وهل يجوز لعنه؟ وحذرت من الأساطير التي نسجت حول مقتل الحسين رضي الله عنه ووضعت أهم الدروس والعبر والفوائد من سيرته في نقاط والتي كان من أهمها، هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء، وآداب التعامل مع المصائب في الإسلام والتحقيق في مكان رأس الحسين، وحكم الإسلام من تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين وقدسية كربلاء، وهدى الإسلام في زيارة القبور، والبناء، عليها واتخاذها مساجد، وخروج الحسين رضي الله عنه، واستغلال القوى المضادة للإسلام لمقتله وحادثة كربلاء ثم تحدثت عن وقعة الحرّة، وما قيل حول انتهاك الأعراض في تلك الوقعة ودواعي فشل أهل المدينة في تلك المعركة، وتكلمت عن حركة ابن الزبير في عهد يزيد، وأسباب اختيار ابن الزبير لمكة في مقاومته للحكم الأموي، وأسباب خروجه عليهم والجهود السليمة التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير، والجهود الحربية أيضاً، وحصار الكعبة وضربها بالمنجينف واحتراقها ووفاة يزيد بن معاوية المفاجيء، ثم تحدثت عن خلافة معاوية بن يزيد ومدة حكمه وتنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى ثم ذكرت خلافة عبد الله بن الزبير. وشيء من سيرته وصفاته وبيعة الناس له بالخلافة وكون بيعته كانت شرعية، فقد بايعه معظم المسلمين إلا أقليم الأردن، وبعض الشخصيات المهمة بالحجاز كعبد الله بن عمر وابن عباس ومحمد بن الحنيفة ثم تعرضت لخروج مروان بن عبد الحكم على ابن الزبير وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط في حسم الصراع لصالح البيت الأموي، وتحدثت عن ضم مصر للدولة الأموية ومحاولتها لإعادة العراق والحجاز لهيمنتها، وعن تولي عبد الملك الزعامة الأموية بعد وفاة أبيه مروان وبينت سياسته الداخلية وترتيبه للأولويات في الصراع حتى استطاع القضاء على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأشرت على أهم أسباب سقوط خلافة ابن الزبير رضي الله عنه ثم دخلت في عهد عبد الملك بن مروان، وصراعه مع الخوارج، ودور المهلب بن أبي صفرة في القضاء على الخوارج الأزارقة واهتمام الدولة الأموية بمحاربة الخوراج الصفرية، وترجمت لشخصيات من الخوارج كقطري بن الفجاءة وعمران بن حطان وذكرت شيئاً من إشعارهم وأشرت إلى أسباب فشل الخوارج في عهد عبد الملك، وقمت بدارسة لثورة عبد الرحمن بن الأشعث وأسباب خروجه وموقف العلماء منها وأسباب فشلها وتكلمت عن جهود عبد الملك في توحيد الدولة والقضاء على الثورات الداخلية وعن النظام الإداري وأهم الدواوين التي كانت في عهده كديوان الرسائل،والعطاء والخراج والخاتم، والبريد، وعن دوره في تعريب الدواوين وأسباب ذلك والنتائج التي ترتبت عليه، وعن إدارته للإقليم وألمحت للخطوط العامة لسياسته في إدارة شؤون الدولة، كالمشاورة واعتماده على أهل الشام، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ومتابعة أخبار والولاة، وتقديم الأقرباء في المناصب وحفظ التوازن القبلي، وتسامحه مع أهل الكتاب واحترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع، وتحجيم الولاة إذ أرادوا تجوز الخطوط الحمراء،..الخ وترجمت لأهم ولاته كالحجّاج بن يوسف الثقفي، وذكرت النظام المالي في عهده وأشرت إلى القطاع الزراعي والصناعي، ودور عبد الملك في إحداث دور ضرب العملة، وتعريب النقد وتطرقت للعمارة والبناء والنظام القضائي والشرطة في عهده، واهتمامه بالعلماء والشعراء، وأفردت فصلاً كاملاً عن الفتوحات في عهده وعهد ولديه الوليد وسليمان لكي نعطي صورة متكاملة عنها بسبب ترابطها ببعضها، ولخصت أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات، كأسباب دخول الإسلام في البلاد المفتوحة، كعالمية الدعوة، والمعاملة السمحة الكريمة من المسلمين، وكتفسير حركة التعريب بين الشعوب من هجرة القبائل العربية إلى البلاد المفتوحة، وتعريب الدواوين وتفوق الحضارة الإسلامية..الخ وتحدثت عن عقد عبد الملك لولاية العهد ثم لأبنه الوليد ثم سليمان وموقف العالم الجليل سعيد بن المسيب من ذلك وما تعرض له من الابتلاء بسبب ذلك، وذكرت وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته ووصيته لبنيه ثم دخلت في عهد الوليد بن عبد الملك وتحدثت عن أهم أعماله الحضارية والإنسانية، من توسيع المسجد النبوي، وبناء المسجد الأموي، والمستشفيات في عهده، وكفالة الدولة للمحتاجين وتطوير الطرق، وغير ذلك من الأعمال. وترجمت لزوجته أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، فذكرت خشيتها لله وجودها وكرمها، وبينت بطلان ما ينسب إليها في كتب الأدب في قصتها المكذوبة مع وضاح اليمن وحذرت من الأكاذيب والأباطيل التي تذكر أحياناً في كتب التاريخ وأدب في حق مثل هذه التابعية الجليلة ثم دخلت في عهد سليمان بن عبد الملك وتحدثت عن سياسته العامة، مفهوم الشورى عنده وسياسته في اختيار الولاة وسياسته تجاه الحركات المعارضة وعلاقته بالعلماء وتقريبه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، ونسفت بعض الشبهات الملصقة بسيرته كوصف بعض المؤرخين له بأنه المصيبة العظمى في الأكل فبنيت بطلان ذلك ثم ذكرت جهود رجاء بن حيوة في تولية عمر بن عبد العزيز ثم دخلت في عهد الإصلاحي الكبير والمجدد الشهير عمر بن عبد العزيز، فتحدثت عن حياته وسيرته وطلبه للعلم وعن أهم أعماله في عهد الوليد وسليمان وعن خلافته وبيعته ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى والعدل وسياسته في رد المظالم وعزله لجميع الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي وأهل الذمة وإقامة العدل لأهل سمرقند وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية التجارة والكسب، وذكرت أهم صفاته، كشدة خوفه من الله تعالى، وزهده، وتواضعه وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرعه ودعاؤه واستجابة الله له، وتحدثت عن معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز، كالشورى، والأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء، وأحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، وعن شروط المجدد، كأن يكون معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج وأن يكون عالماً مجتهداً، وأن يشمل تجديده ميدان الفكر والسلوك وأن يعم نفعه أهل زمانه، وتكلمت عن اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة والجماعة، في توحيد الألوهية وفي باب أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفي مفهوم الإيمان والإيمان باليوم الآخر والمعتقدات الغيبية، كعذاب القبر ونعيمه والمعاد، والميزان والحوض والصراط والجنة والنار ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة والدعوة للاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وموقفه من الصحابة والخلاف بينهم وموقفه من أهل البيت وتحدثت عن معاملته للخوارج والشيعة والقدرية وعن حياته الاجتماعية، واهتمامه بأولاده وأسرته ومنهجه في تربيته لأولاده كاختيار المعلم والمؤدب الصالح، وتحديد المنهج العلمي وتحديد طريقة التأديب والتعليم، وتحديد أوقات وأولويات التعليم، ومراعاة المؤثرات التعليمية وعن نتائج ذلك المنهج وتأثر ابنه عبد الملك به، وتكلمت عن حياته مع الناس، واهتمامه بإصلاح المجتمع، وتذكيره الناس بالآخرة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإنكاره العصبية القبلية، وتقديره لأهل الفضل وقضاؤه ديون الغارمين، وفك أسرى المسلمين، وإغناؤه المحتاجين عن المسألة، ودفع المهور من بيت المال، وجهوده في التقريب بين طبقات المجتمع، ومعاملته للشعراء، واهتمامه الكبير بالعلماء، ومشاركتهم الفعّالة معه لإنجاح مشروعه الإصلاحي، فترقبوا منه وشدوا أزره للسير في منهجه التجديدي، وتعهدوه بالنصح والتذكير بالمسؤولية، واستعدادهم لتولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها، وتحدثت عن المدارس العلمية في عهده وعهد الدولة الأموية، كمدرسة الشام والحجاز، والعراق ومصر..الخ، وعن منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم، وجهودهم في خدمة السنة ودور عمر بن عبد العزيز في تدوينها، وأشرت إلى منهج التزكية والسلوك عند التابعين وأخذت مدرسة الحسن البصري مثالاً على ذلك فتحدثت عنها وعن تلاميذها كأيوب السختياني، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وبينت براءة الحسن البصري من الاعتزال وتحدثت عن علاقة الحسن البصري بعمر بن عبد العزيز ورسائله إليه، التي يبين فيها صفات الإمام العادل في نظره، وذكرت موقف عمر بن عبد العزيز وأسباب رفعه لحصار القسطنطينية واهتمامه بالدعوة الشاملة، ووضعه لقانون التفرغ للدعاة والعلماء وحضه على نشر العلم وتعليمه وتوجيه الأمة إلى أهميته، وإرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا وغيرها لتعليم الناس وتربيتهم على الكتاب والسنة، وإرساله الرسائل الدعوية إلى الملوك بالهند وغيرها، وتشجيعه غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأفردت مبحثاً لإصلاحاته المالية وسياسته الحكيمة في ذلك وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل ورفع الظلم، فبينت أهداف السياسة الاقتصادية عنده، من إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل وتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، وأشرت لتحقيق تلك الأهداف كتوفير المناخ المناسب للتنمية ورد الحقوق لأصحابها وفتح الحرية الاقتصادية بقيود، وإتباع سياسة زراعية جديدة تمنع بيع الأرض الخراجية، وتعتني بالمزارعين وتخفف الضرائب عنهم، وحث الناس على الإصلاح والإعمار وإحياء أرض الموات، وتوفير مشاريع البنية التحتية، وتحدثت عن سياسته في الإنفاق العام، كإنفاق عمر على الرعاية الإجتماعية وترشيد الإنفاق في مصالح الدولة، كقطع الامتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين، وترشيد الإنفاق الإداري والحربي وتكلمت عن المؤسسة القضائية في عهده وبعض اجتهاداته الفقهية كرأيه في الهدية لولاة الأمر ونقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية والقضائية وتحدثت عن سياسته الإدارية وأشهر ولاته وحرصه على انتقاء عماله من أهل الخير والصلاح، وإشرافه المباشر على إدارة شئون الدولة وعن قدراته في التخطيط والتنظيم وعن أسلوبه في الوقاية من الفساد الإداري، كالتوسعة على العمال في الأرزاق وحرصه على الوقاية من الكذب، والامتناع عن أخذ الهدايا والهبات والنهي عن الإسراف والتبذير، ومنع الولاة والعمال من ممارسة التجارة، وفتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية، ومحاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال، وتطرقت إلى مفهوم المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز واهتمامه بمبدأ المرونة، وتوظيفه للوقت في خدمة الدولة والرعية، وممارسته لمبدأ تقسيم العمل في الإدارة وحرصت على بيان بواعث عمر بن عبد العزيز في إصلاحه وتجديداته، المالية والسياسية والإدارية،..الخ وأشرت إلى حرصه على تنفيذ أحكام الشريعة على الدولة والأمة والمجتمعات والأفراد وأشرت إلى آثار التمسك بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي الخلافة الراشدة على دولته، من التمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف وبركة العيش ورغده وعشت مع الأيام الأخيرة من حياة هذا المصلح الكبير حتى وفاته.
إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة ومحاولته العظيمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة، ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية[2].
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد الكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للإنهيار في كل ساعة، وإنها ليست إلا حُلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (البقرة ، الآية : 111).
ولقد سار نور الدين زنكي المتوفى عام 568 على منهج عمر بن عبد العزيز وأخذه نموذجاً ومثالاً له في القدوة والتأسي، فآتت محاولته الإصلاحية ثمارها للأمة وساهمت في نهوضها وعودة الوعي لها وتغلبت على أعدائها الصليبيين وطهرت بيت المقدس على يدي تلميذه، القائد الأشم، البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي، كثر الله من أمثاله في جيلنا.
إن الإصلاح ـ كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام ـ هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس قال شعيب عليه السلام لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك: ((قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)) (هود ، الآية : 88).
وقد اضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر ـ بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وسار على منهاج النبوة خلفاؤه الراشدون، وعلماء الأمة الأبرار كعمر بن عبد العزيز، والأمة الآن في أشد الحاجة لمعرفة هدي المصلحين ابتداء من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد اصابها التخلف والتيه والتفرق والضعف والاستكانة،
إن فقه حركة التاريخ الإسلامي يرشدنا إلى أن عوامل النهوض وأسباب النصر كثيرة منها صفاء العقيدة، ووضح المنهج، وتحكيم شرع الله في الدولة، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله وقدرتها في التعامل مع سنن الله في تربية الأمم وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة علل المجتمعات وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين واليهود والملاحدة والفرق الباطنية، والمبتدعة وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه، فقضايا فقه النهوض، والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلا من فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وارتبط بالفقه الراشدي المحفوظ عن سلفنا العظيم، فعلم معالمه وخصائصه وأسباب وجوده وعوامل زواله واستفاد من التاريخ الإسلامي وتجارب النهوض، فأيقن بأن هذه الأمة ما فقدت الصدارة قط وهي وفية لربها ونبيها صلى الله عليه وسلم وعلم بأن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية فجرح مميت، والثقافة الصحيحة تبني الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، على قواعدها المتينة من كتاب الله وسنة رسوله، وهدى الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم، وعبقرية البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا بعد توفيق الله وحفظه.
إن سيرة عمر بن عبد العزيز تمدنا بالمفهوم الصحيح لكلمة الإصلاح للمفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهماً صحيحاً وطبّقوه تطبيقاً، سليماً، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرَّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله حتى أصبح من المسلم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجيء، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائماً نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلاً، ويتم ذلك بتغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم[3].
إن عمر بن عبد العزيز نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه، قال الشاعر أحمد رفيق المهدوي الليبـي:
فإذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليـه بالأرواح

هذا وقد تحدثت عن عهد يزيد بن عبد الملك وهشام، وعهد الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، وأشرت إلى أهم أعمال يزيد وهشام واعتبرت وفاة هشام، بداية الانحدار والضعف للدولة الأموية، وتعرضت للدعوة العباسية وجذورها التاريخية ومشروعها الذي قدمته لاتباعها في المرحلة السرية والعلنية وتكلمت عن قيادتها، وهيكلها التنظيمي والبعد التخطيطي وقراءة الواقع عند زعمائها، وفقهها الحركي المستمد من ابن عباس ومتى أعلنت الثورة العباسية؟ وتحدثت عن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد وجهوده في القضاء على الثورات التي اندلعت في عهده؟ وعن انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب، وافردت مبحثاً لأسباب سقوط الدولة الأموية وناقشتها من خلال سنن الله في حركة المجتمعات وبناء الدول وسقوطها، ومن الأسباب التي ذكرتها، الثورة المضادة على حركة عمر بن عبد العزيز الإصلاحية، والظلم والترف والانغماس في الشهوات، ونظام ولاية العهد، وتعطيل الخيار الشوري، والثورات ضد النظام الأموي كثورة الحسين بن علي رضي الله عنه، وثورة زيد بن علي بن الحسين، وثورات الخوارج المستمرة، ومن الأسباب التي ذكرتها العصبية، والموالي، وفشل الأمويين في إيجاد تيار حضاري، والنزاع الداخلي بين الأسرة الحاكمة، وفشلهم في آخر عهدهم في تكوين جيش نظامي مرتبط بالدولة وموالٍ لها ومدافع عن شرعيتها، وأشرت إلى أسباب فشل مروان في إنقاذ الخلافة الأموية، فذكرت، عدم شرعيته ونقله لعاصمة الدولة إلى حرّان، وعدم قدرته على تنظيم حكومة مركزية قوية، واحتقاره للخصوم في خراسان، والاستبداد بالرأي، وإبعاد الأولياء وتقريب الأعداء، ولم يلجأ إلى المال والسياسة في تفتيت الخصوم، وشؤم بدعة الجهمية على الدولة، وإنحلال الضبط، وتجاوز الاحتياط وضعف الثقة بينه وبين رجاله وبغض الناس له، وخذلان أهل الشام له في معركة الزاب، وتكلمت عن الدعوة العباسية وكيف استفادت من تلك الأسباب؟ وفي نهاية الكتاب قمت بدراسة علمية لبعض الكتب التي ساهمت في تشوية تاريخ صدر الإسلام كالإمامية والسياسة المنسوب زوراً لابن قتيبة، وكتاب الأغاني للأصفهاني وتاريخ اليعقوبي، ومروج الذهب للمسعودي، وحذرت من بعض المستشرقين الذين عملوا على تشويه التاريخ الإسلامي وطمس حقائقه الناصعة ثم خاتمة الكتاب.

إن تاريخ الدولة الأموية تعرض لهجمة شرسة من قبل خصومه وأعدائه، وحاولوا طمس كل ما لهم من فضائل وإيجابيات وتوسعوا في ذكر السلبيات وافترى عليهم الكذب فنسب لهم ما لم يكن منهم، ويعود ذلك إلى كتابة التاريخ إنما كانت في عهد خصومهم السياسيين من بني العباس هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن هذه الكتابة كانت بأيد شيعية حاقدة لا تعرف الإنصاف ولا العدل ولا تتكلم بعلم ولا معرفة وقد تحدث الدكتور حمدي شاهين في كتابه عن الدولة الأموية المفترى عليها عن أسباب تزوير التاريخ الأموي، ومناهج المؤرخين في كتابتها فمن أراد التوسع فليرجع إليه وأما عن منهجي في كتابة الدولة الأموية فقد التزمت بمنهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين والذي من قواعده، الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين، وتقديم حسن الظن بالمسلم، والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وإنصاف لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع، والعدل في وصف الآخرين والعبرة بكثرة الفضائل، والنظر في حال الجارح، والتثبت من الأخبار، وغير ذلك من القواعد المعروفة عند أهل السنة وقد تركت الحديث عن الدولة الأموية بالمغرب لقناعتي بأن دولة عبد الرحمن الداخل لها علاقة أصيلة بتاريخ الأندلس وتعتبر جزءاً من تاريخها لا يمكن فصله.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الثلاثاء الساعة الخامسة وثمان دقائق بعد صلاة العصر بتاريخ 2/ربيع الآخر/1426 الموافق 10/5/2005م/
والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين ساهموا في إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) (النمل ، الآية : 19). قال تعالى: ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم)) (فاطر ، الآية : 2). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربا العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصًّلاَّبيَّ


البخاري رقم 6695 .[1]

في التأصل الإسلامي للتاريخ د. عماد الدين خليل صـ62 .[2]

آثار الإمام محمد بشير الإبراهيمي (2/6) .[3]

ميارى 13 - 5 - 2010 06:03 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

الجذور التاريخية للأسرة الأموية :
ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي بنو أمية مع بني هاشم، وكان بنو عبد مناف يتمتعون بمركز الزعامة في مكة، لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش.. وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهم الرياسة عليها[1] .

أولاً : شهادة التاريخ بين الهاشميين والأمويين :
كان بنو عبد مناف بن قصي وحدة واحدة في محاولتهم اقتسام السلطة في مكة مع بني عمهم عبد الدار بن قصي، الذي فضله والده على سائر أبنائه، رغم شرفهم عليه، وجعل له الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان زعيمهم في هذه المحاولة هو عبد شمس، أبو أمية، إذ كان أس بني عبد مناف، وتفرقت قريش على ذلك بين فريقين، عبد مناف وعبد الدار، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسراً[2].. وهكذا كانت السلطة في مكة عبارة عن مراكز نفوذ تقررها الأهمية الاقتصادية، دون أن يكون لأسرة ما أو زعيم ما السيادة الكاملة على غرار ما كان لقصي زعيم قريش الأول[3] .. وكذلك اشترك بنو عبد مناف معاً في جهودهم لتنظيم التجارة بين مكة وما حولها[4]، وهكذا كانوا يداً واحدة تتحرك في تفاهم وتآلف، فلما ماتوا رثاهم الشعراء معاً، دون تفريق بينهم تماماً كما كانوا يمتدحونهم معاً[5]، وهكذا تقتضي طبيعة الحياة العربية في الجاهلية أن يتناصر أبناء الأب الواحد، وأن تجتمع كلمتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا[6]، وأما الروايات التي تزعم وجود عداء مستحكم بين بني هاشم وبني عبد شمس وأميه قبل الإسلام، فهي واهية الأسانيد، لا تثبت، فهي تروي أن هاشماً وعبد شمس ولدا ملتصقين ففصل بينهما بالسيف، فكان بين أبنائهما الدماء لأجل ذلك[7]، فهذه رواية لقيطة ليس لها راوي، تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال، ويكذبها ما رواه ابن اسحاق من أن عبد شمس كان أسن بني عبد مناف[8] والروايات التي تروي أن منافرات حدثت بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وبين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية[9]، وكلتا الروايتين ترويان عن هشام الكلبي وهو رواية شيعي كذاب يرويهما كلتهما عن رجال مجهولين لا يعرف أسماءهم[10]، إذ إن هذه الروايات كما يبدو واضحاً من سندها المعتل ومتنها المصطنع كانت صدى لما حدث فيما بعد من صراع بين بني أمية وبني هاشم حاول الرواة أن يجعلوا له سنداً تاريخياً ثابتاً، وتظل حقيقة

[1] النجوم العوالي للعصامي (3/2) .

[2]السيرة النبوية لابن هشام (1/137 ـ 138 ، 141) .

الحجاز والدولة الإسلامية صـ 87 .[3]

تاريخ الطبري (2/252) .[4]

السيرة النبوية لابن هشام (1/144 ـ 148) .[5]

الدولة الأموية المفترى عليها صـ 122 .[6]

النزاع والتخاصم للمغريزي صـ 181 .[7]

السيرة النبوية لابن هشام (1/137) .[8]

النزاع والتخاصم صـ 181، الدولة الأموية شاهين صـ 122 .[9]

الدولة الأموية المفترى عليها صـ 122 .[10]




ميارى 13 - 5 - 2010 06:10 PM

العلاقة الطيبة بين الفريقين لا شك فيها[1] ولذلك يقول ابن خلدون : كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدة والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش: وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم هما جميعاً ينتمون لعبد مناف، وينتسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً والعزة إنما هي بالكثرة، قال الشاعر: وإنما العزة للكاثر[2] .. ولعل ما يشير إليه ابن خلدون من تفوق بني أمية قد اتضح قبيل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات عبد المطلب بن هاشم الذي ورث شرف أبيه وبرز نجم أبي سفيان بن حرب فذلك ما يبدو من هذا الوصف الدقيق لطبيعة العلاقة بين بين بني أمية وبني هاشم على لسان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما سئل: أيكم كان أشرف أنتم أو بنو هاشم؟ فأجاب: كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله، فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف[3]؟ . إن كل ذلك لا ينفي احتمال وجود نوع من التنافس بين الجانبين قبل الإسلام، في ضوء ما نعرف من طبيعة الحياة العربية في مكة قبل الإسلام، ولكنه تنافس يحدث بين الإخوة أحياناً، وبين أبناء الأب الواحد، غير أنه لم يتطور ليصبح تربصاً وعداء كما يزعم المتزيدون[4]، ولدينا من شواهد التاريخ ما يدل على قوة العلاقة بين بني هاشم وبني أمية، فقد كان عبد المطلب بن هاشم ـ زعيم الهاشميين في عصره ـ صديقاً لحرب بن أمية ـ زعيم الأمويين ـ كما كان العباس بن عبد المطلب ابن هاشم صديقاً حميماً لأبي سفيان بن حرب بن أمية، وفي قصة إسلام أبي سفيان عند فتح مكة، ودور العباس فيها أكبر دليل على ذلك، كما سنبينها في الصفحات القادمة بإذن الله، والغريب أن المقريزي الذي ألف كتاباً خاصاً عن علاقات الهاشميين والأمويين وجعل محوره النزاع والتخاصم ، يعترف بالصداقة الوطيدة التي كانت بين العباس وأبي سفيان[5]، فإذا كانت الصداقة الوطيدة قائمة، ووطيدة بين زعماء البيتين ـ الأموي والهاشمي ـ وهما ابناء أب واحد، وهو عبد مناف بن قصي، فإن الحدس بتأصيل النزاع بينهما بعد الإسلام والرجوع به إلى ما قبل الإسلام لا سند له من تاريخ[6] .
إن الكتاب المنسوب للمقريزي "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، لا يمكن أن أن يتصور عاقل أن يد المقريزي قد خطت حرفاً واحداً من هذا الكتاب. لأن المقريزي ـ لا يمكن أن ينزل إلى هذا الدرك من إلغاء العقل، والجهل بالأحكام، فمؤلف هذا الكتاب ألفه صاحبه في عصر الإنحدار الطائفي، والتهافت العاطفي، وتخلى فيه عن صفة المؤرخ، وبعد عن سجية العلماء، حيث جعل هذا الكتاب متنفساً عن بغضاء مكتومة، وحقد دفين، جعلها أساساً لحكمه وشعاراً لكتابه[7]، ويرى الدكتور إبراهيم شعوط أن الكتاب منسوب للمقريزي[8]، والذي يهمنا أن ما قرّره صاحب الكتاب من أن العداوة مستحكمة بين بني أمية وهاشم وأنها قديمة لا يثبت هذا الإدعاء أمام البحث العلمي النزيه، إن الذين ينظرون إلى تاريخ بني أمية من خلال موقف أبي سفيان من الإسلام في مكة ومن خلال ما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من حروب يبنون على ذلك كما فعل العقاد أوهاماً من صراع تاريخي قبل الإسلام وبعده بين بني هاشم وبني أمية وتلك أوهام ليس لها من التاريخ إلا رواية ملفقة أو أحداثاً عارضة لا تمثل قط صراعاً بين هذين الفرعين الكريمين من بني عبد مناف وهما ذروة الشرف في قريش[9]، والذي يظهره البحث العلمي النزيه وبعد ترك الروايات والأساطير الساقطة يتضح أن العلاقة بين البطنين كانت طبيعية مثلها مثل العلاقة بين باقي بطون قريش.

ثانياً : موقف بني أمية من الدعوة الإسلامية :


لقد كان تعامل الأمويوين مع الدعوة الناشئة هو نفس تعامل بقية بطون قريش للدعوة الجديدة من أمثال بني مخزوم وبني هاشم وغيرهم ولنأخذ على ذلك مثالاً وهو كيفية تعامل بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب بطون قريش إليه مع الدعوة، فإن منطق العصبية السائد في الجاهلية يقتضي أن يتلقف بنو هاشم الدعوة الجديدة التي تحقق لهم العزة والشرف بالإيمان والنصرة وأن يقفوا خلف النبي الهاشمي بالتأييد والبذل، وقد وقفوا إلى جواره فعلاً في بعض المواقف ولعل أشهرها حصار الكافرين لهم في شعب بني هاشم، ولكنهم في النظرة الشاملة انقسموا عليه بين مؤيد ومعارض ومؤمن وكافر، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من قبائل مكة، والمثال المشهور لكفار بني هاشم هو أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول من جهر بعداوة الإسلام لما جهر الرسول بدعوته، ولم يكتف بالمعارضة الصريحة بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس صور شتى تعذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصد الناس[10] عنه، وكانت معه زوجته أم جميل بنت حرب الأموية، وإبنيه عتبة وعتيبة اللذين طلقا بنتي النبي رقية وأم كلثوم ليشغلا محمداً[11] ببنتيه، وكان ابنه عتبة يشارك في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دعا عليه فنهشه أسد في بعض أسفاره[12]، بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب بني هاشم لما حاصرتهم قريش[13] فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال الرسول يوم بدر استأجر بدلاً منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم[14]، وقد كان أبو لهب في كفره وعناده مثالاً مشهوراً ولكنه لم يكن الهاشمي الوحيد الذي كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وجهد في إيذائه وحربه، فقد كان في أسرى المشركين يوم بدر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفهم عتبة بن عمرو بن جحدم، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فداءهم فيمن افتدى من أسرى قريش[15]، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ممن شهد قتال يوم بدر مع المشركين ونجا من القتل والأسر[16] وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ـ أرضعتهما حليمة السعدية أياماً ـ وكان يألف رسول الله وكان له ترباً فلما بعث رسول الله عاداه عداوة لم يعادها أحد قط، ولم يدخل الشعب مع بني هاشم وهجا رسول الله وأصحابه، وكان من المجاهرين بالظلم له صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به قبل الهجرة[17].
إن أعظم النصرة والتأييد لقيهما النبي صلى الله عليه وسلم من عمه أبي طالب الذي تحمل في سبيل ذلك ضغوطاً هائلة من قريش ولكنه ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته وفياً لدين آبائه، فمات على ملة الأشياخ من قومه[18]، وظل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم الآخر في مكة، واشترك مكرهاً ضده في غزوة بدر وأسر بها، ولكنه لم يهاجر إلى المدينة ويعلن إسلامه إلا والرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه لفتح مكة[19]، وقد أسلم في مكة نفر من بني هاشم وبذلوا في سبيل الدعوة الكثير مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم ولكنهم كانوا يشاركون غيرهم من غير بني هاشم في ذلك كأبي بكر وعمر وعثمان، ولم يكن بذلهم لأنهم هاشميون بل لأنهم مسلمون، ويظل إيمانهم دليلاً على صدق القول باختلاف استجابة الأفراد للدعوة الإسلامية بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية[20]، وبالنسبة لبني أمية وموقفهم من الإسلام فإن مؤرخينا لا يتحدثون عنهم كبطن مستقل من بطون قريش وإنما يتحدثون عنهم مع غيرهم من بني عبد شمس والد أمية، فيعدونهم وحدة واحدة[21]، وقد كانوا أبناء أب واحد وتربطهم علاقات التصاهر والترابط الاجتماعي ولذلك فإنهم عند حديثهم عن عداء بني أمية للرسول يذكرون إسمي عتيبة وشيبة إبني ربيعة بن عبد شمس، ورغم أنهما ليسا من بني أمية.. ويذكرون معهما أيضاً أبا سفيان بن حرب وعقبة بن أبي معيط، فأما عقبة بن أبي معيط هذا فقد كان من مردة قريش، فقد تفل في وجه رسول الله، وأنه رمى عليه صلى الله عليه وسلم سلى جزور وهو يصلي، وأنه خنقه بثوب في عنقه حتى دفعه أبو بكر الصديق[22]، وقد نال جزاءه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله بعد أسره يوم بدر، والغريب أنه كان يذكره بما بينهما من رحم[23]، ومثل هذه النماذج الطائشة لم ينفرد بها بنو أمية أو عبد شمس في مكة آنذاك[24] وأما معارضة عتبة وشيبة إبني ربيعة فمعلومة ومشهورة ومع هذا لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وصده عنها أهلها وتبعه الصبيان والغلمان يرمونه ويصيحون به لجأ إلى حائط إبني ربيعة عتبة وشيبة، فلما رأياه على هذا الحال تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له عداس، فقالا له: خذ قطعاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم إذهب إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه[25].


[1] المصدر نفسهع صـ 123 .

























ميارى 13 - 5 - 2010 06:25 PM

ثالثاً : أمويون مسلمون منذ بداية الدعوة الإسلامية :



وإذا جارينا نهج المؤرخين في الحديث عن بني أمية وبني عبد شمس معاً، فإننا نرى منهم جماعة كانوا من السابقين إلى الإسلام، فمنذ المرحلة السرية للدعوة وقبل الجهر بها كان قد أسلم كل من عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق في أيام الإسلام الأولى[1]، وكذلك كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أسلم في هذه المرحلة السرية التي دامت حوالي ثلاث سنين[2]ـ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس[3]، كما أسلم في مرحلة مبكرة حليفان لبني أمية وهما عبد الله بن جحش بن رئاب وأخوه أبو أحمد بن جحش وهما إبنا عمة النبي صلى الله عليه وسلم فأمهما أميمة بنت عبد المطلب[4]، وفي الهجرة الأولى إلى الحبشة شارك نفر من مسلمي بني أمية مثل عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو[5]، كما كان لبني أمية مشاركة في الهجرة الثانية ومعهم بعض حلفائهم، وقد ذكر الدكتور حمدي شاهين قائمة طويلة بأسمائهم، مما يؤكد استجابة بعض بني أمية للإسلام منذ بداية الدعوة[6]، وقد ساهمت نساء بني أمية وعبد شمس في صنع مسيرة الإسلام وفي إعطاء الأسوة وضرب المثل في نبل التضحية وعزيز العطاء، فقد أسلمت رملة بنت شيبة بن ربيعة زوجة عثمان بن عفان وهاجرت معه إلى المدينة وثبتت معه على دينه رغم مقتل أبيها وعمها وابنه في بدر مما أهاج عليها غضب هند بنت عتبة فقالت تعيبها :

لحـى الرحمن صابئة بـوج

ومكة أو بأطراف الحجون

تديـن لمعشر قتـلوا أباها

أقتـل أبيك جاءك باليقين[7]



وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة في الهدنة التي كانت بين النبي والمشركين في الحديبية على أن الصورة الأزهى والنموذج الأرقى في ذلك المجال هو إسلام أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، فقد أسلمت مبكراً[8]، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى .



رابعاً : المصاهرات بين بني هاشم وبني أمية :

لم يكن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين ونسجوا الأساطير والقصص حولها، فالحقيقة التاريخية تقول، بأن علاقتهم كانت علاقة أبناء العمومة والأخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير، والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان، فبنو أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام وكلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يضرب بها الأمثال[9]، كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده وكان على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوج بناته الثلاثة من الأربعة من بني أمية، وهذه نماذج من المصاهرات بينهم

أ ـ عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، فقد تزوج رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد وفاتها تزوج أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ب ـ أبو العاص بن الربيع وهو من بني أمي، فقد تزوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت زينب له ابنة وهي أمامة، وتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة الزهراء[10]

ت ـ خديجة بن علي بن أبي طالب ، تزوجها عبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي[11] .

ث ـ رملة بنت علي بن أبي طالب، تزوجها معاوية بن مروان بن الحكم[12] .

ج ـ زينب بنت الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان[13] .

ح ـ فاطمة بنت الحسين بن علي علي بن أبي طالب ، تزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان[14]، وقد اكتفيت ببيان بعض منها، وفيها كفاية لمن أراد الحق والتبصر[15].







السيرة النبوية لابن هشام (1/260) .[1]
تاريخ الطبري (2/318) .[2]
السيرة النبوية لابن هشام(1/263) .[3]
المصدر نفسه (1/262) .[4]
المصدر نفسه (1/315) .[5]
الدولة الأ/وية المفترى عليها صـ 131 .[6]
نسب قريش صـ 104 ـ 105 .[7]
التبيين في أنساب القرشيين صـ 209 .[8]
الشيعة وأهل البيت صـ 141 .[9]
الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة ، أبي معاذ السيد بن أحمد الإسماعيلي صـ 22 .[10]
المصدر نفسه صـ 23 .[11]
نسب قريش صـ 45 ، جمهرة أنساب العرب 87 .[12]
نسب قريش صـ 52 ، الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة صـ 22 .[13]
الأسماء والمصاهرةات بين أهل البيت والصحابة صـ 25 .[14]


الشيعة وأهل البيت صـ 224 .[15]

ميارى 13 - 5 - 2010 06:29 PM

الفصل الأول
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من مولده حتى نهاية عهد الخلافة الراشدة
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته وأسرته
أولاً : اسمه ونسبه وكنيته ومولده :
هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب أمير المؤمنين ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن، القرشي الأمويُ المكي[1]، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل : بثلاث عشرة، والأول أشهر[2]، وكان رجلاً طويلاً، أبيض، جميلاً، مهيباً، وقد تفرس فيه والده ووالدته منذ الطفولة بمستقبل كبير، فهذا أبو سفيان ينظر إليه وهو يحبو فيقول لوالدته : إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند : قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة[3]، وعن أبان بن عثمان قال : كان معاوية يمشي مع أمه هند، فعثر، فقالت: قم لا رفعك الله، وأعرابي ينظر، فقال: لما تقولين له؟ فوالله إني لأظنه سيسود قومه: قالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه[4] .

ثانياً : إسلام أبي سفيان والد معاوية رضي الله عنهما :
كان أبو سفيان من عتاة الجاهلية الذين حاربو الإسلام .. وكتب السيرة النبوية وصفت أعماله ضد الدعوة الإسلامية إلا أن الله تعالى أراد الهداية له، فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وأعلن: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن[5]، وفي هذا الإكرام النبوي الشريف لأبي سفيان لفتة تربوية، ففي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بيت أبي سفيان شيء يشبع ما تطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه[6]، وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان، وبرهن له بأنَّ المكانة التي كانت له عند قريش لن تنتقص شيئاً في الإسلام، إن هو أخلص له، وبذل في سبيله[7]، وهذا منهج نبوي كريم، على العلماء والدّعاة إلى الله أن يستوعبوه، ويعملوا به في تعاملهم مع الناس[8] وقد حسن إسلام أبي سفيان وشاهد المواقع وقدم خدمات جليلة للإسلام، فقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وشارك في حصار الطائف وفقد إحدى عينيه فيها، وفي اليرموك فقد الثانية[9]، وبعد ثقيف أرسله رسول الله مع المغيرة بن شعبة لهدم اللات[10] ـ صنم ثقيف، وقد كانت اللات معظمة عند قريش كذلك، وكانوا يحلفون بها، وهذا دليل على تغلغل الإيمان في قلب أبي سفيان رضي الله عنه، لقد أسلم أبو سفيان إذن بعد أن ظل حبه للرياسة وممارسته لها حائلاً بينه وبين الإسلام وقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العوامل النفسية المؤثرة على نفس أبي سفيان ونفوس علية القوم من قريش بعد الفتح، فقد جعل من دخل دار أبي سفيان آمناً، كما أعطاه من غنائم حنين مع غيره ممن سموا آنذاك بالمؤلفة قلوبهم[11] .
ولم ينس أبو سفيان ما فعله ضد الإسلام أيام الجاهلية، وحرص على مضاعفة جهده في خدمة الإسلام، وقال عنه إبن كثير: من سادات قريش في الجاهلية، وتفرَّد فيهم بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكانت له مواقف شريفة، وآثار محمودة في اليرموك وما قبله وما بعده[12].
وروي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: يا نصر الله اقترب، والمسلمون يقتتلون هم والروم، فذهبت أنظر فإذا هو أبو سفيان تحت راية إبنه يزيد[13]، وروي أنه كان يوم اليرموك يقف على الكراديس: فيقول الناس: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهمَّ هذا يوم من أيامك، اللهمَّ أنزل نصرك على عبادك[14]، وقيل مات سنة إحدى أو إثنتين أو ثلاث أو أربع وثلاثين[15]، وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل : بل صلى عليه عثمان، وله ثلاث وثمانون، وقيل: كان له بضع وتسعون سنة[16].

ثالثاً : هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما :
هي أم معاوية، أسلمت يوم الفتح، بعد إسلام زوجها أبي سفيان، فأقاما على نكاحهما، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة وكانت متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة ـ على ألاَّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن، وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ولا يسرقن قالت هند: يا رسول الله، إن أبي سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بنيَّ، فهلَّ عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف، ولما قال: ولا يزنين قالت هند: وهل تزني الحرّة؟ ولمّا عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عمّا سلف عفا الله عنك، وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد إمرأة إلا إمرأة أحلّها الله له، أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: لا والله! ما مست يد رسول الله يد إمرأة قط[17]. وروى ابن سعد بسنده عن عبد الله بن الزبير إنه لما بايعت هند تكلمت فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رحمك يا محمد، إنني إمرأة مؤمنة بالله، مصدقة برسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك، فقالت: والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض من أهل خباءٍ أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خِبائك، قال: وأيضاً والذي نفسي بيده. قالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل ممسك، فهل عليَّ حرج أن أُطعم من الذي له عِيالنا قال: لا أراه إلا بالمعروف[18]. ولما أسلمت هند وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنماً كان عندها حتى فلذته فلذة وهي تقول: كنت منك في غرور[19]، ولما رأت المسلمين ببيت الله الحرام قالت: والله ما رأيت الله عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً[20]. وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد ((بدر)) ولم تجف دماء قريش بعد، وكانت ((هند)) قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوار الحرب، وفي الطريق لقيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها فقالت هند: أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك!!.. أي إبنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلي أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال، تروي زينب رضي الله عنها ذلك، وتقول: ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل[21]. ثم يوم خروج زينب يتعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملاً، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعة وترفع عقيرتها في وجه قومها: معركة مع أنثى عزلاء؟؟ أين كانت شجاعتكم يوم بدر؟ وتحول بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى إستأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان[22]. وكانت هند إمرأة حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة. ويروى أنها كانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيات قريش، له مجلس يأتيه ندماؤه فيدخلون بغير استئذان، فدخلته هند يوماً وليس فيه أحد، فنامت فيه، وجاء بعض ندماء الفاكه فدخل البيت، ورأى هند نائمة فخرج، فلقيه الفاكه خارجاً، ثم دخل فوجد هند في المجلس نائمة فقذفها بالرجل فشرى[23] الأمر إلى أن إتفقوا على أن يتحاكموا إلى كاهن في بعض النواحي، فحملها أبوها عتبة وخرج معهم الفاكه حتى إذا دنوا من الكاهن رآها أبوها متغيرة مصفراً لونها، فخلا بها وقال: يا بُنية مالي أراك قد اصفرّ لونك وتغيّر جسمك، فإن كنت قد ألممت بذنب بأخبريني حتى أفلّ[24] هذا الأمر قبل أن نفتضح على رؤوس الناس. فقالت: يا أبتي إني لبريئة، ولكني أعلم أنا نأتي بشراً يخطئ ويصيب، فأخشى أن يخطئ فيّ بقول يكون عاراً علينا إلى آخر الدهر. قال عتبة: فإني سأختبره، فخبأ له حبة بُرّ في إحليل مهر[25]، ثم ربط عليها، فلما أتى الكاهن قال: قد خبأت لك خبيئاً فما هو؟ قال: ثمرة في كَمَرةٍ، قال: بيِّن، قال: حبة بُر في إحليل مهر. فأجلسوا هنداً بين نساء ثم سألوا الكاهن، فقام فضرب بيده بين كتفي هند وقال: قومي حصاناً غير زانية وَلَتَلِدَنَّ ملكاً يقال له معاوية: فوثب الفاكه، فأخذ بيدها وقال: إمرأتي، فنزعت يدها من يده وقالت: والله لأحرصنَّ أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان، وولدت له معاوية[26]. وهذا وقد توفيت في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه[27].


سير أعلام النبلاء (3/120) .[1]

الإصابة (6/151) .[2]

البداية والنهاية (11/398) .[3]

سير أعلام النبلاء (3/121) .[4]

البخاري رقم 4280 .[5]

المستفاد من قصص القرآن (2/403) .[6]

قراءة سياسة للسيرة النبوية لمحمَّد رواس صـ 245 .[7]

السيرة النبوية للصَّلاَّبَّي (2/497) .[8]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 203 .[9]

السيرة النبوية لابن هشام (4/195) .[10]

الدولة الأموية المفترى عليها صـ 142 .[11]

البداية والنهاية (11/397) .[12]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 203 .[13]

المصدر نفسه صـ 203 .[14]

المصدر نفسه صـ 203 .[15]

المصدر نفسه صـ 204 .[16]

البخاري رقم 5288 مسلم رقم 1866 .[17]

الطبقات الكبرى (8/172) ، البخاري رقم 3825 .[18]

الطبقات (8/172) .[19]

نحو رؤية جديدة للتاريخ صـ 200 .[20]

المصدر نفسه صـ 208 فرسان من عصر النبوة صـ 853 .[21]

المصدر نفسه صـ 208 .[22]

فشرى : بمعنى عظم وتفاقم .[23]

أي : حتى أفك .[24]

من إختبار الكاهن ، فإن عرف سألوه وإلا تركوه .[25]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 219 .[26]

المصدر نفسه صـ 219 .[27]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:08 AM

رابعاً : من إخوان وأخوات معاوية رضي الله عنه :
1 ـ يزيد بن أبي سفيان، وكان يقال له يزيد الخير، وهو أفضل بني أبي سفيان، أسلم يوم الفتح وشهد حنيناً، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقيّة[1]، واستعمله أبو بكر على أول الجيوش التي أرسلها إلى الشام وكانت مهمته الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الإسلامية الأخرى عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف رجل، وقبل رحيل جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى تشتمل على حكم باهرة في مجالي الحرب والسلم، وشيعه ماشياً وأوصاه بما يأتي: إني قد وليتك لأبلوك وأجرِّبك وأخَرجِّك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم تولياً له، وأقرب الناس من الله أشدُّهم تقرباً بعمله، وقد وليتك عمل خالد[2]، فإياك وعبِّية الجاهلية[3] فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وأبدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها، والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم وأقْلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينّهم فيروا خَلَكَ[4]، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك[5]، وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لاعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فأصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تخزُ عن المشير خبرك فتُوْتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عنك الأستار وأكثر حرسك، وبدِّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النَّوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تَخَفْ من عقوبة المستحق ولا تلجَّنَّ فيها، ولا تسرع إليها، ولا تتخذ لها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسّس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم ولا تجالس العبّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء وأصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له قال ابن الأثير: وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر[6]. ومن فوائد هذه الوصية:
ـ أن الولايات والمناصب ليست حقاً ثابتاً لأصحابها وإنما بقاؤهم فيها مرهون بالإحسان والنجاح في العمل، ومن واجب المسئول الأعلى أن يَعْزلهم إذا أساؤوا وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاقة ليصل إلى مستوى أعلى من النجاح في العمل، أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل والاشتغال بمتاع الدنيا، فيخل بمسئولته ويعرّض من تحت ولايته إلى أنواع من الفساد والفوضى والنزاع .
_ إن تقوى الله عز وجل هي أهم عوامل النجاح في العمل، لأن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم، فإذا اتقوه في باطنهم فَحَريٌّ بهم أن يتقوه في ظاهرهم، وبذلك يتجنب الوالي كل مظاهر الفساد والإفساد، التي تكون عادة من الاستجابة للعواطف الجامحة التي لا تلتزم بتقوى الله تعالى.
_ التحذير من التعصب للآباء والأجداد والأقوام، فإن التعصب لذلك قد يحمل الإنسان على الإنحراف عن الطريق المستقيم، إذا كان ما عليه الآباء والأجداد مخالفاً للاستقامة، إضافة إلى أنه يضعف من الإنتماء للرابطة الإسلامية الوحيدة وهي الأخوة في الله .
_ الإيجاز في الموعظة فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، فيضيع المقصود، ويغلب على السامع الأعجاب ببلاغة المتكلم إن كان بليغاً عن استيعاب ما يقول والاستفادة من مواعظه، وإن لم يكن بليغاً فإن الملل يأخذ بالسامع فلا يعي ما يقول المتكلم.
_ إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه نموذجاً صالحاً للقدوة الحسنة فإن ذلك يكون سبباً في صلاح من هم تحت رعايته .
_ الإهتمام بإقامة الصلاة كاملة مظهراً ومخْبراً مَظْهَراً من ناحية إكمال أقوالها وأفعالها، ومَخْبَراً من ناحية الخشوع فيها وحضور القلب مع الله تعالى، فإن هذه الصلاة الكاملة يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذّب السلوك، وتقوِّي القلوب، وتبعث على ارتياح النفوس، وتعتبر ملاذاً للمسلم عند الشدائد.
_ إكرام رسل العدو إذا قدموا مع الاحتراس منهم، وعدم تمكينهم من معرفة واقع الجيش الإسلامي، فإكرامهم نوع من الدعوة إلى الإسلام فيما إذا عرف العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لا يصل هذا الإكرام إلى حد إطلاعهم على بطانة أمور المسلمين، بل ينبغي إطلاعهم على قوة جيش المسلمين ليُرهبوا بذلك أقوامهم[7].
_ الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التهاون بإفشائها، خاصة فيما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فإن الحكيم يستطيع التعرف في الأمور وإن تغيرت وجوهها ما دام سرُّه حبيساً في ضميره، فإذا أفشاه اختلطت عليه الأمور ولم يستطع التحكم فيها.
_ إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها فإن المستشار وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر، فإنه لا يستطيع أن يفيد من استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح، فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية فإنه يكون قد جنى على نفسه، حيث قد يتضرر بهذه المشورة.
_ أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطاً لمن ولي أمرهم على مختلف طبقاتهم ليكون دقيق الخبرة بأمورهم، وفي هذا أكبر العون له على تصور مشكلاتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها، أما المسئول الذي يعيش في عزلة ولا يختلط إلا بأفراد من كبار رعيته، فإنه لا يصل إليه من المعلومات إلا ما كان من طريق هؤلاء، وقد لا يكشفون له الأمور بكل تفصيلاتها، فقد يحللون له الأمور على غير وجهها الصحيح.
_ الاهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة من مكامن الخطر، واختبار الحرّاس الأمناء من ذوي النباهة وعدم وضع الثقة الكاملة بهم، بل لا بدَّ من الرقابة عليهم حتى يؤتى المسلمون من قبلهم.
_ أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسلكاً وسطاً، فلا يتهاون فيترك عقوبة المستحق، فإن ذلك يجرِّئه على مزيد من المخالفة، ويجريْ غيره على ارتكاب المخالفات، فتسود الفوضى وينفلت الأمر، ولا يشتد في العقوبة فينفِّر الرعية، ويدفعهم إلى التسخط والتحزب، بل تكون عقوبته بحكمة واتزان بعد النظر والتروي بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة، ولا دفع إلى النقد والتسخط[8].
_ أن يكون لدى المسئول يقظة وإنتباه لكل ما يجري في حدود المسئولية المناطة به حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك إهتماماً بأمورهم فيزيد المحسن إحساناً ويقتصر المسيء عن الإساءة، ولكن بدون تجسس عليهم، فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم، وقد ينقطع بذلك خيط العلاقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته، من المودة والإعجاب والشكر على الجميل، وهذا الخيط ما دام قائماً فإنه يمنع أصحاب الجنوح من إرتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث الفوضى، فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى فإن أهم الحواجز التي تحول دون الإنطلاق وراء الشهوات تكون قد تحطمت، ويصعب بعد ذلك علاج الأمور لأنها تحتاج إلى قوة رادعة وهذه لها سلبياتها المعروفة.
_ أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء والعقول الراجحة وإن سمع منهم ما يكره أحياناً من النقد والتوجيه، فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع، وأن لا يجالس أصحاب اللهو والأهداف الدنيوية فإن هؤلاء وإن أنس بكلامهم وثنائهم فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في الأمور الجادة، فلا يستفيق بعد ذلك إلا والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم.
_ أن يصدق القائد في لقاء الأعداء وأن لا يجبن، فإن جُبنه يسري على جنده فيقع بذلك الفشل والهزيمة، وفي غير الحرب أن يكون المسئول شجاعاً في مواجهة المواقف، وأن لا يضعف فيسري ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين ، فيقل بذلك مستوى الأداء ويضعف الإنتاج.
_ أن يتجنب القائد الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها هذا في مجال الحرب، وفي مجالات السلم أن يتجنب المسئول أية استفادة دنيوية من علمه لا تحل له شرعاً، مثل أخذ الهدايا التي يقصد لها دفعها الاستفادة من المسئول في مجانبة الحق، فإن ذلك من الغلول، والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب إلى الفقر، ويدفع النصر.
_ ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة الوصية التي أوصى بها أبو بكر رضي الله عنه أحد قواده، وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا المسلمين وأنه كان يتصور ما قد يواجهه قواده فيحاول تزويدهم بما ينفعهم في تلافي الوقوع في المشكلات، وحلها إذا وقعت، وهذه الوصية وأمثالها تسجِّل إضافة جديدة لمواقف أبي بكر المتعددة[9]، وجاء في رواية أن أبا بكر رضي الله عنه لم ينس اللمسات الإنسانية في وصيته لجيش يزيد حيث وصاه بدستور المسلمين للحرب المكون من عشرة نقاط تجسد إنسانية الحضارة الإسلامية وروحها المفعمة بالرحمة، والشفقة، وقد جاءت هذه الوصية على شكل مقتبس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: أيها الناس: قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تفسدوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً، ولا إمرأة، ولا تقعروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بعيراً إلا لأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.. اندفعوا باسم الله[10]. وقد استفاد منها يزيد بن أبي سفيان غاية الاستفادة، ولما فتح الشام، في عهد عمر ولّى الفاروق يزيد فلسطين وناحيتها، ثم لما مات أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل، فلما مات معاذ بن جبل استخلف يزيد بن أبي سفيان، ثم مات يزيد فاستخلف أخاه معاوية، وكان موت هؤلاء كلهم في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة: وقيل: مات يزيد سنة تسع عشرة بعد فتح قيسارية، وقيل: بل مات قبل فتح قيسارية وإنما افتتحها معاوية[11]. وقال أبو إسماعيل محمد بن عبد الله البصري: جزع عمر على يزيد جزعاً شديداً، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام[12] .


التبيين في أنساب القرشيين صـ 204 .[1]

يعني خالد بن سعيد بن العاص وكان قد استعفى أبا بكر فأعفاه .[2]

يعني التعصب لما كان عليه أهل الجاهلية .[3]

يعني لا تطلعهم على دخيلة أمرك فيطلعوا على عيوبك .[4]

ليروا قوة المسلمين .[5]

الكامل ـ لابن الأثير (2/64 ـ 65) .[6]

التاريخ الإسلامي (9/194) .[7]

التاريخ الإسلامي (9/195) .[8]

التاريخ الإسلامي (9/196) .[9]

صور من تسامح الحضارة الإسلامية مع غير المسلمين، سلامه الهرفي صـ62 ، نقلاً عن تاريخ الطبري (3/227) .[10]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 205 .[11]

المصدر نفسه صـ 205 .[12]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:10 AM

2 ـ عتبة بن أبي سفيان :
يكنى أبا الوليد، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب الطائف وصدقاتهم، ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وحكى عنه أنه اعترضه إعرابي وهو على مكة فقال: أيها الخليفة. قال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: أَسْمَعْتَ فقل: قال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختص بالخؤولة[1]، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادف ضُرّ، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه، استغفر الله منك، واستعينه عليك. قال: قد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك[2]، وكان خطيباً فصيحاً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه[3]، وأقام بمصر والياً سنة ثم توفي بها، ودفن في مقبرتها سنة أربع وأربعين وقيل سنة ثلاث وأربعين[4].

3 ـ عنبسة بن أبي سفيان :
يكنّى أبا عثمان، روي عن أبي أمامة قال: لما حضر عنبسة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه وجاءه الناس يعودونه فجعل عنبسة يبكي ويجزع، فقال له القوم: يا أبا عثمان ما يبكيك وما يحزنك وقد كنت على سمت من الإسلام حسن وطريقة إن شاء الله حسنة!؟ فإزداد حزناً وشدة بكا وقال: ما يمنعني ألاّ أبكي وأن لا يشتد حزني من هول المطلع، وما يدريني ما أُشرفُ عليه غداً، وما قدمت من كبير عمل تثق به نفسي[5] .

4 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها :
هي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من أسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، وقد ارتد زوجها عبيد الله بن جحش عن الإسلام ودخل في النصرانية فهلك وهو على تلك الحالة وتمسكت بدينها وذلك من فضل الله عليها ليتم لها الإسلام والهجرة فأبدلها الله عز وجل به خير البشر عليها وأفضلهم سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب أزواجه نسباً إليه وأكثرهن صداقاً رضي الله عنها وأرضاها[6]. قال الذهبي عنها: وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أكرم نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء[7]. وقد ورد لها بعض المناقب التي تدل على علو مكانتها وعظيم شأنها رضي الله عنها وأرضاها ومن تلك المناقب:
أ ـ أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها، فقد روى الحاكم بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت عليَّ فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك وكِّلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته[8].. ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة وثبتت على إسلامها وهجرتها[9] .
ب ـ ومن ماقبها أنها أكرمت فراش رسول الله من أن يجلس عليه أبوها، لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم[10]، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله وهو يريد غزو مكة، فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية قلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت إمرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية أصابك بعدي شر[11] .
ج ـ ومن مناقبها ما رواه ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقالت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما[12] .

5 ـ أم الحكم بنت لأبي سفيان رضي الله عنهما :
هي أم عبد الرحمن بن أم الحكم، كانت من مسلمة الفتحة ، كانت حين نزول قوله تعالى : ((وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) (الممتحنة : آية 10) تحت عياض بن غنم الفهري، ففارقها حينئذ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي[13] .

6 ـ عزة بنت أبي سفيان ـ رضي الله عنهما :
ذكرها ابن شهاب في حديث أم حبيبة في الرضاع، أخرج مسلم حديثها وهو ما يروي عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول الله هل لك في أختي؟ قال: ما أصنع بها؟ قالت: تنكحها، قال: أتحبين ذلك؟ قالت: نعم لست بمخلية لك وأحبّ من شركني في خير أختي[14]، وبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له[15] إذ لا يجوز في الإسلام الجمع بين الأختين[16]. هذا وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة ست للهجرة[17] وكان عمرها 33 سنة يوم عقد عليها رسول الله، وقال الذهبي: فكان لها يوم قدم بها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية إلى المدينة بضع وثلاثون سنة[18]، وقد توفيت سنة 44هـ[19].
7 ـ أميمة بنت أبي سفيان :
ولدت أبا سفيان بن حويطب بن عبد العُزّى وجويرية وذكرها ابن قدامة في التبيين في أنساب القرشيين باقتضاب[20].

خامساً : زوجات معاوية رضي الله عنه وأولاده :
1 ـ من نساء معاوية رضي الله عنه ميسون بنت بحدل الكلبي ، ولدت له يزيد بن معاوية، وأمة رب المشارق فماتت صغيرة[21]، وكان معاوية رضي الله عنه يجل ميسون بنت بحدل ويحترمها إلا أنها كانت تحن إلى مرتع طفولتها في البادية، وتكثر ذكر أهلها وحياتهم البسيطة وصوف عيشتهم، وبعدهم عما يكدرهم، وتزهد في حياة القصور، بما فيها من الخدم والوصيفات، وذات يوم تذكرت باديتها وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها فبكت وتنهّدت فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في مُلْكٍ يضاهي ملك بلقيس؟ فتنفست الصعداء ثم أنشدت :
لبيت تخفـق الأرواح فيـه
أحبّ إليَّ مـن قصر منيف
وبكر[22] يتبـع الأظعان سبقاً
أحبّ إليَّ مـن بَغْلِ زفوف[23]
وكلب ينبـح الطّراق عـني
أحـبّ إليَّ مـن قـطٍ أليف
ولبسُ عبـاءةٍ وتقـرّ عيـني
أحبّ إليَّ مـن لبس الشفوف[24]
وأكل كُسيرة في كِسْر بيـتي
أحبّ إليَّ مـن أكل الرّغيف[25]
وأصوات الرّياح بكـلِّ فـجٍّ
أحبّ إليَّ مـن نقـر الدفوف
وخِـرْق من بني عمي نحيف
أحبّ إليَّ مـن عِلْـج كليف[26]
خشونة عيشي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطّريفِ
فما أبغي سـوى وطني بديلاً
فحسبي ذاك من وطن شريف

فلما دخل معاوية عرَّفَته الحظيّة بما قالت: وقيل: إنه سمعها وهي تنشد ذلك فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني عِلجاً علوفاً، هي طالق، مُرُوها فلتأخذ جميع ما في القصر فهو لها، ثمَّ سيرها إلى أهلها بالبادية فأخذت معها ابنها يزيد فنشأ في البريّة فصيحاً[27]
ونقل البغدادي ـ رحمه الله ـ في خزنة الأدب، إن معاوية لما طلقها قال لها كنت فبْنت، فأجابته: ما سُررنا إذْ كُنَّا، ولا أسفنا إذْ بِنَّا[28]. والله درَّ القائل حيث أشار إلى هذا في قوله:
وحبّبَ أوطان الرّجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا الأوطان ذكّرتهم
عهود الصِّبا فيها فحنّوا لذلكا[29]

2 ـ ومن زوجاته، فاخته ابنة قرَظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد الرحمن وعبد الله ابني معاوية، وكان عبد الله محمّقاً ضعيفاً وكان يكنى أبا الخير، وأما عبد الرحمن[30]، فمات صغيراً.

3 ـ ومن زوجاته، كنود بنت قَرَظة وهي أخت فاخته تزوجها منفردة عنها بعدها، وهي التي كانت معه حيث افتتح قبرص[31].

4 ـ وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية ثم طلقها[32]، ومن بناته رملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان[33]، وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر[34] وعائشة وعاتكة وصفية[35].


المصدر نفسه صـ 207 ، قادة فتح الشام ومصر صـ 99 .[1]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 208 .[2]

المصدر نفسه صـ 208 .[3]

المصدر نفسه صـ 208 .[4]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 208 .[5]

الطبقات لابن سعد (8/96 ـ 100) مجمع الزوائد (9/249) .[6]

سير أعلام النبلاء (2/219) .[7]

المستدرك ، ك معرفة الصحابة (4/20 ـ 21) .[8]

العقيدة في أهل البيت صـ 113 .[9]

المصدر نفسه صـ 113 .[10]

سير أعلام النبلاء (2/223) ، الطبقات الكبرى (8/99 ـ 100) .[11]

المصدر نفسه (2/223) .[12]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 209 .[13]

مسلم رقم 1449 .[14]

مسلم رقم 1449 .[15]

الدولة الأموية المفترى عليها صـ 142 .[16]

سير أعلام النبلاء (2/220) .[17]

المصدر نفسه (2/222) .[18]

المصدر نفسه (2/222) .[19]

التبيين في أنساب القرشيين صـ 209 .[20]

تاريخ الطبري (6/246 ـ 247) .[21]

البكر : الفتى من الأبل : والشقب : الذكر من ولد الناقة .[22]

زفوف : مسرع .[23]

الشفوف : جمع شف : وهو الثوب الرقيق الذي يشفُّ ما وراءه .[24]

الكسيرة : القطعة من الخبز : الكِسْر : طرف الخباء من الأرض .[25]

الخِرق : القنى السّمح الكريم العلج : الشديد .[26]

شاعرات العرب صـ (396 ـ 397) نساء من عصر التابعين أحمد خليل صـ 43 .[27]

خزانة الأدب (3/593) نساء من عصر التابعين صـ 43 .[28]

نساء عصر التابعين صـ 44 .[29]

تاريخ الطبري (6/147) .[30]

البداية والنهاية (11/462) .[31]

المصدر نفسه (11/463) .[32]

المصدر نفسه (11/463) .[33]

المصدر نفسه (11/464) .[34]

دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ 129 .[35]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:14 AM

سادساً : إسلام معاوية رضي الله عنه وشئ من فضائله :
أسلم معاوية مع أبيه وأخيه يزيد رضي الله عنهم يوم الفتح[1] هذا على المشهور، ولكن يروى عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية ـ أي عمرة القضاء سنة 7 هـ ـ ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك، فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه فقلت له: لم آل نفسي جهد، ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي، فجئته فرحب بي وكتبت بين يديه[2]، وشهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وأعطاه مائة من الأبل وأربعين أوقية من الذهب[3] وقد ذكر العلماء لمعاوية رضي الله عنه فضائل كثيرة من هذه الفضائل:
1 ـ من القرآن الكريم:


فقد اشترك معاوية رضي الله عنه في غزة حنين قال تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)) (التوبة ، الآية : 26). ومعاوية رضي الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم[4]، كما أنه ممن وعدهم الله الحسنى: قال تعالى: ((لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (الحديد ، الآية : 10). ومعاوية رضي الله عنه ممن وعدهم الله الحسنى، فإنه أنفق في حنين والطائف وقاتل فيهما[5].
2 ـ من السنة:
أ ـ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعله هادياً[6]، مهدياً[7]، واهد به[8].
وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب[9].
ب ـ ما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف الباب، قال: فجاء فحطأني حطأةً وقال اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع الله بطنه[10]
قال النووي معلقاً على هذا الحديث. وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب[11]، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة دعاء له[12]، ولذلك قال ابن عساكر عن حديث لا أشبع الله بطنه: أصح ما روي في فضل معاوية.. وبعده حديث.. اللهم علمه الكتاب، وبعده حديث.. اللهم اجلعه هادياً مهدياً[13]. وعن الحديث نفسه قال الذهبي: قلت: لعل أن يقال، هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو سببته، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة[14]. وقال الألباني: قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم[15]، وقيل في لا أشبع الله بطنه: أنها كلمة جرت على عادة العرب نحو قاتله الله ما أكرمه، ويل أمه وأبيه ما أجوده، مما لا يراد معناه[16].
جـ ـ ما أخرجه البخاري من طريق أنس بن مالك ، عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما اضحكك؟ قال: أنس من أمتي عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت قولها، فأجباها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية[17]، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين، فقُرِّبت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت[18]. قال ابن حجر معلقاً على رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله:: ناس من أمتي عرضوا على غُزاة.. يشعر بأنه ضحكه كان إعجاباً بهم، وفرحاً لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة[19] .
د ـ ما أخرجه البخاري من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا[20]، قالت : يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر[21] مغفور لهم فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا[22].
قال المهلب[23] معلقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر[24]. وكان معاوية رضي الله عنه يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم[25]، وكذلك رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زعماء القبائل[26]، وكتبة معاوية للوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاح له لون من القرب الطبيعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة التي أعقبت فتح مكة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يستتبع بالضرورة التأثر بشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والأخذ المباشر منه[27] .

سابعاً : رواية معاوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يعد معاوية رضي الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وكان عمره في فتح مكة حوالي ثماني عشرة سنة[28]، ولكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه فقد أتيحت له فرصة عظيمة مكنته من الاستفادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وقد روى معاوية رضي الله عنه مائة وثلاثة وستين حديثاً[29]عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة[30]، ومن هذه الأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه :
1 ـ دخل معاوية على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر، ولم يقم ابن الزبير فقال معاوية: مَهْ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يمثل له عباد الله قياماً، فليتبوَّأ مقعده من النار[31].
2 ـ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين[32].
3 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم[33]، قالوا: جلسنا نذكر الله عزل وجل قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إنِّي لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسبم أَقلَّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ علينا بك، قال: آللهِ ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: أما إنيِّ لم استحلفكم تهمة لكم، وإنَّه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أنّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة[34].
4 ـ عن معبد الجهني، قال: كان معاوية قلّما يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويقول هؤلاء الكلمات قلَّما يدعهنَّ أو يحدِّثُ بهنَّ في الجمع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حُلوٌ خضرٌ فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح، فإنَّهُ الذبح[35].
5 ـ عن عبد الرحمن بن عبد عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شَرِب الخمر ، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الرّبعة، فاقتلوه[36].
6 ـ عن عيسى بن طلحةقال سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن المؤذِّنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة[37].
7 ـ عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية أخبره: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصَّر من شعره بمشقص فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية، فقال: ما كان معاوية على رسول الله متهماً.
8 ـ عن الزهري قال حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنَّه سمع معاوية يخطب بالمدينة يقول:: يا أهل المدينة، أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يفرض علينا صيامه، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم فإني صائم، فصام النَّاس[38] بداية.
9 ـ عن الحَكَم بنِ ميناء أن يزيد بن جارية الأنصاري أخبره أنه كان جالساً في نفر من الأنصار، فخرج عليهم معاوية، فسألهم عن حديثهم، فقالوا: كُنَّا في حديث من حديث الأنصار فقال معاوية: ألا أَزِيدكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبَّ الأنصار أحبَّهُ الله عز وجل، ومن أبغض الأنصار، أبغضه الله عز وجل[39].
10 ـ عن أبي صالح عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية[40].
11 ـ قال محمد بن كعب القُرَظي، سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصَّلاة: اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَدُّ[41].
12 ـ عن أبي بردة عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفَّر الله عنه به من سيِّئاته[42].
13 ـ وعن معاوية رضي الله عنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يرضهم من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس[43].
14 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نسي شيئاً من صلاته فليسجد سجدتين وهو جالس[44] .
15 ـ وعن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار[45].
16 ـ وعن عمير بن هانيء قال سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم ظاهرون على الناس. فقام مالك بن يخامر السكسكيُّ فقال: يا أمير المؤمنين سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام، فقال معاوية ورفع صوته: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم أهل الشام[46].
17 ـ حدّثنا روح، قال: حدّثنا أبو أميّة عمرو بن يحي بن سعيد قال: سمعت جدِّي يُحَدِّث أن معاوية أخذ الإِداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينما هو يوضيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ، فقال: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله عز وجل واعدل، قال: فما زلت أني مُبتلىً بعملٍ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى ابتُليتُ[47].
18 ـ وعن أبي عامر عبد الله بن لُحَيِّ، قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلمَّا قدمنا مكة قان حين صَلَّى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأُمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به[48]



ميارى 14 - 5 - 2010 12:17 AM

ثامناً : من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في شأن معاوية مدحاً وذماً :


1 ـ من الأحاديث الباطلة التي لا تصح في مدح معاوية :
وقد ساق ابن عساكر في ترجمته لمعاوية أحاديث واهية وباطلة طوّل بها جداً ، فمن الأباطيل المختلفة[1]
أ ـ عن واثلة مرفوعاً: كاد معاويةأن يبعث نبياً من حلمه وائتمانه على كلام ربي[2] .
ب ـ وعن أبي موسى: نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه، طلب معاوية، فلما كتبها ـ يعني آية الكرسي . قال: غفر الله لك يا معاوية ما تقدم إلى يوم القيامة[3] .
ت ـ وعن أنس: هبط جبريل بقلم من ذهب، فقال يا محمد: إن العليَّ الأعلى يقول: قد أهديت هذا القلم من فوق عرشي إلى معاوية، فمره أن يكتب آية الكرسي به ويشكله ويعجمه، فذكر خبراً طويلاً[4] .
ث ـ وعن ابن عباس، قال: لما أنزلت آية الكرسي، دعا معاوية فلم يجد قلماً، وذلك أن الله أمر جبريل أن يأخذ الأقلام من دواته، فقام ليجيء بقلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ القلم من أذنك، فإذا قلم ذهب مكتوب عليه لا إله إلا الله، هدية من الله إلى أمينه معاوية .
ج ـ وعن حذيفة مرفوعاً: يبعث معاوية وعليه رداء من نور الإيمان[5].
ح ـ وعن أنس مرفوعاً: لا أفتقد أحداً غير معاوية، لا أراه سبعين عاماً، فإذا كان بعد أقبل على ناقة من المسك، فأقول: أين كنت؟ فيقول في روضة تحت العرش .
س ـ وعن ابن عمر مرفوعاً: يا معاوية، أنت مني وأنا منك، لتزاحمنِّي على باب الجنة[6]
قال الذهبي بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرها: فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع والله أعلم[7]. وقد ذكر أكثر هذه الأحاديث الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة[8]، وقال ابن كثير بعد أن ذكر حديثاً منها وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة[9]، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبِّهُ عليها وعلى نكارتها وضعف حالها[10].

2 ـ من الأحاديث الباطلة في ذم معاوية:
قال ابن الجوزي: قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح[11] ومن الأحاديث الواهية في ذمه:
أ ـ الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي فطلع معاوية. وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله القائد والمقود، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة وهذا الحديث لا يصح وهو كذب على رسول الله، وهو من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف[12]، ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس، وأصبرهم على من يؤذيه، وأعظم الناس تأليفاً لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أعظم الناس مرتبة في الدين والدنيا، وهو محتاج إليه في كل أموره؟ فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد المُلك يسمع كلام من يسبّه قي وجهه، فلماذا لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً من هذه حالة[13].

3 ـ دور بني أمية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رغم إسلام الكثير من رجال بني أمية منذ بداية الدعو، وتضحياتهم وهجرتهم إلى الحبشة، ورغم إسلام جميع بني أمية عند فتح مكة، وترحيب الرسول بهم وفرحه بإسلامهم، والاعتماد عليهم في جلائل الأعمال وقد أفسح لهم مكاناً في دولته لتستفيد بجهودهم ومقدرتهم، فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لآبي سفيان ميزة لم يعطها أحد من أهل مكة، حين قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن[14]، وهذا شرف كبير حازه أبو سفيان يدل على تقدير الرسول للزعماء وأصحاب الكلمة في قومهم، واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على نجران، واتخذ ابنه معاوية كاتباً له[15]. روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمره حتى يقاتل الكفار كما كان يقاتل المسلمين، وأن يجعل معاوية كاتباً بين يديه، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم[16]، وكان أول وال على مكة ـ وهي أشرف بلاد الله ـ بعد فتحها رجلاً من بني أمية، هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، يروى ابن إسحاق عن زيد بن أسلم أنه قال:: لما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً: فقال أيها الناس: أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهماً فليست بي حاجة إلى أحد[17]، كما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية على قرى خيبر ووادي القرى وتيماء وتبوك، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو عليها[18]، كما استعمل الحكم بن سعيد بن العاص على سوق مكة[19]، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صنعاء[20]، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على البحرين، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليها[21]، كما كان أبان وخالد إبنا سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان إضافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنهم ـ من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم[22]. وخلاصة القول: فقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر منهم[23]، واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر رجال بني أمية، أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم[24]. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء[25]، فهذه الكلمات، جعل بعض الناس منها سبة في جبين بني أمية وحدهم، وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء وأبناء الطلقاء، ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم قد أسلموا وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده في الفتوحات في عهد خلفائه الراشدين[26]، ونحب أن نشير إلى عدة نقاط متعلقة بوصف الطلقاء منها:
1 ـ إن هذا الاتهام وليد عصر الخصومة الحزبية الحادة، لما تفجرت الأحقاد ضد بني أمية في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه وبعد بروز نجم معاوية بن أبي سفيان وخلافه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أصبح ذلك الوصف يعني عندهم أنهم قوم ضعاف الإيمان، دخلوا الإسلام رغبة في غنائمه، أو رهبة من القتل، ليكيدوا لأهله ويفيدوا أنفسهم.
2 ـ أن أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية ليسا من الطلقاء بالمعنى الدقيق السابق لهذه الكلمة فقد أسلم أبو سفيان قبيل فتح مكة والرسول وجيشه بمر الظهران خارجها، وقد جاء فور إسلامه يدعو قومه إلى المسالمة والفتح، أما معاوية ابنه فقد أكدت بعض الروايات أنه أسلم قبل الفتح أيضاً، غير أنه كان يخفي إسلامه، ـ شأن بعض الناس آنذاك ـ لمكانته من أبيه الذي كان يقود القتال ضد المسلمين، فقد روى أنه أسلم سراً يوم عمرة القضاء، أو عام الحديبية[27]، وإنما وضعهم المؤرخون في زمرة هؤلاء الطلقاء لقرب وقت إسلام أبي سفيان من الفتح، ولأنه كان زعيم مكة الذي ارتبط إسلامه بإسلامها، كما أن معاوية كان إسلامه سراً لم يشع، ولم يعرف إسلامه إلا مع الطلقاء بعد فتح مكة.
3 ـ إن وصف الطلقاء لا يقتضي الذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا نحو من ألفي رجل، ومنهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حسن إسلامهم.
4 ـ إن النظرة الإسلامية في هذا الشأن أن الإسلام يجب ما قبله، ويفسح المجال للإفادة من جميع الطاقات والقدرات ويدفع بها نحو تحقيق غاياته الكبرى، وينزل الناس منازلهم، وأن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا، ولم يمنع تأخر إسلام خالد وعمرو بن العاص من تبوئهما المكانة العالية عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل عمراً أميراً على ذات السلاسل، وسمّى خالداً سيف الله.. هذا مع حفظ المكانة الأسمى والمنزلة العظمى للسابقين الصادقين في الإسلام، ومن هؤلاء السابقين كان جماعة من بني أمية وغيرهم، كما كان من الطلقاء بني أمية وغيرهم[28].



ميارى 14 - 5 - 2010 12:21 AM

المبحث الثاني : الأمويون ومعاوية في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:

أولاً : في خلافة أبي بكر رضي الله عنه :
واجه المسلمون بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم ظروف عصيبة وأجمع المسلمون على بيعة أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بجهود عظيمة في مواجهة الأخطار، فحارب المرتدين حتى ردهم إلى الإسلام والجماعة وبدأ حركة الفتوح في بلاد الفرس والروم، وكان أول كتاب كتبه أبو بكر بشأن حروب الردة إلى عامله الأموي على مكة عتاب بن أسيد حيث كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام، فواجههم عتاب في تهامة حتى ظفر بهم[1]، ثم جهز من أهل مكة وأعمالها خمسمائة رجل وأمر عليهم أخاه خالد بن أسيد، فاشتركوا في قتال المرتدين باليمن[2]، وإعادة أهل حضرموت وكندة إلى حظيرة الإسلام[3]، وفي حروب المسلمين ضد مسيلمة الكذاب كان قائد الجيش خالد بن الوليد الذي جعل على قيادة المهاجرين في جيشه أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ومعه زيد بن الخطاب[4] فقاتل أبو حذيفة قتالاً مجيداً، ولما انكشف المسلمون في أول القتال كان أبو حذيفة يهتف فيهم: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، وقاتل حتى قتل رضي الله عنه[5]، وحمل راية المهاجرين يومذاك مولاه سالم وقاتل بها حتى قتل أيضاً[6]، وشهد حروب اليمامة ضد مسيلمة معاوية رضي الله عنه[7]، كما استشهد من حلفاء بني أمية عكاشة بن محصن الأسدي في قتال طليحة الأسدي[8]، وساهم العلاء الحضرمي حليفهم أيضاً في أخماد الردة في البحرين، ففعل وظفر بهم بعد بلاء حسن وآيات عجيبة[9]، وكان من الطبيعي بعد انتهلء حروب الردة وعودة المرتدين إلى حظيرة الدين وانصياعهم للحكومة الراشدة، أن تطمح الأبصار إلى تخليص الشعوب المستعبدة من حكوماتها الظالمة ودعوتها إلى الإسلام، وبدأ ما عرف في التاريخ بحركة الفتوح الكبرى على جبهتي فارس والروم.. وقد كان لبني أمية دور بارز في هذه الحروب مما يؤكد عمق التزامهم الإسلامي وحيوية دورهم التاريخي في هذه الفترة، غير أننا نشير في البداية إلى وضوح سمتين ظاهرتين صاحبتا حركة الفتوح[10]:
الأولى: هي تعاظم دور مسلمة الفتح وطلقاء مكة في الفتوح ـ ومنهم بعض بني أمية ـ وقد كان ذلك متوقعاً لسببين، الأول هو ما قرره أبو بكر من ضرورة عدم الاستعانة بمن ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه في الفتح[11]. وقد كان هذا يعود إلى حرص أبي بكر الصديق رضي الله عنه على نقاء هذه الفتوحات من آثار رقة الدين أو شهوات هذه النفوس التي لم تخلص بعد للإسلام، أو لم تبرهن على إخلاصها له.
والثاني : يعود إلى حرص هؤلاء السادة والأشراف على تعويض ما فاتهم من خدمة قضية الإسلام وأن يلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام فسادوا بذلك وعلت أقدارهم[12].
والسمة الظاهرة الثانية : هي تركز نشاط الأمويين في الفتوح على جبهة الشام يشاركهم في ذلك كثير من الفاتحين من أهل مكة عموماً، ويبدو أن ذلك كان أمراً مقصوداً من الخليفة الصديق الذي أدرك وجود صلات عميقة الجذور بين بني أمية والمكيين والقبائل العربية المقيمة ببلاد الشام تحت الحكم البيزنطي، تلك الصلات التي تعمقت من خلال النشاط التجاري المتواصل بين مكة والشام في الجاهلية والذي كان بنو أمية أبرز قواده ورواده[13]، وأما عن مشاركة الأمويين في حروب الفتح، فقد جاءت مبكرة، حيث شارك الوليد بن عقبة بن أبي معيط مع خالد بن الوليد في فتوح العراق الأولى، وشهد معه قتل هرمز، وأرسله خالد إلى أبي بكر بالغنائم وبشارة الفتح وأخباره عن جمع جديد من الفرس[14]، ثم وجهه الخليفة مدداً إلى عياض بن غنم الذي كان قد أمره بفتح العراق من جهة الشمال، وكان يحاصر دومة الجدل فيجد العنت والمشقة في فتحها، فأشار عليه الوليد باستمداد خالد بن الوليد، فاستمده، فأنجده، وفتحوا معاً دومة الجندل[15]، ثم ولاه أبو بكر على النصف من صدقات قضاعة مما يلي دومة الجندل[16]، ولكن الخليفة ما لبث أن كتب إليه يعرض عليه الجهاد في سبيل الله، ويخبره بينه وبين أن يظل على عمله الذي ولاه إياه فأجابه بإيثار الجهاد، فوجه به إلى الشام[17]، وكان أول لواء عقده أبو بكر في حروب الشام لخالد بن سعيد بن العاص الأموي ثم عزله وولى بدله يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي أيضاً[18]، وأما جيش يزيد بن أبي سفيان، فكان أول جيش كبير يوجهه أبو بكر إلى الشام ويودعه ماشياً[19]، ثم أتبعه بثلاثة جيوش أخرى يقودها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة بن الجراح[20]، يقول الذهبي عن يزيد بن أبي سفيان: وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، عقد له أبو بكر، ومشى تحت ركابه يسايره ويودعه ويوصيه، وما ذلك إلا لشرفه، وكمال دينه[21]. ثم اتبع الصديق بأناس آخرين يرغبون في الجهاد والحقهم بجيش يزيد وجعل عليهم أميراً معاوية بن أبي سفيان[22].. وخرج أبو سفيان بن حرب ـ وهو يومئذ شيخ كبير[23]، كما اشترك في الجهاد في الشام أيضاً خالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، وعمرو بن سعيد، وقاتلوا جميعاً هناك وقتلوا، حتى قيل: ما فتحت بالشام كورة من كورها إلا وجد عندها رجل من بني سعيد بن العاص شهيداً[24]، وقيل معركة اليرموك عقد قادة الجيوش مؤتمراً للحرب في الجولان.. ومر بهم أبو سفيان بن حرب فقال: ما كنت أظن أن أبقى حتى أرى أغلمة من قريش يذكرون أمر حربهم ويتذاكرون ما يكيدون به عدوهم ـ في منزلي ـ ولا يحضروني فاشترك معهم في مشورتهم، فأفسحوا له، فأسهم معهم في رسم خطة القتال[25]. ولما أزفت ساعة الحرب في اليرموك عمد قادة الفريقين إلى إذكاء حماس الجنود، فبينما كان الروم يحضضهم القسيسون والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى تشجعوا وخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله[26]، كان المسلمون يتبادرون إلى لقاء الخطب البليغة والأرجاز المشيرة[27]، بل أنهم عينوا أحد كبار شيوخهم والمخضرمين من رجالهم في مهمة ((القاص)) وكان ذلك الرجل هو أبو سفيان بن حرب نفسه[28]، ولا شك أن توليه ذلك العمل المهم هو أكبر دليل على صدقه وإخلاصه في دينه وإسلامه، إذ إن قادة الجيش لو علموا فيه آنذاك غير هذا الإخلاص ما جعلوه أميناً على تعبئة حماس الجند وإثارة حميتهم الإسلامية، ولو علم الجنود منه غير ذلك الصدق ما كان لعمله فيه ذلك الأثر العظيم، وقد كان اختياراً موفقاً فعلاً يتسق مع طبيعة تكوين ذلك الجيش الذي يضم الكثير من أهل مكة وقبائل العرب الذين تأخر إسلامهم، والذين احتفظوا بثقتهم القديمة في أبي سفيان، زعيمهم الذي خبروه[29]، وكان أبو سفيان رضي الله عنه يقف على الكراديس[30]، فيقول: الله الله ، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل النصر على عبادك[31].

ثانياً : في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عندما توفي الصديق عام 13هـ بويع الفاروق بالخلافة سار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية والثقة بهم، فلم يعزل أحد منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذاً والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله وتقصيه أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام[32].
1 ـ بدا نجم معاوية في الظهور :
بدا نجم معاوية رضي الله عنه في الظهور في ميدان العمل السياسي والإداري في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه فقد ولاه فتح قيسارية[33]سنة خمس عشرة للهجرة[34]، وجاء في كتاب توليته له: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير[35]، كانت هذه المهمة الجسيمة اختبار كبير من عمر لمعاوية في ميدان الواقع، فقد استطاع تجاوز هذا الاختبار بكل نجاح، فقد سار إلى قيسارية بجنوده الذين أعدهم له أخوه يزيد بن أبي سفيان ـ أحد ولاة الشام لعمر رضي الله عنه وكانت تلك المدينة محصنة وبأس أهلها شديد، فحاصرها معاوية طويلاً وزاحف أهلها مرات عديدة، فلم ييأس معاوية، فصمم على فتحها، واجتهد في القتال حتى فتح الله على يديه، وكان فتحه كبيراً فقد قتل من أهلها ما يقرب من مائة ألف[36] وبعث بالفتح والأخماس على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه[37]، وقد أثبت معاوية بعد توفيق الله ـ بهذا الفتح جدارته وحسن قيادته، فأكسبه ذلك ثقة الجميع، فأسند له أخوه يزيد ـ أمير دمشق ـ مهمة فتح سواحل الشام، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسناً[38]، فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالاً شديد، وربما رمى ففتحها، وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر ما يحتاج لها إليه من المسلمين فإن حدث في شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الإمداد[39]، ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وأنطاكية، وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك بعد القدس[40].
وكان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم والحيطة من المعاصي، ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرّض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام، إني كنت من أحدث النقباء سنّاً ,ابعدهم أجلاً، وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم[41]؟ ثم بين لهم ما يخشاه منهم، فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله في حملتكم[42]، وحض أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة[43]، فلم التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده وأخذ راجلاً، فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمون يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به، فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم[44] وبعد فتح قيسارية ونجاح معاوية في فتح سواحل دمشق ولاه عمر بن الخطاب ولاية الأردن وكان ذلك عام 17هـ[45].
2 ـ ولايته على دمشق وبعلبك والبلقاء:
في سنة ثمان عشرة للهجرة توفي يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما في طاعون عمواس، فولى عمر معاوية عمل أخيه ـ دمشق وبعلبك والبلقاء[46]، وقد كان لعمل عمر هذا أكبر الأثر على نفسية والد معاوية ووالدته، فحين عزا عمر أبا سفيان في وفاة ابنه يزيد قال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟ قال: أخوه معاوية. قال: وصلت رحماً يا أمير المؤمنين. وكتب أبو سفيان لمعاوية ينصحه في بداية عمله هذا فمما قال: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك[47]، وكذلك كتبت له والدته هند بنت عتبة تقول: والله يا بني إنه قل أن تلد مثلك وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت[48].
وكان بعض الناس ـ لا سيما شيوخهم ـ استغربوا تولية عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه مع حداثة سنه ووجود من هو أكبر منه وأفضل، لذا سوغ عمر رضي الله عنه عمله هذا ـ حيث قالوا: ولى حدث السن ـ بقوله: تلومنني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به[49] .
3 ـ معاوية في موكب عظيم وإنكار عمر عليه:
كان عمر رضي الله عنه ـ وهو الخبير بمعادن الرجال ـ يدرك أكثر من غيره ما يتمتع به معاوية من صفات تؤهله للقيادة، فحين قدم عمر الشام وافاه معاوية بموكب عظيم أنكره عليه عمر فقال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك. قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال له عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب[50] الضرس، لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب[51]، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب[52]. قال: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جَشَّمناه[53]، وفي رواية أن الرجل الذي قال لعمر ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه هو عبد الرحمن بن عوف، وكان مع عمر حين استقبلهما معاوية بهذا الموكب العظيم[54]. وهذا الجواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ يدل على خبرة سياسية عالية، ومعرفة واعية بأحوال الأمم، ودراية كاملة بسياسة الرعية والمحافظة على الوضع الأمني للدولة التي يحكمها، ومن أجل هذا رضي عمر سياسته على الرغم من أنها تخالف سياسة عمر في اهتمامه بأحوال رعيته وبحث شكاواهم، ولعل كلمة عمر ـ رضي الله عنه ـ من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه تدل على رضاه عن سياسة معاوية[55]. وكان عمر رضي الله عنه يتعهد معاوية بالتربية والوعظ والنصح، وأحياناً يشتد ويغلظ عليه، فعن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض أو أبضُّ الناس وأجملهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه، فيعجب له، ثم يضع أُصبُعَه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشِّراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، سأحدثك، إنّا بأرض الحمّامات والريف فقال عمر: سأحدثك ما بك إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. قال فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حُلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجّاً تَفِلاً، حتى إذا جاء أعظم بُلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، فقال معاوية: إنما لبستهما لأدْخل فيهما على عشيرتي أو قومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، والله يعلم إني لقد عرفتُ الحياء فيه ثم نزع معاوية ثوبيه، ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما[56]، وقال عمرو بن يحي بن سعيد الأموي، عن جَدِّه قال: دخل معاوية على عمر وعليه حُلَّةٌ خضراء فنظر إليها الصّحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدِّرَّة، فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين، الله الله فيَّ فرجع عمر إلى مجلسه، فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين وما في قومِك مثله؟، فقال: والله ما رأيت إلا خيراً وما بلغني إلا خير، ولكنِّي رأيته وأشار بيده[57] ـ فأحببت أن أضع منه[58]، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب[59]. وكان معاوية رضي الله عنه في إمارته بالشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة وكان يرى أنه في ثغر تجاه العدو ويحتاج إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد[60] وإظهار الملك والسلطان، وكان يرى أن الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحمله على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً[61]، وقد قال الله تعالى: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) (ص ، آية : 33) لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك وكانت أبهة معاوية في الملك لها أغراض ومقاصد شرعية ولذلك سكت عمر رضي الله عنه، وذات يوم ذكر معاوية عند عمر فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرِّضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه[62]، ومهما يكن في هذه الرواية وغيرها من مبالغة، فإن ثقة عمر في معاوية تظل فوق مستوى الشبهة والشك[63]، فقد برهن معاوية لعمر عمق فهمه لضرورات السياسة وتغير البيئة والمجتمع، وأثر ذلك كله على التطوير السياسي لأدوات الحكم، ومهما يكن من أمر فقد عظمت مكانة معاوية عند عمر رضي الله عنه، فولاه أهم أقاليم دولته، وزاد في ولايته، ولم يعزله، على كثرة من كان يعزل من عماله وأمرائه، وكان معجباً بذكائه وإدارته ولا يكتم ذلك الإعجاب[64] حتى قال يوماً لجلسائه تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية[65].




]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:36 AM

4 ـ جهود معاوية رضي الله عنه على جبهة الشام :
لما تولى معاوية أمر الشام، وانطلق عمرو بن العاص لفتح مصر، أصبحت مهمة حماية الحدود الشامية للدولة الإسلامية والتوسع منها منوطة به، وتتلخص أهم إنجازاته العسكرية في أمرين هما: سن نظام الصوائف والشواتي[1]، وتكوين أسطول بحري إسلامي لأول مرة في تاريخ الإسلام[2].
أ ـ سن نظام الصوائف والشواتي في عهد عمر:
أصيب الروم على يد جنود الإسلام بهزائم مريرة متتالية فقدوا على أثرها الشام ومصر، بكل ما تمثلانه من أهمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، غير أنهم لم يسلموا بهذه الهزائم، بل استمرت هجماتهم على الشام من خلال الدروب الجبلية التي تفصلهم عن باقي أجزاء إمبراطورية الروم، مما جعل عمر بن الخطاب يقول في جولته بالشام سنة 16هـ: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه، وللروم ما وراءه[3]، وفي رحلته هذه إلى الشام سمى عمر الصوائف والشواتي، وسد فروج الشام ومسالكها[4]، ومن المحتمل أن يكون هدف الروم من هجماتهم على المدن الإسلامية الحدودية منذ البداية، هو اعتماد ذلك كتدبير وقائي لحماية بلاد الروم وردع المسلمين، لكن استجابة معاوية كانت فوق التحدي، فقد نقل المعركة إلى بلاد العدو، وابتعد بالحرب عن بلاد المسلمين، وكان لا بد لمعاوية ـ من أجل تحقيق ذلك الهدف ـ من تطوير وسائط الدفاع، واعتبار العواصم والثغور مجرد قواعد متقدمة واجبها تلقي الصدمة والإنذار، مع استخدام هذه القواعد مركز انطلاق للهجمات المضادة، وقد قاد معاوية بنفسه بعض هذه الصوائف منها صائفة سنة 22هـ حيث دخل بها بلاد الروم في عشرة آلاف، وصائفة 23هـ[5]، حيث أوغل حتى بلغ عمورية، ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وشداد بن أوس[6].
ب ـ تكوين أسطول إسلامي في البحر :
ويعود الفضل إلى الله ثم إلى معاوية في هذه المرحلة المبكرة إلى فتح باب الجهاد في البحر الذي أصبح ضرورياً لحماية الشام ومصر ومواجهة النشاط المتزايد للأسطول البيزنطي، وغاراته المتكررة على سواحل الإقليمين، وإمداداته للثائرين بهما. وقد استطاعت عمليات الصوائق والشواتي أن تضع حداً للتهديدات البرية، لكن المدن الساحلية، بداية من إنطاكية ونهاية بالأسكندرية، بقيت تحت رحمة البحرية البيزنطية، وأدرك معاوية أيضاً أنه من المحال تطوير عمليات الفتوح في أفريقيا ما لم يتم انتزاع السيطرة البحرية من البيزنطيين[7] ، ولم يبدأ معاوية في غزو البحر فعلياً إلا في عهد عثمان وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى .
ثالثاً : معاوية رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية رضي الله عنه والياً على معظم الشَّام، فأقرَّه عثمان عليها[8]، كما أقرَّ بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم، كاليمن، والبحرين، ومصر وغيرها من الولايات، وقد تطورت الأحداث، وضُمَّت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان، وأشدّهم نفوذاً وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون، منهم: عمير بن سعد الأنصاري، وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان رضي الله عنه إلا أن عميراً مرض مرضاً أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه، وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية، فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد[9]، كما توفي علقمة بن محرز، وكان على فلسطين، فضمّ عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فاجتمعت الشَّام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان رضي الله عنه حتَّى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف[10]، وقد كانت فترة معاوية على الشَّام مليئة بالأحداث، وكانت الشَّام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشَّام في داخلها قد استقرت أوضاعها، وسادها الإسلام، وقلَّت محاولات الرُّوم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحاً أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي وسيأتي الحديث عنها بإذن الله، وقد كان لمعاوية ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم، حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع، وجَّهها إلى عثمان[11] رضي الله عنه وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.
1 ـ فتوحات حبيب بن سلمة الفهري رضي الله عنه:
كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز أمراء الجهاد في زمن ولاية معاوية على بلاد الشَّام، فعند أجلبت الرُّوم على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أوّل خلافة عثمان، كتب معاوية إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة والي الكوفة عندما انتهى من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاء في خطاب الخليفة إلى الوليد بن عقبة: أمَّا بعد: فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني: أن الرُّوم قد أجلبت[12] على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلاً ممَّن ترضى نجدته، وبأسه، وشجاعته، وإسلامه في ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي[13] والسَّلام. فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: أمّا بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسناً، وردَّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلاداً لم تكن افتتحت، وردَّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشر آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدُّون إخوانكم من أهل الشام، فإنَّهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا ـ رحمكم الله مع سليمان بن ربيعة، فانتدب النّاس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا، حتى دخلوا الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهريُّ، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهليُّ، فسنُّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاؤوا من سبي، وملؤوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصوناً كثيرة[14]، وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة، وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيت قائدهم الموريان ـ أي : يباغته ليلاً ـ فسمعته امرأته أمُّ عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة.. ثم بيتهم، فغلبهم. وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته، قد سبقته إليه[15]، وواصل حبيب جهاده، وإنتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية، وأذربيجان، ففتحها إمّا صلحاً. أو عنوة[16]، وقد كان حبيب بن سلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية، فقد أباد جيوشاً بأكملها للعدوِّ،وفتح حصوناً، ومدناً كثيرة[17]، كما غزا ما يلي ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط، وملطية، وغيرها[18]،
2 ـ غزوات معاوية في عهد عثمان في البر :
أدرك معاوية رضي الله عنه بأن إزالة خطر الروم وتهديدهم للمسلمين لا يتم إلا بمواصلة غزو الروم وتنشيط حركة الجهاد بشكل مستمر في الثغور الشامية والجزرية[19] وشحنهما بالمرابطين وتعهدها على الدوام، وقد أخذ منه ذلك وقتاً طويلاً وبذل فيه جهداً كبير خلال ولايته تلك في عهد عثمان، ففي سنة خمس وعشرين للهجرة قام معاوية بجولة عسكرية على الثغور الشامية، فوجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنسرين حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك. وكانت الولاة تفعله[20]، وفي سنة إحدى وثلاثين غزا من ناحية المصيصة فبلغ درولية[21]، فلما خرج جعل لا يمر بحصن فيما بينه وبين النطاكيه إلا هدمه[22]، وكذلك الشأن في الثغور الجذرية فقد أولاها عنايته فقد وجه في الأيام الأولى لولايته تلك، كلا من حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل السلمي إلى شمشاط ففتحها. كما وجه حبيب بن مسلمة إلى إعادة فتح ملطية بعد أن انتقضت، ففتحها عنوة، ورتب فيها رابطة من المسلمين مع عاملها، كما قام معاوية بنفسه بعد ذلك بحملة أخرى يريد التوغل في أرض الروم فقد مرَّ على ملطية فشحنها بجماعة من أهل الشام والجزيرة وغيرهما وذلك لكي تكون طريقاً آمناً لحملات الصوائق. كما غزا حصن المرأة من الثغور الجزرية في السنة نفسها[23]، وكان يتعهد حصن الحدث، وبنى مدينة مرعش وأسكنها الجند، وكل هذه المدن والحصون من الثغور الجزرية[24]، ولما اطمأن معاوية إلى قوة جانبه بعد تلك الإجراءات أخذ يغزو في عمق الأراضي الرومية، فقد قاد بنفسه غزوة سنة اثنين وثلاثين للهجرة توغل فيها بجيشه حتى وصل مضيق القسطنطينية[25].
3 ـ معاوية يلتمس من عثمان رضي الله عنهما السماح له بالغزو البحري:
كان معاوية رضي الله عنه يلح على عمر في غزو البحر، ويصف له قرب الرُّوم من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم، وصياح دجاجهم حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، إن ركن خرَّق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: أن لا، والذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وتالله لمسلم أحبُّ إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منَّي، ولم أتقدم إليه في ذلك[26]. ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأي في الرُّوم ما رأى، فطمع في بلادهم وفتحها، فلمَّا تولَّى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث، وألحَّ به على عثمان، فردّ عليه عثمان رضي الله عنه قائلاً: أن قد شهدت ما ردَّ عليك عمر ـ رحمه الله ـ حين استأذنته في غزو البحر. ثم كتب إليه معاوية مرَّة أخرى يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذوناً وإلا فلا[27]. كما اشترط عليه الخليفة عثمان رضي الله عنه أيضاً بقوله: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعاً، فاحمله وأعنه[28]، فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب، وتقريبها إلى ساحل عكَّا، فقد رمَّه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص[29].
4 ـ غزو قبرص:
أعدَّ معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتَّخذ ميناء عكَّا مكاناً للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة، وحمل معه زوجه فاخته بنت قرظة، كذلك ، كذلك حمل عبادة بن الصَّامت امرأته أمَّ حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة[30]، وأمُّ حرام هذه صاحبة القصَّة المشهورة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أمَّ حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أمُّ حرام تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك. فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟: قال ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبيج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرَّة. وقالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم! فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟!.
قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ في سبيل الله...)) ـ كما قال في الرواية الأولى ـ. قال: أنت من الأوّلين. فركبت أمّ حرام بنت ملحان في البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[31] . ورغم أن معاوية رضي الله عنه لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين[32]، مما يدل أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدُنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبؤون بها بالرَّغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها. أن المسلمين قد ترّبوا على أنّ ما عند الله خير، وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كلِّ ما عداه، وهم يعتقدون: أنّ هذه المهمَّة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصَّروا في مهمَّتهم، وقعدوا عن أداء واجبهم، فسيمسك الله عنهم نصره في الدُّنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، من أجل هذا هُرعوا مع معاوية، وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعلَّ حديث أمِّ حرام قد ألمَّ بخواطرهم، فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة 649م[33]، وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء أم حرام لتركب دابَّتها، فنفرت الدّابة، وألقت أمَّ حرام على الأرض، فاندقت عنقها، فماتت[34]، وترك المسلمون أمَّ حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنواناً على مدى التضحيات التي قدَّمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة[35]، واجتمع معاوية بأصحابه، وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريُّ، وأبو الدَّرداء، وأبو ذر الغفاريُّ، وعبادة بن الصَّامت، وواثله بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازنيُّ،وشدّاد بن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نضير الضرمي. وتشاوروا فيما بينهم، وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم: أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم[36]،ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله، ثمَّ تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام، وذلك لأنَّ البيزنطيِّين كانوا يتخذون من قبرص محطَّة يستريحون فيها؛ إذا غزوا، ويتموَّنون منها، إذا قلَّ زادهم، وهي بهذه المثابة تهدِّد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم، وخضوعها لإرادتهم، فإن وجودها كذلك سيظلُّ شوكة في ظهورهم، وسهماً مسدَّداً في صدورهم، ولكنّ سكّان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة، ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصّنوا في العاصمة، ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدّم الروم للدّفاع عنهم، وصدّ هجوم المسلمين عليها[37].
5 ـ الاستسلام وطلب الصلح:
تقدّم المسلمون إلى عاصمة قبرص ((قسطنطينا )) وحاصروها وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وقدّموا للمسلمين شروطاً، واشترط عليهم المسلمين شروطاً، وأما شرط أهل قبرص، فكان هي طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطاً تورّطهم مع الروم، لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأمّا شروط المسلمين، فهي :
أ ـ ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة، إذا هاجم سكانها محاربون.
ب ـ أن يدلّ سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوّهم من الروم.
ج ـ أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومئتي دينار في كل عام.
د ـ أن يكون طريق المسلمين إلى عدوّهم عليهم.
س ـ ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يُطلعوهم على أسرارهم[38].
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة وأعطت المسلمين فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدوّ المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام، أو على الإسكندرية[39]
6 ـ عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسيّ حليف بني فزارة فغزا خمسين غزاة ما بين شاتية، وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد، ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه الله العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتّى إذا أراد أن يصيبه وحده، خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم وعليه سُؤَّال يعترّون [40] بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السُّوَّال إلى قريتها، فقالت للرجال : هل لكم في عبد الله بن قيس ؟ قالوا وأين هو ؟ قالت : في المرفأ، قالوا : أي عدوّة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس ؟ فوبّختهم، وقالت : أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد فساروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه، وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه، ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله : وا عبد الله ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : الغمرات ثم ينجلينا وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس: الجاسيِّ[41]، وقيل لتلك المرأة التي استشارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتَّاجر، فلمّا سألته، أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس[42]. وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمنىَّ بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضرُّ بسمعة المسلمين البحرية، حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الَّذكَّية من نساء تلك البلاد، حيث رأت ذلك الرَّجل يظهر من مظاهر الخارجَّية بمظهر التُّجار العاديين، ولكنَّه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السِّيادة مع بساطة مظهره فعرفت: أنه قائد المسلمين، الذي دوّخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت نسمات ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع غير المسلمين في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيتمَّ بذلك الهجوم عليه، وظفرْ بالشهادة، وهكذا يضرب قادة المسلمين المُثُل العليا بأنفسهم، لتتمَّ الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم، فقد قام هذا القائد الملهم بهمّة الاستطلاع بنفسه، ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء، والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه، فيتولىَّ هذه المهمة، ثمّ نجده يتخلفَّ بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء، وضعفتهم فيمدُ لهم يد الحنان، والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعزِّ ما يملك الناس، ونجدة قبل ذلك مع جنده رفيقاً صبوراً، ولا معنِّفاً، ولا مستكبراً، وإذا ادلهمِّت الخطوب، تفان بانكشاف الغّمة، ولم يجأ إلى لوم أصحابه، وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجِّل بالخلل، والفوضى، وأمَّا خليفته سفيان الأزديَّ، فلعلهَّ وقع فيما وقع فيه من الإرتباك، والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مَّما يُحفظ له: أنَّه لما نبَّهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهبه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبُّر على عدم سماع كلمة الحقِّ، وإن صدرت من جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالباً في الجيل الأوَّل، وبه تمّ إنجاز الفتوحات العظيمة، ونجاح الولاة، والقادة في إدارة أمور الأمة، فلله درُّ أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم وما أبعد نحورهم! وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين أو ما أعذب لمساتهم في الأرض عل المستضعفين والمساكين[43].
7ـ القبارصة ينقضون الصلح :
في سنة أثنتين وثلاثين هجرَّية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الرُّوم بالسُّفن، ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوُّا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص، فعزم على الاستيلاء على الجزيرة، ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوماً عنيفاً، فقتلوا، وأسروا وسلبوا، وهجم عليها جيش معاوية من جهة، وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقاً كثيراً، وسبوا سبياً كثيراً، وغنموا مالا جزيلاً[44]، وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول[45]، وخشي معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة، فيحميها من غارات الأعداء، ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفاً من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك، وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجداً، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم، وظلّ الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون: أنّ أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون: أن الروم يغلبونهم على أمرهم، ويسخّرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلطّ البيزنطيين وقال: إسماعيل بن عيّاش: أهل قبرص أذلاء مقهورون ويغلبهم الروم على أنفسهم، ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم، ونحميهم[46].
8 ـ ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء رضي الله عنه حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثمّ قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه، فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله ـ عز وجلّ ـ وعصوه، صاروا إلى ما ترى[47].
وجاء في روايةٍ: فقال له جبير بن نفير أتبكي وهذا يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، فقال: ويحك: إن هذه كانت أمّة قاهرة لهم ملك، فلما ضيّعوا أمر الله، صيرّهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السّبي، فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى، إذا تركوا أمره[48]. إن ما تفوّه به أبو الدرداء، يعتبر مثلاً للبصيرة النافذة، والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق، فباؤوا بهذا المصير المؤلم، حيث تحولوا من الملك، والعزة إلى الاستسلام والذّلة، لإصرارهم على لزوم الباطل، والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا، وتدبّروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم، وعمران ديارهم، والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهرٌ من مظاهر الرّحمة، والعطف، تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تتحدّر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبّر عمّا يجول في نفسه من نظرات الحنان، والرّحمة، والأسى على مصير تلك الأمة التي اجتمع البقاء على الضلال، والمآل السيء بزوال الملك، والوقوع في الذل والهوان، وإنّه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام، فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر، والتشرّد، وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا[49]؟
9 ـ معاوية يوليّ عبادة بن الصامت رضي الله عنهما على قسمة غنائم قبرص :
قال عبادة بن الصامت لمعاوية رضي الله عنهما : شهدت رسول الله عليه وسلم في غزوة حنين الناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير، وقال: مالي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم[50]. فأتق الله يا معاوية! واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطي منها أحداً أكثر من حقه! فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، ليس أحد بالشّام أفضل منك، ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها، واتق الله فيها، فقسمها عبادة بين أهلها، وأعانه أبو الدرداء، وأبو أمامة[51].
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من مؤسسي المدرسة الشامية فقد وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين فولي قضاءها، واستقر به المقام فيها، فكان أول من تولى قضاء فلسطين، وكان أيضا يعلم أهلها القرآن وظل على هذا النحو إلى أن مات بها[52]، وقد أسهم عبادة رضي الله بنصيب كبير في تنفيذ سياسة الخلافة الراشدة العلمية والتربوية والجهادية، وكان رضي الله عنه من أهل الزهد والخشونة، فعندما وصل إلى حمص قال لأهلها: ألا أن الدنيا عرض حاضر، وإن الآخرة وعد صادق، ألا أن للدنيا بنين وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها[53].
10 ـ حقيقة الخلاف بين أبي ذر ومعاوية وموقف عثمان رضي الله عنهم منه :
إن مبغضي عثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يشنّعون عليه أنه نفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة وزعم بعض المؤرخين: أن ابن السوداء عبد الله بن سبأ لقي أبا ذر في الشام، وأوحى إليه بمذهب القناعة، والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب أنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث أليك أبا ذر. فأخرج معاوية أبا ذر من الشام[54]، وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبهاً بين رأي أبي ذر، ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن وطوّف في العراق، وكان الفرس في اليمن، والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقَّى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذرّ على حسن النية في اعتقادها[55]. وكلَّ ما قيل في قصَّة أبي ذرّ، ممّا يُشَّنع به على عثمان باطل لا يُبنى على رواية صحيحة، وكلُّ ما قيل حول اتصال أبي ذر رضي الله عنه بإبن السَّوداء باطل لا محالة[56]. والصحيح: أن أبي ذرّ رضي الله عنه نزل في الربذة باختياره، وأنَّ ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذرّ في فهم آية خالف فيه الصَّحابة، وأصرَّ على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه، فطلب أن ينزل بالربذة[57]، التي كان يغدو إليها زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن نزوله بها نفياً قصرياً، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرّجوع عن رأيه، لأن له وجهاً مقبولاً، لكنَّه لا يجب على المسلمين الأخذ به[58]. وأصحُّ ما روي في قصة أبي ذرّ رضي الله عنه ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم)) (التوبة ، آية : 34) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس حتَّى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليَّ حبشيّاً، لسمعت وأطعت[59]. وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة منها:
أ ـ سأله زيد بن وهب، ليتحقَّق ممَّا اشاعه مبغضون عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذرّ المكان؟ فجاء سياق الكلام: أنه خرج بعد أن كثر النّاس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشَّام، وليس في نص الحديث: أنَّ عثمان أمره بالذهاب إلى الربذَّة، بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصَّامت قال: دخلت على أبي ذرِّ عند عثمان، فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم ـ يعني : الخوارج ـ فقال: إنَّما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، إئذن لي بالرَّبذة. قال: نعم[60] .
ب ـ قوله: كنت بالشَّام: بيَّن السَّبب في سكناه الشَّام، ما أخرجه أبو يعلي عن طريق زيد بن وهب: حدَّثني أبو ذرَّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء ـ أي المدينة ـ سَلْعَاً، فارتحل إلى الشَّام. فلمَّا بلغ البناء سلعاً، قدمت الشام فسكنت فيها[61].
جـ ـ إنَّ قصة أبي ذرِّ في المال جاء من اجتهاده في فهم الآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)) (التوبة ، آية : 34 ـ 35). وروى البخاري عن أبي ذرِّ ما يدل على أنَّه فسرَّ الوعيد ((يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا)) الآية، وكان يخوِّف النَّاس به، فعن الأحنف بن قيس، قال: جلستُ إلى ملأ من قريش في مسجد المدينة، فجاء رجل خَشِن الشَّعر، والثّياب، والهيئة، حتى قام عليهم، فسلَّم، ثم قال: بشرِّ الكانزين بَرضفٍ[62] يُحمى عليه في نار جهنَّم ثم يوضع على حلمة ثَدْي أحدهم، حتَّى يخرج من نُفضي كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل[63]. ثمَّ ولّى فجلس في سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت قال: إنَّهم لا يعقلون شيئاً. واستدلَّ أبو ذرّ رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحبُّ أنَّ لي مثل أحد ذهباً، أنفقه كُلَّه إلا ثلاث دنانير[64].
د ـ وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذرّ، وحملوا الوعيد على مانعي الزّكاة واستدلوا على ذلك بالحديث، الذي رواه أبو سعيد الخدريُّ، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس دون خمس ذَوْدٍ صدقة وليس وفيما دون خمسة أو ست صدقة[65]. وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث: أنَّ ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه: أنَّ كلَّ ما أخرجت منه الصَّدقة، فلا وعيد على صاحبه، فلا سمَّى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزاً[66]، هذا وقد فصلت في موضع أبي ذرّ وخلافه مع معاوية رضي الله عنهما في كتابي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأثبت بالحجج والأدلة والبراهين بأن عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرِّ رضي الله عنه ، إنما استأذنه، فأذن له ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عليه بأنَّه نفاه، ولذلك لمَّا سأل غالب القطان، الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال الحسن: لا معاذ الله[67]، وكل ما روي في إنه أنَّ عثمان نفاه إلى الربَّذة فإنه ضعيف الإسناد، لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويَّات الصحيحة والحسنة، التي تبيِّن أن أبا ذرِّ استأذن للخروج إلى الرّبذة، وأنَّ عثمان أذن له[68]، بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام، ليحاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة[69]. وقال له أيضا: كن عندي، تغدو عليك، وتروح اللقاح[70]. أفمن يقول ذلك ينفيه[71]. ولم تنصّ على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وفيه رفض. فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة، والحسنة[72]؟ واستغل الرّافضة هذه الحادثة أبشع استغلال، فأشاعوا: أن عثمان رضي الله عنه نفي أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قبل الخارجين عليه،، أو أنّهم سوّغوا الخروج عليه[73]، وعاب عثمان رضي الله عنه بذلك ابن المطهّر الحلِّي الشيعي المتوفي سنة 726هـ، بل زاد: أن عثمان رضي الله عنه ضرب أبا ذرٍّ ضرباً وجيعاً، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رداً جامعاً قوياً[74]، وكان سلف هذه الأمَّة يعلمون هذه الحقيقة، فإنَّه لما قيل للحسن البصريِّ: عثمان أخرج أبا ذرِّ؟ قال: لا، معاذ الله[75]. وكان ابن سيرين إذا ذُكر له: أنَّ عثمان رضي الله عنه سيَّر أبا ذرّ، أخذه أمرٌ عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيِّره عثمان[76]، وكما تقدم في الرِّواية الصحيحة الإسناد: أنَّ أبا ذرّ رضي الله عنه لمَّا رأى كثرة النَّاس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان رضي الله: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً[77]. كما أن أبا ذرِّ رضي الله عنه لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ، وقد أقام بالرَّبذة حتى توفيِّ، ولم يحضر شيئاً مما وقع في الفتن[78]، ثمَّ قد روى حديثاً من أحاديث النَّهي عن الدخول في الفتنة[79]، وبعد وفاة أبي ذرِّ رضي الله عنه ضمّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عياله إلى عياله[80]، فرضي الله على جميع الصحابة الأبرار، الطيبين الأطهار
11 اتهام عثمان رضي الله عنه بإعطاء أقاربه من بيت المال:
اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء، والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتِِّهام حملة دعائية باطلة قادها أعداء الإسلام ضدَّه، وتسرَّبت في كتب التاريخ، وتعامل معها بعض المفكِّرين، والمؤرخين على كونها حقائق، وهي باطلة لم تثبت، لأنها مختلقة، والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد مناقبه، لا من المثالب[81]فيه. إن عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروة عظيمة، وكان وصولا للرحم[82]يصلهم بصلات كثيرة وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار، وقالوا بأنَّه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا: إني أحبُّ أهل بيتي، وأعطيهم.. فأمّا حبِّي لهم؛فإنَّه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم.. وأما إعطاؤهم، فإني إنّما أعطيهم من مالي،ولا استحلُّ أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس،وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر،وعمر،وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي[83]، وفني عمري، وودَّعت الذي لي في أهلي،قال الملحدون ما قالوا[84]؟ وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أميه، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة الآف، فأخذوا مئة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص، وفي بني العيص، وفي بني حرب[85]، فهذه النصوص وغيرها وممَّا اشتهر عنه، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمّة تدل على ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال، وإنفاق أكثره على أقاربه، وقصوره حكايات بدون زمام، ولا خطام[86].
إن سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة،لقوله تعالى:(( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)) (الإسراء ، الآية :26).كما أنَّها تمثِّل جانباً عملياً من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد رأى عثمان رضي الله عنه من رسول الله وعلم من حاله ما لم ير،أو يعلم غيره من منتقديه وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاربه وبرِّه لهم، وإحسانه إليهم،وقد أعطى عمَّه العَّباس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين[87]، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله أعظم القدوة[88]، وقد ردَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى أربعمائة نفر من قريش زوَّجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف وألف دينارـ مليون دينارـ فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟. نعم كان يعطي أقاربه، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانياً:هذا من الكذب البيِّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ[89].

ميارى 14 - 5 - 2010 12:39 AM

12[align=justify]
ـ هل عين عثمان رضي الله عنه أحداً من أقربائه على حساب المسلمين؟
لم يكن عثمان رضي الله عنه عين أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ولو أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد بن أبي حذيفة أولى النَّاس بهذه المجاملة، ولكنَّ الخليفة أبى أن يوليه شيئاً ليس كفؤاً له بقوله: يابنيَّ لو كنت رضاً ثمّ سألتني العمل، لاستعملتك، ولكن لست[1]هناك.ولم يكن ذلك كراهية له، ولا نفوراً منه، وإلا لما جهَّزه من عنده، وحمله، وأعطاه حين أستأذن في الخروج إلى مصر[2]وأمّا استعمال الأحداث فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوة حسنة فقد جهَّز جيشاً لغزو الرُّوم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد، رضي الله عنهما[3]، وعندما توفيِّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم تمسَّك الصديق رضي الله باء نفاذ هذا الجيش، لكنَّ بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أحسن منه، فكلَّموا عمر في ذلك ليكلمِّ أبا بكر، فغضب أبو بكر لمَّا سمع هذه المقالة، وقال لعمر: يا عمر استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتأمرني أن أعزله[4]. ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملاء من الصحابة بقوله: ولم أستعمل إلا مجتمعاً، محتلماً، مرضياً، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم وقد ولىَّ من قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا قيل لي في استعماله لأسامة،أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للنَّاس مالا يفسرون[5]. ويقول عليّ رضي الله عنه: ولا يولِّ أي: عثمان ـ إلا رجلاً سويا، عدلا، وقد ولىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على مكّة وهو ابن عشرين سنة[6]ولم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه جاهلين بأمور الشَّرع، ولم يكونوا من المفرِّطين في الدِّين، وإذا كانت لهم ذنوب، فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء تعود عليهم ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيَّام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضمّ إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة، والدّين ما يحثهم على الجهاد، ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة، ومتاع الدنيا وقد تتبعت سيرة هؤلاء الولاة، فوجدت لكل واحد منهم فتحاً، أو فتوحاً في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة وقد فصلت في كتابي عن عثمان رضي الله عنه في مبحث مستقل حقيقة ولاة عثمان[7]رضي الله عنه.
إن الذي يرجع إلى الصحيح الممحّص من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين ـ رضوان الله عليهم ـ وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمّة، وسعادتها، فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه عن الجهر بالإعجاب، والفخر كلمّا أمعن في دراسة ذلك من أدوار التاريخ الإسلامي[8].
إن عثمان رضي الله عنه وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء، وجهادهم، وردّهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ومدّ نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنّهم اعتدوا على الناس، ولكنّنا لم نلمس حوادث معينة يتّضح فيها هذا الاعتداء المزعوم، والمشاع، كما اتُّهم عثمان بتولية أقاربه، وقد دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى: أنّ عثمان لم يألُ جهداً في نصح الأمة، وفي تولية من يراه أهلاً للولاية، ومع هذا لم يسلم عثمان، وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المحقّقة عن عهد عثمان وخصوصاً الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاماً لا تعتمد على التحقيق، أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة، فقد تورّط الكثير منهم في الرّوايات الضّعيفة، والرافضّية، وبنو أحكاماً باطلة وجائرة في حق الخليفة الرّاشد عثمان بن عفان، مثل طه حسين في كتابه: الفتنة الكبرى، وراضي عبد الرحيم في كتابه: النظام الإداري والحربي، وصبحيّ الصالح في كتابه: النُّظم الإسلامية، ومولوي حسين في كتابه: الإدارة العربية، وصبحي محمصاني في كتابه: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه، والقضاء، وتوفيق اليوزبكي في كتابه: دراسات في النظم العربية والإسلامية، ومحمد الملحم في كتابه: تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري، وبدوي عبد اللطيف في كتابه: الاحزاب السياسية في فجر الإسلام، وأنور الرِّفاعي في كتابه: النظم الإسلامية، ومحمد الرّيِّس في كتابه: النظريات السياسية، وعلي حسني الخربوطلي في كتابه: الإسلام والخلافة، وأبي الأعلى المودودي في كتابه الملك والخلافة وسيد قطب في كتابه: العدالة الاجتماعية، وغيرهم[9].
ولقد أكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه، وسيطرتهم على أزمة الحكم في عهده، حتّى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة[10]، وأقارب عثمان الذي ولاهم رضي الله عنه أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، والثاني عبد الله بن أبي السرح، والثالث الوليد بن عقبة، والرّابع سعيد بن العاص، والخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان، وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه،فلو أخذنا إحصائية لوجدنا: أن عدد الولاة في عهد عثمان ستة وعشرون والياً، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية وبخاصة إذا علمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليّ بني أمية أكثر من غيرهم؟ علماً بأن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلّهم في وقت واحد، بل كان عثمان رضي الله عنه ولىّ الوليد بن عقبة، ثمّ عزله، فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، ولم يتوفّ عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة ألا ثلاثة وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، ولكنّه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترض بوالٍ أبداً إذ عزلُ عثمان رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعناً فيهم، بل مطعن في أهل الشغب في المدينة التي وُلُّوا عليها[11]. إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة منهم أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس! لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤددّ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد بن سعيد على صدقات بني مدحج، وأبان بن سعيد على بعض السّرايا ثمّ على البحرين فعثمان رضي الله عنه، لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جنسهم، وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقرّه عمر، ثمّ ولىّ عمر بعده أخاه معاوية[12]. والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ والحقيقة العلمية التي أثبتها في كتابي عن عثمان رضي الله عنه بأن ولاة عثمان أثبتوا كفاءتهم، فالولاة الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاءة والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان[13]، فمثلاً معاوية رضي الله عنه كانت سيرته مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة ممّا جعل النّاس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيار أئمتكم ـ حكامكم ـ الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم[14]، وقد بين القاضي ابن العربي وأثبت أن رسول الله استكتبه، وأن سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية لم يكن لأحد قبله، ولم يكن لأحد بعده، حيث أجتمع على توليته: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقرّ له بالخلافة الحسن بن علي بن أبي طالب[15].
13 ـ أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه:
قال الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين، أوّل ستّ سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئاً، وإنّه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأنّ عمر كان شديداً عليهم، أمّا عثمان، فقد لان لهم، وَوَصَلَهم، ثمّ حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمّى المؤرِّخون المسلمون الأحداث في النِّصف الثاني من ولاية عثمان 30 ـ 35هـ (الفتنة)، التي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه[16]، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر، وعمر، وصدراً من خلافة عثمان، متَّفقين، لا تنازع بينهم، ثم حدثت في أواخر خلافة عثمان أمور، أوجبت نوعاً من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة، والظلم فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان،[17] وكان المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق، والفاروق، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الآتية.
أنه في عمومه ـ مجتمع مسلم بكل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقلّ قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التَّاريخ.
_ أنه المجتمع الذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ للأمَّة بمعناها الرَّباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة، والجنس، واللَّون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقَّق في التاريخ كما تحقّقت في الأمة الإسلامية.
ـ أنه مجتمع أخلاقيُّ يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين، وتوجيهاته.
ـ أنه مجتمع جادٌ، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجدُّ بالضرورة عبوساً، وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمّة في الناس، وتحثُّ على النشاط، والعمل، والحركة.
ـ أنه مجتمع مجنَّد للعمل، في كلِّ اتجاه، تلمس فيه روح الجنديَّة واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب، ولكن في جميع الاتجاهات، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدّافعة لبذل النشاط في كلِّ اتجاه[18]
ـ أنه مجتمع متعبِّدُ نلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوّع بالنَّوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً والعمل في حسِّه عبادةٌ، يؤديه بروح العبادة[19].
هذه من أهم صفات عهد الخلفاء الراشدين ـ بصفة عامة ـ إلا أن تلك السِّمات كانت أقوى كلمَّا اقتربنا من عهد النبوة وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوة، وقد بدأ التغير على عهد الخلافة الراشدة مع ظهور فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وكان لظهور هذه المحنة العظيمة التي مرت بها الأمة أسباب منها :
أ ـ الرخاء وأثره في المجتمع :وغنيٌّ عن الإشارة: أنَّ النِّعم، والخيرات، وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع، إذ تجلب الرَّخاء وما يترتَّب عليه من إنشغال النَّاس بالدُّنيا، والافتتان بها، كما أنَّها مادة للتنافس، والبغضاء خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التَّقوى من أعراب البادية، وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات، وأبناء الأمم المترفة، وقد أدرك عثمان رضي الله عنه هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمّة من التَّبذُّل والتغيُّر في كتابه الموجه إلى الرّعية: فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثةٍ فيكم: تكامل النِّعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن[20]، وحدث ما توقعه عثمان رضي الله عنه وبدأ التغير أثره يظهر أولاً على أطراف الدّولة الإسلامية ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، ممّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى تذكير المسلمين في خُطَبهِ بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا، وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه: إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا، لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها، لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية،... واحذروا ومن الله الغير، والزموا جماعتكم،لا تصيروا أحزاباً[21]، ثم قرأ: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران ، آية: 103 ـ 104).
وفي مثل هذه الظروف، والخيرات، فاضت الدُّنيا على المسلمين وتفرّغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم، واطمأنُّوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم[22]. ومن هنا يُعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضاً يمكن فهم مقالة عثمان رضي اله عنه لعبد الرَّحمن بن ربيعة ـ له صحبة ـ وهو على الباب[23]: إن الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنة، فقصِّر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين، فإنِّي خاشٍ أن يبتلوا[24].
ب ـ طبيعة التحول الإجتماعيِّ في عهد عثمان رضي الله عنه:
حدثت تغيران إجتماعية عميقة، ظلَّت تعمل في صمت، وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجِّر بدءاً من النِّصف الثاني من خلافة عثمان بلغت قمّة فورانها في التمرُّ الذي أدَّى إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه[25]، ولما توسَّعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح، حصل تغيُّر في تركيبة المجتمع والاختلالات في نسيجه، لأنَّ هذه الدَّولة بتوسُّعها المكانِّي، والبشريِّ، ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية، وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة، وخروقات غير منتظمة، كما صيَّرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التَّركيبيِّ، وبالذات في الأمصار الكبرى المؤثِّرة: البصرة، الكوفة، والشّام، ومصر، والمدينة ومكة، فقد كانت الأمصار الكبيرة ربموقعها وأهمينهار تدفع لجيش الفتوح، وتستقيلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعداداً وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس، أو النَّصارى العرب، أو غيرهم، أو من اليهود[26]، وأكثر سكان هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربَّية من جنوبها، وشمالها، وشرقها، والذين لم يكونوا ـ عادة ـ من الصَّحابة، وبمعنى أدق: ليسوا ممَّن تلقَّوا التَّربية الكافية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أيدي الجيل الأوَّل من الصحابة، إمَّا لانشغالهم بالفتوح، أو لقلة الصحابة، وقد حصلت تغيراتٌ في نسيج المجتمع البشريِّ المكوَّن من الجيل السَّابقين، وسكّان البلاد المفتوحة، والأعراب، ومن سبقت لهم ردَّة، واليهود، والنَّصارى وفي تكوين نسيج المجتمع الثَّقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات[27]
ث ـ ظهور جيل جديد:فقد حدث في المجتمع تغيُّر أكبر، ذلك: أن جيلا جديداً من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانه في المجتمع وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في العصر غير الذي كانوا يعيشون فيه، ويتَّصف بما لا يتَّصفون به، فهو جيل[28]، يعتبر في مجموعه أقلَّ من الجيل الأوَّل الذي حمل على كتفه عبء بناء الدّولة، وإقامتها، فقد تمَّيز الجيل الأوَّل من المسلمين بقوَّة الإيمان، والفهم السَّليم لجوهر العقيدة الإسلامَّية، والاستعداد التّام، لإخضاع النَّفس لنظام الإسلام المتمثلَّ في القرآن والسُّنَّة، وكانت هذه الميِّزات أقل ظهوراً في الجيل الجديد الذي وُجد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفرديَّة، وبُعثت فيه العصبية للأجناس، والأقوام، وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهليَّة التي كانوا عليها ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السَّليمة مثل ما نال الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرتهم، وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة[29]، فالصَّحابة كانوا أقلَّ فتناً من سائر من بعدهم، فإنَّه كلما تأخَّر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف[30]، ووجد دعاة الفتنة في المنحرفين من الجيل الجديد بغيتهم.
ج ـ استعداد المجتمع لقبول الشائعات :
ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع: أنه صار مهيَّئاً للهزَّات، مستعدَّاً للاضطراب، قابلاً لتلقِّي الإذاعات، والأقاويل والشائعات[31] ، ولهذا لما كان الناس في خلافة أبي بكر وعمر ـ أقرب عهداً بالرِّسالة، وأعظم إيماناً، وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسط، أي: النفوس المطمئنة[32]، ولما كان في آخر خلافة عثمان، وخلافة عليَّ، كثر: ـ أهل النفس اللَّوَّامة التي تخلط عملاً صالحاً، وآخر سيئاً ـ فصار فيهم شهوة، وشبهة مع الإيمان، والدِّين، وصار ذلك في بعض الولاة، وبعض الرِّعايا، ثمَّ كثر هذا القسم، الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدَّم من عدم تمحيص التَّقوى، والطَّاعة في الطَّرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى، والمعصية في الطَّرفين، وكل منهم متأوِّلٌ وأنه يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وأنَّه مع الحقِّ، والعذل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه من الظنِّ، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحقِّ من الأخرى[33]، ويوضِّح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وأحد أتباعه، قال الرَّجل: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر، وعمر؟ قال علي: لأنَّ أبا بكر، وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك[34]، وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركاً لما يدور في وسط المجتمع حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أمّا بعد، فإن الرَّعَّية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأَعْدّاها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مسرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر، فَتُغيَّر[35].
خ ـ مجيء عثمان بعد عمر، رضي الله عنهما:
كان مجيء عثمان رضي الله عنه مباشرة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختلاف الطبع بينهما مؤدِّياً إلى تغيُّر أسلوبهما في معاملة الرَّعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعاً وأرقَّ في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه، أو يأخذ النّاس بما يأخذ به عمر حتّى يقول عثمان لنفسه: يرحم الله عمر: ومن يطيق ما كان عمر يطيق[36]؟! لكن النَّاس، وإن رغبوا في الشَّوط الأوَّل من خلافته، لأنَّه لان معهم، وكان رضي الله عنهم شديداً عليهم حتَّى أصبحت محبَّته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه، ولين عريكته، ورقة طبعه ودماثة خلقه، ممّا كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده، وعهد سلفه عمر بن الخطَّاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرّأكم عليَّ؟ ما جرَّأكم عليَّ إلا حلمي[37]، وحين بدأت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجَّة في ردّه على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصَّحابة والنّاس أبى المسلمون إلا قتلهم وأبى عثمان إلا تركهم، لحلمه، ووداعته قائلاً: بل نعفو، ونقبل، ولنصبرهم بجهدها، ولا نحادّ أحداً حتى يركب حدّاً، أ, يبدي كفراً[38].
ح ـ خروج كبار الصَّحابة من المدينة:
كان عمر رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن، وأجلٍ، فشكوه، فبلغه، فقام، فقال: ألا أنِّي قد سننت الإسلام سَنُّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثَنِيّاً، ثمّ رباعيّاً، ثم سدسيّاً، ثمّ بازلا[39]، فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإنَّ الإسلام قد نَزَل، ألا وإنَّ قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معوناتٍ دون عباده، ألا فأمّا وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائم دون شِعب الحرَّة، آخذ بحلاقيم[40] قريش، وَحُجَزِها أن يتهافتوا في النَّار[41]، لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصَّحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة، وتوسُّعهم في القطاع والضِّياع فكان يأتيه الرَّجل، من المهاجرين، وهو ممَّن حبس في المدينة، فيستأذنه في الخروج، فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدُّنيا، ولا تراك[42]، وأمَّا عثمان فقد سمح لهم بالخروج، ولان معهم.
س ـ العصبية الجاهلية:
يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح، واستكمل للملَّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة، والكوفة، والشّام ومصر، وكان المختصُّون بصحبة الرَّسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه، وآدابه: المهاجرين والأنصار، وقريش، وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأمَّا سائر العرب من بني بكر بن وائل، وعبد القيس، وسائر ربيعة، والأزد، وكنده، وتميم، وقضاعة، وغيرهم فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم. وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السَّابقة، ومعرفة حقِّهم، وما كانوا فيه من الذهول، والدَّهش لأمر النٌّبوّة، وتردُّد الوحي، وتنـزل الملائكة، فلمَّا انحصر ذلك العباب، وتنوسي الحال بعض الشَّيء، وذل العدوُّ، واستفحل الملك، كانت عروق الجاهليَّة تنبض، ووجدوا الرِّياسة عليهم من المهاجرين، والأنصار، وقريش، وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك في أيَّام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللَّحظات، والخطوات، والاستبطاء عليهم بالطاعات، والتَّجنِّي بسؤال الاستبداد منهم، والعزل ويفيضون في النّكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظُّلم في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصَّحابة بالمدينة، فارتابوا، وأفاضوا في عزل عثمان، وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر.. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامُّهم[43].
ش ـ توقُّف الفتوحات بسبب حواجز طبيعية أو بشرية:
حيث توقَّفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أما حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها، سواء في جهات فارس، وشمالي بلاد الشَّام، أو في جهة إفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب، أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقاً من حقوقهم[44]، وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان رضي الله عنه بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من النَّاس، وقد كان لها أثر، وواقع على الأعراب، وخاصة وأنَّ معظمهم بقي بدون عمل يقضون شطراً من وقتهم في الطعام،والنَّوم والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدّولة، والحديث عن تصرُّفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئيَّة، وقد أدرك أحد عمّال عثمان هذا الأمر، وهو عبد الله بن عامر، فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله ـ وهم وزراؤه، ونصحاؤه ـ أن يجتهدوا في آرائهم، ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر النَّاس بالجهاد ويجمرهم في المغازي حتَّى لا يتعدَّى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه، ودبر دابته[45]، وفي ذلك الجو من الحديث، والفكر عند أفراد تعوَّدوا الغزو، ولم يفقهوا من الدِّين شيئاً كثيراً يمكن أن يتوقع كلُّ سوء ويكفي أن يحرّك هؤلاء الأعراب، وأن يُوجَّهوا توجيهاً، فإذا هم يثورون، ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل، فإنَّ الأعراب ـ بسبب توقف الفتوحات ـ ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكان سبباً من أسباب اندلاعها[46].
ص ـ المفهوم الخاطيء للورع بتحريم الحلال:
الورع في الشريعة طيِّبٌ، وهو أن يُترك ما لا بأس به، ومخافة ممَّا فيه بأس، وهو في الأصل ترفع عن المباحات في الله، والله، والورع شيء شخصي يصحُّ للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين، ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراماً، أو مفروضاً، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة[47]، فقد استغلَّ أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه، ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات، أو المصالح خروجاً على الإسلام، وتغييراً لسنَّة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة، فاستباحوا أو أعانوا من استباح ـ دم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم[48].
ط ـ ظهور جيل جديد من الطامحين:
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة رضي الله عنهم من يعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أنَّ الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى وجد الطَّامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفساً، فإنَّهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية[49].
ع ـ وجود طائفة موتورة من الحاقدين:
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد، والذكاء والدَّهاء، ما استطاعوا به أن يدركوا نقاط الضَّعف التي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا من يستمع إليهم بآذان صاغية، فكان من آثار ذلك ما كان[50]، فقد عرفنا سابقاً وجود يهود، ونصارى، وفرس، وهؤلاء جميعاً معروف باعث غيظهم، وحقدهم على الإسلام، والدولة الإسلامّية، ولكنَّنا هنا نضيف من وقع عليه حدٌ أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، وعاقبه الخليفة، أو ولاته في بعض الأمصار وبالذّات البصرة، والكوفة، ومصر، والمدينة، فاستغلَّ أولئك الحاقدون من اليهود، ونصارى، وفرس، وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممّن لا يفقهون هذا الدِّين على حقيقته، فتكوَّنت لهؤلاء جميعاً طائفة، وصفت من جميع من قابلهم بأنَّهم أصحاب شرِ، فقد وُصفُوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونزَّاع القبائل، وأهل المياه، وعبيد المدينة[51]، وبأنهم ذؤبان العرب[52]، وأنَّهم حثالة النَّاس ومتَّفقون على الشَّرِّ[53]، وسفهاء عديمو الفقه[54]، وأرذال من أوباش القبائل[55]، فهم أهل جفاء، وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل[56]، وأنَّهم آلة الشيطان[57]، وقد تردَّد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصَّنعاني اليهوديِّ ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود، ثمّ أسلم، ولم يًنقَّب أحد عن نواياه، فتنقَّل بين البلدان الإسلاميَّة باعتباره أحد أفراد المسلمين،[58]، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله.
غ ـ التّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدّ عثمان رضي الله عنه:
كان المجتمع مهيَّئاً لقبول الأقاويل، والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيَّأةً، ونسيج المجتمع قابلاً لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطّعن في الأمراء بحجَّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، حتى استمالوا النَّاس إلى صفوفهم، ووصل الطَّعن إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن نفسه باعتباره قائد الدَّولة، وإذا ما حصرنا الدّعاوي التي رُوِّجت ضد الخليفة، وطعنوه بها، فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
ـ مواقف شخصَّية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات، والمواقع.
ـ سياسته الإدارية النَّافذة: توليه أقاربائه، طريقته في التَّولية.
ـ اجتهادات خاصة به، أو بمصلحة الأمَّة (إتمام الصَّلاة بمنى ، جمع القرآن ، الزِّيادة في المسجد.
ـ معاملته لبعض الصًّحابة: عمَّار، أبي ذرّ، ابن مسعود.
وقد بينت موقف عثمان رضي الله عنه في كلِّ ما وجه إليه في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شخصيته وعصره. وقد حدث تزيُّد في إبراز المطاعن على عثمان رضي الله عنه سواء في عهده، وما واجهوه بها، وردُّه عليها في حينه، أو ما تُقوِّل عليه فيما بعد عند الرُّواة، والكتَّاب، فإنهّا لم تصح، ولم تصل إلى حدِّ أن تكون سبباً في قتله[59].
إن المآخذ السَّابق ذكرها والمدوَّنة في تاريخ الطَّبري، وغيره من كتب التاريخ والمرويّة عن طريق المجاهيل، والإخباريين الضُعفاء ـ خاصَّة الشيعة ـ كانت وما تزال بليَّة عظمى على الحقائق في سير الخلفاء والأئمَّة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك الحظِّ الوافر، فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النَّهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة، من تحريف المنحرفين، وتشويه الغالين، بغية التأليب عليه، أو التشهير به وقد أدرك عثمان رضي الله عنه بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أمّا بعد، فإن الرَّعية طعنت في الانتشار ونزعت إلى الشرِّ، أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرّعة، وضغائن محمولة[60]، وقال ابن العربي على تلك المآخذ: قالوا متعدِّين متعلِّقين برواية كذَّابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم، ومناكير،... هذا كله باطل سنداً ومتناً[61].
ف ـ استخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس:
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف، حيث تردّدت كلمة الإشاعة، والإذاعة كثيراً، والتَّحريص، والمناظرة، والمجادلة للخليفة أمام النَّاس، والطَّعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب، واختلاقها على لسان الصَّحابة رضي الله عنهم، كعائشة، وعليِّ، وطلحة، والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة، وأنَّه الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنظيم فرق في كل من البصرة، والكوفة، ومصر، أربع فرق من كلِّ مصر ممّا يدل على التَّدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة: أنهم ما جاؤوا إلا بدعوة الصَّحابة، وصعَّدوا الأحداث، حتى وصل الأمر إلى القتل[62]، وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التّكبير ومنها: أنَّ جهادهم هذا ضدَّ المظالم، ومنها: أنَّهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ومنها: المطالبة باستبدال الولاة، وعزلهم، ثمَّ تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا، بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصَّة حينما وصلهم الخبر بأنَّ أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضيق الخناق على الخليفة، والشوُّق إلى قتله بأيِّ وسيلة[63].
ك ـ دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السَّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامِّي نتيجة عوامل التَّغيير التي ذكرنها، وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين عوامل الفتنة، ومتظاهرين بالإسلام، واستعمال التَّقيَّة، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ الملقَّب بابن السَّوداء وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التَّهويل في شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة[64]، فإنه كذلك لا يجوز التَّشكيك فيه، أو الاستهانة بالدَّور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنَّه أبرزها، وأخطرها، إذ أنَّ هناك أجواء للفتنة مهَّدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء، ومعتقدات ادّعاها، واخترعها من قبل نفسه، وافتعلها من يهوديَّته الحاقدة، وجعل يروِّجها لغاية ينشدها، وغرض يستهدفه، وهو الدس في المجتمع الإسلامي بغية النَّيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشِّقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرُّق الأمة شيعاً وأحزاباً[65]. وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدِّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راحت لدى السُّذَّج، والغلاة، وأصحاب الأهواء من النَّاس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على من حوله، حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأوّله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجبٌ ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويكذَِب بأن محمَّداً يرجع، وقد قال تعالي: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) (القصص ، آية : 85) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى[66]، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادِّعاء إثبات الوصَّية لعليٍّ رضي الله عنه بقوله: إنَّه كان ألف نبيِّ، ولكل نبيٍّ وصيٌّ، وكان عليُّ وصيَّ محمد، ثمّ قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج النَّاس على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فصادف ذلك هوىً في نفوس بعض القوم، حيث قال لهم: من أظلم ممَّن لم يُجِزْ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمّة، ثمَّ قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حقٍّ، وهذا وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر، فحرَّكوه، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، تستميلوا النَّاس، وادعوهم إلى هذا الأمر[67]، وبثِّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السِّر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلِّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتَّى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويسُّرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنّا لفي عافية ممَّا ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنَّا لفي عافية ممّا فيه النَّاس[68]، ويظهر من هذا النَّصِّ الأسلوب الذي تبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصَّحابة حيث جعل أحدهما مهضوم الحقِّ وهو عليُّ، وجعل الثاني مغتصباً وهو عثمان، ثمّ حاول بعد ذلك أن يحرِّك النَّاس ـ خاصَّة في الكوفة ـ على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علماً بأنَّه ركَّز في جملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادّة ملائمة لتنفيذ خطّته، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم، بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان، مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنّه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التُّهم، والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضدّ عثمان رضي الله عنه، ثمّ إنه أخذ يحض اتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مضعمة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل النّاس في جميع الأمصار: أ نّ الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي[69]، هذا وقد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار، وأنّ الأمّة تمخض بشرٍّ، فقال: والله أن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات، ولم يحرّكها[70]، على أن المكان الذي رتع فيه أبن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظّم حملته ضدّ عثمان رضي الله عنه، ويحثُّ على التوجّه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى: أنّ عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍّ، ووثب على وصيِّ رسول الله، يقصد عليَّا[71]، وقد غشهم بكتب أدعّى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنَّورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً، تبرّؤوا ممّا نسب إليهم من رسائل تؤلّب النَّاس على عثمان[72]، ووجدوا عثمان مقدّراً للحقوق، بل وناطرهم فيما نسبوا إليه، وردّ عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النّخعي: لعله مُكر به وبكم[73]، ويعتبر الذهبي: أنّ عبد الله بن سبأ المهيِّيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشِّقاق والنَّقمة على الولاية ثمَّ الإمام ـ عثمان ـ فيها[74]، ولم يكن ابن سبأ وحده وإنَّما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوطاً من أساليب الخداع، والاحتيال، والمكر، وتجنيد الأعراب، والقرّاء وغيرهم، ويروي ابن كثير: أنَّ من أسباب تألُّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين النَّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر[75].
إنَّ المشاهير من المؤرِّخين والعلماء من سلف الأمَّة وخلفها يتَّفقون على أنَّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد، وأفكار، وخطط سبئيَّة، ليلفت المسلمين عن دينهم، وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة، والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوَّنت به الطائفة السَّبيئيَّة المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه والذي يظهر من خطط السَّبئيَّة أنّها كانت أكثر تنظيماً، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها، ونشر أفكارها، لامتّلاكها ناصية الدِّعاية، والتَّأثير بين الغوغاء والرُّعاع من النَّاس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة، أم الكوفة، أم مصر، مستغلة العصبية القبليَّة ومتمكَّنة من إثارة مكامن التَّذمُر عند الأعراب، والعبيد، والموالي، عارفة بالمواضع الحسَّاسة في حياتهم، وبما يريدون[76].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:41 AM

[align=justify]موقف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في الفتنة:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس والي الكوفة سعيد بن العاص في مجلسه العام، وحوله عامَّة النَّاس، وكانوا يتحدَّثون، ويتناقشون فيما بينهم، فتسلَّلَ الخوارج من السَّبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة وجرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص، وبين أحد الحضور، وهو خًنيس بن حُبيش الأسدي، واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين، منهم: جندب الأزديُّ، الذي قتل ابنه السَّارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النَّخعيُ، وابن الكوَّاء، وصعصعة بن صحوان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خُنيس الأسدي في المجلس، ولمَّا قام أبوه يساعده، وينقذه، ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضَّرب، فلم يمتنعوا، وأُغمي على الرَّجل وابنه من شدَّة الضَّرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيداً تمكَّن من إصلاح الأمر[1]، ولمّأ علم عثمان بالحادثة، طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع، وذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم، وصاروا ينشرون الإشاعات، ويُذيعون الافتراءات والأكاذيب ضدّ سعيد والي الكوفة، وضدَّ عثمان، وضدَّ أهل الكوفة ، ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم، وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال له سعيد: إنَّ عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك، فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة، وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النَّفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة، ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخرِّبون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة وكانوا بضعة عشر رجلاً، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء، فقال له: إنَّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة. فَرُعْهُم، وأخِفْهم، وأدِّبهم، وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً، فأقبل منهم[2]. ومن الذين تمَّ نفيهم إلى الشام، الأشتر النَّخعيُّ، وجندب الأزديُّ، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكوَّاء[3]، ولمّا قدموا على معاوية رحب بهم، وأحسن ضيافتهم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يُجرى عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدَّى، ويتعشَّى معهم فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان، وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم، ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً وإنّ قريشاً لو لم تكن، لعدتم أذلة كما كنتم[4]. كان عثمان رضي الله عنه يدرك: أنَّ معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته، وله من حلمه، وصبره، وله من ذكائه، ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتَّى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلَّها، وفعلاً بذل معاوية رضي الله عنه ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النَّفر: أكرمهم أوّلاً، وخالطهم، وجالسهم، وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالسة قبل أن يحكم عليهم بما نُقل عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم، وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أنَّ النَّعرة القبلية هي التي تحرِّكهم، وأنَّ شهوة الحكم والسُّلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بدَّ أن يلج عليهم من زاويتين اثنين:
الأولى: أثر الإسلام في عزَّة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمُّل أعبائه فإن كان للإسلام أثرٌ في تكوينهم، فلا بدَّ أن يرعَوَا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمَّة واحدة تخضع لإمام واحد وودعوا حياة الفوضى، وسفك الدِّماء، والقبليَّة المنتنة[5]، ويتابع معاوية حديثه معهم، فيقول: إن أئمَّتكم لكم إلى اليوم جُنَّة[6]، فلا تشذوا عن جنَّتكم، وإنَّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهنَّ أو ليبتلينَّكم الله بمن يسومكم، ثمَّ لا يحمدكم على الصَّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرَّعيَّة في حياتكم، وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أمَّا ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية، فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنَّة، فإن الجُنَّة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت: أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً. أُعْظِم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكِّرني الجاهليَّة؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجنُّك: أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجُنَّة، أخزى الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم[7]. وعرف معاوية أنَّ الإشارة العابرة لن تقنعهم، ولا بد من شرح مسهب لواقع قريش أوَّلاً، فقال: افقهوا ـ ولا أظنكم تفقهون ـ أنَّ قريش لم تعزَّ في جاهليةٍ ولا في إسلام إلا بالله، عزَّ وجلَّ ـ، لم تكن أكثر العرب، ولا أشدَّهم، ولكنَّهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءةً، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله الذي لا يُستَذَل من أعزَّ، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عرباً، أو عجماً، أو سوداً، أو حمراً إلا قد اصابه الدّهر في بلده، وحرمته بدولةٍ، إلا ما كان من قريش، فإنَّه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خدَّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينقذ من أكرم، واتَّبع دينه من هوان الدٌّنيا، وسوء مردِّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثمَّ ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثمَّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهليَّة من الملوك الذين كانوا يدينونكم ـ أفٍّ لك، ولأصحابك ولو أن متكلماً غيرك تكلَّم، ولكنَّك ابتدأت، فأمَّا أنت يا صعصعة فإنَّ قريتك شرُّ قرىً عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشَّرِّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هُجنة. ثمَّ كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمها أصهاراً نزّاع[8] الأمم، وأنتم جيران الخطِّ وفعلة فارس، حتَّى أصابتكم دعوة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير[9]في عمان، لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأنت شرُّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالنَّاس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً وتنزع إلى اللآمة، والذِّلة، ولا يصنع ذلك قريش، ولن يضرَّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنَّ الشَّيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشَّر من بين أمَّتكم،، فأغرى النَّاس، وهو صارعكم، لقد علم: أنَّه لا يستطيع أن يردَّ بكم قضاء الله، ولا أمراً أراد الله، ولا تدركون بالشَّر أمراً إلا فتح الله عليكم شراً منه، وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم[10]وبذلك بذل معاوية كلَّ طاقاته الفكريُّة، والثقافية، والسياسية، لإقناعهم:
ـ عرض لهم أولاً أمر قريش في الجاهلية والإسلام .
ـ تناول قبائل هؤلاء النّفر، ووضعها في الجاهلية، حيث كانت تعاني سوء المناخ، ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثمّ الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمها الله بالإسلام فعزت بعد ذلِّ، وارتقت بعد هوانٍ.
ـ تناول معاوية رضي الله عنه صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأّ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثمّ عاد وأنضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
ـ كشف معاوية رضي الله عنه مخطّطات صعصعة، وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجاً.
ـ وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة، ومحرّك هذا الشّر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله، ثمّ الإسلام، والعقيدة ثمّ كشف عن زيف هؤلاء النّفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخطّطاتهم، وصلتها بدعوى الجاهلية[11].
5 ـ جلسة أخرى:
ثمّ أتاهم القابلة فتحدَّث عنهم طويلاً، ثم قال: أيُّها القوم! ردُّوا عليَّ خيراً، أو اسكتوا، وتفكَّروا، وانظروا فيما ينفعكم، وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه، تعيشوا، ونعش بكم قال صعصعة، لست بأهل لذلك، ولاكرامه لك أن تطاع في معصية الله. فقال معاوية: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً، ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة، وخلاف ما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم! قال: إنَّي آمركم الآن، إن كنت فعلت، فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه، وطاعته، وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توفِّروا أئمتكم، وتدلوُّهم على كلِّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لينٍ، ولطف في شيءٍ إن كان معهم، قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإنَّ من المسلمين من هو أحقُّ به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قِدْماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قِدْماً منك في الإسلام، قال معاوية والله إن لي في الإسلام قِدْماً، ولغيري كان أحسن قِدماً منَّي،، ولكنَّه ليس في زماني أحدُ أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطَّاب، فلو كان غيري أقوى منَّي، لم يكن لي عند عمر هوادة، ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، لكتب بخطِّ يده، فاعتزلت عمله، ولو قضي الله أن يفعل ذلك، لرجوت أن يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلاً فإنَّ في ذلك وأشباهه ما يتمنَّى الشيطان، ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تُقضى على رأيكم، وأمانيِّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكنَّ الله يقضيها، ويدبِّرها وهو بالغ أمره، فعاوِدوا الخير، وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلاً. قال معاوية: أما والله إنَّ لله سطوات، ونقمات، وإنِّي لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشَّيطان حتَّى تُحَّلكم مطاوعة الشَّيطان، ومعصية الرّحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدّائم في الآجل فوثبوا عليه، فأخذوا بلحيته، ورأسه، فقال: مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إنَّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً، ثم قام من عندهم: فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت[12]، هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشَّام كلَّ جهده واستعمل حلمه، وثقافته، وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنَّه يدعوهم إلى تقوى الله، وطاعته، والاستمساك بالجماعة، والابتعاد عن الفرقة، وإذ بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله[13]. وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد، فذكَّرهم بأنَّه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حدَّ زعمهم، فهو يتوب من المعصية، إن وقعت، ثمَّ يعود لدعوتهم إلى الطَّاعة، والجماعة، والابتعاد عن تفريق كلمة الأمَّة، ولو كان الوعظ يجدي معهم، لأمكن أن تتأثَّر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللُّطف، وهذا يوجِّههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهاديء في العظة، واللين في النُّصح، فوجدنا المال رحباً أن يكشفوا في مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنَّا نأمرك أن تعتزل عملك، فإنَّ في المسلمين من هو أحقُّ به منك، وانتبه معاوية انتباهاً مفاجئاً إلى ما يكنُّون، فأحبَّ أنَّ يتعرف جانباً غامضاً عليه لعلَّ في هذا التعرُّف ما يوصله إلى من يحرِّكهم، ويبثًّ في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنَّهم أخفوا ما يكنُّون واكتفوا بالإشارة إلى أنَّهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولمن أبوه أفضل من أبيه، ثم تحلَّم عليهم أكثر فأكثر رغم الأسلوب الفجِّ الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جواباً مستفيضاً عن وجهة نظره في الحكم، والإمارة، والقيادة، وقد لخَّص معاوية إجابته في ستِّ نقاط أساسيَّة ومهَّمة:
ـ هي أنَّ له قِدْماً، وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشَّام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما .
ـ أنَّ هناك في المسلمين من هو أفضل منه، وأكرم، وأحسن سابقة، وأكثر بلاءً وهو يرى أنَّه أقوى من يحمي هذا الثَّغر الإسلاميَّ العظيم ـ الشّام ـ فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه، وسياسته، وفهم نفسيَّات أهله حتَّى أحبُّوه.
ـ إنَّ الميزان الحساس، والمعيار الدِّقيق الذي يقيِّم الولاة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد من معاوية شططاً، أو انحرافاً عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتباً بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد.
ـ إنَّ اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما هي الحجَّة التي يقدِّمها دعاة الفتنة، ليتمَّ الاعتزال على أساسها؟
ـ إنَّ الذي يقرِّر العزل عن العمل، أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إنَّ ذلك من حقَّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وهو الذي له الحقُّ في تعيين الولاة، وعزلهم.
ـ إنَّ أمير المؤمنين عثمان يوم يقرِّر عزل معاوية، فهو واثق، أنَّ أمره خير كلَّهُ، ولا غضاضه في ذلك فهو أمير مأمور، وهو أمر خليفة المسلمين.[14] كان ختام الجلسة مؤسفاً أشدَّ الأسف، مؤلماً أشدَّ الألم، لقد حذَّرهم نقمة الله، وغضبه، وحذَّرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم، وقمعهم، ووجَّه لهم كلاماً قاسياً مبطَّناً بالتهديد، وعرف: أنَّ هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحقِّ، فلا بدَّ من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وكشف هويَّاتهم، وخطرهم، ليرى فيهم أمير المؤمنين رأياً آخر[15].[

ميارى 14 - 5 - 2010 12:43 AM

[align=justify]ـ كتاب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم، ويأتون النَّاس ـ زعموا ـ من قِبَل القرآن فيشبهون على الناس،، وليس كل النَّاس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رُقَي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من النَّاس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجا فيه نفاقهم[1]، فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلىعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،، وكان أميراً على حمص[2]، فلما وصلوا إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، استدعاهم، وكلَّمهم كلاماً شديداً، وكان ممَّا قاله لهم: يا آلة الشيطان ألا مرحباً بكم، ولا أهلاً، لقد رجع الشيطان محسوراً خائباً، وأنتم مازلتم نشيطون في الباطل، خَسَّرَ الله عبد الرحمن إن لم يؤدِّ بكم ويخزِكم! يا معشر من لا أدري من أنتم أعرب، أم عجمٌ؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عَجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الرِّدَّة، والله لأذلنَّكم! وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهراً كاملاً، وعاملهم بمنتهى الحزم، والشَّدَّة، ولم يَلِن معهم كما لان سعيد، ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهُّم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم صعصعة بن صوحان يقول له: يا بن الخطيئة! هل تعلم أنَّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشَّرُّ، وأن من لم يصلحه اللِّين أصلحته الشدَّة؟ وكان يقول لهم: لماذا لا تردُّون عليَّ، كما كنتم تردُّون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني، كما كنتم تخاطبوهما؟ ونفع معهم أسلوب عبد الرَّحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه، وشدَّته، وقسوته، وأظهروا له التَّوبة والنَّدم، وقالوا له: نتوب إلى الله، ونستغفره أقِلْنَا أقالك الله وسامحنا سامحك الله: بقي القوم في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد، وأرسل عبد الرّحمن أحد زعمائهم وهو الأشتر النَّخعي إلى عثمان ليخبره بتوبتهم، وصلاحهم، وتراجعهم عمَّا كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احللُ أنت ومن معك حيث شئتم، فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرَّحمن في الجزيرة مدّةً، أظهروا فيها التّوبة، والاستقامة والصَّلاح[3]، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاثة وثلاثين، بعدما تمَّ نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشَّام،ثمَّ إلى عبد الرّحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أنَّ المصلحة تقتضي أن يسكتوا إلى حين[4]. إلا أن بقية دعاة الفتنة كانوا يشتغلون في البصرة، ومصر، وغيرها وفي سنة أربع وثلاثين ـ السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان ـ أحكم عبد الله بن سبأ خطته، ورسم مؤامرته، ورتب مع جماعته السَّبئيِّين الخروج على الخليفة، وولاته، فقد اتَّصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشَّياطين من حربه في البصرة، والكوفة، والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم، وكاتبوه، وراسلهم، وراسلوه وكان ممَّن كاتبهم، وراسلهم السَّبئيُّون في الكوفة، وقد كانوا بضعة عشر رجلاً منهم منفيين في الشَّام، ثمَّ في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين، كان زعيم السَّبئيِّين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس[5]. وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها، وأشرافها، لأنََّّهم توجَّهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرُّعاع، والغوغاء الذين أثر فيهم السَّبئيُون والمنحرفون، وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضدَّ والي عثمان إلى الكوفة سعيد بن العاص رضي الله عنه[6] واستطاع القعقاع بن عمرو التميميُّ أمير الحرب بالكوفة أن يقضي على التحرك الأوّل بقيادة يزيد بن قيس، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته، وبصيرته، لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان، وخلعه، وأظهر له كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد ابن العاص، والمطالبة بوالٍ آخر مكانه، فاستُجيب لطلبهم، ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة، لما سمع كلام يزيد، ثمّ قال يزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد، ولا يجتمع عليك أحد، واجلس في بيتك واطلب ما تريد من الخليفة، وسيحقِّق لك ذلك بإذن[7]الله، واستمر يزيد بن قيس في إشعال الفتنة، واضطر إلى تعديل خطّته في الخروج وبعد كيد ومكر وتدبير من أتباع السبيئيِّن، قرّر الغوغاء والرُّّعاع بقيادة يزيد بن قيس منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة وكان سعيد بالمدينة[8].
ولمّا خرج السبيُّون، والغوغاء طلبا الفتنة، والتمُّرد، وإحداث القلاقل بقي في المسجد وجوه المسلمين، وأشرافهم، وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوَّة، والوحدة، ونهاهم عن التفُّرق، والاختلاف، والفتنة، والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمرِّدين[9]، قال القعقاع بن عمرو التميمي: أتردُّ السَّيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات: لا والله لا تُسكِّن الغوغاء إلا المشرفيَّة[10]، ويوشك أن تُنْتضى، ثمَّ يعجُّون عجيج العتدان[11]، ويتمنون ما هم فيه، فلا يردهم عليهم أبداً، فاصبر، فقال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله[12]واستطاع أهل الفتنة أن يمنعوا سعيد بن العاص من دخول الكوفة ورجع إلى المدينة، وكان من رأيه: أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقلِّ، وبعد رجوعه إلى المدينة أخبر سعيد عثمان بما حصل. قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يداً من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة؟ وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنَّهم لا يريدونني والياً عليهم، ويريدون والياً آخر مكاني. قال له عثمان: من يريدون والياً؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعريِّ، قال عثمان: قد عيَّنا، وأثبتنا أبا موسى والياً عليهم، ووالله لن نجعل لأحد عُذراً ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرنَّ عليهم كما هو مطلوب منَّا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون، وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه والياً على الكوفة[13]، وكان أبو موسى رضي الله عنه يقوم بتهدئة الأمور، وبنهى النَّاس عن العصيان. وقال لهم: أيها الناس لا تخرجوا في هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، والزموا جماعتكم، والطاعة وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنَّكم بأمير[14]. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان قالوا: على السَّمع، والطاعة لعثمان[15]. وما كانوا صادقين في ذلك، لكنَّهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقيَّة عن الآخرين وكان أبو موسى يصليِّ بالنَّاس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه والياً على الكوفة، وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة: أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنَّ لكم عِرضي، ولأبذُلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، واسألوني كلَّ ما أحببتم، ممَّا لا يعصي الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصي الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتَّى لا يكون لكم عليّ حجّة وكتب بمثل ذلك إلى الأمصار[16]، رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما كان أصلحه وأوسع صدره وكم ظلمه السَّبئيُّون والخارجون الحاقدون، واختلفوا عليه.
ـ مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك:
واجه عثمان بن عفان الفتنة بوسائل وأساليب متنوعة منها، إرسال لجان تفتيش وتحقيق إلى الولايات، ومحاولة معرفة أغراض أهل الفتنة واستطاع أن يخترق صفوفهم، وأقام الحجة على الغوغاء والمتمردين بالحوار والنقاش، والاستجابة لبعض مطالبهم وقد فصلت ـ الحديث عن سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة في كتابي عن عثمان بن عفان رضي اله عنه ومن الأساليب التي اتخذها عثمان رضي الله عنه مشورته لولاة الأمصار رضي الله عنه حيث بعث إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ وكانوا: عبد الله بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص ـ وهم من الولاة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة، وقال فيه كل المشاركين برأيه وكان رأي معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام[17]، وبعد أن سمع عثمان من المشاركين اقتراحاتهم قام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكلِّ أمر باب يؤتي منه، إنَّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمَّة كائن وإن بابه الذي يغلق عليه، فيُكفكف به اللِّين، والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك والله ليُفتحنَّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقٍّ، وقد علم الله إنِّي لم آل الناس خيراً، ولا نفسي. والله إنَّ رحا الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها، كفكفوا النَّاس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله، فلا تُدِهنوا فيها[18]، فمنع عثمان رضي الله عنه منع الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب، وحبسهم، أو قتلهم، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى واللِّين[19]، وطالب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كلُّ بصير يرى أنَّها قادمة[20]، وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشَّام أتى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين: انطلق معي إلى الشَّام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث مالا قِبَل لك بها. قال عثمان أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذاً أبعث لك جيشاً من الشَّام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة، ليدافع عنك، وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا حتى لا أقترّ على جيران رسول الله صلى الله غليه وسلم الأرزاق، بجند، تساكنهم ولا أضيِّيق على أهل الهجرة والنُّصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين: والله لتُغتلنَّ، أو لتُغزينَّ. قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل[21]. ولقد حدث كل ما توقعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان رضي الله عنه وتغتاله في النهاية. وحين جاء هؤلاء الثوار من مختلف الأقاليم لا نجد من بينهم جماعة من أهل الشام[22]، من كل ما سبق نجد أننا أمام وال كبير يشق طريقه بجدارة من بين الولاة إلى ما هو أبعد من الولاية فقد استطاع أن يجعل من إقليم الشام الإقليم المهيأ لقيادة بقية الأقاليم في الدولة الإسلامية بما عمق فيه من حسن الطاعة للقيادة، وبما ثبت فيه من دعائم الاستقرار، وقطعه لأسباب الفتنة وعوامل الفرقة فيه. وهذا ما لا نجده في غيره من الأقاليم[23].
ـ مقتل عثمان رضي الله عنه وموقف الصحابة من ذلك:
اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصَّلاَّة في المسجد، وكان صابراً على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكان مع إيمانه القوي بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وإنه لا يحل سفكه إلا بحقه وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم[24]، وكأنه يقول من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة وهل يعقل يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي صلى الله عليه وسلم والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة ومتى بعد ما تجاوز السبعين وقارب الثمانين من عمره أهكذا تكون معاملته؟ واشتدت سيطرة المتمردون على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات[25]، وحينها أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه[26]، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، فقد كان عثمان يحب الحسن ويكرمه فعندما وقعت الفتنة وحوصر عثمان رضي الله عنه أقسم على الحسن رضي الله عنه بالرجوع إلى منزله وذلك خشية عليه أن يصاب بمكروه[27]، وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنهما: أرجع ابن أخي حتى يأتي الله بأمره[28]، وقد صحت روايات أن الحسن حمل جريحاً من الدار يوم الدار[29]، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن علي، وابن عمر رضي الله عنهما[30]، وقد كان علي رضي الله عنه من أدفع الناس عن عثمان رضي الله عنه، وشهد له بذلك مروان ابن الحكم[31]، كما أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، إن علياً أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئاً يستحل به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحب أن يهراق دم في سبـبي[32]، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان رضي الله عنهما، أثناء الحصار فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشاً، فأرسل علي رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملؤة ماء فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتىوصلت ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان فقتلوه رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال علي لأبنائه وابناء أخيه كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح[33]، وضرب صدر الحسين وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله وهو يقول: تباً لكم سائر الدهر، اللهم أني أبرأ إليكم من دمه أن يكون قتلت أو مالأت على قتله[34]، وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه، نصح وشورى سمع وطاعة، ووقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة[35].... ويبوء المفسدين بالإثم. إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنكر قتل عثمان، وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه، وغيرها: إنه لم يقتله ولا أمر بقتله، ولا مالأ عليه، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع[36]، خلافاً لما تزعمه الشيعة الرافضة من أنه كان راضياً بقتل عثمان رضي الله عنهما[37]، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله رضي الله عنه: فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه[38]. وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على علي رضي الله عنه، وافتراء عليه، فعلي رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان رضي الله عنه، ولا أمر ولا رضى، وقد روي عنه ذلك وهو الصادق البار[39]، وقد قال علي رضي الله عنه: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان[40]. وقد شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الضعيفة والموضوعة التي ذكرها كثير من المؤرخين والمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي، وابن أعثم، وغيرها من الأخبار حبكت بطريقة ذات ميول عدائية للتاريخ الصحيح ويشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة، فأبي مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في إتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحق، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان، والمؤلبين ضده، ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف، وقد كثرت الروايات الشيعية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان رضي الله عنه وأنهم هم الذين حركوا الفتنة، وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور[41]، وخلافاً للروايات الموضوعة والضعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدثين بحمد الله، الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه والمتبرأين من قتله[42]، والمطالبين بدمه بعد مقتله وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة، أو إثارتها[43].
إن الصحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل ولا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين، والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً[44] من أهل مصر. وقال الإمام النَّووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج، ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزَّبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم، فحضروه حتَّى قتل، رضي الله عنه[45]، وقد وصفهم الزبير رضي الله عنه بأنهم غوغاء من الأمصار ووصفتهم السيدة عائشة بأنَّهم نزّاع القبائل[46]، ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون ضالون، باغون معتدون[47]، ووصفهم الذهبيُّ بأنهم رؤوس شرًٍّ، وجفاء[48]، ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنَّهم أراذل من أوباش القبائل[49]، ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً. وعدواناً، فكيف يمنع الماء عنه، والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يوري ظمأ المسلمين بالمجّان[50]، والذي يساهم بأموال كثيرة عندما يلمُّ النَّاس مجاعة، أو مكروه وهو الدائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقة، أو شدَّة من الشدائد[51]، حتى أن علياً رضي الله عنه يصف هذا الحال، وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس: إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرّجل الماء، ولا المادة ـ الطعام ـ فإنّ الروم، وفارس لتأسر وتطعم وتسقي[52]، لقد صحَّت الأخبار وأكّدت حوادث التاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه[53]، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان[54].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:48 AM

[align=justify]المبحث الثالث : معاوية بن أبي سفيان في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما :
كان معاوية رضي الله والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، والياً على الشام في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى علي رضي الله عنه الخلافة أراد عزله ـ ويبدو أن هناك ضغوط على علي رضي الله عنه من قبل الغوغاء لكي يعزل معاوية، وخصوصاً أن الغوغاء يعرفون معاوية جيداً والذي جعلني أقول ذلك أن العلاقة بين علي ومعاوية قبل خلافة علي، لا يوجد ما يشوبها، بل كانت جيدة، كما أن الغوغاء فيما بعد ضغطوا على أمير المؤمنين علي في عزل قيس بن سعد من مصر ونجحوا في ذلك وترتب على ذلك ضياع مصر، وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، هذا وقد اختار أمير المؤمنين علي بدلاً من معاوية عبد الله بن عمر فأبي عليه عبد الله قبول ولاية الشام واعتذر في ذلك، وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهما[1]، ولم يلزمه أمير المؤمنين علي وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن علياً قام بالتهجم على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لاعتزاله وعدم وقوفه إلى جانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب[2]، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة: عن بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إليَّ علي قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني، فأبى علي، فاستعنت بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة[3]، وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخول في الطاعة، إذ كيف يوليه علي وهو لم يبايع، وفي الاستيعاب، لابن عبد البر من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن ابن عمر أنه قال حين احتضر: ما آسي على شيء إلا تركي قتال الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه[4]، وهذا مما يدل أيضاً على مبايعته لعلي، وإنه إنما ندم على عدم خروجه مع علي للقتال، فإنه كان ممن اعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع أحد، ولو كان قد ترك البيعة، لكان ندمه على ذلك أكبر وأعظم ولصرح به، فإن لزوم البيعة والدخول فيما داخل الناس، فيه واجب، والتخلف عنه متوعد عليه برواية ابن عمر نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية[5]. وهذا بخلاف الخروج للقتال مع علي، فإنه مختلف فيه بين الصحابة، وقد اعتزله بعض الصحابة، فكيف يتصور أن يندم ابن عمر على ترك هذا القتال، ولا يندم على ترك البيعة لو كان تاركاً لها، مع ما فيه من الوعيد الشديد، وبهذا يظهر بطلان قول بعض المؤرخين في زعمهم من ترك ابن عمر البيعة لعلى رضي الله عنه حيث ثبت أنه كان من المبايعين له بل من المقربين منه، الذين كان يحرص على توليتهم، والاستعانة بهم، لما رأى فيه من صدق الولاء والنصح له[6]، وبعد اعتذار ابن عمر من قبول ولاية الشام، أرسل أمير المؤمنين علي سهيل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع[7]، وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً،

أولاً : اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذ بها القصاص من قتلة عثمان :
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم من جهة أخرى ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته، وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم، قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ، واستحقاقه الخلافة، ولكنَّ اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان[8]
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقرُ بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا[9]، وقال أيضاً: وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفؤاً لعلي بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته، وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة، كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم[10].
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحاً في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجيء الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة وهذا هو الصواب[11]، قال النووي: وأعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه[12].

ثانياً معركة صفين : 37هـ
ـ تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:
1 ـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان رضي الله عنه: أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إليّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضّرجاً بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها[13]، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومع قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها[14]، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية[15]، فورد النعمان على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره[16]، وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية: كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا[17] وآلى رجال الشام ألاَّ يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم[18]، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل الشام كانت بشعة: مقتل الخليفة، سيوفاً مصلته من الغوغاء على رقاب الناس بالمدينة، بيت المال منتهكاً مسلوباً، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون. ولذلك كان إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة. وهل تتصور أن يتم مقتل أمير المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتالين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه الجريمة البشعة[19]؟

2 ـ دوافع معاوية رضي الله عنه في عدم البيعة:
كان معاوية رضي الله عنه والياً على الشام في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة عليّ رضي الله عنه أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فاعتذر ابن عمر، فأرسل عليّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كان يصل مشارف الشام ـ وادي القرى ـ حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحي هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع[20]، لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتصّ علي رضي الله عنه من قتلة عثمان رضي الله عنه ثم يدخلون البيعة[21]، وقالوا لا نبايع من يأوي القتلة[22]. وتخوّفوا على أنفسهم من قتلة عثمان رضي الله عنه الذين كانوا في جيش علي، فرأوا أن البيعة لعلي لا تجب عليهم قبل القصاص، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولي دمه والله يقول: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان، وأنه قتل مظلوماً على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام،، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت: .. وذكر الفتن وقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم[23]. وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان، ومنشطاً ودافعاً قوياً للتصميم على تحقيق الهدف، وهو : عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال، يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثاً، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان لم يرضى بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه كتاباً[24]. لقد كان الحرص الشديد في تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام فضلاً عن طلبه للخلافة، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر منه[25]، فعن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتُوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه[26]، وأما ما شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فهذه روايات لا تصح ولا ثبتت، فقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لآبن قتيبة الدينوري، وهو لا يثبت له وإنما صاحبه ذو أنفاس شيعية رافضية، فقد ذكر أنَّ معاوية ادّعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأنا أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه[27]، وهذا كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي وإنما من كلام الشيعة الروافض، وسيأتي الحديث عن كتاب الإمامة والسياسة وبيان كذبه وزوره ودوره في تشويه حقائق التاريخ في موضعه بإذن الله، وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة التي تزعم أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة[28]. والصحيح أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا في أمر الخلافة في شيء فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه ومن حوله من أهل الشام أن يقتص عليّ رضي الله عنه من قتلة عثمان، ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة[29]، يقول القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء ـ أي أهل الشام ـ يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يأوي القتلة[30]، ويقول إمام الحرمين في ((لمع الأدلة)): إن معاوية وإن قاتل عليّاً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظآنَّاً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً[31]. ويقول الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أنَّ ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه فامتنع علي[32]، لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية رضي الله عنه اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي وطمعاً في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على من قتله عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع[33]
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي، ومن قادة الصحابة، وأكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلك زائل؟ وهو القائل: والله لا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه[34]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به[35]، وقال: اللهم علمه الكتاب وقه العذاب[36]. وأما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه، فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء، وحرصهم على قتله بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده[37]، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى[38]. ويمكن القول: إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، متأولاً يغلب ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: ((وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)) (الإسراء ، الآية : 33). ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفنى الله أرواحهم[39]. وإذا قارنّا بين طلحة والزبير رضي الله عنهما،ومعاوية لاحظنا أنهما أقرب إلى الصواب من معاوية رضي الله عنه ومن معه من أربعة أوجه كان أولها: مبايعتهما لعليّ رضي الله عنه طائعين مع إعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله[40]. والثاني: منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين وسابقتهما على معاوية ولاشك أن معاوية دونهما فيها[41]. الثالث: أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط ولم يتعمدا محاربة علي ومن معه في وقعة الجمل[42]، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين[43]، والرابع: لم يتهما عليّاً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك[44]. ونضيف نقطة خامسة: أن طلحة والزبير اقتنعا بصواب موقف علي ودخلا في الطاعة عندما اتفقا مع القعقاع بن عمر وإنما الحرب بإثارة الغوغاء والسبائية لها .
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:50 AM

3[align=justify]
ـ معاوية يرد على أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما :
بعث علي رضي الله عنه كتباً كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان رضي الله عنه في صفر، ثم بعث معاوية طُوماراً[1] مع رجل، فدخل به على عليِّ رضي الله عنه فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القوَدَ[2]، كلهم موتور[3]، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليَّ، فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد[4]
4 ـ تجهيز أمير المؤمنين علي لغزو الشام:
بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بالبصرة بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجَهّزُ وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسين رضي الله عنهما فقال: يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن عباس على الميمنة، وعمر بن أبي سلمة على المسيرة وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخ أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً الشام، جاءه ما يشغله عن ذلك[5]، وقد تمَّ تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة إلى معركة الجمل، فليرجع إليه في كتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب[6].
5 ـ إرسال أمير المؤمنين علي جرير بن عبد الله إلى معاوية بعد معركة الجمل:
ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين عليّ إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يسمى البصرة، أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد عشرين يوماً، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر[7]، وروي شهران أو ثلاثة[8]، وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: أنزل بالقصر الأبيض: فقال: لا إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله، وكان على همدان من زمان عثمان، وإلى الأشعث بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هنالك ثم يُقبلا إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية يدعو إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا ذاهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنَّ بيني وبينه وُدَّاً، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه، فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمَّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب، وطلب معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم. فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أَنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية باباً إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت لقتلوك بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنَّه عن الفكرة ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين، لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مغضباً فأقام بقرقيسياء وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه[9] . وهكذا كان الأشتر سبباً في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله، الذي كان والياً على قرقيسياء وعلى غيرها ورأساً في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين علي، وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلي قال: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، وقال صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة مَلَكَ[10].
6 ـ مسيرة أمير المؤمنين علي إلى الشام:
استعد أمير المؤمنين علي لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس، وجهز جيشاً ضخماً اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة[11]، إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفاً[12]، وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخلة[13]، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك فتوافدت عليه القبائل من شتى أقليم العراق[14]، واستعمل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هاني في أربعة آلاف، ثم خرج علي رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه من فيها من المقاتلة، وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل[15]، وسلك علي رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء[16]، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي رضي الله عنه إلى الرقة[17]، وعبر منها الفرات غرباً ونزل على صفين[18].
7 ـ خروج معاوية إلى صفين:
كان معاوية جادَّاً في مطاردة قتلة عثمان رضي الله عنه فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم ومنهم: أبو عمرو بن بديل الخزاعي[19]، ثم كانت له أيد في مصر، وشيعة في أهل ((خربتا) تطالب بدم عثمان رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة من إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبي حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، كما استطاع أيضاً أن يوقع برؤوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين مثل عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ[20]، وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق نحو صفين جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليَّاً نهد إليكم في أهل العراق،.. فقال ذو الكلاع الحميري: عليك أم رأي وعلينا أم فعال[21]. وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان رضي الله عنه والقتال[22]، وقد قام عمرو بن العاص رضي الله عنه بتجهيز الجيش وقاد الألوية، وقام في الجيش خطيباً يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة المخالفين لعلي قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه[23]. وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش علي رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفاً[24]، وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إن أن راويها صفوان بن عمرو السكسي، حمصي من أهل الشام ولد عام ((72هـ)) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلق ممن شهد صفين، كما تبين من دراسة ترجمته[25]، والإسناد إليه صحيح[26]، وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص، على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة، هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا على حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرين مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر[27]. وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في مكان سهل فسيح، إلى جانب شريعة ماء في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها وجعلها في حيزه[28].
8 ـ القتال على الماء:
وصل جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعاً فسيحاً سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعاً ما إذ أغلب الأرض صخور ذات كدى وأكمات[29]، ففوجيء جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث ابن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين، انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء[30]، إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال من أصله مفادها: أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هبوا إنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟ إن الله يقول: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) (الحجرات ، الآية :9) قال معاوية: فما تريد؟ قالوا خلوا بيننا وبين الماء، فقال لأبي الأعور: خل بين إخواننا وبين الماء[31]، وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين من المسلمين، إذا استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان علي رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميراً، فيقتتلان مرة واحدة في اليوم في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان يقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش علي، الأشتر، وحجر بن عدي وشبت بن ربعي، وخالد بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفين تصان به الأرواح والدماء[32].
9 ـ الموادعة بينهما ومحاولات الصلح :
ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة، طمعاً في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة ـ شهر المحرم ـ وردت من طرق ضعيفة[33]، مشهورة إلا أن ضعفها لا ينفي وجودها. كان الباديء بالمراسلة، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبت بن ربعي التميمي إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف علي من هذه القضية[34]، كما أن قُرَّاء الفريقين قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنج تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه[35]، وقد حاول اثنان من الصحابة وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما[36]، وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين وخطب الناس في محاولة منه لرأب الصدع بينهم فقال: أيها الناس أنصتوا ثم قال: أرأيتم لو أن منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه، قالوا: نعم: قال فوالله لقد نزل بذلك جبرائيل على محمد.. فما زال يأتي من هذا. ثم تلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً))(النساء ، الآية : 29). ثم أنساب في الناس فذهب[37]. وقد انتقد ابن كثير التفصيلات الطويلة التي جاءت في روايات أبي مخنف ونصر بن مزاحم، بخصوص المراسلات بين الطرفين فقال:... ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر، فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقص فيه معاوية وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزلا في تردد فيه، وغير ذلك وأنه قال في غضون ذلك؟ لا أقول إن عثمان قُتل مظلوماً ولا ظالماً، وهذا عندي لا يصح من علي رضي الله عنه[38]. وموقف علي رضي الله عنه من قتل عثمان رضي الله عنه واضح، وقد بينته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما وفي هذا الكتاب.

[/align]


ميارى 14 - 5 - 2010 12:52 AM

[align=justify]ثالثاً : نشوب القتال:
عادت الحرب على ما كانت عليه في شهر ذي الحجة من قتال الكتائب والفرق والمبارزات الفردية، خشية الالتحام الكلي إلى أن مضى الأسبوع الأول منه، وكان عدد الوقعات الحربية بين الفريقين إلى هذا التاريخ أكثر من سبعين وقعة وذكر أنها تسعون[1]، إلا أن علياً أعلن في جيشه أن غداً الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ إلى معاوية يخبره بذلك[2]، فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها وقام عمرو بن العاص بإخراج الأسلحة من المخازن لمن يحتاج من الرجال ممن فل سلاحه، وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال[3]، وبات جميع الجيش في مشاورات وتنظيم للقيادات والألوية[4].
1 ـ اليوم الأول :
أصبح الجيشان في يوم الأربعاء قد نظمت صفوفهم ووزعوا حسب التوزيع المتبع في المعارك الكبرى، قلب، وميمنة، وميسرة، فكان جيش علي رضي الله عنه على النحو التالي[5]: علي بن أبي طالب على القلب، وعبد الله بن عباس على الميسرة، وعمّار بن ياسر على الرجالة، ومحمد بن الحنفية حامل الراية وهشام بن عتبة (المرقال) حامل اللواء، والأشعث بن قيس على الميمنة. وأما جيش الشام، فمعاوية في كتيبة الشهباء أصحاب البيض والدروع على تل مرتفع وهو أمير الجيش، وعمرو بن العاص قائد خيل الشام كلها، وذو الكلاع الحميري على الميمنة على أهل اليمن، وحبيب بن مسلمة الفهري على الميسرة على مضر والمخارق بن الصباح الكلاعي حامل اللواء[6]، وتقابلت الجيوش الإسلامية ومن كثرتها قد سدت الأفق، ويقول كعب بن جعيل التغلبي أحد شعراء العرب[7] وذلك عندما رأى الناس في ليلة الأربعاء وقد ثبتوا إلى نبالهم وسيوفهم يصلحونها استعداداً لهذا اليوم:
أصبحت الأمة في أمر عجب
والملك مجموع غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب
إن غداً تهلك أعلام العرب[8]

وتذكر بعض الروايات الضعيفة أن علياً خطب في جيشه، وحرضهم على الصبر والإقدام والإكثار من ذكر الله[9]، وتذكر أيضاً أن عمرو بن العاص، قد استعرض جيشه، وأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها[10]، وهذه الروايات لا يوجد مانع من الأخذ بها، لأن كل قائد يحرض جيشه ويحمسه، ويهتم بكل ما يؤدي به إلى النصر وألتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدماً إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، يصل كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش على رضي الله عنه حين إنصرافه من الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: من قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة[11] وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحد أحداً، ولم ير مولياً حتى إنتهى ذلك اليوم. وفي المساء خرج علي رضي الله عنه إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم أغفر لي ولهم[12].
2 ـ اليوم الثاني:
في يوم الخميس تذكر الروايات أن علياً رضي الله عنه قد غلس بصلاة الفجر واستعد للهجوم، وغير بعض القيادات، فوضع عبد الله بن بديل الخزاعي على الميمنة بدلاً من الأشعث بن قيس الكندي الذي تحول إلى الميسرة[13]، وزحف الفريقان نحو بعضهما واشتبكوا في قتال عنيف أشد من سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقاً على أهل الشام واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية وعليها حبيب بن مسلمة ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء) وأظهر شجاعة وحماساً منقطع النظير، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، حتى أن معاوية، قد حدثته نفسه بترك ميدان القتال، إلا أنه صبر وتمثل بقول الشاعر:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
واكراهي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسريحي[14]

واستحث كتيبته الشهباء واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، فأخذ مكانه في قيادة الميمنة الأشتر وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وكروا مرة أخرى بشدة وعزيمة وقتل عدد من أبرزهم ذو الكلاع، وحوشب وعبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإنقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدماً، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق، وكثرت الجراحات ولما رأى علي جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديداً واتجه إلى القلب حيث ربيعة، فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعمر على الموت وكانوا أهل قتال[15].
وكان عمّار بن ياسر رضي عنه قد جاوز الرابعة والتسعين عاماً، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس، ويستنهض الهمم ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهانا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة[16].
ولما رأى عمار رضي الله عنه تقهقر أصحابه، وتقدم خصومه، أخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق ولا يغرنهم ضربات الشاميين الشديدة، فيقول رضي الله عنه: من سره أن تكتنفه الحور العين فليقدم بين الصفين محتسباً، فإني لأرى صفاً يضربكم ضرباً يرتاب منه المبطلون والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبغلوا منا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل[17]، ثم أخذ في التقدم، وفي يده الحربة ترعد ـ لكبر سنه ـ ويشتد على حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويستحثه في التقدم ويرغبه ويطمعه فيما عند الله من النعيم، ويطمع أصحابه أيضاً فيقول: أزفت الجنة وأزينت الحور العين، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسباً وكان منظر مؤثر فهو صحابي جليل مهاجري بدري جاوز الرابعة والتسعين يمتلك كل هذا الحماس وهذا العزم والروح المعنوية العالية واليقين الثابت، فكان عاملاً هاماً من عوامل حماس جيش العراق ورفع روحهم المعنوية مما زادهم عنفاً وضراوة وتضحية في القتال حتى استطاعوا أن يحولوا المعركة لصالحهم وتقدم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو يرتجز بقوله:
أعور يبغي أهله مَحَلاَّ قد عالج الحياة حتى ملاَّ
لا بد أن يَفُلّ أو يُفَلاَّ[18]

وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل[19]، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين
اليوم ألقى الأحبة محمّداً وحزبه[20]
وعند غروب الشمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة من لبن ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن[21]. ثمّ تقدم واستحث معه حامل الراية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقتلا[22] رحمهما الله رضي الله عنهما.
3 ـ ليلة الهرير ويوم الجمعة:
عادت الحرب في نفس الليلة بشدة وإندفاع لم تشهدها الأيام السابقة وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم، وقاتل أمير المؤمنين علي قتالاً شديداً وبايع على الموت[23]، وذكر أن علياً رضي الله عنه صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف[24]، وقال الشافعي: وحفظ عن علي أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير[25]، يقول شاهد عيان: إقتتلنا ثلاثة أيام وثلاثة ليالي حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فأجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نعانق بعضنا بعض ولما صارت السيوف كالمناجل تضاربنا بعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة وهمهمة القوم ثم ترامينا بالحجارة وتحاثينا بالتراب وتعاضينا بالأسنان وتكاد منا بالأفواه إلى أن أصبحوا في يوم الجمعة وارتفعت الشمس وإن كانت لا ترى من غبار المعركة وسقطت الألوية والرايات وأنهك الجيش التعب وكلت الأيدي وجفت الحلوق[26].
ويقول ابن كثير في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما ليهمر على الآخر، ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا فإنا لله وإنا إليه لراجعون ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماؤهم في القتال حتى تضاحا النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام[27].
4 ـ الدعوة إلى التحكيم:
إن ما وصل إليه حال الجيشين بعد ليلة الهرير لم يكن يحتمل مزيد قتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن توافقنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمان، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكن رجل مسن،وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ[28].
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن إلتقينا غداً لتميلين الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلين أهل فارس على أهل العراق وذراريهم وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا[29]، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتى أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة إنما يزعج ذلك أعداء الأمة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل، كالمناداة بتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة جريمة ومؤامرة[30]وحيلة ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: (إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة[31]، ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة[32]، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدون وغيرهم كثير، مما ساهم في تشوية الحقائق التاريخية الناصعة.
إن رواية أبي مخنف تفترض أن علياً رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القراء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد[33]، وهذه الرواية تحمل سباً من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي، ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي روية لا تصمد للبحث النزيه ولا ما يرويه الأمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل ـ أحد رجال علي بن أبي طالب ـ فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف، فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) (آل عمران ، الآية 23). فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقال القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: أيها الناس إن هذا فتح فقبل القضية ورجع، ورجع الناس[34]. وأظهر سهل بن حنيف رضي الله عنه اشمئزازاً ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم[35]، وبين لهم بأنه لا خيار عن الحوار والصلح لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر إلا أسهلن بنا إلى ما نعرفه قبل هذا الأمر ما سد منها خُصماً إلا تفجر علينا خُصم ما ندري كيف نأتي له[36]، وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار ونسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين، ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة[37]، إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب صفين، إذ أن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعياً رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في إتخاذ القرارات[38].
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قبل وقف القتال في صفين ورضي التحكيم وعد ذلك فتحاً ورجع[39] إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد. إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم ساهمت عدة عوامل به للتحكيم منها:
أ ـ أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لايقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتنفيذ وجهات نظر كل منهما، ولم تُجْد هي الأخرى ـ شيئاً وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى علي رضي الله عنه يطالبه بتوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي لنا منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي[40].
ب ـ تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
جـ ـ الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في إتجاه الموادعة وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة[41]، وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص. والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من إبتكار عمرو بن العاص، بل رفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
س ـ الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح قال تعالى ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء ، الآية : 59) ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله[42].
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 12:55 AM

5[align=justify]
ـ مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين:
يعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار رضي الله عنه: تقتلك الفئة الباغية[1]من الأحاديث الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان لمقتل عمّار رضي الله عنه أثر في معركة صفين، فقد كان علماً لأصحاب رسول الله يتبعونه حيث سار وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافاً سلاحه، فلما رأى مقتل عمّار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّار: تقتله الفئة الباغية[2]، واستمر في القتال حتى قتل[3]، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبو الأعور السلمي، عند شرعة الماء يسقونـ وكانت هي شربة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وأي رجل؟ قال: عمّار بن ياسر.. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتله الفئة الباغية. فقال عمرو لمعاوية لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض[4] في بولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به[5]، فانتشر تأويل معاوية بين أهل الشام إنتشار النار في الهشيم، وجاء في رواية صحيحة أن عمرو بن حزم دخل على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار، فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في بولك، أونحن قتلناه، إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال بين سيوفنا[6]. وفي رواية صحيحة أيضاً: جاء رجلان عند معاوية يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنه قتلته، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليطلب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل[7]. من الروايات السابقة نلاحظ أن الصحابي الفقيه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حريص على قول الحق، والنصح، فقد رأى أن معاوية وجنده، هم الفرقة الباغية لقتلهم عماراً، فقد تكرر منه هذا الاستنكار في مناسبات مختلفة، ولا شك أن مقتل عمار رضي الله عنه قد أثر في أهل الشام بسبب هذا الحديث، إلا أن معاوية رضي الله عنه أول الحديث تأويلاً غير مستساغ ولا يصح في أن الذين قتلوا عمار هم الذين جاءوا به إلى القتال[8]، وقد أثر مقتل عمار كذلك على عمرو بن العاص، بل كان استشهاد عمار دافعاً لعمرو بن العاص للسعي لإنهاء الحرب[9]، وقد قال رضي الله عنه: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة[10]، وقد جاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمّار: أعوذ بالله من الفتن[11]، وقال ابن عبد البر: تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث[12]، وقال الذهبي بعد ما ذكر الحديث: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر[13].
* ـ فهم العلماء للحديث:
أ ـ قال ابن حجر : وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، وردُّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه[14]، وقال أيضاً: دل الحديث: تقتل عماراً الفئة الباغية، على أن علياً كان المصيب في تلك الحروب، لأن أصحاب معاوية قتلوه[15].
ب ـ يقول النووي: وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث[16].
ت ـ قال ابن كثير: كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثني من هو خير مني ـ يعني أبا قتادة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية[17]. وقال أيضاً: وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتله أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائ النبوة[18].
ث ـ وقال الذهبي: هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: تقتلك الفئة الباغية[19].
جـ ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ )) (الحجرات ، الآية : 9)، هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من هذه الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقل عمار الفئة الباغية[20].
ح ـ وقال ابن تيمية: وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار ـ وإن كان متأولاً ـ وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قال علي، وعلي هذا فمقاتله مخطئ ـ وإن كان متأولاً ـ أو باغ ـ بلا تأويل ـ وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على لذك قتال البغاة المتأولين[21]. وقال أيضاً: مع أن علياً أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمار قتلته الفئة الباغيةـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف[22].
س ـ وقال عبد العزيز بن باز: وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: تقتل عمار الفئة الباغية: فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان[23].
و ـ وقال سعيد حوى: بعد أن قتل عمار الذي وردت النصوص مبينة أنه تقتله الفئة الباغية، تبين للمترددين أن علياً كان على حق وأن القتال معه كان واجباً ولذا عبّر ابن عمر عن تخلُّفه بأنه يأس بسبب هذا التخلف، وما ذلك إلا أنه ترك واجباً وهو نصرة الإمام الحق على الخارجين عليه بغير حق كما أفتى بذلك الفقهاء[24]
* ـ الرد على قول معاوية رضي الله عنه: إنما قتله من جاء به[25]:
إن جل الصحابة والتابعين قد فهموا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية[26]، إن المقصود جيش معاوية رضي الله عنه، مع أنهم معذورون في اجتهادهم فهم يقصدون الحق ويريدونه، ولكنهم لم يصيبوه، وفئة علي أولى بالحق منهم كما قال صلى الله عليه وسلم[27]، ومع أن الأئمة لم يعجبهم تأويل معاوية ـ كما سأنقل ـ إلا أنهم عذروه في إجتهاده، فهاهو ابن حجر يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار[28]. فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في إتباع طنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام وكذلك معذورون للتأويل الذي ظهر لهم[29].
وقال القرطبي: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد، فصل: علي رضي الله عنه، كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه[30]، وقال أيضاً: وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام، لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب ابن دحية[31]، وقال ابن كثير: فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا، تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله، حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء[32]، وقال ابن تيمية: وهذا القول لا أعلم له قائلاً من اصحاب الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل السنة، ولكن هو قول كثير من المروانية ومن وافقهم[33]، وقال ابن القيم معلقاً على هذا التأويل: نعم التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية[34]، فقالوا: نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، فهذا هو التأويل الباطل المخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي قتله، لا من استنصر به[35].
6 ـ من هو قاتل عمّار بن ياسر؟
قال أبو الغادية الجهني وهو يحدث عن قتله لعمار: فلما كان يوم صفين، أقبل يستن أول الكتيبة رَجِلاً، حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجلٌ عورة، فطعنه في ركبته بالرمح فعثر، فانكشف المغفر عنه، فضربته فإذا هو رأس عمار. ثم قتل عماراً، واستسقى أبو غادية/ فأتي بماء في زجاج، فأبى أن يشرب فيها، فأتى بماء في قدح فشرب، فقال رجل:... يتورع عن الشرب في الزجاج ولم يتورع عن قتل عمار[36]، ويخبر عمرو بن العاص رضي الله عنه الخبر فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار وسالبه في النار[37]. قال ابن كثير ومعلوم أن عماراً كان في جيش علي يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولى قتله يقال له أبو الغادية، رجل من أفناد الناس، وقيل إنه صحابي[38]، وقال ابن حجر: والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا متأولين للمجتهد المخطيء أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى[39]، وقال الذهبي: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل[40]، وقد وفق الألباني في تعليقه على قول ابن حجر: هذا حق، لكن تطبيقه على كل فرد من أفرادهم مشكل، لأنه يلزم تناقض القاعدة المذكورة بمثل حديث الترجمة، أي (قاتل عمار وسالبه في النار)[41]، إذ لا يمكن القول بأن أبا غادية القاتل لعمار مأجور، لأنه قتله مجتهداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في النار[42]، فالصواب أن يقال: إن القاعدة صحيحة، إلا ما دل الدليل القاطع على خلافها، فيستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها[43]. وقد ترجم لأبي الغادية الجهني ابن عبد البر فقال: اختلف في اسمه، فقيل: يسار بن سًبُع وقيل يسار بن أزهر، وقيل إن اسمه مسلم. سكن الشام ونزل في واسط، يعدُّ في الشاميين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، رُوي عنه أنّه قال: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيفع، أرد على أهلي الغنم، وله سماع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض[44]، وكان محباً لعثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان يصف قتله إذا سئل عنه لا يباليه وفي قصته عجبٌ عند أهل العلم[45].
7 ـ المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:
إن وقعت صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين.. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهراً سيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة يدفعون الجنود إلى معركة غير مقنعين بها، بل كانت معركة مدفوعة من قبل القيادة، معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء فيستقون جميعاً ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذي إنسان إنساناً[46]، وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال فهذا أحد المشاركين يقول: كناإذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في معسكر هؤلاء.. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم[47]، وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده، فيقتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف[48]، قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهنا وضعفاً) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا[49]، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها[50]، ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان[51]، ويذكر شاهد عيان إشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث علي إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا وشبك بين أصابعه، وكان الرجل من أصحاب علي يشد فيقتل في عسكر معاوية، فيستخرج منه، وقد مر أصحاب علي بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله[52]. وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل العراق ومن أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي، ولا إلى معاوية بن أبي سفيان وقالوا لأمير المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرضى بهذا فهو جائر خائن[53]. والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات وإجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلَّوا عليها[54]
8 ـ معاملة الأسرى عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
إن المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهيه بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إكرام الأسرى، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك إن إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته[55]، لذلك كان علي رضي الله عنه يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله وإن أبى أخذ سلاحه ودابته أو يهبها لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل وفي رواية يعطيه أربعة دراهم[56]وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة وقد أتى بأسير يوم صفين فقال الأسير: لا تقتلني صبراً فقال علي رضي الله عنه: لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثمّ قال: أفيك خير تبايع[57]. ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
ـ إكرام الأسير والإحسان إليه.
ـ يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
ـ إن أبى البيعة أخذ سلاحه ويحلفه أن لا يعود للقتال ويطلقه.
ـ إن أبى إلا القتال تحفظّ عليه في الأسر ولا يقتله صبرا[58]. وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشرا أسيراً ويبدو أنهم جرحى فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه[59]. ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ الذي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة[60]، قال أبن العديم: قلت: وهذا كله حكم أهل البغي، ولهذا قال أبو حنيفة: لولا ما سار علي فيهم، ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين[61].
9 ـ عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى فذٍكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل[62]، كما ذكر أبن القيم أن عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر[63]، ولا شك أن هذه الأرقام غير دقيقه، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلا مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة[64]، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية الآلف وخمسمائة[65]، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة،
10 ـ تفقد أمير المؤمنين على القتلى وترحمه عليهم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت عليا على بغلة النبي صلى الله عيه وسلم الشهباء، يطوف بين القتلى[66]، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاء والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين أحابس[67]معهم؟ عهدي والله به مؤمن فقال علي، فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: ياأمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفضعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين قال: فمع أيهما كنت؟ قال؟ مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى:(( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)) (الإسراء ، آية : 12) فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً، قال الرواي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين[68]، وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً[69]، وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بين علي ومعاوية، خرج علي فمشى في قتلاه فقال: هؤلاء في الجنة ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية[70]، وكان يقول عنهم هم: المؤمنون[71]، وقوله رضي الله عنه في صفين لا يكاد يختلف عن قوله في أهل الجمل[72].
11 ـ موقف لمعاوية مع ملك الروم:
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير: .. وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أخشاه وأذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلم رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة[73]. وهذا الأثر يدل على أن الخلاف الذي بينه وبين علي رضي الله عنه لن يبقى لحظة واحدة فيما لو تعرض أمن الدولة الإسلامية في الشام للخطر، ولولا أن الروم يعلمون أن هذه الخلافات قابلة للنسيان المطلق ما أخذوا تحذير معاوية مأخذ الجد وكفوا أيديهم[74]
12 ـ قصة باطلة في حق عمرو بن العاص بصفين:
قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام باجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.... فاعترضه علي وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل
والخضر والأنامل الطفول[75]
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلتَ الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي[76]، وذكر القصة ـ أيضاً ـ ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلي في الروض الأنف: وقول علي: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَحِمَ إلى أن قال:.. ويروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنه ـ يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:


أفي كل يوم فارس غير منته
وعورته وسـط العجاجة بداية
يكف لهـا عنه علي سنانه
ويضحك منه في الخلاء معاوية[77]
والرد على هذا الافتراء والأفك المبين كالآتي، فراوي الرواية الأولى، نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي: رافضي جَلد، تركوه قال عنه العقيلي: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذاباً[78]، وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضياً غالياً... ليس بثقة ولا مأمون[79]وأما الكلبي، هشام بن محمد بن السائب الكلبي، اتفقوا على غلوه في التشيع قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحداً يحدث عنه وقال الدارقطني: متروك[80]، وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة[81]، وتعد هذه القصة أنموذجاً لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغض من جناب الصحابة الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصَّاص وأصبح كثير منها من المسَلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف[82].
13 ـ مرور أمير المؤمنين علي بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاف[83].
14 ـ إصرار قتلة عثمان رضي الله عنه على أن تستمر المعركة:
إن قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء فسعوا إلى محادثة ثني أمير المؤمنين في عزمه لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي رضي الله عنه فاخترعوا مقولة (الحكم لله) وتحصنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن إصلاح علي مع معاوية هو أيضاً إصطلاح عل دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين[84].
15 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:
روي أن علياً ـ رضي الله عنه ـ لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي من لجج به[85]، وأما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاَ وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنَّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه[86]، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: من لعن مؤمناً فهو كقتله[87]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان[88]، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة[89]، كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين لا تثبت من ناحية السند حيث فيها أبي مخنف لوط بن يحي الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته. كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر علي من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم أحقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم[90]، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة[91].

[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 01:37 AM

رابعاً : التحكيم:
تم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد إنتهاء موقعة صفين، وهو أن يحكّم كل واحد منهما رجلاً من جهته ثم يتّفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما جميعاً، وكتب بين الفريقين وثيقة في ذلك، وكان مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل في شهر رمضان سنة 37هـ، وقد رأى قسم من جيش علي رضي الله عنه أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر فعليه أن يتوب إلى الله تعالى وخرجوا عليه فسموا الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس (رضي الله عنهما فناظرهم وجادلهم ثم ناظرهم علي رضي الله عنه بنفسه فرجع طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبين علي رضي الله عنه حروب أضعفت من جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.
تعتبر قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصاً: ابو موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع، فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين، وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في إهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه[1].

خامساً : نص وثيقة التحكيم :
بسم الله الرحمن الرحيم.
1 ـ هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا فيه من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 ـ قضية علي على أهل العراق شاهدهم وغائبهم، قضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3 ـ إنّا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته، نُحي ما أحْيى ونُميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.
4 ـ وإن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحاكماً، ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظراً وحاكماً.
5 ـ على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذِمّته وذِمّة رسوله، أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوا الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافاً، ولا يبقيان فيها بشبهة.
6 ـ وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه وليس لهما أن ينقُصا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7 ـ وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما، لم يعدو الحق، رضي به راض أو سخط ساخط، وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله.
8 ـ فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً من أهل المعدلة والصلاح، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق.
9 ـ وإن مات أحد الأميرين قبل إنقضاء الأجل المحدود في هذه القضية، فلشيعته أن يُوِلوّا مكانه رجلاً يرضون عدله.
وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح.
10 ـ وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضة ورفع السلاح .
11 ـ وقد وجبت القضية على ما سمّيناه في هذا الكتاب، من موقع الشرط على الأميرين والحَكمين والفريقين والله أقرب شهيد وكفى به شهيداً، فإن خالفا وتعدّيا، فالأمّة بريئة من حُكمهما، ولا عهد لهما ولا ذِمّة.
12 ـ والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه، والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13 ـ وللحَكمين أن ينزلا منزلاً متوسطاً عدلاً بين أهل العراق والشام.
14 ـ ولا يحضرهما فيه إلا من أحبَّا عن تراضٍ بينهما .
15 ـ والأجل إلى انقضاء شهر رمضان، فإن رأى الحَكمان تعجيل الحكومة عجّلاها، وإن رأى تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16 ـ فإن هما لم يحكُما بما في كتاب الله وسنة نبيه إلى انقضاء الأجل، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب.
17 ـ وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعاً يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحاداً أو ظلماً أو خلافاً، وشهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين، إبنا علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس الكندي، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن القيس الهمداني، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمر بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية، ومن أهل الشام،حبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبشر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث الذبيدي، ومسلم بن عمرو السكسي، وعبد الله بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن حبلة العكي، وبسر بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمّار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جلهمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم.
وكتب يزم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين[2].

سادساً : قصة التحكيم المشهورة وبطلانها من وجوه:
لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، وإذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه[3].
1 ـ أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلاً قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصافحهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، وقالوا، فما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبي علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لا أظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غيره ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن تسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمّة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني، قال أبا موس أسمي لك معاوية بن أبي سفيان فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجد مثل عمرو كمثل الذي قال الله عز وجل ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)) (الأعراف ، آية : 175). فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل ((مَثََلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)) (الجمعة ، آية : 5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار[4]. والزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة[5]، كما قرّر العلماء ، وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث[6]. وفي سنده أيضاً الواقدي، وهو متروك[7]، وهذا نصها: ... رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالإلفة واجتماع الكلمة عليه ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين[8]، وأما طرق أبي مخنف فهي معلولة به، وبأبي جناب الكلبي فالأول: وهو أبو مخنف لوط بن يحيى، ضعيف ليس بثقة[9]، وأخباري تالف غالي من الرفض وأما الثاني قال فيه أبن سعد: كان ضعيفاً[10]، وقال البخاري وأبو حاتم: كان يحيى القطان يضعفه[11]وقال عثمان الدارمي: ضعيف[12]، وقال النسائي: ضعيف[13]. هذه طرق قصة التحكيم المشهور، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها[14].
2 ـ أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها[15].
3 ـ وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه أبن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: إنه بلغني عن عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: أن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما[16]. وقد روى أبو موسى عن تورّع عمرو ومحاسبته لنفسه، وتذكُّره سيرة أبي بكر وعمر، وخوفه من الإحداث بعدهما، قال أبو موسى: قال لي عمرو بن العاص: والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحلُّ لهما، غُبِنا وأخطأ أو نقص رأيهما، ووالله ما كان مغبونين ولا مخطئين ولا ناقصي الرأي. ووالله ما جاءنا الوهم والضعف إلا من قِبلنا[17]
4ـ إن معاوية كان يقر بفضل علي عليه وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي فقد أخرج يحي بن سليمان الجعفي بسند جيد[18]، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً وأنا أبن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه فلم يدفعهم إليه[19]، فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختبار خليفة أو عزله[20]، ويقول ابن حزم في هذا الصدد بأن علياً قاتل معاوية لإمتناعه من تنفيذ أوامره في جميع أرض الشام، وهو الإمام الواجب طاعته، ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أَدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من أولاد عثمان وأولاد الحكم بن أبي العاص لسنّه وقوته على الطلب بذلك وأصاب في هذا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط[21]، وفهم الخلاف على هذه الصورة ـ وهي صورته الحقيقية ـ يبين إلى أيِّ مدى تخطئ الروايات السابقة عن التحكيم في تصوير قرار الحكمين، إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قراراً في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يفقها موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا[22]
5 ـ أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم،والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون[23]قرشياً وقد توفرت هذه الشروط في علي(رضي الله عنه)فهل بيعته منعقدة أم لا؟ فإن كانت منعقدة ـ ولا شك وقد بايعه المهاجرون والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك، فقول معاوية السابق يدل عليه بأن((الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة، فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختبار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى[24]. وإذا فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات كل من لم يرضى بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامه، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير[25]
6 ـ أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلاً ونقلاً.
7 ـ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدوا هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص وقد أعتزل الأمر ورغب عن الولاية، والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره[26].


ميارى 14 - 5 - 2010 01:40 AM

8[align=justify]
ـ أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم . والسؤال ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي[1]، أعلم الناس بأمر الشام[2] أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين[3]. فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء[4]، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع[5]، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس ((كفئا لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ((رضي الله عنه))، فإن فضل علي وسابقته وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه، أبي بكر، وعمر، وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم[6]، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما[7]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة[8] ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك[9].
9ـ أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوتها تنطف قلت قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب حفظت وعصمت[10]، هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية ( رضي الله عنه )، وقال ابن الجوزي إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، ويرى ابن حجر في التحكيم[11]، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى. فقوله: فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم. دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وإتلاف[12].
10 ـ حقيقة قرار التحكيم: ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي ومعاوية حول قتلة عثمان، ولم يكن معاوية مدعيا للخلافة ولا منكراً حق عليّ فيها كما تقرر سابقاً، وإنما كان ممتنعاً عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلباً عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيداً من طاعة الناس له بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة[13]، وقد قال ابن دحية الكلبي في كتابه ((أعلام النصر المبين في المفاضلة بين أهل صفين)): قال أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـ الباقلاني ـ في مناقب الأئمة: فما اتفق الحكمان قط على خلعه ـ علي بن أبي طالب ..... وعلى أنهما لو اتفقا على خلعه لم ينخلع أو أحد منهما على ما شرطا في الموافقة بينهما أو إلى أن يبيّنا ما يوجب خلعه من الكتاب والسنة، ونصّ كتاب عليّ ـ عليه السلام ـ اشترط على الحكمين أن يحكما بما في كتاب الله عز وجلّ من فاتحته إلى خاتمته لا يجاوزان ذلك ولا يحدان عنه، ولا يميلان إلى هوى ولا إدهان، وأخذ عليهما أغلظ العهود والمواثيق، وإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله فلا حكم لهما ... والكتاب والسنة يثبتان إمامته، ويعظمانه ويثنيان عليه، يشهدان بصدقه وعدالته، وإمامته، وسابقته في الدين، وعظيم جهاده في جهاد المشركين، وقرابته من سيد المرسلين، وما خص به من القدم في الحلم والمعرفة بالحكم، ووفور الحلم، وأنه حقيق بالإمامة، وأهل الحمل أعباء الخلافة[14].
11 ـ مكان انعقاد المؤتمر:
كان الموعد المحدد لاجتماع الحكمين ـ كما جاء في الوثيقة ـ في رمضان في عام 37هـ، إذا لم تحدث عوائق، في موضع وسط بين العراق والشام وهذا الموضع المختار هو دومة الجندل[15]، في روايات موثقة، وأذرح[16] في روايات أخرى دونها في الاتقان، ولعل لقرب المكانين من بعضهما أثر في اختلاف الروايات، إذ يقول خليفة بن خياط[17]... ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريب، وقد تم الاجتماع في الموعد المحدد بدون عوائق[18].
إن المكان الذي اجتمع فيه الحكمان هو دومة الجندل، وهذا بخلاف ما جزم به ياقوت الحموي من أن التحكيم حدث في أذرح واستدل على ذلك ببعض روايات لم يبينها وبالأشعار وبخاصة بشعري ذي الرمة[19]، في مدح بلال بن أبي بردة[20] وهو قوله:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما
تشاءوا وبيت الدين منقلع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح
ورد حروباً قد لقحن إلى عقر[21]
12 ـ هل حضر سعد بن أبي وقاص اجتماع الحكمين:
اجتمع الحكمان في موعدهما المحدد، ومع كل واحد منهما بضع مئات يمثلون وفدين، وفد عن أهل العراق، وآخر يمثل أهل الشام وطلب الحكمان من عدد من أعيان قريش وفضلائهم الحضور لمشاورتهم والاستئناس برأيهم، ولم يحضر الاجتماع عدد من كبار الصحابة كانوا قد اعتزلوا القتال منذ بدايته، وأفضل هؤلاء: سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه فإنه لم يحضر التحكيم ولا أراد ذلك ولاهمَّ به[22]، فعن عامر بن سعد أن أخاه عُمرَ انطلق إلى سعد في غنم له خارجاً من المدينة فلمّا أتاه رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الركب، فلمَّا أتاه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابياً في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي[23].

سابعاً : هل يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية؟
يمكن الاستفادة من حادثة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية وذلك بتحمل قادة البلاد الإسلامية جميعاً مسؤولياتهم ومن ورائهم الأمّة الإسلامية التي يحكومنها في الضغط الجادِّ الصادق، على الطرفين المتنازعين، لكي يوقفا بينهما من قتال، ويلجأ إلى التحكيم الشرعي في الإسلام فيرسل هذا الطرف حكماً من قبله، وذلك حكماً آخر من قبلة أيضاً، للفصل في النزاع القائم وذلك على ضوء ما يلي:
1 ـ تحديد صلاحيات الحكمين في إصدار الأحكام التي لا بُدّ منها لحل المشكلات التي هي سبب النزاع.
2 ـ جعل مصادر التشريع الإسلامي هي المرجع الوحيد لإصدار تلك الأحكام والحلول، التي تفصل في مسائل النزاع.
3 ـ أخذ العهد على كل طرف من طرفي النزاع، وأخذ العهد على جميع قادة البلاد الإسلامية بقبول ما يصدره الحكمان من أحكام، وحلول مشروعة إنهاء النزاع الرّاهن، على أنها واجبة التنفيذ بحكم الإسلام، وأن الخروج عليها، أو الرضى بذلك الخروج يترتب عليه الإثم شرعاً.
4 ـ إذا أصدر الحكمان ما اتِّفَقَا عليه من أحكام، وحلول، وإنقاد لها الطرفات المتنازعان ـ قُضي الأمر، وكفى الله المؤمنين القتال.
5 ـ إذا رفض أحد الطَّرفين، أو كلاهما الانقياد لقضاء الحكمين اعتبر الطرف الرافض هو الطرف الباغي، سواء صدر الرفض من أحدهما، أو من كليهما، ووجب شرْعاً على القوات الإسلامية في الأقطار الأخرى أن تضع نفسها تحت تصرُّف ما يصدره الحكمان من قرارات عسكرية، من أجل التدخل لحسم النزاع بالقوة على وجه لا تترتب عليه أضرار ومخاطر هي أكبر من ضرر النزاع القائم.
6 ـ ويكون من صلاحيّات الحكمين بالاِّتفاق ـ إصدار القرارات التي تخص كيفية تحريك القوات المسلحة في الأقطار الإسلامية الأخرى، من أجل حل النزاع القائم على ضوء ما سلف بيانه[24]، ولعلّ اللجوء إلى مثل هذه الطريقة في حل المنازعات بين الأقطار الإسلامية، كفيل بسد الطريق على أيّة قوة خارجية تتدخل في نزاعات المسلمين بحجة أنَّ بعض أطراف النِّزاع دعاها إلى هذا التدخل.. ومن ثم تستغل هذه الفرصة، لكي تتآمر على المسلمين، فتعمل على تصعيد تلك النزاعات، وفرض الحلِّ الذي يَحْلو لها، ويكون فيه مصلحتها فقط وليعان المسلمون، بعدئذ، من آثار ذلك الحلِّ أسوأ ممّا كانوا يُعَانُون من فتنة النِّزَاع نفسها، فهذه المعاناة لا تهمها في شيء، لا بل إنَّ هذه المعاناة هي من جملة الاهتمامات التي فرضت من أجل تفجيرها ذلك الَحلَّ المشؤُوم، قلنا: لعل اللُّجُوء إلى التحكيم، على نحو ما سلف بيانه، يسد الطريق في وجه تلك القوى الخارجيّة التي تبغي في صفوف المسلمين الفساد، هذا، وإن الصفة الإلزميَّة شرعاً للحل عن طريق التحكيم الذي عرضانه ـ تستند إلى إجماع الصحابة، فقد أجمع الصحابة كلهم في عهد النِّزاع الذي نشب بين علي ومعاوية على اللجُوء التحكيم، والقبول به.. سواء في ذلك الصحابة الذين كانوا مع علي، والصحابة الذين كانوا مع معاوية، والصحابة الذين اعتزلوا الطريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما ـ رضي الله عنهم أجمعين[25]،

ثامناً : موقف أهل السنة من تلك الحروب:
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطيء في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم، وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي[26].
1 ـ قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الحجرات ، آية : 9).
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الأيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد[27]
2 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق[28]. والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاق بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق، والحديث علم من أعلام النبوة: إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره[29].
3 ـوعن أبي بكرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين[30]ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً. قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان[31]

فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته[32] . كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى:" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " (الحجرات ، آية:9). وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي بن أبى طالب رضي الله عنه كما مر معنا. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم وكتب أهل السنة مملؤه ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها[33]
1- سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها[34]. قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب[35]

2- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا [36].ومعنى قول الحسن هذا : أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه, ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا, ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل – إذ كانوا غير متهمين في الدين[37]

3- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقول : أقول ما قال الله : ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى[38])) (طه, الآية:52)

4- قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن قيل له : ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى[39], وعن إبراهيم بن آرز الفقيه قال حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية ؟ فأعرض عنه فقيل له : يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال : اقرأ ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (البقرة ,الآية :141)

5- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال : وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب[40]

6- وقال أبو عبد الله بن بطه أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم[41]

7- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني : ويجب أن يعلم : أن ماجرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن عليا عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولايبدعون والدليل عليه قوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" (الفتح, الآية: 18) وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه, ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: إن أبي هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[42], فأثبت العظمة لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهما بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)) (الحجر,الآية:47)... إلى أن قال: ويجب الكف عمّا شجر بينهم والسكوت عنه[43]

8- وقال ابن تيمية في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة : ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما هو زيد فيه ونقص وغيرّ عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون[44]

9- وقال ابن كثير : أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والإجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً : وأما المصيب فله أجران[45]

10- وقال ابن حجر : واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن إجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً, وأن المصيب يؤجر أجرين[46]
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم و أرضاهم[47]
تاسعاً: تغير الموازين لصالح معاوية بعد معركة صفين
بعد معركة صفين بدأت الموازين تتبدل لصالح معاوية رضي الله عنه فقد خرج الخوارج من جيشى علي رضي الله عنه, وانشغل بقتالهم, بينما ازداد أمر معاوية قوة لا سيما بعد انتهاء أمر التحكيم, وعدم الوصول إلى حل جزري زكان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سرَّاً وعلانية على إضعاف جانب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه, واستغل ما أصاب جيشه من تفكك وخلاف, فأرسل جيشاً إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه سيطر عليها وضمها إليه وقد ساعده على ذلك عدة أمور منها :
1- انشغال أمير المؤمنين علي بالخوارج
2- عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على مصر - محمد بن أبي بكر- لم يكن على قدر من الدهاء كسلفه قيسى بن سعد الساعدي الأنصاري, فدخل في حرب مع المطالبين بدم عثمان ولم يسايسهم كما كان يضع الوالي السابق فهزموه
3- اتفاق معاوية مع المطالبين بدم عثمان رضي الله عنه في مصر في الرأي, فساعده في السيطرة عليها[48]
4- بعد مصر عن مركز أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقربها من الشام
5- طبيعتها الجغرافية فهي متصلة بأرض الشام عن طريق سيناء وتمثل امتداداً طبيعياً, وقد أضافت مصر قوة كبيرة لمعاوية رضي الله عنه, قوة بشرية واقتصادية كبيرة, وكذلك أرسل معاوية بعوثه إلى شمال الجزيرة الغربية, ومكة والمدينة وإلى اليمن ولكن لم تلبث هذه البعوث أن ردت على أعقابها عندما أرسل أمير المؤمنين عليُّ من يصدها[49], وعمل معاوية رضي الله عنه على استمالة كبار أعيان القبائل وعمال علي رضي الله عنه, فقد حاول سحب قيس بن سعد رضي الله عنه عامل علي علي مصر إليه فلم يستطيع, ولكنه استطاع أن يثير شك حاشية علي رضي الله عنه ومستشاريه فيه فعزله[50], وكان عزل سعد عن ولاية مصر مكسباً كبيراً لمعاوية, كما حاول سحب زياد بن أبية عامل علي رضي الله عنه على فارس ففشل في ذلك[51], وقد استطاع معاوية رضي الله عنه أن يؤثر على بعض الأعيان والولاة بسبب ما يمنيهم ويعدهم به, ولما يرونه من علو أمر معاوية وتفرق أمر علي رضي الله عنه؛ إذ يقول في إحدى خطبه : ألا إن بسراً قد أطلع من قبل معاوية, ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم, وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم, استعملت فلاناً فغلَّ وغدر وحمل المال إلى معاوية, واستعملت فلاناً فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية, حتى لو ائتمنت أحدهم على قدح خشيت على عِلاَ قَتِهِ, اللهم إني أبغضتهم, وأبغضوني فأرحهم مني وأرحني منهم[52]. ولم يستسلم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لهذه المصائب, وهذا التقاعس, والتخاذل فقد بذل جهده في استنهاض همة جيشه بكل ما أوتي من علم وفصاحة وبيان, فخطبه الحماسية المشهورة التي اشتهرت عنه, وتعتبر من عيون التراث لم يقلها من فراغ أوخيال, بل مرتجرعه, وواقع أليم عاصره ولقد ذكرت منها في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه[53].
[/align]


ميارى 14 - 5 - 2010 01:42 AM

[align=justify]عاشراً: المهادنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما : بالرغم من كل هذه المحاولات والجهود المضنية لم يستطع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن يحقق مايريد؛ إذ لم يستطع أن يغزو الشام بسبب التفكك والتصدع الذي حدث في داخل جيشه وتفرق كلمتهم وظهور الأهواء, فاضطر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في سنة أربعين للهجرة أن يوافق لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أن يكون العراق له, والشام لمعاوية ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو[1], قال الطبري في تاريخه : وفي هذه السنة -40هـ- جرت بين علي وبين معاوية رضي الله عنهما المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب على وضع الحرب بينهما, ويكون تعلي العراق, ولعاوية الشام, فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو[2], ويبدو أن هذه المهدنة لم تستمر, فمعاوية أرسل بسر بن أطأة إلى الحجاز واليمن في العام الذي استشهد فيه علي رضي الله عنه[3],
الحادي عشر : استشهاد أمير المؤمنين علي واستقبال معاوية خبر مقتله:
ولما لم يتمكن علي رضي الله عنه من تجهيز الجيش بما يصبو ويريد ورأى خذلانهم كره الحياة وتمنى الموت الموت وكان يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه عز وجل أن يعجل منيته, فمما روي عنه أنه خطب يوماً فقال : اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملوني, فأرحني منهم وأرحهم مني, فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم, ووضع يده على لحيته[4],وقد ألح عليُّ رضي الله عنه في الدعاء في أيامه الأخيرة, فعن جندب قال: ازدحموا على علي رضي الله عنه حتى وطئوا على رحاله فقال: اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني, فأرحني منهم وأرحهم [5], وفي رواية أخرى عن أبي صالح قال : شهدت علياً وضع المصحف على رأسه حتى سمعت تقعقع الورق, فقال : اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني, اللهم إني قد مللتهم وملوني, وأبغضتهم وأبغضوني, وحملوني على غير أخلاقي, فأبدلهم بي شراً مني, وأبدلني بهم خيراً منهم ومث قلوبهم ميثة الملح في الماء[6], وفي رواية فلم يلبث إلا ثلاثاً أو نحو ذلك, حتى قتل رحمه الله[7], وقال الحسن ابن علي : قال لي علي رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي, فقلت : يارسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد[8]؟ قال : ادع عليهم قلت : ,اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم , وأبدلهم بي من هو شر مني لهم . قال الحسن رضي الله عنه فخرج فضربه الرجل[9]. ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية رضي الله عنهما جعل يبكي, فقالت له امرأته : أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم[10] وكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك, فلما بلغه قتله قال : ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب, فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام, فقال له : دعني عنك[11], وقد طلب معاوية رضي الله عنه في خلافته من ضرار الصُّدائي أن يصف له علياً رضي الله عنه فقال : أعفني يا أمير المؤمنين قال : لتصفنَّه, قال : أما إذا لابد من وصفه فكان والله بعيد المدى, شديد القُوى, يقول فصلا[12], ويحكم عدلا, يتفجر العلم من جوانبه, وتنطق الحكمة من نواحيه, ويستوحش من الدنيا وزهرتها, ويستأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة, طويل الفكرة, يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن, وكان فينا كأحَدِنا, يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه, ونحن والله - مع تقريبه إيانا وقربه منا- لانكاد نكلمه هيبة له, يعظمِّ أهل الدين ويُقرِّب المساكين, لا يطمع القويُّ في باطله, ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد أنه لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سُدولَه[13], وغارت نجومه- قابضاً على لحيته, يتململ تململ السقيم, ويبكي بكاء الحزين, ويقول : يادنيا غُرِّي غيري إلي تعرضّت أم إليًّ تشوًّفتِ: هيهات هيهات, قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها, فعمرك قصير, وخطرك كثير, آه من قلة الزاد, وبُعد السفر, ووحشة الطريق, فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن, كان والله كذلك, فكيف حزنك عليه ياضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها[14], وعن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - : قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده فسلمت عليه وجلست فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف[15] الباب وأنا أنظر, فما كان بأسرع من خرج علي وهو يقول : قضي لي ورب الكعبة, ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول : غفر لي ورب الكعبة[16]
[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 01:44 AM

[align=justify]المبحث الرابع : معاوية رضي الله عنه في عهد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم :
كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي[1], وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحد من بعده, فعن عبد الله بن سبع قال : سمعت علياً يقول : لتُخضبن هذه من هذا[2] فما ينتظر بي الأشقى[3]. قالوا يا أمير المؤمنين, فأخبرنا به نبير[4]عترته قال : إذن والله تقتلون بي غير قاتلي. قالوا فاستخلف علينا قال : لا, ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته, قال وكيع[5] مرة : إذا لقيته قال : أقول : اللهم تركتني فيهم ما بدا لك, ثم قبضتني إليك وأنت فيهم, فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم[6], وفي رواية : أقول : اللهم استخلفني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم[7], وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن بن علي وكبر عليه أربع تكبيرات, ودفن بالكوفة, وكان أول من بايعه قيس بن سعد, قال له : أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المُحلِّين, فقال له الحسن رضي الله عنه : على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط : فبايعه وسكت , وبايعه الناس[8], وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم : إنكم سامعون مطيعون, تسالمون من سالمت, وتحاربون من حاربت[9], وفي رواية قال لهم : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا : ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت[10], وفي رواية ابن سعد : إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين, بايعهم على الأمرة, وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه, ويرضوا بما رضي به[11], ويستفاد من الروايات السابقة ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة, فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا, وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة فاكتسب بذلك رضاءهم[12], وكان في وسعه أن يخوض حرباً لاهوادة فيها ضد معاوية,وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والأخلاقية, والسياسية, والدينية تساعده على ذلك مع وجود عوامل أخرى, كوجود قيس بن سعد بن عبادة, وحاتم بن عدي الطائي وغيرهم في صفه من الذين لهم من القدرات, القيادية الشيء الكثير, إلا أن الحسن بن علي, مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء, وتوحيد الأمة, والرغبة فيها عند الله وزهده في الملك وغير ذلك من الأسباب وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة, وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة وهناك دلائل تشيرُ إلى ذلك منها :
1- الشرعية التي كان يملكها الحسن :
لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق, وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده, وقد استمر في خلافته ستة أشهر وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً, فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك[13], وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال : إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي, فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين سنة, وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً[14], وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء الراشدين[15], وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي بالخلافة كثير من علماء أهل السنة منهم أبو بكر بن العربي[16], والقاضي عياض[17], وابن كثير[18], وشارح الطحاوية[19], والمناوي[20], وابن الحجر الهيثمي[21], ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن الشرعية معه لأمكن ذلك, ولقام بترتيب حملة إعلامية منظمة في أوساط أهل الشام, لكسب ثقتهم أو على الأقل زعزعة موقف معاوية بينهم, فقد كان يملك قوة معنوية ونفوذ روحي لا يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها, ولكونه حفيد الرسول صلي الله عليه وسلم

2- تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القيادية :
فعندما قال له نفير بن الحضرمي: إن الناس يزعمون إنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله[22]، فهذه شهادة الحسن رضي الله عنه، بأنه كان في وضع قوي، وبأن اتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم، كما كان رضي الله عنه يملك من الملكات الخطابية والفصاحة البيانية، وصدق العاطفة وقوة التأثير والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً ودليلنا على ذلك، ما قام به من إستنفار أهل الكوفة للخروج مع والده، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال والفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله من التحذير من الاشتراك في الفتنة[23]، فقد أرسل علي رضي الله عنه قبل الحسن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، وأرسل علي بعد ذلك هشام بن عقبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم[24]، وأتبعه علي بعبد الله بن عباس، فأبطوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن[25] وكان للحسن أثر واضح، فقد قام في الناس خطيباً وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه ألوا النهى[26]، أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به[27] وابتليتم ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين الستة إلى سبعة آلاف رجل[28]، ولا ننسى أن أبا موسى الأشعري كان والياً على الكوفة ومن قيادات العراق المحبوبين من عهد عمر وهو من هو في علمه وزهده ومكانته عند الناس ومع ذلك فقد استطاع الحسن أن يكسب أهل الكوفة لصفه وخرجوا معه .

3 ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفه: كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادة الكبيرة، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة، ـ وهو من دهاة العرب. وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخلافة لأعطي المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين.

4 ـ معرفته لنفسية أهل العراق : كان له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق ومعرفة نفوسهم ولذلك زاد لهم في العطاء منذ بداية خلافته، كما أن مهمته التي قادها في نجاح مشروعه الإصلاحي كانت أصعب من حربه لمعاوية، ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي واجهته، فقد حاولوا قتله، ورفض بعض الناس الصلح وغير ذلك من العوائق إلا أنه تغلب عليها كلها وحقق الأهداف التي رسمها من حقن الدماء، ووحدة الأمة، وأمن السبيل، وعودة حركة الفتوح.. إلخ مما يدل على قدراته القيادية الفذّة .

5 ـ تقييم عمرو بن العاص ومعاوية لقوات الحسن رضي الله عنهم : فقد جاء في البخاري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني أرى لا تُولي حتى تقتل أقرانها. فقال معاوية ـ وكان خير الرجلين ـ أي عمرو، إن قتل هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: أذهب إلى هذا الرجل فأعرضا عليه قولا له، واطلبا إليه[29] .
أ ـ فعمرو بن العاص رضي الله عنه، القائد العسكري الشهير والسياسي المحنك والذي عركته الحروب يقول: إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها.
ب ـ وأما معاوية رضي الله عنه، فتقييمه للموقف العسكري بأنه لا يستطيع أحد أن ينتصر ويحقق حسماً عسكرياً إلا بعد خسائر فادحة للطرفين، ولا يستطيع معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن، يتحمل تركت الحرب من أرامل وأيتام وقتل خير المسلمين، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى إجتماعية وسياسية واقتصادية، وأخلاقية للأمة الإسلامية، ولذلك اختار معاوية شخصيتين كبيريتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحاب النفوذ في المجتمع الإسلامي ولهم حضور واحترام عند الحسن وهما من قريش، فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي الله عنه تدل على حرصه على نجاح الصلح مع الحسن بأي ثمن ممكن، وقد ظل زمام الموقف بيد الحسن بن علي رضي الله عنه ويد أنصاره، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن، وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه ومطالبه[30] كان الحسن بن علي رضي الله عنه ذا خلق يجنح إلى السلم، وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم ، خضعت لمراحل وبواعث وتغلب على العوائق، وكتب شروطه، وترتب على صلحه نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي الأزمان، فكان في صلحه مع معاوية وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبي بكر في حربه للمرتدين[31]، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبرـ والحسن بن علي على جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[32].
[/align]


ميارى 14 - 5 - 2010 01:46 AM

[align=justify]أولاً : أهم مراحل الصلح: مر الصلح بمراحل من أهمها :

المرحلة الأولى:
1 ـ دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة دفعت الحسن رضي الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم[1]

المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي الله عنه أساساً لقبول مبايعة أهل العراق له، ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من يحارب[2].

المرحلة الثالثة: وقوع المحاولة الأولى لإغتيال الحسن رضي الله عنه بعد أن كشف عن نيته في الصلح مع معاوية رضي الله عنه وهذه المحاولة يبدو إنها قد جرت بعد استخلافه بقليل[3]

المرحلة الرابعة: خروج الحسن بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن ، وإرساله للقوة الضاربة من الجيش وهي الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة[4]

المرحلة الخامسة: خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجهه إلى العراق بعد أن وصل خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه

المرحلة السادسة: تبادل الرسل بين الحسن و معاوية ، ووقوع الصلح بينهما رضوان الله عليهما،

المرحلة السابعة: محاولة اغتيال الحسن رضي الله عنه، فبعد نجاح مفاوضات الصلح بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، شرع الحسن رضي الله عنه في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيباً ليبين لهم ما تم بينه وبين معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض معسكره محاولين قتله، لكن الله سبحانه وتعالى أنجاه كما أنجاه من قبل[5]

المرحلة الثامنة: تنازل الحسن بن علي عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين، بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى الحسن بن علي من الفتنة التي وقعت في معسكره، ترك المدائن وسار إلى الكوفة وخطب في أهلها فقال: أما بعد فإن أكيس الكيس[6] التُّقى ، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقاً كان لإمرئ كان أحق به مني ففعلت ذلك ((وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ))[7] (الأنبياء ، آية : 111)

ثانياً : أهم أسباب ودوافع الصلح :
وأما أهم الأسباب والدوافع للصلح الذي تمَّ بين الحسن ومعاوية فهي :
1 ـ الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح هذه الأمة :
قال الحسن بن علي رضي الله عنه رداً على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله[8]

2 ـ دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له : إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[9] دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسي للصلح والتغلب على العوائق التي في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه واستولت على مشاعره وأحاسيسه واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحي وقسم مراحله، وكان متيقناً من نتائجه، فالحديث النبوي كان دافعاً أساسياً وسبباً مركزياً في اندفاع الحسن للإصلاح .

3 ـ حقن دماء المسلمين: قال الحسن رضي الله عنه:... خشيت أن يجئ يوم القيامة سبعون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ كلهم تنضج أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيما هُرِيقَ دمه[10]؟ وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ لا له دافع وإن كره الناس، إني ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممَّا يضرني ألحقوا بطيتكم[11] .

4 ـ حرص على وحدة الأمة: قام الحسن بن علي خطيباً رضي الله عنه في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة[12]، وإني نظار لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة[13]، وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل في الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقى مصراً على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها ـ وقد تحققت بحمد الله ـ وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا حتى سمّي ذلك العام عام الجماعة[14]، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته التصرفات .

5 ـ مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه :
ومن الأسباب التي دعت أمير المؤمنين الحسن بن علي إلى الصلح ما روّع به من مقتل أبيه، فقد ترك ذلك فراغاً كبيراً في جبهة العراق وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضي الله عنه، فترك فيها حزناً وأسى شديداً، فقد قتل هذا الإمام العظيم بدون وجه حق ولم يرع الخوارج سابقته في الإسلام ولأفضاله العظيمة، ولخدماته الجليلة التي قدمها للإسلام فقد كانت حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى الدولة والشعب، لقد كان علياً رضي الله عنه معلماً من معالم الهدى وفارقاً بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر المسلمين لفقده ويشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه، فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيماً، فجللّهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه، وكان مقتله سبباً في تزهيد الحسن في أهل العراق أولئك الذين غمرتهم مكارم أخلاق أمير المؤمنين وشرف صحبته فأضلتهم الفتن والأطماع، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ونستثنى من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الرّاحل العظيم رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد الخلافة الراشدة وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.

6 ـ شخصية معاوية: إن تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية مع أنه كان معه أكثر من أربعين ألفاً بايعوه على الموت، فلو لم يكن أهلاً لها لما سلمها السبط الطيب إليه ولحاربه[15]، فقد ذكر المترجمون والمؤرخون لسيرته فضائل كثيرة وأعمال جليلة يأتي ذكرها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب.

7 ـ اضطراب جيش العراق وأهل الكوفة:
كان لخروج الخوارج أثر في إضعاف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، كما أن الحروب في الجمل وصفين والنهروان، تسببت في ملل أهل العراق للحرب ونفورهم منها، وخاصة أهل الشام في صفين، فإن حربهم ليس كحرب غيرهم، فمعركة صفين الطاحنة لم تفارق مخيلتهم فكم يتمت من الأطفال ورملت من النساء، بدون أن يتحقق مقصودهم ولولا الصلح أو التحكيم الذي رحب به أمير المؤمنين علي وكثير من أصحابه لكانت مصيبة على العالم الإسلامي لا يتخيل آثارها السيئة، فكان هذا التخاذل عن المسير مع علي رضي الله عنه إلى الشام مرة أخرى إلى فريق منهم وتميل إليه نفوسهم وإن كانوا يعلمون أن علياً على حق[16]، فقد استلم الحسن رضي الله عنه الخلافة، وجيش العراق مضطرب وأهل الكوفة مترددون في أمرهم[17] وهذا ليس على إطلاقه فجيش الحسن يمكن تقويته كما أن هناك فصائل منه على استعداد للقتال على رأسهم قيس بن سعد الخزرجي وغيره من القادة[18].

8 ـ قوة جيش معاوية: وفي الجانب الآخر كان معاوية رضي الله عنه يعمل بشتى الوسائل سراً أو علانية على إضعاف جانب أهل العراق منذ عهد علي رضي الله عنه فاستغل ما اصاب جيشه من تفكك وخلاف، واجتمعت لمعاوية رضي الله عنه عوامل ساعدت على قوة جبهته منها، طاعة الجيش له، اتفاق الكلمة عليه من أهل الشام، خبرته الإدارية في ولاية الشام، وثبات مصادره المالية، وعدم تحرجه من دفع الأموال من أجل تحقيق أهدافه التي يراها مصلحة للأمة.

ثالثاً : شروط الصلح :
تحدثت الكتب التاريخية والمصادر الحديثة وأشارت إلى حصول الصلح وفق شروط وضعها الطرفان، وقد تناثرت تلك الشروط بين كتَّاب التاريخ وحاول بعض العلماء جمعها وترتيبها واستئناساً إلى ما وصلوا إليه نذكر أهم شروط الصلح منها :
1 ـ العمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء : وقد ذكر هذا الشرط مجموعة من العلماء منهم ابن الحجر الهيثمي حيث ذكر صورة الصلح بين الحسن ومعاوية وجاء فيها: صالحه على أن يُسلم إليه ولاية المسلمين وأن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين[19]، وحتى بعض كتب الشيعة ذكرت هذا الشرط وهذا دليل على توقير الحسن بن علي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى حد جعل من إحدى الشروط على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم: إنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الخلفاء الراشدين[20]، وفي النسخة الأخرى ـ الخلفاء الصالحين[21]، ففي هذا الشرط ضبط لدولة معاوية مرجعيتها ومنهجها في الحياة.

2 ـ الأموال :
ذكر البخاري في صحيحه أن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك[22] به.
فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه من قادم[23]، وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلي أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات، وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة[24]. أما حقه من العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات[25].

3 ـ الدماء : ويتضمن اتفاق الصلح بين الجانبين أن الناس كلهم آمنون لا يؤخذ منهم أحد منهم بهفوة أو أحنة، ومما جاء في رواية البخاري أن الحسن قال لوفد معاوية.. وأن هذه الأمة عاثت في دمائها، فكفل الوفد للحسن العفو للجميع فيما أصابوا من الدماء[26]، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحاول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل[27]، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق من كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية بذنب أحداً بذنب سابق وتأسس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وتأليف القلوب،

4 ـ ولاية العهد، أم ترك الأمر شورى بين المسلمين :
قيل ومما اتفق الجانبان عليه من الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن[28]، وإن معاوية وعد أن حدث به حدث والحسن حي يُسمينَّه وليجعلن الأمر إليه[29]، ولكن ابن أكثم روى في هذا الخصوص عن الحسن إنه قال: إما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك ولو أردت هذا الأمر لم أسلمه[30]، وجاء في نص الصلح الذي ذكره ابن الحجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين[31]، وعند التدقيق في روايات طلب الحسن الخلافة بعد معاوية، نجد أنها تتنافى مع أنفة وقوة وكرم الحسن، فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين وابتغاء مرضاة الله ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا، وتشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى، والدليل على أن هذا غير صحيح ما ذكر جبير بن نفير قال: قلت للحسن بن علي أن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء مرضاة الله[32]، ومن الملاحظ أن أحداً من أبناء الصحابة أو الصحابة لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئاً من ذلك، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية عهد الحسن بن معاوية، لاتخذها الحسين بن علي رضي الله عنه حجة، ولكن لم نسمع شيئاً من ذلك على الإطلاق مما يؤكد على أن مسألة خلافة الحسن لمعاوية لا أساس لها من الصحة، ولو كان الحسن رضي الله عنه أسند إليه منصب ولاية العهد في الشروط لكان قريباً في عهد معاوية من إدارة الدولة أو تولي إحدى الأقاليم الكبرى، لا أن يذهب إلى المدينة وينعزل عن إدارة شئون الحكم، كما أن روح ذلك العصر يشير إلى مبدأ اختبار الأمة للحاكم عن طريق الشورى هو الأصل.

رابعاً نتائج الصلح :
إن أهم نتائج الصلح هي :
1 ـ توحد الأمة تحت قيادة واحدة .
2 ـ عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه .
3 ـ تفرغ الدولة للخوارج .
4 ـ انتقال العاصمة الإسلامية إلى بلاد الشام


[/align]


.

ميارى 14 - 5 - 2010 01:52 AM

الفصل الثاني
بيعة معاوية وأهم صفاته ونظام حكمه
المبحث الأول : بيعة معاوية وأهم صفاته وثناء العلماء عليه :

أولاً : بيعة معاوية رضي الله عنه :
وبتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه اكتملت عوامل تولي معاوية الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة[1]، وسجل في ذاكرة الأمه عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو به على مر العصور، وتوالي الدهور، فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميراً عليها، وأبتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل في ذلك لله ثم للسيد الكبير مهندس المشروع الإصلاحي العظيم الحسن بن علي بن أبي طالب، ويعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفضيلة باهرة من فضائل الحسن ولا يلتفت إلى ما قال العقاد من فهم غير صحيح عن عام الجماعة في هجومه الخاطيء على المؤرخين الذين سموا سنة إحدى واربعين هجرية بعام الجماعة، فقد قال: فليس أضل ضلال، ولا أجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها، لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها[2]، والعقاد رحمه الله لم يأت بجديد في حكمه الخاطيء بل سبقه إليه كثير من مؤرخي الشيعة، ويكفي معاوية فخراً أن كل الصحابة الأحياء في عهده بايعوه، فقد أجمعت الأمة على معاوية وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة، فروي عن الأوزاعي أنه قال: أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبوسعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم.
حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريزفي أشباه له ، لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم[3]. وقال ابن حزم : فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ، ورأى إمامته[4]. فالصحابة لم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة ، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقصهم. فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟؟ ومن قال لعلهم بايعوا خوفا فقد أتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم[5]. وفي مبايعة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي لمعاوية درس بليغ وفهم عميق لآيات النهي عن الاختلاق، قال تعالى : ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (الأنعام ، آية : 153). فالصراط المستقيم هو: القرآن، والإسلام، والفطرة التي فطر الناس عليها، والسبل هي: الأهواء، والفرق، والبدع، والمحدثات، قال مجاهد: ولا تتبعوا السبل: يعني! البدع، والشبهات والضلالات[6]، ونهى الله سبحانه وتعالى هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البيانات، وأنزل الله إليهم الكتب، فقال سبحانه: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران ، آية : 105). وقد أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله، قال تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)) (آل عمران ، الآية : 103) لقد تحقق بفضل الله تعالى ثم بنجاح الحسن بن علي في صلحه مع معاوية مقصد عظيم من مقاصد الشريعة من وحدة المسلمين واجتماعهم وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى ونحن مأمورون بالتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، فلا بدّ من تضافر الجهود بين الدعاة، وقادة الحركات الإسلامية، وبين علماء المسلمين، وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقياً لا تلفيقياً، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر ممّا تصلح، وقد تحدث الشيخ السعدي على الجهاد المتعلّق بالمسلمين بقيام الالفة، واتفاق الكلمة وبعد أن ذكر الآيات، والأحاديث الداّالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السَّعي في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية[7]. ولا ينظر للحديث الضعيف الذي رواه ابن عدي من طريق عليِّ بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد ومن حديث مجالد[8]، وهو ضعيف أيضاً، عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه[9]. أسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهيره[10]، وهو متروك. وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنَّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم[11]

1 ـ انتهاء عهد الخلافة الراشدة :
انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء، أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن تكون، يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت[12]. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء[13]، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك[14]. وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً[15]، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية في شهر ربيع الأول من سنة 41 هـ[16] فالحديث النبوي الكريم أشار إلى مراحل تاريخية وهي :

أ ـ عهد النبوة.
ب ـ عهد الخلافة الراشدة.
جـ ـ عهد الملك العضوض[17].
د ـ عهد الملك الجبري.
س ـ ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة[18] ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: وفوا بيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم[19]. فقوله: فتكثر دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيراً وأيضاً قوله وفوا بيعة الأول فالأول دل على أنهم يختلفون، والراشدين لم يختلفوا، وقوله: فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم دليل على مذهب أهل السنة، في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم[20]، فمعاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته ملك، وكان ملكه ملكاً ورحمة وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره[21]، ومعاوية رضي الله عنه كان عالماً ورعاً عدلاً دون الخلفاء الراشدين في العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء، بل الملائكة والأنبياء، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن ـ رضي الله عنه ـ إلا أنها ليست على منهاج خلافة من قبله، فإنه توسع في المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وأما رجحان الخلفاء الأربعة في العبادات والمعاملات فظاهر مما لا سترة فيه[22], وقد حدد ابن خلدون مدى التغير الذي حدث, فقدر أن خلافة وإن كانت تحولت إلى ملك, فإن معاني الخلافة بقيت - بعضها- وإنما كان التغير في الوازع فبعد أن كان ديناً انقلب عصبية وسيفاً : يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بوازع الدين, والخلافة شورى, صار الحكم مستنداً إلى العصبية والقوة, ولكن معاني الخلافة أي مقاصدها وأهدافها بقيت أي أن غايات هذا الملك كان لاتزال تحقيق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التي يأمر بها الإسلام : أي أن الحكم أو الملك استمر إسلامياً وشرعياً[23]ولخص الأدوار التي مرت بها الخلافة فقال : فقد بين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً, ثم التبست معانيها واختلطت بالملك, ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار[24]. فالدور الأول الذي يشير إليه هو عصر الخلفاء الراشدين وهو عصر الخلافة الخالصة أو الكاملة, والدور الثاني هو عصر الخلفاء الأمويين والعباسيين - ولا يمنع كذلك العثمانيين- وهذا عصر الخلافة المختلطة بالملك أو الملك المختلط بالخلافة : أي الذي يحقق في الوقت مقاصد الخلافة, أما الدور الثالث فهو عصر الملك المحض الذي صار بقصد لذات الملك والأغراض الدنيوية, وانفصل عن حقيقة الخلافة أو معانيها الدينية, فهذا وصف أو تفسير ابن خلدون المؤرخ الفقيه للتطور الذي حدث والأدوار التي مرت بها الخلافة[25].
إن الخلافة الحقيقة أو الكاملة أو خلافة النبوة استمرت ثلاثين عاماً وهو عصر الخلفاء الراشدين ثم تحولت إلى ملك, ولكن لكي نعبر عن الحقيقة يجب أن يراعى هذا التحديد, وهو أن الخلافة لم تنته أو تذهب كلية, وإنما بقيت معانيها أو مقاصدها, وأن التغيير حصل في الأساس التي قامت عليه, أما حقيقتها فقد بقيت, فالتغير إذن لم يكن كليا ولكن جزئياً : أي أن الخلافة في العصر الأول كانت هي الخلافة الكاملة المثالية, ثم نقصت عن المثال من وجه أو بعض الوجوه, لكن معظم عناصره بقيت, فهي خلافة أقل في الرتية أو خلافة مختلطة بالملك[26], والرأي العام في الإسلام يتمسك بالمثال, أو خلافة النبوة, أو الخلافة الكاملة, وهي تلك التي تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة وأنه إذا كان الظروف الواقعية والعوامل الاجتماعية قد حتمت أو أدت إلى هذا التطور, فإن تحمل ذلك أو قوله لا يكون إلا مؤقتاً أو من باب الضرورة, ولكن لايلزم أن يكون المثل الكامل حاضراً دائماً في فكر الرأي العام, وبمجرد أن تزول تلك العوامل والظروف تجب العودة إلى تحقيق المثل الكامل, ولذا فإن الكتابات الإسلامية الأصيلة ظلت ملتزمة ومتشبتة بالمثال الكامل ولا تستخلص مبادائها إلا منه وتفرق بين الخلافة وهي الخلافة الحقيقية الشرعية, والخلافة الواقعية التي بعدت قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة[27], وقد ذكر ابن تيمية : أن مصير الأمر - أي الخلافة – إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة الأمراء ليس لنقص فيهم فقط, بل لنقص في الراعي والرعية جميعاً, فإنه كما تكونوا يوّل عليكم وقد قال تعالى :" وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا" ( الأنعام : 129). لقد ذهبت دولة الخلفاء الراشدين, وصار ملكاً ظهر النقص في الأمراء, وكذلك في أهل العلم والدين وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة, حتى إنه لم يبق من أهل بدر إلا نفر قليل وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك, وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية, وأوائل الدولة العباسية[28].

ميارى 14 - 5 - 2010 01:54 AM

- هل يعتبر معاوية رضي الله عنه أحد الخلفاء الاثني عشر؟
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه : دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم, فسمعته يقول : إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة, قال : ثم تكلم بكلام خفي عليَّ, قال : فقلت لأبي : ما قال, قال : كلهم من قريش[1], وفي رواية أخرى عن جابر : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشرة خليفة .. كلهم من قريش[2] وفي رواية أخرى عنه : لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش[3], زاد أبو داود في سننه, بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال : فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا : ثم يكون الهرج[4]. وقد شرح ابن كثير هذا الحديث فقال : ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم, ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم, بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم, ومنهم عمر بن عبدالعزيز بلا شك عند الأئمة, وبعض بني العباس, ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة, والظاهر أن منهم المهدي المُسرِّ به في الأحاديث الواردة بذكره .... وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء[5], فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية, بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة, وليس المراد بهولاء الخلفاء الاثنى عشر الأئمة الاثنى عشرة الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية[6]. وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنهم يتولون الخلافة, وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضياً وصالحاً في عهدهم وكل هذا الأوصاف لا تنطبق على من تدعي الاثنا عشريه فيهم الإمامة فلم يتول الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن[7]... ثم أنه ليس في الحديث حصر لأئمة بهذا العدد, بل نبوة منه, بأن الإسلام لا يزال عزيزاً في عصور هؤلاء, وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أميه عصر عزة ومنعه[8], ولهذا قال ابن تيمية : إن الإسلام وشرائعه في بني أمية أظهر وأوسع مما كان بعدهم[9], وعدّ معاوية من الائمة المقصودين بالحديث[10].
ثانياً : أهم صفات معاوية رضي الله عنه:
أشتهر معاوية رضي الله عنه بصفات كثيرة من أهمها
1- العلم والفقه:
استفاد معاوية رضي الله عنه من ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وتربية وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيره قد ذكرت بعضها وقد روى له البخاري ومسلم مع شرطهما أن لا يرويان إلا عن ثقة ضابط صدوق[11] وشهد له ابن عباس بالفقة, فعن ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنه: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنّه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه رواه البخاري[12]. قال الشرّاح: أي مجتهد, وفي رواية أُخرى للبخاري عن أبي مليكة قال : أوتر معاوية : رضي الله عنه - بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فأتى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: دَعْهُ فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من فضلاء الصحابة، ويُلقّب: البحر، لسعة علمه وحبر الأمة، وترجمان القرآن، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة والتأويل، فاستجيب وكان من خواص أصحاب علي رضي الله عنه وشديد الإنكار على أعدائه، وأرسله علي رضي الله عنه ليحاج الخوارج فحاجهم حتى لم يبق لهم حجة، فإذا شهد مثله لمعاوية بأنه مجتهد وكف مولاه عن الإنكار مستدلاً بأنه من الصحابة[13]، كما أنه كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره مفتى الحرمين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري في خلاصة السير إن كتَّابه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر: الخلفاء الأربعة وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسلمي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد ألزمهم لذلك وأخصهم به[14]، كما أن الفقهاء يعتمدون على اجتهاده ويذكرون مذهبه كسائر الصحابة، كقولهم: ذهب معاذ بن جبل، ومعاوية وسعيد بن المسيب إلى أن المسلم يرث الكافر وقولهم: روى[15] استلام الركنين اليمانيين عن الحسن أو الحسين وصح عن معاوية. وقال أبو الدراء الصحابي لأهل الشام: ما رأيت أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إمامكم هذا ـ يعني معاوية[16] وكان رضي الله عنه حريصاً على تعليم الناس العلم، فعن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال معاوية: وأنا. فلما قضي التأذين قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس ـ حين أذن المؤذن ـ يقول ما سمعتم مني من مقالتي[17]، وكان رضي الله عنه يحث الناس على الفقه في الدين ويروي لهم الأحاديث الدالة على أهمية التفقه في الدين، فعن الزهري قال أخبرني حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة. أو حتى يأتي أمر الله[18]، وكان رضي الله عنه يكاتب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعلم منهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى علي المغيرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وقال ابن جريج أخبرني عدة أن وراداً أخبره بهذا. ثم وفدت بعد إلى معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول[19]، وكان رضي الله عنه حريصاً على اتباع السنة النبوية، فعن سعيد بن المسيب، وعن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أن معاوية لما قدم المدينة في آخره مقدمه قدمها، قال على منبر رسول الله صلى : أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ يقول: من شاء منكم أن يصومه فليصمه وفي رواية: وإني صائم، فصام الناس[20]، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينهي عن مثل هذا. وأخرج قصة من شعر من كمه، فقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم[21] يعني وصل المرأة شعرها بشعر آخر، وقد صح في عدد من الأحاديث لعن الواصلة والمستوصلة. وفي رواية أخرى أنه قال لهم إنكم أحدثتم أي حدث سوء نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الزور)[22]. سماه الرسول زوراً لما فيه من التزوير والتغيرير فهنا نراه حريصاً على إحياء سنة كصوم عاشوراء الذي رأى أن الناس أهملوه، كما نراه حريصاً على إماتة بدعة ظهرت في الناس، وهي تقليد اليهوديات بوصل الشعر[23]. وروى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد جعلا ـ أي العقدين ـ صداقاً ( أي كل منهما صداق الأخرى ، فكتب معاوية بن أبي سفيان ـ وهو خليفة ـ إلى مروان، يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا السِّفار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم[24]، فهو يراعي إقامة السنة في حياة الناس في الأمور كلها، أمور الفرد، وأمور الأسرة، وأمور الجماعة،[25]، وكان رضي الله عنه لا يروي الحديث عن رسول الله إلا بمناسبة اقتضته فقد ورد أنه دخل على عبد الله بن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر له، ولم يقم ابن الزبير، فقال معاوية: مَهْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يَمثُل له عباد الله قياماً، فليتبوّأ مقعده من النار[26]. وعن مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أن معاوية أخبره أن رسول الله قصر من شعره ـ أي في العمرة ـ بمِشْقَص، فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله متّهماً[27]، وكان رضي الله عنه يهتم بمذاكرة العلم ويحرص عليه، فعن عبد الله بن الحارث قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير، وفي تلك القصة سأله معاوية عن مسألة فقهية، وكان رضي الله عنه يعلم الناس ويحثهم على سؤاله والاستفادة من علمه، فقد خطب يوم جمعة وقال: أيها الناس أعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطنهم الله عليكم، فليسومنكم سوء العذاب، تصدقوا لا يقولنَّ الرجل: إني مقلُّ. فإن صدقة المقلِّ أفضل من صدقة الغنى، إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت: وبلغني فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسُئل عنها يوم القيامة[28]. وكان رضي الله عنه حريصاً على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل مكة سأل ابن عمر أين صلى رسول الله؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة[29] وله اجتهاد في تعيين ليلة القدر، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين[30]، وكان يعترف بالحجة والبرهان لغيره، فعن ابن عباس أنه طاف مع معاوية وكان معاوية يستلم الأركان بالبيت، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان. فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً[31] وجاء في رواية: فقال له ابن عباس ((لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)) (الأحزاب ، آية : 21) فقال معاوية: صدقت[32]، ومن الأحكام التي قضاها معاوية، رضي الله عنه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم[33]ومن المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية رضي الله عنه:
أ ـ أثر عنه رضي الله عنه أنه أوتر بركعة[34].
ب ـ أثر عنه رضي الله عنه الاستقاء بمن ظهر صلاحه[35].
جـ ـ أنه يجزيء إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر[36] .
س ـ استحباب تطيب البدن لمن أراد الإحرام[37] .
ش ـ جواز بيع وشراء دور مكة[38] .
ع ـ التفريق بين الزوجين بسبب العُنَّة[39] .
غ ـ وقوع طلاق السكران[40] .
ك ـ عدم قتل المسلم بالكافر قصاصاً[41]
ل- حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل[42]
وأما علومه في الفقه السياسي والسياسة الشرعية, ومقاصد الشريعة, وفقه الجهاد, فالكاتب سوف يحدثنا عن الكثير من فقه في إدارة الدولة وتحقيق أهدافها .
2- الحلم والعفو :
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم وكان يضرب به المثل في حلمه رضي الله عنه, وكظم غيظه وعفوه عن الناس وقد ذكر ابن كثير ما كان يتصف به أمير المؤمنين معاوية من الحلم حيث قال : وقال بعضهم : أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً, فقيل له : لو سطوت عليه : فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي, وفي رواية قال له رجل : يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال : إني لا ستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي وقال الأصمعي عن الثوري قال : قال معاوية : إني لأستحي أن يكون ذنب أعظم من عفوي, أو جهل أكبر من حلمي, أو تكون عورة لا أواريها بستري. وقال معاوية : يابني أمية فارقوا قريشاً بالحلم, فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما, وأرجع وهو لي صديق, إن استنجدته أنجدني, وأثور به فيثور معي, وما وضع الحلم عن شريف شرفه, ولا زاده إلا كرماً, وقال : لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم[43] وسئل معاوية : من أسود الناس؟ فقال : أسخاهم نفساً حين يسأل, وأحسنهم في المجالس خلقا, وأحلمهم حين يستجهل[44], وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً :
فما قتل السفاهة مثل حلم
يعود به على الجهل الحليم
فلا تسْفَه وإن ملِّئتَ غيظاً
على أحد فإن الفحش لُوْمُ
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
فإن الذنب يغفره الكريم[45]
وكتب معاوية إلى نائب زياد : إنه لا ينبغي أن يُساسَ الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا, ولا بالشدة فيُحَْمَلَ الناس على المهالك, ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة, وأنا للين والألفة والرحمة, حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه[46] .
فهذه الأقوال المروية عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه تبين لنا شيئاً مما اشتهر عنه من الاتصاف بخلق الحلم, وقد كان هذا الخلق همزة وصل بينه وبين من يعاملونه بشيء من الجفاء من أفراد رعيته, أو يصارحونه بقوة - بما يرونه حقاً وهو يخالفهم في ذلك, وكان لتخلقه بخلق الحلم الذي لم يخالطه ضعف أثر في نجاحه في تثبيت أركان دولته, وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين, وتحويلهم إلى الرضى والقناعة بسياسته, وهكذا تأتي مكارم الأخلاق التي من أهمها الحلم والعفو والصبر والكرم لتكون من أهم عناصر السيادة, وقد أبان في هذه الأقوال بأن الحلم يخالطه شيء من الذل كما أن النصر يخالطه شيء من العز, ولكن أبدى سروره بذلك الذل لما يترتب عليه من النتائج الحميدة التي منها اكتساب الأصدقاء والأنصار[47] وفي كتابه إلى زياد أمير العراق بيان لسياسته الجيدة التي تخيف المتهورين الميالين إلى إحداث الفوضى والإخلال بالأمن, ولكنها في الوقت نفسه تبعث الأمل لدى من يراجعون أنفسهم ويريدون سلوك طريق الاستقامة والسلامة[48], ولقد أثنى على أمير المؤمنين معاوية حكماء عصره وذكروا اتصافه بمكارم الأخلاق وخاصة الحلم, وفي ذلك يقول الحافظ بن كثير : وقال عبد الملك بن مروان - يوما وذكر معاوية فقال -: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه[49], وقال قبيصة بن جابر : مارأيت أحداً أعظم حلماً, ولا أكثر سؤدداً, ولا أبعد أناة, ولا ألين مخرجاً, ولا أرحب بالمعروف من معاوية[50]. وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما : لله در ابن هند, إن كنا لنُفرْقه[51], وما الليث على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا, وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا, والله لوددت أنا مُتِّعنا به مادام في هذا الجبل حجر- وأشار إلى أبي قبيس[52]. وفي قول ابن الزبير هذا وصف دقيق لمعاملة معاوية لقادة المسلمين وسادتهم, فهو جريء شجاع ولكن يظهر عمدا ليصل من ذلك إلى عدم إثارة المخالفين, لأن إظهار الشجاعة يثير عنصر التحدي لديهم, وهو أدهى أهل الأرض في زمانه, ولكنه يظهر الانخداع أمام محدثيه ليصل إلى تجفيف منابع نقمتهم عليه, وهو في ذلك كله يخدم هدفاً سامياً وهو تحقيق حياة الرخاء والأمن للأمة الإسلامية, ولقد تمنى ابن الزبير أن يطول عمر معاوية لأنه يخشى من تغير الأحوال من بعده[53], ويصف حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما سياية معاوية بكلام موجز, لكنه يعني خلاصة تفكير عميق حيث يقول : قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, وكانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا[54]. وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد, وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور : لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها ومن مواقفه في الحلم أنه : جرى بين رجل يقال له أبو جهم وبين معاوية كلام, فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية, فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال : يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد, وإن قليله يغلب كثير الناس, ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال, فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية :
نميل على جوانبه كأنا
نميل إذا نميل على أبينا
نُقلِّبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرماً ولينا[55]
وهكذا كان لحلم معاوية رضي الله عنه وحسن خلقه ومبادلته الإساءة بالإحسان الأثر الكبير في نفس أبي الجهم فقال هذين البيتين في الثناء على معاوية, ولقد كان سلوك أمير المؤمنين معاوية تطبيقاً لقوله الله تعالى : ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌوَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )) (فصلت ، الآيتان :35,34).
ونظراً لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه[56] بقوله : دعوا فتى قريش وابن سيدها, إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرضا, ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه[57]. فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية, فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم, والعزة التي تجعله منيعا لا ينال ما عنده على قهر منه, وهذه الصفة من صفاته التي جعلة أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر[58] .
وقال معاوية رضي الله عنه : العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد, فإذا ذُكِّر ذكر وإذا أُعطي شكر, وإذا بتلي صبر, وإذا غضب كظم, وإذا قدر غفر, وإذا أساء استغفر, وإذا وعد أنجز[59] ففي هذا الخبر جمع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه درراً من الحكم, وهي الشكر عند الرخاء, والصبر عند الابتلاء والتحكم في السلوك عند الغضب, والعفو عند المقدرة, والوفاء بالوعد, والاستغفار عند الإساءة, فهذا الخبر على قصره قد جمع ستة موضوعات, كل موضوع يحتاج إلى أن يكتب عنه في صفحات, وهذا من جوامع الكلم, وهو يعتبر من أعلى أنواع البلاغة, وذلك في جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة, وقد اشتهر في هذا البيان عدد من الصحابة رضي الله عنهم تتلمذوا في ذلك على رسول الله صلى الله الذي أوتي جوامع الكلم[60].

ميارى 14 - 5 - 2010 01:56 AM

[align=justify]
- الدهاء والحيلة
ومن الصفات التي تميز بها معاوية رضي الله عنه صفة الدهاء والحيلة ومما يروى من دهائه وحسن إدارته وتدبيره, أن المسلمين غزوا في أيامه فأسر جماعة منهم, فوقفوا بين يدي ملك الروم بقسطنطينية, فتكلم بعض أسارى المسلمين, فدنا منه بعض البطارقة[1], ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرّ وجهه[2], وكان رجلاً من قريش فصاح : واسلاماه أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا وحكَّمت العدو في دمائنا وأعراضنا فنمى ذلك الخبر إلى معاوية, فآلمه وامتنع من لذيذ الطعام والشراب, فخلا بنفسه, وامتنع عن الناس ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين, ثم أعمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم, إلى أن فدى ذلك الرجل, ومن أسر معه من المسلمين, فلما صار الرجل إلى دار الإسلام, دعاه معاوية فبره وأحسن إليه ثم قال له : لم نهملك, ولم نضيعك, ولا أبحنا دمك وعرضك ومعاوية أثناء ذلك يدبر الرأى ويعمل الحيلة ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور, وكان عارفاً كثير الغزوات في البحر صُمكّ[3] من الرجال مرطان بالرومية, فأحضره وخلابه, وأخبره بما قد عزم عليه وسأله إعمال الحيلة فيه, والتأني له, فتوافقا على أن يدفع للرجل مالا عظيماً, ليبتاع به أنواعاً من الطرف والملح والجهاز من الطيب والجوهر وغير ذلك, وأنشأ له مركبا لا يلحق في جريه سرعة, ولا يدرك في سيره, إنشاءً عجيباً, فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجه للملك, وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية, قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك فروسل[4] الملك بشأنه, فأذن له, فدخل خليج القسطنطينية, فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته, وبايعهم وشاراهم, وقصدهم, إلا ذلك البطريق الذي لطم, القرشي, وتأنى الصوري من الأمور على حسب مارسمها له معاوية, وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام, وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها, وأنواعاً من الأمتعة وصفوها, فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً, وذكر له من الأمر ما جرى فابتيع له ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه وتقدم إليه معاوية فقال : إن ذلك البطريق إذا عدت في كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره, واستعانتك به, فاعتذر إليه ولاطفه بالقول والهدايا, واجعله القيم بآمرك, والتفقد لأحوالك تزداد عندهم, فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به, وعلمت ما غرض البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه, فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب زادت منزلته, وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية, فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك, قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك, وقال له : ما ذنبي إليك؟ وبم استحق غيري أن تقصده, وتقضي حوائجه وتعرض عني, قال الصوري : أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب, وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين, وجواسيسهم لئلا يَنِمُّو خبري ويوشوا بأمري إلى المسلمين فيكون في ذلك بواري والآن فإذا قد علمت ميلك إلى فلست أحب أن يعتني بأمري سواك, ولا يقوم بحالى عند الملك وغيره غيرك, فمرني بحوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإسلام, وأهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب ولم يزل هذا فعله, يتردد من الروم إلى معاوية ومن معاوية إلى الروم ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج الجليلة والحيلة لا تتوجه إلى معاوية, حتى مضى على ذلك سنين فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري, وقد أراد الخروج إلى دار الإسلام قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة, وتمن بها على, وهي أن تبتاع لى بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده, ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها, ويكون من صفة كذا وكذا, ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ, فأنعم له بذلك, وكان من شأن الصوري أن يكون مركبه إذا ورد القسطنطينية بالقرب من موضع ذلك البطريق وكان للبطريق ضيعة سرية, وفيها قصر مشيد, ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبه على الخليج, وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه وكانت الضيعة فيما بين قسم الخليج من يلي بحر الروم والقسطنطينية فانصرف الصوري إلى معاوية سراً, فأخبره بالحال فأحضر معاوية بساطا بوسائد ومخاد ومجلس حسن[5], فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام, وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة, وكيفية إيقاعها وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤنسة والعشرة, وفي الروم طمع وشره فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية, وقد طابت له الريح, وقرب من ضيعة البطريق, أخذ الصوري أخبار البطريق من أصحاب القوارب والمراكب, فأخبر أن البطريق في ضيعته, وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة وخمسين ميلاً, والضياع والعمائر على حافتيه, والمراكب تختلف, والقوارب بأنواع المتاع والأقوات, إلى القسطنطينية من هذه العمائر لا تحصى كثرة, فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه, والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكله قائمة غير قاذفين بها, ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله والريح في القلع, والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه, فأشرفه على قصر البطريق, وهو جالس في مستشرفه مع حرمه, وقد أخذت منه الخمر, وعلاه الطرب, وذهب به الفرح والسرور كل مذهب, فلما رأى البطريق مركب الصوري زعق طربا, وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه, فدنا من أسفل القصر فحط القلع, وأشرف البطريق على المركب فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط, ونظم تلك الفرش, كأنه رياض يزهر, فلم يستطيع اللبث في موضعه, حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه, فطلع إلى المركب فلما استقر قدمه على المركب ودنا من المجلس, وضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب, فما استقر دقه في المركب بقدمه, حتى اختطف المركب, بالمقاذيف, وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء وارتفع الصوت ولم يدر ما الخبر لمعالجة الأمر, فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط البحر, وقد أوثق البطريق كتافاً, وطابت له الريح, وأسعده الجد, وحمله المقدار في ذلك اللج, فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام, ورأى البر وحمل الرجل فكان في اليوم الثالث عشر مأسوراً بين يدي معاوية فسر بذلك معاوية[6]. وقال : عليّ بالرجل القرشي, فأتى به وقد حضره خواص الناس, فأخذوا مجالسهم, وغص المجلس بأهله, فقال معاوية للقرشي : قم فاقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظمَّ الروم, فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك فقام القرشي فدنا من البطريق, فقال معاوية : انظر لا تتعدى ما جرى عليك, واقتص منه على حسب ما ضع بك ولا تعتد, وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة, فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه, ثم أكب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها, وقال : ما ضاع من سوَّدك, ولا خاب فيك من رأسك, أنت ملك لا يستضام[7] تمنع حماك, وتصون رعيتك وأرق في وصفه ودعائه, وأحسن معاوية إلى البطريق, وخلع عليه وبرّه, وحمل معه البساط, وأضاف إلى ذلك أشياء كثيرة وهدايا إلى الملك, وقال له : ارجع إلى ملكك, وقل له : تركت ملك المسلمين[8] يقيم الحدود على بساطك, ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك وعزك, وقال للصوري : سر معه حتى تأني الخليج فتطرحه فيه ومن أسر معه, ممن كان بادر فصعد إلى المركب من غلمان البطريق, وخاصته فحملوا إلى صور مكرمين, وحمل الجميع في المركب, وطابت لهم الريح, فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين بأرض الروم فقربوا من الخليج, فإذا قد أحكم فمه بالسلاسل والمنعة من الموكولين به, فطرح البطريق, وحمل من وقته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة وتباشرت الروم بقدومه, وتلقوه مهنئين له بخلاصه من الأسر, فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله في أمر البطريق والهدايا, فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه, وقال الملك : هذا أدهى العرب وأمكر الملوك, ولهذا قدمته العرب عليها, فأساس أمورها, ولو هَمَّ بأخذي لتمت له الحيلة علي[9]. وهذه القصة دليل على دهاء معاوية رضي الله عنه وحسن سيايته واهتمامه بأمور رعيته والمحافظه على حقوق كل فرد فيها وصيانة[10] كرامته .
4- عقليته الفذه وقدرته على الاستيعاب :
امتاز معاوية رضي الله عنه بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد من كل مايمر به من الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكيف يخرج منها إذا تورط فيها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة, منذ ولاه عمر رضي الله عنه الشام, فكانت ولا يته على الشام عشرين سنة أميراً, وعشرين سنه خليفة[11], هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بين المناصب العسكرية والولاية المدينة اكسبتة خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة من كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع[12], يقول الشيخ الخضري : أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يداً في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع ومرقاته فيه تزل عنها الأقدام[13], ومن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, ولمعاوية في ذلك نصيب وافر -رضي الله عنه - وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, وهذه طريقه مع الملوك والسوقة, وهذه أمثلة من سياسته في معاملة الناس .
أ- المسور بن مخرمة رضي الله عنه واعتراضه على معاوية :
عن عروة بن الزبير : أن المسور ابن مخرمة أخبره أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان فقضى حاجته, ثم دعاه فأخلاه فقال : يامسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ فقال :المسور دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له. قال : معاوية لا والله لتكلمنَّ بذات نفسك, والذي تعيب عليّ. قال المسور. فلم أترك شياً أعيبه عليه إلا بينته له. قال معاوية : لا بريء من الذنب, فهل تعد يامسور مالي من الأصلاح في أمر العامة, فإن الحسنة بعشر أمثالها؟ أم تعد الذنوب وتترك الحسنات. قال المسور : لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب. قال معاوية : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه فهل لك يامسور ذنب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟ قال مسور : نعم! قال معاوية : فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تَليِ ولكن والله لا أُخير بين أمرين, وبين الله وغيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه, وأنا على دين يقبل الله فيه العمل, ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, فأنا احتسب كل حسنة عملتها بأضعافها, وأوازي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا تحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين, والجهاد في سبيل الله عز وجل, والحكم بما أنزل الله تعالى, والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك. قال المسور : فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر. قال عروة : فلم يُسمع المسور بعد ذلك يذكرمعاوية إلا استغفر له[14] وفي هذا الخبر مثل جيد في فن الإقناع ومحاولة إمتصاص غضب المخالفين وتحويل قناعاتهم, فقد استطاع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أن يقنع المسور بن مخرمة رضي الله عنه بتقبل سياسته التي يسير عليها, وعاد مادحاً داعياً له بعدما كان منتقداً مهاجما له, وفي هذا الخبر لفتة تربوية من معاوية حيث أبان من العدل في الحكم على المسلم أن ينظر الحاكم عليه إلى حسناته وصوابه مع أن ينظر إلى سيئاته وخطئه, ثم يوازن بين الجانبين, فلعل هذا المسلم الذي برزت أخطاؤه في ذهن من تصدى لنقده تكون له حسنات كثيرة جليلة قد لا تعد أخطاؤه إلى جانبها شيئاً مذكوراً[15].
ب ـ ثابت بن قيس بن الخطيم الانصاري رضي الله عنه :
كان ثابت بن قيس بن الخطيم, شديد النفس, وكان له بلاء مع علي بن أبي طالب, واستعمله علي بن طالب على المدائن, فلم يزل عليها حتى قدم المغيرة بن شعبة الكوفه, وكان معاوية يتقي مكانه. انصرف ثابت بن قيس إلى منزله فوجد الأنصار مجتمعة في مسجد بني ظفر يريدون أن يكتبو إلى معاوية في حقوقهم أول ما استخلف,... فقال : ما هذا, فقالوا : نريد أن نكتب إلى معاوية. فقال ما تصنعون أن يكتب اليه جماعة؟ ! يكتب إليه رجل منا فإن كانت كائنة برجل منكم فهو خير من أن تقع بكم جميعاً وتقع أسماؤكم عنده فقالوا : فمن ذلك الذي يبذل نفسه لنا؟ قال : أنا. قالوا : فشأنك, فكتب إليه وبدأ بنفسه فذكر أشياء منها : نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وقال : حبست حقوقنا واعتديت علينا وظلمتنا, ومالنا إليك ذنب إلا نصرتنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فلما قدم كتابه إلى معاوية دفعه إلى يزيد فقرأه ثم قال له : ما الرأي, فقال : تبعث فتصلبه على بابه, فدعا كبراء أهل الشام فاستشارهم, فقالوا : تبعث إليه حتى تقدم به ههنا وتقفه لشيعتك ولأشراف الناس حتى يروه, ثم تصلبه. فقال : هل عندكم غير هذا؟ قالوا : لا, فكتب إليه : قد فهمت كتابك, وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنها كانت ضجرة لشغلي وما كنت فيه من الفتنة التي شهرت فيها نفسك فأنظرني ثلاثاً, فقدم كتابه على ثابت فقرأه على قومه, وصبَّحهم العطاء في اليوم الرابع[16]. فهذا الخبر فيه موقف كبير لأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه في الحكمة والسياسة, فهو بعد أن استشار ابنه يزيد بعض وجهاء الشام لم يعجبه رأيهم ولم يوافقهم على أخذ الناس بالشدة والعنف والجبروت, بل سارع إلى إرسال عطاء الأنصار رضي الله عنهم, ولم يؤاخذ ثابت بن قيس رضي الله عنه على شدة اللهجة في كتابة إليه, وبهذا التصرف الحكيم والسياسة الرشيدة لم يخسر شيئاً بل كسب رضى الأنصار عنه ورضى غيرهم ممن يطلع على خبره معهم, ولو أنه أخذ بمشورة السذج المتجبرين فبطش بصاحب ذلك الكتاب لثار عليه الأنصار, ولناصرهم طوائف من المسلمين لشهرتهم ومكانتهم في الإسلام[17].
جـ - الأحنف بن قيس - رحمه الله - :
ذكر ابن خلكان في ترجمته : ثم إن عبيد الله - يعني ابن زياد أمير العراق - جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية, فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق, فقال : أدخلهم عليَّ أوَّ لاً فأوَّل على قدر مراتبهم عندك, فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب كما قال معاوية, وآخر من دخل الأحنف, فلما رآه معاوية - وكان يعرف منزلته ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته - قال : إليَّ يا أبا بحر, فتقدم إليه فأجلسه معه على مرتبته, وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحادثه, وأعرض عن بقية الجماعة. قال : ثم إن أهل العراق أخذوا في الشكر في عبيد الله والثناء عليه, والأحنف ساكت, فقال له معاوية : لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال : إن تكلمت خالفتهم, فقال له معاوية : اشهدوا علي أنني قد عزلت عبيد الله عنكم, قوموا انظروا في أمير أوليه عليكم وترجعون إلىَّ بعد ثلاثة أيام. قال: فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم, وفيهم من عيَّن غيره, وسعوا في السَّر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك, ثم اجتمعوا بعد انقضاء الثلاثة كما قال معاوية, والأحنف معهم, ودخلوا عليه فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول, وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا وحادثه ساعة, ثم قال : ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصاً وطال حديثهم في ذلك وأفضى إلى منازعة وجدال, والأحنف ساكت, ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء, فقال له معاوية : لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال الأحنف : إن ولَّيت أحداً من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله ولا يسد مسدَّه, وإن وليت من غيرهم فذلك إلى رأيك, ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجالس الأول في الثناء على عبيد الله, من ذكره في هذا المجلس ولا سأل عوده إليهم. قال : فلما سمع معاوية مقالة الأحنف قال للجماعة : اشهدوا علي أني قد أعدت عبيد الله إلى ولايته, فكل منهم ندم على عدم تعيينه, وعلم معاوية أن شكرهم لعبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه, بل كما جرت العادة في حق المتولي. قال : فلما فصل الجماعة من مجلس معاوية خلا بعبيد الله وقال له : كيف ضيعت مثل هذا الرجل - يعني الأحنف- فإنه عزلك وأعادك إلى الولاية وهو ساكت, وهؤلاء الذين قدمتهم عليه واعتمدت عليهم لم ينفعوك ولا عرجوا عليك لما فوضت الأمر إليهم, فمثل الأحنف من يتخذه الإنسان عوناً وذخراً قال : فلما عادوا إلى العراق أقبل عليه عبيد الله وجعله بطانته وصاحب سره[18] وفي هذا الخبر موقف لمعاوية رضي الله عنه حينما علم قدر الأحنف بن قيس رحمه الله وأدرك رفعة منزلته, فرفعه وأدناه منه وأظهر له كثيراً من الاهتمام والاحترام وهذا كما أنه يعتبر من تقدير أهل الفضل فهو يعتبر من السياسية الجيدة في احتواء أهل القوة والتأثير على الناس[19] واستيعابهم ومن القصص التي حدثت بين معاوية والأحنف والتي تدل على سعة صدر معاوية ومعرفته بعواقب الأمور, فعندما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما, فقال له معاوية : والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القامة؟ فقال له الاحنف : والله يا معاوية إن القلوب التي ابغضناك بها لفي صدورنا, وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها, وإن تدن من الحرب فتراً ندن منه شبراً, وإن تمشى اليها نهرول اليها, ثم قام وخرج وكانت اخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت : يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من تميم لا يدرون فيم غضب[20].
س- أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه :
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب وجاء بالسند فقال : من جامع معمر رواية عبد الرزاق [21], قال : حدّثنا معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري , فقال له معاوية : يا أبا قتادة, لم يكن معنا دواب, قال معاوية : فأين النَّواضح؟ قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك, وطلب أبيك يوم بدر, قال : نعم يا أبا قتاده : قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : إنَّا سنرى بعده أثرة, قال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر, قال : فاصبروا حتَّى تلقوه[22].
5- تواضعه وورعه :
ومن صفات معاوية رضي الله عنه التي اشتهر بها صفة التواضع فقد كان في خطبه العامة يعترف بأن في الناس من هو خير منه وأفضل, وكان ذلك بعد أن تولى أمر المسلمين, واجتمع عليه الناس, فأصبح الأمير الذي لا ينازع, خطب مرة فقال : أيها الناس ما أنا بخيركم, وإن منكم لمن هو خير مني, عبد الله بن عمر, وعبد الله بن عمرو, وغيرهما من الأفاضل, ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية, وأنكاكم في عدوكم, وأدرككم حلبا[23], وروى الإمام أحمد بسنده إلى علي بن أبي حملة عن أبيه قال : رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع[24], وعن يونس بن ميسر الحميري قال : رأيت معاوية في سوق دمشق, وهو مردف وراءه وصيفاً, وعليه قميص الجيب, يسير في أسواق دمشق[25], وبلغ من ورعه أنه لما رأى إحدى جواريه, ونظر إليها بشهوة, ولكنه شعر بعجزه عن وطئها, قال لمن أحضرها إليه : اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي ـ وكان ربيعة فقيها ـ فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة, وقد رأيت منها ذلك وذلك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال ربيعة : لا تفعل يا أمير المؤمنين : فإنها لا تصلح له, فقال معاوية : نعم ما رأيت, ثم وهب معاوية الجارية لعبد الله بن مسعدة الفزاري, مولى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسود, فقال له : بيض بها ولدك[26] ويعلق ابن كثير على ذلك بقوله : وهذا من فقه معاوية وتحريه, حيث كان نظر إليها بشهوة, ولكن استعفف نفسه عنها, فتحرج أن يهبها لولده يزيد لقوله تعالى : (( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ )) (النساء ، الآية : 22) وقد وافقه على ذلك ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي[27]
[/align]



.

ميارى 14 - 5 - 2010 01:58 AM

[align=justify]
- بكاؤه من خشيت الله :
روي في مجلس معاوية رضي الله عنه حديث أبي هريرة عن رسول الله, في أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من أمة محمد. القاري المرائي, والمنفق المرائي, والمجاهد المرائي, وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال : أن الله تبارك وتعالي إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله, ورجل كثير المال, فيقول الله للقاريء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسلي؟ قال بلى يا رب, قال : فماذا علمت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت. ويقول الله : بل أردت أن يقال إن فلاناً قاريء فقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا رب. قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق, فيقول الله له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت, ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك, ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقول الله له :فبماذا قتلت؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له : كذبت, وتقول له الملائكة : كذبت, ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة, أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة. فعند ما سمع معاوية هذا الحديث قال : قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظن من حوله أنه هالك, ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال : صدق الله ورسوله :((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَأُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[1]" (سورة هود ، الآيتان : 15و16) هذه أهم صفات معاوية التي خرجت لي عند البحث في سيرته .
ثالثاً : ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أميه في خير القرون :
1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قال عمر بن الخطاب : تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية[2], وقال أبو محمد الأموي : خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه, وراح إليه في موكب, فقال له عمر : يا معاوية, تروح في موكب وتغدو في مثله, وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات بباك : قال يا أمير المؤمنين إن العدو بها قريب منا, ولهم عيون وجواسيس, فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً، فقال له عمر : إن هذا لكيد رجل لبيب, أوخدعة رجل أريب؛ فقال معاوية : يا أمير المؤمنين, مرني بما شئت أصر إليه؛ قال : ويحك : ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك[3].
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لئن فقد تموه لترون رؤوساً تندر عن كواهلها كأنها الحنظل[4]. فهذا توجيه من أمير المؤمنين علي لأصحابه لعدم كراهيتهم إمارة معاوية.
3- عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : ما رأيت أحداً أسود من معاوية قال : قلت : ولا عمر؟ قال : كان عمر خيراً منه وكان معاوية أسود[5] منه وفي رواية : مارأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل ولا أبابكر؟ قال : كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه, وهو أسود منهم[6].
4- عبد الله بن عباس رضي الله عنه : قال رضي الله عنه : ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية[7], وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال : إنه فقيه[8], وذكر بن عباس معاوية فقال : لله درَّ ابن هند ما أكرم حسبه وأكرم مقدرته, والله ما شتمنا على منبر قط, ولا بالأرض ضَّناً منه بأحسابنا وحسبه[9] وحين عزى معاوية عبدالله بن عباس في الحسن بن علي بقوله : لا يخزيك الله ولا يسوؤك في الحسن فقال : له ابن عباس : أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين, فلن يسؤني الله ولن يخزيني[10].
5- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : قال رضي الله عنه : ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب, يعني : معاوية[11].
6- أبو هريرة رضي الله عنه : كان يمشي في سوق المدينه وهو يقول : ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية, اللهم لا تدركني إمارة الصبيان[12].
7- أبو الدرداء رضي الله عن : ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا- يعني معاوية[13]- قال ابن تيميه : بعد أن أورد أثر ابن عباس السابق, وأثر أبي الدرداء هذا : فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشهاد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة[14].
8- سعيد بن المسيب رحمه الله :قال ابن وهب عن مالك عن الزهري قال : سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : اسمع يا زهري, من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وشهد للعشرة بالجنة, وترحم على معاوية كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب[15].
9- عبدالله بن المبارك- رحمه الله - : قال : معاوية عندنا محنة, فمن رأيناه ينظر إليه شزراً, اتهمناه على القوم, يعني الصحابة[16] وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال : ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده. فقال خلفه : ربَّنا ولك الحمد؟ فقيل أيُّما أفضل؟ هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال : لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبدالعزيز[17].
10- عمر بن عبد العزيز : رحمه الله : قال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية, فإنه ضرب أسواطا[18].
11- وقال محمد بن عبدالله بن عمار الموصلي وغيره : سئل المعافي بن عمران : أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل : أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين, معاوية صاحبه وصهره, وكاتبه, وأمينه على وحي الله[19].
12- أحمد بن حنبل –رحمه الله- :سئل الإمام أحمد : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي, ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوءٍ رديء, يجانبون هؤلاء القوم, ولا يجالسون, ونبين أمرهم للناس[20].
13- الربيع بن نافع الحلبي - رحمه الله- : قال : معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فإذا كشف الرجل الستر, اجترأ على ماوراء[21].
14- قال ابن أبي العز الحنفي : وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين[22].
15- القاضي بن العربي المالكي : رحمه الله :تحدث ابن العربيِّ عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه, فذكر منها : ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور, وإصلاح الجند, والظهور على العدوِّ, وسياسة الخلق[23], وقال في موضع آخر من كتابه العواصم من القواصم : فعمر ولاه, وجمع له الشَّامات كلّها, وأقرَّه عثمان, بل إنَّما ولاه أبو بكر الصَّديق, لأنَّه ولي أخاه يزيد, واستخلفه يزيد, فأقرّه عمر, فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها[24]. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه ..., ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليِّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم[25].
16- يقول ابن تيمية – رحمه الله - : واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكا ورحمة[26] وقال : فلم يكن من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمان معاوية[27] إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل, وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز فقال : فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا : في حلمه, قال لا والله في عدله.
17- وقال الذهبي – رحمه الله - : أمير المؤمنين, ملك الإسلام[28] وقال ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهَنَات, والله يعفو عنه[29] وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – هو ثغر- فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه ... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه[30].
18- وقال ابن كثير رحمه الله - : وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه السنة التي كانت فيها وفاته, والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عاليه, والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو[31] وقال : كان حليماً وقوراً, رئيساً, سيداً في الناس, كريماً, عادلا, شهماً[32]. وقال عنه أيضاً : كان جيد السيرة, حسن التجاوز جميل العفو, كثير الستر رحمه الله تعالى[33].
19- قال ابن خلدون رحمه الله :وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة.... والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنَّما أَخَّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين :
الأول : إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره, وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً, فيمَّيزوا بين الحالتين. فكان معاوية أوّل خلفاء المغالبة والعصبَّية الذين يعبرّ عنهم أهل الأهواء بالملوك, ويشبِّهون بعضهم ببعض, وحاش لله أن يشبَّه معاوية بأحد ممَّن بعده. فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانيَّة ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس, ولا يقال : إن الملك أدون رتبة من الخلافة, فكيف يكون خليفة ملكاً, واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتّية المعبَّر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها, وأما الملك الذي هو الغلبه والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوَّة, فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيَّين ومَلِكيْن كانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربِّهما عز وجل. ومعاوية لم يطالب ولا أبَّهته للاستكثار في الدنيا, وإنما ساقه أمر العصبية بطابعها لمّا استولى المسلمون على الدولة كلّها, وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده, إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار, لا بالواهي, فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين, ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا, وإن سميّ خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني : في ذكر معاوية مع خلفاء بني أميه دون الخلفاء الأربعه إنهم كانوا أهل نسب واحد, وعظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأولون مختلفون الأنساب, فجعلوا في نمط واحد, وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل[34]. وكلام بن خلدون ليس على اطلاقه وفيه نوع من المبالغة فهذه بعض أقوال علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم على الثناء على معاوية رضي الله عنه ملوك المسلمين ومن خيارهم الذين غلب عدلهم وظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه, وهو على دين كما قال عن نفسه : يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, ولقد تعّرض معاوية رضي الله عنه ودولته ودولة بني أميه عموماً لسهام بعض الكتاّب, وزعم بعضهم أنها دولة مدينه, وقال بعضهم : أنها كانت دولة عربية ولم تكن دولة إسلامية؛ بل قال بعضهم : إنها دولة علمانية لاصلة لها بالدين, ولا بالأخلاق, وهذه فرية تكذبها حقائق الدين وشواهد التاريخ, أما حقائق الدين, فقد بدأت دولة بني أمية 40 هـ من الهجرة, واستمرت إلى سنة 132 هـ. فقد شملت القرون الثلاثة التي هي خير قرون الأمة : قرن الصحابة, وقرن التابعبن, وقرن أتباع التابعين[35] وهي التي جاءت بها الأحاديث الصحاح المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل حديث ابن مسعود؛ خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم[36], ومثله حديث عمران بن حصين : خيركم قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم قال عمران : لا أدري : أذكر النبي بعد قرنين أو ثلاثة[37] وكذلك حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : قال يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال : فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم, فيفتح. ثم يأتي زمان, فيقال : فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال : نعم فيفتح[38].
ومعنى قول "قرْني" أي أهل عصري. وهم الصحابة ثم قرن التابعين, ثم قرن الأتباع, وبعض الشرّاح حددوا القرن بزمن, فقال بعضهم : القرن أربعون سنة, وبعضهم قال : ثمانون سنة. وبعضهم جعله مائة سنة, وهو الذي اشتهر في الاستعمال الآن, وأمسى حقيقة عرفية. وتكون القرون المفضلة والموصوفة بالخيريه على هذا : ثلاثمائة سنة. وهذا غير منسجم مع منطق الواقع التاريخي, فالراجح تفسيره بِما ذكرنا, من عصر الصحابة, وعصر التابعين, وعصر الأتباع[39] ومن الأحاديث الصحيحة التي يستدل بها على منزلة الدولة الأموية من الإسلام. مارواه البخاري في صحيحه عن خالد بن مهران : أن عمير بن الأسود العنْسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت, وهو نازل في ساحة حمص, وهو في بناء له, ومعه أم حَرام (زوجه) قال عمر : حدثتنا أم حرام : أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . (أى فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة) قالت أم حرام قلت : يا رسول الله, أنا فيهم؟ قال : أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر : مغفور لهم : فقلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : لا[40], ومدينة قيصر هي القسطنطينية, عاصمة الدولة البيزنطينية[41]. قال الشراح : في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر, وذلك في خلافه عثمان مازال معاوية يغريه بالغزو في البحر, حتى استجاب له, وبدأ الأسطول الإسلامي منذ عهد عثمان, ثم اتسع وازداد في عهد معاوية[42], وفي هذه الغزوة مات أبو أيوب الأنصاري وكان في هذا الجيش رضي الله عنه, فأوصى أن يدفن عند باب القسطنطينية, والذي يهمنا هو أن هذا الجيش المغفور له بالجملة, كان في عهد بني أمية. إذ كانت هذه الغزوة سنه اثنين وخمسين من الهجرة النبويه , أى في عهد معاوية ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة, وبعد تنازل الحسن السبط رضي الله عنه له, وتأمل هذه السيرة بإنصاف : وجد الرجل حريصاً على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه, وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة.






[/align]
]

ميارى 14 - 5 - 2010 02:00 AM

[align=justify]المبحث الثاني : العلاقة بين الأمة ومعاوية كرئيس الدولة الإسلامية :
للخليفة كما للأمة حقوق, كما أن على كل منها واجبات مطالب بها محاسب عليها وإليك شيء من الإيضاح :
أولا : واجبات الخليفة :
بين الفقهاء الواجبات الملقاة على عاتق رئس الدولة, وحدودها التحديد الذي يوضح مدى ما هو موكول إليه من المهام ومهما اختلفت أساليب العلماء في التعبير عن هذه الواجبات وتعدادها, فإنه يمكن القول بأن هذه الواجبات في حقيقتها لاتتعدى المحافطة التامة على المصالح الدينية والدنيوية وإليك هذه الواجبات :
1- العمل بشتى الوسائلعلى أن يكون الدين مصون عن كل ما يسيء إليه, سواء في هذا ما يتعلق بالعقيدة الإسلاميه, أو ما يتعلق بغيرها, وهذا الواجب ما عبر عنه الماوردي قائلا : حفظ الدين على أصوله المستقرة, وما أجمع عليه سلف الأمة فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة, وبين له الصواب, وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود, ليكن الدين محروساً من خلل والأمة ممنوعة من زلل[1].
2- نصب القضاة ليحكموا بين الناس بشريعة الله, حتى لا يكون هناك معتدٍ لا يخاف جزاء, ولا مظلوم لا يستطيع وصولا إلى حق كفله الشارع له[2], وسوف نتعرف على مؤسسة القضاء في عهد الدولة الأموية في هذا الكتاب.
3- توفير الأمن لكل آحاد الأمة, حتى يستطيع كل فرد أن ينصرف إلى سبيل عيشه آمناً على نفسه وأهله وماله.
4- إقامة الحدود التي بينها الله سبحانه على مقترفي كل جريمة تستأهل حداً, لا يفرق في ذلك بين شريف وحقير حتى تصان محارم الله من الانتهاك, وتحفظ حقوق عباده عن إتلاف واستهلاك كما هو تعبير الماوردي[3].
5- إحاطة ثغور البلاد بسياج منيع من القوة, حتى لا يجد أعداء الإسلام ثغرة يتسللون منها إلى ضرب الأمة على حين غفلة, فيجب على رئيس الدولة أن يعمل على استكمال كل الوسائل التي تكلف الأمة الحماية التامة من شرور الأعداء.
6- جهاد أعداء الإسلام الذين عاندوا دعوتهم إليه, حتى يدخلوا في الإسلام أو يدخوا في الذمة.
7- جباية الأموال المستحقة, سواء أكانت هذه الأموال صدقات أم فيئاً وإخضاع ذلك إلى القواعد التي أوجبها الشارع نصاً واجتهاداً من غير زيادة أو نقصان في الجباية, إذ أن الزيادة تقضي إلى خسران من تجب عليهم الزكوات, والنقصان مفضٍ إلى تضييق مجال الصرف على الفقراء والمساكين والعاملين ونحوهم.
8- تقدير الحقوق والرواتب المستحقة في بيت مال المسلمين, كالإعانات الاجتماعية للأسر المحتاجة, ورواتب الجند والموظفين, والعمل على إرساء قواعد تكون ضابطة لكل ما يتصل بهذا الواجب.
9- اختيار الأكفاء الذين يثق في مقدرتهم ودينهم وصلاحهم للمناصب القيادية التي توكل إليهم, حتى يسير دولاب الأعمال بيد الأمناء الذين يخافون الله ولا يثبتون على حقوق الناس.
10- الإشراف بنفسه على ما هو متصل بما يجب عليه نحو الأمة, ولا يترك الأمور تسير بدون إشراف مباشر منه, إذ إن كل تقصير من أي من عماله الذين وكل إليهم بعض الأمور, منسوب إليه متحمل خطئه, محاسب عليه أمام الله إن قصر في المتابعة, فإن الإمام راعٍ وهو مسؤل عن رعيته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11- الشورى, لأنها من سمات الحكم الإسلامي[4].
وسوف نرى بإذن الله تعالى كيف تعامل معاوية رضي الله عنه والخلفاء الأمويين من بعده مع هذه الواجبات, ولا نريد أن نستعجل الأحداث, وسنقف مع كل واجب من هذه الواجبات في موقفه ونرى قرب الخلفاء الأمويين وبعدهم من تطبيق هذه الواجبات.
ثانياً : حقوق الخليفة
إن الخليفة له حقوقاً على الأمة من شأنها أن تعينه على القيام بما هو موكول إليه من المهام وقدبين علماء الإسلام هذه الحقوق وإهمها:
1-طاعته والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه ما دامت هذه الأوامر والنواهي في المعروف ولم تتعارض مع الأحكام التي بينتها شريعة الإسلام, فما دام الخليفة أو رئيس الدولة قد التزم في أوامره ونواهيه جانب الشرع فلم يحد في ذلك عن الحدود التي رسمتها. له الشريعة, فله حق ولاء المواطنين جميعاً, سواء في ذلك أهل الحل والعقد الذين بايعوه رئيساً للأمه, وسائر المواطنين الذين يلزمهم الانقياد له بمجرد تمام هذه البيعة.
2- القيام بنصرتة إذا احتاج الأمر إلى ذلك, فما دام يسير في حكمه على طريق الحق فقد وجب على سائر الأمة نصرته على البغاة وكل من رفع عليه السلاح, ... لأن نصرة الإمام الحق في الواقع ما هي إلا نصرة للمسلمين وتأييد له في العمل على أن يكون الدين قائماً وكف للمعتدين عن كل ما يمكن أن يصدر عنهم من جرائم.
3- جعل راتب له مع مخصصات له, تكفيه ومن يعوله, فإن رئيس الدولة سيشغل نفسه بواجبات الرياسة التي ستستحوذ على وقته, مما لا يترك له فرصة السعي في اكتساب رزقه, فيجب أن يجعل له راتب يغنيه ويليق بهذا المنصب بحيث لا يكون فيه تقتير ولا إسراف لأن رواتب الولاة والقضاة من أموال المسلمين التي يحتاط في وجوه صرفها.
4- إخباره بأحوال من ولاهم المناصب العامة كالولاة والقضاة إذا انحرفوا عن الطريق الذين كلفوا بسلوكه, وذلك لأن الإمام مكلف شرعاً بمتابعة أعمال هؤلاء لإصلاح ما اعوج من أفعالهم وتنبيههم إلى ما غفلوا عنه من وجوه المصلحة, وهو محاسب أمام الله على ما ارتكبه هؤلاء من أخطاء في حق الله, والأمة إذا هو قصر في منع ذلك, ولا طاقة له على متابعة أعمالهم ومراقبة سيرهم إلا إذا عاونته الأمة في ذلك.
5- تقديم كافة المساعدات إليه إن احتاج إلى ذلك في أداء ماتحمله من أعباء مصالح الأمه لقوله تعالى :"وتعاونوا على البر والتقوى" وولاة الأمور أحق من أعين على ذلك[5]. والأمه في عمومها لم تبخل على أمير المؤمنين معاوية بحقوقه وعلى الخلفاء الذين جاءوا من بعده ولم يخل الأمر من ثورات ضد الخلفاء سنبينها في موضعها بإذن الله تعالى.

ثالثاً : عاصمة الدولة الأموية وأحاديث الرسول في فضائل الشام :
كانت الشام إحدى الولايات الهامة في الامبراطرية الرومانية الشرقية "البيزنطية", بل كانت لقربها من بيت المقدس, وتاريخها القديم, إحدى المراكز الحضارية في هذه الامبراطورية, وكان العرب قبل الإسلام ينظرون إليها نظرة كبيرة, لما تحتويه من حضارة, فضلاً عما بها من خيرات وخضرة وأسواق, وتعتبر مدينة دمشق المدينة الأولى في بلاد الشام, فهي قاعدتها ومدينتها العظمى, ولعبت دوراً كبيراً في تاريخ المنطقة, لذلك اتخذها الحاكم الروماني قاعدة حكمه, ولما دخل الإسلام الشام ودمشق خاصة, حافظ عليها, واحتفظ الولاة لها بميزاتها وظل معاوية الوالي يعتني بها طوال فترة ولايته عليها, وأقام علاقات وطيدة مع سكانها[6], وعرف أهمية القبائل اليمنية في دمشق والشام, فتزوج من إحداها وهي بني كلب وأنجب من زوجته الكلبية ابنه يزيد, فضمن ولاءهم له ولأبنائه من بعده, لأن الخؤولة من أبرز ما تتحزب له القبائل العربية, هذا فضلا عن أن التصاهر عند العرب بمثابة التحالف السياسي[7], وقد كان معاوية ذكيا في اعتماده على القبائل اليمنية بدمشق والشام[8], ولما قامت الدولة الأموية, رأى معاوية أن الدولة الإسلامية توسعت وامتدت شرقاً وغرباً فلم يجد أفضل من دمشق عاصمة للخلافة الأمويه وذلك لأنها تقع بين جزئي العالم الإسلامي؛ الجزء الشرقي الذي يشمل العراق وفارس, والجزء الغربي الذي يشمل مصر والمغرب, فضلا عن أن القبائل التي ارتبطت به أيدته ودعمت موقفه وصارت يده الطولى في تدعيم حكمه, أي أنها كانت القوة العسكرية والسياسية التي استند عليها الحكم والدولة الأموية, كما قدم له سكان البلد ما يمكن أن يقدموه من خبرة وعمل إدراي[9], فقد وجد معاوية في دمشق تقاليد عريقة في الحكم والادارة, كما وجد جهازاً إدارياً متمرساً ساعده على تأسيس مهمته في فترة التأسيس هذه التي لا تحتاج الارادة الطيبة, فحسب, بل الخبرة والمران اللذين وفرهما له جهاز الموظفين الذين كانوا يعملون في ظل الادارة البيزنطية في الميدانين الإداري والمالي, كما أنه لابد لنا أن نلاحظ حظ الشام من الحضارة كان أوفر من حظ الأمصار الأخرى, فالقبائل العربية التي هاجرت إليها واستقرت فيها قبل الفتح كانت قد اعتادت فكرة الحكم المركزي وفكرة الدولة عموماً, على عكس عرب العراق مثلاً الذين لم يتقبلوا هذه الفكرة بسهولة, وينطبق هذا على من سكن العراق منهم قبل الفتح وبعده, فالذين سكنوا العراق قبل الفتح كانوا في خصومة وصراع دائمين مع الحكم الفارسي[10], وسكان بلاد الشام كانوا قد اعتادوا الخضوع والتعايش مع البيزنطيين, كما أن العرب الذين هاجروا إلى الشام بعد الفتح لم يعيشوا في معسكرات مستقلة, كما كانت الحال في العراق (البصرة والكوفة), بل عاشوا جنباً إلى جنب مع السكان المحليين والقبائل التي كانت تقطن الشام قبلاً, وقد ساعد هذا الاختلاط على كسر حدة التمرد القبلي[11] وقد ساعد على تحقيق انتصارت معاوية في الخارج الجيش الشامي الذي جمعه ونظمه ودربه منذ أن كان والياً, والذي أغدق عليه العطاء, ولم يبخل عليه بكل مايوفر له سبل الرضا والاخلاص بعد أن غدا خليفة وتعددت لقاءاته في البر والبحر مع الامبراطورية البيزنطية, وقد ساعدت هذه اللقاءات المستمرة على اعطاء جيش الشام فرصاً كثيره للتدريب العملي وقدمت له الخبرة اللا زمة[12], كما كان لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرها في هجرت الناس للشام, واعتزاز أهلها بالإسلام وحرصهم على زعامة العالم الإسلامي, فالنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر, وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر, فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة[13]، وقد كان معاوية يحتج لأهل الشام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم, حتى تقوم الساعة[14],فقام ملك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذاً يقول : وهم بالشام, فقال معاوية : وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذا يقول : وهم[15] بالشام ومارواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لايزال أهل الغرب ظاهرين[16], قال الإمام أحمد : وأهل الغرب هم أهل الشام[17]. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه, وما يشرق عنها فهو شرقه[18]... فقد أخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها ... وكان أهل المدينة يسومون أهل الشام, أهل المغرب, ويقولون عن الأوزاعي : إنه إمام أهل المغرب[19], فإذا دلت النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف, ولا خذلان الخاذل هي بالشام, فهذا لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم : تقتل عماراً الفئة الباغية[20], وقوله في الخوارج صلى الله عليه وسلم : تقتلهم أولى الطائفتين بالحق[21], ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها, فيقال, أما قول صلى الله عليه وسلم : لا يزال أهل الغرب ظاهرين[22]. ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم, فهذا وقع وهذا هو الأمر فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين[23], وأما قوله : عليه السلام : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله [24], والذي هو ظاهر, فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم, بل فيهم هذا وهذا[25] وأما قوله : تقتلهم أولى الطائفتين بالحق فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى, وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله, وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله, وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات, مع كون بغيه خطأ مغفوراً له, أو ذنباً مغفوراً, فهذا –أيضاً- لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم, ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال[26], وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق, حتى قدم الشام غير مرة وامتنع من الذهاب إلى العراق, واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها, وكذلك حين وفاته لما طغى أدخل عليه أهل المدينة أولا وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة, ثم أدخل عليه أهل الشام, ثم أدخل عليه أهل العراق, وكانوا آخر من دخل عليه[27] وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال : لَكَفرْ الشام أحب إلى من فتح مدينة العراق [28], والنصوص التي في كتاب الله وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام, وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق, أكثر من أن تذكر هنا, بل عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحه في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ماليس هذا موضعه, وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين علي, وذلك كان أمراً عارضاً ولهذا لما –مات- علي رضي الله عنه أظهر منهم من الفتن, والنفاق, والردة, والبدع, مايعلم به أن أولئك كان أرجح[29]. وكذلك – أيضاً – لاريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام, كما كان علي وابن مسعود, وعمار وحذيفة ونحوهم, أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة, لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً رضي الله عنه كان أولى بالحق ممن فارقه, ومع أن عماراً قتلته الفئه الباغية – كما جاءت به النصوص – فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله, ونقر بالحق كله, ولا يكون لنا هوى, ولانتكلم بغير علم, بل نسلك سبل العلم والعدل, وذلك هو اتباع الكتاب والسنة, فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض, فهذا منشأ الفرقة والإختلاف[30] .

[/align]

ميارى 14 - 5 - 2010 02:02 AM

رابعاً : أهل الحل والعقد في عهد معاوية رضي الله عنه:
كان المجتمع الإسلامي في عصر الراشدين يتطور تطوراً سريعاً وخطيراً بشكل يهدد المحافظة على السمات الأساسية لحكمهم والتي تظهر في ذلك الحب والانسجام والحرص المتبادل بين الخليفة والرعية وخوف الله في معاملة بعضهم للبعض، وقد تمثل ذلك التطور في تقلص دور أهل الحل والعقد المقيمين في المدينة بوفاة معظمهم أو بتفرقهم في الأمصار، وباكتساب تلك الأمصار مكانة ضخمة تفوق مكانة الحجاز مقر الخلافة نتيجة نمو دور القبائل العربية التي أسلمت متأخراً ولكنها حملت على أكتافها عبء الفتوحات الإسلامية الكبرى، التي أدت إلى إثراء المجتمع الإسلامي بصورة لم يعرفها من قبل، تغيرت معها بعض النفوس والأخلاق[1]، وبدأت تدريجياً تتغير بعض المفاهيم، كمفهوم أهل الحل والعقد، فلم يعودوا هم أهل بدر، أو جماعة السابقين إلى الإسلام في المدينة، التي تقلصت أعدادها بمضي الزمن، وبرز إلى ساحة التأثير والفاعلية زعماء الأمصار، وزعماء الشام من بينهم، فحين نحتكم إلى أحداث التاريخ نجدها تؤكد قدرة أهل الأمصار آنذاك على الحسم السياسي، وعجز أهل المدينة عن ذلك ثم تؤكد بعد ذلك تميز أهل الشام بقدر هائل من الطاعة والتوحد الإجتماعي والتعود على الخضوع لنظم الدولة، ، وأساليب الإدارة وأنماط الحضارة، وقد مكنتها هذه المؤهلات من فرض اختيارها على العراق وسائر الأمصار الإسلامية حتى بايعت معاوية، ثم استطاعت الاحتفاظ بهذه القدرات أكثر من تسعين عاماً هي عمر الدولة الأموية.. مما يؤكد أن قادتها أصبحوا هم بحكم الواقع السياسي جل أهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي والقادرين على اختيار الخليفة، وإقناع بقية الأمصار بذلك الاختيار ـ إن سلماً أو عنفاً ـ في ذلك المجتمع الذي أصبحت تحكمه عصبيات مختلفة الرغبات والأهواء والمطامع[2].
1 ـ رأي الفقهاء في معنى أهل الحل والعقد:
وحين نحتكم إلى أقوال علمائنا في معنى أهل الحل والعقد نجدهم يختلفون إلى عدة أقوال[3]، ويذكرون مصطلحات متعددة منها:

أ ـ أولو الأمر: وهو مصطلح شرعي جاء بنص القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: ((ي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) (النساء ، آية : 59) وقد اختلف في المراد بهم على أقوال من اشهرها:
ـ أنهم الأمراء، ورجحه الإمام الطبري[4]، وقال النووي: هو قول جمهور السلف والخلف[5].
ـ أنهم العلماء وبه قال بعض السلف منهم: جابر بن عبد الله والحسن البصري، والنخعي وغيرهم.
ـ أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
ـ أنهم أبو بكر وعمر .
ـ أنها عامة في كل أولى الأمر والعلماء، ومال إليه الإمام ابن كثير[6]، وابن القيم[7]، والشوكاني[8] وغيرهم.
ـ أنهم العلماء والأمراء والزعماء وكل من كان متبوعاً وهو رأي ابن تيمية[9]، ومحمد عبده[10]، وقال: إنهم هم أهل الحل والعقد[11]، ولعل القولين الخامس والسادس هما الأقرب إلى الصواب، وليس بينهما فرق كبير[12].
ب ـ العلماء : والمراد بهم علماء الشريعة: وهو لفظ قراني: قال سبحانه ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) (فاطر ، الآية : 28) وربما جاء بلفظ ((وَأُولُو الْعِلْمِ))كما في قوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) آل عمران ، الآية : 18). وفي السنة النبوية جاء هذا المصطلح في أحاديث لا تكاد تحصر ومن ذلك الحديث المشهور: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن بموت العلماء[13].
ت ـ أهل الاختيار: وهم الذين يوكل إليهم اختيار الإمام ومبايعته، وهم أهل الحل والعقد[14]، وهو مصطلح اجتهادي اصطلح عليه بعض أهل العلم[15].
س ـ أهل الاجتهاد وهم : العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ويكونون مؤهلين للأعمال المهمة: كالإمامة الكبرى، والقضاء، والفتوى ونحو ذلك، وممن أطلق هذا المصطلح: البغدادي[16]، والقرطبي[17].
ر ـ أهل الشورى وهم : الذين يستشارون في أمر المسلمين وفق الآية الكريمة، ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)) (آل عمران ، الآية : 159) وقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى ، الآية : 38).
ك ـ أهل الشوكة وهم : أصحاب القدرة والسلطان، لتوافر القدرة والبأس لديهم، وممن استعمل هذا المصطلح ابن تيمية[18].
ل ـ أهل الرأي والتدبير وهم : من يتسمون بالعقل والفكر الناضج مع القدرة على تصريف الأمور وتسييرها وممن استعمل هذا المصطلح ابن عابدين[19].
فأهل الحل والعقد هم الذين لهم القدرة على عقد نظام جماعة المسلمين في شؤونهم العامة، والسياسية، والإدارية، والتشريعية، والقضائية، ونحوها ثم حل هذا النظام لأسباب معينة ليعاد ترتيب هذا النظام وعقده من جديد[20]
والذي تحقق في عهد معاوية رضي الله عنه أن أهل الحل والعقد في دولته كانوا هم الولاة، وزعماء القبائل، وقادة الجيوش ونحوهم، وتركزت الشوكة والقوة الفعلية في أهل الشام، حيث كانوا قادرين على الاختيار وتحقيق إرادتهم، وإمضاء رغبتهم على مخالفيهم، وهذا ما تحقق في ذلك الظرف التاريخي في أهل الشام وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافاً، قلنا إنه كان يجب أن تتسع دائرة أهل الحل والعقد هذه لتشمل بجانب زعماء الشام بقية زعماء الأمصار الإسلامية في العراق والحجاز، ومصر وغيرهم، وأن تضم بجوار أصحاب العصبيات القوية، أصحاب الرأي من علماء الأمة وأهل الديانة فيهم، وأن يؤكل إلى هذه الطائفة منهم اختيارالخليفة أو عزله، علاوة على الفصل في المسائل المهمة في حياة الأمة.. ولو حدث ذلك في مسيرة الدولة الأموية لتجنبت الأمة كثيراً من الاختلاف وإراقة الدماء.. ولكن الذي حدث فعلاً هو انفراد أهل الشام باختيار الخلفاء في العصر الأموي من الأسرة الأموية ذاتها، وكانت بداية ذلك هي البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد من أبيه، وبعد خطوب شتى أصبح تسلسل الخلفاء من البيت الأموي أمراً واقعاً، رضيت بذلك بقية الأمصار أم عارضت[21] . وسيأتي الحديث عن ولاية العهد في حينه بإذن الله تعالى.



ميارى 14 - 5 - 2010 02:03 AM


خامساً : الشورى في عهد معاوية رضي الله عنه:
عندما آلت الخلافة إلى بني أمية، لم يكن معاوية بن أبي سفيان ممن يجهل فوائد الشورى ويهمل الأخذ بها ، وما كان يصد في المهمات إلا عن مشورة، فقد كان يشاور ذوي الرأي من الولاة ووجوه الناس وأشراف القوم وأهل العلم وكان ذلك سنة من جاء بعده من الخلفاء من بني أمية، وكان من كبار مستشاري معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وكان يستشير الوفود التي كانت تأتيه[1]، وكان الناس يتكلمون بحرية فيعرضون آراءهم ، ويهتم الخليفة بها كل الاهتمام، ويناقشهم فيها ويحقق ما يمكن تحقيقه منها والحكم يعتمد على مستشارين أكفاء وكتّاب قادرين، أطلقت يدهم في العمل، ومنحهم الخليفة ثقته، وشدّهم بسلطانه، والحكم لم يكن متمركزاً في شخص الخليفة ، فمملكته واسعة ولا يستطيع أن يضطلع بكل أمر، وهو يرسل ولاته على الأقطار ويطلق لهم اليد في شؤونها، وهو لا يولي إلا من يثق به، ولا يعطي السلطان إلا لمن لا يخشاه[2]، وولاته يستشيرهم في حدود معينة. وأما أمر الخلافة فحصر في بني أمية، وأصبح أمرها خاصاً بالبيت الأموي، يفتي فيها بالمجامع الأموية خاصة من دون الناس، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون في شورى استخلاف السلطان ورد الطامعين به إلى الجماعة الأموية غالباً[3]. ومن هنا يمكن القول بوجود نوعين من الشورى في عهد بني أمية أولهما شورى تتعلق بالأمور والمصالح العامة، وكان الخلفاء من بني أمية يرجعون فيها إلى ذوي الرأي من أشراف القوم والولاة وغيرهم وثانيها شورى تتعلق بالسلطان خاصة، وكان الخلفاء من بني أمية يفزعون فيها إلى آل بيتهم ويقضون فيها بينهم[4] . وقيادة معاوية للدولة لم تكن فردية خالصة، فاللامركزية في الحكم والإدارة في الأغلب، ومشاركة الرجال من أهل الرأي والخبرة في حمل المسئولية والقيام بأعباء الدولة في السلم والحرب وفي المركز والولايات، ووجود الإسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة سلوكاً ونظام حكم منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، تقلل من مظهر القيادة الفردية ومساوئها، وتعزز مظهر الشورى وغلبة الاتجاه العام الثابت في السياسة والقيادة والإدارة وتصريف الأمور ورعاية المصالح[5]، كما أن تحول الخلافة الراشدة إلى ملك وراثي لم يكن يعني تحولاً كاملاً عن شورى الراشدين أو ارتداداً عن أوامر الإسلام ومنهجه في الحكم، وقد كان لذلك ما يبرره من تطور إجتماعي وسياسي ولقد بقيت ـ في عهد معاوية ـ والعصر الأموي ـ كما يقرر ابن خلدون ـ: معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه، والجري على مذاهب الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر، الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا إسمها[6]. وما ذهب إليه ابن خلدون ليس على إطلاقه ففي عهد الدوة العثمانية في زمن محمد الفاتح انتعشت بعض معاني ومقاصد الخلافة، من الفتوحات، والدعوة، وإعزاز الإسلام، والعدل، ولم يذم الشرع العصبية أو الملك لما كان القصد منها إقامة الدين، وإظهار الحق، وقد سأل سليمان عليه السلام ربه فقال : ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) (ص ، الآية : 35)، لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك[7]، وعلى ذلك فإن (( الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتية[8]، التي يقصد بها قهر الناس بغير حق، ولم يكن ذلك شأن معاوية في خلافته، وقد استرعى انتباه بعض فقهائنا ومؤرخينا ذلك القرب الشديد بين مقاصد خلافة معاوية ومقاصد خلافة الراشدين، لذلك فقد رأى ابن تيمية:.. فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وأن ذلك لا ينافي العادل، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل[9]، ولن نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن معاوية وبعض خلفاء بني أمية كان يود لو سار سيرة الراشدين كاملة، ولكنهم كانوا قادرين على ذلك في تفاعلهم مع أحوال رعيتهم وظروف عصرهم، وإن ذلك الأفق العالي والمثل الرفيع الذي قدمه الخلفاء الراشدون للسياسة الإسلامية والإنسانية كان يعمل تأثيره الجذاب عند بعض الخلفاء والرعية على السواء، ولكنه كان أيضاً يستعلي على قدراتهم، فيجهدون أنفسهم لتحقيقه، ثم يعودون إلى جذبة الواقع مقرين بصعوبة المحاولة والتجربة[10]، ولقد سأل معاوية يوماً ولده وولي عهده يزيد كيف سيعمل بعد استخلافه؟ فقال: أعمل فيهم عمل عمر بن الخطاب، فتبسم معاوية وقال: والله لقد جهدت أن أعمل فيها عمل عثمان فلم أقدر، أتعمل أنت فيهم بعمل عمر بن الخطاب[11]؟، ولا يعني ذلك أن العودة إلى صفا الحياة في عصر الخلفاء الراشدين أمر مستحيل، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لا بد من تحقيق ذلك القدر من التوافق والانسجام بين الراعي والرعية حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب، وطريق ذلك طويل وشاق ويحتاج إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على كمال الإيمان، ويعطون القدوة في ذلك والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم وجهدهم[12]، وقد كان ابن تيمية يعبر عن هذه الحقيقة حين يرى أنه إن ساء الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية[13] معاً. إن الشورى في عهد معاوية والدولة الأموية تقلصت عمّا كانت عليه في عهد الخلافة الراشدة وبقيت في عهد معاوية بعض جوانبها ولم تتقدم كلياً كما يطرح البعض .

سادساً : حرية التعبير في عهد معاوية رضي الله عنه : المعارضة السلمية كان معاوية رضي الله عنه يفرق بين المعارضة السلمية والمسلحة فهو يطلق حرية الكلام والتعبير عن الرأي ما دام ذلك في حدود التعبير عن الرأي، أما إذا انقلب الأمر إلى حمل السلاح وسلَّ السيوف، فإنه لا يجد مفراً من مواجهة هذه الثورات كما فعل مع الخوارج ـ وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى، فقد روي عن معاوية أنه قال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا[14]. وقال عامله على العراق زياد بن أبيه في خطبته لأهل البصرة: إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلَّ من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره[15]، ويقول عن أحد معارضيه: لو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي[16] وإليك الكثير من المواقف التي تدل على حرية التعبير، وحق المعارضة السلمية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعاوية وكيف كان يستقبل تلك الانتقادات .
1 ـ أبو مسلم الخولاني : فقد كان رحمه الله من العلماء الربانيين وكان ممن لا يجامل ولا يدهن، فقد قام أمام معاوية فوعظه وقال: إياك أن تميل على قبيلة من العرب فيذهب حيفك بعدلك[17] وكان يذكر معاوية بمسئولياته تجاه رعيته ويحثه على أداء حقوقه، فقد دخل ذات يوم على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال الناس: الأمير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول. قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر. فقال معاوية: ماشاء الله[18]، فانظر كيف حث أبو مسلم الخولاني معاوية رضي الله عنه على الاهتمام بأمر الرعية وحذره من التهاون أو التفريط في إصلاح شؤونهم وذلك عن طريق ضرب المثل تقريباً للصورة وتشبيهاً للحال[19]، وهناك موقف عملي آخر لأبي مسلم الخولاني مع معاوية أيضاً، وذلك عندما صعد معاوية المنبر ـ وكان قد حبس العطاء ـ فقام أبو مسلم وقال له: لم حبست العطاء يا معاوية؟ إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، ولا كد أمك حتى تحبس العطاء، فغضب معاوية غضباً شديداً، ونزل عن المنبر، وقال للناس مكانكم، وغاب عن أعينهم ساعة ثم عاد إليهم فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل[20] وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم: إنه ليس من كدي ولا كد أبي، فهلموا إلى أعطياتكم[21].
2 ـ الفرزدق يهجو معاوية :
هجا الفرزدق معاوية وافتخر عليه بنسبه وآبائه وذلك لغرض شخصي، حيث أعطى معاوية عم الفرزدق الحتات بن يزيد المجاشعي، وكان ضمن (وفد أتي معاوية) جائزة أقل من الآخرين، ولما مات الحتات بن يزيد المجاشعي، في الطريق أخذ معاوية تلك الجائزة وردها إلى بيت المال، فقال الفرزدق يخاطب معاوية:
فلو كان هذا الأمـر فـي جاهلية
علمت مـن المـرء قليل جلائبه
ولو كان هذا الأمر في غير ملككم
لأبديته أو غص بالمـاء شـاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يكن
أبوك الذي من عبد شمس يقاربه

فما زاد معاوية على أن بعث إلى أهل الحتات بجائزته[22]
وقد ظفر معاوية بتقدير زعماء المسلمين من أبناء الصحابة رغم نقد بعضهم المرير له، وكان كثيراً ما يقول: إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكثر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني[23]، وكان أحياناً يتمثل بهذه الأبيات:
تعفو الملوك عن الجليل من الأمور بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
إلا ليعـرف فضلها ويخاف شدة نكلها[24]

3 ـ أم سنان بنت خيثمة في مجلس معاوية :
كانت أم سنان بنت خيثمة المذحجية من أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وفي عهد معاوية قدمت على دمشق واستأذنت عليه فأذن لها، فانتسبت له فعرفها، وأمرها بالجلوس، فلما جلست قال لها: مرحباً يا ابنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تبغضين قومي، وتحضّين عليَّ عدوى؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأعلاماً ظاهرة، وأحلاماً وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا يتعقبون بعد عفو، وإنَّ أولى النَّاس باتباع سنن آبائه لأنْتَ. قال معاوية ـ رضي الله عنه ـ صدقتِ يا أم سنان، نحن كذلك ثم سادت فترة صَمْتٍ، قطعها بسؤال لأمّ سنان يذكرها فيها بشعرها وتحريضها عليه، فقال لها: كيف قولك:
عَزبَ الرقـاد فمقلتي ما ترقـد
والليل يُصدر بالهمـوم ويـورد
يا آل مذحج لا مُقـام فشمّروا
إن العــدوَ لا أحمـد يقصـد
هــذا عليُّ كالهـلال تحفُّـهُ
وسْطَ السماء من الكواكب أسعد
ما زال مُذْ شهد الحروب مظفراً
والنّصـرُ فـوق لوائه مـا يُفقد

وكانت أمّ سنان ـ رحمها الله ـ تصغي لما ينشده معاوية من شعرها، ولما انتهى قالت له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وإنَّا لنطمع أن تكون لنا خلفاً بعده، فمثلك جدير بذلك وقبل أن يتكلم معاوية بكلمة، قال رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين، وأنا أحفظ من شعرها خلاف ما تقول لك الآن فهي القائلة:
إمـا هلكت أبـا الحُسين فلم تزل
بالحق تُعرف هادياً مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت
فوق الغُصون حمامة قمريا
فاليـوم لا خلـف يؤمّل بعـده
هيهات نمدح بعده إنْسِيا[25]
عندئذ قالت أمُّ سنان وعلائم الحزم والصِّدقِ ترتسم على وجهها وهي تعّرضُ بجلسائه: يا أمير المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقّق فيك، ما ظننّا فحظُّك الأوفر، والله ما ورّثك الشَّناءة ـ البغض ـ في قلوب المسلمين إلا هؤلاء ـ وأشارت إلى بعض جلسائه ، فادحض مقالتهم، وابعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك ازدت من الله عز وجل قرباً ومن المسلمين حباً. وتعجب معاوية مما تقول، فقطع عليها مقالتها قائلاً: وإنّك لتقولين ذلك يا أم سنان؟
قالت: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله عليُّ ـ رضي الله عنه ـ أحب إلينا منك إذ كان حياً، وأنت أحبّ إلينا من غيره إذ أنت باق. فسألها معاوية: وممن أنا أحب إليكم ما دمت باقياً؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، أنت أحبّ إلينا من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققت بذلك عليهما؟. قالت بحسن حلمك، وكرم عفوك[26]. وبعد حديث انتهى الحوار، سألها: ما حاجتك الآن يا أم سنان؟ فسألته حاجتها في حفيدها بالمدينة أن يفك أسره، فلبى معاوية طلبها، وأكرمها ووصلها وردّها إلى المدينة، وقد قضيت حاجتها، وكان لسانها يلهج بالدعاء لمعاوية[27]. هذه أمُّ سنان المذحجيّة، إحدى نساء عصر التابعين وممن فُطرت نفسها على الصَّفاء والصَّراحة، وأوتيت شطراً من البلاغة والحكمة ما جعلها في سجل ناصع يحكي خلودها وخلود أمثالها[28] ولم تكن أم سنان المذحجية وحدها التي كانت تعبر عن رأيها، وتتكلَّم بوضوح عن معتقداتها، بل كانت مثيلاتها كثير مثل، الزرقاء بنت عدي[29]، وأم الخير بنت الحريش[30]، لقد كان معاوية رضي الله عنه، يجرّيء الناس على الصدع بمعتقداتهم وآرائهم، ويشجعهم على حرية الرأي والتعبير وحق النقد والمعارضة السلمية.




ميارى 14 - 5 - 2010 02:05 AM

الفصل الثالث
السياسة الداخلية لمعاوية رضي الله عنه
انعقد إجماع الأمة الإسلامية على خلافة معاوية سنة 41هـ فأخذ يعمل بكل ما أوتي من ذكاء وفطنة ودهاء على توطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوع العالم الإسلامي ، فانتهج سياسة داخلية، تقوم على عدة أمور:

المبحث الأول : الإحسان إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم وبخاصة بنو هاشم فقد خطب مرة في أهل الحجاز بعد توليه الخلافة فاعتذر عن عدم سلوكه طريقة الخلفاء الراشدين قبله، فقال: وأين مثل هؤلاء؟ ومن يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد من بعدهم؟ رحمة الله ورضوان الله عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة: فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني بعضه.. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال، استغفر الله لي ولكم[1]، وبمثل هذه السيرة صار خليفة المسلمين وانقاد له أبناء المهاجرين والأنصار، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة، كان رضي الله عنه، يهتم بغزو القلوب والإحسان إليها، مع الوعي والحذر الشديدين أن لا تنتقض الأمة عليه، لقد كان يبذل المال بلا حساب لكبار الشخصيات القيادية في المجتمع ويعتبر أن عليها مسؤوليات ضخمة تجاه رعاياها من أبناء الأمة، فلا بد أن تكون مليئة لسد الخلّة وتلبي الحاجة، وتحلّ المعضلة، ولعل أشراف بني هاشم كانوا في هذا الصدد أكثر قيادات الأمة إغداقاً عليهم بالمال، ولا بدع فهم لايزالون في عرف الناس القيادات الشعبية التي تمثل جماهير الأمة، وتلجأ الأمة إليهم أكثر مما تلجأ إلى الولاة والأمراء، وهذه القيادات لم تشارك في الحكم ولم تكن لها رغبة في ذلك[2].

أولاً : العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح :
كان الحسن بن علي يقدم على معاوية في خلافته، فقدم عليه ذات مرة فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأعطاه أربع مائة ألف فقبلها[3]، وجاء في رواية:... أن الحسن بن علي كان يفد كل سنة إلى معاوية فيصله بمائة ألف درهم، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشيء فدعا بدواة ليكتب إليه فأغفى قبل أن يكتب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب لمخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر ديني؟ قال: قل اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتي وحيلتي ولم تنته إليه رغبتي، ولم يخطر ببالي ولم يبلغه أملي، ولم يجر على لساني من اليقين الذي أعطيته أحداً من المخلوقين الأولين والمهاجرين والآخرين إلا أخصصتني يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء، فكنت أدعو به فلم يلبث معاوية أن ذكرني فقيل له: لم يقدم السنة، فأمر له بمائتين ألف درهم[4]. وجاء في رواية: بأن الدعاء الذي علمه رسول الله للحسن في المنام هو: اللهم أقذف في قلبي رجاك، واقطع رجائي عمّن سواك لا أرجو أحداً غيرك اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والآخرين من اليقين فخصّني به يا رب العالمين قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إليّ معاوية بألف ألف وخمس مائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيّب من دعاه، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثي فقال: يا بُني هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق[5]. وروى الزهري:... لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية فقال له معاوية: لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك إمرأة من قريش وأمه إمرأة من كلب لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم[6]

ثانياً : صلات معاوية للحسن وابن الزبير رضي الله عنهم :
عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يقبلان جوائز معاوية رضي الله عنه[7]، وكان يرسل للحسن والحسين، فقد أمر معاوية مرّة للحسن بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له، وأمر للحسين بن علي بمائة ألف فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، وأمر لعبد الله بمائة ألف[8]، وكان معاوية رضي الله عنه إذا لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقي ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه، ويأمر له بمائة ألف[9]، وقد أشاد ابن الزبير بذكر معاوية بعد وفاته، فقد حدث هشام بن عروة بن الزبير قال: صلى يوماً عبد الله بن الزبير، فوجم بعد الصلاة ساعة، فقال الناس: لقد حدث نفسه ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدن ابن هند: إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً، والله إن كنا لنفرقه ـ أي نخوفه ـ وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا وإنا كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخاع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس[10]. وقول ابن الزبير هذا قاله عندما حصر في عهد عبد الملك بن مروان[11].

ثالثاً : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع معاوية :
وكان معاوية يحترمه ويقدره وكان يفد على معاوية، فأكرمه وقرّبه واحترمه وعظّمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه. ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزّاه فيه بأحسن تعزية، وردّ عليه ابن عباس ردّاً حسناً[12]، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزّاه بعبارة فصيحة وجيزة شكره عليها ابن عباس[13]، أما تعزية معاوية رضي الله عنه وإجازته لابن عباس. فكما رواها قتادة: ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك[14]. وكان ابن عباس رضي الله عنه من سادات المجتمع الإسلامي وقائد من قاداتها الكبار وكان معاوية رضي الله عنه يعرف مكانته الاجتماعية والعلمية، فابن عباس كان بمثابة المستشار للشئون العلمية للخليفة، وقد كان معاوية رضي الله عنه يعترف بفضل بني هاشم على بني أمية، فقد قيل له: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً، وكانوا، وكانوا أشرف واحداً، لم يكن في عبد مناف مثل هاشم، فلم هلك كنا أكثر عدداً، وأكثر أشرافاً وكان فيهم عبد المطلب، ولم يكن فينا مثلهم، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ولم يكن فينا واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأوًّلون بمثله، ولا يسمع الآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم[15]، وكان معاوية رضي الله عنه يحذر بني أمية من الإساءة إلى آل علي بن أبي طالب قائلاً: إن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى: وكان يطلب من خلصاء علي رضي الله عنه، وصفه وسرد روائع خصاله وأعماله[16].

ميارى 14 - 5 - 2010 02:07 AM

رابعاً : هل عمّم معاوية سب أمير المؤمنين علي على منابر الدولة الأموية ؟
تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي:
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف
بـرياً ولـم تتبـع مقـالة مجــرم
تكلمت بالحـق المبين وإنمـا
تبيـن آيــات الهــدى بالتـكلم
فصدَّقت معروف الذي قلت
بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم[1]

فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدارقطني: أخباري ضعيف ووصفه في الميزان: أخبار تالف لا يوثق به[2]، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل[3]، وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء[4]، من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحاكيه لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيؤوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير[5] . وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية ـ رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال[6]، وقد فصلّنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى. وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم فليس ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاُ قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم[7]، قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار أن أنكر عليهم، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ[8]، وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه، لضرار فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بالتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه[9]، قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي ـ رضي الله عنه ـ فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس:ـ أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم[10]. فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما إدّعى الشيعة من الأمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك[11]، والمانع من هذا عدة أمور:
1 ـ أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً ـ رضي الله عنه ـ كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابته عنه، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني[12]، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له إمرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال:": ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم[13]، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا[14].
2 ـ أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ تعرض لعلي رضي الله عنه ـ بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد إنتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.
4 ـ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فإي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية.
5 ـ إنه كان بين معاوية ـ رضي الله عنه ـ بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ[15]، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعط أحد أفضل منا[16]، ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف[17]. وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعي في حق معاوية من حملة الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة[18]، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع حريصاً على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء [19]، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا[20].

خامساً : معاوية وسِمَّ الحسن بن علي؟
ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن علي توفي متأثراً بالسم الذي وضع له، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة فهذه أم موسى سرية علي تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة: فكان يوضع تحته طست[21]، وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً[22]، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهي ضعيفة[23]، وحاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن ُسمي حسناً فإني سأتزوجك، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء: فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا[24]؟، وفي سندها يزيد بن عياض بن جعدية، كذبه مالك وغيره[25]، وقد وردت هذه الروايات في كتب أهل السنة بدون تمحيص، مع العلم أن أسانيد تلك الروايات أسانيدها ضعيفة[26].
1 ـ قال ابن العربي: فإن قيل: دس على الحسن من تسمَّه، قلنا هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلَّم الأمر، الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله، فكيف تحملونه بغير بيَّنة على أحد من خلقه في زمن متباعد ولم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم[27].
2 ـ وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسن، فهذا ممن ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم[28]. وقد جاء عن ابن تيمية في رده عن اتهام معاوية بسمّ الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته تحت الحسن، حيث قال: وإذا قيل أن معاوية أمر أباها كان هذا ظناً محضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ثم أن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر بنته[29]. وهذا يدل على قدرة ابن تيمية للنقد العلمي القوي للروايات التاريخية .
3 ـ وقال الذهبي: قلت هذا شئ لا يصح فمن الذي أطلع عليه[30].
4 ـ وقال ابن كثير: روي بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمَّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى[31].
5 ـ وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث، فهو من أحاديث الشيعة، حاشا لمعاوية من ذلك[32].
6 ـ د. جميل المصري : وقد علق على هذه القضية بقوله:... ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد.. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك، لأننا لا نلمس[33] لها أثراً في قضية قيام الحسن، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية. وبالنسبة لسم الحسن رضي الله عنه، فنحن لا ننكر هذا، فإذا ثبت أنه مات مسموماً فهذه شهادة له وكرامة في حقه[34]، وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند، كما مر معنا، ومن حيث المتن وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال ـ كما تذكر الروايات حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد، وبالتالي تكون زوجة له أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة، إن أمه فاطمة رضي الله عنها، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، إذاً ما هو الشئ الذي تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير[35]، إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية، وزادهم غيظاً وحنقاً ما قام به الحسن بن علي، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حياً صمام أمان للأمة الإسلامية، فهو إمام ألفتها وزعيم وحدتها بدون منافس، وبالتالي حتى تضطرب الأحداث وتعود الفتن إلى ما كانت عليه فلا بد من تصفيته وإزالته، فالمتهم الأول في نظري هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية وجعل حداً للصراع، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم الذين طعنوه في فخذه، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها[36].

سادساً : موقف معاوية من قتلة عثمان رضي الله عنهما :
كان من ضمن شروط الحسن في صلحه مع معاوية ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ[37]، والذي يلاحظه المؤرخ أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان[38]، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشئ كان في أيام علي وهي قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفاف إلى الماضي وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل[39]، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين، قبل إبرام الصلح، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق، وتأس بذلك صلح الحسن على الإحسان والعفو، وقد تمّ بسط الأمن وحفظ الدماء في عهد معاوية إلى حد كبير[40] وجاء في عيون الأخبار لابن قتيبة: إن معاوية بن أبي سفيان لما قدم بعد عام الجماعة ـ المدينة ـ دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا إبنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، لأن تكوني إبنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس[41]. والذي يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن وقضت بالصلح بين الناس، ووضع الحرب وحقن الدماء، وعدم تهييج النفوس، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في ذهن الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب وأما انتصار بني أمية لعثمان كان حقيقة لا شبهة فيها[42].




ميارى 14 - 5 - 2010 02:09 AM

سابعاً : مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
تحدثت معظم المصادر في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه ومن هذه المصادر: ابن سعد[1]، وخليفة بن خياط[2]، باختصار شديد والبلاذري[3]، واليعقوبي[4]، والمسعودي[5]، وأبو الفرج الأصفهاني[6] مطولاً، وابن الجوزي[7]، وابن الأثير[8] مطولاً، والذهبي[9]، وابن كثير[10]، وقد اعتمد الطبري في خبر حجر بن عدي وأصحابه على أبي مخنف المؤرخ الشيعي المشهور والذي ليس بثقة ولا يعتمد عليه عند علماء المسلمين من أهل السنة، فقد نقل الطبري عنه ست عشرة رواية، وعموماً فإن خبر مقتل حجر بن عدي ورد في مصادر متعددة ولم تنفرد الروايات الشيعية بسوق خبره ولكن رواية أبي مخنف الساقط الاعتبار عند علماء أهل الجرح والتعديل أشارت إلى أن معاوية أوصى المغيرة بن شعبة بشتم علي وذمه، لذلك كان المغيرة لا يترك ذمّ علي في خطبته طوال فترة ولايته على الكوفة، ونص خطبته التي أغضبت حجر بن عدي كما أوردها أبو مخنف: اللهم أرحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه: ويدعو على قتلته[11]، وكما نلاحظ من نص الخطبة أنه لم يرد فيها ذمُّ علي ومع ذلك فإن الرواية تشير أنّ هذه الخطبة تضمنت ذلك إلا إذا تأولت لعنه لقتلة عثمان بأنه ذم لعلي[12]، وبراءة علي من دم عثمان يعرفها القاصي والداني وقد اثبتها في كتبي عن عثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم جميعاً. ومهما يكن من أمر فإن الباحث في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه، يلاحظ أن موقف حجر من أمير المؤمنين معاوية قد مرّ بمرحلتين:
ـ المرحلة الأولى : مرحلة المعارضة القولية: 41هـ ـ 50هـ) :
كان حجر بن عدي الكندي، أبو عبد الرحمن الشهيد، له صحبة ووفادة، وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من علي وعمار[13]، وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أمَّاراً بالمعروف، مقداماً على الإنكار من شيعة علي رضي الله عنهما، شهد صفين أميراً، وكان ذا صلاح وتعبد[14]، وكان رضي الله عنه من المعارضين للصلح الذي قام بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليه في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط[15]، وفي ذلك يقول البلاذري:... لم يزل حجر بن عدي منكراً على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية، فكان يعذله على ذلك ويقول: تركت القتال ومعك أربعون ألفاً ذوو نيات، وبصائر في قتال عدوك، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه، ويُظلِّمه[16]، فكان هذا هجيراه، وعادته[17].
ـ المرحلة الثانية : مرحلة المعارضة الفعلية:
هذه المرحلة بدأت في سنة 51هـ حيث حصل في هذه السنة تدهور مفاجئ في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكرت المصادر سببين في سبب تدهور هذه العلاقة:
أ ـ ما ذكر من إقدام المغيرة بن شعبة على الثناء على عثمان والترحم عليه، وذم علي بن أبي طالب، وإقدام حجر بن عدي على مدح علي بن أبي طالب، وذم عثمان بن عفان، وسكوت المغيرة عن حجر بن عدي، فلما مات المغيرة بن شعبة وتولى زياد بن أبيه، قال زياد في عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلما كان يقول المغيرة، فقام حجر بن عدي وقال فيهما مثلما كان يقول المغيرة، فكان ذلك سبب ابتداء المواجهة بين حجر وزياد[18].
ب ـ ما ذُكر من إطالة زياد الخطبة، وتأخير الصلاة، وقيام حجر بإنكار ذلك على زياد، فكان هذا سبب ابتداء المواجهة بينهما[19] وهذان السببان يكدرهما ما يلي:
* ـ أن سياسة المغيرة رضي الله عنه مع أهل الكوفة اتسمت بالعفو والصفح، وليس بإثارة الأحقادوالإحن، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثني عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن ثم قال: ((استغفروا لأميركم، فإنه كان يحب العفو[20]. ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: النصح لكل مسلم. فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم[21]، ثم استغفر ونزل[22].
* ـ أن ضم الكوفة إلى زياد كان في سنة 49هـ، وهو ما صرح به فيل مولى زياد حيث قال: ملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين وهذه الرواية التي تحدد تاريخ ضم الكوفة إلى زياد بن أبيه تعد أصح ما في الباب وحيث إن ولاية زياد على الكوفة كانت سنة 49هـ، ولم يحدث الصدام بين حجر وأنصاره وزياد والي الكوفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنه لازال حياً ووجوده كان كفيلاً بردع تحركات المعارضين للصلح من أنصاره لأنه رضي الله عنه اشترط عليهم أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ولكن بعد وفاة الحسن رضي الله عنه عام 51هـ[23]
تغير موقف بعض قيادات أهل العراق ومنهم حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى الفعلية فقد روى البلاذري بإسناده إلى الشعبي، وغيره، قالوا: لما قدم زياد الكوفة ـ عام 49هـ ـ بعث إلى حجر فقال: يا هذا، كنا على ما علمت، وقد جاء أمر غير ذلك، أمسك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، فإياك أن تستنزلك السفلة أو تستفزك، إني لو استخففت بحقك هان علي أمرك، ولم أكلمك من كلامي هذا بحرف، فلما صار إلى منزله اجتمعت إليه الشيعة فقالوا: أنت شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر[24]، فملا شخص زياد إلى البصرة استخلف عمرو بن حريث على الصلاة والحرب، ومهران مولاه على الخراج، وأمر العمال بمكاتبة عمرو.. فكتب عمرو إلى زياد: إن كانت لك بالكوفة حاجة فالعجل، فإني كتبت إليك وليس في يدي منها مع حجر إلا القصر، فأخذ السير حتى قدم الكوفةـ فبعث إلى عدي بن حاتم الطائي، وجرير بن عبد الله البجلي... فقال: ائتوا هذا الشيخ المفتون، فإني خائف أن يحملنا من أمره على ما ليس من شأننا فأتوه... وكلمه القوم، فلم يكلم منهم أحداً، فأتوا زياداً فقال: مهيم[25]؟ فقال عدي: أيها الأمير، استذمه[26]، فإن له سناً فقال: لست لأبي سفيان إذا، ثم أرسل إليه الشُّرَط فقوتلوا[27]، وجاء في رواية أخرى: لما قدم زياد الكوفة أميراً[28] أكرم حجر بن الأدبر[29]، وأدناه ، وشفَّعَه، فلما أراد الانحدار إلى البصرة[30] دعاه فقال له: يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلِّغ عنك شيئاً فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيت الله صرف الأمر إلى معاوية، لم إتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيت إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها[31]، والمقصود من كلام زياد أنه كان من خواص علي رضي الله عنه ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة وحرص على وحدة الصف وحذر من الفتن، فقال له حجر: إني مريض ولا استطيع الشخوص. قال: صدقت، والله إنك لمريض الدين والقلب، مريض العقل، وأيم الله لئن بلغني عنك شيء أكرهه بأحرص على قتلك فانظر أو دع، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئاً إلا منعوه إياه، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء مع حجر وأصحابه، وأنت أعلم فركب زياد بغاله حتى اقتحم الكوفة، فلما قدمها تغيب حجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه[32]. أما تفاصيل المواجهة بين شرطة زياد وحجر بن عدي وأنصاره، فقد انفرد أبو مخنف من بين المصادر التي وقفت عليها بإيراد تفاصيلها[33]، كذلك انفرد أبو مخنف بإيراد تفاصيل مهمة عن شهادة أهل الكوفة على حجر وأصحابه[34]،
1 ـ قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه:
نظراً لخطورة قضية حجر بن عدي وحساسيتها، فقد وافق زياد بن أبيه على شرط حجر بن عدي عند استسلامه، وهذا الشرط هو إحالة قضية حجر ومن معه إلى معاوية ليحكم فيها[35]، وقبل الحديث عن حكم معاوية في حجر وأصحابه، ينبغي التذكير بالتهم الموجهة إليهم، وهذه التهم كما وردت عن أبي مخنف هي:... إن حجراً جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب[36]، والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره[37]، أما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه، وأصحابه فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات[38]، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم أن قتل بعضهم، واستحي بعضهم، والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل[39]، بإسناد حسن قال حدثني أبي[40]، قال حدثنا أبو المغيرة[41]، قال: حدثنا ابن عياش[42]، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم[43]، قال: لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت، فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي، فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي[44]، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا أنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم وإنما علينا أن نقول ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (البقرة ، الآية : 285) فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ورمى بها ما بين عيني معاوية. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو المسلم الخولاني، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي[45]، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفو فقد أحسنت، فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين، رعيتك، ووليتك، وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى يا أمير المؤمنين ولا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً، بالليل نؤوماً، عن عمل الآخرة سؤوماً[46].
يا أمير المؤمنين، إن الدنيا قد انقشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس فقلت[47] لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضاً واستحي بعضاً وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر[48]، وكان حجر رضي الله عنه قبل قتله قال: يا قوم دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فتوضأ، وصلَّى ركعتين، فطوَّل، فقيل له: طوَّلت، أجزعت؟ فقال: ما صليت صلاة أخفّ منها، ولئن جزعت لقد رأيت سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، وقبراً محفوراً، وكانت عشائرهم قد جاؤوهم بالأكفان، وحفروا لهم القبور.
ويقال: بل معاوية الذي فعل ذلك. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل له: مُدَّ عنقك. فقال: إنَّ ذاك لدم ما كنت لأُعين عليه[49]، وجاء في رواية: لما أتي معاوية بحجر، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين: قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه فصلَّى ركعتين، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ملاقٍ معاوية على الجادَّة[50]. وقد علق ابن العربي على مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه فقال:.. وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً[51]، وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه على قوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم[52]، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه[53]، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه ستكون هنات[54]، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان[55]. ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته إلى الأقوال فقط ولم ينتقل على الأفعال ولنا في خبر المسور بن مخرمه وغيره مما مرّ معنا دلالة على ذلك[56]
2 ـ موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها 51هـ وكذلك التهديد بمحاربة معاوية[57] وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان[58]، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: أمتاه فيما وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: ... وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم فقال لها: ... وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء قالت: تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله[59]، وجاء في رواية أخرى: لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير من استحيائه في فسادهم[60].
3 ـ ندم معاوية على قتل حجر بن عدي:
جاء في رواية: .. أن عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب حين غاب عني مثلك من حلماء[61] قومي، قال الذهبي: يعني أنه ندم[62]. ومع أن قتل حجر رضي الله عنه وأن ذكر له من الأعذار والمبررات ما ذكر، ففي الحقيقة كانت غلطة من معاوية، وكان ينبغي أن يتسع حلمه لصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقد ندم معاوية ندماً كبيراً على قتل حجر، وظل يذكر هذه الحادثة طوال حياته[63]، وقد روى أنه قال عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل: ثلاث مرات ـ يعني حجراً[64].
4 ـ موقف لمالك بن هبيرة السكوني رضي الله عنه:
لم يقبل معاوية رضي الله عنه شفاعة مالك بن هبيرة السكوني في حجر بن عدي، فجمع مالك قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عَدِيّ فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه[65]، وكان مالك بن هبيرة السكوني صحابي جليل وكان معاوية رضي الله عنه ولاّه حمص وكان يقول فيه: ما أصبح عندي من العرب أوثق في نفسي نصحا بجماعة المسلمين وعامتهم من مالك بن هبيرة[66].وقد كان يسعى معاوية غير القتل من العقوبات، كالسجن، أو تفريق حجر وجماعته، أويمن بهم على عشائرهم[67]
5 ـ ما قيل في حجر بن عدي من رثاء:
قالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية في رثاء حجر:
ترفع أيهـا القمـر المنيـر
تَبَصَّرْ هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بـن حرب
ليقتله كـم زعـم الأمير
تجبرت الجبابر بعـد حجر
وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد بهـا محولا
كأن لم يحيها مـزن مطير
ألا يا حجر حجر بن عدي
تلقاك السلامة والسـرور
أخاف عليك ما أدري عديا
وشيخاً في دمشق لـه زئير
إلى أن قالت:
ألا ياليت حجراً مات موتاً
ولم ينحر كما نحـر البعير
فـإن تهلك فكل زعيم قوم
من الدنيا إلى هُلكٍ يصير[68].
وفيما عدا قضية حجر وأصحابه فقد حافظ معاوية على سياسته السلمية القائمة على الحلم وسعة الصدر مع رعيته والتي لخصها هو نفسه في جمل يسيره حين قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أصنع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت كانوا إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها[69]، وهي سياسة حكيمة تفسح المجال أمام القول إذا ما ظل في حدود لا يتعداها، فحيث يكفي المال عن اللسان يعتمده، ولا يضع السوط حيث يكفي اللسان، ولا يضع السيف حيث يكفي السوط[70]، وقد قيل: بأن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت ما أدرك صاحبك شيئاً قط بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني[71].


ميارى 14 - 5 - 2010 02:10 AM

المبحث الثاني: مباشرة معاوية للأمور بنفسه وحرصه على توطين الأمن في خلافته:
أولاً: مباشرة معاوية للأمور بنفسه:
ومن القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية مباشرة الأمور بنفسه، وكان رضي الله عنه يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولة فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره، إلا أنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين[1].
1 ـ مجلس معاوية في يومه:كان معاوية رضي الله عنه، يظهر في اليوم والليلة خمس مرات، فكان إذا صلى الصبح جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتي بمصحفه، فيقرأ جزأه ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهي ثم يصلي أربع ركعات، ويخرج إلى مجلسه، فينادي بخاصته، فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراءه، فيكلمونه فيما يريدون من يومهم، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فضل عشاء الليل، ...ثم يتحدث طويلاً، ثم يدخل منزله لما أراد ثم يخرج فيقول يا غلام أخرج الكرسي، ويسند ظهره إلى المقصورة، ويقوم الحراس، فيقدم إليه الضعيف والإعرابي والصبي والمرأة فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه ويقول: عدي عليّ فيقول: ابعثوا معه، ويقول صنع بي فيقول: انظروا له، حتى لم يبق أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم ولا يشغلني أحد عن رد السلام، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله عمره؟ فيقول: بنعمة من الله، فإذا استووا جلوساً قال: يا هؤلاء إنما سُميتم أشرافاً، لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا حاجة من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول: غاب فلان عن أهله فيقول: تعاهدوهم وأعطوهم، واقضوا حوائجهم واخدموهم. ويؤتى بالغداء ويحضر الكاتب، فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل فيقال له: اجلس على المائدة فيجلس فيمد يده، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً، والكاتب يقرأ كتابه، فيأمر فيه بأمره، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء، ثم يرفع الغداء، وينصرف الناس، ويدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر، فيخرج فيصليَّ[2]ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإن كان الوقت شتاء أتاهم بزاد الحاج، من الأخبصة اليابسة والخشكبالج[3]، والأقراص المعجونة، بالسكر والليّن من دقيق السميد، والكعك المسمن والفواكه اليابسة وإن كان الصيف أتاهم بالفواكه الرطبة ويدخل عليه وزراءه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم، ويجلس إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر ثم يدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى إذا كان في آخر وقت العصر، خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منها مقدار ما ينادي بالمغرب فيصليها، ثم يصلي أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين آية، يجهر تارة ويخافت أخرى. ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادي بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة، وخاصة الخاصة، والوزراء والحاشية، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم، ويسمر ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياساتها وسير الأمم وحروبها، ومكائدها وسياساتها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه: من الحلواء وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم: فيحضر الدفاتر، فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكّلوا بحفظها وقراءتها، فيمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار، فيخرج ثم يصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم وليلة وقد تبعه في ذلك، عبد الملك بن مروان وغيره، فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه السياسة ولا التأني للأمور ولا مدارات الناس على منازلهم، ورفقه بهم على طبقاتهم[4].
2 ـ الدواوين المركزية التابعة لمعاوية:
أ ـ ديوان الرسائل:
هو الهيئة المشرفة على تحرير رسائل الخليفة وأوامره وعهوده، ووصاياه، ومواثيقه إلى موظفيه في الأقاليم الإسلامية إلى البلدان الخارجية التي لها علاقة بالدولة الإسلامية[5]ومن أشهر من أشرف على ديوان الرسائل وقام بمهمة الكتابة في هذا الديوان في عهد معاوية عبد الله بن اوس الغساني، وزمل بن عمرو العذري، واستمر هذان الكاتبان في خلافة يزيد الأول[6]، وكانت وسيلة الرسائل في الاتصال بالولاة وقادة الجند، والقضاة، وزعماء القبائل تابعة لمعاوية وتحت إشرافه المباشر.
ب ـ ديوان الخاتم:
أنشأ معاوية بن أبي سفيان رضي لله عنه ديوان الخاتم لتحقيق السرية والأمان لمراسلات الدولة فلا تطلع عليها عين جاسوس ولا تصل إليها يد خائن[7]، وكان من أغراض هذا الديوان تحاشي التزوير، ومنع حدوث التلاعب، في الكتب التي يصدرها الخليفة، ثم أصبح الديوان بمثابة سجل للكتب الصادرة، وصارت الدولة تعتمد عليه في تدقيق الأوامر، والمراسلات التي تتعلق بالصرف والحسابات، بين مقر الخلافة والأقاليم الإسلامية الأخرى[8]، كما أنه كان يقوم بالأشراف على تدقيق الدواوين الأخرى، وبيان الأخطاء التي تقع فيها، وهذا الديوان يختلف عن ختم الرسول صلى الله عليه وسلم، وختم الخلفاء الراشدين، فختم الرسول صلى الله عليه وسلم يعني التوقيع بالختم، بينما نره في عهد معاوية، وعصر الدولة الأموية ـ بمثابة ـ جهاز للفحص والتدقيق في الأعمال الصادرة عن الدواوين الأخرى، وقد تقلد الخاتم الكبير لمعاوية، عبد الله بن محصن الحميري وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن أبيه وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمراً بردها وحبسه، فأدها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب[9]، ولم تكن تخزم[10]، وفي الحقيقة فإن تأسيس ديوان الخاتم أملته ظروف اتساع الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه، وحاجة الخليفة إلى نظام اتصال آمن وسري لمتابعة عماله وقواده ورجال دولته[11].
خـ ـ ديوان البريد: يذكر المؤرخون: أن معاوية بن أبي سفيان أول من ادخل نظام البريد في الدولة الإسلامية، وأصدر أوامره بوضع الخيول في عدة أماكن، وقام بتنظيمه[12]، وتشير بعض المصادر إلى أنه اقتبس من الروم[13]، وكانت أعماله في العصر الأموي، واسعة ومتشعبة، نظراً لسعة رقعة الدولة الإسلامية، وقد قام الخلفاء الأمويون بتحسين طرق المواصلات التي سير عليها صاحب البريد، وكانت تلك الطرق واضحة ومعلومة، والدليل على تحسين هذه الطرق هو سرعة وصول الأخبار إلى مقر الخلافة بالشام[14]، ولم تكن خدمات البريد قاصرة على ما يتعلق بالدولة، بل كان في بعض الأوقات يحمل رسائل الناس من بلد إلى آخر[15]، وكانت الدولة في عهد معاوية لا تستغني عن البريد في حالات السلم، وحالات الحرب، وكان موظف البريد من أهم أعوان الخليفة وقد ذكرت بعض المصادر أسماء بعض من اشتغل مع معاوية في ديوان البريد وهما: نصر ين ذبيان، والكميت، كانا على البريد في أيام معاوية واستخدامهما في نقل الأخبار بين الشام والحجاز[16] ، وكانت أهم وسائل النقل: البغال[17]، والخيل[18]، ويعتبر معاوية مؤسس نظام البريد في الإسلام، حيث كانت الرسائل ترسل قبل ذلك من قبل الخليفة إلى الجهة التي يراد إرسالها إليها، عن طريق رسول يحملها وينطلق بها وحده، حتى يوصلها إلى الجهة المقصودة، فكانت بذلك الرسائل تستغرق مدة طويلة حتى تصل إلى محلها وأم نظام البريد الذي استخدمه معاوية اقتباساً من البيزنطيين فقد كان يقتضي أن تقسم الطرق إلى مسافات، يوضع في نهاية كل مسافة دواب (خيل) مهيأة لحمل رسائل الخليفة إلى الجهات المختلفة، تسلم الكتب والرسائل إلى صاحب البريد، وينطلق بها مسرعاً حتى إذا بلغ نهاية المسافة سلمها لمن بعده، وتظل الرسالة تنطلق من مسافة إلى مسافة حتى تصل إلى الجهات المرسلة إليها في أقصر مدة، وأما مقدار المسافة الواحدة، فكان أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وبذلك يكون طول المسافة أثنى عشر ميلاً، أي عشرين كيلو متراً تقريباً، وهذه المسافة تسمى بريداً، وبهذه الطريقة تصل الرسالة بأكبر سرعة، دون إجهاد لصاحب البريد، حيث أن المسافة يمكن قطعها بسهولة، وتناوب أصحاب البريد إذا كان سيقطع المسافة وحده، وهكذا يوفر هذا النظام الراحة لأصحاب البريد، واختصار الوقت[19]، يقول أبو هلال العسكري: أول من وضع البريد في توصيلها يوفر الزمن الذي يستريحه صاحب البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأحكم أمره عبد الملك[20].
س ـ نظام الكتبة: كان هناك كاتب لديوان الرسائل، وآخر لديوان الخراج، وثالث لديوان الجند، ورابع لديوان الشرطة وخامس لديوان القضاء، وكان في عهد الأمويين أكبر دواوين الدولة، ويقوم الموظفون فيه بنسخ أوامر الخليفة، وإيداعها ديوان الخاتم، بعد أن تحزم وتختم بالشمع، ثم تختم بخاتم صاحب الديوان[21]، وظل ديوان الخاتم من أكبر دواوين الدولة، منذ أنشأه معاوية، وحتى أواسط العهد العباسي[22]، وكانت هذه الدواوين تقوم بأعمال وزارة المالية(ديوان الخراج) ووزارة الدفاع (ديوان الجند) ووزارة الداخلية (ديوان الشرطة) ووزارة العدل (ديوان القضاء) كما كان ديوان الرسائل يقوم بأعمال السكرتيرية، وديوان الخاتم يقوم بأعمال السجلات والأرشيف وكان لكل ديوان موظفوه من الكتبة المتخصصين، وكان ديوان الخراج يكتب في العراق باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر باللغة الرومية وظل كذلك حتى عرّبه عبد الملك بن مروان[23].



ميارى 14 - 5 - 2010 02:12 AM

ثانياً : حرصه على توطين الأمن في خلافته:
ومن القواعد التي بنى عليها معاوية سياسته الداخلية توطيد الأمن في ربوع العالم الإسلامي وقد اتخذ معاوية عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف.
1 ـ الحاجب: كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحاجب في الإسلام، لكي يتجنب محاولات الاعتداء عليه[1]، وكان بعض المظاهر الملكية له ما يبرره في هذه الحقبة التاريخية فقد عبر ابن خلدون على احتجاب الخلفاء عن الناس، على النحو التالي: كان أول شيء بدأ به في الدولة شأن الباب وستره دون الجمهور، لما كان يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمر بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب[2]، ومما يعزز آراء ابن خلدون عن وجود العامل الأمني وراء اتخاذ معاوية من محاولة اغتياله التي دبرها الخوارج: أمر عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد[3]، وقد كان معاوية وبنو أمية يعيشون في الشام قريباً من أعدائهم الموتورين من الروم، فضلاً عن أعدائهم الموتورين من الشيعة والخوارج المتفرقين في البلاد، وكانوا يرون لابد لهم لاستقرار الدولة الإسلامية التي قتل ثلاثة من خلفائها من اتخاذ نمط من أنماط الحراسة والاحتراز[4]، وقد ذكر المؤرخون أسماء أربعة من مواليه شغلوا له وظيفة الحاجب، وهم سعد، وأبو أيوب، وصفوان[5]، وكان يشترط في الحاجب أن يعرف منازل الناس وأنسابهم وطبقاتهم، لكي يتمكن أن يعرف من يأذن لهم، ومن لا يأذن لهم، فقد رويت أخبار كثيرة تؤكد ذلك، فمعاوية بن أبي سفيان قال لحصين بن المنذر، وكان يدخل عليه في آخريات الناس:
يا أبا ساسان كأنه لا يحسن أذنك؟ فأنشأ يقول:
وكل خفيف الساق يسعى مشمراً
إذا فتـح البواب بابـك أصبعاً ونحـن الجلـوس الماكثون رزانة
وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا[6]

وعندما دخل شريك الحارثي على معاوية قال له: من أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين مارأيت لك هفوة قبل هذه مثلك ينكر مثلي من رعيته، فقال له معاوية: إن معرفتك متفرقة أعرف وجهك إذا حضرت الوجوه، وأعرف إسمك في الأسماء إذا ذكرت، ولا أعلم أن ذلك الاسم هو هذا الوجه ما ذكر لي اسمك تجتمع معرفتك[7]، فالحاجب يخبر الخليفة والخليفة هو الذي يأذن أو لا يأذن. وذات يوم وقف الأحنف بن قيس، ومحمد بن الأشعث بباب معاوية الأول، فإذن للأحنف، ثم إذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله، فلما رآه معاوية غمه ذلك، وأحنقه فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وأنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوة إلا لنقص يجده في نفسه[8].
2 ـ الحرس : كان معاوية بن أبي سفيان أول من اتخذ الحرس في الدولة الإسلامية، خوفاً من الخوارج الذين كانوا يريدون قتله، فقد أمر بالمقصورات في الجوامع وكان لا يدخلها إلا ثقاة وحراسه[9]، وكما يبدو أن معاوية لم يكتف باتخاذ الحرس، بل اتخذ المقاصير زيادة في التشدد وذلك لحماية نفسه من أي اعتداء قد يقع عليه[10] وقد ذكرت كتب التاريخ أسماء رؤساء الحرس في عهد معاوية وهم: المحتار: أبو المخارق[11]، ويزيد بن الحارث العبسي[12].
3 ـ الشرطة: وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام، والقبض على اللصوص والجناة والمفسدين، والدفاع عن الخليفة، وهي غير مسؤولة عن صد أي هجوم خارجي عن الدولة[13] وقد قام معاوية بتنظيمها وتطويرها في الشام وقد ذكر المؤرخون أربعة أسماء من الذين عينهم على رئاسة الشرطة وهم: قيس بن حمزة الهمذاني، زمل بن عمرو العذري، الضحاك بن قيس الفهري ويزيد بن الحر العنسي[14] والشرطة لا يقتصر وجودها على عاصمة الخلافة فقط بل في الولايات الإسلامية الأخرى وهم يتبعون الولاة فهم الذين يختارونهم ويعينونهم وكان وجودها مهم للدولة والمجتمع، فالدولة تعتمد عليها في قمع المتمردين، وفي القضاء على الثورات، والاضطرابات، وربما كانت تحل محل الجند في حالة عنايتهم واشتراكهم في الغزوات، وهي للمجتمع، لأنها تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار، فهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية أرواح الناس، وحفظ حقوقهم وأموالهم من اعتداء بعضهم على بعض وقد كلف الخلفاء الأمويون رؤساء الشرطة بأعمال شتى خارج بلاد الشام وداخلها: فالضحاك بن قيس كلفه معاوية، بإبلاغ وصيته لابنه يزيد، وأخذ البيعة له[15].
4 ـ حسن اختيار الرجال والأعوان : فقد وفق معاوية رضي الله عنه في اختيار أعوانه من الرجال الموثوق بولايتهم وخبرتهم الإدارية، مع حكمتهم ودهائهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: عمرو بن العاص السهمي، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه الثقفي، ويزيد بن الحر العبسي، والضحاك بن قيس الفهري، وعبد الله بن عامر بن كريز، وغيرهم من القادة المقاتلين أمثال المهلب بن أبي صفرة، وعقبة بن نافع الفهري، ومالك بن هبيرة، وجنادة بن أمية الأزدي وآخرين، وكان عمرو بن العاص يقول: أنا للبديهة، ومعاوية للأناة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لصغار الأمور وكبارها[16]. وقد ساهم هؤلاء في إدارة الدولة وفتوحها والتصدي لأعدائها، فكان لهم دور كبير ومتميز في ترسيخ وتوطين وتثبيت الأمن ودعائم الخلافة الأموية[17] .
5 ـ استخدام المال في تأكيد ولاء الأعوان وتأليف القلوب: فقد اعتبر معاوية من أجواد العرب لأنه استمال القلوب بالبذل والعطاء وجاد بالمال مع المداراة وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره أسكته بالمال[18].
6 ـ إتباع سياسة الشدة واللين: في الوقت نفسه حسب الظروف والأحوال: وظهرت هذه السياسة بشكل واضح بعد توطيد دعائم الخلافة الأموية، وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه في ذلك وقال: إنه لا يصلح أن أسوس وتسوس الناس بسياسة واحدة إنا إن نشتد جميعاً نهلك الناس ونحرجهم، وإن نلن جميعاً نبطرهم، ولكن تلين وأشتد وتشتد وألين[19]، ويمثل هذه السياسة وما نسب إلى معاوية رضي الله عنه من أقوال مثل: لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته، إي استعملته[20]، وقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جبذتها[21].
7 ـ إتباع سياسة المنفعة المتبادلة بين بني أمية ورعيتهم:
لم يستطع معاوية رضي الله عنه إتباع سياسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم الراشدة، ولا شك في أن كثرة الأموال بعد اتساع الدولة الإسلامية جعلت كثيراً من المسلمين يتطلعون إلى التمتع بالخيرات التي أخذت تتدفق عليهم وقد أعرب معاوية عن ذلك بشكل واضح وقال للمسلمين:.. غير أني سلكت طريقاً لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة ما استقامت السيرة، وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم[22].
8 ـ اتخاذ سياسة إعلامية للإشادة به وبخلافته وجعل الناس يميلون إليهم: وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: أحب الناس إلي أشدهم تحبيباً لي إلى الناس[23]، وأتبعه بعد ذلك الخلفاء الأمويون باستمالة عشرات الشعراء وأغدقوا عليهم الأموال، فأشادوا بهم وبحقهم في الخلافة وصلاحهم لها ووجوب طاعتهم ونصرتهم نظراً لأن الشعر كان أهم وسيلة إعلامية في ذلك العصر[24]، ومن الأشعار التي قيلت في هذا الاتجاه ما قاله الأخطل:
تَمَّت جدودهم والله فضلهم
وجدُّ قوم سواهم خامل نكد
وأنتم أهل بيت لا يُوازنُهم
بيت إذا عُدّتِ الأحساب والعدد[25]

وقد إهتمّ معاوية بفن الدعاية والإعلام، وأوكله إلى عدد من الرجال يهمهم أمره ويؤيدونه، فكان يكثر أعطيات الشعراء وكذلك شيوخ القبائل، لكسبهم في صفه، ويعطي مجالاً واسعاً لولاته لكي يحققوا بعض المكاسب السياسية والإعلامية والأمنية، فقد كتب زياد والي البصرة في عهد معاوية خمسمائة من مشايخها، وأعيانها في صحابته، ورزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة[26]، فقال فيه حارثة بن بدر الغُدانيّ:
ألا مـن مبلغ عني زياداً
فنعم أخو الخليفة والأمير
فأنت إمام معدلةٍ وقصد
وحزم حين تحضرك الأمور
أخوك خليفة الله بن حرب
وأنت وزيرة نعم الوزير[27]

وكان معاوية رضي الله عنه يحرص على امتصاص غضب الشعراء بحلمه وعفوه، فعندها هجا يزيد بن مفرِّغ الحميري بني زياد، عندما كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق في أعلاف دوابهم فقال ابن مفرغ:
ألا ليت اللحى عادت حشيشاً
فنعلفها خيول المسلمين

وكان عبّاد بن زياد عظيم اللحية، فأنهِيَ شعره إلى عبّاد وقيل: ما أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب منه، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه به قوله:
إذا أودى معاوية بن حرب
فسبِّر شعْبَ قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضـعه القنـاع
ولكن أمراً فيـه لبـس
على وجـل شديد وارتياعٍ
وقوله:
ألا أبلغ معاوية بـن حرب
مغلغلة مـن الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عَفُّ
وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان[28]

ولما هجا ابن المفرِّغ عبَّاداً فارقه مقبلاً إلى البصرة، وعبيد الله يومئذ وافد على معاوية، فكتب عباد إلى عبيد الله ببعض ما هجاه به، فلما قرأ عبيد الله الشعر دخل على معاوية، فأنشده إياه، واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فأبى عليه أن يقتله، وقال: أدِّبه ولا تبلغ به القتل[29]... ووقع ابن مفرِّغ بين يدي عبيد الله.. فأمر به فسقي دواء، ثم حمل على حمار عليه إكاف فجعل يطاف به وهو يسلح في ثيابه[30].
وقال ابن مفرِّغ لعبيد الله:
يُغسِل الماء ما صنعت وقولي
راسخ منك في العظام البوالي
ثم حمله عبيد الله إلى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فيه بالشام معاوية، فأرسل رسولاً إلى عباد، فحمل، ابن مفرغ من عنده حتى قدم على معاوية فقال في طريقه:
عَدَس مالعبّـاد عليك إمــارة
نجوتِ وهـذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوّة الرّدى
إمـام وحبل للأنام وَثِيـق
سأشكر ما أوتيت من حسن نعمة
ومثلي بشكر المنعمين حقيق

فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم على غير حدث ولا جريرة... وبعد حوار مع معاوية قال له معاوية اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانطلق وفي أي أرض شئت فانزل. فانزل الموصل، ثم إنه ارتاح إلى البصرة، فقدمها، ودخل على عبيد الله فآمنه[31]. فقد كان معاوية رضي الله عنه يحرص على كسب الشعراء لصفه، والتحبب إليهم وإكرامهم وعدم محاولة الإساءة إليهم، فقد كانوا أقرب الشبه بالفضائيات في الوقت الحاضر.


ميارى 14 - 5 - 2010 02:13 AM

9 ـ جهاز المخابرات: كانت الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية في عهد معاوية قوية جداً، وكانت قدرتها على جمع المعلومات فائقة، وكان معاوية رضي الله عنه يشرف على جهاز المخابرات بنفسه وكان له جهاز سري مربوط به لمراقبة الولاة والرعية، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، بل وصلت عيونه حتى في البلاط البيزنطي وإليك ما يدل على ذلك:
أ ـ إطلاعه على المراسلات التي بين الحسين وأهل العراق:
لما توفي الحسن بن علي اجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية في وفاة الحسن: وقالوا في كتابهم: إن الله قد جعل فيك أعظم الخلق ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، والمسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك، فرد الحسين على كتابهم: إني لأرجو أن يكون رأي أخي في الموادعة، ورأي في جهاد الظلمة رشداً أو سداداً، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص، اكتموا الهوى، واحترسوا في الاضناء ما دام ابن هند حياً، فإن يحدث به حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله[1]، ولقد أشارت تلك الرسائل المتبادلة بين الحسين وأهل الكوفة مخاوف بني أمية في المدينة، فكتبوا إلى معاوية يستشيرونه بشأن الحسين: فكتب إليهم بأن لا يتعرضوا له مطلقاً[2]، وكان معاوية على معرفة بتلك الرسائل والعلاقات الوثيقة التي تربط بين الحسين وبين الكوفيين، ولهذا فقد طلب معاوية من الحسين: أن يتق الله عز وجل وأن لا يشق عصا المسلمين ويذكره بالله في أمر المسلمين[3]، ولقد كان موقف الحسين واضحاً وإعلانه صراحة بقوله: إنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل إلى نقض بيعتنا[4]، وظل الحسين رضي الله عنه ملتزماً ببيعته وطاعته طوال عهد معاوية[5]، رضي الله عنه.
ب ـ قصة معاوية مع المسور بن مخرّمة فقد صارح معاوية المسور وقال له: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة[6]، ففيه، معرفة معاوية لما يقول كبار الشخصيات في المجتمع الإسلامي فيه.
جـ ـ قصة الأسير المسلم عند البيزنطيين، الذي لطم وجه بين يدي ملك الروم وقوله الأسير: وا إسلاماه أين أنت يا معاوية، فوصل ذلك الخبر إلى معاوية[7]، هذه بعض الشواهد التي تدل على قوة جهاز المخابرات التابع للدولة الأموية.
س ـ وضع بعض أتباع علي رضي الله عنه بالكوفة تحت المراقبة:
لم يدخل زياد في طاعة معاوية بسهولة وامتنع في بداية أمره على طاعته وتحصن ببلاد فارس واستطاع معاوية بعد أخذ ورد إقناع زياد في دخوله طاعته وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله وسأل زياد معاوية أن يسمح له في نزول الكوفة، فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوية إلى المغيرة: خذ زياداً وسليمان بن صرد، وحجر بن عدي، وشَبَت بن ربعي، وابن الكواء، وعمر بن الحمق بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضرون معه في الصلاة[8]، فقد كان هذا إجراء احتياطياً من معاوية حتى يكون هؤلاء القوم تحت ناظري والي الكوفة باستمرار، وذلك أن صلح الحسن ومعاوية يوجد له معارضون،ولا يستبعد التفافهم حول بعض رجالات علي ـ رضي الله عنه ـ حسماً منه لمادة الفتنة[9].
10 ـ الاهتمام ببناء الجيش الإسلامي :
كان لمعاوية بعد نظر سياسي تمثل في بناء جيش قوي منذ أن كان والياً على الشام وتمحور دور هذا الجيش في استتباب الأمن داخل الولاية ومن ثم القيام بعمليات توسع خارجية قبل وبعد نيله الخلافة[10] تمثلت في حركة الفتوحات في عصره وهذا سيأتي تفصيلها في محله بإذن الله تعالى.
11 ـ سياسة الموازنات : على الرغم من نفوذ الكلبيين في الدولة الأموية، فإن المعادلة لم تكن قائمة على التحالف الأموي ـ الكلبي، ولكنها اتخذت في عهد معاوية رضي الله عنه منحىً توازنياً ما بين كلب وفهر بصورة خاصة، وقحطان وقيس بصورة عامة، فإذا كان الكلبيون قد حملوا عبء الدفاع المسلح عن الدولة، مؤثرين الإقامة في جنوب الشام (جند الأردن)، فإن الفهريين كان لهم الدور السياسي والإداري البارز فضلاً عن الدور العسكري، حيث شارك زعيمهم الضحاك بن قيس في صفين، وكان بالإضافة إلى ذلك في طليعة الذين اعتمد عليهم معاوية في حضِّ الناس على البيعة ليزيد[11]، وقد ارتفع الضحاك في السياسة الأموية، وفي أعقاب الدور الأمني الذي شغله في عهد معاوية كقائد على شرطته[12]، والدور السياسي في عهد يزيد، كعامل له على دمشق، مما هيأه من خلال هذا الموقع الهام، لدور أكثر خطورة بعد وفاة معاوية الثاني الذي أوصى بأن: يصلي الضحاك بالناس بدمشق[13]، وهكذا نجح مؤسس الدولة الأموية في الإمساك بزمام الأمور من خلال الموازنة بين القبائل الشامية الكبرى، كون أن يدع لأي منها مجالاً بأن تتجاوز حدودها المرسومة لها في الدولة، بما في ذلك القبيلة الكلبية الأثيرة. وقد اتسعت دائرة هذه السياسة، لتصبح ظاهرة من ظواهر عهد معاوية رضي الله عنه، حيث نجح معاوية في تحقيق التوازن المنشود داخل قريش (المهاجرة، وغير المهاجرة، فضلاً عن التوازن داخل الأسرة الأموية (بنو حرب ، وبنو العاص) واحتواء الثقفيين بعد منحهم إدارة العراق الذي ارتبط تاريخه أو كاد بهذه الأسرة، إلى آخر هذه التوازنات المتقنة التي ضبطها معاوية رضي الله عنه[14].
12 ـ سياسته مع الأسرة الأموية:
لم يأت معاوية رضي الله عنه للخلافة بدعم مادي أو معنوي من الأسرة الأموية، وإنما أتاه من جبهة شامية قبلية متماسكة وقفت وراءه لذلك لم يكن لهذه الأسرة دور بارز في إدارة الدولة في عهده من الناحية الإدارية أو من الناحية العسكرية، نلاحظ ذلك من خلال استعراض أسماء ولاة وقادة معاوية الذين استعان بهم[15]، إلا أن معاوية لم يجاف أسرته جفاءً تاماً، بل استعان بأفراد منها واضعاً نصب عينيه هدفين:
أ ـ الاستعانة بالأكفاء منهم.
ب ـالحيلولة دون ازدياد سلطانهم ونفوذهم بشكل يهدد مخططاته السياسية[16]، وقد استطاع معاوية تحقيق وحدة الصف الأموي بما كان يملك من صفات ومؤهلات قيادية فذة[17].
هذه هي أهم الوسائل التي اتخذها معاوية لتوطيد الأمن في دولته رضي الله عنه.

ميارى 14 - 5 - 2010 02:16 AM

المبحث الثالث : حياة معاوية في المجتمع وإهتماماته العلمية:
أولاً : حياة معاوية في المجتمع :
1 ـ بين معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما:
قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلتَ ما نلت[1].
2 ـ مشاجرة في مجلس معاوية:
عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من علي عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصاً فشجعه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته وأقبل على بسر فقال: تشتم علياً وهو جده وابن الفاروق على رؤوس الناس، أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك ثم أرضاهما جميعاً[2].
3 ـ أنا أحق بهذا منك:
قال معاوية: ما من شيء أحب إلي من عين خرارة في أرض خوّارة فقال عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروساً بعقيلة من عقائل العرب، فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إليّ من الإفضال على الأخوان فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك، قال: ما تحب فافعل[3].
4 ـ نعي إلى نفسي:
كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة يكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب زِرّ بن حبيش ـ أو أيمن بن خُريَم ـ كتاباً لطيفاً ورمى به إلى الكتب وفيه:
إذا الرجال ولدت أولادها
واضطربت من كبر أعْضادُها
وجعلت أسقامها تعتادها
فهي زروع قد دنا حصادها

فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب، قال: نعى إلي نفسي[4].
5 ـ نصيحة معاوية لشاعر من بني أمية:
قال معاوية رضي الله عنه، لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: يا ابن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعُرّ الشريفة[5]، والهجاء فتعر كريماً، وتستثير لئيماً، والمدح، فإنه طعمه الوّقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك[6].
6 ـ لا تقل داري في البصرة، ولكن قل: البصرة في داري:
ذكر أن رجلاً سأل معاوية أن يساعده في بناء دار باثني عشر ألف جذع من الخشب. فقال له معاوية: اين دارك؟ قال بالبصرة. قال: وكم اتساعها؟ قال: فرسخان في فرسخين: قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري[7]
7 ـ علمت أن أكله سيُورِثه داءً:
ذكر أن رجلاً دخل بابن معه، فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلاً ذريعاً، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدُّخول، فقال له معاوية: أين ابنك التِّلقامة[8]؟ قال: اشتكى. قال: قد عملت أن أكله سيورثه داء[9].
8 ـ وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي:
روي أن معاوية قال للأعرابي: ارفع الشعرة من لقمتك فقال: وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك طعاماً[10].
9 ـ إنك لا تخاطب العباءة ، إنما يخاطبك من فيها :
نظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة، فجعل يزدريه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من فيها[11].
10 ـ يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك :
تزوج عبد الله بن عامر هند بنت معاوية، فلمّا أدخلت عليه بالخضراء، أرادها عن نفسه فتمنَّعت عليه وأبت أشد الإباء فضربها فصرخت، فلمّا سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهنّ، فسمع معاوية فنهض إليهنّ، فاستعلمهن ما الخبر، فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصِحنا. فدخل فإذا هي تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟ ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج وخلا بها معاوية فقال لها: يا بُنَّيةُ، إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعتِ قول الشاعر:
من الخَضِرات[12] البيض أمّا حرامها
فصعب وأمّا حِلُّها فذلول

ثم خرج معاوية من عندها، وقال لزوجها: أدخل فقد مهدت لك خُلُقها ووطَّأته، فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها[13] رحمهم الله تعالى .
11 ـ هل يصح قول معاوية: إن الكريم طروب:
عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يوماً على معاوية ومعه بُديح[14]، ومعاوية واضع رجلاً على رجل، فقال: عبد الله لبديح: أيها[15] يا بديح، فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إن الكريم طروب[16] ، هذا الخبر أورده البلاذري[17] بنحوه، وأورده ابن عبد ربه[18]، مع بعض الزيادات المنكرة[19] وهذه الرواية الضعيفة يردها ما أخرجه الطبراني بإسناد حسن، من طريق كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا ايها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، النوح، والشَّعر، والتبرُّج، والتصاوير، وجلود السباع، والغناء، والذهب، والحِرُّ والحرير[20]، وكان رضي الله عنه ـ ينهي عن الاستماع إلى الغناء وينكر ذلك على من يعرف به، وكان عامله على المدينة بن الحكم شديداً على أهل الدعارة والفسوق، فكانوا يهربون من المدينة أثناء ولايته[21].
12 ـ قضاء ديون السيدة عائشة رضي الله عنه :
كان معاوية رضي الله عنه يهتم بالسيدة عائشة ويقضي عنها ديونها، فعن سعيد بن عبد العزيز، قال: قضى معاوية عن عائشة ثمانية عشرة ألف دينار[22]. وقال عروة: بعث معاوية مرةً إلى عائشة بمائة ألف، فوالله ما أمْست حتى فرَّقتها[23]
13 ـ الاهتمام بحوائج الناس:
كان معاوية رضي الله عنه يشفق علىنفسه أن يكون احتجابه أحياناً عن المسلمين ذنباً يحاسب عليه، فلما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره، جعل معاوية على حوائج الناس رجلاً يبلغه بها، كي لا يغيب عنه شيء منها[24]، وكان عامله علىالمدينة إذا أراد أن يبرد بريداً إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة، يكتب إلى أمير المؤمنين[25].
14 ـ تأثر معاوية رضي الله عنه بموت الصالحين:
حين توفي ابن لعتبة بن أبي سفيان وجاء ناس إلى معاوية يعزونه فيه قال: إن موت غلام من آل أبي سفيان قبضه الله، ليس بمصيبة، إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري[26].
15 ـ اهتمام معاوية بالمساجد والعيون:
اهتم معاوية بن أبي سفيان بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53هـ وطلا جدرانه بالجص وزخرف بنيانه وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير . وأخذ أهل مصر ببيان المنارات للمساجد، وأمر المؤذنين أن يكون أذانهم في الليل في وقت واحد[27]، ووسع المغيرة بن شعبة المسجد الجامع بالكوفة، ثم قام زياد بن أبيه فبناه وزاد فيه وأحكمه وفرشه بالحصى، وكان يقول: أنفقت على كل أسطوانة من أساطين مسجد الكوفة ثماني عشرة مئة درهم واتخذ فيه مقصورة جدّدها خالد بن عبد الله القسري في اثناء ولايته على العراق، ثم قام عبيد الله بن زياد وزاد في المسجد الجامع وفرشه بالحصى[28]، وزاد زياد بن أبيه في المسجد بالبصرة زيادة كبيرة، وبناه، بالآجر والجص واستعمل الأساطين في البناء، وسقفه بالساج وبنى منارته بالحجارة، وبنى في البصرة المساجد الكثيرة، ثم قام عبيد الله بن زياد فزاد في المسجد الجامع[29]، واهتم معاوية بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيوناً[30] وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطاً محكماً[31].
16 ـ سباق الخيل في عهد معاوية رضي الله عنه :
ويعد معاوية رضي الله عنه من أوائل الخلفاء الذين أرسوا تقاليد سباقات الخيل في تاريخنا الإسلامي حيث كان يقيم سباق الخيل في دمشق، حيث يشترك فيه فرسان من جميع أطراف الدولة، وكان هؤلاء يدخلون الحلبة وهم يقولون الشعر في الفخر بأنفسهم وخيلهم، وعند انتهاء السابق كان الخليفة يقدم جوائز ثمينة للفائزين[32].
17 ـ اطعام الحجاج والصائمين :
جعل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك[33] وقفاً في سبيل الله.
18 ـ الله أقدر عليك منك عليه :
رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له فقال له: أعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك!! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع منك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الإحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر[34]. فهذا توجيه سديد من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه لابنه يزيد نحو التخلق بهذا الخلق الكريم. العفو عند المقدرة، هذا الخلق الذي يعتبر من أهم عناصر السيادة وسياسة الأمة، ولقد ذكَّره بقدرة الله جل وعلا عليه ليحطَّ من تعاظمه بنفسه وليخشى الله سبحانه فيمن هم تحت يده[35]

ثانياً : اهتماماته العلمية :
كان معاوية رضي الله عنه يشجع الولاة والعلماء وأبناء الأمة على إيجاد نهضة ثقافية حضارية، وشهد عصره نهضة في التفسير وعلوم القرآن والفقه والعقيدة، وتأالق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظل المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، كابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم وكانت العلوم الرئيسية هي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغة العربية واهتم معاوية رضي الله عنه بغيرها من العلوم أيضاً منها:
1 ـ اهتمام معاوية بالتاريخ : كان معاوية رضي الله عنه الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية للتاريخ بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء، ولا على أنه الأنساب , وأيام العرب، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة، وسير الملوك والحروب وأنواع السياسات مما هو جدير بالقراءة على الملوك[36]، فقد كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار والآثار وأنواع السياسات[37]، وقد استدعى معاوية عبيدة بن شرية وهو أحد علماء التاريخ البارزين في بلاد اليمن إلى دمشق وسأله عن أخبار القدماء وملوك العرب والعجم وأمر معاوية كتّابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد الله بن شربة كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين[38]، ولم يكن عبيدة هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات وصيرها كتباً، بل أن كثيراً من الأخباريين أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضاً[39]، والدرس البالغ الأهمية يظهر في أهمية التاريخ للساسة والحكام والملوك والزعماء، فالسياسي المستوعب لحركة التاريخ وسننه ينجح في ميدان عمله أكثر من غيره، فهناك علاقة متينة بين التاريخ والسياسة.
2 ـ اهتمام معاوية بالشعر واللغة:
كان معاوية رضي الله عنه يدرك أهمية الشعر تواقاً له ولم يغب عن حسه أهميته في الدعاية السياسية للدولة، وكان يهتم بتربية أبنائه وأبناء أخيه على تعلم ومعرفة وتذوق الشعر، فقد كتب إلى زياد أن أوفد إلي ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر، فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان، فقال معاوية: اغرب؟ فوالله ما منعني في الفرار يوم صفين إلا ابن الاطنابة حيث قال:
أبت لـي عفتي وأبـى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مـالي
وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي[40]
ثم كتب إلى أبيه أن روه الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه شيء منه[41]، وكان معاوية رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فما قتل السفاهة مثـل حلم
يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن مُلِّئت غيـطاً
على أحد فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
فإن الذنب يغفره الكريم[42]
ومن اهتمام معاوية بالشعر حفظه له، فقد دخل ذات يوم على معاوية في مجلسه ابن أبي محجن الثقفي فقال له معاوية: أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمة
تُرَوِّى عظامي بعد موتي عُرُوقُها
ولا تدفننَّي بالفلاة فإنَّني
أخاف إذا مامت أن لا أَذُوقها

فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرتُ أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تسأل النـاسَ: مـالي وكثرته
وسائل القوم ما حزمي وما خلقي
القـوم أعلم أنـي مـن سراتهم
إذا تَطِيش يـد الرِّعديده الفَرِق
قد أركب الهوْل مسدولاً عساكره
وأكتُم السرَّ فيه ضربةُ العُنُـقِ
وهو القائل:
إن يكـن ولىَّ الأميـر فقـد
طاب منـه النَّجْـلُ والأثـرُ
فيكــم مسـتيقظ فَهِـمٌ
قُلْقُــلانٌ حَيَّــةٌ ذكـرُ
أحمـد الله إليـك فمــا
وصـــلة إلا ســتنبترُ[43]

وكان الشاعر مسكين الدارمي من المقربين من معاوية وابنه، فقد سأل معاوية عنه عطارد بن حاجب، وقال له: ما فعل الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان ـ يعني مسكيناً؟ فقال: صالح يا أمير المؤمنين، قال: أعلمه أني قد فرضت له فله شرف بالعطاء وهو في بلاده، فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإنّ عطاءه سيأتيه، وبشرّه بأن قد فرضت لأربعة آلاف من قومه من خِنْدِف[44]، وهذا الشاعر هو القائل في معاوية رضي الله عنه:
إليـك أميـر المؤمنين رحلتهـا
تُثير القطا ليلاً وهن هُجُود
على الطائر الميمون والجدّ صاعد
لكل أنـاس طائر وجدود
إذا المنبر الغربي خلّى مكـانه
فـإن أمير المؤمنين يزيد[45]

ويقال أن معاوية أمر مسكين الدارمي أن ينظم قصيدة في البيعة ليزيد وبعد أن أنشد قصيدته وكان بنو أمية واشراف الناس حاضرين لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة... ثم وصله يزيد ووصله معاوية فاجزلا صلته[46]، ويعتبر مسكين الدرامي من شعراء عهد معاوية وممن ترك أبيان جميلة منها قوله:
وإذا الفاحـش لاقى فاحشـاً
فهناكم وافـق الشن الطبق
إنما الفُحُـش ومـن يعتـاده
كغراب السَّوءِ ما شاء نعق
أو حمـار السوءِ إن أشـبعته
رمح الناس وإن جـاع نهق
أو غـلامِ السوءِ إن جـوعته
سرق الجار وإن يُشبع فسق
أو كَغَيْرى رَفَعَتْ مـن ذَيْلِها
ثـم أَرخَته ضِـراراً فامَّزَق
أيها السائلُ عن منَّ قد مضى
هل جديد مثل ملبوس خَلَقْ[47]
وهو القائل :
ناري ونـارُ الجـار واحدة
وإليـه قبلي تُنَزَل القِـدْرُ
ما ضرَّ جاراً لـي أُجـاورُهُ
أَلاَّ يكـون لبابـه سـترُ
أعمى إذا ما جـارتي برزت
حتـي يغيب جارتي الخدر[48]

وكان معاوية رضي الله عنه يستنكر اللحن فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت ولكن قوِّم من لسانه[49]، ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: أنّ أبونا لما مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فأفأ زياد فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك[50]، وقد برز في البصرة في عهد معاوية كثير من النحويين فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أساس النحو في البصرة وكان أول من استَنَّ العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، فكان سراة الناس يلحنون ووجوه الناس، فوضع باب الفاعل، والمفعول به، والمضاف، وحرف الجر والرفع والنصب والجزم[51]، وألف كتاباً في النحو[52]وكان شاعراً، ومن أشهر أبياته قوله:
يا أيـها الرجـل المعلم غيره
هـلا لنفسـك كـان ذا التعليـم؟
تصـف الدواء لذي السـقام
وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا
أبـداً وأنت مـن الرشـاد عديـم
إبدأ بنفسك فانهَها عـن غيّها
فإذا انتهت عنـه، فأنـت حكيـم
فهناك يسمع ما تقول ويهتدي
بالقـول منــك وينفـع التعليـم
لا تنه عـن خلق وتأتيَ مثله
عــارٌ عليك إذا فعلـت عظيـم[53]
وله في الزهد المبرأ من الكسل كقوله:
وإذا طلبت من الحوائج حاجة
فادع الإله وأحسن الأعمال
فليعطينك ما أراد بقــدرة
فهـو اللطيف لما أراد فعالا
ودع العباد وشأنهم وأمورهم
بيـد الإله يقلّب الأحوال[54]
3 ـ اهتمام معاوية بالعلوم التجريبية:
ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم، وكان لابد ـ للإفادة من ذلك التراث ـ من ترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا: تراثاً تقليدياً تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية[55]، وقد كان بعض هذه الترجمات حافزاً على الاهتمام بالعلوم التجريبية وربما العكس صحيحاً أحياناً.. ومعلوم أن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير تعجز عنه إمكانات الأفراد العاديين، ولذا فقد وقف الأمويون يشجعون على ذلك حتى تحققت أعمال جيدة على نحو ما سنرى بإذن الله ـ كانت بدياتها من عهد معاوية فقد كان سباقاً إلى رعاية العلوم وأهلها فأنشأ بيتاً للحكمة: أي مركز للبحث ومكتبة، واستمر المروانيون يعنون بهذا البيت حتى في أسفارهم وحروبهم يسألون عنه ويهتمون به[56]، ويشير بعض المؤرخين إلى دور ابن أثال النصراني طبيب معاوية في نقل بعض معارف الطب إلى العربية[57]، على أن بداية الجهود الحقيقية في الترجمة بدأت مع خالد بن يزيد أول من عني بنقل الطب والكيمياء إلى العربية، فقد أمر بإحضار جماعة من اليونانيين ممن درسوا بمدرسة الأسكندرية في مصر وتفصحوا بالعربية كذلك، فطلب منهم نقل كثير من الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام[58]، كما طلب منهم أن يترجموا كتب جالينوس في الطب، فوضع بذلك أساس العلوم الطبية وهو أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة، وترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، والحروب والآلات والصناعات، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة الإسلام، ففي دمشق إذن أنشئت أول دار للكتب في العالم الإسلامي[59]. وقد ظهرت دلائل كثيرة تدل على تزايد عدد المشتغلين في الطب في عهد معاوية بحيث أصبحت النسبة طبيب لكل 534 خمسمائة وأربع وثلاثين فرداً وهذه النسبة تمّ أخذها مما أورده ابن كثير من أن زياد بن أبيه والي البصرة حينما طعن في يده جمع مائة وخمسين طبيباً ليداووه[60]، وكان عدد سكان البصرة ثمانين ألفاً تقريباً[61].

ميارى 14 - 5 - 2010 02:18 AM

المبحث الرابع : الخوارج في عهد معاوية:
عرف الخوارج بهذا الإسم بعد التحكيم في معركة صفين، وكانوا قبلها من أشد أنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحضروا مع موقعة الجمل وصفين، ولكنهم أنشقوا عليه بعدها، ورفضوا التحكيم، وحاول علي إقناعهم وردهم إلى الجماعة ولكنهم تشبثوا بموقفهم، وبالغوا في شقاقهم وتطرفوا، حتى عاثوا في الأرض فساداً، مما جعل علياً يقاتلهم ويقض على معظمهم في معركة النهروان، وهم لا يرضون عن تسميتهم خوارج، لأن هذه التسمية أطلقها عليهم خصومهم لخروجهم على الإمام، وعلى جماعة المسلمين، أما هم فيسمون أنفسهم الشراة، لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى، على أن لهم الجنة يبشرون بذلك إلى قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...)) (التوبة ، الآية : 111). ويسمون المحكمة، لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله، وكان يطلق عليهم أيضاً الحرورية، نسبة إلى قرية حروراء التي انحازوا إليها بظاهر الكوفة لأول خروجهم على علي[1]، ولما كان سبب خروجهم هو قبول علي التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فقد صاغوا لأنفسهم نظرية في الخلافة تقوم على مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة[2]، المبدأ الأول أن الخلافة ليست وقفاً على قريش كما يذهب أهل السنة[3]، بل تجوز لكل مسلم يكون أهلاً لها حتى ولو كان عبداً حبشياً، ويجب أن يكون الخليفة باختيار حر من المسلمين، وأنه إذا تم اختياره لا يصح له أن يتنازل عنها، أو يقبل التحكيم، وفي ضوء هذا المبدأ اعترفوا بخلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فقد اعترفوا بخلافته في شطرها الأول، ثم تبرؤوا منه وكفروه في بقية عهده، وأما علي فقد اعترفوا بخلافته من بدايتها إلى أن قبل التحكيم، وبعد قبوله التحكيم لم يعترفوا بخلافته بل كفروه[4]، وكذلك لم يعترفوا بخلافة معاوية وبني أمية[5]، وكفروهم، كما كفروا عائشة وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري. وعلى الجملة كفروا كل من لم ير رأيهم ويذهب مذهبهم من المسلمين، واعتبروا دارهم دار كفر، وأباحوا أموالهم ودماءهم، حتى قتل أطفالهم[6]. المبدأ الثاني الذي قامت عليه نظرية الخوارج، هو وجوب الخروج على الإمام الجائر[7]، وهنا وجوه الخطورة في حركتهم كلها، فلو اقتصروا على الخلاف النظري في الرأي، أو الجدال بالحجة والبرهان، لكان الأمر أهون، ولكنهم شهروا السلاح في وجه مخالفيهم، بدءاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاولوا فرض آرائهم ومذهبهم بالقوة، وكما تطرفوا إلى أبعد حد في الرأي والمذهب، فقد تطرفوا في اللجوء إلى القوة والعنف، وكبدوا الأمة وأنفسهم خسائر فادحة، وعكروا صفو الدولة الأموية، وكانوا من أشد مناوئيها[8]، وقد تحدثت عن الخوارج بنوع من التفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شخصيته وعصره[9]، ذكرنا قبل قليل أن خطورة حركة الخوارج تكمن في لجوئهم إلى الثورة والعنف، ولشدة إيمانهم بمبادئهم فقد ضحوا في سبيلها بأرواحهم وأبدوا كثيراً من ضروب الشجاعة والإقدام في حروبهم مع الدولة الأموية، وكانوا أشبه بالفرق الانتحارية، فكثيراً ما كانت أعداد قليلة منهم تهزم جيوشاً جرارة للدولة، ولو أن هذه الشجاعة والإقدام والتضحية اتجهت اتجاهاً سليماً، ووحد الخوارج جهودهم مع جهود الدولة في محاربة أعداء الإسلام لربما تغير وجه التاريخ الإنساني كله بشكل جذري، والحقيقة أنهم لم يكونوا طلاب دنيا، ولم يجروا وراء المادة، وإنما أخلصوا للفكرة التي آمنوا بها وملكت عليهم جوانب حياتهم[10]، وأفنوا أنفسهم، وكلفوا الأمة الكثير من الجهد والوقت والمال والأرواح، وإذا كان الخوارج قد خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفروه وحاربوه، فسيكون موقفهم من الدولة الأموية أعنف وبغضهم لها أشد، فقد شهروا السلاح في وجهها من أول لحظة فثاروا على معاوية رضي الله عنه قبل أن يغادر الكوفة عام 41هـ[11]

أولاً : حركات الخوارج في الكوفة:
1 ـ حركة فروة بن نوفل الأشجعي:
قال الطبري في حادث عام 41هـ: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي عليه السلام بشهرزور[12] علىمعاوية[13]، وقال: حدثت عن زياد، عن عوانه، قال: قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية[14]، الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة ابن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن مالا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلاً من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم، دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر[15]، هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل ـ وكان سيد القوم ـ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر[16] ـ رجلاً من طيء ـ فقاتلوهم فقتلوا[17]. وفروة بن نوفل الأشجعي هو القائل قبيل معركة النهروان: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس[18]. وذكر ابن حجر رواية هامة تبين موقف معاوية رضي الله عنه من الخوارج بعد توليه الخلافة، وفيما يلي نص رواية ابن حجر:... فرجع الناس فبايعوا معاوية ولم يكن لمعاوية هَمُّ إلا الذين بالنهروان[19]، فجعلوا يتساقطون عليه فيبايعونه، حتى بقي منهم ثلاثمائة أو نيف[20]، وهم أصحاب النخيلة[21].
2 ـ حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي:[22] تحدث الطبري في تاريخه عن حركة المستورد بن عُلَّفة التميمي بإسهاب وتفصيل بعكس أكثر المصادر التي تناولت هذا الحدث، حيث تحدث خليفة[23] بن خياط عن هذه الحركة باختصار شديد، وقد أطال الطبري الحديث عن حركة المستور بن عُلَّفة التيمي، ولعل ذلك إشارة منه لأهميتها وأهمية هذه الحركة تعود إلى كون أصحابها بمثلون الامتداد الطبيعي لفكر خوارج النهروان الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، إذ أن معظم المنتسبين إلى هذه الحركة كانوا في خندق واحد في معركة النهروان، وهذا الأمر هو الذي دفع المغيرة بن شعبة والي الكوفة إلى اللجوء إلى أنصار علي رضي الله عنه، وخاصة الذين شاركوا في معركة النهروان من أمثال معقل بن قيس الرياحي الذي كان أحد قادة علي يوم النهروان[24]، وتكليفه قيادة الحملة المتوجهة لقتال الخوارج، لأن أنصار علي رضي الله عنه هم أخبر الناس بالخوارج وأشدهم عليهم وما جاء من مرويات في تاريخ الطبري قدمت لنا تفاصيل هامة عن الحدث: منها:
أ ـ موقف الخوارج من استشهاد علي رضي الله عنه، ويستفاد هذا من قول الخوارج:.. لا يقطع الله يميناً علت قذاله[25] بالسيف قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله[26].
ب ـ أسباب خروجهم على جماعة المسلمين: ويستفاد هذا من قول الخوارج: فلنأت إخواننا فلندعهم إلى أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسُنَّة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة[27].
جـ ـ سياسة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع الخوارج : ويستفاد هذا مما يلي : وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتي ويقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة، وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، وكان يقول: قضي الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون[28]. وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كان من رؤوس أصحابه، فإذا بعثت بشيعته الذي كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعاً، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالاً لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرة[29]. قال المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل مصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخاباً، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم[30].
س ـ حركة حيان بن ظبيان السلمي : كانت هذه الحركة عام 58هـ وكانت في ولاية عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، ففي أثناء ولايته خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات خرجوا من السجن[31]، وقام بحركة مضادة للخلافة وكان رئيسهم حيان بن ظبيان السُّلَمِّي، فبعث إليهم والي الكوفة جيشاً فقتلوا الخوارج جميعاً[32].

ميارى 14 - 5 - 2010 02:19 AM

ثانياً : حركات الخوارج في البصرة:
1 ـ حركة يزيد الباهلي وسهم الهجيمي :
في عام 41هـ خرج في ولاية عبد الله بن عامر لمعاوية، يزيد بن مالك الباهلي، وخرج معه سهم بن غالب الهجيمي، فأصبحوا عند الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص الليثي أحد بني بجر ـ وكانت له صحبة ـ يصلي عند الجسر، فأنكروه فقتلوه ثم سألوا ابن عامر الآمن فآمنهم وكتب إلى معاوية قد جعلت لهم ذمتك، فكتب إليه معاوية: تلك ذمة لو أخفرتها لا سُئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حتى عزل ابن عامر[1]. وفي عام 46هـ خرج سهم الهجيمي والخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي لما تولى زياد، فأما سهم فخرج إلى الأهوار فأحدث وحكَّم ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه وأما الخطيم فإن زياداً سيره إلى البحرين، ثم أذن له فتقدم، فقال له: الزم مصرك، وقال لمسلم بن عمرو الباهلي[2]: أضمنه، فأبى وقال: إن بات عن بيته أعلمتك، ثم أتاه مسلم فقال: لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل، وألقي في باهلة[3]
2 ـ حركة قريب الأزدي وزحاف الطائي:
في عام 50هـ خرج قريب الأزدي وزحّاف الطائي بالبصرة وهما ابنا خالة، وزياد بالكوفة وسمرة[4] على البصرة، فأتيا بني ضُبيعة، وهم سبعون رجلاً، وقتلوا منهم شيخاً، وخرج على قريب وزحّاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنَّبل، وقتل عبد الله بن أوس الطاحيّ قريباً وجاء برأسه واشتد زياد على المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفُننّي هؤلاء أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم[5].
3 ـ خبر عروة بن أُدية الخارجي:
في سنة 58هـ اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل، منهم صبراً عروة بن أديَّة أبي بلال مرداس بن أدية[6]، وكان سبب قتله أن ابن زياد قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: ((أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) (الشعراء ، الآيات : 128 ـ 130). فلمّا قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنّك، فاختفى، فطلبه بن زياد فهرب وأتى الكوفة فأخذ وقدم به علىابن زياد فقطع يديه ورجليه[7].. ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك، فقتله وأرسل إلى ابنته فقتلها[8]، بسبب اعتناقها مذهب والدها[9]. وذكر المبرد في كتابه الكامل في اللغة سببين هامين كان لهما أثر كبير في مقتل عروة بن أدية، الأول: تكفير هذا الخارجي لعثمان وعلي رضي الله عنهما، والثاني: إقدامه على مساعدة أخيه مرداس بن أديه على الخروج[10].
4 ـ حركة مرداس بن أدية: وفي عام 58هـ خرج مرداس بن أُديَّة، بالأهواز وكان ابن زياد قبل ذلك حبسه فيمن حبس من الخوارج، فكان السجان يرى عبادته، واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج فعزم على قتلهم، إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقاً من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم، قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسبـبي، وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا مرداس، فلما حضر وثب السجان ـ وكان ظئراً[11] لعبيد الله، فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا، وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه[12]. وقد أشار البلاذري إلى أن عزم عبيد الله بن زياد على قتل من في السجن من الخوارج كان بسبب إقدام بعضهم على قتل أحد الحرّاس[13]. ثم أن مرداس خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفيْ رجل، فلمّا وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردَّوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاًمن أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشدّ الخوارج علىأسلم وأصحابه شدّة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خيرَ فيك. فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من تثني عليّ وأنا ميت، فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا[14]فهذه أهم حركات الخوارج في عهد معاوية.

ميارى 14 - 5 - 2010 02:20 AM

ثالثاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:
أهم الدروس والعبر والفوائد في محاربة معاوية للخوارج :
1 ـ إن الناظر في سلوك الخوارج زمن معاوية يجد أن خروجهم في ذلك العهد كان يستهدف إزعاج نظام حكم بني أمية وإضعافه، دون أن يكون لهم أمل في القضاء عليه[1].
2 ـ كانت بعض هذه الحركات مقتصرة على المجموعات المنسحبة من النّهروان والتي ظلت مشتتة في الأرياف وعدم وجود ما يشير إلى مشاركة الخوارج المقيمين في الكوفة فيها، وهو ما يؤكد عدم حصول تحوّل في موقف هؤلاء رغم التغيير الذي طرأ على السلطة[2].
3 ـ ومن الملاحظات، ما يخصّ الكوفيين الذين أبدى العديد منهم حماساً في محاربة الخوارج، وإذا كنا نعتقد أن تهديدات معاوية وعداء بعض الكوفيين للخوارج بسبب موقفهم من علي قد لعبت دوراً في دفع هؤلاء إلى المشاركة في قمع الثائرين، فإننا لا نستبعد أن تكون الرغبة الملحّة في إنهاء الحروب والانقسامات والعودة إلى الوحدة قد ساهمت بدورها في دفع الكوفيين إلى مساعدة معاوية في القضاء على هؤلاء المعارضين، رغم يقينهم أنَّهم سيفقدون مع الحكم الجديد امتيازاتهم و سيفقد مصرهم المكانة التي كان يتمتع بها في خلافةعلي[3]
4 ـ كان معاوية رضي الله عنه على وعي تام بحقيقة المعارضة الخارجيّة و موقفها من السلطة ومن شخصه بالذّات، ولذلك لم يعمل على جلب الخوارج إلى صفّه وقرّر منذ اللحظة الأولى التصدي لهم بالقوة[4]
5 ـ لم يتردد المغيرة بن شعبة في محاربة الخارجين على السلطة بالشرطة والجيش، ولم يقتصر استعمال القوة على الثائرين بل شمل حتى الذين بلغه أنهم ينوون الخروج مثل معين بن عبد الرحمن المحاربي وحيان بن ظبيان السّلمي وغيرهما وهو ما يدل على أن المغيرة كان يقوم بمراقبة تحركات الخوارج داخل المصر، ويتجسس عليهم وينزل عقوباته بهم تبعاً لما يصله عنهم من أخبار[5].
6 ـ أهم وأخطر ما قام به المغيرة رضي الله عنه هواستعماله أنصار علي رضي الله عنه ضد الخوارج مستفيداً من العداوة التي كانت بينهم وهو عمل استفادت منه الدولة الأموية على المدى القريب والبعيد، فعلى المدى القريب، حاصر المغيرة بأعماله الفكر الخارجي في الكوفة، وأسكت المعارضين الموجودين فيها دون أن يكلف الدولة خسارة تُذكر،.. فضلاً عن أنه شغل الكوفيين عن معارضة الدولة الأموية وأعطاها بذلك الفرصة لتدعيم نفوذها[6]. أما عن المدى البعيد فقد عمَّق المغيرة الهوّة بين الخوارج والشيعة وأبعد إمكانية التقارب بين هاتين الحركتين لفترة طويلة، مجنباً بذلك الدولة الأموية خطر مواجهة معارضة موحدة وقوية، غير أن ما قام به المغيرة تجاه المعارضة في الكوفة لم يكن سوى تطبيق لأوامر الخليفة نفسه مع بعض الاجتهادات التي رأى أنّها تخدم الدولة أكثر[7]... وأما أنصار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وخاصة الزعماء منهم، فقد عملت الدولة الأموية على تقريبهم وكسبهم ولذلك سلك المغيرة سياسة اللين معهم وهو ما ضمن الهدوء في الكوفة طيلة ولايته عليها[8].
7 ـ مع تولي زياد البصرة: تصاعدت عمليات القمع ضد الخوارج فبالإضافة إلى القتل كان زياد يمثل بالمقتولين فيصلبهم في الأماكن العامة، أو في دُورهم، وقد شمل التمثيل الخارجين من الرجال والنساء، ورغم أن التمثيل يعد من الأعمال البشعة التى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيام بها حتى مع الكفّار، فإن زياداً استعمله مع المسلمين رجالاً ونساءً ليروِّع بقية السكان ويلزمهم الهدوء، ولم تكن العقوبات المسلطة على الخوارج مقتصرة على القتل والتمثيل والتسيير والإقامة الجبرية، بل شملت كذلك العطاء، وقد تجاوز زياد في هذا المجال من سبقه من الحكّام، إذ قام بشطب أسماء الخوارج من سجلات الديوان[9].
8 ـ أقحم زياد بأعماله العنف في سياسة الدولة وجعله إحدى ركائزها، واعتبر أن مصلحتها تقتضي استعماله ضدّ كل الذين يرفضون الخضوع لسلطتها[10]
9 ـ أدّت سياسة زياد ـ العنيفة ـ إلى إخماد تحرّكات الخوارج، وفرضت هيبة الدولة على الجميع، وحوّلت القبائل إلى طرف له دور في سياستها ومنحتها مهمة توفير الأمن داخل المصر بعد أن كانت مهامها تقتصر على دفع الدّية والتأطير العسكري، إلا أنّها أضعفت التضامن القبلي وأفقدت القبيلة القدرة على حماية أبنائها الخارجين على السُّلطة وأجبرتها على القبض عليهم ومعاقبتهم أحياناً، ولئن نجح زياد في إخماد تحرّكات المعارضين وزرع الرّعب في نفوس بقية سكان العراق وتحويلهم من مقاتلة يتمتعون بقدر كبير من الحرية إلى رعية خاضعة كلياً لأجهزة الدّولة، فقد فشل في خنق إرادة الخروج لدى قسم كبير من الخوارج، وهو ما يفسر عودة الانتفاضات في ولاية ابنه عبيد الله[11]
10 ـ تجاوز عبيد الله بن زياد والده في قمع الخوارج بفرضه العقوبات على الجميع المعلن والمسر على حدّ السواء، وإذا كان القتل هو عقوبته المفضلة فقد كان يعمد أحياناً إلى سجن البعض منهم، كما كان يسمح أحياناً أخرى وتحت تأثير رجال القبائل بإطلاق سراح البعض الآخر مع فرض الإقامة الجبرية عليهم وتكليف من يقوم بعملية المراقبة التي كانت غالباً ما تنتهي بقتلهم لمخالفتهم الأوامر... ولم يكن ابن زياد ينتظر خروج الحروريَّة عليه بل كان يبحث عنهم مستعملاً كل الوسائل بما في ذلك تشجيع السّكان بالمال لتتبّع تحرّكات أبناء قبائلهم ونقلها إليه أو إلى أعوانه، وقد أدّت هذه الطريقة إلى ألقاء القبض على العديد ممّن يحمل هذا الفكر أو يتعاطف معه أو يُشتبه فيه ذلك، ولكنها فسحت في الوقت نفسه المجال أمام الوشاية وتلفيق التّهم بالباطل[12]، فأججت بذلك الحزازات القبلية القديمة، وخلقت خلافات جديدة بين القبائل[13]



الساعة الآن 10:32 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى