منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   في تاريخ القصة العراقية القصيرة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6632)

B-happy 9 - 5 - 2010 12:20 AM

في تاريخ القصة العراقية القصيرة
 
في تاريخ القصة العراقية القصيرة
د.عمر الطالب
إن القصة فن قائم بذاته في الأدب العربي الحديث، وإن اشتملت المقامة في بداياتها على بعض اللمحات القصصية لم تسلك سبيل القصة وإنما انحرفت إلى العناية بالأسلوب والتكلف في اللفظ. وما يقال عن المقامة يقال عن القصص الشعبي كـ (عنترة ابن شداد وأبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن والزير سالم وغيرها).‏
وقد تأثرت مقامة أبي الثناء الآلوسي 1802-1854 المسماة (رسالة العشق) بالمقامة واتفق الباحثون على ذلك1 واختلفت الآراء حول (الرواية الإيقاظية) 1919 لسليمان فيضي فمنهم من عدها مقامة ومنهم من عدها مسرحية وآخرون عدوها رواية أو (مسرواية) لأنها مزيج من المسرحية والرواية2.‏
لا بد من طرح المشكلة التقليدية: هل نبتت القصة العراقية تحت تأثير التراث القديم؟ نجيب: بأن القصة القصيرة في العراق كانت أثراً من آثار اللقاء بين الشرق والغرب، ومنذ هذا اللقاء الذي دخلت فيه القصة أدبنا العراقي يستطيع الدارس أن يجد تطوراً في شكل القصة القصيرة فبعد أن التصقت بالواقع المباشر خلصت للفن الذي يقوم على الصنعة والحرية في اختيار الأداء.‏
أما العوامل التي أدت إلى ظهور القصة العراقية فمتعددة ومختلفة منها أجنبي كاتصال العراق بالغرب وإرسال البعثات إلى الخارج وتسرب الفكر الغربي إلى العراق والتأثر بالاتجاهات الأدبية الغربية كالرومانسية والواقعية من جهة، والتأثر بالأقطار العربية المتقدمة كمصر ولبنان وظهور قصصيين في هذين البلدين وإقبال محبي الأدب عليها إقبالاً شديداً بالإضافة إلى تأثير الصحافة العربية بما قدمته من قصص عربية وقصص مترجمة مع اهتمام دور النشر المصرية واللبنانية بترجمة العدد الوفير من القصص أما العوامل الداخلية التي ساعدت على ظهور القصص العراقية فهي العامل السياسي الذي وجد فيه الكتاب العراقيون متنفساً عما في صدورهم من ألم وحقد على المستعمرين وأتباعهم. كما ساعدت الصحافة على تشجيع القصة العراقية وبالأخص المجلات الأدبية كمجلة الهاتف وجريدة البلاد.‏
ولعب التعليم دوراً كبيراً في ظهور القصة والاهتمام بها إذ أقبل عليها المتعلمون إقبالاً شديداً. أما الترجمة فلم يكن لها دور كبير في تطور القصة العراقية لأن المترجمين العراقيين قلة تشغلهم مهام وظائفهم عن الانصراف إلى الأدب وبعضهم لا يجيد اللغة الأجنبية إجادة تامة أو لا يجيد اللغة العربية ولا يحسن التعبير بالإضافة إلى تناولهم بالترجمة قصصاً مغمورة يضيفون إليها ويوجزون حسب ما يهوون. ومن أهم المترجمين العراقيين في هذه الفترة فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية محمود أحمد السيد وعبد الوهاب الأمين وذنون أيوب وعبد الستار فوزي.‏
ويعد محمود أحمد السيد رائداً للقصة العراقية القصيرة، فقد أصدر مجموعته (النكبات) عام 1922 وهي أقاصيص تتسم بخصائص الرواية المكثفة حيث تتسع فيها رقعتا الزمان والمكان وتعدد الشخوص وتشعب الحدث وعدم انحصاره في زاوية معينة محددة مع امتلائها بالوعظ والإرشاد وإطلالات الرأس. وآثار الكاتب الأولى (مصير الضعفاء، في سبيل الزواج، النكبات) هي فصول مفككة وأسلوب ضعيف ووعظ مباشر بلغة مهلهلة. وقد تطور الكاتب في مرحلته الثانية في كتبه (جلال خالد، الطلائع، في ساع من الزمن) فقد قوى أسلوبه وخلت قصصه من الوعظ وقامت على الصنعة الفنية. ووصفت محاولات الكاتب أنها لا تقل عن تلك المحاولات التي وجدت عند الرواد القصصين في مصر ولبنان. ومما لا ريب فيه أن الحس الوطني الذي كان يجيش في نفس الكاتب وجد له خير متنفس في آثاره الأدبية المختلفة.‏
أما الأشكال القصصية التي ظهرت في القصة العراقية قبل الحرب فهي سمات الرواية المكثفة في إنتاج الرواد كبعض قصص محمود السيد وأنور شاؤول وذنون أيوب وجعفر الخليلي وسعيد عبد الله الشهابي، وتبدو هذه القصص وقد قامت في حبكتها على حبكة الرواية لا حبكة القصة القصيرة فكثرة الحوادث والمواقف والشخصيات تمتد في الزمان كما تمتد في المكان مع شيء من الضغط والاختزال والشخصيات فيها نموذجية عامة لا تتصف بخصوصية الفرد المتميز وتأتي لخدمة الحدث العجيب ولا تتطور لا من الداخل ولا من الخارج بالإضافة إلى امتلاء الحادثة بالمصادفات والمفاجآت والافتعال.‏
ولم تخضع القصص عند البعض الآخر لتخطيط معين بل تجري القصة في حرية واسترسال يسوق فيها الكاتب فكرة معينة أو يعكس حالة أراد نقدها وإظهار عيوبها ويتناول مضموناً حراً كالشكل الحر الذي يحوي هذا المضمون فتضيع القصة بين الشكل الحر والمضمون الحر ولا أستطيع القول إن ذلك الشكل الحر من أشكال القصة القصيرة الفنية بل إنه في منزلة بين المقالة وبين القصة، ففيه من خصائص المقالة حرية الاسترسال وعدم الاحتفال بالإطار وفيه من القصة ظواهر السرد ورسم الشخصيات وسير الأحداث كما في بعض قصص ذنون أيوب ومحمود السيد ويوسف رجيب وضياء سعيد وجعفر الخليلي. كما نلمس القصة (الصورة) عند عدد غير قليل من رواد القصة العراقية كجعفر الخليلي وضياء سعيد ومحمود السيد وأنور شاؤول ويوسف رجيب وبعض أقاصيص ذنون أيوب وعبد المجيد لطفي وطابع هذه الأقاصيص أن الكاتب يصور الواقع تصويراً حرفياً ويقدم قصة قوامها تسجيل عادات وتقاليد البيئة والشخوص القصصية فيها غير ناضجة ولم تستكمل لمحاتها الإنسانية المفردة ولم تخلص من السطحية. وإنها تخفي ذات الكاتب وراءها وتتسم بالموضوعية الكاملة وتمتلئ أحياناً بفضلات الواقع لأنهم يفهمون القصة على أنها نقل حرفي عن الواقع، ولهذا جانبوا الفن.‏
ولكننا نجد القصة الفنية عند محمود السيد في مجموعته (في ساع من الزمن) وعند ذنون أيوب في مجموعاته (رسل الثقافة، الضحايا، صديقي، وحي الفن، برج بابل، الكادحون، الكارثة الشاملة، حميات، العقل في محنته) وعند شالوم درويش في مجموعته (أحرار وعبيد) وعند عبد الحق فاضل في مجموعته (مزاح وما أشبه) وعند صفاء خلوصي في مجموعته (نفوس مريضة) وعند عبد المجيد لطفي في مجموعته (قلب الأم). فقد عرفوا بأن الفن ليس تقليداً للواقع ولا نسخة أمينة عن الأشياء وإنما هو رؤية روحية تعيد خلق الواقع من جديد بغناء أكثر أو خلق واقع أعمق من الواقع المباشر وأعظم ثراء ويسلك الفن للوصول إلى هذا الواقع طريق الاختيار وطريق الصنعة. ومعظم قصصهم ذات اتجاه واقعي تشوبه أحياناً رومانسية شفافة وتستقي الواقعية عندهم مادتها من حياة الشعب وتتناول مشكلات المجتمع العراقي ومظاهر الفقر والبؤس التي ترزح تحتها الطبقات العاملة.‏
ومجد الاتجاه الرومانسي عند لطفي بكر صدقي وسليم بطي وعبد المجيد لطفي في مجموعته (أصداء الزمن) وبعض أقاصيص محمود السيد وذو النون أيوب. حيث تمتلئ بالمصادفات والأحداث الغريبة مع إغراق في الخيال واهتمام بالأسلوب والألفاظ والتقوقع في داخل الذات والكشف عن انفعالاتها وآلامها.‏
القصة العراقية القصيرة بعد الحرب العالمية الثانية:‏
لمسنا أن الاتصال الفكري بين العراق وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية قد أثمر نتيجة لكثرة البعثات العلمية إليها ونقل التراث الغربي إلى اللغة العربية وإتقان المتعلمين العراقيين اللغة الإنكليزية ومقدرتهم في الإطلاع على الكتب والمجلات التي أخذت ترد إلى العراق بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الصحافة العربية وصدور عدد من المجلات الأدبية التي اهتمت بالقصة وأولتها عنايتها. على أن دور الصحافة العراقية في تطور القصة العراقية بعد الحرب الثانية كان ضعيف الأثر إذ انصرفت الصحافة العراقية إلى المجال السياسي انصرافاً كلياً بسبب اضطراب نظام الحكم وتردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم الانتفاضات الشعبية وإقبال كثير ممن لا كفاية لهم على الاشتغال بالصحافة الأدبية. وكانت الصحافة العراقية سبباً في إيجاد نوع خاص من القصة هو (القصة الصحفية) التي تعتمد على السرعة في البناء وإيثار الحادثة لاستثمار مادة لها واعتمادها على السطحية في الأداء والدعاوي غير المباشرة والإعلانية المستترة، ورأينا أن حركة الترجمة في العراق مرتبطة بالصحافة حيث شجعت الصحف والمجلات التي تبنت القصة ترجمة القصص الغربية غير أن الترجمة لم تساهم في تطور القصة العراقية القصيرة في العراق إلا مساهمة ضئيلة لا تكاد تذكر لقلة القصص المترجمة لو قيست بحركة الترجمة العربية ويرجع السبب في ذلك إلى أن أدباء العراق ترهقهم واجبات وظائفهم مما لا يدع لهم مجالاً لإنتاج خصب كما لم يهتم المترجم العراقي بالأسلوب فهو يترجم بلغة هزيلة لا تخلو من أخطاء ولم يتقيد المترجم بالأصل المترجم بل كثيراً ما يشوه الأسلوب ويمسخ القصة ويوجز ويطلب على هواه. وبعض المترجمين لم ينقل القصص عن لغتها الأصلية لجهلهم بها كما فعل المترجمون للقصص الروسي. كما أنهم لا يحسنون اختيار الكتب التي يترجمونها فيقبلون على الكتب السهلة بالإضافة إلى أن دور النشر محدودة في العراق.‏
لذا كان للقصص المترجم في البلاد العربية أثر كبير في تطور القصة العراقية بالإضافة إلى تأثير القصص العربي الحديث وإقبال المواطن العراقي على هذه الكتب القصصية إقبالاً كبيراً. وكان لدار الإذاعة دور في تطور القصة القصيرة في العراق وإن لم يكن دوراً رئيسياً. كما لا يمكن نكران تأثير رواد القصة العراقية في قصصي الجيل الثاني وإفادتهم من أخطائهم حيث كانت الآفة التي تفسد قصصهم اتخاذها منبراً للوعظ والإرشاد وإعطاء الدروس والعبر. إن الفرق بين القصة القصيرة في العراق بعد الحرب الثانية وقبلها كالفرق بين الخلق غير الفني ووعي الصنعة الفنية. ولا يعني هذا التكامل أن الشكل عامة مبرأ من العيوب خال من النقائص ولكنه يشير إلى أنه زاد اقتراباً من الكمال وأضحى بالتالي أشد استيفاء لمعالم الفنية والبناء.‏
وقد أسدى الاتجاه الواقعي الذي بدأ عند الرواد خدمات جليلة لفن القصة القصيرة وكانت هذه الواقعية مشوبة بالرومانسية تارة وبالمثالية والتعميمات والتجريد تارة أخرى.‏
وقد لمسنا هذه الواقعية المشوبة بالرومانسية بعد الحرب الثانية عند الرواد مثال ذلك ذنون أيوب بالإضافة إلى كتاب الجيل الثاني كفؤاد ميخائيل وشاكر السعيد ومير بصري وسليم مبارك وغيرهم.‏
كما يلمس الباحث في القصة العراقية القصيرة بعد الحرب الثانية أشكالاً بدائية كشكل الرواية المكثفة التي برزت سماتها في قصص صلاح الدين الناهي ومحمد بسيم ذويب وعبد الرزاق الظاهر وفتاة بغداد. كما يلمس في آثار القصصين العراقيين بعد الحرب الثانية بعداً عن الشكل الفني إلى جانب قصص فني لدى كاتب واحد في مجموعة واحدة.‏
أما القصة التسجيلية فقد امتد تأثيرها إلى ما بعد الحرب الثانية وصبغت آثار بعض القصاصين العراقيين من الرواد مثال ذلك جعفر الخليلي وذنون أيوب وعبد المجيد لطفي وصلاح الدين الناهي وشالوم درويش إلى جانب قصص بعض كتاب الجيل الثاني مثل أدمون صبري ومحمود الدوري وخليل رشيد وسامي طه الحافظ ونابليون حنا وغيرهم.‏
ونلمس اتساع نطاق القصة الفنية بعد الحرب الثانية في كتابات الرواد كذنون أيوب وعبد المجيد لطفي وعبد الحق فاضل وشالوم درويش وغيرهم بالإضافة إلى كتاب الجيل الثاني كعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد روز نامجي ونزار سليم وعبد الرزاق الشيخ على وشاكر خصباك وعبد الله نيازي وغانم الدباغ وغيرهم. ففي أقاصيصهم عنصر التركيز وعنصر الإيجاز بالإضافة إلى التزام بعضهم بمبدأ الوحدات الثلاث واهتمام بعضهم بلحظة التنوير.‏
والقصة العراقية القصيرة جامعة لمختلف الاتجاهات سواء من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون فهناك كتاب التزموا بالمشكلات والموضوعات المحلية الصرفة وآخرون توسعوا في موضوعاتهم ولم يقصروها على الموضوعات المحلية والتزم قسم بالأسلوب الفصيح بينما تهاون آخرون باللغة واستعملوا العامية في الحوار، والذين تأثروا بالأساليب الغربية استعاروا هذه الأساليب في معالجة الموضوعات الاجتماعية وتخلوا عن المفهوم الكلاسي للقصة المبني على العقدة والحل واستعاضوا عنه بما يسمى الانعكاسات النفسية الفردية كعبد الملك نوري ومحمد روز نامجي وغانم الدباغ وغيرهم.‏
كما استعمل بعض الكتاب اللهجة العامية في الحوار لأن فنية القصة –عندهم- تظل مبتورة مشوهة لو أنطق الرجل العامي الذي لا يعرف الفصحى شيئاً من الكلام الفصيح المنمق على أساس أن الفن القصصي يجب أن يكون تعبيراً صحيحاً عن واقع الأبطال الحقيقي من غير تزييف لأننا لو أعرنا لهجتنا وثقافتنا لمن نكتب عنهم لما استطعنا أن نكون مخلصين في التصوير والإثارة وخلق الانطباع اللازم.‏
ومعظم الشخوص القصصية من الناس العاديين ومن الطبقة الفقيرة والبرجوازية الصغيرة وتدور الأحداث فيها حول الفلاحين والعمال والموظفين الصغار وقد تتدنى أحياناً إلى المشردين والمنحرفين والمرضى نفسياً. ويتراوح التعبير فيها بين الأسلوب المنمق والأسلوب الهزيل ولكن القصاصين يختلفون في الدرجة ففي حين ينزع بعضهم إلى اختيار اللفظة المنمقة يميل بعضهم إلى البساطة في التركيب مع الاحتفاظ بالرونق بينما يبلغ درجة الحديث العادي عند البعض الآخر.‏
ومن أبرز الاتجاهات القصصية ظهوراً الاتجاه الواقعي وهو امتداد في بعض أشكاله للاتجاه الواقعي الذي ظهر قبل الحرب الثانية عند ذو النون أيوب ومحمود السيد ولكنه تخلص مما كان يشوب الواقعية من رومانسية شفافة، تستقي الواقعية عندهم مادتها من حياة الشعب وتتناول مشكلات المجتمع العراقي. ومظاهر الفقر والبؤس التي ترزح تحتها الطبقات العاملة وحياة الطبقة البرجوازية الصغيرة وهي لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة وإنما همها فهم واقع الحياة وتفسيره وهو فهم وتفسير قد ينتج عنه الخير وقد ينتج عنه الشر. وهي لا تصور واقع الحياة تصويراً تسجيلياً وإنما هي تفهم الحياة والأحياء وتفسرها من وجهة نظر خاصة ترى منها الحياة.‏
ونجد عندهم الاتجاه الرومانسي إلى جانب الاتجاه الواقعي وهي رومانسية مشوبة بواقعية لم تستكمل جوانبها المختلفة ونلمس في قصص هذه الفئة هوة بين واقع الشخصية وأحلامها يمضها الواقع المؤلم ويحزنها ما فيه من قيود وعادات وتقاليد تقف حائلاً أمام سعادتها وانطلاقتها فتهرب من عالمها هذا إلى عالم الأحلام حيث تكسر فيه القيود وتحطم العوائق ولكنها ما تلبث أن تكشف الهوة السحيقة بين الواقع والحلم فتنطوي على نفسها ويدفعها عجزها عن مصارعة الحياة إلى الإغراق في الآلام والأحزان واجترارها.‏
كما في أقاصيص كارنيك جورج ومحمد بسيم ذويب ومحمود الحبيب وعبد اللطيف الدليثي وغيرهم. ويدور محور القصة في الغالب حول أحداث غريبة تعتمد على المصادفات المدهشة والنهايات المفاجئة من غير خضوع لتخطيط معين كما نلمس الطابع المحلي في آثارهم ونتحسس الفرد العراقي المندفع بكل آماله وعقده التي ولدتها قيود المجتمع الثقيلة. أما شخوصهم فهي مسطحة لا أبعاد لها مجردة من المسحة الإنسانية المادية أو النفسية وكأنها دمية يشد الكاتب خيوطها وإذا ما تكلمت تلجأ إلى الخطابة واستعمال الجمل الرنانة.‏
وأشهر الكتاب المخضرمين جعفر الخليلي فهو قريب الشبه بأيوب في منحاه إذ اتخذ حوادث البلد ورجاله مضموناً لقصصه بفارق واحد أن الخليلي لا تهمه السياسة بقدر ما تهمه معتقدات العامة. ولا يعني الخليلي بفنية القصة العناية اللازمة فجاء نتاجه في الغالب الأعم خلوا من شروطها تغلب عليه البساطة والسهولة الصحفية وقد يعثر القارئ بين حين وآخر على ضعف في الأسلوب والتواء في التعبير مردهما السرعة التي يقتضيها عمله الصحفي. إنتاجه وافر.‏
والقصة عنده حادثة أو صورة اجتماعية وليس فيها لحظة مأزومة ولا عاطفة تتطور وتسلط عليها أنوار التحليل والخبر عنده كالخبر في الحياة له بعداه الزماني والمكاني ولكنه لا يحتمل البعد النفسي وله صدق في الواقع ولكنه لا يحتمل الدلالة والصور التي يرسمها ليست مقصورة لذاتها وإنما تستهدف النقد الاجتماعي ليتخذ منها موقفاً معيناً من الحياة، يوجهها إلى المجتمع تنقده وتكشف مواضعاته الأخلاقية الكاذبة بأسلوب ساخر فكه. في مجموعته (من فوق الرابية) عدد كبير من القصص ذات لون واحد كتبت بأسلوب واحد تغلب عليه البساطة والعجالة الصحفيتين ولم نلحظ تقدماً أو تطوراً في أسلوبه عما كان عليه قبل الحرب الثانية وخير ما يقال في مجموعته (أولاد الخليلي) إنها حكايات وأخبار أريد بها غاية تعليمية تستمد منها العبرة ولا تختلف مجموعته (هؤلاء الناس) عن سابقتها. أما الأقاصيص التي نشرها الكاتب في الصحف والمجلات فهي أقرب إلى اللقطات العابرة تنقصها الحبكة ويعوزها الفن القصصي. ويفقد الشكل عند الكاتب قيمته ولا يبقى في قصصه بعد ذلك غير أسلوب السرد القديم إلى رواية الحادثة ونقل الخبر، وكل ما يهمه من عمله القصصي هو الوصول إلى غايته النقدية الإصلاحية. وشخوصه بسيطة قدرية لا تعقيد فيها ولا نوازع حادة تعتلج في داخلها إنها تأتي على مستوى القضايا البسيطة العادية التي تعرض لها حوادثها لا مبرر لها سوى ما تشير إلى أن الحياة نفسها تحفل بأمثالها وتزدحم بعديد من المخلوقات (الطافية) التي لا تزيدنا معرفة بطبيعتها ولا بخصائصها الإنسانية العميقة الأغوار لسبب بسيط هو أن الكاتب لم يكن يلفته فيها غير سماتها المادية الثابتة.‏
ونجد عند الكاتب أسلوب الرمز في قصته الطويلة (في قرى الجن) والتي استعار لها جو ألف ليلة وليلة وحاول أن يرسم مثلاً أعلى للحياة في السياسة والحب فكأنه في قصته يحدثنا عن مدينة فاضلة يصورها في قرى الجن. وهذا اللون من التعبير يشيع في الناس عادة حين تقيد حرياتهم وحين يمنعهم الخوف من الجهر بآرائهم.‏
ذو النون أيوب 1908:‏
لقد تطور أدب أيوب عما كان عليه قبل الحرب من ناحية المضمون فلم يلتزم التزاماً سياسياً ولم ينصب نفسه واعظاً ولم يحشر نفسه بين الشخصيات يوضح رأيه في المسائل المعروضة ولم يحرك شخوصه وينطقها بما يريد إنما تركها تتصرف وتتحرك بصورة تلقائية طبيعية وطرق مواضيع مختلفة اجتماعية وعاطفية وسياسية. ولكن هل رافق هذا التطور في المضمون تطوراً آخر في الشكل؟ أستطيع أن أقول بصورة مبدئية إن هذا التطور تم ببطء في حدود فن الكاتب القصصي ولكنه إذا قيس بالتطور العام الذي سار في شكل القصة العراقية فإنه لا يعد تطوراً فإن قصصه الأولى اتسعت لعدد من الشخصيات والحوادث والمواقف وامتد فيها الزمان والمكان أما القصص الأخيرة فإنها تقتصر على عنصر أو اثنين والحبكة زادت إحكاماً وأصبحت خاتمتها تعتمد على نقطة تنوير تلقي ضوءاً كاشفاً على جميع أجزاء القصة.‏
وطريقة الكاتب في تقديم أبطاله تعتمد على الحركة والعمل لا على التحليل والوصف فإن تصرفاتهم هي التي تكشف عن أعماق نفوسهم. وموضوعاته منتزعة من بيئته ومتعلقة بالواقع بشدة. والحديث عن نتاج أيوب حديث عن أحوال العراق وشؤونه ومشاكله السياسية والاجتماعية بأسلوب قصصي. في مجموعته (عظمة فارغة) يعود إلى مهاجمة المسؤولين الذين كانوا يخوفون الشعب بلهجة أكثر صراحة وأشد عنفاً مما كان عليه قبل الحرب. وتعود مجموعته (قلوب ظمأى) إلى الهدوء والطمأنينة واللا مبالاة وكأنها لهجة المصارع أرهقه طول المقاومة فبات لا ينشد إلا الراحة والاستجمام. وشق في مجموعته (صور شتى) الحواجز الإقليمية التي أخذ نفسه بها وانطلق يطرق موضوعات تشغل بال الإنسانية جمعاء. وبعد غيبة طويلة عن سوق الأدب أصدر مجموعته الأخيرة (قصص من فيينا) ونجد فيها عبارات عذبة تقتحم أسلوبه إلى جانب العبارات السياسية.‏
وشخوص أيوب دمى خلقها لتحقيق هدف معين أو فكرة معينة نظرتهم إلى الحياة خاصة بهم هي النظرة التي يرى فيها الكاتب الحياة –بعضهم يميل إلى العزلة والانزواء وآخرون يعيشون في بؤرة الحياة. يكافحون من أجل وجودهم وهم محبوبون لأنهم صريحون كما أن الكاتب يؤمن بالأدب الهادف وبأن القصة لا تكتب ولا تقرأ لذاتها ولكن لإظهار عيوب المجتمع ونقده. ويعتقد في قرارته أن النضال لا بد أن يثمر وأن القيمة الإنسانية لا بد أن تنتصر. غير أن بناء القصة عنده بناء "الريبورتاج" فلا تصميم ولا تخطيط في معظم الأحيان بل انسياب في عفوية وذهاب وراء مسارب جانبية وحوادث هامشية.‏
لغة الكاتب معبرة وإن كانت لا ترتفع إلا قليلاً عن المستوى الصحفي، وقد يستخدم عبارات تقليدية يقتبسها من قراءاته المتعددة وحافظته من الشعر العربي القديم أو النثر. كما تشيع السخرية في أسلوبه، يستعين بها للنيل ممن يضعه هدفاً لنقده وقد يعمد إلى السجع ساخراً متندراً أو يستعمل أحياناً الأمثلة العلمية.‏
عبد المجيد لطفي 1908:‏
نشر الكاتب عدداً كبيراً من القصص في الصحف والمجلات ولم يجرؤ على جمعها في كتاب خوف الخسارة المادية وجلها أقاصيص سريعة تعتمد على سرد الحادثة مع خلوها من التحليل والعمق. وتفتقر إلى روح الفن الذي يرفع القصة عن مقام الحادثة الصحفية اليومية إلى المجال الإنساني وتنقصها تلك الحرارة التي تشعرنا بأن لطفي يحس بما يكتب وليس متفرجاً عابراً يصف الحوادث. إنها مجرد ريبورتاجات صحفية ملخصة أو منقولة خبراً إثر خبر، تتسم بطابع السرعة وعليها طابع التبليغ الصحفي الذي يهتم أصحابه بواقعية اللغة ولهجة الحديث العادي. وأسلوب التشويق السهل. يبدع الكاتب في رسم الصور الريفية ومظاهر الفقر ويخلع عليها من الحياة ما يجعل القارئ يمسها بقوة وبدأ الكاتب يجفو تلك السطحية ليبدأ صفحة لامعة من نتاجه القصصي كما في مجموعته الأخيرة (في الطريق) وهي تنحو نفس المنحى في تطوير البؤس والفقر والتشرد. وتخلو كتاباته من السخرية والروح الفكهة التي نجدها عند أيوب والخليلي. كما أنها خالية من السوداوية الجاثمة على كتابات عبد الملك نوري ومع أنه تقدمي الاتجاه ميال إلى معالجة الأوضاع الاجتماعية الراهنة، إلا أنه يضحي أحياناً بالفكرة من أجل الجمال الفني إذا اقتضى الحال وهو في هذا نقيض ذنون أيوب الذي يعتبر الفكرة أقدس من الجمال الفني.‏
عبد الحميد فاضل 1910:‏
يصدر الكاتب أقاصيصه عن تجربة يعانيها ويعيشها وشخوصه كلها من الطبقة البرجوازية الصغيرة وهو يعطف عليها ويصورها في نبل وطهارة وطيبة. ويبني شخوصه بالتتابع مع نمو القصة، لا تهمه صراعاتهم النفسية إلا بقدر بناء ملامحهم الفيزيكية مثل شالوم درويش تماماً.‏
ويعتمد الكاتب في التأثير على العناصر الأساسية الخاصة بفن القصة كالحوار والسرد والشخصية ويعبر بلغة بسيطة يشيع فيها جو من الإلفة والحرارة معاً.‏
ويرسم أحياناً صوراً لذاتها لا لهدف معين بل يعطينا صورة تزخر بالعواطف المختلفة من حب وضيق وشره وطمع دون ميل أو رغبة لشيء آخر. وتشيع السخرية الناقدة في كتاباته. السخرية من التقاليد والمعتقدات والمثل التي تعم المجتمع العراقي وهو في نقده يشبه جعفر الخليلي ولكنه يختلف عنه بالتزامه فنية القصة ومعالجته المشكلة بصورة أكثر عمقاً وتأثيراً في النفس. ويؤخذ على الكاتب أنه لم يلتزم بمبدأ الإيجاز ولا بمبدأ التركيز في بعض قصصه فقد يطيل ويفيض دون أن يخدم الحدث بهذا الإطناب مع ذكر أجزاء صغيرة تعيق الحدث أكثر مما تطوره. ولمسنا أثراً للاتجاه الرمزي في مجموعته (حائرون، طواغيت) وهي رمزية واقعية.‏


يتبع


B-happy 9 - 5 - 2010 12:23 AM

صفاء خلوصي 1917:‏
كتب كثيراً من القصص ضاع معظمها في بطون الصحف والمجلات. وتبدو أقاصيصه وكأنها صدى دراسات سايكولوجية وفلسفية يطبقها المؤلف على الأحياء لا نتيجة للمراقبة أو لدراسة عميقة للوسط الذي يعيشه ولا شيء يبرر للمؤلف اختيار موضوعاته من المجتمع الأوروبي ولو أنه شاء أن يحلل نفوساً عالمية لما كان عليه مأخذ ولكن الأمر ليس كذلك فإن جميع أبطاله مرضى شاذون. عائشون في الأوهام فهم أناس استثنائيون ولعل هذا هو السبب في أن القارئ لا يتأثر بشيء مما يقرأ ومجموعته الثانية (النافذة المفتوحة) امتداد لمجموعته الأولى التي نشرها قبل الحرب الثانية نفوس مريضة). ولم تنجح محاولات الكاتب في اتباع الاتجاه النفسي لأنه اعتمد على السرد التقريري أكثر من اعتماده على الشخوص لتبين عما يعتلج في نفسها أو لتكشف تدريجياً عما يكتنفها من انفعال كما اعتمد على المصادفات والمفاجآت أكثر من اعتماده على الأحداث الطبيعية أو الخطوط الملائمة لتحرك الشخصية بما توحيه عليها ظروفها وعواطفها. وقد تكون الشخوص مجرد رموز مسطحة عامة لا حياة فيها كما في (نبوءة عراف، المجهولة، صداقة الموتى... الخ).‏
صلاح الدين الناحي 1914:‏
لا يهتم الكاتب بالحبكة القصصية ولا يكتب إلا عندما يريد التعبير عن فكرة تجول في ذهنه ولا يتمسك بالفنية القصصية وأقاصيصه خالية من عنصر التشويق وما يعترض فنيتها إنها مشحونة بآراء وأفكار قانونية. وهو في كتاباته ملتزم بالإنسان فقط لا يميل إلى اتجاه معين فقد كتب في الاتجاه الرمزي كما كتب قصصاً رومانسية وواقعية حسب تجاوبه العاطفي مع الحدث الذي يريد تدوينه.‏
وقد انبعثت صور التلمذة في العديد من أقاصيص المجموعة ومعظمها يدور في جو قاهري مثل (صريع الأورمان، تصلي في المقهى... الخ)، أن الكاتب لا يملك مفهوماً واضحاً محدوداً نحو عمله القصصي ولا يهمه هذا المفهوم سواء لديه أن الذي يكتبه رواية مكثفة أو صورة قلمية أو مقالة قصصية أو كل ذلك مجتمعاً لأن كل ما يهمه أن يصل في النهاية إلى غايته الإصلاحية من حض على الخير أو نهي عن الشر أو للإبانة عما يختلج في نفسه أو لتدوين رأي أو فكرة طرأت له. ويعمد إلى التكلف والمفاجآت والمصادفات الغريبة وبناء القصة عنه خال من التصميم والتخطيط مثل جعفر الخليلي والموضوعات متنوعة ومتفرقة، مغرقة في القدم والحداثة على السواء أخذت من بيئات مختلفة متلونة تختلف رقياً وانحداراً غنى وفقراً. وقد يستخدم الكاتب القصة وسيلة لعرض أفكاره وآرائه في الحياة وتصطبغ أقاصيصه بصبغة ذاتية يشبعها حديثه عن نفسه في أكثر المناسبات بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. أو يلجأ إلى القصة المسرحية يعتمد في بنائها على الحوار اعتماداً مطلقاً. وللكاتب خيال جميل يحلق به بعيداً عن آلام الحياة وتعاستها ويحلق فيه في أجواء الخيال. كما في مجموعتيه (أقاصيص شتى، تثنية الأقاصيص).‏
القصة الصورة والقصة الواقعية بعد الحرب الثانية:‏
لمسنا أن دلالة القصة الصورة أن الكاتب يصور الواقع الخارجي تصويراً حرفياً والشخوص غير ناضجة لم تستكمل لمحاتها المفردة الإنسانية ولم تخلص من النموذجية الاصطلاحية المسطحة. وفيها إلى جانب بعض السمات المميزة تناقضات في التصرف وانشطار عنيف بين الخير المطلق والشر المطلق.‏
وهي تصور الأخبار وما حولها وتكتفي في كثير من الأوقات بعرض الحادثة أو قد لا نجد ارتباطاً بين بداية القصة ونهايتها. ولا يبنى الشكل عند بعضهم بناء محكماً بعلاقات سليمة بين أجزائه ولا يتم تركيبه بنسب معينة.‏
ويقف أدمون صبري في الصفوف الأمامية من كتاب الصورة في العراق بعد الحرب العالمية الثانية في مجموعاته القصصية العديدة (حصاد الدموع، المأمور العجوز، كاتب واردة، قافلة الأحياء، خيبة أمل، شجار) ولا نجد تطوراً في كتاباته عبر أقاصيصه الجمة فهي على نمط واحد في الرتابة من ناحية الشكل والمضمون، فالعرض السردي هو الشكل الغالب في قصصه وتتحرك شخوصه بميكانيكية فرضها الكاتب دون سبب معقول، وتشيع في أقاصيصه الموضوعات السياسية وهو بذلك يشابه ذنون أيوب. ويصور الواقع الخارجي تصويراً حرفياً، ويلح على أن ما ينقله وقع فعلاً ومعظم قصصه تسجيلية مثل قصص جعفر الخليلي، فهي تسجل عادات وتقاليد المجتمع العراقي فتبدو صوراً مفتعلة لا تفي بالغرض وقد امتلأت بدقائق الواقع وتناقضاته ومفاجآته وعنيت بالحادثة أو الخبر دون فهم واع لطبيعة العمل الفني للقصة القصيرة.‏
ويقف الكاتب موقف الناقل لا موقف المستلهم ولا يعنيه من أحداث قصصه الالتفات إلى دلالات هذه الحوادث ولا إلى معانيها المستترة وتصل القصة بين يديه عن طريق النقل التسجيلي إلى درجة الابتذال وتصبح مجرد مادة خام وجملة من الأخبار تساق في عملية سرد عادية، وقد تخلصت القصة عنده من الوعظ الأخلاقي المباشر ولكنها لم تتخلص من الحشد الهائل للحوادث والأخبار الضرورية وغير الضرورية ولعلها تفقد في معظم الأحيان حبكتها الفنية. وتدور موضوعات محمود الدوري حول الأرض الزراعية ومشكلات الفلاحين والكوارث الطبيعية التي تصيب الأرض الزراعية مع خلوها من الشكل الفني والحبكة التي تحيل المادة الخام إلى عمل فني وترتبط قصصه بالرجوع إلى الحياة والنقل المباشر، وأن أبرز مظاهر الحياة عنده مرتبط أشد الارتباط بقدرته على الوصف التصويري وهو بذلك يشبه أدمون صبري وإن كانت شخوص صبري أكثر وضوحاً من شخوصه التي يكاد القارئ لا يتبينها جيداً لأنها تبدو كجزء صغير وسط لوحته الوصفية، في مجموعته (آخر الأسبوع).‏
ويعني بالوصف التسجيلي كتاب آخرون سائرون في هذا الاتجاه مثل ناجي جابر وعبد الله جواد وعبد الله حسن ومنيرامير، في مجموعتهم (الحصان الأخضر) وخليل رشيد في مجموعتيه (خمر وغيد، الحياة قصص) وسامي طه الحافظ في مجموعته (قطار الظلام) ونابليون حنا في مجموعته (الأعمى) ومحسن البصري في مجموعته (مع الحياة).‏
كما لمسنا هذه السطحية في البناء ورسم الشخوص والفوتوغرافية في مجموعات عبد الجبار الحكيم (خبايا النساء) وعبد الله الياسري (في الطريق) وفخري عبد المجيد (مناضلون في الأرض) ومحمود السعيد (بور سعيد وقصص أخرى) وحسين علي راشد (الساحر الماجن) وحيدر محمود (رفقاً بالإنسان) وباسم عبد الحميد حمودي (أنا عاطل وقصص أخرى) وعبد الرزاق الهاشمي (على صعيد الكفاح) وطارق عبد الجبار (حفنة بشر) ورمضان البكر (ألحان الشقاء).‏
إن القصة الصورة بعيدة عن الفن القصصي لأن الفن ليس تقليداً لواقع ولا نسخة أمينة عن الأشياء. فليس المهم نوع الحادثة ولا لون الشخصية وإنما المهم طريقة تناول الموضوع والسير فيه بحيث تؤدي إلى رسم صورة معينة للحياة وكأنها تجري في طريقها الطبيعي وتعيش في أوسع مجال تظهر فيه طاقتها ثم التعبير عن ذلك بعبارات أو ألفاظ تتناسق مع الحدث والشخصيات والسياق. وأن تكون القصة وحدة عضوية يسهم كل عضو فيها بقسط كامل في سبيل الوصول إلى التأثير النهائي فالحادث أو الموضوع أو الفكرة أو الأسلوب اللغوي كل هذه وغيرها من الأخبار الجزئية لا توجد لذاتها بل لكي تتفاعل مع غيرها وترتبط بعضها بعلاقة تؤدي معنى واحداً وتشكل كلاً متميزاً أو تخلق الأثر الكامل.‏
وهكذا يتضح أن الواقعية ليست الأخذ من واقع الحياة وتصويره بخيره وشره كالآلة الفوتوغرافية كما أنها ليست معالجة لمشاكل المجتمع ومحاولة حلها أو التوجه نحو هذا الحل كما أنها ليست ضد أدب الخيال والأبراج العاجية وإنما هي فلسفة خاصة في فهم الحياة والأحياء وتفسيرهما أو هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود وترى أن الشر هو الأصل فيها وأن التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل.‏
الكتاب الواقعيون عديدون في العراق مثل سليم مبارك في مجموعته (أحلام وأوهام) وعبد الواحد محمد في مجموعته (باتريشا) وعبد الرزاق الظاهر في مجموعته (عذارى بابل) ومير بصري في مجموعته (رجال وظلال). ومن أبرز كتاب الواقعية في العراق شاكر خصباك وعبد الله نيازي.‏
شاكر خصباك 1930:‏
تأثر الكاتب بالجو المصري في مجموعته (صراع، عهد جديد) وفي الأولى يظهر أنه كان لا يزال مبتدئاً للمبالغات والتهويل اللذين يكتنفان المجموعة وللضحالة في معالجة الموضوعات التي عرضها فيها.‏
ويمضي الكاتب في تصوير مشكلات المجتمع العراقي ولا يكتفي بنقد البناء الاجتماعي للأسرة العراقية التي تعتمد على أسس غير متكافئة بل ينتقل إلى نقد تقاليد المجتمع البالية ولا يكتفي بالتصوير التسجيلي بل يوضح لنا الأسباب والدوافع. ولا ينقد المجتمع فقط بل ينقد المواطن العراقي ذلك المواطن الذي جعلته قساوة المجتمع مزدوج الشخصية أنانياً في أكثر الأحيان.‏
ويلاحظ الباحث أن النزعات التي تظهر في مجموعتيه (عهد جديد، حياة قاسية) سواء كانت فنية أو فكرية أشد وعياً وأبرز خطوطاً من نزعات المجموعة الأولى. إذ ينجح الكاتب في تصوير المواقف الدقيقة واللمسات الخفيفة أما شخوصه فإن عدسته تدور طبقاً لفهمه للإنسان داخلياً وخارجياً وقد هيأت له هذه النظرة العميقة في فهم طبائع البشر أن يستبطن مخلوقاته ويتعمقها كما يمتاز بأسلوب سهل جميل، تندمج فيه عبارات عامية مستساغة، وقد أولع بالحوار العامي يديره على ألسنة أبطاله بما يناسب تفكير الشخصية ومستواها الاجتماعي وثقافتها. ويفضل الكاتب أن يضع شخوصه داخل أطر من ظروفها وحياتها وبيئتها ويخرج من الجميع بجو مصور كامل للشخصية يرعش بالحركة ويعج بالحياة.‏
عبد الله نيازي 1926:‏
من الكتاب المكثرين في إنتاجهم القصصي، إلا أن قصصه الأولى يعوزها التأثير في القارئ وكان أسلوبه تعوزه الديباجة المشرقة والتركيب السليم كما في كتابه (همس الأيام) وأبطاله في هذه المجموعة رومانسيون تؤلمهم الحوادث وعلاقات الغرام لا تكتفي هذه الحوادث بإيلامهم وإنما تساعدهم على الاختفاء والانتحار وأبطاله ترضى بالشقاء يخلق لها المؤلف عواطف ويصطنعها ويشط الخيال بالكاتب في هذه المجموعة فيصف لنا الماء يذوب النجوم وأقاصيصه كلها قاتمة قائمة على اصطناع الجو الحزين. كما يعجز الكاتب في مجموعتيه (بقايا ضباب، شجن طائر) عن خلق عالم متميز وشخوصه فيهما دمى لا حياة فيها ولا نبض يوحد بين أبطالها شعورهم بالضعة والصغار والحقارة وضعف الإرادة والاستسلام المشين ظانين بذلك أنهم يلتزمون جانب الخير. أما مجموعته الأخيرة (أعياد) فتحتوي على أحداث يتأثر بها القارئ وينفعل ويتحسس إلا أنها لا تهتم بإثارة العواطف والانفعالات إثارة مبتذلة. وإنما تتم بجذب نفسي. ومن ناحية الشكل يفضل الكاتب الشكل السردي ويفتن في التقاط الزوايا ورصد الأحداث. والشخصية عنده موقفية تحمل رأيه غالباً ويهتم فيها بالسمات الداخلية والخارجية معاً ليضيء مشاعر الشخصية وميولها وليساعد على تحليل صراعها وأزمتها وإحساسها وهو لا يعتمد في التحليل على المونولوج الداخلي ولا حديث النفس المباشر ولكنه يلجأ إلى تصورات الأحلام أو إلى الطريقة الوصفية.‏
الاتجاهات الجديدة في القصة العراقية القصيرة بعد الحرب العالمية الثانية‏
يلحظ الباحث تغيراً ملحوظاً في نتاج الجيل الثاني من القصصيين العراقيين في المفهوم القصصي من حيث الشكل والمضمون وتفنناً في اختيار الموضوعات وترويض اللغة رغبة في صدق التصوير وبناء أدب يستمد قوته من الحياة نفسهاِ.‏
واهتم هؤلاء الكتاب بأن تكون موضوعاتهم شعبية وأن تمثل شخوصهم الأكثرية العامة لا الأقلية الخاصة واستطاعوا أن يكونوا أكثر وعياً وواقعية فتخلصوا من تضخيم الافتعال وعنوا بالجزئيات الخبرية واقتربوا أكثر فأكثر في رسم شخوصهم من العمق الفردي والإنساني معاً.‏
وكان لا بد للقصة العراقية القصيرة من أجل الوصول إلى هذا الموقف الفني الدقيق أن تتعدى حدود التقنيات الكلاسيكية وتتخذ لها تركيبات جديدة وتجارب في القوالب والبناء مستحدثة. وهذا ما ظهر عند الكتاب (القلقين) وبعض القصصيين الذين ساروا في اتجاه الواقعية الجديدة.‏
وكانت نكبة فلسطين تجربة عميقة الجذور في نفس الإنسان العربي عاشها بكل جزئياتها فلا عجب أن تترك طابعها المميز في القصص العراقي، فصوروا في أقاصيصهم هذه المطرودين من أرضهم واللاجئين ووصفوا شقاءهم وبؤسهم وطغى العنصر الحماسي والعاطفي والدعاوي على العنصر الفني. وفي مجال الشخصيات اعتمدوا على رسم المشردين والبائسين فبدت في صورة ثابتة مفتعلة مسطحة لا أبعاد لها.‏
وقد تحولت هذه القصص إلى مقالات حماسية أو ريبورتاجات صحفية. وإذا استطاع كتاب النكبة أن يعبروا تعبيراً صريحاً مباشراً عما يريدون الجهر به وتصوير أثر النكبة على الشعب العربي، فإنهم في تصويرهم مشكلات المجتمع العراقي قد اضطروا إلى الرمز نتيجة لتعدد مشكلات الحياة وعيش الإنسان في مجتمعه مكبلاً بقيوده ولعدم قدرته في الإبانة عن أفكاره ومعتقداته. فلجأ القصاص العراقي إلى الخيال وتصوراته وهذه التصورات في الغالب بعيدة عن مشاكلة واقع الحياة فلا يصور هذا الواقع ويحلله وينقده بل يرمي إلى تجسيم أفكار مجردة وتحريكها في أحداث تتشابك لإيضاح الحقيقة. نفسية كانت أم أخلاقية ورمزيتهم رمزية موضوع لا رمزية تعبير. استعار لها هؤلاء الكتاب أحداثاً بعيدة عن الوقوع في حياتنا الحاضرة. أحداث شبيهة بأحداث ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ومع أن الكاتب يستعير جواً غير واقعي يحرك فيه شخوصه. فالقصة لا تمت بصلة إلى الأدب الرمزي لأن الشخصيات فيها تستحيل إلى شخوص إنسانية شكلاً وموضوعاً بينما الشخصيات الرمزية مجرد رموز أو قطع شطرنج تتحرك على الرقعة لتلعب دوراً خاصاً في المعركة التي تصورها تلك الحكاية ومن هذا نستطيع القول بأن القصة الرمزية في العراق اختلطت بالاتجاه الواقعي وتأثرت به لتخرج لنا نوعاً جديداً من القصص هو مزيج بين الرمزية والواقعية أو واقعية رمزية.‏
كتاب القلق والضياع‏
إن التمزقات التي يعيشها كتاب الجيل الثاني لها جذور في بداية ظهور القصة العراقية عند محمود السيد ولطفي بكر صدقي وسليم بطي عندما وجد الجيل القديم نفسه أمام معطيات الحضارة الأوروبية الوافدة والمسلحة بالعلم والمعرفة وانبعث التمزق في نفس الأديب العراقي بصورة أشد اندفاعاً وعنفاً عندما بدأت الأزمات الاقتصادية والسياسية تجتاح العالم ومن ورائه العراق- واستطاعت هذه الحساسية أن تتفجر في الشعور وفي اللا شعور نقمة ضاربة تقف في مواجهة الماضي والحاضر والمستقبل. وعبر كتاب الجيل الثاني عن كل الظواهر النفسية المتدفقة في كيانهم كاللهب وفي صور عديدة من التمرد والتمزق والشك والاشمئزاز من الماضي وانطلاقاً منه ورغبة في تغير الحاضر واندفاعاً نحو التحرر في طريق المستقبل وإيماناً به.‏
ولعل أهم ظاهرة من ظواهر هذا القلق الفردية والاحتكام إلى الذات في جميع القضايا ورؤية العالم من خلال الذات نفسه. إلى أن انتهت بهم هذه الفردية إلى الضياع والانزواء فالعبث. فأغرقوا وجدانهم تحت سياط الرغبة المستمرة إلى جسد بض أو كأس خمر يغرقون فيه ضميرهم الذي يحمل وزر آلام الحياة وتناقضاتها.‏
إن الجانب الأهم من أفعال الشخصيات يتركز في قضية الحرية فإذا كانت الشخصية قلقة تبحث عن مصيرها خلال رؤى الماضي أو في أحلام المستقبل لا تجد أمامها مثلاً عليا تسير تصرفاتها وتجعلها شرعية. بل هي التي تبرر أعمالها ومن ثم فهي مضطرة لأن تكون حرة. ويصورونها دائماً مهددة من الخارج في حريتها هذه وحاولوا أن يعروها إزاء ذواتها للتأكيد على ذلك وانتهوا فيها إلى التمزق. وهذا يعني مأساة الإنسان ويظهر ذلك في أفعال الشخصيات وامتزاج دوافعها بتصرفاتها الخارجية واختلاط الوهم بالحقيقة فالانزواء والعبث العدمي. ودارت معظم القصص في حدود تجارب الكتاب الشخصية وفي نطاق وعيهم الذاتي وخبرتهم المباشرة فأصبحت الشخصيات كائنات طيفية ولم يعد المكان إطاراً خارجياً يحدها وأضحى زمن فعلها مفتعلاً ومختصراً. ومن أشهر كتاب هذا الاتجاه:‏
عبد الملك نوري:‏
يقف الكاتب في النصف الأمامي من كتاب القصة في العراق يتميز بحس واقعي دقيق للشقاء البشري. اختلف النقاد في عبد الملك نوري فريق يعتقد أنه مسخ مشوه يستمد أجزاءه المتنافرة مما يقرأ لا من تجاربه الشخصية. وفريق آخر يرى أن النتاج العراقي القصصي كله ما خلا نتاج عبد الملك، يجب أن يرمى في –دجلة- ولا ريب أن الفريقين قد أسرفا على أنفسهما3.‏
والكاتب مقل في إنتاجه وقد تأثر في مجموعته الأولى (رسل الإنسانية) الصادرة عام 1946 بكتابات أيوب. وقد أظهر الكاتب في مجموعته الثانية (نشيد الأرض) الصادرة عام 1954 طوراً جديداً في فن القصة من حيث الشكل فبعد أن كان يستعير العبارات من مطالعاته اتجه نحو أسلوب جديد يقل فيه ترادف الجمل وتقل الأخطاء وتشيع العامية وهو يهدف إلى تلوين القصة بلون البيئة التي يعيشها البطل.‏
كان يبني قصصه في مجموعته الأولى متتبعاً حوادثها تتبعاً زمنياً أما في مجموعته الثانية فقد آثر أن يضع القارئ في أزمة القصة مباشرة ويقدم من العناصر المتفرقة لقضية ما، ويتركنا نتوصل نحن إلى شعبها وتأليف أوصالها بعد سلسلة من الأخبار والأوصاف والمونولوجات الداخلية.‏
ويهتم الكاتب في جميع شخوصه بقليل من الملامح المادية الخارجية ثم يعمد إلى داخل الشخصية فيبينها عن طريق التحليل وأبطاله كلهم ثائرون يخضعون لشتى الصراعات النفسية والبيئية ويصادف القارئ في أقاصيصه قلة الحركة وجمود الشخوص، فهم يعيشون في عالم اللا وعي يطلقون لخيالهم العنان يسبح بهم وتتوالى الصور في أذهانهم مشوهة وكاملة وتتداعى الكلمات على أفواههم من غير انتظام.‏
وانتقل في نسيج القصة من التدخل لإظهار رأيه أو بيان فكرته إلى موضوعية يتفاعل فيها الحدث مع الشخصية ويحملان معاً المعنى بلا إعاقة ولا وساطة.‏
ويظل الكاتب على ظمأ وجوع من حيث الخاتمة في معظم أقاصيصه وقد يكون طبيعياً ألا يعنى الكاتب بالخاتمة ما دام لا يعنى بالعقدة.‏
ومعظم أقاصيص الكاتب تكمن في خلق الجو النفسي للبطل. وهو يعتمد قبل كل شيء على (المحاورة الداخلية) وعلى استغلال تفاصيل الأحداث لتصوير نفسية البطل عبر موقفه منها، والصفة العامة لنفسيات هؤلاء الأبطال هو القلق، ويصطنع الكاتب لنفسه لغة خاصة تلائم فنه ويعتمد على الوصف ولا يهتم كثيراً بالحوار.‏
فؤاد التكرلي:‏
أعجب الكاتب بعبد الملك نوري وقلده في قصصه مستمداً مادته من اللا وعي يسردها على شكل ذكريات يؤلف بين أجزائها بخيوط من واقع البطل، وهو مؤمن بالإنسان وبقدرته على التوصل إلى بغيته مثل عبد الملك نوري رغم إحساسه بالضياع في حالة تأزمه ولكن كثيراً ما يجد نفسه في هذا التأزم ولا يسرف الكاتب إسراف عبد الملك نوري في المونولوج الداخلي لذا كانت قصصه أقل غموضاً وأكثر إشراقاً4 وهو يهتم اهتماماً كبيراً بالحركة على خلاف عبد الملك نوري مما يعطي أقاصيصه الحياة ويأتي الوصف والحوار والتركيب والتعبير بنسب معينة متوازنة فحواره يتلاءم والموقف في القضية يبينه في ذبذبة نفسية وإيحائية ومرونة طيعة ويفصله في جمل معبرة على قدر الشخصيات ويلجأ إليه في الوقت المناسب ويقربه في ألفاظه من الاستعمال السهل. وقد نجح في تصويره الدقيق للإحساسات العميقة لدى شخوصه من خلال الحوار وفي رسم حس إنساني متنفض. وحوار الكاتب أغلبه عامي مرتبط بطبيعة اللهجة الشائعة في المنطقة التي وقع فيها الحدث.‏
كما يعنى الكاتب في قصصه برسم الشخوص والصور إذ يحس القارئ بأن الكاتب ينقل إليه جوانب الحياة المختلفة بأمانة وصدق. وتتألف أكثر شخوصه من رجال ونساء مغمورين أو فقراء عاديين وهو يعطف عليهم جميعاً ويغمرهم بمشاعر إنسانية عميقة وهو ينفعل إذ يحدثنا ببساطة عنهم. وقد يختار الكاتب شخوصاً شاذين غرباء عن مجتمعنا في أقاصيصه كما في قصتي (القنديل المنطفئ وأمسية خريف).‏
نزار سليم:‏
نشأ في أسرة تتعشق الفن وبرز منها رسامون مبدعون وهو فنان يحسن مزج الألوان والتقاط الصور الجميلة كما حاول تطبيق بعض قواعد التصوير الزيتي كما في مسرحيته (اللون المقتول). بارع في خلق الجو النفسي لشخصيات أقاصيصه التي تكشف عن غنى شعوري وذهني. ويلاحظ في أقاصيصه خفوت الأحداث الكبيرة فهو لا يسلط عليها الضوء بل يعكس أضواء متساوية على الأحداث الكبيرة والصغيرة معاً. ونزعة التحليل عنده تشكل في كثافتها تياراً لا واعياً أو مونولوجاً داخلياً وتتراوح في كثرة منها بين حديث النفس المباشر وبين التدفق الذهني بصورته المنطقية.‏
في مجموعته القصصية الأولى (أشياء تافهة) الصادرة عام 1950 موضوعات تدل على براعة الاختيار والتوتر النفسي الذي تتميز به أقاصيصه يتكون من أشتات التأثرات والعواطف شأنه في ذلك شأن عبد الملك نوري. وتحتوي مجموعته الثانية (فيض)الصادرة عام 1952 على بضع أقاصيص تشعر بالظلم الاجتماعي الذي يعانيه كثيرون في الوطن العربي ولم يكرر نزار سليم نفسه في هذه المجموعة فأبطاله لم يكونوا نسخاً منه كما هو الحال في أشياء تافهة. وأبطال فيض أكثر إرادة وتصميماً في أعمالهم فهم يدركون ما يفعلونه ويفعلون ما يدركونه ويتحملون تبعات أعمالهم وقد أنقذت هذه الإرادة التي وهبها الكاتب لأبطاله في (فيض) من المصادفات التي شاعت في مجموعته الأولى –أشياء تافهة- ونجده أكثر قسوة على أبطاله وهو شيء طبيعي يتمشى مع إرادتهم وتصميمهم.‏
محمد روز نامجي:‏
بذل الكاتب جهده في أن ينحو منحى عبد الملك نوري من ناحية الشكل والتداعي ولكنه يختلف عنه في نظرته القاتمة إلى الحياة. وتعتمد جميع أقاصيصه على استغلال تفاصيل الأحداث لتصوير نفسية البطل عير موقفه منه. والصفة الغالبة لشخصياته القلق والبرم بالحياة وكأنهم زوار ضجرون يتمنون نهاية هذه الزيارة الثقيلة5. ويرسم الشخصية من داخلها في دفقات من التوتر والأحاسيس ويرسلها في كوى مضيئة دفعة إثر أخرى حتى إذا استوت القصة اكتملت الشخصية وتمايزت ملامحها وأصبحت خلقاً سوياً. وهو مثل عبد الملك نوري لا يهتم كثيراً بالحوار والحركة في أقاصيصه كما لا يلتفت إلى نقطة التنوير أو لحظة التأزم بل تسير أقاصيصه على منوال واحد رتيب يسوده الوصف وتتداعى فيه الألفاظ والأفكار، واصطفى الكاتب لنفسه كلمات يطيل ترديدها تكشف عن سوداويته المغرقة مثل القيء والغيثان وجيفة، ورائحة نتنة، وزمن، ومستنقع، أما شخوصه فهي مغرقة في سلبيتها لا تتفاعل مع الحياة بل تقف رغم تعاستها وبؤسها موقف المتفرج من الحياة المستسلم لها.‏
غانم الدباغ:‏
سبر الكاتب أغوار شخوصه وحاول التعمق في تحليلها واستبطان دوافعها وغرائزها وهو بذلك يشبه فؤاد التكرلي ومحمد روز نامجي ولكنه أكثر إشراقاً وتفاؤلاً من عبد الملك نوري وإن اصطبغت أقاصيصه بسوداوية شفافة تصور آلام مجتمعه. ويستقي موضوعاته من الغرائز المكبوتة وفوران الشبان والحرمان من لذاذات الحياة ولم يقدم الكاتب فلسفة معينة في قصصه ولا شربت سطوره من ذلك الحنين الإنساني الذي يصبي ويوجه. وما من دعوة أو نداء فيها يجر إلى المجهول أو إلى غاية ولكنه عبر فيها عن تلك النظرة الفنية القلقة التي كانت الطبقة الجديدة من المثقفين تهرب إليها من الواقع النضالي وقد تمثل بعمق التجربة القصصية فاستطاع بتمكنه من الخلق الفني أن يفرغ تجاربه في قالب فني فجاءت متحررة من كل ما يقيد فنيتها وشخوص قصصه طليقة الحدود والملامح ولكن تحكمها أقدار مقدورة من الحياة وهي لا تفض على القصة من خارجها بل ترسم من خلالها. ولا نجد في موضوعاته التي طرقها في أقاصيصه جدة.‏


أبو يقين الكعبي 9 - 5 - 2010 01:03 AM

الغلية بي هابي...
موضوع شامل ومتكامل..
شكرا لجهودك ولك كل التقدير والمحبة
ابو يقين


الساعة الآن 05:53 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى