منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   مدرسة الصحابة رضي الله عنهم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=21416)

قلب., 11 - 1 - 2012 10:39 PM

مدرسة الصحابة رضي الله عنهم
 
مدرسة الصحابة رضي الله عنهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر لي أمري
الجزء الأول من قصص
مدرسةالصحابة
حسب تسلسهم الأبجدي
1- أبو الدرداء رضي الله عنه
فيلسوف وحكيم الاسلام الأول
من أراد أن يعطي العبادة حقها فليقرأ قصة هذا الصحابي الجليل الذي كان عدوا للثروات وبغي الحكام ، انه أبو الدرداء رضي الله عنه، صحابيا جليلا من الرعيبل الأول الذين تربوا في جامعة العقائد الاسلامية وعميدها حبيب الله ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وخير البرية اطلاقا، اللهم صلي وسلم وبارك على السراج المنير المرسل من ربه سبحانه وتعالى رحمة للعالمين.
أبو الدردا رضي الله عنه صحابي جليل فذ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام الأجلاء، ومن الحكماء والفلاسفة الذين يسمع وينصت لأقوالهم، لما يملكه من الحكمة والموعظة الحسنة والبلاغة في التعبير.
اسلامه رضي الله عنه
كان رضي الله عنه آخر اهل داره اسلاما، وبقي متعلقا بصنم كان يعبده بالجاهلية على الرغم من أنّ عبد بن رواحة أخيه في الجاهلية والذي سبقه الى الاسلام يدعوه الى عبادة الله تعالى الها واحدا لا شريك له ، وعندما لم يذعن لدعوته فقد لجأ ابن رواحة رضي الله عنه أن يلقن أبو الدرداء درسا لعله يهتدي به الى نور الله تعالى، وكلما عاد أبو الدرداء الى بيته ويجد صنمه محطما يسأل امرأته عمّن حطم له صنمه فتقول له: اخوك ابن رواحة من فعل ذلك، فيغضب غضبا شديدا، ثم وفي آخر مرة جلس يفكر لبرهة يحدث نفسه ويقول: لو كان عند هذا الصنم خيرا لدافع عن نفسه، من هذا المنطلق منطلق التفكر ينطلق أبو الرداء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برفقة أخيه ابن رواحة رضي الله عنهما ويعلن اسلامه.
حين يتحدث أبو الدرداء رضي الله عنه عن أمر ما، فهذا يعني أنّ هناك امرا هاما، لذا فان أعناق الناس تشرئب للانصات اليه، فهو رضي الله عنه حكيم تتفجر من جوانبه الحكمة، وكان رضي الله عنه لا يفتأ أبدا بأن يقدم لأصحابه نصائحه الغاليات، فذات يوم يقول رضي الله عنه لصحبه الكرام: ألا أخبركم بخيرأعمالكم وأزكاها عند بارئكم، وأنمأها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير؟ قالوا: واي شيء هو ذاك يا أبو الدرداء؟ قال رضي الله عنه ووجهه يتألق تحت ضوء الايمان والحكمة نورا: ذكر الله، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
والآن تعالوا بنا نقترب من الحكيم القديس ونرنو الى الضياء والنور الذي يتلألأ حول جبينه رضي الله عنه، واشتموا العبير الفواح القادم من ناصيته الشماء، انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان.
واذا التقى كل من الايمان والحكمة في حياة رجل، فلنا أن نحكم عليه أنه أوّاب وسعيد، وأي سعادة لذلك الرجل الذي حين سألوا أمه عن أفضل ماكان يحب رضي الله عنه من عمل؟ أجابت: التفكر والاعتبار، ألم يكن التفكر والاعتبار سمتين من سمات المؤمن الصادق؟ أجل! وفيهما يقول الله تبارك وتعالى: ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
من هذا الآية الكريمة أخذ رضي الله عنه التفكر ، ومن قوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار اخذ الاعتبار.
ان الله تبارك وتعالى لم ينزل كتابه الكريم ليوضع على الأرفف فيتدكس عليه الغبار أو نعلقه كديكور لتزيين البيوت من حيطان ومكتبات وما الى ذلك، بل نزل كي يتدارسه المؤمنون ويتفكرون فيه ومنه يعتبروا، فيحللون حلاله ويحرمون حرامه ويحكمون به، ولأن أبا الدرداء رضي الله عنه ينظر الى كتاب الله تعالى تلك النظرة التي نزل القرآن لأجلها فقد أخذ على عاتقه حمل الرسالة جنبا الى جنب مع النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ يحض أصحابه الكرام رضي الله عنه على التأمل والتفكر، رافعا شعاره عاليا: تفكر ساعة خير من عبادة ليلة.
ان الرسالة العظيمة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لم تنزل ليأخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولو كان الأمر كذلك لاندثرت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولكنها رسالة أمانة معلقة في رقاب كل من يشهد بأنه لا اله الا الله وحده لا شريك له، وكلنا يجب أن نكون أهلا لحملها ندعو الناس الى عبادة الله تعالى الفرد الصمد على بصيرة، فعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قبل ان يعرض الله عزوجل الأمانة ( الطاعة، الفرائض) على آدم عليه الصلاة والسلام عرضها على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها وقال لآدم: اني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب ! وما فيها؟ قال: ان أحسنت جزيت، وان أسأت عوقبت، فأخذها آدم عليه السلام فحملها، وذلك قوله تعالى: وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا
اقرؤوا معي قوله تبارك وتعالى الذي ختم فيه سورة الأحزاب لماذا سبحانه وتعالى حمل الانسان هذه الأمانه:
انا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأ بين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان، انه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات، وكان الله غفورا رحيما
ان هذا االانسان الذي أمامنا (أبو الدرداء) كان قد سما في العلياء بعبادته لله الواحد القهار، ذلك أنه لم يرنو الى العبادة على أنها مجرد تكاليف تؤدى ومحظورات تترك، ولو كان الأمر كذلك لجمع بين تجارته وأعماله، ورغم أنه كان هناك في ذاك العالم الفسيح الأرجاء من تجار صادقين وصالحين وأنّ الكثير منهم من جمع في المجالين (العبادة والتجارة) وبرعوا فيهما وخدموا قضية الاسلام الخالدة وكفوا بأموالهم ذوي الحاجات الا أن منهجهم لم يغمز منهج أبو الدرداء ولا منهجه غمز منهجم رضي الله عنهم جميعا، فكلّ ميسّر لما خلق له. ولعل الملائكة الساجدين لعظمة الله تبارك وتعالى مذ خلقهم الى قيام الساعة لم يرفعوا رؤوسهم عن الأرض قط، ومع ذلك نجدهميقولون يوم القيامة حين يأذن الله لهم برفعها: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، لأجل هذا ترك أبو الدرداء تجارته ليتفرغ لعبادة الله وحده، وما تخصصه في البحث عن الحقيقة بممارسته لأقصى حالات التبتل الا وفق الايمان الذي هداه الله اليه ونمّاه فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بنعمة الاسلام، ولنا أن نسمي هذا الرجل ان شئنا بالعّباد وان شئنا بالمتصوف، ولكنه تصوّف رجل توافرت له فطنة المؤمن الحق،، ومقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، وما دمنا نتحدث عن التصوف والعبادة فانه يحضرني المقام هنا أن اذكر ما ورد عن رابعة العدوية رحمها الله العابدة المتصوفة رابعة والتي شحّ أمثالها ويكاد أن يكون مفقودا بين نساء هذا الزمان، زمان الماديات والوهن الذي أصابهنّ في مقتل، زمان الموبايلات والتجول في الأسواق دونما محرم، تعاولوا معا ننهل من نبع ايمان رابعة العدوية الصافي، لندرك معنى العبودية على حقيقتها كيف تكون،ها هي رحمها الله في احدى مناجاتها لله تبارك وتعالى، تناجيه مناجاة الحبيب لحبيبه بمنتهى الصدق والاخلاص والعبودية المطلقة لله تبارك وتعالى، عبودية ليس فيها طمعا بجنة ولا خوفا من نار، عبودية مطلقة لا تشوبها أية شائبة، فرحمك الله أيتها التقية المؤمنة، وأكثر الله أمثالك أيتها العابدة الزاهدة المتصوفة، تقول رحمها الله قولة تعجز نساء العالمين قاطبة في قولها، لماذا؟ لأنّ الرقيب رقيب ليس على كلماتها فحسب بل على قلبها الذي لم يطلع عليه الا العالم بلغة القلوب سبحانه وتعالى :
اللهم ان كنت أعبدك شوقا الى الجنة فاحرمني منها، وان كنت أعبدك خوفا من النار
فاحرقني بها، وان كنت أعبدك لأنك أنت الله، فلا تحرمني رؤية وجهك الكريم
لنعد الى العباد المتصوّف أبو الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه، لنعد الى أبو الدرداء الحكيم القديس، الى هذا الرجل الذي دفع الدنيا بكلتا راحتيه وبصدره وبكل ما أوتي من قوة لأجل أن يقهر نفسه ويتغلب عليها حتى اذا صقلها وزكاها غدت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة والصواب والخير ما جعله معلما عظيما وعبقريا يحذونا الأمل والشوق بأن نقترب من حكمته ونغرف من فلسفته تجاه الدنيا السراب وتجاه مباهجها وزخارفها الفانية لنجد كم قول الله تبارك وتعالى: ويل لكل همزة لمزة* الذي جمع مالا وعدده* يحسب أنّ ماله أخلده* كلا لينبذن في الحطمة* وما أدراك ما ا لحطمة* نار الله الموقدة* التي تطلع على الأفئدة* انها عليهم مؤصدة* في عمد ممدّدة. قد أثر فيه.
سورة عظيمة لخصت مصير كل من يهفو الى الثروة والثروات، كل من يجعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، ولو أنّ القرآن الكريم لا يحوي هذه السورة في حديثه عن شر المال وجمعه لكفتنا، لأجل ذلك تأثر بها أبو الدرداء رضي الله عنه وعادى كل صاحب ثروة ألهته عن ذكر الله تعالى، حاملا على عاتقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: انّ ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وقوله صلى الله عليه وسلم: تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت أكبر همّه فرق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة أكبر همّه،جمع شمله وجعل عيناه في قلبه، وكان الله اليه في كل خير أسرع.
لأجل ذلك كان رضي الله عنه يرثي أولئك الذين وقفوا أسرى طموح الثروة، وتعوذ بالله العظيم قائلا: اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب، وحين سئل عن شتات القلب، أجاب رضي الله عنه: أن يكون لي في كل واد مال.
انظروا الى هذا الحكيم القديس الذي يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها في آن واحد، ويعتبر أن الامتلاك الحقيقي للثروة هو استغلالها بما يرضي الله، أما الجري وراء أطماعها التي لا تنتهي فذلك شر ألوان العبودية والرق، لذا كان رضي الله عنه يقول: من لم يكن غنيا عن الدنيا فلا دنيا له.
لماذا قال رضي الله عنه كل هذا؟ لأنّ المال عنده كان وسيلة وليس غاية، وسيلةللعيش القنوع وحياة الكفاف لا غاية لوجوده وتكديسه وجمعه وعدّه، ومن ثم موته وتركه خلفه وبالتالي سؤاله عنه يوم القيامة ومن ثمّ عذابه به، لأنه مؤمن بالقناعة على أنها كنز لا يفنى، ومؤمن بقليل يكفيه على كثير يطغيه، قليل يؤدي شكره لا كثير لا يطيقه، وكان كثيرا رضي الله عنه ما يوصي أخلاؤه: لا تأكلوا الا طيّبا، ولا تكسبوا الا طيّبا، ولا تدخلو بيوتكم الا طيّبا.
حتى انه ذات يوم كتب الى صاحب له هذه الموعظة التي تقول: أما بعد.... فلست في شيء في عرض الدنيا الا وقد كان لغيرك قبلك، وهو صا ئر لغيرك بعدك، وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك، فأثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين: اما ولد صالح يعمل منه بطاعة الله فيسعد بما شقيت به، واما ولد عاص يعمل بمعصية الله فتشقى بما جمعت له.
كانت الدنيا كلها في عينيه مجرد عا رية، لقد كان يخشى على المسلمين أياما تنحل فيها عرى الايمان، وتضعف من روابطهم بالله وبالحق وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم بنفس السهولة التي انتقلت بها اليهم، ولعل هذه الأيام التي نعيشها هي تلك الأيام التي كان يخشاها على المسلمين رضي الله عنه.
قوة يقينه بالله تبارك وتعالى
وكما كانت الدنيا كلها مجرد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا في حياة أروع وأبقى، ويقينه بالله لا يحده حد، وما كان يمليه عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن به دون نقاش، وكيف لأبو الدرداء ألا يؤمن ويقوي يقينه بالله تبارك وتعالى وهو يتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار: انه لقول رسول كريم* وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون* ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون* تنزيل من رب العالمين.
ذات يوم جاءه رجل فقال له ان بيتك قد احترق، فقال له رضي الله عنه ثقة المتيقن والواثق بالله تعالى: ما احترق، وجاءه ثان وقال له: ان بيتك يحترق، فأجابه رضي الله عنه بنفس الثقة العالية بالله تعالى: ما احترق، فجاءه ثالث وقال له: انّ النار قد انبعثت حتى اذا انتهت الى دارك انطفأت، فقال رضي الله عنه: ذلك أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات، من يقولهن حين يصبح وحين يمسي لا تصبه مصيبة أبدا فتعلمونهنّ:
اللهم أنت ربي لا اله الا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش الكريم، ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، أعلم أنّ الله على كل شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكل شيء علما، اللهم اني أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شرّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها انّ ربي على صراط مستقيم.
وكان رضي الله عنه يقول: احذروا امرىء تبغضه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، فذروة الايمان الصبرللحكم، والرضا بالقدر، والاخلاص في التوكل، والاستسلام للرب عزوجل،
ذات يوم دخل عليه أصحابه عليه رضي الله عنهم يعودونه في مرض قد ألمّ به، فوجدوه نائما على فراش من جلد، فقالوا: لو شئت كان لك فراشا أطيب وأنعم، فأجابهم وهو يشير بسبابته وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
أن دارنا هناك، لها نجمع واليها نرجع، لها نظعن، ولها نعمل.
لم تكن نظرته رضي الله عنه الى الدنيا بسخافتها وجهة نظر فحسب، بل كانت منهجا وسلوكا.
لقد وهبه الله العمر الطويل رضي الله عنه، وخير بني آدم من طال عمره وحسن عمله.
لقد عاصر رضي الله عنه حكم العصر الأموي، وعندما تقدّم يزيد بن معاوية خاطبا ابنته الوحيدة الدرداء ردّه ولم يقبل به زوجا لابنته، وعندما تقدّم لها أحد فقراء المسلمين وصالحهم، زوجّها اياه بدون تردد، فتعجّب الناس من صنيعه ذاك، ولم ينتظر رضي الله عنه سؤالهم اياه لم فعلت ذلك، بل قال: ما ظنكم بالدرداء اذا قام على رأسها الخدم والخصيان، وبهرها زخرف القصور؟ أين دينها منها يومئذ؟
أجل يا أبا الدرداء! هو ما تقوله ياحكيم وفيلسوف الاسلام الأول، وما قاله رضي الله عنه وربي ينطق بالحكمة والموعظة، وانه لبحق قويم النفس، ذكي الفؤاد، وبتصرفه هذا لا يهرب من السعادة قط، بل انه يمتلكها وبحق، ويفر بها الى سعادة الدارين الدنيا والآخرة معا.
ذلك أنه كلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال، كلما أدركوا حقيقة الدنيا، فالدنيا ممر، والشرع يأمرنا أن نتزود من الممر للمقر، وخير الزاد تقوى الله تبارك وتعالى.
انّ قمة السعادة للعبد الصالح الذي يكون قلبه معلق بالآخرة هو ما ينتهجه أبو الدرداء رضي الله عنه، ومن سار على خطى من رباه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين باعوا دنياهم بآخرتهم، واشترواآخرتهم بدنياهم.
ولو نظرنا الى حقيقة الدنيا لوجدناها كجسر أو ممر نعبر منه وعليه للآخرة، الى دار القرار دار الخلد، والخلد هو احدى طريقين: اما نار واما جنة، واللبيب من يختار، فقمة السعادة لن تتأتى لا من مال كثير، ولا من ولدان وقصور وعروش، فليس الخير في كثرة المال والولد، وانما الخير كل الخير أن يعظم الحلم، ويكثر العمل، وتتبارى النفس في عبادة الله تبارك وتعالى.
هؤلاء هم المخلصون في العبادة، هؤلاء هم الذين يحبون الله تبارك وتعالى بصدق واخلاص، هؤلاء هم الذين يرنون للآخرة وبشوق، هؤلاء هم الذين طلقوا الدنيا ثلاثا طلاقا بائنا لا رجعة فيه، هؤلاء وليس نحن من يغادر النوم فراشنا الا ونحن نحصي ونعد أرصدتنا في البنوك وكأننا نعيش لدنيا هي بنظرنا دنيا الخلود متجاهلين قوله تبارك وتعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزاناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح
وقوله صلى الله عليه وسلم: ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما ترك على ظهرها من دابة، وفي رواية: ما سقى منها كافر شربة ماء.
من يشتري تركة عاد بدرهمين؟
نعود الى فيلسوفنا الأول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، ولنرى ماذا صنع أثناء خلافة عثمان رضي الله عنهما، لقد كان معاوية بن أبي سفيان أثناء خلافة عثمان رضي الله عنهم أميرا على الشام، وأبو الدرداء رضي الله عنه كان يتولى القضاء فيها، وهناك وقف أبو الدرداء لمعاوية رضي الله عنهما ولكل الذين أغرتهم مباهج الدنيا بالمرصاد ، وراح يذكّر بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته وزهده وجوعه، وعزوفه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا، من باب أن يكون لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وراح يذكر بمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصديقين، والشام يومئذ تموج بالمباهج والنعيم، وكان أهلها قد أحدثوا كثيرا في أمر دينهم ودنياهم ، فجمعهم رضي الله عنه في غوطة دمشق ( 7 أميال عن دمشق) وقام فيهم خطيبا فقال:
يا اهل الشام! أنتم الأخوان في الدين والجيران، في الدار والأنصار على الأعداء، ولكن مالي أراكم لا تستحيون؟ تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وترجون مالا تبلغون، وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، فكان جمعهم بورا، وآمالهم غرورا، وبيوتهم قبورا، أولئك قوم عاد ملئوا ما بين عدن الى عمّان أموالا وأولادا.
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة ساخرة ولوّح بذراعه للجمع من حوله، وصاح في سخرية لافحة:
من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟
انك حقا لرجل باهر يا أبا الدرداء! رائع مضيء بحكمتك، مؤمن باحساسك ومشاعرك، ورع بمنطقك السديد ونظرتك الثاقبة الرشيدة، ولكم نحتاج الى أمثالك في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة على كل شيء في حياتنا أيها الجبل الأشم، كم نحن بحاجة اليك كي تعلم الطامعين اللاهثين وراء سراب لا يسمن ولا يغني من جوع أنّ الدنيا فانية، انها دار من لادار له، ولها يجمع من لا عقل له، دار ممر مؤقت نعبر منها الى دار مقر خالد أبدي سرمدي، كي تنصح الذين يجمعون المال من حله وحرامه دون مبالاة حتى باتوا لا يفرقون مالهم الحرام من الحلال، كي تعلمهم بأن الدنيا دار لمن لا دار له، ولها يجمع ما لا عقل له.
كي تعلمهم أنّ العبادة ليست غرورا ولا تأليا، بل التماسا للخير، وتعرّض لرحمات الله، وضراعة دائمة تذكر الانسان بضعفه وبفضل ربه وخالقه عليه، وهذا ما أكده أبو الدرداء رضي الله عنه حين قدّم نصائحه لأمته فقال: التمسوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فانّ لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يسترعوراتكم، ويؤمّن روعاتكم، ومثقال ذرة من بر صاحب تقوى ويقين، خير وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغرورين.
مرّ أبو الدرداء رضي الله عنه يوما على رجل قد أصاب ذنبا والناسيسبونه فنهاهم عن ذلك وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة ألم تكونوا مخرجيه؟ قالوا: بلى! قال رضي الله عنه: فلا تسبّوه، واحمدوا الله أن عافاكم، قالوا: أنبغضه؟قال رضي الله عنه: انما ابغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي.
حبه للعلم
كان رضي الله عنه يقدّس العلم تقديسا بعيدا، يقدسه كعابد، ويقدسه كحليم. وكان دائما يقول: الناس ثلاثة: عالم وممتعلم والثالث همج لا خير فيه، واني لأخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر هل علمت؟ فأقول: نعم! فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت؟ وكان كثيرا ما يدعو الله قائلا: اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء، قيل له: وكيف تلعنك قلوبهم؟ قال رضي الله عنه: تكرهني.
من أقواله وحكمه
* معاتبك اخيك خير لك من فقده، أعط أخاك ولن له، وكيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة وما كنت أديت حقه، اني أبغض أن أظلم أحدا، وأبغض أكثر وأكثر أن أظلم من يستعين عليّ الا بالله العلي القدير.
* اني أخاف عليكم شهوة خفيّة في نعمة ملهيّة، وذلك حين تشبعون من الطعام وتجوعون من العلم، انّ خيركم الذي يقول لصاحبه: اذهب بنا نصوم قبل أن نموت، وانّ شراركم الذي يقول لصاحبه: اذهب بنا نأكل ونشرب ونلهو قبل أن نموت، واني لأحب ثلاثة أشياء الناس كلها تكرهها، أحب الفقر والمرض والموت، أما الفقر فهو تواضعا لربي، وأما المرض فهو تكفيرا لخطيئتي، واما الموت فهو اشتياقا الى ربي.
* اثنتين وثلاثة وأربعا وخمسا: من عمل بهن كان ثوابه على الله عزوجل الدرجات العلى، لاتأكل الا طيبا، ولا تكسب الا طيبا، ولا تدخل بيتك الا طيبا، وسل الله عزوجل أن يرزقك يوما بيوم،واذا أصبحت فاعدد نفسك من الأموات أو كأنك لحقت بهم ، وهب عرضك لله عزوجل: فمن سابك أو شتمك أو قاتلك فدعه لله عزوجل، واذا أسات فاستغفر الله عزوجل.
* يا أخي اجعل بيت الله بيتك فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المسجد بيت كل تقي، وقد ضمن الله عزوجل لمن كانت المساجد بيوتهم بالرواح والراحة، فاز بجوازه على الصراط الى رضوان الله عزوجل، ويا أخي: ارحم اليتيم وادنه منك وأطعمه طعامك، فاني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ادن اليتيم منك وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فان ذلك يليّن قلبك، ويقدرك على حاجتك، واعمل بطاعة الله، فانّ العبد اذا عمل بطاعة الله أحبه، واذا أحبه حبّب عباده فيه، واياك من معصية الله، فانّ العبد اذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، واذا أبغضه بغضه الى خلقه.
هذا هو أبو الدرداء رضي الله عنه الحكيم الزاهد العابد الأوّاب، هذا أبو الدرداء الذي كان يجيب في تواضع وثيق، وكلما أطرته الناس وسألوه الدعاء قال: لا أحسن السباحة وأخشى الغرق.
اذا كنت مع كل ما قرأناه عن أبو الدرداء ولم يحسن العوم ويخشى الغرق، اذن فما نحن صانعين بأنفسنا؟ فما نحن صانعين؟
رضي الله عنك وأرضاك، وصلى الله وسلم على من رباك.
3- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه
2- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه
من فاز بشرف ضيافة النبي صلى الله عليه وسلم
هو خالد بن زيد بن كليب من بني النجار، وقد رفع الله من شأنه وذكره بأن اختار بيته من دون بيوتات المسلمين في المدينة ليكون أو منزل يقيم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد دخوله المدينة مهاجرا اليها من مكة.
فوزه بشرف الضيافة
بعدما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قادما من مكة مهاجرا اليها تلقوه أهلها بالترحاب، فتلقته قلوب أهلها بأكرم ما يتلقى به وافد، وتعلقت اليه عيونهم تبثه أشواق الحبيب لحبيبه، فتحوا له قلوبهم وشرّعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعزّ منزل، وفور دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة راكبا ناقته هرع حوله كل سادات يثرب لعل واحدا منهم يحظى بشرف نزول النبي صلى الله عليه وسلم ليحل ضيفا عنده، الا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لهم قائلا: اتركوها فانها مأمورة، وتظل الناقة ماضية في طريقها الى غايتها والعيون كلها تتبعها وتتبع أثرها لترى من سيكون سعيد الحظ الذي سيحظى بهذا الشرف العظيم، حتى اذا بلغت ساحة أمام دار أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بركت عنده، عند ذلك غمرت الفرحة قلب أبو أيوب رضي الله عنه، وبادر يرحب برسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمل متاعه وكأنه يحمل كنوز العالم قاطبة، ومضى به الى بيته المؤلف من دورين، ليختار النبي صلى الله عليه وسلم الدورالأرضي كي لا يشق على أبو ايوب، الا أنّ أبو أيوب لم يكن ليسعد باختيار النبي صلى الله عليه وسلم للدور الأرضي، لماذا؟ لأنه لم يكن ليتصوّر أبدا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، قائما يصلي أو حتى نائما وهو يعلوه في السكنى، وظل يلح على النبي صلى الله عليه وسلم لينتقل الى الدور الثاني ولم يطمئن قلب أبو أيوب ويطمئن باله حتى حظي بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل اليه.
سبعة أشهر كاملة والرسول صلى الله عليه وسلم في ضيافة أبو أيوب رضي الله عنه، حتى اذا اكتمل بناء مسجده الشريف ومن حوله حجراته انتقل اليها صلى الله عليه وسلم مع نساءه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
حبه للجهاد رضي الله عنه
منذ بدأت قريش تتذمر من الاسلام وتشن غاراتها على دار الهجرة بالمدينة المنورة، وتؤلب القبائل وتجيّش الجيوش محاولة اطفاء نور الحق، وأبو أيوب رضي الله عنه يحترف صناعة الجهاد في سبيل الله تعالى، ففي بدر وأحد والخندق، وفي كل المغازي والمشاهد، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله رب العالمين.
موقفه من فتنة على ومعاوية رضي الله عنهم
ولما وقع الخلاف بين الامام علي ومعاوية بن أبي سفيان، وقف أبو أيوب مع علي دون تردد، ولما قتل الامام علي وانتهت الخلافة لمعاوية ، وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يصل له مكان فوق أرض الوغى، وراح يبحث عن استشهاد عظيم وجنة عرضها السموات والأرض.
وفاته رضي الله عنه
وكان له ما أراد، فعندما نادى مناد الجهاد أن حيّ على الجهاد صوب القسطنطينية بقيادة يزيد بن معاوية، ركب أبو أيوب رضي الله عنه ابن الثمانين عاما فرسه ولبى النداء، وفي هذه المعركة أصيب اصابة قاتلة، فيعوده يزيد بن معاوية قائد جيش المسلمين وأنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله، فسأله القائد: ما حاجتك يا أبا أيوب؟ أجابه وهويجود بروحه الطاهرة شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان، لقد كان طلبه رضي الله عنه: اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، الى أبعد غاية، وان يحملوه معهم ويدفنوه تحت أقدامهم عند أسوار القسطنطينية، رغبة منه في أن يسمع صوت حوافر خيول المسلمين فوق قبره، فيدرك ساعتئذ أن جيش المسلمين قد أدرك النصر، ويلفظ رضي الله عنه أنفاسه الأخيرة الطاهرة، وينجز يزيد وصية أبو أيوب رضي الله عنهما فيحملوه على ظهور جيادهم، حتى اذا بلغوا أسوار القسطنطينية حفروا له قبرا وواروه الثرى.
في قلب القسطنطينية (اسطنبول اليوم) ووري جثمان رجل عظيم، وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان الروم أنفسهم ينظرون الى أبي أيوب رضي الله عنه في قبره نظرتهم الى قدّيس.
وقد ذكر المؤرخون الذين يدونون الوقائع التاريخية أن الروم كانوا يتعاهدون قبره رضي الله عنه، ويزورونه ويستسقون به اذا قحطوا.
اذهبوا بجثماني بعيدا بعيدا في أرض الروم وادفنوني هناك، كان رضي الله عنه يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضياءه، ومن ثم أراد أن يكون مثواه هناك في عاصمة تلك البلاد حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع أن يتابع المعركة من تحت ثراه الطيب، ويتابع زحف جيوش الاسلام في زحفها فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصلصلة سيوفها، وها هو اليوم لثاو أبو أيوب رضي الله عنه هناك لا يسمع لا صلصلة سيوف، ولا صهيل خيول، فقد قضي الأمر واستوى كل شيء على الجودي منذ أمد بعيد، لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مساءه صوت الحق يعلو من فوق المآذن المشرعة في الأفق، روعة الآذان الله أكبر ألله أكبر أشهد أن لا اله الا الله أشهد ان محمدا رسول، وتجيب روحه المطمئنة في دار خلدها وسنا مجدها هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله العظيم ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
رضي الله عن أبو أيوب وعن صحبه وصلى الله وسلم وبارك على من رباهم.
3- أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه
ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه بالرضاعة
من سأتحدث عنه الآن ليس أبو سفيان بن حرب زعيم الشرك والمشركين قبل فتح مكة، وليس الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن، وانما ضيفنا هو أبو سفيان ابن الحارث عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخوه في الرضاعة.
عشرين عاما من الضلال والعداوة للاسلام والكراهية قضاها هذا الصحابي الجليل قبل أن يأذن الله له بالهداية، وعلى الرغم من أنه رؤيته للملائكة عليهم السلام تقاتل مع المسلمين في غزوة بدر،الا انه لم يهتدي قلبه الى نور الله عزوجل في تلك الأيام، وبقي يعادي الاسلام والمسلمين ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم الى ما قبل فتح مكة بقليل،و بالرغم من أنّ أخوته الثلاثة نوفل وربيعة وعبد الله أبناء الحارث رضي الله عنهم قد سبقوه الى دين الحق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لشدة عداءه للاسلام والمسلمين، ولكثرة ما حمل سيفه ولسانه ضد الاسلام، وهذا أبلغ دليل على أنّ القرابة مهما كانت حميمة يجب أن توضع جانبا أمام الحق ويداس عليها بالأقدام ان لم تكن تناصر الحق.
اسلامه رضي الله عنه
وصدق الله العظيم القائل: لا تهدي من أحببت ان الله يهدي من يشاء
فذات يوم وقبل فتح مكة بقليل قادته الأقدار رضي الله عنه لمصيره السعيد، فنادى ولده جعفر وقال لأهله أنه مسافر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسلم لله رب العالمين، وعندما وصل الى مشارف المدينة بدأت الهواجس والأفكار تنتابه فقال: ماذا أفعل والرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمي؟ وكيف أدخل عليه دون أن يمسني اي من المسلمين بأي سوء؟ فهداه عقله أن يدخل المدينة متخفيا ومتنكرا كي لا يعرفه أحد، فأخفى معالمه وأخذ بيد ابنه الصغير وسار مشيا على قدميه حتى اذا أبصرالنبي صلى الله عليه وسلم قادما النبي الله صلى الله عليه وسلم، وما أن عرفه حتى حوّل وجهه عنه، حتى اذا جاءه أبو سفيان من الناحية الأخرى أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجد منفذا له صاح بها وأعلنها أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأمام الملأ من حوله شهادة صدق وحق: أشهد أن لا اله الا الله وأنّ محمد رسول الله، ومن ثم اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: لا تثريب يا رسول الله! فأجابه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: لا تثريب يا أبا سفيان، ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: علم ابن عمك الوضوء والسنة، ومن ثم نادى علي رضي الله عنه بالناس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي عن ابا سفيان فارضوا عنه. وهكذا ينهض الهدى بكل معانيه ليعانق هذا الصحابي الجليل لينقله نقلة كبيرة من الكراهية الى الحب، ومن الضلال الى الهدى، ومن الشقاء الى السعادة، ومن النقمة الى الرحمة الواسعة، فيفتح الرسول صلى الله عليه وسلم صدره للاجىء ألقى نفسه بين يدي الله تعالى بعد أن أعياه طول السفر وتعبه ومشقته ليرتاح بجسده المتهالك على فراش وثير يغمره الايمان بأبهى صوره ونوره الذي لا يخبو من صدور مؤمنين رضوا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وآمنوا بالنور الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
لحظة من زمن يقول الله تبارك وتعالى فيها كوني فتكون باذنه تبارك وتعالى، وتطوي الضلال والشقوة وتفتح لها ابواب الرحمة بلا حدود.
لقد ابلى رضي الله عنه بلاء حسنا يوم حنين حين نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا، فانقضوا عليهم من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيوش المسلمة، على أثرها فرّ أكثر أجناده الأدبار، والرسول صلى الله عليه وسلم ينادي على أصحابه أن يثبتوا قائلا لهم: أيها الناس أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، في تلك اللحظة الرهيبة هبّ أبو سفيان وولده جعفر رضي الله عنهما، ليدرك فرصته التي طالما بحث عنها وهي الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراح يتشبث بمقود فرسه بيسراه، ويرسل السيف نحو المشركين بيمناه، ، والشهادة تتراءى له وتلوح أمامه في الأفق، لقد أهلت تلك الفرصة ليقضي نحبه شهيدا فتغسل كل ذنب اقترفه، ونظر اليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: اخي ابا سفيان بن الحارث، وما كاد أبو سفيان يسمع كلمة أخي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طار فؤاده من بين جوانحه فرحا وحبورا وسرورا، فأكبّ على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلهما ويغسلهما بدموعه، وتحركت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من الشجاعة، مما جعل المسلمون يعودون الى مكان المعركة حتى انتهت.
ورحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان تتعلق روحه بالموت ليلحق بأخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة، وعاش ما شاء الله له أن يعيش والموت أمنية حياته.
وفاته رضي الله عنه
ذات يوم شاهده الناس يحفر لحدا في البقيع ويسويه ويهيئه، ولما أبدوا دهشتهم قال لهم: اني أعد قبري بنفسي، وبعد ثلاثة أيام لا رابع لهم كان راقدا في بيته وأهله من حوله يبكون، فتح عينيه عليهم بكل الأمن والطمأنينة، وقال: لا تبكوا عليّ فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت، وقبل أن يحني رأسه على صدره لوّح برأسه الى أعلى ملقيا على الدنيا تحية الوداع.
فرضي الله عنه وأرضاه وصحبه وصلى الله وسلم على من رباهم.
4- أبيّ بن كعب رضي الله عنه
سيّد المسلمين الصحابي الذي سمع صوت جبريل عليه السلام
هو أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدرا وبقية المشاهد.
سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله اعظم؟
أجاب رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم.
وعندما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السؤال، اجابه: الله لا اله الا هو الحي القيوم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده وقال له والغبطة تتألق محياه الشريف صلى الله عليه وسلم: ليهنك العلم أبا المنذر.
لقد بلغ رضي الله عنه منزلة رفيعة ومكانة عالية في العلم والمعرفة مما جعل الفاروق عمر رضي الله عنه يلقبه بسيد المسلمين حين قال: أبيّ سيد المسلمين.
سماعه لصوت جبريل عليه السلام؟
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبي بن كعب رضي الله عنه: لأدخلن المسجد، ولأصلينّ ولأحمدنّ الله بمحامد لم يحمده بها أحد، فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثني عليه واذ يسمع من خلفه صوتا عاليا يقول: الحمد لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، واليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد انك على كل شيء قدير، اغفر لي ما مضى من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني أعمالا زاكية، ترضى بها عني، وتب علي.
فلما حدّث رسول صلى الله عليه وسلم به، قال له: ذاك جبريل عليه السلام.
ذكره رضي الله عنه في الملأ الأعلى
قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب، ان الله أمرني أن أقرأ عليك هذا الآية: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة
فقال له أبيّ رضي الله عنه: أسمّاني لك الله يا رسول الله؟ أي أقال لك الله اقرأ هذه الآية على أبيّ؟ أم قال لك اقرأها على أحد أصحابك وأنت اخترتني من بينهم؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: بل سمّاك يا أبيّ.
عندها لم يتمالك نفسه رضي الله عنه وبكى.
لقد كان أبي رضي الله عنه في طليعة كتاب الوحي عليه السلام وكتابة الرسائل، ومادام من كتاب الوحي ،فحتما هو من حفظة القرآن الكريم، ومن مرتليه ومن شارحي معانيه، وكان في ذلك من المتفوقين البارعين، وذات يوم قال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبيّ اني أمرت أن أعرض عليك القرآن، هنالك سأل النبي صلى الله عليه وسلم في نشوة عارمة وعامرة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي! هل ذكرت لك باسمي؟ أجابه صلى الله عليه وسلم: نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى.
لا يخاف في الله لومة لائم رضي الله عنه
وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى، وارتداد بعض المسلمين عن دينهم، وتبدّل أحوال المسلمين فيما بينهم، وقف رضي الله عنه في أصحابه هاتفا يقول: لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة، فلما فارقنا عليه الصلاة والسلام اختلفت وجوهنا يمينا وشمالا.
ورغم كل ما حصل من مستجدات وفتن بقي متمسكا بدينه وقابضا عليه كالقابض على جمرة من نار، متمسكا بالورع والتقوى، معتصما بالزهد، لم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه، ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها.
لقد كان اذا تحدّث في الناس اشرأبت اليه الأعناق واستشرفته الأسماع في شوق عظيم ليس لسلاسة حديثه فحسب، بل ولأنه كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم.
وحين اتسعت رقعة بلاد الاسلام ورأى رضي الله عنه المسلمون يجادلون في غير حق، وقف يرسل كلماته المنذرة: هلكوا ورب الكعبة..هلكوا وأهلكوا... أما اني لا آسى عليهم ، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
كان أكثر ما يخشاه رضي الله عنه على أمة الاسلام أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبناءها بينهم شديدا، ولقد كان كثيرا ما يسأل الله العافية فيما بقي من عمره، ولقد أدركها رضي الله عنه بفضل من الله تعالى ونعمته، ولقي ربه وهو مؤمنا مطمئنا.
فرضي الله عنه وعن صحبه وصلى الله وسلم على من رباهم.
5- أسامة بن زيد رضي الله عنهما
ابن حبّ حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو ابن زيد بن الحارثة رضي الله عنهما، ابن حب حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه برا بواليه الى أبعد الحدود.
وهو أحد رواة الحديث شاأنه شأن أبو هريرة وعبدالله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
في عهد عثمان رضي الله عنه بلغ ثمن النخلة الواحدة ألف درهم، فعمد أسامة رضي الله عنه الى نخلة فنقرها وأخرج جمارها ( قلبها) وأطعمها أمه، فسألوه: ما حملك على فهل هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ أجاب: انّ أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه الا أعطيتها اياه.
فرضي الله عن أسامة وعن صحبه وصلى الله وسلم على من رباهم.
6- أنس بن مالك رضي الله عنه
خادم النبي صلى الله عليه وسلم وآخر صحابته وفاة
هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه الرميصاء احدى المبشرات بالجنة وتكنى بم سليم امرأة طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة، كانت أمه قد أخذته الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، ليقوم على خدمته صلى الله عليه وسلم، وقالت يومها: يا رسول الله ! هذا أنس غلامك يخدمك فادع الله له، فقبّله النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه ودعا له دعوة بقيت تلازمه طيلة حياته الطويلة بالخيروالبركة: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له وأدخله الجنة، ويستجيب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم ويرزقه الله الولد الكثير من البنين والحفدة ما شاء الله، ويطيل في عمره ليعيش 99 عاما من عمره المبارك، ليعاصر الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، كما أعطاه الله تبارك وتعالى الرزق الواسع بستانا رحبا ممراعا يطرح الفاكهة في العام مرتين، هذا عدا عن أنه بات عالما وفقيها في الدين ومن أكفأ رواة أحاديثه صلى الله عليه وسلم.
وفاته رضي الله عنه:
توفي رضي الله عنه في المدينة في العام ال 91 هجرية، ويعتبر أنس بن مالك آخر صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاة، وقد عاصر خامس الخلفاء الراشدين عمربن عبد العزيز رضي الله عنه وصلى أنس خلفه وهو لا يزال غلاما يتلقى علومه في الكوفة.
ولوأننا اكتفينا بهذه الكلمات عن رجل كأنس بن مالك رضي الله عنه، لقلنا خير الكلام ما قلّ ودلّ.
فرضي الله عنك أرضاك وصلى الله وسلم على من ربّاك.
7- البراء بن مالك رضي الله عنه
عاشق الموت والمستجاب الدعوة
هو شقيق الصحابي الجليل أنس بن مالك.
من أراد أن ينظر الى رجل مستجاب الدعوة أورجلا يعشق الموت وييحث عنه ولا يجده فليتابع معنا قصة هذا البطل الأسطورة الذي سطر أعظم ملحمة بطولية في تاريخ الاسلام المجيد.
انه البراء بن ماك شقيق الصحابي الجليل أنس بن مالك أخر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وفاة.
انه ابن أم سليم (الرميصاء) صاحبة أغلى مهر في الاسلام واحدى المبشرات بالجنة رضي الله عنهم.
من كان يراه رضي الله عنه وهو في ساحة الشرف يقاتل في سبيل الله كان يرى العجب العجاب في بسالته وشجاعته، ذلك أنّ أحد نا اذا أراد أن يقاتل عدوه يبحث أول ما يبحث عن النصر وعن حرصه على الحياة، لكن البراء رضي الله عنه كان شيئا مختلفا عن كل المقاتلين، ما رنا للنصر يوما، وانما كان دائما يرنوا الى نيل الشهادة في سبيل الله ، كان كل همه أن يقضي نحبه فوق أرض معركة من معارك الاسلام المجيدة، لقد كان واثقا بربه كل الثقة أنه سبحانه وتعالى سيمنحه اياها، وهذا ما تجلى حين أصيب في بعض المعارك التي خاضها، كان يعتقد أصحابه انها اصابة الموت، الا أنه كان يقول لهم دوما: أنه يثق بربه بأنه سيموت شهيدا، هذا هو حدس المؤمن الصادق الواثق بالله كل الثقة.
لأجل هذا الهدف كان جسورا مقداما شجاعا لا يهاب الموت، كيف يهاب الموت؟ وهو الذي يبحث عنه، ولأجل بحثه الدؤوب عن الموت لا عن النصر كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يبعده عن قيادة أي جيش، ذلك أنّ القادة يجب أن يبحثون أول ما يبحثون عن النصر، ولذا كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يجد في البراء رضي الله عنه أنه لا يصلح لقيادة جيش أبدا.
ويوم اليمامة وجيوش الاسلام تتهيأ للنزال وقف البراء رضي الله عنه وعيناه الثاقبتان كالصقر تتحركان بسرعة فوق أرض المعركة كلها وكأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل.
وبحد سيفه البتار والماحق كان هناك حصاد كثير يتساقط من دعاة الظلام والباطل ، من المشركين والمرتدين.
وبمجرد أن نادى خالد بن الوليد رضي الله عنه: الله أكبر، تنطلق الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وينطلق عاشق الموت البراء رضي الله عنه، وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه الماحق، وأمامه يتساقط المشركين والمرتدين تساقط أوراق الخريف الصفراء تحت وميض بأسه، لم يكن جيش مسيلمة هزيلا ولا قليلا، بل كان من أخطر جيوش الردة جميعا، وقد ردوا على هجوم المسلمين بانطلاق خطباءهم وزعماءهم يلقون الخطب الحماسية من فوق صهوات جيادهم كي يثبتوا جنودهم، ولأنّ البراء رضي الله عنه جميل الصوت جهوره، فقد ناداه القائد خالد رضي الله عنه وقال له: تكلم يا براء، فيصيح رضي الله عنه بكلمات تزلزل أرض ساحة المعركة، وتتأهب بصدق الحديث وقوته: يا أهل المدينة! لا مدينة لكم اليوم، انما هو الله والجنة.
نعم يا براء! في هذه المواطن لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر سوى ذكر الله، حتى وان كانت المدينة عاصمة الاسلام، فما الفائدة المرجوة منها ان هي وقعت تحت أيدي المرتدين والكفرة الملحدين؟ لا يجب على أحد ان يفكر في المدينة، لأنهم اذا هزموا فلن تكون هناك مدينة منوّرة، ولا عاصمة للاسلام، وانما عاصمة الشرك والكفر، وتسري كلمات البراء رضي الله عنه بين قلوب المسلمين المقاتلين المخلصين الشجعان والبواسل، سريان الاعصار الذي يجرف كل شيء من حوله، واستبسل المسلمون أيما استبسال، والمشركون يتساقطون أمامهم في حضيض هزيمة نكراء، ويتمكن المسلمون من دحر أنصار مسيلمة، مما يجعلهم يندفعون الى الوراء هاربين ليلوذوا الى حديقة كبيرة عالية الأسوار يحتمون بها، وهنا علا البراء رضي الله عنه ربوة عالية وصاح: يا معشر المسلمين! احملوني على متاريسكم وألقوني في حديقتهم لأفتح لكم بابها، وللكن الصنديد البطل لم ينتظر لأن يحمله أصحابه على رماحهم ومتارسهم فيعتلي جدار الحديقة ويلقي بنفسه داخلها ويفتح بابها ليقتحمه جند الاسلام، وبهذا العمل البطولي الرائع يظفر المسلمين بقتل زعيم الكفر والضلال - مسيلمة الكذاب- وبمقتله يتزلزل أقدام جنوده فيفرون من ساحة المعركة مولين الأدبار، ليحقق جيش الاسلام النصر المؤزر على كل من طغى وتجبّر.
ان شروط النصر أربعة لا خامس لها: اقامة صلاة وايتاء زكاة وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وباختلال شرط منها يتأخر النصر حتى يستوفى، وهذا ما تجلى في قوله عزوجل:
ولينصرنّ الله من ينصره، انّ الله لقوي عزيز* الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
لأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه رضي الله عنهم بما معناه: ما تقولون اذا طغى شبابكم وفسدت فتياتكم؟ قالوا: أو كائن ذلك يومئذ يا رسول الله؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: وأشد من ذلك سيكون، ثم قال: ما تقولون اذا لم تأمرون بالمعروف ولم تنهون عن المنكر؟ قالوا: أو كا ئن هذا يومئذ يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: وأشد من ذلك سيكون، ثم قال: وما تقولون اذا نهيتم عن المعروف وأمرتم بالمنكر؟ قالوا: أو كائن هذا يومئذ يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لتأتين على الأمة فتنة تجعل الحليم منهم حيران.
وأعود من جديد الى عاشق الموت والذي نجده لا يزال دؤوبا في البحث عن الموت، ينطلق الى معركة أخرى من حروب العراق، حيث لجا جيش الفرس في قتال المسلمين بكل وحشية دنيئة يستطيعونها للنيل منهم، واستعملوا كلاليب من نار مثبته في أطراف سلاسل محماة بالنار، يلقونها على حصون المسلمين، فاذا علق أحد كلابها بمسلم، فتصرعه حرقا لعدم تمكنه من الفكاك منها فيهلك بها، وتسقط أحد هذه الكلا ليب فجأة لتعلق بأنس رضي الله عنه، ولا يستطيع الفكاك من السلسة التي تتوهج لهيبا ونارا مستعرة، ويبصر الفدائي البطل البراء رضي الله عنه حال أخيه، فيصعد على سطح جدار الحصن، وبكلتا يديه يقبض على السلسلة المتوهجة، ويروح يعالجها في بأس شديد، حتى اذا قسمها وقطعها يكون اللحم قد ذاب من على كفيه لتغدوان هيكلا عظميا محترقا.
وبلغ عاشق الموت داره
أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته ويحقق الهدف المنشود الذي سعى له طول حياته؟ نعم ها هي الروح تتهيأ للصعود الى بارئها في عرس الشهادة التي طالما انتظرها، ففي موقعة تستر، حيث أهل الأهواز والفرس يحتشدون في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين، فكتب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الى أمير الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما يأمره أن يرسل جيشا الى الأهواز، ويكتب الى أمير البصرة أبو موسى الأشعري رضي الله عنهم في البصرة ويأمره أن يرسل جيشا الى الأهواز، وجاء رضي الله عنه في رسالته: أن اجعل أمير الجند سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك المستجاب الدعوة.
ويكون الأخوان أنس والبراء رضي الله عنهما من بين جند الاسلام، ومع بداية الحرب يصرع البراء رضي الله عنه 100 فارس، ثم يطلب المسلمون من البراء أن يدعو الله لهم بالنصر، فيرفع البطل كلتا ذراعيه الى السماء داعيا مولاه عزوجل: اللهم امنحنا أكتافهم وانصرنا عليهم وألحقني بنبيك صلى الله عليه وسلم.
ولأن الدعاء عند التحام الصفوف مستجاب كما أخبرنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، يستجيب الله تعالى لهم وينتصر المسلمون نصرا مؤزرا مكللا بالورود، ووسط شهداء المعركة ، كان هناك عريسا يتوسط أرض المعركة، تعلو على محياه ابتسامة هادئة كضوء الفجر، ويمناه تقبض على حثوة من تراب مضمخة يديه الطاهرتين، لقد بلغ المسافر داره.
فرضي الله عن أنس والبراء وعن صحابتهما وصلى الله وسلم على من رباهم.
8- العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه
الصحابي الذي اختفى من قبره بعد دفنه مباشرة
صحابي جليل أرسله النبي صلى الله عليه وسلم الى البحرين على رأس سرية، ولنترك أبو هريرة رضي الله عنه يروي لنا قصته فيقول:
انّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه الى البحرين فتبعته، فرأيت منه خصالا ثلاث لا أدري بأيهنّ أعجب: اولاهما: انتهينا الى شاطىء البحر فقال: سمّوا الله واقتحموا البحر، فسمينا بالله واقتحمنا فعبرنا البحر وما بلل الماء أسفل خفاف ابلنا، وثانيهما: فلما رجعنا سرنا معه بفلاة من الأرض وليس معنا ماء، فشكونا اليه ذلك، فصلى ركعتين، ثم دعا الله تعالى فاذا هي سحابة مثل الترس، فسقينا واستقينا، وثالثهما: وبعدها مات فدفناه في الرمل، فلما سرنا غير بعيد قلنا تأتي السباع فتأكله، فرجعنا اليه لنخرجه من الرمل فلم نجده، اما الدعاء الذي دعا به لعبور البحر: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد، يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والاكرام، لا اله الا أنت، يا ربنا اجعل لنا من البحر سبيلا لعدوك ثم أمر الجيش أن يقولوا بسم الله اقتحمنا، فقاتل عدوه وقهرهم، وجمع غنائمهم، ثم رجع، فقطعه الى الجانب الآخر، وكل ذلك في يوم واحد، وعند احتياجنا للماء صلى ركعتين ثم توجه الى الله بهذا الدعاء: يا حليم، يا علي، يا عظيم، انا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، اسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ، فاذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا.
اختفاءه من قبره
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: عندما توفي العلاء رضي الله عنه غسلناه وحفرنا له قبره ودفناه، وبعد فراغنا من دفنه، أتى رجل من بعيد فقال: انّ هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه ميلا أو ميلين الى أرض تقبل الموتى، فقلنا ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله؟ فاجتمعنا على نبشه، فلما وصلنا الى اللحد واذ صاحبنا ليس فيه، واذا اللحد نور يتلألأ مد البصر، فأعدنا التراب الى اللحد ثم ارتحلنا.
فرضي الله عن العلاء وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
9- العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
عم الرسول صلى الله عليه وسلم وساقي الحرمين الشريفين
لم يكن العباس رضي الله عنه يكبر النبي صلى الله عليه وسلم سوى بثلاثة أعوام، وكما نشآ طفلين وفي سن واحدة تقريبا فقد غدوا شابين في جيل واحد، وليست القرابة فحسب ما جمعت بينهما، وانما الخلق الكريم أيضا، فسجايا العباس الرقيقة رضي الله عنه، وجوده وكرمه ، وصلته لأرحامه، عوامل فضيلة كهذه اجتمعت في الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تجتمع في عمه رضي الله عنه، الى جانب فطنته ودهاءه وذكاءه المتقد، والتي كثيرا ما استخدمها ليدرأ بها الخطر عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في بدء دعوته الى الله تبارك وتعالى.
ساقي الحرمين رضي الله عنه
في عام الرمادة حين أصاب المسلمون في المدينة القحط الوبيل، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون لصلاة الاستسقاء، فأمسك بيمين العباس رضي الله عنهما ورفعها صوب السماء وتوسّل بها الى الله تعالى، وقال: اللهم ان كنا نسقى بنبيك وهو بيننا فاسقنا بعم نبيك، ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم الغيث، وعندما هطل المطر أقبل الصحابة على العباس رضي الله عنهم يعانقونه ويقبلونه ويتبركون به وهم يقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين.
اسلامه رضي الله عنه
وكما كان الحمزة رضي الله عنه يعالج بغي قريش وصلف أبي جهل بسيفه الماحق، أيضا كان العباس رضي الله عنه يعالج بغيها بالفطنة والدهاء، هذا عدا عن خروجه في غزوة بدر مكرها ، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نادى بأصحابه قائلا: انّ رجالا من بني هاشم ومن غير بني هاشم قد خرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، ومن لقي البحتري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله.
لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن عمه العباس رضي الله عنه مسلما يكتم اسلامهولم يعلن رضي الله عنه اسلامه الا عام فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.
فرضي الله عن عم أكرم الخلق خلقا وخلقا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10- الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه
من أنار الله تعالى له سوطه
نشأ رضي الله عنه بين أسرة عريقة وكريمة، وهو من قبيلة دوس التي لها مكانتها بين العرب، وقد أوتي موهبة الشعر، فطار بين القبائل صيته ونبوغه، وفي مواسم عكاظ كان الشعراء يلتقون من أماكن شتى ليتباهون بشعرائهم، وكان الطفيل رضي الله عنه يأخذ مكانه في الطليعة في قبيلته دوس، ولقد حاول كثيرا سادات قريش أن يمنعوه من ملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخل في دينه فيسخر طاقته الشعرية في خدمة الاسلام، ولنترك الطفيل يحدثنا عن ذلك بنفسه فيقول:
فو الله ما زالوا بي حتى عزمت على ألا أسمع منه شيئا، ولا ألقاه، وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذناي كرسف كي لا أسمع شيا من قوله اذا تحدّث، وهناك وجدته قائما يصلي، فقمت قريبا منه، فأبى الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلاما حسنا، وقلت في نفسي: ولم لا أسمع منه، فان كان الذي ياتي به حسن قبلته، وان كان قبيحا رفضته، وبقيت استمع اليه حتى اذ انصرف الى بيته ودخله تبعته وقلت له: يا محمد( صلى الله عليه وسلم) انّ قومك قد حدّثوني عنك كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذنياي بكرسف كيلا أسمع قولك، ولكن شاء الله أن أسمع، فسمعت قولا حسنا، فأعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الاسلام وتلا عليّ من القرآن، فأسلمت وشهت شهادة الحق ، وقلت يا رسول الله! اني امرؤ مطاع في قومي، واني راجع اليهم وداعيهم الى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، تكون عونا لي فيما أدعوهم اليه، فدعا صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له آية.
فخرج على قومه حتى اذا أتى ثنية (طلعة، تلة) تشرف على قريته وقع بين عينيه نور كنضو ء المصباح، فسأل الله تعالى أن يكون في غير وجهه، فتحول النور الى رأس سوطه الذي يجمله، مما جعل الناظرين اليه يتراؤون ذلك النور القادم اليهم من رأس السوط كالقنديل المعلق وهو هابط اليهم من الثنية، حتى اذا جاءهم وحدّثهم بأمر هذا النور المعجزة دخل عدد كبير منهم في دين الله تعالى.
وأول من أسلم من أهله والديه فغمر الاسلام بيته وسرعان ما انتقل نور الاسلام الى عشيرته، ومن ثم الى قومه على أثر دعوة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عندما أتاه وقال له: يا نبي الله انه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله أن يهلك دوس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيه الى السماء ودعا دعاء أذهل الطفيل رضي الله عنه حين قال صلى الله عليه وسلم، اللهم اهد دوس، وأت بهم مسلمين، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم الى الطفيل وقال: ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم.
عاد الطفيل رضي الله عنه الى قومه تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهناك راح يدعو قومه الى الاسلام في أناة وحلم ورفق.
وخلال تلك الفترة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر الى المدينة، وكانت غزوة بدر قد وقعت، وتلتها أحد والخندق، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عائدا من خيبر بعد أن منّ الله على المسلمين بفتحها، واذ هو أمام موكب حافل مهيب يضم ثمانين أسرة من دوس كلهم أقبلوا اليه صلى الله عليه وسلم يبايعونه على الاسلام.
ويوم فتح مكة كان الطفيل رضي الله عنه يدخلها مع المسلمين ومعه عشرة آلاف مسلم جميعهم يحنون جباههم في خضوع وخشوع واذلال لجلال وجه الله وعظيم سلطانه ان أثابهم الله فتحا قريبا ونصرا مبينا.
استشهاده رضي الله عنه
في معركة اليمامة ضد الطاغية مسيلمة الكذاب، كان استشهاده، حيث وهو في طريقه الى ساحة المعركة رأى رؤيا فحدّث بها أصحابه فقال: رأيت رأسي قد حلق، وطائرا خرج من فمي، وامرأة أدخلتني بطنها، وابني عمرو جعل يطلبني حثيثا لكن حيل بيني وبينه، فقالوا له: خير انشاء الله، فقال رضي الله عنه: نعم انه خير، وأنا والله قد عرفت رؤياي: أما حلق رأسي فذلك أنه سيقطع، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهي روحي، وأما المرأة التي أدخلتني بطنها فهي الأرض التي ستواري جثماني، وأما طلب ابني فهو يطلب الشهادة التي سأحظى بها انشاء الله.
وصدقت رؤيا الطفيل رضي الله عنه، فدخل المعركة لا ليدافع بسيفه عن حياته كما يفعل عادة المقاتلون، وانما ليدافع بحياته عن سيفه يرنو نحو الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، حتى اذا سقط شهيدا، بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد، ولم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراح ووقعت كفه اليمنى ، يستل سيف أبيه بعدما استشهد رضي الله عنه، ويعود ابنه عمرو رضي الله عنه الى المدينة تاركا أباه وكفه اليمنى في ساحة الوغى على أرض اليمامة، وأمد الله بعمره رضي الله عنه حتى الى عهد عمر رضي الله عنه، وكان قد هيأ نفسه لخوض معركة اليرموك بالشام وعندما دخل على أصحابه رضي الله عنهم قالوا له: والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة الا أنت يا عمرو، ويقصدون كفه اليمنى التي قطعت في معركة اليمامة.
وخاض معركة اليرموك في الشام واستشهد فيها، وكان رضي الله عنه وهو يجود بنفسه يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه كما لو كان سيصافح بها احدا، ومن يدري لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه دون أن يشعر به أحد.
فرضي الله عن الطفيل وابنه عمرو وصلى الله وسلم وبارك على من رباهما.
11- المقداد بن عمرو بن سعد رضي الله عنه
رجل أحبه الله ورسوله
كان اسمه رضي الله عنه المقداد بن الأسود ، وعندما نسخ الاسلام التبني عاد الى نسب أبيه عمرو بن سعد.
كان ترتيبه السابع دخولا في الاسلام، ولقد أبلى بلاء حسنا في معركة بدر أول غزوة غزاها المسلمون، وسطر المقداد رضي الله عنه لوحة رائعة في موقف عظيم وقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دفعت قريش كل قوتها واصرارها العنيد وكبريائها، على حين المسلمون لم يكونوا أقلة فحسب، بل كانت أول معركة يدخلونها، وقف النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن ايمان صحابته رضي الله عنهم وراح يشاورهم بالأمر، أيدخل الحرب أم لا، فوقف المقداد رضي الله عنه وقفة الأسد في براثته وقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون، بل نقول: ادهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق نبيا ورسولا، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، ولنقاتلنّ عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى ينصرنا الله بك.
لقد انطلقت هذه الكلمات من فم المقداد كالرصاص الهادر المقذوف من فم رجل اشترى الموت في سبيل الله تبارك وتعالى، وعندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمات الصدق تخرج من فم المقداد بتلك القوة تهلل وجهه المشرق نورا صلى الله عليه وسلم وأشرق فمه الشريف عن دهوة صالحة دعاها للمقداد رضي الله عنه وسرت في جسده الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي حددت بقوتها نوع القول لمن أراد قولا، وطراز الحديث لمن أراد حديثا.
أجل! لقد بلغت كلماته رضي الله عنه غايتها في أفئدة المؤمنين، مما جعلت سعد بن معاذ زعيم الأنصار رضي الله عنه يقوم ثم يقول: يا رسول الله! لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنّ ما جئتنا به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيقا، فامض لما أردت، فنحن معك، والذي بعثك بالحق نبيا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله.
ويمتلىء قلب البنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم غبطة وبشرا وسرورا على صحابة يحملون أرواحهم على أكفهم، وقال لأصحابه سيروا وأبشروا.
والتقى الجمعان، وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوام، بينما بقية المجاهدين كانوا مشاة وركبانا للابل.
حكمته رضي الله عنه
انّ المقداد لم يكن فارسا فحسب، بل كان حكيما أريبا، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على احدى الولايات يوما، فلما رجع منها سأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف وجدت الأمارة؟ اجاب رضي الله عنه: لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس وهم جميعا دوني، والذي بعثك بالحق لا أتأمرنّ على اثنين بعد اليوم.
وان لم تكن هذه حكمة فماذا تكون؟ واذا لم يكن قائلها حكيما فماذا يكون؟ يكون رجلا لا يخدع عن نفسه ولا عن ضعفه، لقد كان دائم التغني بحديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: انّ السعيد لمن جنّب الفتن.
واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه أو يكاد، فانّ سعادته كانت في تجنبها والبعد عنها ما أمكنه ذلك، لقد تعلم منه صلى الله عليه وسلم طول الأناة في الحكم على الرجال، بأنّ قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي.
وتتألق حمكته في حلة بالغة في هذا الحوار الذي ينقله لنا أحد الصحابة فيقول: جلسنا الى المقداد يوما فمرّ رجل وقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا لو أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فأقبل عليه المقداد وقال: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يصير حاله؟ والله لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما كبّهم الله عزوجل على مناخيرهم في جهنم ، أولا تحمدون الله الذي أخرجكم مؤمنين بربكم وبنبيكم؟
حكمة بليغة رشيدة، ذلك أننا لم نلقى مؤمنا الا وتمنى لو أنه عاصرالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنّ بصيرة المقداد رضي الله عنه الحاذقة تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية، ولنحمد الله تعالى أن وصلنا الدين جاهزا، ذلك اننا لو عاصرنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن على حالنا السيء هذا فقد تصيبنا حكمة المقداد ، فلنحمد الله عزوجل أن خلقنا في زمن استقر فيه الاسلام ووصل الينا بهذه الصورة الرائعة.
لقد كان حب المقداد للاسلام عظيما، والحب حين يكون بهذه العظمة والحكمة فانه يجعل من صاحبه انسانا عليا لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته فحسب، بل في مسئولياته أيضا، والمقداد من هذا الطراز، فحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ قلبه وشعوره بمسئولياته عن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يسمع في المدينة فزعا الا والمقداد يكون مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتطيا صهوة فرسه وممتشقا سيفه ليذود عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحميه.
انّ حبه للاسلام ملأ قلبه بمسئولياته عن حماية الاسلام، ليس فقط من كيد أعداءه، بل من خطأ أصحابه أيضا، وكان دائما يقول: لأموتنّ والاسلام عزيزا، جملة كم نحن الأحوج اليها الآن! جملة لو أنّ واحدا فقط من المليار مسلم يقولها بصدق كما قالها المقداد رضي الله عنه فلا أظن أن يبقى المسجد الأقصى أسيرا الى الأن، ولا أظن أنّ أحدا في هذا العالم الفسيح يجرؤ على أن يلسّن على النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة أو يرسم رسما كاريكاتيريا يسيء اليه صلى الله عليه وسلم.
لأموتن والاسلام عزيزا
ان تلك الأمنية الغالية بأن يموت المقداد والاسلام عزيزا قد تحققت له حين بشرّه النبي صلى الله عليه وسلم: انّ الله أمرني أن أحبك وأنبأني أنه يحبك.
يا الله... لله درّك يا مقداد.. لله درك يا مقداد.. على هذه البشرى العظيمة التي وعزة الله وجلاله جعلت عيناي تذرف الدمع الطيّب وانا أكتبها والله شهيد على ما أقول.
فرضي الله عن المقداد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
12- أسيد بن حضير رضي الله عنه
من دنت منه الملائكة عليهم السلام
هو أحد زعماء الأوس في المدينة، وأحد كبار أشراف العرب في الجاهلية، وأحد مقاتليهم الأشداء، وكان في الجاهلية لقب بالكامل، والكمال صفة لا يليق أن تطلق الا على الفرد الصمد سبحانه تبارك وتعالى.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم هو وسعد بن معاذعلى يد مصعب بن عمير رضي الله عنهم.
حكمته رضي الله عنه
وفي غزوة بني المصطلق كان عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق وحربته قد قال لمن حوله مقولة كي يزرع قلوب جلساءه بنار الحقد على الاسلام وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان زيد بن أرقم رضي الله عنه قد فضح ابن سلول ونقل مقولته للنبي صلى الله عليه وسلم، ومفادها: لقد أدخلتموهم بلادكم، وقاسمتوهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير دياركم، والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، فيعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أسيد بن خضير رضي الله عنه، وبحكمته وسداد رأيه رضي الله عنه يحتوي الأزمة قائلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله تخرجه من المدينة انشاء الله ذليلا وأنت العزيز، يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاء بك الله الينا وقومه ينظمون له الخرز ليتوجونه ملكا علينا، وما منعهم من اتمام ذلك الا دخولكم المدينة، ولذا فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكه.
بهذا العقل الرزين ، وبهذه الحكمة السديدة ، والتفكير الهادىء الرصين، استطاع أسيد رضي الله عنه أن يمتص حنق وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا اعتاد أسيد رضي الله عنه ان يعالج القضايا الساخنة كهذه.
لقد كان أسيد رضي الله عنه صحابيا جليلا صالحا فذا ضاحكا مليحا، وذات يوم وهو يحدّث أصحابه ويضاحكهم، طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيدا رضي الله عنه على خاصرته طعنة رقيقة يداعبه بها ويمازحه فيها، فقال له: لقد أوجعتني يا رسول الله، فقال له نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: اقتص يا أسيد! فقال له أسيد رضي الله عنه: انّ عليك قميصا، ولم يكن عليّ قميصا، وما أن رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه حتى احتضنه أسيد رضي الله عنه وأخذ يقبّل كشحه الشريف صلى الله عليه وسلم ( والكشح: هي منطقة بين الخاصرة والابط) ثم قال: بابي وأمي أنت يا رسول الله ما أردت من القصاص الا هذا.
انقلاب العصا بيده الى ضوء
ذات يوم وهو عائد من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب وكان قد أرخى الليل سدوله، وبرفقته عباد بن بشر رضي الله عنهما، بعد حاجة لهما قد قضاها صلى الله عليه وسلم لهما، خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة شديدة الظلمة وفي يد كل منهما عصاه، فانقلبت عصا كل منهما باذن الله عزوجل الى ضوء يضيء كل منهما درب الآخر، ظلت ترافقهما حتى بلغ كل منهما داره.
دنو الملائكة عليهم السلام منه رضي الله عنه
كان أسيد رضي الله عنه يملك صوتا خاشعا باهرا منيرا في ترتيل القرآن الكريم، ولدماثة خلقه كان له موضع تكريم من الصدّيق وعمر رضي الله عنه، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ان الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسانه نصب عينيه.
وفاته رضي الله عنه
لقد بقي رضي الله عنه واضعا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب عينيه: اصبروا حتى تلقوني على الحوض.
في شهر شعبان وفي السنة العشرين للهجرة لبى نداء المولى تبارك وتعالى، وابى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الا ويحمل نعشه على كتفيه، ومن ثم يواريه الثرى في مقبرة البقيع، ليعود الصحابة رضوان الله عليهم مرددين مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه رضي الله عنه: نعم الرجل أسيد بن حضير
فرضي الله عن أسيد وصلى الله وسلم على من رباه.
13- أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه
من ربط نفسه بسارية المسجد حتى تيب عليه
قال الله تعالى في كتابه الكريم:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله وتخونوا الرسول وأنتم تعلمون* واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأنّ الله عنده أجر عظيم
هذه الآيات نزلت في أبو لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بني قريظة بعدما حاصر اليهود المدينة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم بناء على رغبتهم، وما أن رأوه الرجال والصبيان قادما نحوهم حتى تظاهروا في البكاء، فرق حاله لهم وعطف عليهم، فقال له اليهود: أتنزل على حكم محمد( صلى الله عليه وسلم)؟ فأشار عليهم بيده الى حلقه أي أنه الذبح، وحين فطن وتنبه رضي الله عنه أنه قد خان الله ورسوله بمشورته تلك، حلف ألا يذوق ذواقا حتى يموت ليكفرعن ذنبه، أو يتوب الله عليه، وانطلق الى مسجد المدينة وربط نفسه في سارية المسجد، ومكث على ذلك تسعة أيام بلياليها حتى كاد يخر مغشيا عليه من الاعياء والتعب وانعدام الطعام وقلة الشراب، حتى اذا أنزل الله تعالى رحمته عليه هرع الناس اليه يزفون اليه بشرى توبة الله عليه، وحين أرادوا أن يفكوه من السارية، حلف بألا يحلها أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له ذلك، ثم قال: يا رسول الله: اني كنت قد نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال صلى الله عليه وسلم:يجزيك الثلث أن تصدّق به.
تزوج رضي الله عنه من خنساء بنت خدام الأنصارية الأوسية، وشهد بيعة العقبة الثانية، وحين أعلن الجهاد في غزوة بدر هيأ نفسه اليها الا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده، وطلب منه البقاء في المدينة يرعى أهلها ويمد الجيش بالعتاد والمؤن، فانصاع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرضي الله عن أبو لبابة وعن وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.
14- أبو عمران الحصين رضي الله عنه
دخل على النبي صلى الله عليه وسلم كافرا وخرج مؤمنا
الحصين رجلا ذا مهابة في قريش، ولأنه كان كذلك فقد جعلته قريش وسيطا بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم بألا يسفه ألهتهم أو يذكرها بسوء.
اسلامه رضي الله عنه
وبعد أن لبى رغبة قريش جلس الى النبي صلى الله عليه وسلم ودار بينهما حوارا بدأه الحصين قائلا:
ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم ألهة قومك؟ وقد كان أبوك حليما عاقلا ومتحصنا من دين آباءه؟
يا حصين انّ أبي وأباك في النار، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: يا حصين كم تعبد من الآلهة؟
سبعة في الأرض وواحدا في السماء.
اذا أصا بك الضر من تدعو؟
أدعو الذي في السماء.
فاذا هلك المال من تدعو؟
أدعو الذي في السماء.
فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، أرضيت في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك.
ولا واحدة من ها تين يا رسول الله.
يا حصين! أسلم تسلم.
ان لي قوما وعشيرة، ماذا أقول لهم؟
قل لهم: اللهم أستهد يك لأرشد أمري، وزدني علما ينفعني.
فقالها حصين ، ولم يقم من مكانه حتى أسلم.
فقام ابنه عمران رضي الله عنهما الذي سبقه للايمان فقبّل رأس أبيه ويديه ورجليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من حصين بكى وقال: بكيت من صنع عمران.
لقد دخل الحصين على رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا وخرج من عنده مؤمنا، وعندما همّ بالخروج قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فشيعوه الى منزله (كونوا في وداعه) فلما خرج من الباب رأته قريش فقالوا: الحصين صبأ (اي ارتد عن دينه)، وتفرقوا عنه.
فرضي الله عن الحصين وصلى الله وسلم على من رباه.
15- أبو ذر الغفاري رضي الله عنه
قائد أول انتفاضة في التاريخ وأول من جهر بالشهادتين في مكة
هو جندب بن جنادة ويكنى بأبو ذر الغفاري، وهو من قبيلة غفار العربية.
اسلامه رضي الله عنه
دخل مكة متخفيا متسربلا بظلام الليل يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت غفار عشيرته تعلم أنه يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم لفتكوا به قبل أن يصله، وهو لا يرى بأسا أن يفتكوا به بعد أن يقابل الرجل العظيم ويستمع اليه، فلقد قطع الفيافي وتحمّل وعثاء السفر وفيح الصحراء لأجل أن يراه، فان اقتنع بما يدعو اليه بايعه وآمن به، وان لم يقتنع عاد من حيث أتى.
وفي صبيحة أحد الأيام ذهب أبو ذر رضي الله عنه الى حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس، اقترب منه ودار بينهما الحوار التالي ابتدأه أبو ذر: نعمت صباحا يا أخا العرب!
وعليك السلام يا أخاه.
أنشدني مما تقول يا أخا العرب!
ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم.
اقرأ عليّ!
فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وأبو ذر يصغي اليه، ولم يمضي وقتا طويلا حتى اذا نطق بالشهادتين سأله النبي صلى الله عليه وسلم: ممن أنت يا أخا العرب؟
من غفار.
وتألقت ابتسامة على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريف واكتسى وجهه الدهشة والعجب، وضحك أبو ذر كذلك لأن غفار قبيلة عربية لا يدرك لها شأو في قطع الطريق، وأهلها مضرب الأمثال في السطو الغير مشروع، انهم حلفاء الليل والظلام ، والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلتهم، وها هو اليوم يأتي واحدا منهم ليبايع على الاسلام وهو لا زال جنينا في مراحله الأولى ، غضا مستخفيا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: انّ الله يهدي من يشاء.
حين أسلم ابو ذر الغفاري رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يهمس في الدعوة همسا، يهمس الى نفسه والى الخمسة الذين أمنوا معه، ولم يكن أمام أبي ذر رضي الله عنه الا من يحمل ايمانه بين جنبيه، ويتسلل به مغادرا مكة عائدا الى قومه.
أول من جهر الشهادتين في مكة
انّ أبو ذر رضي الله عنه، يحمل طبيعة فوّارة جيّاشة، فقد أوجده الله تعالى ليتمرّد على الباطل أينما يكون، وها هو اذ يرى الباطل بعينيه، يرى حجارة مرصوصة، وميلاد عابديها أقدم من ميلادها، تنحني أمامها الجباه والعقول ويناديها الناس لبيك لبيك، وهي لا تضر ولا تنفع أو تسمع.
وبمجرد أن أعلن ولاءه لله تعالى ومن ثم لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد نذر حياته لنصرة دين الله لا يخاف في الله لومة لائم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السؤال: يا رسول الله بم تأمرني؟
ارجع الى قومك حتى يبلغك أمري.
والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد.
لقد كانت هذه الصيحة أول صيحة في الاسلام، تحدّى بها كبراء قريش وقرعت أسماعهم، صاحها رجل غريب ليس له في مكة أي ظهر يستند عليه، لا حسب له ولا نسب، فلقي من العذاب ما لقي من مشركي قريش ما يغيّب عن فطنته أنه ملاقيه، فأوسعوه ضربا حتى صرعوه، ويترامى النبأ للعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأتي يسعى يحاول تخليص أبي ذر رضي الله عنه من بين أيديهم، وما فتأ رضي الله عنه أن يخلصّه من بين أيديهم الا بالحيلة بعدما قال لهم: يا معشر قريش! أنتم تجار وطريقكم الى غفار ماض، وهذا أحد رجالهم، ألا تخشون أن يحرّض قومه عليكم؟ فيقطعوا على قوافلكم الطريق والمدد، ولولا ذلك ما تركوه.
الا أنّ ابي ذر وبعد أن ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيبات الجهاد بمزيد، فيكرر فعلته في اليوم التالي ، ويهرول كفار قريش كالجراد المنتشر فيوسعونه ضربا أبرح من الأمس حتى يفقد وعيه تماما، وكلما أفاق يصرخ بالشهادتين، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة تلميذه الجديد وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل، فيأمره على العودة الى قومه حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه، ويطيع التلميذ أمر معلمه صلى الله عليه وسلم، ويعود الى قومه ويحدثهم عن النبي الذي يدعو الى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، والى مكارم الأخلاق، وما أن أدخل قبيلته في الاسلام واحدا تلو الآخر حتى تعداها الى قبيلة أسلم ليوقد فيها مصابيح النور هي الأخرى.
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة، وما أن استقرت أموره صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان، ولولا تكبيراتهم الصادعة لحسبهم الرائي جيشا من جيوش الشرك يغير على المدينة، وما أن اقترب الموكب اللجب ودخل المدينة شطرمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك الجميع أنه موكب قبيلتي غفار وأسلم قد جاء بهما أبو ذر رضي الله عنه مسلمين جميعا، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، وكان من حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يزداد عجبا ودهشة من أنّ عمالقة السطو وحلفاء الشيطان باتوا عمالقة في الخير وحلفاء الحق.
لقد ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا، ونظر الى القبيلتين وقال عليه الصلاة والسلام: غفار غفر الله لكم، واسلم سالمها الله، والناس تردد ما قاله النبي اصلى الله عليه وسلم رأيه بأبو ذر رضي الله عنه: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر.
لقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل صاحبه رضي الله عنه ولخص حياته كلها في هذه الكلمات: فالصدق هو جوهر حياة أبي ذر كلها، صدق باطنه وصدق ظاهره، صدقت عقيدته، وصدقت لهجته، ولسوف يحيا صادقا لا يغالط نفسه ولا يغالط غيره، ولا يسمع لأحد يغالطه، ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء، فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر، انما الصدق جهر وعلن، جهر بالحق وتحدّ للباطل، الصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه ، وسير حثيث معه.
عدو الثروات والأمراء
ذات يوم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء؟
أجابه رضي الله عنه: اذن والذي بعثك بالحق نبيا لأضربن بسيفي.
فقال له صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على خير من ذلك؟ اصبر حتى تلقاني.
ترى لماذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا كهذا بالذات؟ الأمراء والمال!
لأن الأمراء والمال هما شر فتنة تعم العباد، هما الوهن الذي أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم، وهما سبب تكالب الأمم علينا لأنه بهما نسينا الآخرة وركنا الى الدنيا، ولسوف يبقى أبو ذر رضي الله عنه يحفظ وصية معلمه صلى الله عليه وسلم، ولن يحمل السيف الذي تود به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة، وهذا لا يعني أنه سيكف عنهم.
انتفاضته رضي الله عنه
ومضى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبو بكر رضي الله عنه وأبو ذر مطئمنا على أن عمر بن الخطاب رضي الله يفرض هيمنته وسيطرته على أمراء وأغنياء المسلمين في كل مكان في مشارق الأرض وغاربها زهدا وتقشفا يكاد يكون فوق طاقة البشر، وليهنأ أبا ذر رضي الله عنه اذن ما دام عهد الفاروق أتى على هواه كما عهده ممن كان قبله، فأبو ذر لا يضايقه شيء في حياته مثلما يضايقه استغلال السلطة واحتكار الثروة، وغمر بمراقبته الصادقة للسلطة وتوزيعه العادل لعبادة ربه وللجهاد في سبيله، وبات عمر رضي الله عنه أعظم وأعدل وأروع حكام البشرية قاطبة، ومع رحيل عمر رضي الله عنه عن الدنيا يرى أبا ذر أن الخطر يحدق بالمسلمين وهو يرى ألوية المجد الشخصية، والدنيا بزخرفها وغرورها الضاري توشك أن تتحول الى سيد مستبد، ومع من؟ مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي انتقل للرفيق الأعلى ودرعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند رجل يهودي، في حين أكوام الفيء والغنائم عند قدميه صلى الله عليه وسلم.
ان السلطة مسئولية ترتعد أفئدة الأبرار من هول الحساب عليها يوم القيامة، تتحول الى سبيل السيطرة والثراء والترف المدمر، ويرى أبو ذر رضي الله عنه كل ذلك، ويروح يمد عينيه الى سيفه يهز به في الهواء، وينهض قائما ليواجه المجتمع بسيفه، لكنه سرعان ما يتراجع حين يتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم: اصبر حتى تلقاني، فيعيد السيف الى غمده، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم.
أول زعيم معارضة في التاريخ
ليس السيف فحسب هو أداة التغيير والتقويم، بل هناك أيضا الكلمة الصادقة والأمينة المستبسلة، والكلمة العادلة التي لا تضل طريقها ولا ترهب عواقبها.
لقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم يوما وعلى ملأ من أصحابه أن الأرض لم تقل والسماء لم تظل أصدق لهجة من أبي ذر، ومن كان يملك هذا اقدر من صدق اللهجة وصدق الاقتناع فما حاجته الى السيف؟
فليخرج رضي الله عنه بصدقه هذا الى الأمراء والأغنياء، والى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم الى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا ورحمة وقناعة وكفاية.
وخرج أبو ذر رضي الله عنه الى معاقل السلطة والثروة يغزوها بمعارضة معقلا معقلا، ويلتف حوله الضعفاء والجماهير الكادحة حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد، فقد طار اليهم ذكره رضي الله عنه وأصبح لا يمر بأرض ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تساؤلات هامة تهدد مصالح ذوي السلطة والجاه والثراء.
لقد كان شعاره منقوشا على علم لمكواة تتوهج جمرا ولهبا وهو يردد هذه الكلمات: وبشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
لقد بات يرددها رضي الله عنه كلما صعد جبلا أو نزل سهلا، او دخل مدينة أو واجه أميرا، حتى باتت شعارا له يستقبله به كل من يلقاه، لقد باتت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها حين رأى الثروات تتركز وتحتكر، وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال، وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته بسنوات الرسالة العظمى من جمال وورع وتفان واخلاص.
لقد بدأ رضي الله عنه بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة، هناك في الشام حيث معاوية يحكم أرضا من أكثر بلاد الشام خصوبة وخيرا ، وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب لتكون من نصيب من لهم حظ ومكانة، يؤمن به مستقبله الذي كان يرنو اليه طموحه البعيد، وذهب الى الشام وبدأ يعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط، وانهم جميعا شركاء في الرزق، وانه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى، وان أمير القوم ووليهم يجب أن يكون اول من يجوع اذا جاعوا ، وآخر من يشبع اذا شبعوا، ووقف يناظر معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما، وعن ثروته اليوم، وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة، وعن قصوره بالشام اليوم، لم يوجه السؤال للجالسين من الصحابة الذي صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصورا وضياع، بل يسألهم ألا يجدون في كتاب الله هذه الآية الكريمة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
ويحوّل معاوية مجرى الحديث قائلا: لقد أنزلت هذه الاية في اهل الكتاب، ويصيح أبا ذر رضي الله عنه قائلا: بل نزلت لنا ولهم، ثم ينصحهم أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال، وألا يدّخر أحدهم أكثر من حاجة يومه، وتتناقل أخبار هذه المناظرة، ويتعالى نشيد أبي ذر رضي الله عنه في البيوت والطرقات: وبشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة، ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، ويكتب الى الخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له: انّ أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، ويستدعي عثمان أبا ذر رضي الله عنهما، ويحسر أبا ذر رضي الله عنه طرف رداءه عن ساقيه ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع.
ويصل أبو ذر المدينة، ويقررعثمان رضي الله عنه أن يحتفظ به الى جواره، محددا له أقامته، الا أن أبا ذر يقول له: لا حاجة لي في دنياكم، وطلب منه أن يأذن له في الخروج الى الربذة، وما ، أذن له حتى استغل بعض أهل الكوفة غضب أبا ذر وبدؤوا يحرضوه على عثمان رضي الله عنه وأن يقيم عليه ثورة، الا أنه قال لهم: والله لو صلبني عثمان على أطول خشبة وأعلى جبل لسمعت وأطعت وصبرت، وأحتسب، ورأيت ذلك خيرا لي، ولو سيّرني ما بين الأفق الى الأفق لسمعت وأطعت خيرا لي.
الحكم والمال فساد كل نفس حية
ان الحكم والمال هما فساد كل نفس حية، وهما اغراء وفتنة، وهذا ما كان يخافه أبو ذر رضي الله عنه على اخوانه الذين حملوا راية الاسلام مع رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، والحكم والمال هما عصب الحياة للأمة والجماعات ، فاذا اعتراهما الضلال تعرضت مصادر الناس للخطر الأكيد، ولقد كان أبا ذر رضي الله عنه يتمنى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يلي أحدا منهم امارة، أو يجمع ثروة، وأن يظلوا كما كانوا روّاد هدى وعباد الله اخوانا، وكان رضي الله عنه يدرك جيدا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لن يتكررا، ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الامارة قائلا: انها لأمانة وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها.
ذات يوم لقيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فلم يكد يراه حتى أخذه بالأحضان قائلا له: مرحبا بأخي أبا ذر، فدفعه عنه رضي الله عنه قائلا: لست بأخيك:::انما كنت أخاك قبل أن تكون وليا وأميرا.
كذلك لقيه أبو هريرة رضي الله عنه يوما واحتضنه مرحبا ، ولكن أبو ذر رضي الله عنه نحّاه عنه بيده وقال له: اليك عني ألست الذي وليت الامارة؟ فتطاولت في البنيان، واتخذت لك ماشية وزروعا. ومضى أبو هريرة رضي الله عنه يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات.
وصيايا النبي صلى الله عليه وسلم
الأولى: جلس يوما يحدّث ويقول: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم... وأن أنظر الى من هو دوني ولا أنظر الى من هو فوقي، وامرني أن اصل الرحم وان أدبرت، وأمرني ألا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول الحق ولو كان مرا... وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة الا بالله، فانهنّ من كنز تحت العرش.
الثانية: في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر! اني أراك ضعيفا، واني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تلينّ مال يتيم.
الثالثة: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قدأطال فيه الجلوس فقال: يا أبا ذرّ هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: قم فاركع ركعتين، ثم جئت فجلست اليه فقال: يا أبا ذر! هل تعودت من شياطين الجن الانس؟ قلت لا يا رسول الله، وهل للانس شياطين؟ قال: نعم! هم شر من شياطين الجن.
وفاته رضي الله عنه
يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده، هذه نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فقد مضى من نبوءته صلى الله عليه وسلم اثنتان وبقيت الثالثة لتستنفذ وعدها اليوم.
أبو ذر رضي الله عنه في الربذة يعاني من سكرات الموت، والى جانبه امرأته السيدة السمراء الضامرة الجالسة الى جواره تبكيه، وانه ليسألها: ممّ البكاء والموت حق؟
فتجيبه: لأنك تموت وليس عندي ثوبا يسعك كفنا.
لا تبكي! فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليموتنّ رجل منك بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين، وها أنا أموت بالفلاة، فراقبي الطريق، فستطلع عصابة من المؤمنين فوالله ما كذبت ولا كذبت، وفاضت روحه الطاهرة الى بارئها.
لقد صدق أبا ذر رضي الله عنه، وهذه القافلة كان يرأسها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، يبصر ابن مسعود رضي الله عنه المشهد قبل أن يبلغه مشهد جسد ممتد يعبر وكأنه جثمان ميّت، والى جواره سيدة وغلام يبكيان، يتقدّم رضي الله عنه بدابته نحو المشهد، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان، حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله وفي الاسلام أبا ذر رضي الله عنه، وتفيض عيناه بالدمع، ويقف على جثمانه الطاهر يقول: تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه الى جواره يحدّث أصحابه عن نبوءة تنبأ بها صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: كان ذلك في غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتهيأ لملاقاة الروم، وكانت تلك الأيام التي دعي فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ، وكانت الشقة بعيدة والعدو مخيفا، ولقد تقاعس عن الخروج أناس كثيرة تعللوا بشتى المعاذير، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة فجعل الرجل يتخلف ويقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول صلى الله عليه وسلم: دعوه، فان يك فيه خير سيلحقه الله بكم، وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
وعندما لم يجدوا أبو ذر رضي الله عنه قالوا: لقد تخلف أبا ذر وأبطأ بعيره، وكان أبا ذر رضي الله عنه قد خذله بعيره في المسير، فلما وجد أنه سيتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه مهرولا وسط صحراء ملتهبة ليدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الغداة وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، واذ يبصر أحدهم سحابة من بعيد تخفي وراءها شبح رجل يئد بالمسير، وقال الذي رأى السحابة: يا رسول الله! هناك رجل يمشي على الطريق وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر! ولما بلغ لأول القافلة صاح صائحهم: يا رسول الله! انه أبا ذر، ولم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية وأسيّة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.
وها هو بعد مضي عشرين عاما عن ذاك اليوم مات أبا ذر وحيدا في فلاة الربذة، بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه، ولسوف يبعثه الله تعالى يوم القيامة وحده، لأن زحام فضائله المتعددة لن تترك بجانبه مكانا لأحد سواه.

فرضي الله عن أبو ذر وعن صحبه الكرام وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاهم.

جمع ودراسة : سمير السعدي

انثى بروح المطر 11 - 1 - 2012 10:45 PM

الله على الصحابة وحبهم لله ورسول الله
موضوع مميز
سلمت الايادي وبارك الله بك على نقله لنا
تحياتي حبيبة قلبي

قلب., 11 - 1 - 2012 11:06 PM

الجزء الثاني من مدرسة الصحابة
من حرف الثاء الى حرف الخاء

1- ثعلبة بن عبد الرحمن رضي الله عنه
رجل قتلته خشية الله
هذه القصة للاعتبار والعظة فقط ومن لم يعتبر بها فلن يعتبر بغيرها، ذلك أننا غارقين بذنوبنا آناء الليل وأطراف النهار دون أن تهتز لنا شعرة واحدة، على حين من امتلآت قلوبهم من خشية الله يقنلهم ذنبا، ان مرّ علينا مثله يمر مرّ الكرام دون أن نأخذ له بالا، وصاحب قصتنا من قتلته خشية الله رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم دله على آية من كتاب الله تعالى موجبة في غفر الذنوب.
ثعلبة بن عبد الرحمن رضي الله عنه هو أحد الذين منّ عليهم ووفقهم بعمل جليل ألا وهو خدمة النبي صلى الله عليه وسلم شأنه شأن أنس بن مالك وربيعة بن مالك وغيرهم الكثير من الصحابة الكرام الذين خدموه صلى الله عليه وسلم.
ذات يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ابتعثه بمهمة ليقضي له حاجة، وفي طريقه لقضائها مرّ بباب من الأنصار فلمح امرأة تغتسل، فوسوس له الشيطان أن يقف عندها لينظر اليها، وما أن انتهت من غسلها حتى تكون مفاصلة قد ارتجفت ارتعادا خوفا من عودته الى النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أمين السماء ووحيها جبريل عليه السلام قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بما فعل بتجسسه على زوجة أحد الأنصار وهي تغتسل، لأجل ذلك، ولجل ألا يقف موقفا مشينا أمام حضرة النبي صلى الله عليه آثر ألا يعود اليه، ولم يعد حتى الى منزله بل فرّ الى أحد الجبال ودخل كهفا بين مكة والمدينة واختبأ فيه، ومكث قرابة الأربعين يوما وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
يتنزل وحي السماء جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له: يا محمد انّ ربك يقرئك السلام ويقول لك: انّ رجلا من أمتك في الجبال يتعوّذ بي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر وسلمان الفارسي رضي الله عنهما انطلقا فأتياني بثعلبة، فخرجا رضي الله عنهما الى الجبال بحثا عنه، وعندما لم يعثرا عليه سألا أحد رعاة المدينة عنه يقال له زفافة، فسأله عمر رضي الله عنه: هل لك بعلم عن شاب بين هذه الجبال يا زفافة يقال له ثعلبة؟ فقال: لعلك تريد الهارب من جهنم! فقال له عمر رضي الله عنه: وما علمك انه هارب من جهنم؟ اجابك لأنه اذا جاء جوف الليل خرج من بين هذه الجبال واضعا يديه على رأسه وينادي: ياليتك قبضت روحي في الأرواح وجسدي في الأجساد ولم تجددني ليوم القضاء، فدله زفافة عليه، وما أن رآه عمر رضي الله عنهما حتى احتضنه، ثم قال له ثعلبة: أوعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنبي؟ اجابه عمر رضي الله عنه: لا علم لي الا أنه أرسلنا اليك أنا وسلمان، فقال: يا عمر لا تدخلاني عليه الا وهو في الصلاة، وبعد ان انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قالا له: هذا هو ثعلبة يا رسول الله!
فنظر اليه النبي صلى الله عليه وسلم، نظرة اشفاق ورحمة، والحوار التالي يبيّن مدى الرحمة النبوية التي اغتبطت ثعلبة رضي الله عنه:
مالذي غيّبك عنا يا ثعلبة؟
ذنبي يا رسول الله.
أفلا أدلك على آية تغفر الذنوب والخطايا؟
بلى يا رسول الله!
قل: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ثم امر النبي صلى الله عليه وسلم له بالانصراف الى منزله.
أيام ثمانية تمر على ثعلبة وهو في حمى شديده، وما أن بلغ النبي صلى الله عليه مرض ثعلبة حتى زاره، وما أن دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجلس اليه حتى وضع النبي صلى الله عليه وسلم رأس ثعلبة رضي الله عنه في حجره الشريف صلى الله عليه وسلم، الا أن تعلبة رضي الله عنه رفع ثعلبة رأسه عن حجر رسول الله عليه وسلم ، الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسأله:
لم رفعت رأسك عن حجري يا ثعلبة؟
لأنه مليء بالذنوب يا رسول الله.
ما تشتكي يا ثعلبة؟
مثل دبيب النمل بين عظمي ولحمي وجلدي.
ما تشتهي يا ثعلبة؟
مغفرة ربي.
واذ بوحي السماء جبريل عليه السلام يتنزّل على النبي صلى الله عليه وسلم قائلا له: يا محمد! انّ ربك يقرئك السلام ويقول لك: لو أنّ عبدي هذا لقيني بقراب الأرض خطايا للقيته بقرابها مغفرة.
وعندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بمغفرة ربه له، صاح صيحة الموت وغاب على أثرها عن الحياة.
وعند تشييعه رضي الله عنه الى مثواه الأخير، سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: لقد رأيناك تمشي على رؤوس أصابع قدميك يا رسول الله! اجاب عليه الصلاة والسلام: والذي بعثني بالحق نبيا ورسولا ما استطعت أن اضع قدماي على الأرض من كثرة ما انزل الله من الملائكة لتشيعه.
فرضي الله عن ثعلبة وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

2- ربيعة بن مالك رضي الله عنه
خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم
تخرّج هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه من جامعة العقائد الاسلامية التي كان المصطفى صلى الله عليه وسلم عميدها، مثله مثل غيره من الصحابة الكرام، فقد كان ربيعة رضي الله عنه خادما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان تلميذا نجيبا ومخلصا في حبه لله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ورغم فقره وحاجته رضي الله عنه فقد كان غني النفس متواضعا ذليلا لله تعالى، ومن تواضع لله تعالى رفعه الله وأعزّه، وبعزة نفسه وقناعتها كان ربيعة رضي الله عنه الدنيا بأسرها، هكذا هي القناعة كنز لا يفنى، وهكذا هي تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قليل يكفيك خير من كثير يطغيك، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، هذه العبارات الجميلة واللطيفة كان النبي صلى الله عليه وسلم دوما ينصح بها أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وربيعة رضي الله عنه أحد هؤلاء وقد أخذها بأذان القلب ليترجمها في حركاته وسكناته حتى غدت عنوانا له في حياته.
ذات يوم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم: يا ربيعة سل ما تشاء أفعله لك!
ماذا طلب ربيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل طلب أن يغنيه وهو رضي الله عنه الأحوج الى المال من غيره؟ هل طلب العز والسلطان أم طلب الملك؟ لا...وألف لا... لم يطلب شيئا من كل هذا اطلاقا رغم علمه علم اليقين بأنه لو طلب الدنيا بأسرها لذللها الله تعالى بين يديه بدعوة من نبيّه صلى الله عليه وسلم تماما كما حققها الله تعالى لحمامة المسجد ثعلبة من حاطب من قبل.
اذا ما ذا طلب هذا الغني النفس ربيعة بم مالك رضي الله عنه؟ لقد طلب طلبا لا يخطر أبدا على بال، طلبا عزيزا نحن نحسبه بسيطا، ولكنه عند الله أثقل من جبال موجودات الدنيا قاطبة، انه مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، قائلا: أريد مرافقتك في الجنةسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا ربيعة؟
أجابه: لا يا رسوله هو ذاك.
فبماذا ردّ علي المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال له صلى الله عليه وسلم:
أعني على نفسك بكثرة السجود ياربيعة تكن رفيقي في الجنة.
نصيحة غالية قدمها النبي صلى الله عليه وسلم الى كل فرد من أمته الى يوم الدين عن طريق ربيعة بن مالك رضي الله عنه.
أعني على نفسك بكثرة السجود يا ربيعة تكن رفيقي في الجنة.
انها النوافل التي قال الله تبارك وتعالى عنها في حديث قدسي طويل:.... وما زال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه.........
انها النوافل التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى لله تعالى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة.
انها صلاة الأوابين ... صلاة من يرجون رحمة الله... صلاة الليل والتهجد والخوف والحاجة والاستسقاء والتوبة، انها كل سجدة ما عدا الفريضة.
أعني على نفسك بكثرة السجود يا ربيعة تكن رفيقي في الجنة.
انها دعوة مفتوحة الى يوم القيلمة لكل من يرغب بمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
نعم ان كثرة السجود التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيعة بن مالك هي صلاة النافلة، والنافلة هي كل صلاة ليست فريضة، هي جميع صلوات التطوع.
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من السنن الراتبة المقرونة بالفرائض اثنتي عشرة ركعة لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر أربعا في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع الى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يرجع الى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي العشاء ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، واذا طلع الفجر صلى ركعين، ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر.
ان صلاة المرء في بيته نور، ولا تنار البيوت الا بصلاة النوافل، وأي بيت لا يصلى فيه فهو كالقبر أو أقرب.
هكذا كان ربيعة رضي الله عنه ومن هم على نهجه، ولأنهم أخلصوا العمل والنية لله تعالى فقد تركوا الدنيا ومباهجها وزينتها وبريق معدنها وزخارفها وراءهم، فهم العقلاء الذين باعوا الدائم بمنقطع.
فرضي الله عن ربيعة وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.

3- زيد بن الخطاب رضي الله عنه
رجلا مجبولا على بغض النفاق
انه شقيق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأسبق منه الى الاسلام وشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، وكان همه الوحيد قتل رجّال بن عنقوة.
من هو الرجّال بن عنقوة؟
الرجّال بن عنقوة كانأحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ارتد عن الاسلام.
ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله جماعة من أصحابه الكرام اذ أطرق النبي صلى الله عليه وسلم لحظات ثم قال: انّ فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل احد.
وظلّ الخوف والرعب من الفتنة في الدين يلح على جميع من سمع تلك النبوءة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهم يخشى على نفسه ان يكون هو المقصود، الا أنّ جميع من وجّه اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ختم الله لهم بخير واستشهدوا جميعا في سبيل الله ولم يبق منهم حيّا سوى أبو هريرة رضي الله عنه والرجّال بن عنقوة.
وبقي أبو هريرة رضي الله عنه مرتعد الفرائص خائفا أن تصيبه نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يهدأ بال ولم تطمئن نفسه حتى ارتد الرجّال بن عنقوة عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب.
وحانت ساعة الصفر
وشوق زيد بن الخطاب رضي الله عنه للقاء الرجّال يزداد يوما بعد يوم، ينتظر ساعة الصفر للانقضاض عليه والاجهاز على حياته الخبيثة، ذلك أنّ الرجّال في رأي زيد رضي الله عنه لأن ارتداده لم يكن ارتداده عن قناعة وانما عن وصولية حقيرة ونفاق بغيض هزيل، وزيد رضي الله عنه مجبول على بغض النفاق والمنافقين ومن والاهم، تماما كأخيه الفاروق رضي الله عنهما.
انّ زيد رضي الله عنه يرى في الرجّال أكثر خطورة من مسيلمة نفسه، فمسيلمة معروف لدى الجميع أنه مدعي النبوة وكذاب وأفاك أثيم، بينما الرجّال الذي كان أحد صقور الاسلام لهو أشد فتنة وخبثا من مسيلمة.
وما أن لاحت ساعة الصفر لزيد رضي الله عنه حتى ظفر بالرجال في ساحة معركة حروب الردة بقيادة خالد بن الوليد وانقض عليه بضربة سيف أرداه قتيلا ليعلو صوت الحق الله أكبر.
فرضي الله عن زيد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
4- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
أول رئيس لجهاز أمن الدولة الاسلامية
هو عدو النفاق وصديق الوضوح، ورجل بهذه المواصفات وهذا الطراز لا بد أن يكون ايمانه بالله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وثيقا ولا بد أن يكون ولاءه لله تعالى ةرسوله صلى الله عليه وسلم عميقا.
أفنى حياته على دراسة الشر والأشرار والنفاق والمنافقين، ومنذ أن جاء هو وأخوه بصحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد من موهبته مضاء وصقلا، فلقد عانق دينا قويا ، نظيفا شجاعا، قويا عنوانه الصدق، لا يعرف الجبن ولا النفاق.
وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار،والنفاق والمنافقين، يقول حذيفة رضي الله تعالى عنه وأرضاه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أساله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت له: يا رسول الله! انا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:
نعم!
وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال صلى الله عليه وسلم:
نعم! وفيه دخن.
وما دخنه؟ أجاب صلى الله عليه وسلم:
قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال صلى الله عليه وسلم:
نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها.
يا رسول الله! فماذا تأمرني ان أدركني ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم:
تلزم جماعة المسلمين وامامهم.
فان لم يكن لهم جماعة ولا امام؟ قال صلى الله عليه وسلم:
تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
ويقول رضي الله تعالى عنه: انّ الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الناس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فأحيا بالحق من كان ميتا، وأمات بالباطل من كان حيا، ثم ذهبت النبوة، وجاءت الخلافة على منهاجها، ثم يكون ملكا عضوضا، فمن الناس من ينكر بقلبه ولسانه ويده أولئك استجابوا للحق، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق، ومنهم من ينكر بقلبه كافا بيده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الايمان، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميت الأحياء.
ويتحدّث عن القلوب فيقول رضي الله عنه: القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وايمان، فمثل الايمان كمثل شجرة طيبة، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب، غلب.
ويتحدّث عن اللسان الذرب فيقول رضي الله عنه: جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! انّ لي لسانا ذربا على أهلي، واخشى أن يدخلني النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من الاستغفار؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.
أمين الأسرار
نعم انه حافظ أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأمين سر وحي السماء جبريل عليه السلام، وعندما املى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين لم يأتمن النبي صلى الله عليه وسلم أحدا الا حديفة رضي الله عنه، حيث وقبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى بقليل كان قد سلمه قائمة سبعة عشر منافقا كي يكونوا من بعده صلى الله عليه وسلم حذرين منهم من ناحية، وكي اذا مات أحد منهم بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى لا يصلي عليه أحد من المسلمين من ناحية أخرى تنفيذا لأمر الله عزوجل: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.
اتقاء الفتنة
ويعلمنا رضي الله عنه كيف نتقي الفتنة فيقول: انّ الفتنة تعرض على القلوب، فأي قلب شربها نكتت فيه نكتة سوداء، فان أنكرها، نكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم أم يعلم أصابته الفتنة أم لا! فلينظر، فان كان يرى حراما كان يراه حلالا، أو يرى حلالا كان يراه حراما فقد أصاب.
وهذا تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات. وقوله صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك وان أفتاك الناس أو أفتوك.
عمر يبكّي حذيفة رضى الله عنهما
عندما علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قد سلم حذيفة قائمة بأسماء سبعة عشرة منافقا، لم يستطع النوم طيلة الليل، فخرج من بيته وذهب الى بيت حذيفة رضي الله عنهما ، وقال له: لقد علمت ما علمت، أستحلفك بالله يا حذيفة أأسمي بينهم؟ فبكى حذيفة رضي الله عنه طويلا ثم قال: ان كان اسمك بينهم فماذا نقول عن أنفسنا يا عمر؟
فرضي الله عن حذيفة بن اليمان وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.

5- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
أسد الله وسيد الشهداء، وعم وأخ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة
هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخيه بالرضاعة ، نشآ معا وتآخيا معا، وسارا على الدرب معا من اول خطوة، ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق مختلف لبعض الوقت،الا أنهما في نهاية المطاف سلكا دربا واحدا، فحمزة رضي الله عنه كان قد فسح له مكانا بين زعماء قريش وساداتها، وتزاحم على طبقات الحياة، بينما النبي صلى الله عليه وسلم، عكف على أضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله تبارك وتعالى.
اسلامه رضي الله عنه:
ان حمزة رضي الله عنه خير من عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق دعوته وعظمة سجاياه، فما كان الشك يساورقلبه أبدا، وهو وغيره قد عرفوه منذ طفولته الباكرة، الى شبابه الطاهر، الى رجولته السامقة بالصادق الأمين ما تبدلت هاتين الصفتين في أي فترة من فترات حياته صلى الله عليه وسلم.
كان حمزة رضي الله عنه يتمتع برجاحة العقل وقوة الارادة الى جانب قوة الجسم، وذات يوم وهو عائد من الصيد لقيته خادمة لعبد الله بن جدعان وقالت له: انّ ابن أخيك محمد قد شتمه أبو جهل، ومضت تشرح له ما فعله أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد رضي الله عنه يبلغ الكعبة حتى يبصر أبو جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش، وفي هدوء رهيب تقدّم رضي الله عنه من أخيه واستل قوسه وهوى به على رأسه فشجّه له وأدماه ، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة رضي الله عنه في أبي جهل: أتشتم محمد وأنا على دينه أقول ما يقول؟ رد ذلك عليّ ان استطعت، وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت بزعيمهم أبو جهل والدم ينزف من رأسه، وشغلتهم تلك الجملة التي وقعت عليهم جميعا كالصاعقة بأنه على دين محمد (صلى الله عليه وسلم).
هكذا أعلن سيد الشهداء رضي الله عنه اسلامه، أعلنه في لحظة من لحظات الحمية والغضب والانفعال ولم يهن عليه أن يساء ابن أخيه أو يهان خاصة وهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذ أحدا طيلة حياته، وكما أعز الله الاسلام بعمر بن الخطاب أيضا أعزه باسلام أسد الله رضي الله عنهما.
أسد الله في بدر
ان أول سرية خرج بها المسلمون للقاء العدو كان أميرها حمزة رضي الله عنه، وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد المسلمين كانت لحمزة رضي الله عنه، ويوم التقى الجمعان في بدر كان جمزة رضي الله عنه أسد الله في المعركة.
وتعود فلول قريش الى مكة في هزيمة نكراء وخيبة أمل، ورجع أبو سفيان منكس الرأس وقد مات في المعركة معظم زعماء قريش وساداتها- أبوجهل، وأمية بن خلف، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، والأسود بن عبد الله، والعاص بن سعيد، والنضر بن الحارث، وطلحة بن عدي، والعشرات من رجال قريش وصناديدها .
وجاءت غزوة أحد، وخرجت قريش عن بكرة أبيها ومعها حلفاؤها من قبائل العرب بقيادة أبو سفيان، ومرة أخرى يكون هدفهم رجلين: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه الحمزة رضي الله عنه، وقد اختارت قريش العبد الأسود الوحشي لاغتيال حمزة رضي الله عنه، ولعبت هند بنت عتبة زوجة أبو سفيان دورا كبيرا في اغراء الوحشي لقتل حمزة رضي الله عنه، ذلك أن رغبة الانتقام منه ملحة كونه قد قتل أباها وعمها وأخيها وابنها في معركة بدر، وتسخر هند كل طاقتها لانجاز مهمتها، ووعدت الوحشي ان نجح في مهمته أن تعتقه وتعطيه عقدها الثمين الذي تزيّن به عنقها، ويسيل لعاب الوحشي لهذين العرضين المغريين، وجاءت المعركة، ولندع الوحشي يصف لنا ما تبقى من السيناريو فيقول:
كنت عبدا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة فقلما أخطىء الهدف، فلما التقى الجمعان، خرجت أنظر حمزة حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، عندئذ هززت حربتي، حتى اذا صوبتها نحوه قذفتها نحوه فأصابته لتخرج من بين رجليه، ونهض نحوي فغلب علي أمره ثم مات، ومن ثم تقدمت هند نحو حمزة رضي الله عنه وأمرتني أن أخرج لها كبده، ولما فعلت، ناولتها كبده بيمناي فناولتني قرطها بيسراها مكافأة لي على انجاز مهمتي، ومن ثم رأيتها تمضغ كبده لتشفي غليلها وحقدها وغلها، ولما لم تستطع مضغه أخرجته من فمها، ولا أدري ما تلك الرغبة المسعورة التي انتابنتها في تلك اللحظة.
وأقمت في مكة حرا حتى اذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح هربت الى الطائف، وحين خرج وفد من الطائف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم عليه، قلت في نفسي ألحق بالشام أو اليمن، فقال لي رجل: ويحك! انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل أحدا من الناس يدخل دينه، فدخلت المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال: أحوشي أنت؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: حدّثني كيف قتلت الحمزة، ولما فرغت من حديثي اليه قال: ويحك! غي!ب عني وجهك، فكنت أتنكب طريقه صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله تعالى اليه.
ولما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة خرجت معهم، واخذت معي نفس الحربة التي قتلت بها حمزة رضي الله عنه وقتلت بها مسيلمة الكذاب، وان كنت قتلت بحربتي خير الناس فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شر الناس.
فرضي الله عن حمزة وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
6- حنظلة بن أبي عامر الراهب رضي الله عنه
عريس السماء
من غسلته الملائكة عليهم السلام بعد استشهاده
الشهيد لا يغسّل ولا يكفّن، وانما يدفن بثيابه التي استشهد فيها، ولا يغسّل لأن الغسل للأموات، والشهيد ليس بميت، وانما هو حي عند ربه يرزق، لقوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون
ويسأل سائل: اذن لم الملائكة عليهم السلام غسّلت حنظلة بعد استشهاده؟ فنقول له: أن الملائكة عليهم السلام غسّلت حنظلة غسل الجنابة وليس غسل الشهادة. كان حنظلة قد زفّ الى عروسه الصحابية الجليلة جميلة بنت أبي بن سلول (زعيم الشرك والنفاق) في الليلة التي سبقت ليلة غزوة أحد، وفي صبيحة يوم الزفاف كان حنظلة أول المعسكرين مع النبي صلى الله عليه وسلم على سفوح جبل أحد استعدادا للقاء المشركين.
كل المحبين يتمنون لو يبقون الى جانب من أحبوا، يتمنون لو يزرعون الأرض ورودا لمن أحبوا، يتمنون لو رسموا قلوب حب حمراء صغيرة على أغصان الشجر وحفروا عليها أسمائهم ضمن قلب حب مرسوم يخترقه سهم يدل على قوة الحب الذي يربط قلبيهما، الا حنظلة لم يتمنى ذلك بل كانت أمنيته أن ينال ثواب الجهاد في سبيل الله دون أن يعلم أن الملائكة ستزفه عريسا الى الملأ الأعلى ويبدله الله أهلا خيرا من أهله، وعروسا خيرا من عروسه.
في هذه الليلة التي صبحها معركة أحد، يستأذن حنظله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبيت عند زوجته، وهو لا يعرف تحديدا ان كانت تلك الليلة، ليلة لقاء بزوجته أم ليلة وداع، ويأذن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لحنظلة بالمبيت عند عروسه.
أيّ سرّ تخفيه تلك الليلة عن حنظلة وقلب زوجته يحترق حنينا وشوقا على زوجها الذي لم تقضي معه سوى ليلة الزواج؟ وأيّ لواعج شوق تبثها الزوجة لزوجها في الليلة الأولى التي أعقبت ليلة زواجها؟ ها هي العروس تذرف أفراحا من دموع، تمسك بزوجها كضيف يوشك أن يرتحل، كطيف تراه ولا تملكه، تبكي بأنين محشرج وكأنها تستشعر لوعة الفراق، وليس عجبا على جميلة أن تفعل ذل وهي التي رأت رؤيا قبل زفافها بأيام قليلة لم يطمئن لها قلبها، فيضمها اليه ويطمئنها بحبه العظيم لها، وكأنه يضم كل صور الحب التي عرفها المحبون على مدار التاريخ، يضمها ليحتوي الحب السماوي الخالد الأبدي السرمدي ليذيبه في حبه البشري الفاني، أجرى حنظلة كل تلك الحسابات العاطفية في قلبه وعقله وهو لا يدري أنها الليلة الأخيرة.
ومع نسمات الفجر الأولى يؤذن مؤذن الجهاد بأن حيّ على الجهاد...حيّ على الجهاد.. وما أن سمع منادي الجهاد يحث المجاهدين على الجهاد حتى وثب من فراشه وثوب الأسد على فريسته ، حتى أنه لم يمنح نفسه فرصه لأن يغتسل غسل الجنابة خشية أن تفوته بركات الجهاد، ومن بين دموع الحبيبة وأشواق الفؤاد ينطلق الفارس المغوار الى ساحة الوغى والشرف، الساحة التي ستنقله الى عالم أبدي سرمدي خالد لا موت فيه.
انطلق حنظلة المجاهد عريس البارحة، يحمل سلاحه ليلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسوّي صفوف المجاهدين، ومع وصوله يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصفّ قلوبا للبيع في سبيل الله، ويدخل حنظلة سوق الجنة، ويحتدم القتال ويشتد، وينتصر الباعة في بداية المبيع، وحين يترك الرماة مواقعهم، حين يتحول الباعة الى مشترين، يضطرب قانون المعركة وميزانها، ويعيد المشركون تنظيم صفوفهم والمسلمون في غفلة يبحثون عن الفيء والغنائم، يتقدم المشركون بظلامهم الكثيف، ليفاجئوا بأنّ هناك قلوبا لا زالت تصمم على البيع، من تلك القلوب قلب حنظلة الراهب رضي الله عنه، ويصمد مع نبي الرحمة والسلام صلى الله عليه وسلم، ليبرهن أنه لا زال على ولاءه وحبه العظيم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم، لا زال على العهد والوفاء الذي قطعه على نفسه لأن يكون مخلصا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا زال يخجلنا في بطولته الفائقة والتي سبقت كل تصوّر، انه يتقدّم نحو أبو سفيان بن حرب، يسرع نحوه، ليضرب فرسه من الخلف، ويسقط أبو سفيان من على فرسه ويوقعه البطل المغوار أرضا، وبوقوعه كأنه أسقط الباطل الذي سرق أمن وسلام كل مسلم، الباطل الذي يطارد فكره، ويصادر عقيدته، الذي حرمه من زوجته جميلة، وحرم جميلة منه، وهنا يدركه شداد بن الأسود ويعين أبا سفيان على حنظلة، فيقتل أحدهما القلب الطاهر برمية رمح غادرة نافذة، عندها يقول أبو سفيان حنظلة بحنظلة، يقصد بذلك أنه أخذ بثأر ابنه الذي قتل يوم بدر، ولكن شتان ما بين الحنظلتين؟ حنظلته يتقلب في الجحيم، وحنظلتنا رضي الله عنه تزفه ملائكة الرحمن ليكون عريس السماء.
ويرحل عنا حنظلة البطل، ويبقى مسك دمه ليعطر أرواحنا النتنة الصدئة التي أصابها الوهن حتى أوهنت، يحمل الينا نسمات الجنة لتوقظ في نفوسنا النائمة، وتشحذ هممنا وتنعشها ان كان لا زال فينا همم، علنا يوما نمتطي صهوة جياد الشهادة، ونترجّل على خيول الأمنيات.
يا لروعة عرسك يا حنظلة! يا لروعة دمك الطاهر المعطر يا حنظلة! يا لروعة الحياة الأبدية السرمدية حول عرش الرحمن تبارك وتعالى يا حنظلة! يا لروعة الملتقى مع الأحبة الذين سبقوك الى رضوان الله تعالى عليهم في قصور من ذهب لا تعب فيها ولا نصب!
وتتطهر الأرض بدماء المحبين، دماء حنظلة فوق كل الأرض، يصبغها حبا بكل الألوان، بمزيج من الحب، أطياف وألوان من الحب، حب الله تبارك وتعالى، ذلك الحب الخالد الذي لا يخبو أبدا، ذلك الحب الذي ظل يعتمل في نفسه وينتصرعلى كل ألوان الحب الأخرى، الحب الذي يبقى يتألق ويتوهج انتصارا في روحه رضي الله عنه حيا وميتا، ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة فهنيئا لك الجنة يا حنظلة! وهنيئا لك: ربح البيع يا حنظلة! وهنيئا لك: حب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب الاسلام لأبطاله، وحب اخوانك وحب الخير لأهل الخير، وحب الوطن لأبناءه المخلصين، وتمسّك عروسك تلك الليلة وكأنها على مواعد مع القدر في أن تكون تلك الليلة وداع وليست لقاء، وايا كانت تلك الليلة، فالسماء تبقى تمطرعشقا بحبات مطر دامية، حتى تلحق بك عروسك انشاء الله.
انتهت المعركة، وعرض المتاجرون مع الله بضاعتهم، حملوا قلوبهم على أكفهم، ليقبل الله من يشاء ويرد من يشاء، هم يوقنون بأنّ الصدق والاخلاص من أنفس البضائع، ودوما من يصدق الله ويخلص له فليس بخاسر أبدا.
الصحابة يتحلقون حول جسد حنظلة رضي الله عنه وهو مسجى على أرض المعركة، تتلمّس أيديهم الحزينة جسده المخضّب بالدماء العطرة التي تفوح منها رائحة المسك، ويعجبون لقطرات الماء وهي تنساب من على جبينه الطاهر وتتساقط من خصلات شعره كحبات لؤلؤ بدت وكأن السماء تمطر عشقا.
والحقيقة أن تلك القطرات ظلت لغزا عصيّا على الفهم، حتى سمع الصحابة الكرام صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعذوبة بالغة:
اني رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من فضة.
ألم اقل لكم أنّ السماء تمطر عشقا؟
وظلت قبيلة الأوس التي ينتمي اليها العريس الشهيد تفاخر بحنظلة البطل وتقول: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومنا عاصم بن ثابت ذلك البطل الذي حمته الدبابير من المشركين، ومنا خزيمة بن ثابت من أجيزت شهادته في سبيل الله بشهادتين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن.
والحقيقة أن حنظلة رضي الله عنه يظل فخرا ووساما على صدر البشرية كلها، كلها، كلها، وليس على الأوس وحدهم، ذلك أنه تخطى جميع جميع جميع الحواجز، وتجاوز كل التقاطعات، وقطع جميع اشارات المرور الحمراء على مفترق شوارع العالم بأسره، ليلة أن غادر دفء الفراش وانسل من جانب عروسته في ليلته الأولى والأخيرة، ليلبي نداء حي على الجهاد، ليزف عريسا للمرة الثانية في ليلة واحدة، ومن من البشر من سبق له أن زفّ عريسا مرتين في ليلة واحدة؟ لا أحد..لا أحد سوى حنظلة، هو فقط رضي الله عنه من حظي بها على مدار تاريخ البشرية كلها الماضية واللاحقة والحالية.
ان جميلة وبعدما علمت ما علمت من الكرامة التي حظي بها زوجها الشهيد أيقنت صدق الرؤيا التي رأتها، عندها اطمأنت ولم يعد يهمها ان كان حنظلة قريبا منها أم بعيد، فمن يحظى بقرب الله عزوجل يكون قد سمى الى العلياء، لقد استبشرت باستشهاده خيرا أن سبقها لذلك العالم الجميل الى جنات الخلد ليؤثث لهما بيت الزوجية في الجنان العلى، فمن يطول ان يكون في ضيافة الرحمن تبارك وتعالى؟
لا زالت تروي لجيرانها الرؤيا التي رأتها قبيل زفافها بأيام، وكيف الرؤيا صدقتها؟ لقد رأت وكأن السماء قد انطبقت على الأرض، وسرعان ما انفرجت حين شعرت بدخوله فيها، ولما دخلها أطبقت من جديد.
ويبدو أن تلك الرؤيا أفزعت جميلة لحد أن رأت فيها ظلالا من الغموض والخوف، لدرجة أنها أرسلت أربعة من قومها تشهدهم أنّ حنظلة دخل بها، وما فعلت ذلك الا لتتقي همز الناس ولمزهم، فيما لو أثمرت تلك الليلتين عن بشارة تحملها السماء، لتقلدها وسام زوجة شهيد، بل وأم ابن شهيد.
فأيّ عذوبة تلك التي كانت تظلل ليل حنظلة؟ وأيّ عريس ذاك الذي استقبلته السماء؟ وأي عرس ذاك الذي أقيم في الملكوت الأعلى؟ واي عطور عطرت ثواني ودقائق وساعات هذا البطل المقدام؟ وأي شرف ذاك الذي ناله حنظلة؟
من يرغب بمعرفة المزيد عن زوجته السيدة جميلة بنت أبي بن سلول رضي الله عنهافليتصفح بحث الصحابيات الجليلات رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ.
فرضي الله عن حنظلة وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

7- حسان بن ثابت رضي الله عنه
شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم، ثلاثتهم كانوا شعراء النبي صلى الله عليه وسلم.
والشعر ليس كله حرام، وانما المحرم منه ما يتداخله ذم وهجو ومدح لأجل عرض من عروض الدنيا، هو الذي يتداخله نفاق وكذب ودجل، لهذا فقد حرم الله تبارك وتعالى الشعر من هذا النوع بقوله تبارك وتعالى: والشعراء هم الغاوون * الم تر انهم في كل واد يهيمون* وأنهم يقولون ما لا يفعلون* واستثنى من هذا النوع من الشعراء الذين يؤمنون بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ختم الله عزوجل سورة الشعراء بقوله:
الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
ليكون هناك شعراء مستثنون من الغواية.
خوضه في قصة الافك
كان رضي الله عنه قد خاض مع ممّن خاضوا في حادثة الافك الشهيرة ، حين رمى أهل الافك والبهتان من المنافقين السيدة أم المؤمنين عائشة الطاهرة المطهرة بما قالوه عنها من الكذب البحت، والفرية التي غار الله عزوجل لها لينزل الله عزوجل دليل براءتها من سابع سماء قرآنا يتلى الى يوم القيامة:
انّ الذين جاؤوا بالافك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم، لكل امرىء منهم ما اكتسب من الاثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم.
ولقد جاء قول الله عزوجل مواسيا لأبو بكر وأهل بيته رضي الله عنه، وما قوله عزوجل الا ظهار شرف للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها رضي الله عنه باعتناء الله تبارك وتعالى بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنزل براءتها بقرآن عظيم تتلى آياته الى يوم القيامة، وبدأ المسلمون يدخلون عليها رضي الله عنها مهنئين ببراءتها، ذلك أن الظلم شره مستطير، وظلمات يوم القيامة.
والعصبة الواردة بقوله تعالى هم جماعة المنافق الملعون الى يوم الدين رأس الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول الذي أذاع وشيّع الفاحشة، حتى أنه كان تمكن من ادخال التهمة في أذهان بعض المسلمين، وبقي الناس يتداولون هذا الأمر فيما بينهم قرابة الشهر في الوقت الذي لم يوحى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شان عائشة رضي الله عنها، ولم يوقف الناس عن الخوض بسيرتها رضي الله عنها حتى نزلت براءتها من رب العزة تبارك وتعالى ، والذي تولى كبره منهم هو عبد الله بن أبي بن سلول.
والذين خاضوا في أمر السيدة عائشة رضي الله عنها ثلاثة من الصحابة كما أظهرت الروايات هم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهم، وقد أظهرت الروايات والله أعلم أنه قد تيب على من تكلم من المؤمنين في ذلك، واقيم الحد على من أقيم عليه.
فرضي الله عن حسان بن ثابت وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
8- خالد بن الوليد بن المغيرة رضي الله عنه
سيف الله المسلول
أبوه هو الوليد بن المغيرة أعدى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والاسلام، وقد مات كافرا، وخالد شارك المشركين قتالهم للمسلمين كل الغزوات التي سبقت فتح مكة.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم في يوم واحد قبل فتح مكة بأيام قليلة، ونترك الحديث لخالد رضي الله عنه يحدثنا عن اسلامه فيقول: لما أراد الله بي من الخير قذف في قلبي الاسلام وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت المواطن كلها ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في موضع أشهده الا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأنّ محمد صلى الله عليه وسلم سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بايذاءه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه العصر- صلاة الخوف- فوقع ذلك منا، وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزلنا وعدل عن سير خيلنا، وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشا بالحديبية، ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أيّ شيء بقي؟ أين أذهب؟ الى النجاشي أذهب وهو قد اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده آمنون؟ أم الى هرقل فيخرجني من ديني الى النصرانية أو الى اليهودية؟ أم أقيم بين العجم؟ أم أبقى في داري ممن بقي لي من حياة؟ وأنا في ذلك، اذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، فغيّبت ولم أشهد دعوته، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، فطلبني فلم يجدني، فكتب اليّ كتابا جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم- أما بعد، فاني أرى أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام، وقد سألني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أين خالد؟ فقلت: ياتي به الله، فقال: مثله جهل الاسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده من المسلمين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة.
فلما جاءني كتابه نشطت للخروج (أسرعت) وزادني رغبة في الاسلام، وسرّني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، فخرجت في بلاد خضراء واسعة وقمت في المدينة، فلقيني أبو بكر رضي الله عنه، فال: مخرجك الذي هداك الله للاسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك، فلما قررت لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أصاحب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب! اما ترى ما نحن فيه؟ انما نحن كأضراس وقد ظهر محمد صلى الله عليه وسلم على العرب والعجم، فلو قدمنا اليه واتبعناه فان شرفه لنا شرف، فأبى صفوان أشد الاباء، وقال: لو لم يبقى غيري ما اتبعته أبدا، فافترقنا، فلقيت رجلا قتل أخوه وابوه في بدر(عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه) فقلت له ما قلت لصفوان فقال لي مثلما قال، فخرجت الى منزلي، لإامرت براحلتين، فخرجت بهما الى أن لقيت عثمان بن طلحة فذكرت ما ذكرت لصفوان وعكرمة فأسرع بالاجابة، فأدلجنا سحرا قبل طلوع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا الى الهدّة، فوجدنا بها عمرو بن العاص، فقالك مرحبا بالقوم! فقلنا: وبك، فقال: الى أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الاسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: ما الذي أقدمكما الا الذي أقدمني، فذهبنا جميعا حتى دخلنا المدينة، فعلم بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرّ بنا، فقال لي اخي الوليد: اسرع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سرّ لقدومك وهو ينتظركم، فأسرعنا بالمشي فاطلعت عليه، فما زال يبتسم اليّ حتى سلمت عليه سلام النبوة، فردّ عليّ السلام بوجه طلق، وقلت: اشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله، ثم قال لي: تعال! الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى عقلا رجوت أن لا يسلمك الا الى خير، فقلت: يا رسول الله! اني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق، فادع الله أن يغفرها لي! فقال صلى الله عليه وسلم: الاسلام يجبّ ما قبله، اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله، ثم تقدّم عثمان بن طلحة وعمرو بن العاص، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في صفر سنة 8 للهجرة.
بعد ان اسلم خالد رضي الله عنه بات رمزا من رموز الاسلام، وبات يتحدى جبابرة العالم ويهدد أمنهم وعروشهم وممالكهم، وان ابوا الدخول في الاسلام فرض عليهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذه بعضا من رسائله رضي الله عنه الى ملوك العالم.
سيف الله المسلول
أتذكرون ابطال مؤتة الثلاثة رضي الله عنهم: زيد بن الحارثة، جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة؟ تلك الغزوة في أرض الشام والتي حشد لها الروم 200 الف مقاتل، والتي أبلى فيها المسلمون بلاء منقطع النظير، ألا زلتم تذكرون العبارة التي نطق بها الفم الشريف فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه قائلا:
أخذ الراية زيد فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم اخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها سيف الله المسلول ففتح الله على يديه.
يومها كان خالد رضي الله عنه جنديا عاديا تحت أمرة الشهداء الثلاثة رضي الله عنهم الذين سبقوه الى المجد والعلياء، وبعد سقوط الشهيد الثالث على ساحة الشرف يحمل الراية ثابت بن أقوم رضي الله عنه ويرفعها عالية وسط الجيش المسلم حتى لا تعم الفوضى صفوف المسلمين بعد استشهاد قادتهم الثلاثة، ولم يكد ثابت يحملها حتى توجه بها مسرعا الى خالد رضي الله عنهما قائلا له: خذ الراية يا أبا سليمان! لم يجد خالد انه من حقه أخذها وهو حديث عهد في الاسلام، لقد وجدها كبيرة أن يحملها ويقود قوما فيهم أنصارا ومهاجرين ممن سبقوه للاسلام وبأعوام كثيرة.
ادب وتواضع وعرفان ومزايا، هو لها ابن الوليد رضي الله عنه، وبها جدير ، وبعد أن هتف الجميع له، اخذ خالد الراية، واعتلى العبقري جواده ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنه يقرع أبوابا مغلقة آن لها أن تفتح، وتولى امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدّد، فضحايا المسلمين كثير، وجناحهم مهيضا، وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح ظافر مدمدم، ولم يكن بوسع خالد رضي الله عنه أن يغيّر من المصير شيئا فيجعل الغالب مغلوبا، والمغلوب غالبا، كل ما كان بوسعه فعله أن يوقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، اي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة، بيد أنّ انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان، ولكن اذا صحّ فانه لا مستحيل على القلب الشجاع، وان لم يكن خالدا شجاعا، فمن أشجع منه رضي الله عنه؟ ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة منه؟ هناك تقدم سيف الله المسلول يرمق أرض المعركة الواسعة بعينيين ثاقبتين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهية سريعة كسرعة الضوء، ويقسم جيشه والقتال دائر الى مجموعات، ويوكل الى كل مجموعة مهامها، وراح يستعمل ذكاءه ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى بعد أن نجا من كارثة مؤكدة ما كان لها من زوال، وفي هذه المعركة أنعم النبي صلى الله عليه وسلم على خالد بهذا اللقلب العظيم.
فتح مكة
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون لفتح مكة، وعلى الجناح الأيمن من الجيش يجعل النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه أميرا، ويدخل مكة كواحد من قادة الجيش المسلم، بعد أن امضى سنوات قائدا لجيش الوثنية والشرك.
وترتج مكة ارتجاجا كالزلزال بالتهليلات الباهرة الظافرة، فيبدو الكون كله وكأنه في عيد، لقد تحققت المعجزة، والزاحفون الظافرون يكبرون ويهللون فرحين مستبشرين: الله اكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله العظيم بكرة وأصيلا، وعد الله لا يخلف الله وعده.
ثم يحني رأسه رضي الله عنه شاكرا لأنعم الله تبارك وتعالى الذي هداه للاسلام، وجعله في يوم الفتح العظيم هذا واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.
رسائله الى ملوك العالم: فارس، أهل المدائن، والى هرمز
- بسم الله الرحمن الرحيم- من خالد بن الوليد الى رستم ومهران وملأ الفرس- سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فأنا ادعوكم الى الاسلام، فان أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فان أبيتم فانّ معي قوما يحبون القتل في سبيل الله كما تحب فارس الخمر، والسلام على من اتبع الهدى.
هذه هي الرجال التي يجب ان تطاع، فالعدو لا يفهم الا لغة الحديد والنار، ولغة والحديد لا تكون الا من القوة المستمدة من العزيز القهار، ذلكأن الله تعالى لا ينصر الخنوع والجبان، وانما يذله من اعداءه، وهذا هو حالنا اليوم بعدما ابتعدنا قطعنا حبل الله المتين، كتاب الله وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، أمران ما ان تمسكنا بهما لن نضل أبدا ولكن هيهات هيهات وقد وضعناهما على الأرفف للغبار.
اسلام جرجة واستشهاده رضي الله عنه
في معركة اليرموك خرج أحد أمراء الروم الكبار ويدعى جرجة من الصف وطلب مقابلة خالد رضي الله عنه ودار بينهما الحوار التالي:
هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد الا هزمته؟ أجابه رضي الله عنه بلا.
اذن فيم سميت سيف الله المسلول؟
ان الله بعث فينا نبيا، منا من صدقه ومن كذبه، فكنت انا فيمن كذبه، فلما هداني الله وبايعته قال لي: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر، فسميت بسيف الله المسلول، وأنا من أشد المسلمين على المشركين.
يا خالد الام تدعو؟
الى شهادة أن لا اله الا الله وأنّ محمدا رسول الله، والاقرار بما جاء به من عند الله عزوجل.
فمن لم يجبكم؟
فالجزية ونمنعهم.
فان لم يعطها؟
نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.
فما منزلة من يجبكم ويدخل في دينكم؟
فمن دخل في ديننا منكم بحقيقة ونيّة صادقة كان أفضل منا.
بالله لقد صدقتني ولم تخادعني، ثم مال على خالد رضي الله عنه وقال له: علمني الاسلام.
فمال به خالد رضي الله عنه الى فسطاطه وشن عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين، وهكذا بات جرجه مسلما يقاتل في جيش المسلمين واستشهد في نفس المعركة ولم يصلي سوى الركعتين التي صلاهما مع خالد رضي الله عنه.
منزلة مقاتلي أحد
ذات يوم شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد رضي الله عنهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا خالد! لا تؤذ رجلا من أهل بدر، فلو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله. فقال له خالد رضي الله عنه: يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تؤذوا خالدا فانه سيف من سيوف الله صبّه (أو سله) الله على الكفار.
وفاته رضي الله عنه
على الرغم من أنه لم يبقى في جسده موضع شبر الا وفيه طعنة خنجر، او طعنة رمح، ،أو ضربة سيف، ومع ذلك لم يرزقه الله الشهادة على ساحة الشرف، لذا عندما حضرته رضي الله عنه الوفاة، قال قولته المشهورة:
ها أنا أموت على فراشي كما تموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
فرضي الله عن خالد، وصلى الله وسلم وبارك على من سماه بسيف الله المسلول.
9- خالد بن سعيد بن العاص بن أمية رضي الله عنه
أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم
بعدما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى أراد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يجعل خالد أميرا على احد الأقاليم الواقعة تحت قيادته، فاعتذر رضي الله عنه، وقال: لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم رضي الله عنه نتيجة رؤيا شاهد فيها يوم القيامة، ولنترك الزبير بن العوام رضي الله عنه يروي لنا القصة فيقول: كان اسلام خالد قديما، وكان أول أخوته دخولا في الاسلام، وكان بدء اسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف على شفير النار، وانّ أباه يدفعه فيها، ويرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بحقويه (خصره) لئلا يقع، ففزع من نومه، وقال: أحلف بالله أنّ هذه الرؤيا حق، فلقي أبابكر رضي الله عنه وذكر له رؤياه، وقال له: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعه، فالاسلام يحجزك أن تدخل فيها، وابوك واقع فيها.
وعندما علم أبوه باسلامه أرسل في طلبه، فأتي به، فأنبه وضربه بسوط في يده حتى كسره على رأسه وقال له: اذهب يا لكع (يا لئيم) وقال له: والله لأمنعنك القوت، فقال له خالد:ان منعتني فانّ الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويكون معه.
وعندما علم أنّ اباه على فراش الموت، عاده من باب الصلة والبر، فقال أبوه: لئن رفعني الله من مرضي هذا، لا يعبد اله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبدا، فقال رضي الله عنه: اللهم لا ترفعه، فتوفي سعيد بن العاص في مرضه ذاك.
كان خالدا رضي الله عنه وأخوه عمرو قد هاجرا الى الحبشة، ولما قدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مرّ على معركة بدر قريبا من العام، فحزنا كونهما لم يشهدا بدرا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما تحزنون! انّ للناس هجرة واحدة، ولكم هجرتان، هاجرتم حين خرجتم الى صاحب الحبشة، ثم جئتم من عند صاحب الحبشة مهاجرين اليّ.
من أراد أن يقرأ المزيد عن هذا الصحابي الجليل فليذهب الى ركن الصحابيات الجليلات في نهاية البحث فقرة أم خالد القرشية رضي الله عنها.
فرضي الله عن خالد بن سعيد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
10- خبيب بن زيد رضي الله عنه
رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مسيلمة الكذاب
هو ابن زيد بن عاصم، ومن السبعين المبايعين بيعة العقبة الثانية، والمرأتان اللتين بايعتا مع السبعين، احدهما امه نسيبة بنت كعب احدى والثانية خالته، وثلاثتهم من المقطوع لهم بالجنة انشاء الله.
رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مسيلمة
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ادعى رجلان النبوة، أحدهما مسيلمة الكذاب من جنوب الجزيرة العربية، والآخرالأسود بن كعب العنسي من صنعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى رسالة مسيلمة جاء فيها:
من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول (صلى الله عليه وسلم) سلام عليك.
اما بعد،
فاني قد أشركتك في الأمر وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه الكاتبين وأملى عليه رده على مسيلمة اللعين: بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله (صلى اللله عليه وسلم) الى مسيلمة الكذاب
السلام على من اتبع الهدى، أما بعد،
فانّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
وجاء رد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة التي زلزلت كيان مسيلمة كله، جاءت عليه كفلق الصبح حين فضحته ككذاب بني حنيفة اللعين الذي ظنّ أنّ النبوة ملكا لا وحيا، وراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد، ووقع اختيار النبي صلى الله عليه وسلم على حبيب بن زيد ليحمل رسالته الى مسيلمة الكذاب.
وسافر حبيب مغتبطا بالمهة الجليلة التي أوكله بها سيد البشرية قاطبة صلى الله عليه وسلم، وبلغ المسافر غايته وفضّ مسيلمة الرسالة التي أعشاه نورها فازداد ضلالة وغرورا، ولم يكتفي لعنه الله بذلك، بل أذاق حبيب بن زيد أشد العذاب بهدف سلبه شجاعة روحه فيبدو متخاذلا مستسلما مسارعا للايمان به فقال له:
أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟
نعم انه رسول الله
وتشهد أني رسول الله؟
اني لا أسمع شيئا مما تقول
تحولت عندها صفرة الخزي والعار على وجه مسيلمة الى سواد حاقد مجبول بعدما أدرك انّ العذاب لم يؤثر به، فهاج كالثور الأهوج المذبوح ونادى جلاده وأمره أن يقطع جسده قطعة قطعة، وعضوا عضوا، والبطل العظيم يردد شعاره: لا اله الا الله محمدا رسول الله، ويبلغ رسول الله نبأ استشهاد رسوله الكريم، ويصطبر صلى الله عليه وسلم لحكم ربه، فهو يرى بنور الله تبارك وتعالى مصير هذا المسيلمة الكذاب، ويكاد يكون مصرعه رأي العين.
أما أمه رضي الله عنها فقد ضغطت على أسنانها طويلا ثم أطلقت يمينا لتثأر لولدها من قاتل ابنها اللعين ولتغوص في لحمه الخبيث برمحها وسيفها، ويدور الزمن دورته، وتأتي الموقعة الخالدة موقعة اليمامة، ويجهز أبو بكر رضي الله عنه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم الأول جيش الاسلام الذاهب الى اليمامة بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لمقاتلة مسيلمة وجيشه، وخرجت أم البطل رضي الله عنهما مع الجيش ودخلت المعركة وسيفها بيمناها لتبرّ قسمها بالثأر، وبيسراها رمح، ولسانها لا يكف عن الصياح: أين عدو الله مسيلمة، وما أن هوى الوحشي على مسيلمة بضربة قاتلة وبنفس الرمح الذي قتل فيه الحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومان أن علم أتباعه بمقتل قائدهم حتى سقطوا كالعهن المنفوش لترتفع رايات الاسلام عزيزة ظافرة، عندها وقفت نسيبة أم حبيب الشهيد شامخة وقد تجلى لها وجه ولدها حبيب الله يملأ الزمان والمكان وسط الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة المستبشرة.
فرضي الله عن حبيب بن زيد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
11- خبيب بن عدي رضي الله عنه
أول رجل في تاريخ العرب يقتل فوق الصليب
وأول رجل تبلعه الأرض بعد موته
والآن افسحوا لهذا البطل المقدام والشجاع وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان، تعالوا مسرعين وخاشعين لتتعلموا درسا في التضحية والفداء لا يقل شجاعة واقداما عن صاحبه حبيب الذي تناولنا سيرته قبل قليل رضي الله عنهما.
فيا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد، ويا عشاق الأديان والايمان تعالوا بغروركم وانظروا آية العزّ والمنعة والثبات والفداء والولاء، وانظروا جثمان من هذا المصلوب على خشبة الصلب في منطقة التنعيم على أطراف مكة المكرمة؟ وفي أي شيء صلبوه لعنهم الله؟
انه رضي الله عنه خبيب بن عدي! احفظوا هذا الاسم الجليل جيدا وأنشدوه ، فانه شرف لكل انسان ، من كل دين، من كل مذهب، وفي كل زمان ومكان.
انه رضي الله عنه أحد أوس المدينة وأنصارها، كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير.
لقد كان كما وصفه حسان بن ثابت رضي الله عنهما صقرا توسط في الأنصار منصبه، سمع الشجيّة محصنا غير متوشب.
شجاعته رضي الله عنه
ولما رفعت غزوة بدر اعلامها كان هناك جنديا باسلا ومقاتلا مقداما جندل جميع المشركين الذين وقعوا في طريقه وعلى رأسهم الحارث بن عامر بن نفيل، ، وبعد انتهاء المعركة وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم وتوعدوا لقاتله.
وبعد المعركة وعودة المسلمون من بدر الى المدينة، تابع المسلمون المثابرة على بناء مجتمعهم الجديد، كان خبيب عابدا زاهدا ناسكا، اقبل على العبادة بروح عاشق يقوم الليل ويصوم النهار، ويقدّس الله رب العالمين.
موقفه بعد الأسر رضي الله عنه
كان أحد الصحابة العشرة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتقصوا أخبار المشركين بعدما وصلته عليه الصلاة والسلام أخبارا مفادها أنهم ينوون غزو المسلمين ثارا لقتلاهم في بدر، وكان امير العشرة عاصم بن ثابت، والذي استشهد هو وسبعة من رفاقه رضي الله عنهم بعد معركة وطيسة الحمى بينهم وبين اكثر من 100 فارس من فرسان المشركين على مشارف مكة، وتم أسر خبيب بن عدي وزيد رضي الله عنهما، وهكذا مضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا وأوثقهم عهدا وأوفاهم ذمة لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقادهما الرماة البغاة الى مكة حيث باعوهما لمشركيها، ودوّى اسم خبيب بن عدي رضي الله عنه في الآفاق، وتذكر بنو الحارث بن عامر قتيلهم في بدر، وجاشت الأحقاد في الصدور من جديد، وسارعوا الى شراءه.
لقد كان رضي الله عنه مقبلا على نسكه، ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي أفاءها عليه ما يذيب الصخر ويلاشي الهول، كان الله تبارك وتعالى معه، ومن يكن في معية الله فلا يهاب ولا يخاف أحدا الا الله، ومن لا يخاف الله فكل شيء يخيفة حتى البعوضة وهي تشاركه غرفة نومه، وشعار خبيب وجميع صحابته رضي الله عنهم المخلصين هو: كن مع الله ولا تبالي، ومن يحمل شعارا كهذا حتما تكون عين الله تبارك وتعالى تحرسه.
رزق الله الكريم
دخلت عليه احدى بنات الحارث يوما وهو أسير لديهم فخرجت من عنده مسرعة الى الناس تناديهم كي يبصروا عجبا، وقالت لهم: والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من العنب يأكل منه وهو موثق بالحديد وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا، لقد صدقت ابنة الحارث، ألم يكن زكريا كلما دخل على مريم عليهما السلام يجد عندها رزقا؟ وعندما سألها عليه السلام من أين لك هذا يا مريم؟ أجابته: انه من عند الله، انّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، والله تبارك وتعالى ينصر عباده الذين ينصرونه وما خبيبا الا واحدا من أولياء الله الصالحين وكان على الله حقا نصر المؤمنين.
أجل! لقد آتاه الله عزوجل ما آتى مريم بنت عمران عليها السلام من قبل، فأي منزلة لهذا البطل الصنديد، والعبد المطيع المخلص بعبادته للمعبود رب العباد؟
وحمل المشركون الى خبيب مصرع صاحبه زيد رضي الله عنه، ظانين أنهم بهذا سيسحقون ارادته وأعصابه، وما كانوا يعلمون أنّ الله الرحمن الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته تبارك وتعالى، وراحوا يساومونه على ايمانه ويلوّحون له بالنجاة ان هو كفر بدين محمد عليه الصلاة والسلام، لكنهم كانوا كمن يبيع الماء في حارة السقايين.
ولما يئسوا من قوة ايمانه وصلابته قادوه بطلا الى مصيره وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم، قريببا من مكة، واختاروا ذلك المكان ليشهد مصرع البطل، وما أن بلغوا المكان حتى استأذنهم رضي الله عنه ليختم حياته بركعتين لله تعالى.
ما هذا الانسان الذي أمامنا؟ من منا في موقف كهذا ياتي على باله ما أتى على بال خبيب؟ ان كنا نحن مرضى وطريحي الفراش بنزلة زكام حادة ربما لا نقوم بالفروض، ولكن ليس عجبا من فعل انسان كخبيب قلبه معلق بالله عزوجل، ومن تعلق قلبه بالله تعالى فهذا يعني أن الله يحبه، ومن احبه الله أدخل حصنه، ومن دخل حصن الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ونعود الى جلادي هذا البطل المقدام الذين أذنوا له بالصلاة ظانين أنه قد يجري خلال الصلاة مع نفسه حوارا ينتهي باستسلامه، ويعلن الكفر بدين محمد عليه الصلاة والسلام، ويقف خبيب رضي الله عنه بين يدي الله تبارك وتعالى بكل خشوع وطمأنينة وأمن وسلام شحنت روحه الطاهرة بقوة حلاوة الايمان مما جعلته يتمنّى لو يظل يصلي ويصلي ويصلي، وبعد أن أنهى رضي الله عنه صلاته التفت صوب قاتليه وقال لهم: والله لولا تحسبوا أنّ بي جزعا من الموت لازددت صلاة، ثم رفع يديه الى السماء وبدأ يناجي ربه سبحانه وتعالى قائلا: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي
بطلا فوق الصليب
انّ خبيب بن عدي رضي الله عنه هو أول رجل في تاريخ العرب يصلب ويقتل فوق الصليب، وأوثق المشركون يديه ببطء ووحشية مقصودة للنيل من عزيمة البطل المصلوب، وما زادهم غيظا هو أنه رضي الله عنه لم تغمض له عين ولم تغادر السكينة العجيبة المضيئة في وجهه، واستعد الرماة يشحذون رماحهم، وبدأت الرماح تنوشه والسيوف تنهش لحمه، وفي هذا الموقف الرهيب والعصيب يتقدّم منه أحد زعماء قريش قائلا له: أتحبّ أن يكون محمدا مكانك وأنت سليم معافى في أهلك يا خبيب؟
فأجابهم اجابة البطل الصنديد العملاق بكل ما تحمله الأرض من قوة ايمان، وانتفض انتفاضة الاعصار صائحا به بكل قوة وعنفوان: والله! ما أحب! أنّ في اهلي وولدي معي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة.
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! على كل من طغى وتجبر، انها نفس النشيد السماوي الذي تغنى به زيد من قبله وهم يهمون بقتله رضي الله عنه، ما أجلك وما أعظمك يارب عندما تتجلى على عبادك الصادقين وتلهمهم بكلمات باهرة صادعة تصدع وتقهر الأفاكين، كلمات زيد بالأمس يقولها خبيب اليوم رضي الله عنهما، مما جعلت أباسفيان يضرب كفا بكف ويقول مشدوها: والله! ما رأيت أحد يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا( صلوات ربي وسلامه عليه)
نعم! انه الله تبارك وتعالى الذي يأبى الا ويتم نوره ولو كره الكافرون.
بليع الأرض
عندما رفع خبيب رضي الله عنه الى جذوع النخل التي صنع منها صليبا، كان خبيب رضي الله عنه قد يمّم وجهه شطر السماء، وابتهل الى ربه العظيم قائلا: اللهم انا قد بلغنا رسالة رسولك، فلبغه الغداة ما يصنع بنا، ويستجيب الله تعالى لدعاء أولياءه المظلومين، وبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأنّ أصحابه في محنة، وتراءى له صلى الله عليه وسلم جثمان أحدهم معلقا، ومن فوره دعا المقداد بن عمرو والزبير بن العوام رضي الله عنهما وركبا فرسيهما ومضيا يقطعان الأرض وثبا، الى أن جمعهما الله تعالى بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبيهما حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمه تحت ثراها الطيب.
عبير يفوح من الجثمان المصلوب
وقريبا من المشهد كانت تحوم طيور وصقور كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان الطاهر وجبة شهية، الا أنها سرعان ما تناءت وتجمعت وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل حديث النجوى فيما بينها، وفجأة طارت تشق الفضاء وتمضي بعيدا بعيدا، وكأنها شمّت بحاستها وغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب.
وعادت جماعة الشرك الى أوكارها الحاقدة في مكة، وبقي الجثمان الشهيد الطاهر تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسيوف.
وأختم حديثي عن هذا البطل المقدام بما رواه الضحاك رحمه الله فقال:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل المقداد والزبير في أنزال خبيب عن خشبته التي صلبه عليها المشركون، فلما وصلا الى التنعيم، وجدا حوله أربعين رجلا نشاوى (سكارى) فأنزلاه، وحمله الزبير على فرسه وهو رطب لم يتغيّر فيه شيء، فلحق به المشركون، فقذفه الزبير عن الفرس فابتلعته الأرض.
لا أحد حتى اليوم يعرف أين قبر خبيب بن عدي رضي الله عنه، ولعلّ ذلك أحرى وأجدر، حتى يظل مكان هذا البطل في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة:
بطلا فوق الصليب
فرضي الله عن خبيب وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
12- خبّاب بن الأرث رضي الله عنه
سيّاف الجاهلية، ورائد التضحية والفداء في الاسلام
هذا الصحابي الجليل هو خبّاب بن الأرث رضي الله عنه سيافا لأهل مكة، أي كان يصنع السيوف لأهل مكة ويرسل بها الى الأسواق.
وعلى غير العادة التي كان عليها خبّاب رضي الله عنه الذي لم يكن ليفارق بيته وعمله اتوه نفر من قريش ليأخذوا سيوفهم الموصى عليها فلم يجدوه في محله، انتظروه حتى اذا أتى سألوه عن سيوفهم فنظر اليهم في عجب وقال رضي الله عنه: هل سمعتم كلامه؟ يقصد كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فنظر بعضهم بعضا في دهشة وعجب وهم لا يفهمون ما يقول، فيسأله أحدهم في خبث: هل أنت رأيته يا خبّاب؟
فيدنو منه خبّاب رضي الله عنه قائلا له : من تعني؟
أجابه الرجل في غيظ: اعني الذي تعني.
أجابه وهو هائم في نشوته وغبطة روحه: اجل! رأيته وسمعته، رايت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتللألأ من ثناياه، فصاح أحدهم: من هذا الذي تتحدّث عنه يا عبد أم انمار؟
أجابه في هدوء القديسين: ومن سواه يا أخا العرب؟ من سواه من قومك من يتفجر من جوانبه الحقو ويخرج النور من بين ثناياه؟
فصاح آخر وهبّ مذعورا: نخشى أنك تعني محمدا!
فهزّ رأسه المفعم بالغبطة وقال: نعم! هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى الينا ليخرجنا من الظلمات الى النور، تكلم خبّاب تلك الكلمات ولم يعد يدري بعدها ما حدث له، كل ما كان يذكره أنه حين أفاق من غيبوبته التي امتدت لساعات أنه رأى جمهرة من الناس وبصره شاخص الى الأفق البعيد يتلمس النور الذي يفتقده معظم الناس من حوله وهم يحيون حياة الجهل والظلام.
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك النور الذي يهدي الى تلك الحلقة المفقودة في معظم حياة البشر؟
أجل انه هو، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء
واستغرق خبّاب رضي الله عنه في استغراقه وتاملاته السامية بتفكير عميق ثم عاد الى داره ليضمد جراح جسده، ويهيء نفسه لاستقبال يوم جديد، ومنذ ذلك اليوم كان خبّاب قد أخذ مكانه بين المعذبين المضطهدين، لقد عذبه المشركون عذابا لا يحتمله بشر، كانوا يلصقون ظهره العاري بقطع الحديد المحماة حتى اذا ذهب لحمه عن عظمه تركوه.
لقد كان صبره على العذاب اكبر من العذاب نفسه بمئات الأميال ، وليس عجبا في ذلك مع أولياء الله المخلصين الذين جعلهم سبحانه وتعالى يجعله شوكة في حلوق الأعداء فيقويهم على تحمل آلام العذاب.
لقد حوّل المشركون جميع الحديد الذي كان خبّاب يصنع منه السيوف الى قيود وسلاسل، كانوا يحمون عليها النار حتى اذا استعرت وتوهجت طوّقوا بها جسده ويداه وقدماه.
دعونا للحظات مع هذا البطل يروي لنا موقفا له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شكونا حالنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد احمر وجهه ثم قال: قد كان قبلكم يؤخذ منهم الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى أحدا الا الله عزوجل، والذئب مع غنمه، ولكنكم تعجلون.
ولقد تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم هذه، حيث في عهد الخليفة العادل خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حيث وبعد أن ساد في عهده الميمون العدل حتى عمّ كل أرجاء المعمورة باتت الخراف تأمن على نفسها من الذئاب بل وتحرسها وهي تسير معها جنبا الى جنب، ومن أراد أن يعرف المزيد عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والذي قتلته خشية اللهعزوجل فليتصفح سيرة العمرين رضي الله عنهما بدل عكوفه على متابعة التلفاز ببرامجه الساقطةمن مسلسلات وأفلام ومعازف وقينات، ولنتذكر دوما قوله تعالى: ن، والقلم وما يسطرون ، فالعلم نور خاصة عندما نكون مع أناس عظام سطروا التاريخ بسيرهم العطرة، وكما أخبر الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم يحشر المرء مع من أحب.
انّ الله لبالمرصاد وكما تدين تدان والديان لا يموت
وخاض خبّاب رضي الله عنه معركة الهول صابرا محتسبا، وكانت أم انمار تساعد الكفار في تعذيبه رضي الله عنه، كانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب وتضعه فوق رأسه، وخبّاب يتلوى من الألم كاظما أنفاسه حتى لا تخرج منه زفرة ألم ترضي غرور جلاديه، ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما والحديد المحمى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم حنانا وأسى، ماكان يملك صلى الله عليه وسلم لخبّاب شيئا سوى أن يثنيه على الصبر في سبيل الله، ودعا له صلى الله عليه وسلم دعاء استقبلته السموات طوعا باذن الله: اللهم انصر خبّابا، وتصاب أم نمّار بسعار عصيب وغريب جعلها تعوي عوي الكلاب، ولم ينفع يومها معها أي علاج من هذا الداء سوى أن يكوى رأسها بالنار، وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمى تصبح عليه وتمسي عليه، انّ اربك لبالمرصاد لكل من تسول له نفسه باذلال أحباب الله تبارك وتعالى، أليس هو القائل في الحديث القدسي الجليل: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب. أجل يا رب! أمنا بك وعليك توكلنا فاغفر لنا مغفرة من عندك واعف عنا وارحمنا واشملنا بعفوك الكريم يا حنّان يا منّان يا ذا الجلال والاكرام.
كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب، والمؤمنون يقاومون العذاب بالصبر والايمان وخبّاب رضي الله عنه كان وحده مدرسة كاملة في الايمان والصبر والتضحية.
انه تلميذ عميد جامعة مكة المكرمة صلى الله عليه وسلم، اول جامعة عقائدية في تاريخ الجزيرة العربية.
تعليمه للقرآن الكريم
لقد تعلم خبّاب رضي الله عنه القرآن الكريم حتى غدا مرجعا يتصل بالقرآن حفظا ودراسة، انه هو الذي كان يدّرس القرآن الكريم لسعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب عندما دخل عليهم الفاروق متوشحا سيفه وهو يعلمهم سورة طه التي كانت سببا في اسلامه رضي الله عنهم أجمعين.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين يفرش لهم رداءه الشريف ويربت على أكتافهم وهو يقول لهم: أهلا بمن أوصاني بهم ربي
وفاته رضي الله عنه
توفي رضي الله عنه سنة 37 للهجرة.
ولعلّ خير ما نودع به هذا البطل كلمات الامام علي كرّم الله وجهه بعد عودته من صفين حين وقعت عيناه على قبر غضّ رطيب فسأل رضي الله عنه، قبر من هذا؟ وعندما أجابوه بأنه قبر خبّاب بن الأرث، تملاه رضي الله عنه خاشعا آسيّا وقال: رحم الله خبّابا، لقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، ونحن بدورنا نثني على قول الامام علي رضي الله عنه ونقول:
رضي الله عن خبّاب وأرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

قلب., 11 - 1 - 2012 11:07 PM

الصحابة بحرفالعين 1- عامر بن فهيرة رضي الله عنه
رفع الى السماء بعد استشهادة مباشرة
هذا الصحابي الجليل أكرمه الله عزوجل بأن رفعته الملائكة الى السماء بعد استشهاده مباشرة في غزوة بئر معونة مباشرة، ولو اكتفينا بهذا القدر من الحديث عن هذا الصحابي الجليل لكفى.
فعن عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن امية الضمري، أشار عامر بن الطفيل الى قتيل، وقال: لقد رأيته بعدما قتل أنه رفع الى السماء، واني لأنظر بينه وبين الأرض، ثم وضع، فاخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انّ أصحابكم قد أصيبو، وانهم قد سألوا ربهم: ربنا أخبر اخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا! فأخبرهم عنهم، وأصيب يومئذ عروة بن أسماء بنت الصلت فسمى عروة به (عروة بن الزبير) ومنذر بن عمرو وسمي به منذر (منذر بن الزبير) والذي قتل عامر بن فهيرة هو جبار بن سلمى الكلابي بطعنة بالرمح، فعندما طعن عامر قال: فزت وربّ الكعبة (أي بالجنة).
وعن عقبة بن عروة رضي الله عنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أنّ الملائكة عليهم السلام قد وارته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: انّ الملائكة وارت جثته وأنزل عليين.
فرضي الله عن عامر وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
2- عاصم بن ثابت رضي الله عنه
حمت جثته الدبابير من بطش المشركين
هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كان أحد المشركين الذي قاتل الملمين في غزوة بدرالى جانب المشركين، ومنذ أن أسلم أقسم بألا ينزل في ذمة مشرك بعد اليوم، وكان قد عاهد الله تبارك وتعالى بألا يمسّ مشركا أو يمكّن مشركا من مسّه.
وذات يوم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وأمّره على مجموعة من المقاتلين ليكون أميرا عليهم، وبعدما استشهد وعلمت قريش بمقتله أرسلوا من يأتي بشيء من جسده، وولكن لأنه عاهد الله تعالى عهد صدق بألا يمسّ مشركا أو يمسّه مشرك، وتبريرا لقسمه فقد حماه الله تعالى من المشركين بأن بعث عليه مثل الظلة أسرابا من الدبابير تطير في المكان المسجى فيه جثته الطاهرة، فطارت في وجوه القوم المشركين حتى حالت بين جثمانه رضي الله عنه وبين المشركين لعنهم الله كي لا يقطعوا رأسه أو يأخذوا شيئا من جسده الطاهر.
فرضي الله عن عاصم وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
3- عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه
ابن أكرم العرب
هو ابن حاتم الطائي أكرم العرب في ذلك الزمان، وهل يخفى على أحد كرم أبيه؟ وكما يقولون فرخ البط أو الوز عوّام فيقد توارث هذه الخصلة الحميدة من أبيه ونماها بعدما شرح الله صدره للاسلام ليكون واحدا من الأجواد.
اسلامه رضي الله عنه
كان رضي الله عنه قد تنصّر في الجاهلية وأسر جماعة من قومه وكانت أخته من بينهم، ولما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هرب الى الشام الى ملوك قيصر والروم، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها من فضل الله، وكانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم سببا في هدايته حيث جعلهتها هذه المكرمة النبوية ترجع الى أخيها لتحثه وترغبه بالاسلام وفي القدوم الى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه رضي الله عنه توارث الكرم عن أبيه فقد شرح الله صدره للاسلام بمكرمة النبي صلى الله عليه وسلم لأخته فقدم المدينة على أثرها وأشهر اسلامه، وخير من يروي لنا قصة اسلامه هو عدي الطائي
لما بلغني خروج(بعثة)رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهت خروجه كراهة شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم، فكرهت ذلك أشد من كراهتي لخروجه، فقلت: والله لولا أتيت هذا الرجل (يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم)وان كان كاذبا لم يضرني، وان كان صادقا علمت، فلما قدمت اليه قال الناس: عدي بن حاتم ! عدي بن حاتم! فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عدي بن حاتم! أسلم تسلم..أسلم تسلم...أسلم تسلم، فقلت له: اني على دين، فقال: أنا أعلم بدينك منك، أليس دينك من الركوسية (دين النصارى والصابئين) وأنت تأكل مرباع قومك (ربع الغنيمة) قلت: هو ما تقول، أتعلم كل هذا عني؟ فقال: أما اني أعلم الذي يمنعك من الاسلام، تقول: انما أتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: سمعت به، ولكني لم أره، قال: والذي نفسي بيده ليتمنّ هذا الأمر حتى تخرج الظعينة (المراة) من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، وليفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم! كسرى بن هرمز، وليذلنّ المال حتى لا يقبله أحد.
يقول عدي رضي الله عنه: لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هي الظعينة تأتي من الحيرة وتطوف في البيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة مادام صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وفاتهرضي الله عنه
وهل يخفى على أحد كرم أبيه حاتم الطائي؟ فهو أمير بن أمير في الكرم ومن الأجواد في الجاهلية واستثمر هذا الكرم في الاسلام ليجعله واحدا من الأبطال المرموقين في حروب الردة ، وشهد موقعة صفين وفيها فقد عينه، ومت في الكوفة سنة 61 هجرية رضي الله عنه.
فرضي عن عدي وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
4- عمران بن الحصين رضي الله عنهما
شبيه الملائكة عليهم السلام بعبادته
هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كان قد أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لثم (أي قبّل) عمران رأس ابيه ويديه ورجليه فرحا باسلام والده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومها : بكيت من صنع عمران.
هذا الصحابي الجليل صورة رضيّة من صور الصدق والزهد والورع والتقوى والتعفف والتفاني وحب الله وطاعته، ورجلا تتوافر به كل هذه المزايا فانه حتما يكون انسانا فاضلا.
خشيته رضي الله عنه
لقد كان رضي الله عنه من شدة خشيته وخوفه من الله تبارك وتعالى يقول: يا ليتني كنت رمادا تذروه الرياح.
وعمران رضي الله عنه من الأتقياء الورعين الذين لم يكن خوفهم من الله تعالى بسبب ذنوب ارتكبوه، وانما من الذين كانت خشيتهم من الله تبارك وتعالى اجلالا لعظمته وربوبيته وجلاله وعظيم سلطانه، ويذكرني خشية هذا الصحابي برابعة العدوية رحمها الله وعبوديتها لله تعالى وزهدها وورعه، فجمعنا اطلاقا نعبد الله وننتهي عن نواهيه ونأتمر بأوامره طعما في الجنة وخوفا من النار ولكن رابعة العدوية رحمها الله لم تكن تعبد الله رغبة في الجنة أو خوفا من النار بل كانت تعبده لعظمته وجلالته وربوبيته لأنه تبارك وتعالى يستحق العبادة، وهنا يحضرني المقام لأذكر مناجاة واحدة من مناجاتها الشهيرة فتقول:
الهي! ان كنت أعبدك شوقا الى الجنة فاحرمني منه، وان كنت أعبدك خوفا من النار فاحرقني به، وان كنت أعبدك لأنك الله فلا تحرمني رؤية وجهك الكريم.
مناجاة صادقة خالية من ذرة نفاق، وعابدة بهذا الخلق والاخلاص عسى الله أن يرضيها ويدخلها في مستقر رحمته في عباده الصالحين جعلنا الله عزوجل منهم.
ان هذه الشعلة المباركة ولادراكها بحقيقة عجزها عن شكرالرحمن وحسن عبادته، فهي دوما تشعر بالتقصير تجاه خالقها ومولاها وولي نعمتها تبارك وتعالى وشعلة مباركة من هذا الطراز من العبادة الخالصة لله تعالى حتما قلما يكون لها ذنوب، وان وجدت فستكون ممّن قال فيهم الله عزوجل: واذا مرّوا باللغو مروا كراما.
ذات يوم سمع الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبن، وزهدنا دنيان، وكأننا نرى الآخرة رأي العين، حتى اذا خرجنا من عندك ولقينا أهلنا وأولادنا أنكرنا أنفسنا؟ فاجابهم عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لو تداومون على حالكم عندي لصافحتكم الملائكة عيان، ولكن ساعة وساعة.
وما أن سمع عمران رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر مصافحة الملائمة عليهم السلام حتى اشتعلت أشواقه لتحقيق هذا الهدف، وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، ولم تقنع نفسه بأن يحيا ساعة وساعة، بل أراد أن تكون حياته كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين.
لقد شغلته العبادة واستوعبته حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي نعيش فوق أرضها وبين ناسه، بل صار وكأنه يحيا بين الملائكة يحادثونهم ويحادثونه، يصافحهم ويصافحونه.
موقفه من الفتنة رضي الله عنه
ولما وقع النزاع الكبير بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، لم يقف رضي الله عنه موقف الحياد فحسب، بل راح يحرّض المسلمين بعدم الاشتراك في تلك الحرب، وراح يقول: لأن أرعى أعنز في رأس جبل حتى يدركني الموت أحبّ اليّ من أرمي في أحد الفريقين بسهم أخطأ أم أصاب، وكان يوصي كل من يلقاه من المسلمين أن الزم مسجدك، فان دخل عليك مسجدك فالزم بيتك، فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فاقتله، من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد.
لقد حقق ايمان عمران رضي الله عنه اعظم نجاح حين ابتلاه الله تعالى بمرض لازمه 30 عام، فصبر وما ضجر منه، ولا قال يوما: أفّ، بل كان مثابرا على عبادة الله قائما وقاعدا وراقد، وكانت وصيته لأهله حين ادركه الموت: اذا رجعتم من دفني فانحروا وأطعموا.
نعم! انّ موت مؤمن كعمران ليس موت، انما هو عرسا مجيد، عرسا تزف فيه روحا عالية مطمئنة، راضية مرضية الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
فرضي الله عن عمران ووصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
5- عمير بن سعد القاريء رضي الله عنهما
رجلوفت أذنه وصدقه ربه عزوجل
اذا ذكرت عمير بن سعد يجب أن تذكر سعيد بن عامر رضي الله عنهم، ذلك أنهما يسيران على خطى واحدة ومبدأ واحد، ولشدة ورعه وتقواه وخشيته من الله عزوجل فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلقبونه بنسيج الأمة.
انّ حياة هذا الصحابي الجليل كانت تعتمد هدفين لا ثالث لهم، اما جهاد في سبيل الله، واما عاكف على نفسه متبتل أواب وعابد مقيم في محرابه، وقد استشهد رضي الله عنه في موقعة القادسية.
ذات يوم سمع عمير صاحبة جلاس بن سويد بن الصامت يقول: لئن كان هذا الرجل (يقصد النبي صلى الله عليه وسلم) صادقا لنحن شر من الحمر، وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهب، وما أن سمعه عمير يقول مثل هذا حتى ارتعدت فرائصه وحار أمره ماذا يفعل! أيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمع أم يكتم الأمر وكأنه لا يعنيه؟ من منطلق أمثال العصر الحديث وأنا مالي! فخار يكسّر بعضه! ألسنا نقول كلاما كهذا عندما نسمع شيئا ونكتمه أو لا نريد الخوض فيه لكيلا نخسر الفريقين أو أحدهما؟ الا أنّ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والذين تربوا في مدرسة النبوة لا يستطيعون أن يقولون كلاما كهذ، لا يستطيعون أن يقولون كما نحن نقول، ولا يستطيعون أن يقفوا موقفا محايد، هكذا رباهم النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا تعلموا منه أن يقولوا الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، وعلى الفور
تصرف عمير رضي الله عنه تصرف رجل قوي وكمؤمن تقي، وذهب الى جلاس أولا كي يسحب منه تراجعا عما قال فيتوب الى الله تعالى ويتسغفره ، وعندها لا داعي لأن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمر فيكون قد ستر عليه، ومن أن قابله حتى قال له: والله انك لأحبّ الناس اليّ وأحسنهم عندي يد، وأعزّهم عليّ أن يصيبه مكروه، ولقد قلت الآن مقالتك التي قلت، ولو أذعتها عنك لآذتك، وان صمت عنها ليهلكنّ ديني، وانّ حق الدين الوفاء واني لمبلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
الا أنّ جلاس أخذته العزّة بالاثم ولم تتحرك شفتاه بكلمة اسف أو ندم مما بدر منه وغادره عمير رضي الله عنه وهو يقول: لأبلغنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل وحي السماء يشركني باثمك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر وحلف بالله أنّ عمير كاب، وينزل القرآن الكريم ليفصل بين الحق والباطل بآيات بيّنات تفضح كذب وافتراء جلاس على عمير رضي الله عنه بقوله تبارك وتعالى: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم وهمو بما لم ينالوا وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله، فان يتوبوا خيرا لهم، وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير.
عند هذه الآية الكريمة لم يجد جلاس مفرا من الاعتراف بمقولته، واعتذر عن خطئه، وكان تصرف عمير رضي الله عنه خير وبركة على جلاس الذي تاب وحسن اسلامه، ثمّ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم باذن عمير رضي الله عنه قائلا: يا غلام وفت أذنك وصدقك ربك.
العظمة في أبهى معانيها
انّ الصورة التي سأسوقها اليكم ليست سينارويو أرسمه، ولا حوارا أبتدعه، وانما هي صورة حيّة حدثت أحداثها في المدينة عاصمة الاسلام، بين عملاق الاسلام عمر بن الخطاب ونسيج الأمة عمير بن سعد رضي الله عنهم، في أيام خالدة كان الاسلام يحوي في جوفه مسلمون حقيقيون.
انّ هذا الصحابي الأواب والعابد هو نسخة من الصحابي سعيد بن عامر رضي الله عنهما وفي كل مسلك من مسالك الحياة.
ان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يختار ولاته وأمراءه على البلاد اختيار، بأن يكون مقبلا على الآخرة زاهدا في الدنيا تقيا ورع، لا يخاف في الله لومة لائم، أمينا زاهدا صادق، وفوق كل ذلك كان يبحث عن الرجل الذي يهرب من الامارة والولاية، وتقع عينه على عمير بن سعد رضي الله عنه ويعرض عليه ولاية حمص، حاول عمير رضي الله عنه أن يخلص نفسه من الأمارة بشتى الوسائل والحيل الا أنه أمام الفاروق رضي الله عنه ألزمه بها الزاما وفرضها عليه فرض، وفي حمص أمضى عاما كاملا لم يصل الى المدينة منه أي خراج، بل ولم يبلغ أمير المؤمنين منه أيّ كتاب، ونادى عمر رضي الله عنه كاتبه أن ائتوني بعمير، وجاءه الفارس مترجلا أشعثا أغبرا تغشاه وعثاء السفر، تكاد خطاه تقتلع من الأرض اقتلاعا من طول السفر، ومن كثرة ما لاقى من عناء وما بذل من جهد، وعلى كتفه اليمنى جراب وقصعة، وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء، دخل الى مجلس عمر رضي الله عنهما في خطا وئيدة ثم طرح السلام عليه، السلام عليك يا أمير المؤمنين! ويرد عمر رضي الله عنه التحية بأحسن منها وقد تألم لما رأى عليه من جهد واعياء ليدور بينهما الحوار التالي:
ما شانك يا عمير؟
شأني ما ترى يا أمير المؤمنين، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا كلها أجرها بقرنيها؟
وما الذي معك؟
جرابي أحمل به زادي، وقصعتي آكل منه، وادواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا ان عرض، فو الله ما الدنيا الا تبع لمتاعي.
أجئت ماشيا؟
نعم يا أمير المؤمنين.
أو لم تجد من يعطيك دابة تركبها؟
هم لم يفعلوا وأنا لم أسألهم.
ماذا عملت فيما عهدنا اليك به؟
أتيت البلد الذي بعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعه، ولو بقي منها شيء جئتك به.
فما جئتنا بشيء؟
لا.
فصاح عمر رضي الله عنه سعيدا مغتبطا قائلا: جدّدوا لعمير عهدا.
لقد كان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول: وددت لو أنّ لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين.
فأيّ طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون؟ ذلك أنّ عميرا رضي الله عنه كان قد تفوق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي وحياتنا الشائكة.
انّ عمير رضي الله عنه خلال امارته على حمص قد رسم واجبات الحاكم المسلم في كلمات فقال رضي الله عنه: انّالاسلامحائط منيع وباب وثيق، فحائطه العدل، وبابه الحق، فاذا نقض الحائط ، وحطم الباب، استفتح الاسلام، ولا يزال الاسلام بخير ومنعة ما اشتد السلطان، وليست شدته قتلا بالسيف أو ضربا بالسوط، وانما قضاء بالحق وأخذا بالعدل.
والآن ونحن نودع عمير، نحيّي من رباه امام المتقين المصطفى ذو الخلق الرفيع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عميد جامعة العلوم الاسلامية.
فرضي الله عن عمير بن سعد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
6- عوف بن مالك رضي الله عنه
كليم الأسد
هذا الصحابي الجليل كان قد كلم أحد الأسود، يقول رضي الله عنه: كنت قائلا (أي في قيلولة) في كنيسة اريحا (أقدم مدينة في التاريخ بالقرب من القدس) وهي يومئذ
مسجد يصلى فيه، فانتبهت من نومي، فاذا معي في البيت أسد يمشي اليّ، فقمت ففزعت الى سلاحي، فقال لي: صه! انما أرسلني الله برسالة لتبلغه، فقلت له: من أرسلك؟ فقال: الله أرسلني اليك لتبلغ معاوية الرحّال أنه من أهل الجنة، فقلت: من معاوية ؟ قال: معاوية بن أبي سفيان.
فرضي الله عن عوف وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
7- عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
قاتل العقل المدبر لمسيلمة الكذاب
عندما وقف عبد الرحمن يقاتل المسلمين مع المشركين في غزوة بدر لم يراعي للبر مراعاة، ووقف ضد أبيه في ساحة المعركة، ولأن الاسلام لا يعترف بالحميّة الضالة فقد نهض أبو بكر رضي الله عنه ليبارز ابنه لولا أن منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك به وحال بينهما.
وما كان سيفعله أبو بكر فعله أبو عبيدة بن الجراح عندما قتل أباه في بدر، وفعله سعد بن أبي وقاص عندما قال لأمه: لو كان لك مائة نفس وخرجت واحدة تلو الأخرى على أن أرحع عن ديني لن أرجع، وفعله الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول زعيم الشرك والنفاق عندما هدر للنبي صلى الله عليه وسلم دم أبيه وقال: ائذن لي يا رسول الله بقتل أبي، فاني سمعت أنك أهدرت دمه، واني لأخشى ان قتله غيري أن تثور بي الحميّة بالثأر فأقتله، فأكون قد قتلت مسلما بكافر، وكما قلت في مناسبة أخرى بأنّ زمن الصحابة رضوان الله عليهم لن يتكرر بهذا العنفوان وبهذه الغيرة على دين الله عزوجل والنصرة لدينه تبارك وتعالى.
ان هؤلاء الصحابة الأفذاذ وغيرهم رضي الله عنهم جميعا ما نهلوا هذه المروءة والاخلاص الا من معلمهم وقائدهم ومرشدهم ونبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لعمه أبو طالب: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته او اهلك دونه.
نعم! اذا صلح الرأس صلح الجسد كله، واذا استقام العود استقام الغصن، ولأن القدوة قدوة وصفوة صفوة خلق الله عزجل الى أن تقوم السعة ، فقد تمسكوا بالقدوة وصفوة الصفوة تمسك القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار.
شدته وصلابته رضي الله عنه
ان عبد الرحمن رضي الله عنه كان رجل المبادىء والمثل في جاهليته وبعد اسلامه، فمن يقف يتحدى أبوه فهو حتما رجلا عنيدا وشديدا وصلب، لقد كان يعتقد أنه يدافع عن الحق، لأن من يتمسك بمبدأ واعتقاد، يعتقد أنه على الحق وما دونه على ضلالة، ولأن عبد الرحمن كان اعتقاده هكذا فقد وقف في غزوة بدر يدعو اليه من المسلمين من يبارزه وبقي واقفا صلبا على موقفه ضد الاسلام ولم يغريه اسلام أبيه أبدا باتباعه.
اسلامه رضي الله عنه
لا تهدي من أحببت انّ الله يهدي من يشاء
آية كريمة أنزلها المولى عزوجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم ليسلي بها فؤاد حبيبه عندما لم يستجب عمه أبو طالب لدعوته صلى الله عليه وسلم، وان لم تكن قد أصابت أبو طالب، فقد أصابت الكثير غيره ولا زالت تصيب، وكان عبد الرحمن رضي الله عنه واحدا من هؤلاء، وما منع النبي صلى الله عليه وسلم لأبو بكر من مبارزة ابنه في المعركة الا احدى النعم الالهية التي منّ الله تبارك وتعالى فيها على أبو بكر وابنه رضي الله عنهما.
وحين دقت ساعة القدر معلنة ميلادا جديدا لعبد من عباد الرحمن، أضاءت مصابيح الهدى نفس عبد الرحمن رضي الله عنه وجعلته يرى الله الواحد القهار في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين، ومن فوره نهض مسافرا الى المدينة، الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما رآه أبوه رضي الله عنهما تهلل وجهه بشر، وتألق غبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما كان في كفره رجل، فها هو اليوم يسلم اسلاما الرجال عن اقتناع تام.
يوم اليمامة
لقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثباته واستبساله دورا كبيرا في رجحان كفة الحرب لصالح المسلمين، فهو الذي أجهز على محكم بن الطفيل العقل المدبر لمسيلمة الكذاب، بل بقوته وصلفه كان يحمي أهم مواطن الحصن التي تحصّن فيها جيش الردة، وما أن سقط محكم بن الطفيل حامي الحصن قتيلا حتى فتح الحصن أمام المسلمين فتدفقوا منه أفواجا.
موقفه من الأمراء رضي الله عنهما
ويوم أن قرر معاوية رضي الله عنه أن يأخذ البيعة ليزيد بحد السيف كتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره أن يقرؤه على المسلمين في المسجد، وفعل مروان ما طلب منه، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبد الرحمن رضي الله عنه ليحوّل الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادقة فقال: والله ما الأخيار أردتم لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) ولكنكم تريدون أن تجعلونها هرقلية، كلما مات هرقل قام هرقل.
هكذا رأى عبد الرحمن رضي الله عنه حين حوّل معاوية الحكم في الاسلام من شورى الى قيصرية وكسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر، وما أشبه اليوم بالبارحة، وأيده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وفيما بعد طرأت ظروف قاهرة اضطرت كل من وافقوه الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية رضي الله عنه أن يأخذها بحد السيف، وبقي ابن الصديق رضي الله عنهما وحده في الميدان يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية برسول يحمل 100 ألف درهم كرشوة يشتري بها صمته، فألقاها ابن الصديق رضي الله عنهما بعيدا وقال لرسوله: ارجع اليه وقل له: ان عبد الرحمن لا يبيع دينه بدنياه.
وفاتهرضي الله عنه
ولما علم عبد الرحمن رضي الله عنه أنّ معاوية يشدّ رحاله الى المدينة غادرها من فوره الى مكة كي لا يلتقيه، وكفاه الله فتنة هذا الموقف وسوء عاقبته، ولم يكد يصل مشارف مكة ويستقر فيها حتى فاضت روحه الطاهرة، فحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة، حيث دفن هناك تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته واسلامه، اسلام رجل صادق شجاع.
فرضي الله ابن الصدّيق وصلى الله وسلم وبارك على من رباهما.
8- عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلولرضي الله عنه
المؤمن الصادق ابن زعيم المنافقين
انّ قصة هذا الصحابي الجليل تذكرني تماما بموقف أبو بكر الصديق من ابنه عبد الرحمن عندما حاول أبو بكر قتله في معركة بدر لولا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه، وبموقف أبو عبيدة بن الجراح في معركة بدرعندما كان يتحيّن أبوه الفرصة ليقتله وأبو عبيدة يتحاشى أبوه، ولكن عندما لم يجد مفرا وبدا من قتل أبيه قتله لينزل به قرآنا يتلى الى يوم القيامة يحييه فيه الله عزوجل على صنيعه، وبموقف سعد ن أبي وقاص من أمه التي مرضت لاسلامه وعندما أخبروه أنها تنازع الموت، ذهب اليها فقط من باب البر ليلقي عليها نظرة الوداع وهناك أخبرته ان رجع عن دينه ستكون هي بخير فقال لها: أماه! والله لو كان لك مائة نفس وخرجت نفسا نفسا على أن أترك هذا الأمر ما تركته فعيشي أو موتي.
ولنعد الى بطل قصتنا الصحابي الجليل ابن رأس الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول ملفق حادثة الافك التي اتهمت بها الطاهرة المطهرة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنه، والذي تطاول وهو وأصحابه بلسانه على النبي صلى الله عليه وسلم بكلام أمام زيد بن أرقم رضي الله عنه ، وعندما نقل زيد مقولتهم للنبي صلى الله عليه وسلم حلفواأنهم قولا كهذ، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ليس الا بشرا مثلنا فهو صلى الله عليه وسلم لم يكشف نفاقهم الا بعد أن نزل فيهم قرآنا يتلى الى يوم القيامة بسورة كاملة في القرآن الكريم سميبت بسورة المنافقون، وفيها براءة زيد رضي الله عنه ، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم البشرى ويزفها الى زيد رضي الله عنه قائلا له: انّ الله صدقك، ولندع زيد بن أرقم رضي الله عنه يحدثنا بنفسه عن هذه الحادثة فيقول:
خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله، ولئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته، فأرسل الى عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله ما قالو، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، وبقيت جالسا في البيت حتى اذا نزلت براءتي من السماء بقوله تعالى: اذا جاءك المنافقون، بعث اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقراها عليّ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: انّ الله صدقك.
موقفه من أبيه
لقد وقف هذا الصحابي الجليل المؤمن الصادق مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقفة شجاعة قلّ من يقفها في هذا الزمن الذي نعيشه بكل متناقضاته وبعده الجذري عن حدود الدين الذي ارتضاه الله لعباده، لقد وقف موقفين شجاعين الأول منهما يحدثنا به عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فيقول:
انّ الناس لما قفلوا راجعين الى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله بن سلول على باب المدينة واستل سيفه، فجعل الناس يمرّون عليه، فلماجاء أبوه قال له: وراءك، فقال له أبوه: ما لك ويلك؟ فقال له: والله لا تجوز من هنا ( لا تمر من هنا) حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا اليه ما فعله معه ابنه، فقال عبد الله: يا رسول الله! والله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما وقد أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجز الآن (فمر الآن).
والموقف الثاني يحدثنا به عاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنه فيقول:
لما عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول بلغه ما كان من أمر أبيه، أتى رسول اللهصلى الله عليه وسلمفقال: يا رسول الله! انه بلغني أنك تريد قتل أبي عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فان كنت فاعلا فمرني به، فانا أحمل اليك رأسه، فو الله ما علمت الخزرج من رجل أبرّ بوالده مني، واني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر الى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال
مرض ابن سلول
لما ثقل المرض واشتد على ابن سلول طلب من ابنه عبد الله أن يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوه لزيارته، ولأنّرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عبد الله بأن يحسن صحبة والده مادام حيّا فقد دفعه ذلك لأن ينطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: انّ أبي يحتضر، فأحبّ أن تشهده وتصلي عليه، وما أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابن سلول حتى بادره النبي صلى الله عليه وسلم بالقول: أهلكك حبّ يهود، فقال: انما أرسلت اليك لتستغفر لي ولم أرسل اليك لتؤنبني.
وفاة ابن سلول
لما توفي ابن سلول
بعدما توفي ابن سلول جاء لبنه عبد الله الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، ليس لأنّ ابن سلول لا يملك كفنا ولكن طمعا في أن يتجاوز الله عنه على اعتبار أنّ كفنه هو قميص النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما طلب منه أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم رغبته وقام على قبره أيض، عندا أمسك عمر رضي الله عنه بثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر له؟ أجابه النبي صلى الله عليه وسلم: انما خيّرني ربي فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، ان تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين، فقال عمر رضي الله عنه: انه منافق، وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الصلاة كان وحي السماء جبريل عليه السلام يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله عزوجل: ولا تصلّ على أحد مات منهم أبدا ولا تقم على قبره، انهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا وهم فاسقون، وبعد نزول هذه الآية امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لأحد منهم والصلاة عليه.
وان كان هذا الحكم اقترن بابن سلول فهو حكم عام يشمل كل منافق، ولكن أنى لنا أن ندرك المنافق من عدمه وعصر النبوة والوحي انتهى منذ ما يزيد عن 14 قرنا؟
فرضي الله عن عبد الله الصحابي الجليل وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

9- عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه
حق على كلّ مسلم أن يقبّل رأسه
هو صحابي جليل وكوكبة من كواكب الاسلام الذين آمنوا برسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصدّقوه، ولقد وقف موقفا شجاعا مع ملك الروم جعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: حقا على كل مسلم أن يقبّل راس عبد الله وأنا أبدأ.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة النحل: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ونفس المعنى ورد في في سورة الصف بقول عزوجل يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره الله ولو كره الكافرون
ومعنى كلمة الكافرون الوارد ذكرهم على صفحات القرآن الكريم ، دائما يشمل الكفرة الملحدون والمكذبون بآيات الله وريله وكتبه وما جاؤوا من ثوابت وحقائق أقرتها الشرائع السماوية، وأهل الكتاب لافتراءهم على الله تعالى واشراكهم بالله تعالى أن قالت اليهود عزير الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، سبحانه وتعالى عما يشركون، بل هو فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولو كان هناك ألهة مع الله لفسد الكون برمته.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد وجّه جيشا الى بلاد الروم، وكان عبد الله رضي الله عنه واحدا من جيش الاسلام، وعندما أسره الروم ذهبوا به الى ملكهم، وما أن قالوا له: انّ هذا من أصحاب محمد(صلى الله عليه وسلم) حتى بدأ ملك الروم يراوغه ليصده عن دين الله عزوجل، فدار بينهما الحوار التالي:
هل لك أن تنصّر وأشركك في ملكي وسلطاني وأزوجّك ابنتي؟
لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت وما رجعت.
اذا أقتلك!
أنت وذاك.
فأمر ملك الروم بصلبه وقال للرماة: ارموه قريبا من يديه، وقريبا من رجليه، لعله يرتعد فيقبل ما عرضته عليه، فلما فعلوا ما أمرهم به ملكهم لم يجدوه رضي الله عنه الا ويزداد ايمانا على ايمانه، واصرارا على اصراره، وتحديا على تحديه لهم، فأمر الملك به فأنزل، ودعا بقدر من ماء يغلي، وجاء بأسيرين من المسلمين فرمى أحدهما في الماء المغلي، ثم قال لعبد الله رضي الله عنه: أرأيت كيف العذاب يكون؟ أدخل في النصرانية وأنا ارفع عنك العذاب، والا جعلتك كهذا.
افعل بي ما تريد ولن أرجع عن ديني.
وما أن أمر به الملك أن يلقى في القدر الذي يفور من الغليان حتى بكى عبد الله رضي الله عنه، فاعتقد ملك الروم أنه جزع وخاف من العذاب، فأمر رجاله أن يردوه اليه ففعلو، فعرض عليه النصرانية فأبى، فاستعجب من رفضه ثم قال له: اذن! مالذي أبكاك وأنت لم تلق في الماء بعد؟
أبكاني أني قلت في نفسي تلقى الساعة في هذا القدر فتذهب(فتموت)وأنا كنت أشتهي أن يكون لي بعدد كل شعرة من جسدي روح تلقى في النار في سبيل الله.
وعندما سمع الملك اجابته تلك، أيقن تماما أنّ العذاب لن يجدي معه، ولن يردّه عن دينه، عندها قال له: هل أن تقبّل رأسي وأخلي سبيلك؟
أفعل ذلك فيما لو فككت أسري وأسرجميع المسلمين.
فأذعن له الملك وقال: وعن جميع أسرى المسلمين.
فقبّل عبد الله رأسه وفكّ نفسه وسائر أسارى المسلمين وعاد بهم الى المدينة، وعندما علم عمر رضي الله عنه بما صنع عبد الله، سرّ لصنيعه وحيّاه، ثمّ قال:
حقعلى كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبد، فقام فقبّل رأسه رضي الله عنهما وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين،وصلى الله وسلم وبارك على من رباهم.

10- عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما
أول مولود في الهجرة- وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو ابن الزبير بن العوّام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
ولادته رضي الله عنه
حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة كان رضي الله عنه لا زال جنينا في بطن أمه، وأسماء رضي الله عنها تقطع الفيافي الللاهبة مغادرة مكة الى المدينة للحاق بركب المهاجرين.
هكذا قدّر له رضي الله عنه أن يهاجر مع المهاجرين وهو لا زال جنينا بعد.
وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها تبلغ قباء على مشارف المدينة حتى جاءها المخاض، لينزل المهاجر الجنين الى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مهاجرين اليها.
وحمل ابن الزبير رضي الله عنهما لقب أول مولود في الهجرة، وكان أول شيء دخل جوفه ريق النبي عليه الصلاة والسلام الطاهر، فكيف لمولود كهذا بألا يفتح الله عزوجل بصيرته وقد امتزج دمه بلعاب النبي صلى الله عليه وسلم الطاهر؟ لأجل ذلك كان شبابه عفة وطهرا وبطولة يفوق الخيال، وغدا أحد رواة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ويوم أن فتح المسلمون افريقيا والأندلس والقسطنطينية كان رضي الله عنه من أبطال الفتوح، وعلى يديه قتل ملك البربر قائد الكفر والطغيان في معركة افريقيا وكان ذلك في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وابن الزبير رضي الله عنهما يومها لم يكن يتجاوز ال 27 عاما من عمره المبارك.
مناقبه رضي الله عنه:
لقد طلب عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين رضي الله عنه من ابن أبي بلتعة أن يصف له عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال:
والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبيه مثل نفسه، وكان اذا ركع أو سجد، تقف العصافير فوق ظهره وكاهله، واذا دخل في الصلاة فيخرج من كل شيء اليه، ومن طول ركوعه وسجوده لا تحسبه الا جدارا أو ثوبا مطروح، ولقد مرّت قذيفة منجنيق من بين لحيته وصدره وهو يصلي، فو الله ما أحسّ به، ولا اهتز له، ولا قطع قراءته من أجله، ولا تعجّل في صلاته.
ان الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادته رضي الله عنه لشيء يشبه الأساطير، على كافة المستويات، ففي سهره نجده طوال العمر قانتا عابد،وفي ايمانه الوثيق بالله وخشيته حدّث ولا حرج، لقد كان نسيجا وحده.
سئل عنه ابن عباس رضي الله عنه فقال:
كان لكتاب الله تالي، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبع، ولله صائما وقانتا وعابد، هو ابن الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، وزوج خالته المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا يجهل حقه الا أعماه الله تعالى.
صراحته ووضوحهرضي الله عنه
كان واضحا وشريف، قويا وصريح، مستقيما لا يخاف في الله لومة لائم، وعلى استعداد أن يدفع حياته كلها ثمنا لصراحته.
لقد كان في صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة بحد ذاتها.
لقد كان يرى أنّ يزيد بن معاوية آخررجل يصلح لأن يكون خليفة للمسلمين، لفساده في كل شيء، ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها التاريخ، وعندما سئل عن امتناعه عن مبايعة يزيد كخليفة للمسلمين، قالها صراحة: ليس مثلي من يبايع سكيرا أبدا.
وظل ابن الزبير رضي الله عنه أميرا للمؤمنين ويتخذ من مكة عاصمة لخلافته، باسطا حكمه على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق التي كانت تحت قبضة الأمويين.
وبقي الأمويين يتربصون لابن الزبير رضي الله عنه، ولم يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرار حتى ينالوا منه، فاستعان عبد الملك بن مروان على ابن الزبير رضي الله عنه بأشرس وأشقى بني آدم قسوة وجورا واجراما وهو الحجاج بن يوسف الثقفي.
ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبيررضي الله عنه، وحاصروها ستة أشهر، منعوا عن أهلها الماء والغذاء لاجبارهم على التخلي عن ابن الزبير رضي الله عنه، وتركه وحيدا بلا جيش ولا أعوان، وتحت وطأة الجوع يستسلم الكثيرون ليجد ابن الزبير رضي الله عنه نفسه وحيدا أو يكاد، وراح وحده يقاتل جيش الحجاج، وهو يومئذ يناهز ال 70 عاما في شجاعة أسطورية يعجز عنها ابن العشرين عام، ولن نستطع تصوير الموقف الفذ أنذاك الا اذا أصغينا للحوارالتالي الذي دار بين ابن الزبير وبين أمه ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم والتي تقترب من سن ال 100، في تلك الساعات الأخيرة من حياة هذا البطل الذي يشهد له التاريخ بطولته وشجاعته، وأم صابرة محتسبة تقوّي من عزيمة ابنه، بضمير صاح حيّ يجعل القلب القاسي المتحجر يذرف الدمع الغزير قبل العين ويلين، لنصائحها الغاليات لفلذة كبدها وهي تحثه بألا يموت جبان، وقلّ بل وانعدم موقفها الشجاع الصادق أنذاك في أمهات اليوم:
يا بني! أنت أعلم بنفسك ان كنت تعلم أنك على حق وتدعو الى حق، فاصبر حتى تموت في سبيل الله، ولا تمكّن رقبتك لغلمان بني أمية، وان كنت تعلم أنك أردت الدني، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قاتل معك.
والله يا أماه! ما أردت الدنيا يوم، ولا ركنت اليه، وما جرت (انحزت) في حكم الله أبد، ولا ظلمت ولا غدرت.
اني لأرجو أن يكون عزائي منك حسنا أن سبقتني الى الله أو سبقتك، اللهم ارحم طول قيامه في الليل، وظمأه في الهواجر، وبره بأبيه وبي، اللهم اني أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين.
وتبادلا عناق الوداع وتحيته.
ولم تمض ساعة من الزمان حتى تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت من منجنيق الحجاج في وقت استأثر فيه الحجاج بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم، حين فصل الحجاج رأسه عن جسده تشفيا وخسّة وحقدا قبل صلبه رضي الله عنه.
وقالت يومها أمه رضي الله عنها وهي ترى ابنها المصلوب كالطود الشامخ ، وقفت تجاهه شامخة أبية في عزة وسؤدد، فاقترب منها الحجاج في هوان وذلة قائلا لها: يا أماه! انّ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أوصاني بك خير، فهل لك من حاجة؟
فصاحت به قائلة: أنا لست بأم لأحد، انما انا أم المصلوب على الثنية، وما بي اليكم من حاجة، ولكني أحدثك حديث، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ثقيف كذاب وميير، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما الميير فلا أراه الا أنت، ثم تقدّم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما معزّيا وداعيا اياها الى الصبر، فاجابته رضي الله عنها: وماذا يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيي بن زكريا عليهما السلام الى بغيّ من بغايا بني اسرائيل؟
يا لعظمتك يا ابنة الصديق! أهناك كلمات أروع من هذه تقال في موقف كهذا؟ انه الايمان الصادق والمدفون في جميع خلايا القلب الطاهر الذي لم يدخله شركا يوما ما ولا نفاقا على مدى المائة عام التي عاشتها هذه الصحابية الجليلة ابنة الصديق وأم البطل المصلوب وزوجة الزبير أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم.
وبعد..فهل كان يمكن لابن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى من التفوق والبطولة والصلاح، وقد رضع لبن أم من هذا الطراز الفريد والذي لن ولن يتكرر؟
فسلام الله عليك أيتها الأم الصابرة ورضي الله عنك وعن أبوك وزوجك وابنك وصلى الله وسلم وبارك على من رباكم.
11- عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
الشديد الحياء المنظف لشوارع المسلمين
ولا خجل من ذلك، فعندما أرسله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الى البصرة ليكون أميرا وواليا عليه، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا وقال: انّ أمير المؤمنين عمر
قد بعثني اليكم أعلمكم كتابكم وسنة نبيّكم وأنظف لكم طرقكم.
هذا هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه والذي سنتناول موجز حياته المليء بالفخر والبطولة والتواضع والكفاح والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، يرجو رحمته ومغفرته، ولا يخاف في الله لومة لائم.
ان يكون الأميرمعلما للناس، أن يكون مربيا لهم، أن يكون قائدهم ومرشدهم علىالحلوة والمرة، على البأساء والضراء، ان ينزل الى مستواهم في العيش فلا يتعالى عليهم، كل ذلك ممكن، أما ان ينظف الأمير شوارع المسلمين وطرقاتهم فهذا أمر خارق للعادة وشيء جديد، بل ومثير للدهشة والعجب، ولكن عند أبو موسى الأشعري الذي يرنو لرضا مولاه تبارك وتعالى فلا عجب، ذلك أن الايمان الذي صنع من عمر وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه أن ينقل على ظهره شوال الطحين لأم اليتامى قادرا أن يصنع في أبو موسى أشد منه.
أبو موسى الأشعري الوالي الحاكم لأكبر امارة عربية اسلامية في ذلك الزمان ينظف شوارع المسلمين؟ اذا كان أمير المسلمين هو من سيقوم بهذه المهمة، اذن فالمنظفون ماذا سيصنعون؟ ماذا سيشتغلون؟
الأشعريين
من هو هذا العملاق الذي قال عنه الحسن البصري رحمه الله:
ما أتى اليصرة راكبا خيرا لأهلها من أبو موسى الأشعري
انه الذي غادر اليمن بلده وموطنه الى مكة بمجرد سماعه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن جلس بين يديه صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين عاد الى بلده ثانية حاملا على عاتقه الامانة التي عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه، ثم عاد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من خيبر، ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مقبلا مع أصحابه من الحبشة، وفي هذه المرة لم يأتي أبو موسى رضي الله عنه وحده، بل جاء معه بضع وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم رضي الله عنه الاسلام، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوفد ب الأشعريين، ونعتهم بأنهم أرق الناس أفئدة، وكان يضرب لأصحابه المثل بهم ويقول: الأشعريين مني وأنا منهم.
شدة حياءه رضي الله عنه
كان رضي الله عنه شديد الحياء من الله تبارك وتعالى، حتى أنه كان اذا أراد أن يأوى الى النوم وفي يوم حار كان يضع على نفسه الغطاء، حياء من الله تعالى، خشية أن تتكشف عورته وهو نائم، وعن حياءه ذاك يحدثنا بنفسه فيقول:اني لأغتسل في البيت المظلم، فما أقيم صلبي حتى لآخذ ثوبي حياء من ربي عزوجل.
كان أبو موسى رضي الله عنه مزيج عجيب من صفات عظيمة، ففي ساحة الوغى تجده مقاتلا جسورا ومناضلا صلب، وفي حالة السلم هو مسالما طيب، وديعا الى أقصى غايات الطيبة والوداعة، وهو فقيه حصيف وذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، وتألق في الافتاء تألقا كبيرا حتي قيل عنه: قضاء هذه الأمة أربعة: عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت رضي الله عنهم جميعا.
انّ أبو موسى رضي الله عنه يتميز بمزية فريدة نعتبرها نحن هذه الأيام بالسلبية مع أنها قمة التواضع: وهو أنه صاحب نظرة بريئة وعلى سجاياه ونواياه البريئة، بحيث من خدعه في الله انخدع له، شعاره الدائم هوالاخلاص وليكن ما يكن، وهذه المزيّة أهلته لأن يقول عنه صلى الله عليه وسلم سيد الفوارس أبو موسى.
تواضعه وخشيته
ان تواضعه وشدة خشيته من الله تبارك وتعالى صنعت منه رجلا عابدا بكاء.... أوابا... وديعا كالعصفور... يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه... لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب سماع صوته وهو يتغنى بالقرآن، ولجمال صوته قال عنه صلى الله عليه وسلم: لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داوود.
وكان كثيرا رضي الله عنه ما يقول لأهل القرآن: اتبعوا القرآن ولا تطمعوا أن يتبعكم القرآن.
لقد كان رضي الله عنه يختار الأيام الهواجر التي تزهق النفوس ليصومها كي ينال ثوابها مضاعف، وعلى حد قوله: لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة.
وذات وقد خرج غازيا مع أصحابه اذ سمع مناديا يقول: ان الله تعالى قضى على نفسه أنه من عطّش نفسه لله عزّ وجل في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة.
وكثيرا ما كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يدعوه اليه ويسأله أن يتلو عليه من القرآن قائلا له:شوقنا الى ربنا يا أبا موسى.
موقفه من موقعة صفين رضي الله عنه
حين يكون القتال ضد الجيوش المشركة الكافرة نجده يهبّ كالاعصار الذي يجرف كل ما حوله، ولكن حين يكون القتال بين فئتين مسلمتين نجده يهرب من مواقع القتال ولا يكون له أي دور فيه، وهذا ما حدث في نزاع علي ومعاوية رضي الله عنهما.
الدعاء الذي كان ينهي به صلاته رضي الله عنه
اللهم أنت السلام ومنك السلام، أنت المؤمن وتحب المؤمن، وأنت الصادق وتحب الصادق، وأنت المهيمن وتحب المهيمن.
فرضي الله عنه وأرضاه وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.

12- عبد الله بن بن عباس رضي الله عنهما
حبر هذه الأمة وترجمان القرآن الكريم
ما أحوجنا لرجل من هذا الطراز في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة وسمت على كل شيء حتى على نفوس البشر ودواخلهم فقطعت أرحامهم وقطعت كل سبيل.
انه عبد الله بن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن 15 عاما أي قبل رضي الله عنه أن يبلغ الحلم.
ونظرا لرجاحة عقله واستنارة قلبه فقد لقب بحبر هذه الأمة وما نال هذا اللقلب الا بدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، على الرغم من أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى 30 شهرا.
كان رضي الله عنه قوي الايمان بالله تبارك وتعالى، سوي الخلق، غزيز العلم، وكان رضي الله عنه قد اقتعد مكانا عاليا بين الرجال حول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم حداثة سنه رضي الله عنه.
أمه رضي الله عنهما
أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهنّ.
أبناءه رضي الله عنه
كان له من الأبناء رضي الله عنه سبعة، هم على التوالي: الفضل، محمد، عبيد الله، لبابة، أسماء، العباس، وعلي أبو الخلفاء.
قصته مع جبريل عليه السلام
كان العباس رضي الله عنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أرسلت اليك ابني فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك، فقال لن النبي صلى الله عليه وسلم: أتدري من ذا الرجل؟ ذاك جبريل لقيني وقال لي: لن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علما.
ما لم يفهمه من القرآن الكريم
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كل القرآن أعلمه الا ثلاثا: الرقيم، وغسلين، وحنانا.
كان رضي الله عنه أفصح الناس اذا نطق، واعلم الناس اذا تحدث، وأجمل الناس اذا شوهد.
صومه رضي الله عنه
سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: كيف صومك؟ أجاب: أصوم الاثنين والخميس، لأن الأعمال ترفع فيهما وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم.
ذكاؤه رضي الله عنه
لقد كان عمره رضي الله عنه 13 عاما عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان رضي الله عنه سريع الحفظ لأقواله عليه الصلاة والسلام، هذا عدا عن سعيه الدؤوب لطلب العلم، فقد كان يلاحق ويتابع حفظة الحديث، ليأخذ منهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حريصا جدا في ألا يعتمد مصدرا واحدا في الرواية، بل كان رضي الله عنه يسأل عن المرء الواحد ما يزيد عن الثلاثين راو للحديث كي يتحرى صدق المقولة.
هكذا كان يسأل ويسأل ويتحرى الاجابة ويتقمصها مع نفسه ويناقشها بعقل جريء حتى توافرت في شبابه الغض حكمة الشيوخ وأنّاتهم وحصافتهم، حتى أن عمر رضي الله عنه كان يحرص على مشورته في كل أمر كبير، وكان يلقبه بفتى الكهول، وكان لا يجاوز قوله.
وقال عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: ما رأيت أحدا أحضر فهما ولا أكبر لبا
ولا أكثر علما ولا أوسع حلما من ابن عباس.
وعبيد بن عتبة رضي الله عنه قال فيه: ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أفقه رأي منه، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه رضي الله عنهم ، ولا أعلم منه بشعر ولا عربية، ولاحتى بتفسير قرآن كريم، ولا بحساب أو فريضة، لقد كان رضي الله عنه يضع برنامجا خاصا لحياته، فقد كان يخصص يوما للفقه، يجيب فيه على أي سؤال فقهي يستفسر عنه المسلمون، ويوما للتأويل، ويوما للغازي، ويوما لأيام العرب وأخباره، وما رأيت عالما يجلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علم، وفي جواره كان لا يترك الخصم الا مفعما بالاقناع، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار.
لقد كان رضي الله عنه نقي النفس، لا يحمل ضغنا ولا غلا لأحد، وكان يتخلق بأخلاق العلم والعلماء.
هوايته التي لا يشبع منها رضي الله عنه: فعله الخير لكل من يعرف من الناس ومن لا يعرف منهم، وهذا أمر بحد ذاته قمة الفضيلة.
من أقواله رضي الله عنه:
اني لآتي على الآية من كتاب الله تعالى فأودّ لو أنّ الناس جميعا علموا بالذي أعلم.
واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح له وأدعو الله له بالخير، وما عنده لي قضية أو حاجة.
واني لأسمع بالغيث يصيب المسلمين أرضا فأفرح به ومالي بتلك الأرض سائمة
( أي مصلحة أو فائدة مرجوة تعود له منها).
لقد كان رضي الله عنه عابدا أوابا يقوم من الليل ويصوم من الأيام، ولا تخطىء العين مجرى الدموع تسيل على خديه، لقد كان كثير البكاء كلما صلى أو تلا القرآن، فاذا بلغ آيات الزجر والوعيد والموت والبعث، علا نشيجه ونحيبه، والى جانب ذلك كله كان رضي الله عنه شجاعا مقدام،حصيفا أمين، وكان يفضل السلم على الحرب، والرفق على العنف، والمنطق على العسر، وعندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زياد ويزيد، تعلق به رضي الله عنهم، محاولا منعه ولم يفلح، ولما بلغه نبأ استشهاده، تأثر عليه تأثرا بالغا ولزم داره حزنا عليه.
وفي كل خلاف بين مسلم وآخر كان حاملا راية السلم والتفاهم.
لقد خاض معركة صفين يناصر الامام عليّ ضد معاوية رضي الله عنهم لأنّ المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.
وفاته رضي الله عنه
توفي رضي الله عنه في الطائف سنة 56 للهجرة، عن عمر يقارب السبعين عام، وقد كفّ بصره وصدقت فيه نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال لعمه العباس رضي الله عنه: لن يموت ابنك حتى يكف بصره.
طائرا يتلو قرآنا في قبره رضي الله عنه
كان قرآنا يتلى عند قبره لحظة دفنه رضي الله عنه، فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: مات ابن عباس رضي الله عنهما في الطائف، فشهدت جنازته، فجاء طير لم ير على خلقته، ودخل نعشه ونحن ننظر اليه، وتأملنا أن يخرج فلم ير أنه خرج من نعشه، فلما دفن تليت هذه الآيات على شفير القبر:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
ولا يدري أحدنا من تلاها.
وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان باذن الله تبارك وتعالى، وبينما كان جثمانه الطاهر يأخذ مستقره في قبره كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الحق تبارك وتعالى.
فرضي الله عن ابن عباس وصلى اللهم وسلم وبارك على من ربّاه.

قلب., 11 - 1 - 2012 11:08 PM

13- عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
الامام الحبر العابد الباكي الأوّاب
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما صاحب وابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم رضي الله عنه قبل أبيه، وله مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل، وقد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم الكثير، وهاجر بعد السنة السابعة للهجرة، وشهد الغزوات كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب الكثير عنه صلى الله عليه وسلم بعدما ورخصّ له النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة.
سلامه على جبريل عليه السلام
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت يوما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فقال: هل تدري من معنا؟ قلت: من يا رسول الله؟ قال: جبريل عليه السلام، فقلت: السلام عليك يا جبريل ورحمة الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انه قد ردّ عليك السلام.
وسام النبي صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: عمرو بن العاص من صالحي قريش، ونعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله.
العابد الباكي رضي الله عنه
كان رضي الله عنه انموذجا للعبد المخلص لله تعالى في عبادته، يقول رضي الله عنه: زوّجني أبي من امرأة من قريش، فلما دخلت عليّ لا اتحاشى لها بما بي من القوة على العبادة من الصلاة والصوم، فجاء عمرو بن العاص حتى دخل عليها فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال من رجل لم يفتش لنا كنف، ولم يعرف لنا فراش، فأقبل عليّ فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فضلتها؟ ثم انطلق الى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني اليه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أتصوم النهار؟ قلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: ولكني أصوم وأفطر وأنام وأمسّ النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم قال: اقرأ القرآن في كل شهر، قلت: اني أجدني أقوى من ذلك، فقال: فاقرأه في عشرة أيام، قلت: اني أجدني أقوى في ذلك، فقال: فاقرأه في كل ثلاث، ثم قال: صم في كل شهر ثلاث، قلت: اني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفقني حتى قال: صم يوما وأفطر يوما فانه أفضل الصيام، وهو صيام أخي داوود.
ولما شاخ رضي الله عنه قال: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روايته للحديث رضي الله عنه
قال أبي هريرة رضي الله عنه: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا من عبد الله بن عمرو، فانه كان يكتب ولا أكتب.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك؟ قال: نعم. قلت: في الرضا وفي الغضب؟ قال: نعم، فاني لا أقول الا حقا.
وقد نقل عنه رضي الله عنه أنه كان يطفيء السراج من الليل ثم يبكي حتى تلتصق أجفانه ببعضهما من غزارة الدموع، وكان كثيرا ما يقول: لأن أدمع دمعة من خشية الله عزوجل أحبّ اليّ من أن أتصدّق بألف دينار.
أطع أباك ما دام حيا
جملة قالها النبي صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه.
ذات يوم شكاه أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليه الصلاة والسلام: أطع أباك ما دام حي، ولشدة التزامه بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعقه عندما نشب القتال في صفين في الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، ورغم علمه بأنّ والده يدعوه للوقوف الى جانب الفئة الباغية الا أنه أطاعه لكن دون أن يشارك في القتال مما حذا بمعاوية رضي الله عنه أن يساله: ما بالك معنا؟ أجابه رضي الله عنه: انّ أبي شكاني الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي يومها: أطع أباك ما دمت حي، وها أنا معه ولست أقاتل.
بكاءه على احتراق الكعبة المشرفة
حين أدبر جيش حصين بن نمير دخل عبد الله سعيد المسجد الحرام ليجد عبد الله بن عمرو بن العاص في المسجد الحرام يقف أمام الكعبة وهي محترقة وحجارتها متناثرة فبكى ثم قال: أيها الناس! والله لو أنّ أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلوا ابن نبيكم (يقصد ابن الزبير رضي الله عنهما) ومحرقوا بيت ربكم لقلتم ما نجد أكذب من أبو هريرة، فقد فعلتم، فانتظروا نقمة الله فليلبسكم شيعا وليذيق بعضكم بأس بعض.
وفاته رضي الله عنه
توفي في مصر ودفن في بيته سنة 65 للهجرة، وسبب دفنه في بيته أنه لم يخرج أحدا بجنازته كون حصول مصادفة بوفاة شخصية مهمة في عهد مروان بن عبد الملك في نفس يوم وفاته رضي الله عنه فدفن في بيته.
فرضي الله عنك وصلى الله وسلم وبارك على من رباك.
14- عبد الرحمن بن صخر الدوسي - أبو هريرة رضي الله عنه
ذاكرة عصر الوحي الحديدية
أبو هريرة رضي الله عنه واحدا من أكفأ وأكثرالصحابة حفظا لأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويملك ذاكرة حديدية متقدة نماها له المولى سبحانه وتعالى كي يحفظ ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من الضياع والعبث.
لقد هيأته موهبته ليكون أكثر الصحابة وعيا وادراكا بميراثه صلى الله عليه وسلم ذلك، ذلك أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات متتالية بدقائقها وثوانيه، اللهم الا من الأوقات التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم يخلد في حياته الخاصة مع نفسه واهل بيته الأطهار.
قوة ذاكرته رضي الله عنه
تفرغ أبو هريرة رضي الله لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم تفرغا كاملا لدرجة أنه بمجرد أن يتلقى من فمه الشريف كلمة يثبتها في صدره قبل عقله فلا ينساها أبد، وتلك موهبة أيده فيها سبحانه لأجل أن يحفظ ميراثه عليه الصلاة والسلام.
كان رضي الله عنه يسمع فيعي، ويقرأ فيحفظ، وكان يتمتع بذاكرة تجيد فن الحفظ والاختزان كما جهاز الكمبيوتر اليوم يختزن كل المعلومات بلمسة يده على الماوس، وليس كما نحن اليوم نقرأ بعيوننا وقلوبنا تجوب معالم الدنيا بما فيها فلا نستوعب ما نقرأ وكأننا نقرأ بصحيفة لا تهمنا أخبارها. وان كان صنع الانسان قد هيأ جهازا لحفظ المعلومات، فماذا نقول بصنع الله تبارك الذي لا يعجزه ايجاد عقول بشرية تستوعب كل ما تسمع وتخزنها في ذاكرته، ولا عجب في ارادة الله تبارك وتعالى الذي وهب أبو هريرة رضي الله عنه هذه النعمة الجليلة ليحفظ تراث نبيه صلى الله عليه وسلم، ولولا سنته صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئا عن دينن، فالقرآن الكريم ذكر لنا جميع الأحكام والفروض ، لكنه لم يفصلها لنا كله، فجاءت السنة لتبينها لنا بتفاصيلها كاملة، ولنضرب مثلا على ذلك الصلاة، التي هي عمود الدين أمرنا الله تعالى باقامته، ولم يبّين لنا أية تفاصيل عن أوقاته، أو عن أركانه، أو حتى عدد ركعاته، أو عن أذكاره، أو عن شروطه، فجاءت السنة المطهرة وبيّنت لنا كل شيء مفصل، وعلى الصلاة تقاس كل الأعمال والأركان والفروض.
محاربته للوضاعين رضي الله عنه:
عندما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبو هريرة رضي الله عنه غرضا سيئا مستغلين سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوأ استغلال، ولولا تلك الجهود المخلصة والبارة الخارقة التي بذلها أبرار كبار نذروا حياتهم وكرسوها لخدمة الحديث النبوي، لغدت أحاديثه صلى الله عليه وسلم موضع ارتياب وتساؤل، هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام وأن يحمّلوه وزرها وآذاها.
أبو هريرة رضي الله عنه واحدا من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أخذته من تغيرات، ولم تنقلب حياته رأسا على عقب الا بعد التصاقه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم حولته من أجير الى سيّد، ومن ساجد أمام حجارة مركومة الى عالم وفقيه مؤمن بالله الواحد القهار، وخير ما يحدثنا عن أبي هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي (أبو هريرة نفسه) فيقول:
نشأت يتيم، وهاجرت مسكين، وكنت أجيرا ليسرى بن غزوان بطعام بطني، كنت أخدمهم اذا نزلو، وأحدوا لهم اذا ركبو، وها أنا وقد زوجنيها الله تعالى، فالحمد لله الذي جعل الدين قوام، وجعل أبو هريرة اماما.
قدم أبو هريرة رضي الله عنه من خيبر الى المدينة سنة سبع للهجرة وكان عمرة يومئذ 26 عام، فأسلم راغبا مشتاق، ومنذ أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه على الاسلام وهو رضي الله عنه لم يفارقه قط الا في ساعات النوم، أربع سنوات عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت سنوات الخير كله، وحدها كانت عمرا كامل، كانت طويلة عريضة مليئة بكل صالح من القول والعمل والصحبة.
لماذا أبو هريرة أكثر رواة الحديث؟
يقول أهل العلم: انّ ابطال الحرب في الصحابة كثيرون، والفقهاء والدعاة والمعلمون أكثر، ولكن البنية التحتية للمجتمع كانت تفتقد للكتابة، وفي تلك العصور كانت الجماعة الانسانية كلها لا تهتم بالكتابة، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في ذلك الزمان، لذا كان كثير من رجالها ونساءها أميون لا يدركون شيئا من القراءة والكتابة، ورغم أنّ ابو هريره رضي الله عنه كان من تلك العصور، الا أنه نال حظا وافرا من العلم والتعلم ، شأنه شان كتاب الوحي رضي الله عنهم، ورغم قلتهم الا أنهم كانو، وأبو هريرة بحدسه العريض وبذكاءه الشديد وبفطرته السديدة أدرك حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام لبنة لبنة، الى من يحفظ تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتاب الوحي يكتبون ما يتنزل به الوحي عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم، وما كان لهم أن يكتبوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يختلط عليهم كلام رب العزة تبارك وتعالى بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، لأجل هذا رأى أبو هريرة رضي الله عنه أن يستوعب بقلبه وعقله ما ينطقه الفم الشريف من أحاديث، ووجد نفسه أهلا لحفظ الأحاديث نظرا للموهبة الجليلة التي أيده الله عزوجل به، ونظرا للتفرغ الكامل لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرا للفراغ الطويل الذي أهّله الى ما يمكنه من ادرك كل ما كلمة ينطق به فمه الشريف صلى الله عليه وسلم فقد سار الدرب ، ومن سار على الدرب وصل.
لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه كاتب، بل كان حافظ، وكان يملك من الفراغ ما يمكنه من ادراك كل أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وهذه موهبة الهية خصّها به الله تبارك وتعالى وأيده بها وانعم بها عليه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم حين دعا له دعوة فتحت لها أبواب السماء، ليكون واحدا من النجباء الذين يأخذون على عاتقهم هذا التراث ومن ثم نقله للأجيال القادمة.
لماذا منع عمر أبو هريرة رضي الله عنهما من رواية الحديث؟
هناك بعض الشكوك كانت قد راودت بعض الصحابة رضوان الله عليهم من كثرة ما حدّث أبو هريرة من أحاديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، جعلهم يرتابوا بصحته، الا أنّ أبو هريرة رضي الله عنه قد دافع عن نفسه وقال لهم: انكم تتقوّلون بأنّ ابو هريرة قد أكثر في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقولون أن المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدّثون هذه الأحاديث، ان أصحابي من المهاجرين كان هناك ما تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وانّ لأصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم وزروعهم، واني كنت أميرا مسكينا أكثر مجالسة للنبي صلى الله عليه وسلم، أحضر اذا غابو، وأحفظ اذا نسو، وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثمّ يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني، فبسطت ثوبي ، فحدّثني ثم ضممته اليّ ، فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه، وايم الله لولا آية في كتاب الله ، ما حدّثتكم بشيء أبد، قوله تبارك وتعالى: انّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
لأجل هذا كان أبو هريرة يحدّث بالناس كي لا يطوله اثم اذا هو كتم حديث، وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد قال له يوما لكثرة ما اشتكاه بعض الصحابة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس
والتزام أبو هريرة بأمر عمر رضي الله عنه لا يشكل اتهاما لأبي هريرة رضي الله عنه، بقدر ما هو دعم لنظرية عمر رضي الله عنه تبناها وأكده، خاصة وأنّ المسلمين في تلك الفترة بالذات كان يجب ألا يحفظوا سوى القرآن الكريم حتى يستقر ويثبت في الصدور والعقول، فالقرآن كتاب الله تبارك وتعالى، ودستور الاسلام، وقاموس الدين، وكثرة الحديث عنه صلى الله عليه وسلم خاصة بعد وفاته صلى الله عليهوسلم قد يعيق جمع القرآن الكريم لما قد يتسبب بلبلة وتداخلات الأحاديث مع نصوص آيات القرآن الكريم، ولو أنّ أبو هريرة رضي الله عنه صرّح بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بعد جمع القرآن الكريم لما اعترض عمر رضي الله عنه ولا غيره على روايتها.
من أجل ذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: اشتغلوا بالقرآن فانه كلام الله.
وكان يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،الا فيما يعمل به.
وأبو موسى الأشعري لم ينكر على أبو هريرة رواية الحديث، ولكن رأيه من ذلك كان يقترب كثيرا من رأي عمر، لذا قال لأبو هريرة رضي الله أجمعين: انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي القرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالحديث وأنا شريكك في ذلك.
كان القرآن الكريم قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرّب اليه ما ليس فيه، وحكمة عمر وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما كانت عاملا مساعدا وقويا على تحقيق ذلك، فالقرآن الكريم من المحال أن يحرّف أو يزوّر، ذلك أن الله تعالى قد تكفل بحفظه بقوله عزوجل: انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون، بينما الأحاديث فهي قابلة للتحريف والتبديل والتزوير، وقابلة لأن تتخذ سبيلا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل من الاسلام، وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظرعمر رضي الله عنهما ويحترمه، لأجل هذا كان لا يريد أن يكتم الحديث والعلم وهما بنظره أمانة يجب أن تؤدى.
وهناك ثمة سببا آخرا وجوهريا هاما كان له دور كبير في اثارة المتاعب حول أبو هريرة رضي الله عنه بمنعه من رواية الحديث قبل جمع القرآن هو ظهور محدّث آخر يروي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو كعب الأحبار وهو يهوديا ،وكان يكثر ويسرف في الحديث مما جعل المسلمون لا يطمئنون اليه كثيرا.
ميراث رسول لله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم مرّ أبو هريرة رضي الله عنه في سوق المدينة اذ وقف وقال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسّم وأنتم ههنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين يقسّم؟ قال: في المسجد، فخرجوا من السوق مسرعين الى المسجد، ثم ما لبثوا أن عادوا وأبوهريرة رضي الله عنه لا زال واقفا مكانه، فلما أبصرهم قال: مابكم عدتم؟ قالوا: أتينا المسجد فدخلناه، فلم نر فيه شيئا يقسّم، بل رأينا أقواما تصلي، وأقواما تقرأ القرآن،وأقواما تتذاكر الحلال والحرام، فقال رضي الله عنه: ويحكمّ ! فذاك هو ميراثه صلى الله عليه وسلم.
مروان بن الحكم وأبو هريرة رضي الله عنه:
أراد مروان الحكم يوما أن يختبر قوة ذكاء أبو هريرة رضي الله عنه ليقف على أمر كان بعض الصحابة قد تداوله حول ارتيابهم في الأحاديث التي يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاسدعاه الى قصره وطلب منه أن يحدثه بما يحفظ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مروان قد أخفى أحد كتابه من وراء حجاب وطلب منه أن يدوّن كل كلمة يقولها أبو هريرة، وفي العام التالي استدعاه ثانية وطلب منه أن يحدثه بالآحاديث التي ذكرها له العام الماضي، وبعد أن انتهى قال له كاتبه: ما نسي أبو هريرة كلمة واحدة مما قاله اليوم عما قاله العام الماضي.
العابد الزاهد الهجّاد
كان رضي الله عنه هجاد، عابد، زاهد، أواب، يتناوب مع زوجته وابنته على قيام الليل، فيقوم هو ثلثه، وزوجته تقوم ثلثه، وابنته تقوم ثلثه، وهكذا كانت لا تمر ساعة من ليلة الا وفي بيته عبادة وذكر وصلاة.
اسلام أمه رضي الله عنهما
لما أسلم أبو هريرة رضي الله عنه لم يكن هناك أحدا ينغص عليه حياته سوى أمه التي عارضت بشدة دخوله في الاسلام، وليس ذلك فحسب بل كانت تؤذيه وتذكره بسوء، وكان رضي الله عنه يبتجنّب مجلسها كي لا يعقه، ونترك اليه رضي الله عنه ليحدثنا بذلك فيقول:
فجئت رسول الله وأنا أبكي، وقلت له: يا رسول الله لطالما دعوت أمي الى الاسلام فتأبى عليّ، واليوم دعوتها فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهديه، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبو هريرة، فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أتلمّس طريقي الى البيت وما أن وصلت حتى سمعت خضخضة ماء ونادتني أن يا أباهريرة مكانك، ثم لبست درعه، وعجّلت خماره،وخرجت الي وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، فهرعت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن من قبل، وقلت: أبشر يا رسول الله، لقد استجاب الله لدعوتك، وهدى الله أمي الى الاسلام، ثم قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم حبّب عبيدك هذا وامه الى كل مؤمن ومؤمنة.
توليته امارة البحرين رضي الله عنه
عاش أبو هريرة عابدا زاهدا لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة، وفي خلافة عمر رضي الله عنهما ولاه امارة البحرين، وكان من وراء وجوده في البحرين قد ادخر مال، ولما علم عمر رضي الله عنه دعاه الى المدينة ، ودار بينهما الحديث التالي:
يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت مال الله؟
ما أنا بعدو الله ولا بعدو كتابه ، ولست من يسرق مال الله.
اذن من أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟
خيل لي تناسلت وعطايا تلاحقت.
فادفعها الى بيت مال المسلمين!
ولم يكسر أبو هريرة أمر عمر رضي الله عنهم، ثم رفع يديه الى السماء وقال: اللهم اغفر لأمير المؤمنين.
وبعد حين من الزمن دعاه عمر رضي الله عنه اليه وعرض عليه الولاية من جديد، الا أن أبو هريرة وبأدب شديد اعتذر له عنه، وعندما سأله عمر عن السبب، أجاب رضي الله عنهما: حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي ، ويضرب ظهري، واخاف أن اقضي بغير علم، واقول بغير حلم.
لماذا كني أبو هريرة؟
كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وبعد الاسلام سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن، ولشدة عطفه على الحيوان ورفقه به فقد كان يربّي هرة كانت تلازمه كظله، ولأجلها أطلق عليه اسم أبو هريرة.
وفاته رضي الله عنه
في مرضه الذي توفي فيه رضي الله عنه وبينما كان أصحابه يتمنون له الشفاء كان يلح على الله تعالى قائلا: اللهم اني أحب لقاءك فاحبب لقائي، وعن عمر يناهز ال 78 عاما من عمره المبارك، وفي العام ال 59 هجرية لبى أبو هريرة رضي الله عنه نداء المولى عزوجل.
فرضي الله عنه وصلى الله وبارك وسلم على من رباه.


15- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أول صادح بالقرآن الكريم وأمير العلماء
ساقيه يوم القيامة أثقل في الميزان من جبل أحد
هو رضي الله عنه سادس المسلمين دخولا في الاسلام ولاسلامه قصة، نترك له الحديث ليرويها لنا:
كنت غلاما يا فعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقالا: هل عندك من لبن تسقينا؟ فقلت: اني مؤتمن ولست ساقيكما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شاة حائل لم ينز عليها الفحل؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها فاعتلفها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسح الضرع، ثم اتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة فاحتلب منه، فشرب أبو بكر رضي الله عنه ثم شربت أن، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للضرع اقلصي فقلص. فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني من هذا القول، فقال لي عليه الصلاة والسلام: انك غلام معلم.
لم يكن ابن مسعود رضي الله عنه يومها أنه سيكون احدى معجزات هذا الكون، وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف والأجير المعدم الذي يرعى غنم غيره، لم يكن يعلم أنه يوما سيكون له شأنا ويتحدى كبراء قريش وقاهر جبروت سادتها.
انك لغلام معلم، جملة نطق بها الفم الشريف فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أدارها ابن مسعود رضي الله عنه بعقله فقلبت كيانه كله رأسا الى عقب، جعلته يؤمن بقدرات هذا الرجل القرشي الكريم الذي أراه احدى المعجزات في شاة يافعة عذراء جعلها تدر الحليب وهي لم تلتقي مع ذكر من قبل، وقال في نفسه: لا بد أنّ هناك قوة خفية يعتمد عليها هذا الرجل( صلى الله عليه وسلم) جعلت الحجر ينطق، وبدأ يتتبع أخباره صلى الله عليه وسلم حتى اهتدى لنور الله تبارك وتعالى.
بعد أن أسلم ابن مسعود رضي الله عنه بدأ يشعر بعزته وكرامته، وبات يذهب الى مجمع الأشراف وهو الذي لم يكن من قبل يجرؤ على المرور من مجلسهم الا مطرق الرأس حثيث الخطى، لقد بات يذهب حيث سادات قريش وكبرائها يجلسون فيقف عند رؤوسهم، ويرفع صوته الحلو المثير بالقرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم الرحمن* علم القرآن* خلق الانسان* علمّه البيان* الشمس والقمر بحسبان* والنجم والشجر يسجدان* والأرض وضعها للأنام.....ثم يواصل قراءته وزعماء قريش مشدوهون لا يصدقون أعينهم ما ترى، ولا آذانهم ما تسمع، ولا يتصورون أبدا أنّ هذا الذي يتحدّى بأسهم وكبرائهم، انما هو أجير عند سيد من ساداتهم، وأنه راعي غنم لشريف من شرفائهم.
ولنترك الزبير بن العوام رضي الله عنه يصف ذلك المشهد المثير فيقول:
كان أول من جهر بالقرآن الكريم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة هو فبد الله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به ، فمن رجل يسمعهم؟ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنا.
قالوا: انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوا به سوءا.
قال رضي الله عنه: دعوني، فانّ الله سيمنعني منهم.
وعندما بدأ رضي الله عنه يقرأ القرآن بدؤوا يقولون: ماذا يقول ابن أم عبد؟ انه ليتلو ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه وهو ماض في قراءته، ثم عاد الى أصحابه مصابا وجهه وجسده، فقالوا: هذا الي خشينا عليك.
هذا هو ابن مسعود رضي الله عنه الذي لم تكن العين لتقع عليه لا في زحام الحياة ولا بعيدا عن الزحام، فلا هو ابن شريف، ولا من الذين أوتوا بسطة في المال و الجسم، ولا من الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب، فهو من المال معدم، ومن الجسم ضامر ناحل، والناظر اليه يحسبه خيالا لنحافته المدقعة.
عميد حفظة القرآن الكريم وفقيه الأمة رضي الله عنه
انك غلام معلم، نبوءة نبوية لا تنطق عن الهوى، جعلته بفضل الله تعالى ومنته عليه فقيه هذه الأمة وعميد حفظة القرآن.
لقد بلغ رضي الله عنه من العلم ما ليس له حدود بعد أن علمه ربه فأحسن تعليمه.
لقد كان فقيها بالسنة وعالما في الدين، قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، ومثلما آتاه الله التقوى فقه أعطاه الله العلم حتى نبغ فيها وبرع.
يقول عن نفسه رضي الله عنه:
- أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.
- والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا اعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني.
انها نعمة عظيمة جليلة حباها الله بها رضي الله عنه لا تعادلها كنوز العالم مجتمعة، ذلك أن من يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب، وما هي الشعيرة الأعظم من النور المبين كتاب الله الكريم؟
وقالوا عنه رضي الله عنه:
- لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دوما يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود: تمسكوا بعهد ابن أم عبد، وقال صلى الله عليه وسلم: من أحبّ أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد.
- وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:ما رأيت أحدا أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود.
- وقال أبو موسى الأشعري: لا تسألونا عن شيء مادام هذا الحبر فيكم.
لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وما أرى ابن مسعود الا واحدا من
أهله. لكثرة تردده عليه صلى الله عليه وسلم لينهل منه العلم والفقه.
- وقال عمر رضي الله عنه: لقد ملء فقها.
عزله عن أمارة الكوفة رضي الله عنه:
كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد ولاه على امارة الكوفة، على الرغم من أنّ أهل الكوفة معروف عنهم أنهم أهل تمرّد وعصيان، ولا يصبرون على طعام واحد، ولا يطيقون الهدوء ولا السلام، ورغم كل تلك السلبيات فيهم ، الا أننا نجدهم يجتمعون على حب ابن مسعود رضي الله عنه حبا يشبه المعجزات، وبقي أميرا عليها حتى جاء عهد عثمان رضي الله عنه، وعندما عزله عثمان رضي الله عنه قال له أهل الكوفة: أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك من أن يصل اليك ، فقال لهم: انها ستكون فتنة ولا أحب أن أكون من يفتح أبوابه، له عليّ الأمر وعليّ منه الطاعة.
ولقد حدث بينه وبين عثمان رضي الله عنهما حوارا نجم عنه خلافا تفاقم الى حد أن حجب عثمان عنه راتبه ومعاشه من بيت المال، ورغم ذلك لم يقل ابن مسعود عن عثمان رضي الله عنهما كلمة سوء واحدة.
لقد لخّص لنا ابن مسعود حياة عمرالفاروق رضي الله عنه العظيمة بكلمات ثلاث: كان اسلامه فتحا...وكانت هجرته نصرا...وكانت امارته رحمة.
من كلماته الجامعة رضي الله عنه:
خيرالغنىغنى النفس...وخير الزاد التقوى...وشرالعمى عمى القلب...وأعظم الخطايا الكذب...وشر المكاسب الربا....وشر المآكل مال اليتيم...ورأس البر من يعف الله عنه، ومن يغفر الله له.
هذا هو الرجل الذي كان حجم جسمه في حجم العصفور، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم، ذو ساقان ناحلتان ودقيقتان، هما أثقل في الميزان من جبل أحد، ولذلك قصة أودكم أن تقرؤوها بآذان القلوب:
ذات يوم تسلق ابن مسعود رضي الله عنه أعلى شجرة ليقطع منها عودا من أراك كمسواك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الصحابة دقة ساقيه تعجبوا وضحكو، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود؟ انها أثقل في الميزان عند الله من جيل أحد.
أجل هذا هو الأجير الفقير، الناحل الوهنان، الذي جعل منه ايمانه اماما من أئمة الخير والفقه والهدى والنور، ولو أنّ الانسان يقاس عند الله بحجم جسمه لما قال الله تعالى عن المنافقين: واذا رايتهم تعجبك أجسامهم كأنهم خشب مسندة
انّ من حمكة الله تبارك وتعالى أنه يضع سره في أضعف خلقه ليثبت لأصحاب العقول الجاهلة صدق قوله الكريم: يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفو، انّ اكرمك عند الله أتقاكم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى
وقال عليه الصلاة والسلام: ان في الجسد مضغة، ان صلحت صلح الجسد كله، وان فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب،
ولأن القلوب هي مصادر التقوى، فقد قال تعالى: انّ أكرمكم عند الله أتقاكم.
مناقبه رضي الله عنه:
- لقد حظي ابن مسعود رضي الله عنه برضوان الله تعالى وجنته وهو لا زال على ظهر الأرض.
- من أوائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولا في الاسلام.
- يدخل بيته صلى الله عليه وسلم متى شاء في أي وقت من ليل أو نهار.
- رزقه الله العلم والمعرفة فكان عالما وفقيه، واستحق لقب أمير العلماء بجدارة.
وفاته رضي الله عنه:
توفي رضي الله عنه في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد روى
ابن عساكر رحمه الله فقال: في مرضه الذي توفي فيه ابن مسعود، عاده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، ودار بينهما حديثا مؤثرا جدا تدمع له العين لقوته، الحديث التالي ما دار بينهما وقد بدأه عثمان رضي الله عنه:
ما تشتكي؟
ذنوبي.
فما تشتهي؟
رحمة ربي.
آلا آمر لك بطبيب؟
الطبيب أمرضني.
آلا آمر لك بعطاء؟
لا حاجة لي فيه.
يكن لبناتك من بعدك.
أتخشى على بناتي الفقر يا أمير المؤمنين؟ اني أمرت بناتي أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة، واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
فرضي الله عن ابن مسعود وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

قلب., 11 - 1 - 2012 11:09 PM

16- عبد الله بن السعدي رضي الله عنه
مهاجر بعد الهجرة خلق للآخرة
ترك وطنه العزيز مع كل ما يحمل من فراق الوطن من شدة على النفس البشرية، ومع كل تلك الآلام كانت هجرته أحب الى عبدالله رضي الله عنه من الدنيا وما حوت من كنوز زائلة، ولأن نظرته للدنيا من هذا المنظار فقد باع الدنيا بقشرة بصلة كما يقولون وآثر عليها الدين الذي لا يزول.
انّ الهجرة بمفهومنا تختلف عن الهجرة بمفهوم عبد الله رضي الله عنه، فعبد الله رضي الله الذي فرّ من وطنه الى المدينة لينجو بدينه يكون قد حقق الهدف من الهجرة، والهجرة لا يطلق عليها هجرة الا اذا حققت شروطها والتي تتبلور حول شرط واحد أن تهجر وطن يمنعك من ممارسة حقوقك الدينية الى وطن سواه يضمن لنا حرية ممارسة حقوقك الدينية كما يحلو لك.
ان الهجرة بمعناها الحقيقي هي الفرار من الوطن للحافظ على الدين من الفتنة، ولأن عبد الله رضي الله عنه خلق للآخرة فقد صار من أبناءها وتعامل مع الدنيا وكأنها خلقت له لا خلق له، وهناك فرق شاسع بين هذين المعنيين لا يدركهما الا من كان قلبه معلقا بالله تبارك وتعالى، الا الذي يعبد الله على أنه يراه، فان لم يكن يراه فان الله يراه، وهذا قمة الاحسان.
هجرته الى الله ورسوله رضي الله عنه:
خير من يروي لنا هذا الحدث هو نفسه صاحب القصة رضي الله عنه فيقول: وفدنا في نفر من بني سعد بن بكر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أو ثمانية وقد كنت أحدثهم سن، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضينا حوائجن، ومن ثم خلفوني على رجل لهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: أخبرني عن حاجتي؟ قال: وما حاجتك؟ قلت: رجال يقولون قد انقطعت الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: انت خيرهم- ما انقطعت الهجرة ما قوتل الكفار( أي مادام هناك كفار في الدنيا) ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح (أي من مكة الى المدينة) ثم قال صلى الله عليه وسلم : انّ الهجرة انقطعت بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة، واذا استنفرتم فانفروا ان الهجرة بمفهومها الحقيقي هي خوف الانسان على نفسه من الفتنة في الدين، فمن خشي على نفسه من أن يفتن في دينه فقد وجبت عليه الهجرة.
فرضي الله عنك يا ابن العم وصلى الله وسلم وبارك لى من رباك.
17- عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
توأم الليل وصديق السحر
هو عبد الله بن عمر الفاروق رضي الله عنهم، ويجتمع في النسب مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي، وامه زينب بنت مظعون وأخته من أمه وأبيه أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم.
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لخص الدنيا لابن عمر رضي الله عنهما بكلمات قليلة في حروفه، غزيرة في معانيها:
يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور.
ولادته رضي الله عنه:
ولد رضي الله عنه في مكة في السنة الحادية عشرة التي سبقت الهجرة المباركة، أي بعد البعثة النبوية الشريفة بعامين .
يقول عن نفسه: منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه سلم فما نكثت ولا بدّلت، وما بايعت صاحب فتنة قط ، ولا أيقظت مؤمنا من مرقده، اصطحبنيي أبي معه في غزوة بدر وهو يرجو أن يكون لي بين المجاهدين مكانة، الا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ردني لحداثة سني.
فضائله رضي الله عنه:
كان رضي الله عنه عالما..متواضعا..ورعا..تقيا..جوادا وكريما..متواضعا..
عابدا..مستمسكا بالقدوة من الذين سبقوه للايمان، لقد كان جوده وكرمه وورعه وزهده تعمل معا في فن عظيم لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم، فقد كان يعطي الكثير من الرزق الحلال الطيّب، ولنه ورع فقد كان لا يبالي أبدا أن يتركه جوده وكرمه فقير، فالزاهدين في الله لا يخشون الفقر أبد، والفقر تاج على جبين الأتقياء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
قالوا عنه رضي الله عنه:
لقد تعلم من أبيه الفاروق رضي الله عنه الخير الكثير، وتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخير كله، والعظمة كله، وقد احسن الايمان وبمتابعته لرسول صلى الله عليه وسلم فقد حظي على أمرا يبهر الألباب، حيث كان رضي الله عنه يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ويقلده في كل شيء، مما أثار فرط اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم حفيظة أم المؤمنين، حتى قالت رضي الله عنها: ما كان أحد يتتبّع النبي صلى الله عليه وسلم في منازله كما كان يتتبعه ابن عمر
كان أكثر الناس تتبّعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت رضي الله عنها: ما من أحد أدرك الدنيا الا وقد مالت به الا ابن عمر.
قال له رجل ذات يوم: يا خير الناس ويا اين خير الناس، فأجابه: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، انما أنا عبد الله أرجوه وأخافه، والله انكم لا تزالون بالرجل حتى تهلكوه.
بهذه الكلمات كان يدفع الامام الكبير داء العجب عن نفسه، بينما نرى هذه الأيام من أكله الكبر وحطمه الغرور ولسان حاله يقول: يا أرض اشتدي ما في حدا قدّى، مع أنه لا يساوي عند الله في الميزان بعرة ماعز، فما احقر الانسان عندما لا يعرف نفسه، ورحم الله امريء عرف قدر نفسه.
وقالوا عنه: ما سمعنا ابن عمر رضي الله عنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمامه الا بكى.
دعاؤه رضي الله عنه:
كان رضي الله عنه كلما أصبح يدعو الله تبارك وتعالى بهذا الدعاء: اللهم اجعلني من أعظم عبادك نصيبا في كل خير تقسمه الغداة، ونور تهدى به، ورحمة تنشره، ورزق تبسطه، وضر تكشفه، بلاء ترفعه، وفتنة تصرفها.
من نصائحه رضي الله عنه:
ان العلم كثير ولكن ان استطعت أن تلقي الله خفيف الظهر من دماء المسلمين ، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازما جماعتهم، فافعل.
حرصه الشديد على الرواية والفتوى رضي الله عنه:
لقد كان شديد التمسك بالسنة لا يكاد يشذ عنها قيد أنملة أو قيد شعرة، وكان يتتبع آثار النبي في كل شيء.
كان يتهيّب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يروي عنه حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه حرفا حرفاو لقد كان شديد الحذر والحرص من أن يزيد أو ينقص من أحاديثه صلى الله عليه وسلم، كذلك كان شديد الحذر في الفتي، وكان كثيرا ما يجيب السائل عن فتوى لا يعلمها بلا أعلم بما تسأله عنه.
كان يخاف أن يجتهد في فتواه فيخطىء في اجتهاده، ومع علمه بأن للمخطىء أجر وللمصيب اجرين، الا أنه كان يخشى الفتي، وكان رضي الله عنه يبتعد عن مناصب القضاة، ومناصب القضاة في تلك الأيام كانت من أرفع المناصب، ومع أن تلك المناصب كانت تضمن لشاغليها ثراء وجاها ومجد، فقد كان رضي الله عنه يرفضها بشدة.
ذات يوم دعاه الخليفة عثمان رضي الله عنهما وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فرفض ابن عمر رضي الله عنه رغبته قائلا له: ان القضاة ثلاث: قاض يقضي بجهل فهو في انار، وقاض يقضي بهوى فهو في النار، وقاض يجتهد ويصيب فهو كفاف ولا وزر ولا أجر، واني لسائلك الله أن تعفيني، فأعفاه رضي الله عنهما بعد أن اخذ عليه عهدا ألا يخبر أحدا بهذ، وذلك لأن عثمان رضي الله عنه يعلم مكانة ابن عمر رضي الله عنهما في قلوب الناس، وان عثمان رضي الله عنه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوف ابن عمر رضي الله عنهما عن القضاء ألا يقبل بها أحدا بعده.
تؤأم الليل وصديق السحر
لقد كان ابن عمر رضي الله عنه توأم الليل، يقومه مصلي، وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكي، فقد كان رضي الله عنه قد رأى رؤيا فسرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرا جعل قيام الليل منهى لآماله، ومناط غبطته وحبوره، يقول رضي الله عنه: رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنّ بيدي قطعة استبرق، وكأني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه، ورأيت كأنّ اثنين آذياني وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، مخليا عني، فقصّت أختي حفصة رؤياي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فليكثر.
ومنذ تلك الرؤيا لم أدع قيام الليل لا في حلي ولا في ترحالي.
رؤيته رضي الله عنه لأبي جهل يخرج من قبره
ولأنه بلغ من العلم مبلغ الآفاق في السحاب وهو لا يزال شاب، فقد جعله الله تعالى يقف على عذاب أبا جهل في قبره، يقول رضي الله عنه:
بينما كنت أسير في جنبات بدر، واذ خرج رجل من حفرة وفي عنقه سلسلة، فناداني: يا عبد الله اسقني..يا عبد الله اسقني..يا عبد الله اسقني، فلا أدري أعرف اسمي أم ناداني بدعاية العرب! وخرج من تلك الحفرة رجلا آخرا وفي يده سوط، فناداني: يا عبد الله لا تسقه فانه كافر، ثم ضربه بالسوط، فعاد الى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: أو قد رأيته؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ذاك أبو جهل، وذاك عذابه الى يوم القيامة.
سخاؤه رضي الله عنه:
لقد كان جوده وكرمه وسخاءه علامة مميزة تشهد له بالورع والتقوى، ومن شدة سخاءه في الصدقة كان ينفق في سبيل الله كل ما لديه، وفي اليوم التالي كان يستدين لاطعام أهله.
ما ينبغي لمن ينتمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون للمال عبدا.
لقد كان ابن عمر رضي الله عنه تاجرا ناجح، ولأن الأموال كانت تأتيه من حيث لا يحتسب، فقد كانت تمر به مرور، وتعبر داره عبور، وكان قلما يأكل الطعام وحده، فلا بد أن يكون معه أيتام وفقراء، وعندما عرف الفقراء عطفه وذاقوا حلاوة بره وحنانه أصبحوا يجلسون في طريقه حين يراهم يصحبهم معه الى داره، لقد كان المال بين يديه خادما لا سيد، وكان وسيلة لا غاية، وسيلة لضروريات العيش لا غاية للترف.
ما كان رضي الله عنهما يتهالك على الدنيا ولا يسعى له، بل هي كانت تسعى اليه.
لقد عمّر رضي الله عنه طويل، حتى أنه لعاصر العصر الأموي الذي فاضت فيه الأموال، واانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكثر الدور، ورغم ذلك بقي شامخا ثابتا كالطود العظيم لا يبرح نهجه ولا يتخطى عن ورعه وزهده، لقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها ويرفضه، وهل هناك اغراء أكثر من منصب الخلافة الذي عرض عليه بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتركه؟
يقول الحسن رضي الله عنه: لما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا لابن عمر رضي الله عنه انك سيد الناس وابن سيد الناس، فاخرج يبايع لك الناس! وعندما ابى قالوا: اتخرجنّ أو لقتلناك على فراشك، فأعاد عليهم ما قال.
موقفه رضي الله عنه من الحجاج:
وذات يوم وقف الحجاج خطيبا فقال: انّ الزبير حرّف كتاب الله! الا أنّ ابن عمر رضي الله عنه صاح في وجهه وقال: كذبت..كذبت..كذبت، فصفعت المفاجأة وهو اذلي يخافه كل الناس في ذلك الزمان لقسوته وتجبره وانتزاع الرحمة من قلبه، ومضى الحجاج يتوعده بشر الجزاء.
موقفه من حروب الفتنة رضي الله عنه:
رغم اعتزاله رضي الله عنه عن الفتنة وعزوفه عن الخلافة والامارة الا أنه لم يعش في معزل عنه، بل كان يصدع بكلمة الحق، وكان لا يخشى في الله لومة لائم، انه يعلم أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم لهذا الدين، وهو الرحى الذي يدور عليها الاسلام، وقد كان دفاعه عن الحق سببا في موته رضي الله عنه، وسعيد بن جبير رضي الله عنه خر من حدثنا عن ذلك فيقول: لما احتضر ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما آسى على شيء في الدنيا الا على ثلاث: ظمأ الهواجر... ومكابدة الليل.. وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا (يقصد الحجاج).
وفي حرب الفتنة التي وقعت بين علي كرّم الله وجهه وبين معاوية، فقد اعتزلها على الرغم من أنّه كان قلبا وقالبا يناصر عليا رضي الله عنه، وكان دائما يقول: ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أنّي لم أقاتل الفئة الباغية مع علي رضي الله عنه.
وعندما سئل عن الذي منعه من نصرة علي رضي الله عنه، قال: ما منعني هو أنّ الله قد حرّم علينا دماء المسلمين، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ولقد فعلنا ما أمرنا الله تبارك وتعالى به وقاتلنا حتى كان الدين لله، أما اليوم ففيم نقاتل؟ نقاتل من يشهد أن لا اله الا الله؟ هكذا كان منطقه رضي الله عنه، وهذه كانت حجته، وهكذا كان اقتناعه.
وفاته رضي الله عنه:
في العام 73 للهجرة مالت الشمس للمغيب ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى تحمل جثمان آخر ممثّل لعصر الوحي في مكة والمدينة، عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
فرضي الله عن ابن عمر وصلى الله وسلم على من رباه.
18- عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريرضي الله عنه
من كلمّه الله عزوجل بعد استشهاده
اذا ذكرت عبد الله بن عمرو بن حرام، يجب أن تذكر معه صهره عمرو بن الجموح ، ذلك أنهما كانا متحابين في الدنيا متصافيين، وهذه شهادة لا نقولها نحن بل شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولأجل ذلك فقد أكرمهما الله تعالى.
هو عبد الله بن حرام من بني سلمة، ومن الأنصار الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه.
سخر رضي الله عنه كل ماله في سبيل الله تعالى وفي خدمة الاسلام.
وصيته لابنه رضي الله عنهما
شهد بدرا وأحد فقط، وقد تراءى له مصرعه قبل خروجه وخروج المسلمين الى أحد، لقد غمره احساسا قويا وصادقا بأنه لن يعود الى أهله من تلك الغزوة، وكاد قلبه يطير من الفرح لهذا الاحساس، لذا فقد دعا ابنه جابر رضي الله عنهما وبدأ يملي عليه وصيته لعل احساسه يصدقه فيكون قد أتى بابا كبيرا من أبواب البر، وقال: اني لا أراني الا مقتولا في هذه الغزوة، بل لعلي سأكون مفتتح باب الشهادة فيه، واني لا أدع أحدا بعدي أحبّ اليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانّ عليّ دينا فاقضه عني، واستوصي بأخوتك خيرا.
وفاته رضي الله عنه
وفي صبيحة اليوم التالي خرج المسلمون للقاء قريش التي جاءت بجيش لجب لمقاتلة المسلمين، ودارت معركة رهيبة حقق المسلمون في بدايتها نصرا سريعا كاد أن يكون حاسما لولا مغادرة الرماة مواقعهم، هؤلاء الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ابلآ يغادروا مواقعهم أبد، ولأنهم عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمغادرتهم الجبل وشغل أنفسهم بجمع غنائم الجيش المنهزم- جيش قريش- فقد استغل خالد بن الوليد (قبل ان يسلم) انشغالهم بالغنائم وجمع فلول جيشه سريعا ليفاجأ المسلمون من وراءهم بهجوم خاطف ليتحوّل نصر المسلمين الى هزيمة، وبعدما ذهب المسلمون ينظرون شهداؤهم، ذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ليبحث عن أبيه حتى وجده بين الشهداء، وكان المشركون قد مثلوا به كما مثلوا بغيره من الأبطال وعلى رأسهم الحمزة رضي الله عنه.
ولما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على أهل عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ووجدهم يبكون قال لهم صلى الله عليه وسلم: ابكوا أو لا تبكوا فانّ الملائكة ظللته بأجنحته، ثم قال صلى الله عليه وسلم لابنه جابر رضي الله عنه: ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب، ولقد كلم أباك كفاحا (أي مواجهة) فقال الله عزوجل: عبدي سلني أعطك، فقال: يا رب أسالك أن تردني الى الدنيا لأقتل في سبيلك ثانية، فقال الله تعالى: انه قد سبق القول مني أنهم اليها لا يرجعون
قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة، فأنزل الله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون
فرضي الله عنك وأرضاك وصلى الله وسلم على من ربذاك.
19- عمرو بن الجموح رضي الله عنه
والله اني لأرجو أن اخطر (أطأ) بعرجتي الى الجنة
عمرو بن الجموح رضي الله عنه فذ / من الأنصار ومن قبيلة بنو سلمة، وهو زوج هند بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو حرام
كان عمرو بن الجموح رضي الله سيدا من سادات المدينة وشريفا من شرفائه، وكان يعبد صنما اسمه مناة، وكان له أربعة أبناء جميعهم دخلوا الاسلام قبله، ومن بين ابناءه معاذ وكان قد بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية.
معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما صديقان يدعوان اهل المدينة الى الاسلام، وقد اتفق المعاذان على ان يجعلا من صنم عمرو بن الجموح سخرية ولعب، فكانا يأخذناه ليلا ويطرحانه في حفرة للقاذورات، وفي الصباح يقوم عمرو بن الجموح الى صنمه فلا يجده، فيدا في البحث عنه الى أن يجده في حفرة القاذورات، فيأخذه ويغسله ويطهره ومن ثم يطيّبه، وهكذا بات المعاذان كل ليلة يلهوان بالصنم وفي اليوم التالي يغسله ويطيبه عمرو بن الجموح، اوبعد أن سئم من هذا الموّال اليومي علق على رقبته سيفه وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك، وكعادته يصحو في اليوم التالي فلا يجده، ويذهب الى الحفرة فيجده في قاعها ومربوطا الى كلب ميت، فيقف مشدوها ينظر اليه، وفي هذه الأثناء يتجمهر حول الحفرة بعضا من سادات المدينة ممن سبقوه للاسلام وبدؤوا يسخرون منه تارة ويحثونه على اتباع الدين الجديد حتى اذا لان لحديثهم، ذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على الاسلام.
ابن الجموحرضي الله عنهوالجهاد
أبناء عمرو بن الجموح رضي الله عنهم الأربعة كانوا رجالا كالأسود، وكانوا جميعا يخرجون للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مرة حاول أبوهم رضي الله عنه الخروج للجهاد وكانوا يمنعونه بسبب عرجته، وفي غزوة بدر توسّل أبناؤه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنعه، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الاسلام يعفيه عن الجهاد كفريضة بسبب اعاقته.
وجاءت غزوة أحد، فذهب عمرو بن الجموح رضي الله عنه الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسّل اليه في الخروج الى الجهاد، قائلا له: يا رسول الله انّ أبنائي يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد، والله اني لأرجو أن أخطر بعرجتي الى الجنة، وأمام اصراره العظيم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك، وقال عليه الصلاة والسلام لأبناءه: ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة.
وفاته رضي الله عنه
واحتدم الجيشان وقاتل عمرو بن الجموح رضي الله عنه قتال الشجعان الأشداء يخطر وسط المعمعة الصاخبة، ومع كل خطرة يقطف سبفه رأسا من رؤوس الوثنية، ثم يتلفت حوله في الأفق الأعلى وكأنه يتعجّل قدوم الملاك الذي سيقبض روح ويصعد بها الى الجنة، هكذا الواثق بوعد الله تعالى تكون تطلعاته، لقد أراد عمرو بن الجموح رضي الله عنه أن يطأ الجنة بعرجته كي يعلم الأجيال القادمة كيف اختار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وكيف ربى جيلا من الرجال، وها هي وقد فاجأته ضربة سيف اومضت معلنة ساعة الزفاف، زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد وفردوس الرحمن.
وبعد ان تفقد المسلمين شهداؤهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اجعلوا عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فقد كانا في الدنيا متحابين متصافيين.
ثم قال عليه والصلاة والسلام: كأني أنظر اليه يمشي برجله هذه صحيحة الى الجنة.
ونفذت وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم ودفن الشهيدين في قبر واحد.
وبعد مضي 46 عاما على استشهادهما ودفنهم، نزل سيل شديد على أرض القبور بسبب عين من الماء كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قد أجراها هناك، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، وجاء جابر بن عبد الله لينقل رفات والده وزوج عمته ليجدهما في قبرهما وكأنهما نائمين لم تأكل الأرض منهما شيئ، وبسمة الرضا والغبطة التي كانت ترتسم على شفاههما يوم دعيا للقاء الله لم تفارق شفاههم، أتعجبون!!!! ومن ومن يعجب من أمر الله الا القوم الكافرون؟
فرضي الله عن ابن الجموح وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
20- عباد بن بشر رضي الله عنه
رجل أكرمه الله تعالى بنور يرافقه
لو اكتفينا بالتعريف عن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه كما قرأنا في العنوان لكفانا معرفة به.
بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من غزوة ذات الرقاع، نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابة للحراسة يتناوبنها فيما بينهم، وكان منهم عمار بن ياسر وعبّاد بن بشر رضي الله عنهما في نوبة واحدة، وما أن رأى عباد صاحبه عمار رضي الله عنهما مجهد، حتى طلب منه أن يعطي نفسه قسطا من الراحة وأن ينام من أول الليل على أنه حين يصحو يأخذ هو قسطا من الراحة وهكذ، وما أن اغمض عمار عينيه حتى أتت على بال عباد رضي الله عنه فكرة بأن يملأ وقته بالصلاة فينال ثواب الصلاة والمرابطة في سبيل الله تعالى، وما أن شرع في الصلاة وانتهى من قراءة الفاتحة في الركعة الأولى حتى جاءه سهم من عدو أصاب عضده، وآثر أن يتابع صلاته، ثم ما لبث العدو أن رماه في ظلام الليل بسهم ثان وهو في الركعة الثانية، فلم يأبه له ثم ركع وسجد، ولأنّ قواه قد خارت فقد مدّ عينه وهو ساجد الى صاحبه النائم الى جواره وظل يهزه حتى استيقظ ، وما أن قام من سجوده وتلا التشهد وأتم صلاته حتى طلب من عمار أن يقم للحراسة مكانه لاصابته بسهمين متتاليين.
التفت عمار الى عبّاد رضي الله عنهما وقال: سبحان الله! هلا أيقظتني أول ما رميت يا عبّاد! فأجابه رضي الله عنه: كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعه، ووالله لولا أن أضيع ثغرا أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها.
كان رضي الله عنه شديد الولاء والحب لله تبارك وتعالى ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله، ففي مواطن التضحية
والموت يكون رضي الله عنه في الطليعة، وفي مواطن الأخذ والفيئة يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدونه، وهو دائما عابدا تستغرقه العبادة، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تقول: ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم أحد في الفضل أبدا: سعد بن معاذ، وعباد بن بشر، وأسيد بن حضير.
فضائله رضي الله عنه:
لقد عرف المسلمون الأوائل عبّأد بأنه الرجل الذي معه نور من الله تبارك وتعالى وكان اذا مشى في طريق مظلم تنبعث منه اطياف نور وضوء تضيء له الطريق حتى بلوغه الهدف الذي يمشي اليه.
وفاته رضي الله عنه:
قبل معركة اليمامة بيوم واحد رأى في نومه رؤيا لم تلبث أن فسّرت مع شمس نهار تلك الليلة، وفوق أرض المعركة الهائلة والضارية التي خاضها المسلمون ضد معاقل المرتدين عن الاسلام بقيادة الطاغية مسيلمة الكذاب مدعي النبوة، ينضوي عبّاد رضي الله عنه واصحابه تحت لواء سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد أبلى عباد رضي الله عنه بلاء حسنا.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال لي عبّاد: يا أبا سعيد! رأيت الليلة كأن السماء قد فرجت لي ثم أطبقت عليّ، واني لأراها انشاء الله الشهادة.
وتتحقق رؤيا البطل رضي الله عنه ويسقط شهيدا في ساحة المعركة بعد أن قاتل أعداء الله تعالى، وقد وجدوا في وجهه علامات تشويه كثرة، ولولا علامة في جسده ما عرفه أحد رضي الله عنه.
فرضي الله عن عباد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
21- عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه
رأى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
شهد بالله تعالى رب، وبمجرد ما سمع ببعثته صلى الله عليه وسلم قام الى صنمه وكسّره، ولجأ الى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن اسلامه وولاءه لدين الله تعالى، نترك الحديث له رضي الله عنه يحدثنا عن ذلك فيقول:
عرجنا حجاجا في الجاهلية في جماعة من قومي، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة، حتى أضاء لي جبل يثرب وأشعر جهينة، وسمعت صوتا من النور، وهو يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضوء، وبعث خاتم الأنبياء، ثم أضاء لي اضاءة أخرى حتى نظرت الى قصور الحيرة وابيض المدائن، وسمعت صوتا في النور،وهو يقول: ظهر الاسلام، وكسّرت الأصنام، ووصلت الأرحام، فانتبهت فزع، فقلت لقومي: والله ليحدثنّ في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت.
وبعدما عدت الى بلادن، جاء الخبر بأنّ رجلا يقال له: احمد قد بعث، فخرجت حتى أتيته وأخبرته بما رأيت، فقال لي: يا عمرو بن مرّة، أنا النبي المرسل الى العباد كافة، أدعوهم الى الاسلام، وأمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وبحج البيت، وصيام شهر رمضان، شهر من اثني عشر شهر، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو يؤمنّك الله من هول جهنم.
فقلت: أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم وكان أبي سادنه، فقمت اليه فكسرته، ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال لي مرحبا بك يا عمرو، فقلت له: بابي انت وأمي يا رسول الله، ابعثني الى قومي لعلّ الله يمنّ بي عليهم كما منّ بك عليّ، فبعثني وقال لي: عليك بالرفق واللين، والقول السديد، ولا تكن فظ، ولا متكبرا ولا حسودا.
فأتيت قومي فقلت: يا بني رفاعة، بل يا معشر حهينة، اني رسول رسول الله اليكم أدعوكم الى الاسلام، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وبحج البيت، وصيام شهر رمضان- شهر من لثني عشر شهرا- فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، يا معشر جهينة: انّ الله جعلكم خيار من أنتم منه، وبغض اليكم في جاهلي جاهليتكم ما حببّل الى غيركم من العرب، فانهم كانوا يجمعون بين الأختين، والغزو في الشهر الحرام، ويخلف الرجل على امرأة أبيه فيتزوجه، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب، تناولا شرف الدنيا وكرامة الآخرة، فما جاءني ار رجل منهم فقال: يا عمرو بن مرّة، أمّر الله عيشك، أتأمرنا برفض آلهتن، وان تفرّق جمعن، وأن تخالف دين آباءنا الشيم العلى الى ما يدعونا اليه هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا حبا ولا كرامة.
فقلت له: الكاذب مني ومنك أمّر الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه انسانه (أعماه).
فقال عمرو بن بن مرّة رضي الله عنه: فو الله ما مات حتى سقط فوه( فمه) وعمي وخرف، وكان لا يجد طعم الطعام، فخرجت بمن أسلم من قومي حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فحيّاهم ورحّب بهم، وكتب لهم كتابا هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم- هذا كتاب من الله العزيز على لسان رسوله، بحق صادق وكتاب ناطق، مع عمرو بن مرة بن الجهينة بن يزيد، انّ لكم في بطون الأرض وسهوله، وتلال الأودية وظهوره، على أن ترعوا نباته، وتشربوا ماءه، على أن تؤدوا الخمس، وتصلوا الخمس، وفي الغنيمة والصريمة شاتان اذا اجتمعت، فان فرقنا فشاة شاة، ليس على أهل المثيرة( التي تثيلر الأرض) صدقة، ولا على الواردة لبقة، والله شهيد على ما بينن، ومن حضر من المسلمين.
فرضي عن عمرو بن مرة وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
22- عبادة بن الصامت رضي الله عنه
نقيب في حزب الله
هو رجل أنصاري خزرجي، وواحدا من الاثني عشر الأنصار الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وحيث كان الحج في العام التالي يشهد بيعة العقبة الثانية المكونة من سبعين رجلا وامراتان، رضي الله عنهم.
هو الذي نزل فيه قوله تبارك وتعالى يحييه على موقفه وولاءه لله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولصحبه الين آمنوا معه:
ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فانّ حزب الله هم الغالبون
وهذه الآية الكريمة اعلانا صريحا لميلاد حزب الله، وأعضاءه هم أولئك المؤمنين الذين حاملين راية رسول الله صلى الله عليه وسلم راية الهدى والحق.
ان هذا الحزب لن يقتصر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يمتد خيره للأجيال الوافدة يعدهم، والأزمة المقبلة حتى قيام الساعة، ذلك أنّ نزول آيات القرآن الكريم وما فيها من أمر وزجر ومدح وذم لا تقتصر على زمن بعينه، بل هي لكل الأزمان والأماكن الى قيام الساعة.
لقد أصبح عبادة رضي الله عنه نقيب عشيرته من الخزرج، ورائدا من رواد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين، وعندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن الأمراء والولاة، أقسم بالله ألا يكون أميرا على اثنين أبد، ولقد برّبقسمه رضي الله عنه، ولم يتسلم زمام أي امارة، بل كان يعلم الناس الفقه بعد أن البلاد علما وفقها ونورا مع صاحبيه سعد بن معاذ وأبو الدرداء رضي الله عنهم.
توليه القضاء في فلسطين رضي الله عنه
كان ذلك في عهد الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه، وكان أمير تلك البلاد ذلك اليوم معاوية رضي الله عنه ، وعندما رأى عبادة اسراف معاوية في حكمه. يرنو ببصره الى ما وراء الحدود في المدينة المنورة عاصمة الاسلام ودارالخلافة، فيرى في عمر الرجل الذي لم يخلق من طرازه سوى عمر، ثم يرتد ببصره الى حيث يقيم في فلسطين فيرى معاوية رجل يحب الدنيا ويعشق السلطان.
انّ عبادة رضي الله عنه من الرعيل الأول الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم وصقله بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته.
يقول عبادة رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم، لذا لم يخشى معاوية ولا سلطانه، وسيّف سيفه لكل أخطاؤه.
قبّح الله أرضا ليس فيها مثلك
وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية، الا أنه ضاق صدره ذرعا بمواقف عبادة، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل وجد معاوية في الرجل الذي يهد د هيبته وسلطانه، وعبادة رضي الله عنه من جانبه رأى أن هناك مسافة شاسعة تفصله عن معاوية فقال له: والله لا أساكنك أرضا واحدة أبد، وغادر عبادة رضي الله عنه فلسطين عائدا الى المدينة.
وعندما سأله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما عن سبب عودته قائلا له: ما جاء يا عبادة؟ فقصّ عليه رضي الله عنه ما كان بينه وبين معاوية، فطلب منه عمر أن يرجع مكانه قائلا: قبّح الله أرضا ليس فيها مثلك، ثم أرسل الى معاوية كتابا جاء فيه: أن لا أمرة لك على عبادة.
أجل انّ عبادة رضي الله عنه الذي تخرّج من جامعة العقائد الاسلامية وعميدها النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطيق أن يتأمّر عليه رجلا هو والدنيا صنوان كمعاوية، بل يفضل رضي الله عنه أن يكون أمير نفسه بنفسه ليأمن على نفسه من فتن الدنيا التي الثروة والسلطة والمال فتنته، وعندما يكرم أمير المؤمنين رجلا مثل هذا التكريم، فحتما يكون هذا الرجل عظيما بأخلاقه وبدينه وبمبادئه وعزة نفسه واستقامة ضميره وحياته ونزاهته.
أجل كل تلك الصفات الحميدة كانت في شخص ذلك الرجل الذي قال ذات يوما لأصحابه: والله لو وجدت رجلا مع امرأتي لقتلته بهذا السيف، فروى الصحابة ما قاله عبادة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة السلام: والله اني لأغير من علادة والله أغير منا.
وفاته رضي الله عنه
وفي العام الهجري ال 34 وعلى التراب الفلسطيني المقدّس، وفي مدينة الرملة تحديد، لبى عبادة بن الصامت رضي الله عنه نداء المولى عزوجل، تاركا في الحياة عبيره وشذاه.
فرضي الله عن عبادة وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
23 - عتبة بن غزوان رضي الله عنه
فاتح البصرة وباني جامعها العظيم
هذا الصحابي الجليل الفارع الطول، المشرق الوجه، المخبت القلب، أحد السبعة السابقين الى الاسلام، وهو واحد من الرماة الأفذاذ.
كان واحدا من الذين هاجروا الى الحبشة ولكن شوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يعود الى مكة ليبقى الى جانبه حتى أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة هاجر اليها.
أرسله عمر رضي الله عنه الى الأبنة ليفتحها وليطهر أرضها من الفرس، وقال له وهو يودعه: انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا اقصى بلاد العرب وأدنى بلاد العجم، وسر على بركة الله ويمنه، وادع الى الله من أجابك، ومن أبى فالجزية، والا فالسيف في غير هوادة، وكابد العدو واتق الله ربك.
وما أن دخل عتبة رضي الله عنه الأبنة حتى يلقى جيشا من أعتى الجيوش قوة، وصاح في جنده: الله أكبر، صدق وعده، وكأنه كان يقرأ غيبا قريب، فما هي الا جولات ميمونة حتى استسلمت الأبنة، وطهرت أرضها من جيوش الفرس، وتحرّر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعير، وصدق الله العظيم وعده بنصر مؤزر للمؤمنين الصادقين.
تمركز عتبة رضي الله عنه الأبنة مدينة البصرة وعمّرها وبنى مسجدها العظيم، وهناك وقف في الناس خطيبا فقال: والله لو رأيتموني مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سابع سبعة ومالنا من طعام الا ورق الشجر حتى قرّحت أشداقن، ولقد رزقت يوما بردة فشققتها نصفين وأعطيت نصفها سعيد بن نالك ولبست النصف الآخر.
لقد قال لأهل البصرة هذا الكلام بعدما استهوتهم المناعم والشهوات، لقد حاول الكثيرون أن يحولوه عن نهجهم ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة، ولا سيما تلك البلاد التي لم تتعوّد أن تلتقي أمراء من هذا الطراز المتقشف الزاهد، والشظف والقناعة، فكان رضي الله عنه يجيبهم: اني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيم، ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته قال لهم: غدا ترون الأمراء من بعدي، وكأنه يقول لهم: لن تدركون قيمتي بينكم حتى تجربون الأمراء من بعدي.
وجاء موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاج، ولما قضى حجه سافر الى المدينة والتقى عمر رضي الله عنهما وساله ان يعفيه من الامارة، الا أن عمر رضي الله عنه أجابه كما يجيب كل من يطلب مثل طلبه بقوله: تضعون أمانتكم فوق عنقي ثم تتركوني وحدي، والله لا أعفيكم أبدا.
ولم يكن أمام عتبة الا السمع والطاعة، وقبل أن يستقبل راحلته ليركبها رفع يده الى السماء ودعا ربه عزوجل ألا يردّه الى البصرة، ولا الى الأمارة أبد، ويستجيب الله تعالى لدعاء المضطر الصادق، حيث وبينما هو في طريقه الى العراق يدركه الموت وتفيض روحه الطاهرة الى بارئها راضية مرضية مطمئنة مغتبطة بما بذلت وأعطت، وبما انعم الله عليها من نعمة، وبما هيأ لها من ثواب.
فرضي الله عن عتبة وصلى الله وسلم على من رباه.
24- عروة بن مسعود رضي الله عنه
كصاحب يس
من قرأ سورة يس يكون قد مرّ على قصة حبيب النجار الذي قتله قومه حين دعاهم الى عبادة الله وحده والى اتباع رسولي الله عزوجل بقوله سبحانه وتعالى: وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبلعوا المرسلين
وعروة بن مسعود رضي الله عنه حدث معه نفس الشيء وقتله قومه لأنه قال الله ربي، ودعا الى عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك سمي كصاحب يس.
فعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما أنشأ الناس الحج سنة 9 للهجرة وهي حجة الوداع، قدم عروة بن مسعود رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلم، ولما استأذنه ليرجع الى أهله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اني اخاف ان يقتلوك، اجابه رضي الله عنه: لو وجدوني نائما ما أيقظوني، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع الى قومه مسلم، فجاء ثقيف يحيونه، فدعاهم الى الاسلام، فلم يقبلوا منه ذلك واتهموه، وقتلوه، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: مثل عروة مثل صاحب يس، دعا قومه الى الله فقتلوه.
فرضي الله عن عروة وصلى الله وسلم على من رباه.
25- عثمان بن مظعون أبا السائب رضي الله عنه
رجل حرّم الخمر قبل الاسلام.. ويكره أن ترى امرأته عورته
اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم في الدخول الى الاسلام، فاعلم أنك اذا وصلت الرقم 14 من القئمة فانك تصل الى عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهو من أصحاب الهجرات، هاجر الى الحبشة مرتين، ثم هاجر الى المدينة، وكان رضي الله عنه قد حرّم الخمر قبل الاسلام، وكان يقول: اني لا أشرب شيئا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على ان انكح كريمتي من لا أريد.
هو أول المهاجرين وفاة في المدينة وأول المسلمين دفنا في البقيع.
لقد كان راهبا عظيم، لا من رهبان الصوامع وانما من رهبان الحياة، فالحياة بكل جيوشها ومسئولياتها وفضائلها كانت صومعته.
حياؤه رضي الله عنه
أنّ الحياء شعبة من شعب الايمان، ومن سيماء الصالحين، كان رضي الله عنه، ولشدة حياءه فقد أتى ذات يوم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله! اني لا أحب أن ترى امرأتي عورتي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ولم؟ قال: استحيي من ذلك وأكرهه، فقال عليه الصلاة والسلام: انّ الله جعلها لك لباس، وجعلك لها لباس، ،اهلي يرون عورتي، ،انا أرى منهم. فقال متعجبا: أأنت تفعل ذلك يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال: فمن بعدك يا رسول الله؟ فلما أدبر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: انّ ابن مظعون لحيي ستير.
صاحب الثلاث هجرات رضي الله عنه
هجرتي الحبشة الأولى والثانية، وهجرة المدينة المنورة.
لقد كان رضي الله عنه أمير الفوج الأول من المهاجرين الى الحبشة مصطحبا معه ابنه السائب موليا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل وضراوة قريش وعذابه، وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا الهجرتين الأولى والثانية، لم يزده رضي الله عنه الا استمساكا في دين الله واعتصاما به، والحق يقال بأن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة ومجيدة في قضية الاسلام، فالذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوه واتبعوا النور الذي أنزل معه، كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاته، وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تستسيغ عبادة اصنام منحوتة من حجارة، أو معجونة من صلصال، وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا ومنظما له أحباره ورهبانه، ومهما تكن نظرتهم اليه فهو بعيد عن الوثنية التي تركوها في بلادهم، ولا بد أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم وقناعتهم بالمسيحية دين، ومع ذلك كله بقي المهاجرين على ولائهم العميق للاسلام ولنبيه صلى الله عليه وسلم، مترقبين في شوق وقلق ذلك اليوم الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة لعبدوا الله وحده لا شريك له، ولياخذوا مكانهم خلف رسول الله صلىالله عليه وسلم.
في الحبشة عاش المسلمون آمنين مطمئنين بعد أن منحهم النجاشي رضي الله عنه ملك الحبشة آنذاك الأمن والأمان والطمأنينة وفتح بلاده لهم ليعيشوا فيها كأي مواطن من مواطنيه، وعثمان بن مظعون رضي الله عنه كان واحدا من هؤلاء النجباء الذي لم ينسى في غربته مكايد ابن عمه أمية بن خلف، وما ألحقه به وبصحبه الكرام من أذى وشر.
وبينما الصحب الكرام في الحبشة اذ تفد اليهم الأخبار أن قريش قد أسلمت، هناك حمل المهاجرون أمتعتهم وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم الحنين، بين انهم ماكادوا يقتربون من مشارف مكة حتى يتبيّن لهم أن الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش كان ملفقا وليس صحيح، وعندما سمع مشركوا قريش بمقدم الصيد الذي طالما انتظروه، نصبوا شباكهم لاقتناصه، ولكن الجوار يومئذ كان تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والاجلال، فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيد قرشي أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم، ولا يضطرب منه مأمن.
وهكذا دخل عثمان رضي الله عنه في جوار الوليد بن المغيرة (والد خالد رضي الله عنه) آمنا مطمئن، ومضى يعبر دروبها ويشهد ندوات قريش، لا يسأم خسفا ولا ضيم، الا أنّ المقام بجوار الوليد لم يطل به كثير، فابن مظعون رضي الله عنه الذي صقله القرآن ورباه النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل أن يكون بمأمن بجوار سادة قريش وكفارها وأصحابه ينالون الأذى والعذاب على أيديهم، يتلفت حواليه فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين الذين لم يجدوا لهم جوارا أومجير، والأذى ينوشهم من كل جانب، والبغي يطاردهم في كل سبيل، وهوآمن من كل ما يصيبهم، فتثور روحه الحرّة، وفي الليل يجيش وجدانه، فيتفوق بنفسه على نفسه، ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد، وينضوي تحت لواء أصحابه الذين يتحملون الأذى في سبيل الله، لينال شرف الجهاد مع اخوانه المسلمين، بانتظار بشائر العالم الذي سيتفجّر غدا ايمانا وتوحيدا ونورا.
لما رأى ابن مظعون رضي الله عنه من أصحابه الكرام البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد، قال: والله ان غدّوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، واصحابي وأهل ديني يلقون ما يلقون من العذاب والأذى مالا يصيبني! فمشى الى الوليد وقال له: يا أبا عبد شمس! اني أريد أن أرد لك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ لعل أحدا من قومي آذاك؟ فقال رضي الله عنه: لا.. ولكني أرضى بجوار الله ولا أريد أن استجير بغيره، فانطلق الى المسجد واردد لي جواري علانية.
لقد كان ابن مظعون رضي الله عنه قد فقد عينه في سبيل اعلاء كلمة الله لتشهد الحياة انسانا شامخا يعطر الوجود كله بعطره الزكي، بموقفه الفذ مع أهل الشرك والطغيان، وبكلماته الرائعة الخالدة : والله انّ عيني الصحيحة لفقيرة الى ما أصاب أختها في الله.
ويهاجر رضي الله عنه الى المدينة حتى لا يؤرقه لا أبو جهل ولا أبو لهب ولا أمية ولا عتبة ولا أحد من هذه الغيلان التي طالما أرقت ليله وآست نهاره، يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تتأهب عسرته ومشقته ورهبته.
وفي دار الهجرة يتكشف معدن وجوهر هذا الانسان وتسيتقظ حقيقته العظيمة والفريدة، فاذا هو العابد الزاهد المتبتل الأواب، الذي لم يأوي لصومعته ليعتزل فيها الحياة عن الناس، بل ليملأ الحياة عملا وجهادا في سبيل الله.
أجل راهب الليل وفارس النهار، بل راهب الليل والنهار وفارسهما مع، فان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من حياتهم يحملون روح الزهد والتبتل، فابن مظعون رضي الله عنه كان له عالمه الخاص في ذلك، اذ حوّل حياته كلها من ليل ونهار الى صلاة دائمة مضيئة وسكينة طويلة عذبة.
وما أن ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة، فمضى الى أخشن الثياب ليلبسه، والى أجش الطعام ليأكله.
وذات يوم رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد وثيابه مرقعة رقّ له حاله صلى الله عليه وسلم ودمعت عيون أصحابه رضي الله عنهم، ثم قال لهم:
كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع قصعة وترفع أخرى، وسترت بيوتكم كما تستر الكعب؟ ينبئهم النبي صلى الله عليه وسلم بكينونة حالهم من كنوز كسرى وقيصر.
فقالوا رضي الله عنهم: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ وددنا لو يكون ذلك، فنصيب من الرخاء والعيش.
أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: انّ ذلك لكائن، وأنتم اليوم خير منكم يومئذ.
ولقد كان ما أنبأهم به نبي لله صلى الله عليه وسلم، في العهد التي تلا عهد علي كرّم الله وجهه، العهد الأموي وما يليه الى يومنا هذا.
وما أن سمع رضي الله عنه فم النبي صلى الله عليه وسلم الشريف ينطق بعبارة وأنتم اليوم خير منكم يومئذ حتى ازداد ابن مظعون رضي الله عنه اقبالا على شظف الحياة، خوفا من نعيم الدنيا الذي قد يطغيه ويحوله عن نهجه في العبادة والتبتل، حتى أن الرفث الى زوجته ابتعد عنه لولا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاتبه بقوله: وان لأهلك عليك حقا لتابع انقطاعه عن النساء.
وفاته رضي الله عنه:
في السنة السادسة للهجرة المباركة لبىّ رضي الله عنه نداء مولاه تبارك وتعالى، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وسالت دموعه الشريفة على خديه وعليه الصلاة والسلام يقول: الحياء خير كله، الحياء لا يأتي الا بخير.
وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الى جواره وقد أكبّ جبينه وقبّله بقبلة عطرة، وعطرّه بدموعه الشريفة التي هطلت من عينيه الودودتين صلى الله عليه وسلم، فضمخّت وجه عثمان رضي الله عنه الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا السائب خرجت من الدنيا وما أصبت منها ولا أصابت منك.
فرضي الله عن ابن مظعون وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
26- عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه
أول من سنّ تقبيل المصحف الشريف
هو ابن عدو الاسلام أبو جهل عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم بعد فتح مكة بقليل، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم فرحا ياسلامه: لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا الا أعطيتكه، فقال رضي الله عنه: فاني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكه، أو كلاما قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه، أو مقام لقيتك فيه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له كل عداوة عادنيه، وكل مسير سار فيه الى موضع يريد بذلك اطفاء نورك، واغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو أنفي.
فقال رضي الله عنه: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة أفقتها في صد عن سبيل الله الا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله الا أبليت ضعفه في سبيل الله.
اسلامه رضي الله عنه
بعدما فتح المسلمون مكة وهرب المشركون منها نتيجة هدر دمهم، كان عكرمة رضي الله عنه أحد هؤلاء الفارين الى اليمن، وقد لحقت به زوجته أم حكيم رضي الله عنها حتى أدركته وهو يركب السفينة المتجهة الى اليمن، وأخبرته بالأمان الذي حصلت له عليه من النبي صلى الله عليه وسلم، فتعود به الى مكة ويعلن اسلامه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
أول من سنّ تقبيل المصحف الشريف
كان عكرمة رضي الله عنه كأبيه سيدا من سادات قريش في الجاهلية، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، سلمه أبو بكر رضي الله عنه امارة الجند على عمان لمحاربة المرتدين فظفر بهم، ويقال انه لم يرتكب أي ذنب بعد اسلامه، وكان يقبّل المصحف الشريف ويبكي قائلا: كلام ربي...كلام ربي! وعلى هذا أجاز الامام أحمد بن حنبل رحمه الله جواز تقبيل المصحف الشريف.
استشهاده رضي الله عنه
وكما كان اسلامه عجب، ففي استشهاده البطولة أيض، فعن حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه قال: أنّ الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعياش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم، كانوا قد جرحوا في معركة اليرموك جراحا لا يقومون معه، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر اليه عكرمة فدفع الماء اليه، فلما أخذه عكرمة نظر اليه عياش فدفعه اليه، فما وصل الماء الى عياش حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ومات، وما وصل الى أحد منهم حتى ماتولا جميعا رضي الله عنهم.
لقد سطروا بهذا المشهد أروع صور البطولة والايثار، وأكرمهم الله بجنات عرضها السموات والأرض، فهنيئا لهم هذا الاستشهاد العظيم.
من أراد ان يقرأ المزيد عنه فليذهب الى بند الصحابيات الجليلات رضي الله عنهنّ، وليختار من بينهنّ الصحابية الجليلة أم حكيم رضي الله عنها.
رضي الله عن الشهداء الثلاثة وصلى الله وسلم على من رباهم.
27- عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه
من شيطان قريش الى حامل رسالة التبشير بالاسلام
اذا تحدثنا عن عمير بن وهب يجب أن نذكر صفوان بن أمية رضي الله عنهما.
كان رضي الله عنه في غزوة بدر واحدا من قادة قريش الذي حملوا سيوفهم ليجهزوا على الاسلام، ولأنه حديد البصر ومحكم التقدير فقد انتدبه قومه ليستطلع لهم عدد المسلمين الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم للقاء المشركين، وانطلق يصول بفرسه حول معسكر المسلمين، وبعد عودته قال لقومه: انهم لا يزيدون عن 300 رجل، وكان حدسه صحيح، ثم سألوه: هل وراءهم مدد؟ أجاب: لم أجد وراءهم شيء، ولكني رأيت المطايا تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فان كان لهم ذلك، فما خير العيش بعد ذلك، فانظروا رأيكم.
تأثر بقوله نفر من زعماء قريش وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون الى مكة لولا أبو جهل الذي أفسد عليهم رأيهم، وأضرم نار الحقد في النفوس، وأوقد نار الحرب التي كان هو أول قتلاها.
شيطان قريش
كان أهل مكة يلقبونه شيطان قريش، ورغم البلاء الذي أبلاه عمير في بدر الا أنّ المسلمين تمكنوا من أسر ابنه، ومن ثم عاد مع قومه عادوا مهزومين.
اسلامه رضي الله عنه
انّ لاسلام هذا الصحابي الجليل قصة، وما أروعها من قصة، فذات يوم كان يجلس مع صفوان بن أمية الذي كان يمضغ أحقاده في مرارة قاتلة على مصرع أباه أمية بن خلف في بدر، جلس الاثنان يجترحان أحقادهم، فقال صفوان: والله ما في العيش بعدهم من خير! فقال عمير: صدقت! والله لولا دين عليّ لا أملك قضاؤه، ولولا عيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد(صلى الله عليه وسلم) أقتله، فانّ اي عنده علة أعتل بها عليه، فأقول: قدمت من أجل ابني الأسير.
فاغتنمها صفوان فرصة وقال له: عليّ دينك أقضيه، وعيالك هم عيالي، لهم ما لعيالي، وعليهم ما على عيالي.
اطمئن عمير لصفوان وقال: اذن اكتم شأني وشأنك.
وبينما عمر رضي الله عنه يتحدث مع نفر من المسلمين عن يوم بدر، اذ لمح عمير وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا سيفه فقال: هذا الكذاب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء الا لشر، فهو الذي حرّض بيننا وبين القوم يوم بدر، ثم دخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله! هذا عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ، وبعدما أدخله قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر، ثم دار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحوار التالي:
فما جاء بك يا عمير؟
جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.
فما بال السيف في عنقك؟
قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شبئا؟
اصدقني يا عمير ما الذي جئت له؟
ما جئت الا لذلك.
وعندما لم يقل الحقيقة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا علي دين وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمد، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك.
وأمام هذه الحقيقة يصيح عمير بن وهب رضي الله عنه يقول أشهد أن لا اله الا الله وأشهد انك رسول الله، هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان، فو الله ما أنبأك به الا الله، الحمد لله الذي هداني الى الاسلام.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: فقهوا أخاكم في الدين، وأقرئوه القرآن، واطلقوا أسيره.
وهكذا انقلب عمير بن وهب رضي الله عنه من شيطان قريش الى حواري من حواري الاسلام، يقول عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لخنزير كان أحبّ اليّ من عمير حين طلع علين، ولهو اليوم أحبّ اليّ من بعض ولدي.
أيّ سماحة وأيّ صفاء وأية ثقة بالنفس يحملها هذا الدين العظيم، رجل كان يكيد للاسلام ويحاربه من قبل هجرة النبي صلىالله عليه وسلم وصحبه، وبعد عامان من الهجرة يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة قاصدا قتله، فيشرح صدره للاسلام وبلحظة يمحو الله تعالى عنه كل سيئاته بشهادة الحق ليصبح حواري من حواري الاسلام، وفي لحظة واحدة تحول من خنزير الى صحابي جليل بقدرة الله تبارك وتعالى، وينسى المسلمون كل عداواته السابقة، ويفتحون له قلوبهم، ويأخذونه بالأحضان، ليصبح صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
نعم انه الاسلام الذي يجب ما قبله، فيا لروعة هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده خاتما لرسالاته السماوية بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ان صفوان بن أمية مذ غادر عمير مكة الى المدينة وهو يمشي في شوارع مكة مختالا فخور، يغشى مجالسها ومنتدياتها فرحا محبور، وكلما سأله قومه عن سبب فرحته ونشوته، يفرك كفيه في غرور قائلا لهم: أبشروا بقوعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر.
ولما طالت غيبة عمير بن وهب، خرج صفوان الى مشارف مكة يستطلع خبر عمير من الركبان القادمين من المدينة، فسأل احدهم: ألم يحدث في المدينة أمرا؟ فأجابه: بلى- لقد حدث أمر عظيم، فتهللت أسارير صفوان بهجة وفرحا وقال للرجل في عجلة المشتاق: ماذا حدث يا أخا العرب؟ فقال: لقد أسلم عمير بن وهب يا صفوان، لم يحتمل صفوان الخبر الذي وقع على رأسه كالصاعقة مما جعل الأرض تميد به وتدور من جراء هذا النبأ الصاعق الذي أنساه يوم بدر حقا كما قال لقومه.
وعاد المسافر الى داره قادما من المدينة بعدما تفقه في الدين وتعلم القرآن، عاد عمير رضي الله عنه شاهرا سيفه متحفزا للقتال، وأول من لقيه صفوان الذي كاد لياكله بين أسنانه لولا سيفه المتحفز، فاكتفى بأن القى على سمعه بعض شتائمه، ثم مضى الى سبيله.
لقد خرج عمير رضي الله عنه من مكة شيطانا وعاد اليها حواريا مسلم، دخلها في روعة وصورة عمر بن الخطاب يوم أسلم رضي الله عنه، واتخذ شعار بن الخطاب حين صاح ذلك اليوم: والله لا أدع مكانا جلست فيه بالكفر الا جلست فيه بالايمان، نعم انه شعار كل من يسلك طريق الحق، ومن لم يفعل ذلك لا يكون ايمانه كامل، ذلك ان الاخلاص في العمل هو معيار الايمان الصادق، وهو جوهر الايمان وقضيته الأولى.
وراح عمير رضي الله عنه يعوض كل ما فاته، ويسابق الزمن ويبشر بالاسلام ليلا ونهار، جهارا وعلانية، بقلب آمن عن اقتناع كامل، بقلب هداه الله الى هداه ونوّر له قلبه بنور الايمان، وبات لسانه ينطق بكلمات تدعو الى العدل والاحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي بضعة أسابيع كان قد أنار الله تعالى به قلوبا غلفا كثيرة خرج بهم الى المدينة في موكب مهيب مشرق من المؤمنين يملئون رحابها تهليلا وتكبيرا.
فرضي الله عن عمير بن وهب وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
28- عمرو بن العاص رضي الله عنه
محررمصر من ظلم الرومان وداهية الحرب والسلام
وأول من أدخل الاسلام الى مصر
كان عمرو بن العاص أحد ثلاثة أتعبوا النبي صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم لدعوته وايذاءهم لأصحابه رضي الله عنهم، وراح النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم ويبتهل الى الله تبارك وتعالى أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر وينزل عقابه بهم، ولأنّ الله تبارك وتعالى بيده وحده علم الغيب ويعلم أنهم سيتبعون النور الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أنزل على قلبه قوله تعالى: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فانهم ظالمون ويستوعب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بأن يترك أمرهم اليه وحده، فاما أن يظلوا على ظلمهم فيحل بهم عذابه، واما أن يتوب عليهم فيتوبوا وتدركهم رحمته سبحانه وتعالى.
هكذا اختار الله تبارك وتعالى طريق الهداية لعمرو بن العاص رضي الله عنه وأخرجه من الظلمات الى النور، وتحوّل بقدرة قادر عزيز حكيم الى فارس من فوارس الاسلام وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى وهو راض عنه.
عمرو بن العاص لم يفتح مصر وانما فتح الطريق أمام مصر ، لقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة ضد الرومان، ليبقى القتال محصورا بينه وبين الرومان الذين يحتلون البلاد وينهبون خيرات أهلها.
من اجل ذلك فقد تحّث الى زعماء النصارى وأساقفتهم يدعوهم الى الاسلام، ومن يأبى فعليه أن يؤدي الجزية-الضريبة- لقاء حمايتهم في بلاد الاسلام، وبعد أن أنهى عمرو بن العاص كلمه اليهم صاح بعض الأساقفة والرهبان قائلين: انّ الرجم التي أصواكم بها نبيكم لا يوصي بها الا الأنبياء.
اسلامه رضي الله عنه
من عجائب اسلامه رضي الله عنه أنه اسلم على يد النجاشي بالحبشة، بالحوار القصير التالي بينهما يبدؤه النجاشي ملك الحبشة رضي الله عنه:
كيف لم تؤمن به وتتبعه وهو رسول الله حقا
أهو كذلك؟
نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فانه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه.
وركب عمرو بن العاص رضي الله عنه عباب البحر من فوره عائدا الى بلاده ميمما وجهه شطر المدينة المنورة ليسلم لله رب العالمين، وفي الطريق المفضية الى المدينة التقى خالد بن الوليد رضي الله عنه قادما من مكة ساعيا هو الآخر الى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الاسلام، ولم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه: لقد رمتكم مكة بفلذات أكبادها.
وتقدّم عمرو بن العاص رضي الله عنه نحو النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذني، فأجابه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم:
يا عمرو بايع، فانّ الاسلام يجب ما كان قبله.
فتح مصر
لقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يبعد أهل مصر وأقباطها عن القتال الذي نشب بينه وبين الرومان، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم:
ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خير، فانّ لهم ذمة ورحما
ان أقباط مصر يدركون جيدا أنّ بينهم وبين نبينا صلى الله عليه وسلم رحم ونسب، وهذا ما أكده الأقباط لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين دعاهم الى الاسلام، فصاحوا الأساقفة والرهبان قائلين له: انّ الرحم التي أوصاكم بها نبيكم لهي قرابة بعيدة لا يصل مثلها الا الأنبياء، وكانت هذه الصيحة بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو بن العاص والأقباط.
ولوعه رضي الله عنه بالامارة
كان رضي الله عنه ولوعا بالامارة، وكان شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث تحكي الى أنه خلق له، حتى أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين رآه ذات يوم مقبلا عليه ابتسم لمشيته وقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض الا أميرا.
نعم كان رضي الله عنه أميرا ذكيا وداهية من دهاة العرب، وبقي واليا على فلسطين والأردن ثم مصر طيلة فترة حكم الفاروق رضي الله عنه.
وكان كلما اعترض عمر رضي الله عنه برجل عاجز الحيلة، صك كفيه عجبا وقال: سبحان الله! انّ خالق هذا وخالق عمرو بن العاص الها واحدا.
وفاته رضي الله عنه
وفي السنة ال 43 للهجرة لبلى نداء المولى عزوجل، وكان لا يزال واليا على مصر، وفي لحظات راح يستعرض رحلة حياته كله، ثم قال: كنت أول أمري كافر، وكنت أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو مت يمئذ لوجبت لي النار، وعندما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن في الناس أحب اليّ ولا أجلّ في عيني منه، ولو سئلت أن أصفه ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلال، ولو مت يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم بليت بعد ذلك بالسلطان وبأشياء لا أدري أهي لي أم عليّ! ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة وأمل ورجاء يناجي ربه الكريم ، الرحمن الرحيم العظيم قائلا: اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين، وظل لسانه يردد بهذه الكلمات العطرات حتى صعدت روحه الى بارئه، وكان آخر كلمته لا اله الا الله ليتحقق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا اله الا الله دخل الجنة.
وتحت ثرى مصر التي مهّد لها عمرو بن العاص طريق الاسلام وعبدّه لأهلها ثوي رفاته رضي الله عنه، وفوق أرضها الصلبة لا يزال مجلسه حيث كان يعلم ويقضي ويحكم، قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو بن العاص، أول مسجد في مصر يذكر فيه اسم الله تعالى الواحد القهار، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
فرضي الله عن ابن العاص وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
جمع ودراسة : سمير السعدي

قلب., 11 - 1 - 2012 11:11 PM

الجزء الرابع والأخير من حرف السين الى حرف الهاء
1- سعد بن الربيع رضي الله عنه
رجل تبؤأ مقعده من الجنة
هو أحد الرجال الذين تبؤوا مقاعد صدق في الجنة انشاء الله، شهد بدرا واستشهد في أحد، وهو حفيد امرؤ القيس، وهو أحد النقباء يوم بيعة العقبة الكبرى.
انه الصحابي الجليل الأنصاري الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وقد عرض يومها على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما نصف ماله، واحدى زوجتيه، فيطلقها له ومن ثم يتزوجها.
أي سعد هذا الذي نتحدث عنه؟ ومن أي طراز هو؟ وعندما نعلم أنه تخرج من جامعة المصطفى صلى الله عليه وسلم يبطل عجبنا بهذا الانسان الذي لن يكرره التاريخ أبدا ولا حتى أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
استشهاده رضي الله عنه
يوم بدر أبلى رضي الله عنه بلاء حسن، ويوم أحد طعن رضي الله عنه سبعين طعنة بين طعنة رمح وسيف، وبعد انتهاء المعركة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: هل من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع! فأجابه رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فخرج يطوف في القتلى حتى وجده جريحا فقال له: يا سعد! انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ أجابه رضي الله عنه: فاني في الأموات، وأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: انّ سعد يقول لك: جزاك الله عني خير ما جزى به نبيا عن أمته، وأبلغ قومك مني السلام وقل لهم: انّ سعد يقول لكم: انه لا عذر لكم عند الله ان خلص الى نبيكم ومنكم عين تطرف.
فرضي الله عن سعد بن الربيع وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.
2- سعد بن أبي وقاصرضي الله عنه
أول من رمى بسهم في سبيل الله- مسجاب الدعوة
يجتمع رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بالنسب في ابن زهرة بن كلاب بن مرة، وبنو زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه رضي الله عنه: هذا خالي فليرني أمرء خاله.
ويكنى رضي الله عنه بأبي اسحاق.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم رضي الله عنه وهو ابن 17 سنة وكان من السابقين الى الاسلام، حتى أنه قال رضي الله عنه: لرأيتني وأنا ثلث الاسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: يدخل علينا رجلا من أهل الجنة وكان الداخل سعد رضي الله عنه.
قرآنا ينزل فيه رضي الله عنه
أمه هي حمنة بنت سفيان وكانت ترغمه على ترك دين الاسلام، وحلفت ان لا تكلمه أبدا ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بالاسلام، وامتنعت عن الطعام والشراب حتى اذا ظهر عليها الجهد قال لها سعد: يا أمة! تعلمين والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، ان شئت فكلي أو لا تأكلي، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: ووصينا الانسان بوالديه حسن، وان جاهداك على أن لا تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا
أول من رمى بسهم في سبيل الله
كان رضي الله عنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكانت أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين، وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة، بعث ناسا من المسلمين الى رابغ ليلقوا عيرا لقريش فتراموا بالسهام، ولم يكن بينهم مسايفة ، وكان سعد رضي الله عنه أول من رمى وأنشد يقول:
ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رام في عدو بسهم يا رسول الله قبلي
مستجاب الدعوة رضي الله عنه
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له فقال: اللهم استجب لسعد اذا دعاك.
مناقبه رضي الله عنه
فتح العراق وكان على رأس الجيوش يوم القادسية ونصر الله دينه ونزل سعد رضي الله عنه المدائن، ثم كان أميرا على جلولا فكان النصر على يديه، واستأصل الله تعالى الأكاسرة.
موقفه من الفتنة
كان رضي الله عنه قد اعتزل الفتنة التي وقعت بين معاوية وعلي رضي الله عنهم، فلا حضر الجمل ولا صفين ولا التحكيم، وكان ابنه عمر وهو في ابله فقال له: أنزلت في ابلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب رضي الله عنه في صدره وقال: اسكت! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
وفاته رضي الله عنه
توفي رضي الله عنه سنة 50 للهجرة وهو ابن 82 سنة.
فرضي الله تعالى عن سعد وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
3- سلمان الفارسي رضي الله عنه
صاحب فكرة حفر الخندق حول المدينة المنورة
هذا الصحابي الجليل من بلاد فارس، وهو صاحب فكرة حفر الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة المنورة لمنع المشركين ( قبيلة قريش، قبيلة بنو قريظة، وقبيلة غطفان) من اقتحام المدينة المنورة، لأجل ذلك أطلق عليهم الأحزاب وأنزل الله تعالى سورة كاملة تحكي عن غزوة الخندق أطلق عليها اسم سورة الأحزاب.
هذا التحالف من المشركين احتشد ليهاجم المسلمين في المدينة، وفوجىء النبي صلى الله عليه وسلم بجيش عرمرم لجب يقترب من المدينة في عدة وعتاد مدمدم، وقد صوّر الله عزوجل لنا صعوبة الموقف الذي يقفه المسلمون بقوله تبارك وتعالى: اذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم، واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا
24 ألف مقاتل من قوى الكفر والطغيان تحت قيادة أبو سفيان يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ولو أنّ هذا الجيش لقريش وحدها لهان الأمر على المسلمين ولواجهوا الموقف بقوة وحزم كما سبق وأن واجهوا أشرس منه في معركتي بدر وأحد، ولكن تحالف قريش مع قلبيلتين اخريان ولهما ثقلهما فهنا تكمن صعوبة الموقف، انها محاولة أخيرة وحاسمة تقوم بها جميع أعداء الاسلام أفرادا وجماعات وقبائل ومصالح، ورأى المسلمون انفسهم في موقف عصيب، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليشاورهم في الأمر، وجميعهم رضي الله عنهم أجمعوا على الدفاع والقتال، ولكن كيف الدفاع أمام هذه الأحزاب كلها؟
هناك تقدّم رجلا طويل الساقين، غزير الشعر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل له حبا عظيما واحتراما كبير، انه سلمان الفارسي رضي الله عنه، صعد هضبة عالية وألقى نظرة سريعة فاحصة على أطراف المدينة فوجدها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها الا فجوة واسعة يستطيع الجيش أن يقتحم منها المدينة بيسر وسهولة، وكان سلمان رضي الله عنه قد اكتسب الخبرة الكبيرة في وسائل الحروب وخدع القتال من بلاد فارس، فتقدّم من النبي صلى الله عليه وسلم بمشورته التي لم تعهدها العرب من قبل في حروبها كله، وكانت تلك المشورة الصائبة بحفر خندق يغطي المنطقة المكشوفة حول المدينة المنورة.
حفر الخندق
وبدأ المسلمون في حفر الخندق، وعندما اعترضتهم صخرة عاتية قاسية لم تتكسر استعانوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم ببيديه الشريفتين المعول بعد أن طلب من صحابته الابتعاد قليلا عن مرمى الشظاي، ثم سمى بالله ورفع كلتا يديه الشريفتين وهوى بهما عليها ليفلقها فلقتين يخرج من ثنايا صدعها وهجا عاليا مضيئا يضيء ما بين جوانب المدينة، وهتف النبي صلى الله عليه وسلم مكبرا: الله أكبر، أعطيت مفاتيح كسرى، وانّ أمتي ظاهرة عليه، ثم رفع صلى الله عليه وسلم المعول ثانية وهوى بضربته الثانية فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة المتصدّعة بوهج مضيء مرتفع وهتف مكبرا: الله أكبر، اعطيت مفاتيح الروم ولقد أضاء لي منها قصورها الحمراء وانّ امتي ظاهرة عليه، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلاحها واستسلامها وأضاء برقها الشديد الباهر وهلل صلى الله عليه وسلم وهلل المسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء، وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية لا اله الا الله يوم، وصاح المسلمون في ايمان عظيم: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ويحفر الخندق، وتظل قوات العدو شهرا وهي جاثمة في خيامها عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله عزوجل على الأحزاب الثلاثة المغيرة ريحا صرصرا عاتية اقتلعت خيامهم وبددت شمسهم، وعند هذا المدد الالهي العظيم نادى أبو سفيان في جنوده آمرهم بالرحيل فورا.
لقد عاش رضي الله عنه حتى رأى البشرى المحمدية حقيقة يعيشه وواقعا يحياه، فرأى مدائن الفرس والروم، ورأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق.
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان أنوار الهدى والخير.
وها هو رضي الله عنه يجاس تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أمام داره بالمدائن يحدّث جلساؤه عن مغامراته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية ومن ثمّ الى الاسلام، وكيف غادر ثراء أبيه الباذخ ورمى نفسه في أحضان الفاقة بحثا عن خلاص عقله وروحه، وكيف التقى النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف آمن به.
تعالوا نقترب من مجلسه رضي الله عنه لنقف منه عن قصة حياته فيقول:
كنت رجلا من أصفهان من قرية يقال لها جي، وكنت من أحب العباد الى أبي، وقد اجتهدت في المجوسية نعبد النار، وكان لأبي ضيعة فأرسلني اليها يوما وهناك مررت بكنيسة فسمعتهم يصلون، فدخلت أنظراليهم ما يصنعون فأعجبني ما رأيت من صلاتهم وقلت: هذا خير من دينن، وسألت النصارى عن أمرهم وصلاتهم وأصل دينهم، فقالوا لي: في الشام، وعندما علم أبي بنيتي جعل في رجلي حديدا وحبسني، حطمت الحديد وخرجت الى الشام ومنها الى الموصل، والتقيت هناك برجل أخبرني أن هناك نبي سيبعث بدين ابراهيم عليه السلام حنيفا يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل، ومرّ بي ركب فسألتهم عن بلادهم فقالوا من جزيرة العرب، فحملوني الى أرضهم وهناك ظلموني وباعوني الى رجل من يهود، وبصرت بنخل كثير فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي والتي ستكون مهجر النبي المنتظر ولكنها لم تكن، ثم ابتاعني منه رجل من يهود بني قريظة وخرج بي الى المدينة، فو الله ما أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي، وبقيت أعمل له في نخلة في بني قريظة، وذات يوم وأنا جالس على رأس نخلة وصاحب لي تحت نخلة واذ قدم رجل من يهود بني قريظة من بني عمه فقال يخاطبه: قاتل الله نبي قيلة، انهم ليتقاصفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعم أنه نبي، فو الله ما أن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة بي حتى كدت أن أسقط فوق صاحبي، ثم نزلت سريعا اقول ماذا يقول؟ ما الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة قوية ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك؟ فاقبلت على عملي، ولما أمسيت جمعت ماكان عندي ثم خرجت وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، فدخلت عليه وقلت له: انكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيت انكم أحق الناس به فجئتكم به، ثم وضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا باسم الله، وامسك هو ولم يبسط اليه يدا فقلت في نفسي، هذه والله واحدة لا يأكل من الصدقة.
ثم رجعت وعدت اليه في الغداة أحمل طعاما وقدمته له كهدية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا باسم الله وأكل معهم، فقلت في نفسي: هذه والله الثانية انه يأكل من الهدية.
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله حتى رايت بين كتفيه خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي، ثم أسلمت، وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد، وذات يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم كاتب سيدك حتى يعتقك، واتمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كي يعينوني، وحرر الله رقبتي وعشت حرا مسلم، وشهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الخندق والمشاهد التي تلتها.
أي تفوق عظيم أحرزته روح سلمان الطيبة رضي الله عنه؟ وأي المصاعب التي تغلب عليها حتى أوصلته الى مبتغاه؟ ماذا يتوقع أن يكون اسلام رجل كهذا ترك الثراء والجاه والعز والرفاهية وملاعق الذهب وتاه في متاهات الحياة يقطع الفيافي والبلدان والقرى والمدن باحثا عن المجهول، واذ يرى هذا المجهول حقيقة ويصل اليها.
سلمان منا آل البيت
أقام سلمان أياما مع أبو الدرداء رضي الله عنهما يصوم النهار ويقوم الليل، فأ خذ عنه هذه الفضيلة الفضلى، وكان علي كرم الله وجهه يلقبه بلقمان الحكيم لفصاحة لسانه وفلسفته وحكمته، وقد سئل عنه رضي الله عنهما بعد موته فقال: ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم.
ان سلمان رضي الله عنه قد أوتي العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف من العلم والحكمة والمعرفة.
ويوم الخندق وقف الأنصار رضي الله عنهم يقولون: سلمان من، ووقف المهاجرون رضي الله عنهم يقولون: سلمان من، وناداهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سلمان منا آل البيت.
زهده رضي الله عنه
لقد كان رضي الله عنه يضفر الخوص ويجدله ويضع منه أوعية ومكاييل ويبيعها ليسد بها جوع بطنه، رغم الأموال والثروات والمناصب التي كانت من حوله تتدفق، انظروا اليه بثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبتيه، وكان دائما يقول: أشتري خوصا بدرهم فأعمله ثم أبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهما منه، وانفق درهما على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر نهاني عن ذلك ما انتهيت.
انّ بعض الناس يظن أنّ تقشف وزهد الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين كان نابعا من قلة ذات اليد، فها نحن أمام رجل من فارس بلاد الترف والجاه والبذخ والمدنية، رفض كل ذلك العز والأبهة والثروة والنعيم وأصرّ أن يكتفي بدرهم واحد يصرفه على نفسه وعياله ومن عمل يده، وكان يكره الامارة وكان دائما ينصح أصحابه ويقول: ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكون أميرا على اثنين فافعل.
ما بالك يا سلمان تهاب من الأمارة وكثير منا يلهث اليها لهاثا؟ ما بالك تهرب من المنصب ونحن نتخاصم مع أخواننا لأجله؟ ما بالك تزهد كل هذا الزهد وأموال بيت المال بين يديك؟ ألست أنت ابن النعمة والحضارة والمدنية؟ ألست أنت ابن الثراء والترف والبذخ؟
هيا بنا نستمع الى اجاباته على تساؤلاتنا تلك ، انه رضي الله عنه على فراش الموت، وروحه الطاهرة تتهيأ للقاء مولاها راضية مرضية ، علّ هذا المشهد يحرك فينا نبض كرامة وبقية باقية من سؤدد لا زال فينا:
دخل عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما يعوده، وما أن رآه سلمان رضي الله عنه حتى فاضت عيناه، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله والنبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عنك راض، فقال: والله ما أبكي فزعا من الموت ولا حرصا على الدني، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وها أنذا حولي هذه الأساود ( الأشياء الكثيرة) فنظر سعد حواليه فلم يجد سوى جفنة ( صحن يأكل فيه) ومطهرة (اناء يتوضا ويشرب منه) ومع هذا يحسب نفسه مترفا.
ألم اقل لكم أن سلمان أشبه الناس بعمر الفاروق رضي الله عنهما؟
ماذا نقول نحن وحولنا كل شيء، كل شيء، كل شيء؟ ومع ذلك لا نشبع ولا نقنع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول نحوا من هذا: من أمن في سربه (بيت يسكنه) وملك قوت يومه ، وعوفي في جسده بدنه فقد حيزت له الدنيا (أي أقبلت اليه الدنيا مرغمة وتذللت له)
ولا يحضرني المقام هنا لأعلق على الحديث الشريف بمسلمي هذه الأيام فاللبيب من الاشارة يفهم، وكلنا نستوعب معنى الحديث بأننا جميعنا أغنياء والحمد لله.
هذا هو الذي ملأ نفسه عني وملأها عزفا عن الدنيا بأموالها ومناصبها وجاهه، عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه والى أصحابه جميعا ألا يدعوا الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ احدهم منها الا مثل زاد الراكب ، وأخذوالوصية الغالية واجعلوها في حياة منهجا ونبراسا فعليا.
ورغم أنّ سلمان رضي الله عنه قد حفظ العهد الا أنّ دموعه قد هطلت حين رأى روحه تتهيأ للرحيل مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
قولوا لي بربكم، كيف لا يرضى الله عن رجال بهذه المواصفات، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر واقام الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.
ولأنهم بهذه المواصفات الجليلة التي أقرها القرآن الكريم فقد أكرمهم الله تعالى بحسن الخاتمة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، والله عنده حسن الثواب.
وفاته رضي الله عنه
لم يكن هناك من طيبات الدنيا شيء يركن اليه سلمان رضي الله عنه لحظة أو تتعلق به نفسه الا شيئا واحدا كان يحرص عليه أبغ الحرص، وقد ائتمن عليه زوجته وطلب منها أن تخفيه في مكان لعيد وأمين، وفي صبيحة اليوم الذي توفي فيه من العام 20 هجرية ناداها وقال: هلمي بالأمانة، فجاءت به، واذ هي صرة مسك كان قد اصابها يوم فتح جلول، فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته، ثم قال لزوجته: انضحيه حولي فانه يحضرني الآن خلق من خلق الله عزوجل لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب، فلما فعلت قال لها: اجفني عليّ الباب وانزلي، وبعد حين صعدت روحه المباركة الى بارئها ومولاه، وقد لحقت بالملأ الأعلى ، صعدت على أجنحة الشوق، اذ كان رضي الله عنه على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار رضي الله عنهم أجمعين.
فرضي الله عن سلمان وصحبه وصلى الله وسلم على من رباهم.
4- سواد بن عمرو رضي الله عنه
من أصرّ على القصاص من النبي صلى الله عليه وسلم
مثل آخر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، يريد القصاص من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قصاص الصحابة ليس كقصاصن، بل كان قصاصهم رضي الله عنهم كان قصاص الحب والوفاء والتبرك بجسد النبي الشريف صلى الله عليه وسلم.
هو رجل من الأنصار، يتطيّب بالخلوق، وهو طيب مركب من الزعفران كله عرجون (غصن) وكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا رآه تفضّى له، فجاء سواد رضي الله عنه وهو متطيّب فأهوى النبي صلى الله عليه وسلم بعود كان بيده فجرحه، فقال له: القصاص يا رسول الله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم العود ليقتصّ منه، فنهره الناس، الا أنه لم يأبه لهم، بل رمى العود وأخذ يقبّل جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا نبي الله أدعها تشفع لي بها يوم القيامة.
فرضي الله عن سواد وصلى الله وسلم على من رباه.
5- سهيل بن عمرو رضي الله عنه
من وقع صلح الحديبية مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم
عندما وقع سهيل بن عمرو رضي الله عنه أسيرا في غزوة بدر، اقترب عمر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم.
فأجابه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: كلا يا عمر! لا أمثل بأحد فيمثل الله بي وان كنت نبي، ثم أدنى النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه منه وقال له: يا عمر! لعلّ سهيلا غدا يقف موقفا يسرّك، ودارت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم دورتها حتى تحوّل أعظم خطباء قريش الى خطيب ماهر من خطباء الاسلام، وتحوّل المشرك العدو اللدود لرسول الله صلى الله عليه وسلم الى مؤمن أوّاب لا تكف عيناه عن البكاء من خشية الله تبارك وتعالى.
وتحوّل رضي الله عنه من زعيم من زعماء قريش وقادة من قادة جيوش الشرك الى جندي صلب من جنود الاسلام البواسل يدافع عن الاسلام دفاع المستميت، مجاهدا في سبيل الله، معاهدا نفسه أن يبقى في رباط وجهاد حتى يدركه الموت، عسى الله أن يغفر له ما تقدّم من ذنبه.
انّ سهيل المؤمن التقي الشهيد هو نفسه المشرك العنيد الذي وقّع عقد صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة 6 للهجرة، وحين قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرّم الله وجهه اكتب: من محمد رسول الله أجاب رضي الله عنه يومها: لا.. بل من محمد بن عبد الله.
اسلامه رضي الله عنه
ومضت الأيام تنادي بعضها بعضا حتى جاءت السنة ال 8 للهجرة، وبعد أن نقضت قريش عهدها وميثاقه، خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لفتح مكة، وتمّ لهم ذلك وفتحت مكة جميع أبوابه، ووقف المشركون في ذهول، ترى ماذا سيكون مصيرهم اليوم وهم الذين قتلوا وحرقوا وعذبوا وجوّعوا المسلين من قبل! لم يشأ الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم أن يتركهم طويلا تحت وطأة هذه المشاعر، فقال لهم ونبرة صوته تقطر حنانا ورفقا: يا معشر قريش! ما تظنون بأني فاعل بكم؟ فتقدّم سهيل بن عمرو وقال: نظنّ خير، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بعدما تألقت ابتسامته من نور على شفتيه الطاهرتين النديتين بذكر الله: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لم تكن هذه الجملة من النبي صلى الله عليه وسلم وهوالمنتصر لتترك انسانا ذو مشاعر الا أن تجعله يخجل من نفسه ويندم على ما فرّط في جنب الله تبارك وتعالى وفي حق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وحق المؤمنين، تأبى والا أن تجعله يواكب الاسلام ويكون جنديا من جنوده، وفي هذه اللحظة استجاش هذا الموقف الممتلىء نبلا وعظمة كل مشاعر سهيل بن عمرو فأسلم لله رب العالمين، وأسلم معه أناسي كثير، وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم يومها على الذين أسلموا يوم الفتح بالطلقاء، أي الذين شملهم عفو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثباته على الحق رضي الله عنه
وبعد أن انتقل النبي صلى الله علي وسلم للرفيق الأعلى، وقف سهيل رضي الله عنه موقفا شجاعا وقال: انّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رسول الله حق، وانه لم يمت حتى أدّى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونحن واجبنا أن نسير على نهجه، عندها تذكر عمر رضي الله عنه نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له صلى الله عليه وسلم: دعها فلعلها تسرّك يوم، وضحك رضي الله عنه طويل، اذ جاء اليوم الذي انتفع فيه الاسلام بثنيتي سهل اللتين كان عمر يريد تهشيمها واقتلاعها.
وبعد أن ذاق حلاوة الايمان أخذ على نفسه عهدا لخصّه رضي الله عنه بقوله:
والله لا أدع موقفا من المشركين الا ووقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين الا أنفقت مع المسلمين مثله، لعلّ أمري أن يتلو بعضه بعضا.
وفاته رضي الله عنه
وفي معركة اليرموك، كان سهيل رضي الله عنه يكاد يطير من الفرح اذ وجد الفرصة الدسمة لكي يبذل نفسه في سبيل الله في هذا اليوم العصيب ما يمحو به خطايا جاهليته وشركه، وبعد انتصار المسلمين أبى أن يعود الى مكة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة، خير له من عمله طول عمره، واني لمرابط في سبيل الله حتى أموت، ولن أرجع الى مكة.
ويوفي سهيل رضي الله عنه الوعد والعهد، ويظلّ بقية حياته مرابطا في سبيل الله حتى اذا جاء موعد رحيله طارت روحه مسرعة الى رحمة من الله ورضوان مع ابنه أبو جندل الذي سنتناول بعضا من حياته رضي الله عنهما.
كان أبو جندل رضي الله عنه قد وقع أسيرا في قبضة المشركين، وعندما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى مكة ومنعه المشركون من دخوله، تمكن من الفرار من قبضة المشركين، فجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي مشي المقيّد في قيوده، فرمى نفسه بين أظهر المسلمين في نفس اللحظة التي يوقع فيها والده سهيل عقد صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال والده: يا محمد (صلى الله عليك وسلم) ! هذا أول من أقاضيك عليه أن تردّه اليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا لم نقصّ الكتاب بعد! فقال سهيل: فوالله لا أصالحك على شيء، عندها قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي، أجابه سهيل: ما أنا بمجيزه لك.
فقال أبو جندل رضي الله عنه: يا معشر المسلمين! أأردّ الى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت من عذاب شديد على أيديهم؟
وامتنع سهيل في أن يوقع الصلح حتى أعاد معه ابنه الى سجنه، فدار بين النبي صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه الحوار التالي بعد موافقة النبي صلى الله عليه وسلم على طلب سهيل باعادة ابنه أبو جندل الى الأسر:
ألست نبيّ الله حقا؟
بلى!
ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
بلى!
فلم نعطي الدنيّة في ديننا الآن؟
اني رسول الله ولست أعطيه وهو نا صري.
أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
بلى! فأخبرتك أنا أتيه العام القادم، فانك آتيه ومطوّف به.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم أجمعين: قوموا فانحروا ثم احلقوا.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نسوة من المؤمنات، فانزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ الى قوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر، عندها طلق عمر رضي الله عنه امرأتين مشركتين، تزوّج احداهن معاوية بن أبي سفيان، والأخرى تزوجها صفوان بن أمية اللذين كانا لا يزالان على شركهم، ذلك أنهما لم يسلما الا بعد فتح مكة.
فرضي الله عن سهيل وصلى الله وسلم وبارك على الهادي بشير والسراج المنير.
6- سلمة بن الأكوع رضي الله عنه
ما كذب أبي قط
ماكذب أبي قط، جملة قالها اياس بن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما ليلخص حياة أبيه كله، والصدق صفة الأوابين الصديقين، وحسب سلمة رضي الله عنه ان يحرز هذه الفضيلة ليأخذ مكانه بين الأبرار الصالحين.
هو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه من أصحاب بيعة الرضوان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ومن رماة العرب المعدودين.
بايع بيعة الشجرة مرتين
حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم عام ست للهجرة قاصدين بيت الله الحرام، وتصدت لهم قريش لتمنعهم من دخول مكة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء زائرا وليس مقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم في انتظار عودة عثمان رضي الله عنه سرت شائعة أنّ قريش قتلته، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في ظل الشجرة يتلقى بيعة أصحابه، ولنترك الحديث لسلمة بن الأكوع يحدثنا عن هذا الحدث العظيم:
بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت تحت الشجرة، ثم تنحيت، فلما خفّ الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا سلمة مالك لا تبايع؟ فقلت: قد بايعت يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: وأيض، فبايعته، ثم قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع زيد بن حارثة تسع غزوات.
خير الرجال رضي الله عنه
كان رضي الله عنه من أمهر الذين يقاتلون مشاة ويرمون بالنبال والرماح، وكانت طريقته اذا هاجمه عدوه تقهقر دونه، فاذا أدبر العدو أو وقف يستريح هاجمه في غير هواده، وبهذه الطريقة استطاع أن يطارد وحده القوة التي أغارت على مشارف المدينة بقيادة عيينة بن حسن القزاري في غزوة ذي قرد، فخرج في أثرهم وحده وظلّ يقاتلهم ويراوغهم ويبعدهم عن المدينة حتى أدركه النبي صلى الله عليه وسلم في قوة وافرة من أصحابه، وفي هذا اليوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: خير رجالنا سلمة بن الأكوع.
جزعه على أخيه عامر رضي الله عنهما
لم يعرف سلمة رضي الله عنه الجزع والأسى الا عند مصرع أخيه عامر رضي الله عنهما في غزوة خيبر، وكان عامر يرتجز أمام جيش المسلمين هاتفا: اللهم لولا أنت ما اهتدين، ولا تصدقن، ولا صلين، فأنزلن سكينة علينا وثبّت أقدامنا ان لاقينا.
في تلك المعركة ذهب عامر رضي الله عنه يضرب أحد المشركين بسيفه، فانثنى السيف في يده رضي الله عنه فارتد عليه فقتله، فقال بعض المسلمين: مسكين عامر حرم الشهادة، أي حرم أجر الجهاد وثواب الشهادة على اعتبار أنه قتل نفسه خط، الا أنّ النبي الرحيم صلى الله عليه وسلم وضع النقاط على الحروف في شأنه رضي الله عنه وقال: انه قتل مجاهد، وانه له لأجرين، وانه الآن ليسبح في أنهار الجنة.
نقطة ضعفه في عمل الخير
كان سلمة رضي الله عنه جوادا كريم، وكان أكثر ما يكون جوادا اذا سئل بوجه الله عزوجل، ولو أنّ انسانا سأله بوجه الله أن يمنحه حياته ما توانى ولا تردد في ذلك، ولذا كانت الناس تستغل فيه نقطة الضعف هذه وينالون منه ما يريدون بذلك.
وفاته رضي الله عنه
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه أدرك أبواب الفتنة التي فتحت على المسلمين، فابتعد عنها خشية قتل مسلم على يديه، فحمل متاعه وغادر المدينة الى الربدة، وهو نفس المكان الذي اختاره أبو ذر الغفاري رضي الله عنه من قبله مهاجرا اليه، وهناك أفنى بقية عمره المبارك حتى اذا كان يوما من العام ال 74 للهجرة، أراد أن يزور مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليوافيه الله أجله وهو يتسوق من أسواقه، وهكذا ناداه ثراها الحبيب الرطيب ليضمه تحت جوانحه ويؤديه مع من أوى قبله من الرفاق المباركين والشهداء الصالحين.
فرضي الله عن سلمة وأخوه وصلى الله وسلم وبارك على من رباهما.
7- صدي بن عجلان (أبو أمامة) رضي الله عنه
سقاه الله عزوجل سقيا ما ظمأ بعدها أبدا
شأنه كشأن الصحابة الذين سبقوه للاسلام، فعندما علم قومه باسلامه أبوا عليه دعوته وعذبوه وحبسوه، حتى أنه عندما طلب منهم شربة ماء منعوا عنه الماء وقالوا له: بل ندعك حتى تموت، فأسقاه الله تعالى سقيا لم يظمأ بعدها أبدا.
ولنترك أبو امامة رضي الله عنه بنفسه يروي لنا الرواية، يقول: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم الى قومي أدعوهم الى الله عزوجل وأعرض عليهم شرائع الاسلام، فأتيتهم وقد سقوا ابلهم وحلبوها وشربوا حليبه، فلما رأوني قالوا: مرحبا بالصدي بن عجلان، بلغنا أنك صبوت الى هذا الرجل!
قلت: بل آمنت باله وبرسوله، وقد بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليكم أعرض عليكم الاسلام وأعلمكم شرائعه، فجاؤوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونه، وقالوا: هلمّ يا صدي فكل معنا! قلت: ويحكم! انما أتيتكم من عند قوم يحرم هذا عليكم الا ما ذكيتم، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم قوله تعالى: حرّمت عليكم الميتة والدم ، الآية التي نزلت في حجة الوداع، يوم الجمعة عشية عرفة، فجعلت أدعوهم الى الاسلام ويابون، فقلت لهم: ويحكم! ائتوني بشربة ماء فاني شديد العطش؟ قالوا: ولكن ندعك تموت عطش، عندها اعتممت عمامتي ونمت في الرمضاء في يوم حار شديد حره، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم يرى الناس احسن منه، وفيه شراب لم يرى الناس آلف منه، فامكنني منه فشربته، ولما فرغت من شرابه استيقظت، فو الله ما عطشت، ولا عرفت العطش بعد تلك الشربة.
فرضي الله عن صدي وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.

قلب., 11 - 1 - 2012 11:12 PM

8- صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه
ربح البيع يا أبا يحيي ربح البيع
ولد رضي الله عنه في أحضان النعيم وكان من الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب، فقد كان أبوه ككسرى حاكما وواليا للأبنة (منطقة في العراق) وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطىء الفرات عاش الطفل صهيب ناعما متنعما.
ذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم وقد أسر المغيرون اعدادا كبيرة وصهيب كان واحدا منهم، وقضى طفولته وشبابه في بلاد الروم مما مكنه من اتقان لسانهم ولهجتهم، بعد ذلك اقتنصه تجار الرقيق وبدأ يتنقل من يد الى يد أخرى حتى انتهى به المطاف في مكة، وبيع لعبد الله بن جدعان، يعجب سيده سيده بذكاءه الشديد، ونشاطه واخلاصه، فيحرره ويهىء له فرصة الاتجار معه.
أسلم صهيب وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد ، وفي ساعة واحدة دخلا معا بيت الأرقم وبايعا النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن التمس كل منهما طريق الهدى والفلاح خرجا معا متخفيّان مع سواد الليل عائدين الى دورهم.
ان عبور الباب الخشبي الذي يفصل بين بيت الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرد تخطي عتبة فحسب، بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره، يعني تخطي مرحلة من الموت الى الحياة، من العدم الى الوجود، وبالنسبة للغرباء والرقيق أمثال صهيب كان اقتحام العتبة بالنسبة له يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.
انه نداء الرحمة الالهية التي يصيب الله عزوجل بها من يشاء من عباده، انه نداء الايمان الذي لا يقاوم، انه نور على نور يهدي الله بنوره من يشاء.
هكذا أخذ صهيب مكانه في قائمة المؤمنين الذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف الضطهدين والمعذبين.
يقول رضي الله عنه: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضره، ولا سرى بسريّة قط الا كنت حاضره، ولا غزا غزوة قط أول الزمان وآخره الا كنت فيه، وما خاف المسلمون قط الا كنت أمامهم ووراءهم، وما جعلت رسول الله بيني وبين العدو حتى لقي ربه.
هجرته رضي الله عنه
هذا هو صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، صورة باهرة للانسان المسلم والمؤمن الفذ، والولاء المطلق لله ورسوله، ولقد تجلى هذا الولاء يوم هجرته رضي الله عنه، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع مجوهراته التي أدخرها من تجارته الرابحة خلال سنوات طويلة قضاها في مكة مع سيده عبد الله بن جدعان في سبيل أن ينجو بنفسه ويلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الى المدينة، وذلك حين همّ النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة علم صهيب بها وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة هو والرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنهم، الا أنّ قريش بيتت أمرها لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة، وقع صهيب في فخا خهم، بينما النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه كانا قد اتخذا سبيلهما على بركة الله تعالى، وحاور صهيب رضي الله عنه وراوغ القرشيين حتى استطاع الهرب منهم، وما أن علمت قريش بفراره وقد امتطى جواده منطلقا في الصحراء وثبا حتى كانت قد أرسلت على أثره قناصته، وما أن أدركوه حتى صاح فيهم صهيبا رضي الله عنه أنكم تعلمون أني أرماكم رجل، ثم قال: وأيم الله لا تصلون اليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء فأقدموا ان شئتم، وان شئتم دللتكم على مالي وتركتموني وشأني، فقبلوا ماله قائلين له: أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندن، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بمالك ونفسك؟ فدّلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته وتركوه وشأنه وقفلوا راجعين الى مكة، ولأنهم يعلمون مدى صدقه وأمانته فلم يسالوه عن بيّنه، وموقف كهذا له لا عليه، واستأنف صهيب رضي الله عنه هجرته وحيدا شريدا سعيدا حتى اذا وصل المدينة وقباء تحديد، وما أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم في قباء حتى قال له: ربح البيع أبا يحيي ربح البيع، وما أن سمع صهيب كلمات النبي صلى الله عليه وسلم حتى اطمأنت روحه الطيبّة ، ،انزل الله تعالى فيه قرآنا بشأنه يتلى الى يوم القيامة يصوّر بطولة وتضحية صهيب رضي الله عنه عندما باع دنياه بآخرته: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد
أجل لقد اشترى صهيب رضي الله عنه نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه كله في جمعها ولم يشعر أبدا بأنه مغبون .
الى كم صهيب نحتاج أيها الأخوة؟ فلو كان بيننا واحدا فقط مثل صهيب ما كان هذا حالنا.
مرحه رضي الله عنه
ان صهيب رضي الله عنه كان الى جانب ورعه وتقواه خفيف الروح حاضر النكتة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديد، وذات يوم رآه النبي صلى الله عليه وسلم يأكل رطبا وفي احدى عينيه رمد، فقال له صلى الله عليه وسلم ضاحكا: أتأكل الرطب وفي عينيك رمدا؟ أجابه رضي الله عنه: وأي بأس! اني آكل بعيني الأخرى.
سخاؤه رض الله عنه
كان رضي الله عنه جوادا سخيا معطاء، ينفق كل عطاءه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاج، ويغيث مكروب، ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسير، ولشدة اسرافه فقد لفت انتباه عمر رضي الله عنه وقال له: أراك تطعم كثيرا حتى أنك لتسرف، فأجابه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خياركم من أطعم الطعام.
لقد كانت حياته رضي الله عنه مترعة بالمزايا والعظائم، وما اختيار عمر رضي الله عنه له ليؤم المسلمين في الصلاة في اليوم الذي طعن عمر رضي الله عنه الا مزية تملأ حياته الفو وعظمة.
وظل صهيب يصلى بالمسلمين بعد وفاة عمر الى أن بايع المسلمون عثمان رضي الله عنهم على الخلافة.
فرضي الله عن يا أبا يحيي و وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
9- ضماد رضي الله عنه
رجل من أزدشنودة
هو رجل من أزد شنودة، كان يرقي المرضى تعوذا من الأذى، وعندما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وما يدعو اليه، وتسفيه قومه له، عرض على قريش أن يجمعوه به لعله يستطيع مداواته.
اسلامه رضي الله عنه
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قدم ضماد وهو رجل من أزدشنودة، وكان يرقي المرضى من هذه الرياح، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون: أنّ محمد (صلى الله عليه وسلم) فقال: أين هذا الرجل؟ لعلّ الله يشفيه على يدي، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: اني أرقي من هذه الرياح، وانّ الله يشفي على يديّ من شاء، فهلمّ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك الله، أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، وما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلمّ يدك أبايعك على الاسلام، فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: وعلى قومك، فقال ضماد رضي الله عنه:أعد كلماتك هؤلاء يا رسول الله، فلقد بلغن قاموس البحر.
ولنترك ضماد رضي الله عنه يحدثنا عن قصة اسلامه بنفسه فيقول:
قدمت مكة معتمر، فجلست مجلسا فيه أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، فقال أبوجهل: هذا الرجل قد فرّق جماعتنا’ وسفه أحلامن، وأضلّ من مات من، وعاب آلهتن، فقال أمية: الرجل مجنون بلا شك، فوقعت كلمة مجنون في نفسي وقلت: اني رجل أعالج من الريح، فقمت من لك المجلس، وطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أصادفه ذلك اليوم، حتى كان الغد وجدته جالسا خلف المقام يصلي، فجلست حتى فرغ، ثم جلست اليه وقلت: يا ابن عبد المطلب، فأقبل عليّ فقال: ما تشاء؟ فقلت: اني أعالج من الريح، فان أحببت أعالجك ولا تكبرن بك فقد عالجت من كان به أشدّ مما بك فبر، وسمعت قومك يذكرون فيك خصالا سيئة، من تسفيه أحلامهم، وتفريق جماعتهم، وتضليل من مات منهم، وتعييب آلهتهم، فقلن: ما فعل هذا الا رجل به جنة (جنون).
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، فسمعت كلاما لم أسمع بأحسن منه من قبل قط، فطلبت منه أن يعيده عليّ، فأعاده، ثم قلت له: الام تدعو؟ فقال: الى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وتخلع الأوثان من رقبتك، وتشهد أني رسول الله، فقلت: فماذا لي ان فعلت؟ قال: لك الجنة، فقلت: أشهد أن لا اله الا الله وحده لاشريك له، واشهد أنك عبد الله ورسوله، وأخلع الأوثان من رقبتبي وأبرأ منه.
فرضي الله عن ضماد وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.
10- سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
أول رجل يرضع في الاسلام
قصة ارضاع الكبير على حقفيقتها وما سواها فهو باطل
هذا الصحابي الجليل كان خادم لأبي حذيفة رضي الله عنهم، وأرادت امرأة أبي حذيفة أن تتبناه، وعندما شب وبات رجلا ذهبت الى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: انّ سالم يدخل علينا مذ كان صغيرا ولا زال الى الآن، وانّ أبي حذيفة تتملكه الغيرة من هذا فماذا أفعل؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تحرمي، (أي أرضعيه يغدو محرما عليك)، وقد شرح لها النبي صلى الله عليه وسلك كيفية الارضاع بأن تأخذ من ثدييها مقدار كوب من الحليب وتسقيه اياه على خمس أيام متوالية، حتى غدت امرأة أبي حذيفة أمه بالرضاعة.
هذه هي حقيقة ارضاع الكبير وقد رخصّت لهذه المرأة وهذا الصحابي الجليل فقط، وهي رخصة خاصة منحها النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة دون سواه، وليس كما يدعى بعضا من زنادقة هذه الأيام بأنّ سالم قد التقم ثدي امرأة أبي حذيفة، وهذا افتراء وكذب وزور وبهتان على أمة رضي الله عنها.
ان قصة هذا الصحابي الجليل كقصة بلال وصهيب وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين وكقصة عشرات العبيد والفقراء الذين كانوا عبيدا ورقيقا.
سمي بهذا الاسم رضي الله عنه لأنه كان رقيقا فأعتق، وكان من ضمن الصحابة الكرام الأربعة الذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام أخذ القرآن الكريم منهم:
خذوا القرآن من أربع: ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.
لقد آمن رضي الله عنه ايمان الصادقين، وسلك طريقه الى الجنة بسلوك الأبرار المتقين، وارتقى بتقواه وورعه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء بالاسلام على أساس متين وعادل عظيم.
لقد كان رضي الله عنه حجة في القرآن الكريم، وكان معه من الخير والتفوق ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له رضي الله عنه: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك.
فضائله رضي الله عنه
لقد كانت الفضائل تزدحم فيه رضي الله عنه، وكان لا يعرف الصمت ابدا تجاه كلمة من واجبه أن يقوله، فهو يعتبر السكوت على أشياء يجب البوح بها خيانة في خطأ يراه من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
سالم في ميزان الفاروق رضي الله عنهما
قال عنه عمر رضي الله عنه وهو يموت: لو كان سالم حيا لوليته الأمر من بعدي.
وفاته رضي الله عنه
استشهد في معركة اليمامة ضد المرتدين عن الاسلام، حيث أحاطت به طائفة من المرتدين فسقط البطل على ساحة الوغى مضرجا بدمائه الزكية والطاهرة، وقد ظلت روحه تتردد في جسده الطاهر الى أن انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب رأس الكفر والشرك، واندحار جيشه معه، وانتصار جيش المسلمين بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداؤهم، وجدوا سالما في النزع الأخير، فسالهم: ما فعل أبو حذيفة؟ ولما قالوا له: استشهد ، قال رضي الله عنه: ضعوني الى جواره’، فقالوا له: انه الى جوارك يا سالم، فابتسم رضي الله عنه ابتسامته الأخيرة، ولم يعد يتكلم.
لقد أدرك سالم وأبو حذيفة رضي الله عنهما ما كانا يرنوان اليه، فهنيئا لهما الشهادة في سبيل الله.
فرضي الله عنهما وعن مرضعته وصلى الله وسلم وبارك على من رباهم.
11- محمد بن مسلمة رضي الله عنه
من كان يحمل روحه على كفه
ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه الكرام، اذ قال: من لي بكعب بن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه أتحب أن أقتله؟ أجابه صلى الله عليه وسلم: نعم! وكان ذلك.
من هو كعب الأشرف ذاك الذي أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه؟
انه رجل من أهل الكتاب ومن أشرافهم، كان لا يجلس مجلسا ولا يمر بطريق الا ورا ئحة الطيب تعبق منه.
هيأ محمد بن مسلمة رضي الله عنه نفسه لتنفيذ مهمته واستعان بأبو نائلة أخ كعب بن الأشرف بالرضاعة، وذهبا اليه معا ليل، وعندما علم كعب بحضورهما دعاهما الى الحصن، وعندما همّ بالنزول اليهما قالت له امرأته: أين تخرج في مثل هه الساعة يا كعب؟ أجابها: محمد بن مسلمة وأخي ابو نائلة ينتظرانني في الحصن، وكان محمد بن مسلمة قد أدخل معه رجلين واراهما عن الأعين واتفق معهما ابن سلمة على كلمة السر بينهم، فنزل كعب اليهما متوشحا وريح الطيب يعبق منه حتى ملأ المكان، فقال له ابن مسلمة رضي الله عنه: ما رأيت رائحة أطيب من رائحتك يا كعب! أجابه: وكيف لا! وعندي أعطر نساء العرب وأكملهنّ، فقال له: أتأذن لي أن أشمّ رأسك يا كعب؟ ولما دنا منه كان قد خرج الرجلين من مخبئهم، فانقضا عليه انقضاض رجل واحد كانقضاض الأسد على فريسته، وأوسعاه ضربا على جسده ورأسه حتى أردياه جثة هامدة، ثم اخذوا رأسه وجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله عزوجل على قتله، ثم قال: أفلحت الوجوه، قالوا: ووجهك يا رسول الله.
وعندما علمت قبيلته بمقتل شريفهم ذعرت، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لقد قتل سيدنا كعب غيلة، وعندما أخبرهم بأنه آذى الله تعالى ورسوله كثير، عرفوا من قتله، فخافوا ولم ينبسوا ببنت شفة.
فرضي الله عن ابن مسلمة وصلى الله وسلم وبارك على من رباهم.
12-سعد بن معاذ من اهتزعرش الرحمن لموتهرضي الله
13- وأبوه معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامةرضي الله عنه
نبدأ بالصحابي الجليل الأب معاذ بن جبل رضي الله عنه، هو رجل من الأنصار وزعيم من زعماء الأوس، ومن قبيلة بني عبد الأشهل الأوسية، وهو أحد السبعين رجلا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية.
فقيه الأمة
كان رضي الله عنه شابا مشرق الوجه، رائع الفطرة، بهي الطلعة، برّاق الثناي، يبهر الأبصار يهونه وسمته وسكينته، واذا تحدّث اشرابت الأعناق مصغية الى حديثه.
وكان رضي الله عنه فقيها وعالما فذا من فقهاء الاسلام، أمدّه الله تعالى بعلم وبصيرة متقدة حتى بات أعلم الأمة بالحلال والحرام وبشهادة خير البرية اطلاقا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
في استنارة عقله وشجاعته وذكاءهو كان يماثل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وحين انتدبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اليمن، دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحوار:
بماذا تقضي يا معاذ؟
بكتاب الله
فان لم تجد في كتاب الله؟
بسنة رسوله
فان لم تجد في سنتة رسوله؟
أجتهد رأيي ولا ألو فيه.
فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله.
انّ ولاء معاذ رضي الله عنه لكتاب الله ولسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم لا يحجب عنه عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عقله تلك الحقائق الهائلة التي تنتظر من يكتشفها ويواجهه، ولعل القدرة على الاجتهاد والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل هما اللذان مكنتا معاذ رضي الله عنه من أرائه الفقهية التي فاقت آراء كل من حوله.
قالوا عنه رضي الله عنه
يقول عائذ الله بن عبد الله رضي الله عنه: دخلت المسجد يوما في اول خلافة عمر رضي الله عنه، فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون رجلا كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء الوجه، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسالونه، ولما قضي مجلسهم، دنوت منه وسألته: من أنت يا عبد الله؟ قال: انا معاذ بن جبل.
وقال أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص، فاذا بجماعة من الكهول يتوسطهم شاب براق الثناي، صامت لا يتكلم، فاذا امترى (ارتاب، شك) القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل، فوقع في نفسي حبه.
حتى عمر رضي الله عنه كان كثيرا ما يستشيره في بعض أمور الحكم والدين، وكان كثيرا ما يقول: لولا معاذ بن جبل لهلك عمر.
وقال عنه رضي الله عنهما: لو كان معاذا حيا ووليته الأمر من بعدي وسألني ربي عزوجل من وليت على أمة محمد (صلى الله علية وسلم)؟ لقلت: وليت عليهم معاذ بعد أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة.
ولقد وصفه أحد معاصريه بقوله: اذا تحدث معاذ بن جبل كان كأنه يخرج من فمه نور ولؤلؤ.
وقال عنه ابن مسعود رضي الله عنهما:انّ معاذ كان أمة قانتا لله حنيف، ولقد كنا نشبّهه بابراهيم عليه الصلاة والسلام.
ذات يوم قال له أحد المسلمين علمني! اجابه رضي الله عنه: وهل أنت مطيعي ان علمتك؟ أجاب الرجل: اني على طاعتك لحريص! فقال رضي الله عنه: صم وأفطر ونم، ولا تموتن الا مسلم، واياك ودعوة المظلوم.
مناقبه رضي الله عنه
وعلى الرغم من مات في ريعان الشباب الا أنه بلغ رضي الله عنه من العلم منزلة سامية .
كان سمح اليد والنفس والخلق الكريم، وكان جوادا كريم، وقد ذهب كل ماله بجوده وكرمه وسخاءه، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رضي الله عنه في اليمن يعلم الناس أمور دينهم ويفقههم في الدين، ولم يعد منها الا في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما.
كان رضي الله عنه ظاهر الكف، بريء الذمة، ورغم أنه كان ثريا الا أنه لم يكتسب اثم، ولم يقترف شبهة أبدا.
كان عمر رضي الله عنه قد عرض عليه أن يشاطر أبو بكر رضي الله عنه بماله فأبى، وفي الغداة كان يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر رضي الله عنهم، ولا يكاد يلقاه حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته قائلا له: لقد رأيت الليلة أني أخوض جوفة ماء، أخشى على نفسي من الغرق، حتى اذا جئت وخلصتني منها يا عمر.
ومن هذه الرؤيا يدرك معاذ سداد مشورة عمر رضي الله عنهما بعرضه ذاك، فيذهبا معا الى أبي بكر رضي الله عنهم، ويطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، الا أنّ رفيق وصاحب خيرالبرية صلى الله عليه وسلم قال له: لا آخذ منك شيئا ، فنظر عمر الى معاذ رضي الله عنهما وقال: الآن يا معاذ حلّ وطاب.
ما كان أبو بكر التقي الورع، والذي أحسن النبي صلى الله عليه وسلم تربيته أن يدع درهما واحدا مع معاذ فيما لو ارتاب ارتيابا أن معاذ قد اكتسب المال بغير حقه، وما كان عمر الفاروق الذي فرّق بين الحق والباطل، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان نبيا بعدي لكان عمر، أن يتهم معاذ بتهمة او ظن في عصر تجلىّ فيه المثل والأخلاق، عصر كان يزخر بقوم يتسابقون فيه الى الكمال الانساني، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد، وجميعهم رضي الله عنهم كانوا في قافلة الخير سائرون، ولهذا قال عمر رضي الله عنه مقولته المشهورة: ما سعيت الى خير أبد، الا وسبقني اليه أبو بكر.
فضائله رضي الله عنه
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! والله اني لأحبك، فلا تنسى أن تقول عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
ولقيه النبي صلى الله عليه وسلم ذات صباح، فدار بينهما هذا الحوار:
كيف أصبحت يا معاذ؟
أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله.
انّ لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك؟
ما أصبحت قط الا ظننت أني لا أمسي، ولا أمسي الا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبع غيره، وكأني أنظر الى كل أمة جاثية تدعى الى كتابه، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون، واهل النار في النار يعذبون.
عرفت فالزم.
وفاته رضي الله عنه
لكل أجل كتاب، وحان أجل امام علماء امة الاسلام، ودعي الى لقاء مولاه تبارك وتعالى بنفس مطمئنة راضية مرضية، وفي سكرات الموت تنطلق في اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ان استطاع الحديث كلمات تلخص كل حياته بشريط ذكريات سريع يمر من أمامه كلمح البصر، وفي تلك اللحظات، قال معاذ رضي الله عنه كلمات عظيمة تخر الجبال لععظمته، كلمات تنم عن ايمان عظيم لرجل عظيم، فقال رضي الله عنه وهو يحدق في السماء مناجيا ربه الرحمن الرحيم: اللهم اني كنت أخافك، لكني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن احب الدنيا تجري كالأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة.
وبسط يمينه كأنه يصافح الموت وراح في غيبوبة ورضي الله عنه يردد: مرحبا بالموت.
13- أما سعد بن معاذ رضي الله عنه
فقد اهتز عرش الرحمن تبارك وتعالى لموته
هل تريدون أن أتناول بعضا من سيرته العطرة أم تعريفي له بهذا العنوان يكفي؟
في العام ال 31 من عمره أسلم، وفي العام 37 من عمره المبارك لبى نداء المولى عزوجل اثر جرح غائر في ذراعه أقعدته ما يقارب الشهر تحت وطاة الجراح على أثرها انتقل الى رحمة الله ورضوانه، وما بين الست أعوام تلك كان لسعد رضي الله عنه ألف حكاية وحكاية لا تنتهي.
ست سنوات وردية وأياما شاهقة قضاها رضي الله عنه في خدمة الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
اسلامه رضي الله عنه
كان رجلا وسيما جليل، فارع الطول، مشرق الوجه، جسيم جزل، يقطع الأرض وثبا الى دار ابن خالته أسعد بن زرارة ليلتقي مصعب بن عمير رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة ليبشر بالتوحيد والاسلام، ومنذ أن بدا يصغي رضي الله عنه اليه ويسمعه، فقد أضاءت نفسه وروحه الى نور الله تبارك وتعالى.
وفي بيعة العقبة الثانية، كان رضي الله عنه أحد السبعين أنصاريا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الاسلام، وباسلامه تشرق في المدينة شمس جديدة ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين.
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة، كانت بيوت بني عبد الأشهل مشرعة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرف المهاجرين بلا منّ ولا أذى ولا حساب.
وتأتي غزوة بدر ويجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار ويشاورهم بأمر خوض الحرب مع قريش، ويمم وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم ناحيةالأنصارويقول: أشيروا عليّ ايها الناس، فينهض سعد رضي الله عنه قائما كالعلم قائلا: يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق، واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقن، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، والذي بعثك بالحق نبي، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف من رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غد، انا لصبر في الحربو صدق في اللقاء، ولعل الله يريك ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
ويتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ويتألق رضا وسعادة وغبطة لكلمات سعد رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: سيروا على بركة الله وأبشروا فانّ الله وعدني احدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الى مصرع القوم.
وفيغزوة أحد، عندما تشتت المسلمون تحت وقع القوة الباغية المشركة والتي فاجأتهم من حيث لا يشعرون، لم تكن عين سعد رضي الله عنه لتخطىء النبي صلى الله عليه وسلم، لقد سمّر قدميه في الأرض وبقي يقف الى جوار النبي صلى الله عنه وسلم يذود عنه ويدافع في استبسال شديد هو وطلحة بن عبيد الله وثلة من الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين.
وجاءت غزوة الخندق غزوة الأحزاب، وقد سميت بغزوة الأحزاب لائتلاف قريش وبني قريظة وبني غطفان على المسلمين، وسميت بالخندق لأن سلمان الفارسي رضي الله عنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة يمنه جيش الشرك من اقتحام المدينة، وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بنية بنو قريظة بنية دخولهم في الحرب كحليف لقريش ضد المسلمين ارسل النبي صلى الله عليه وسلم السعدان- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- رضي الله عنهما الى كعب بن أسد زعيم يهود بنو قريظة ليتبينا حقيقة موقفهم من الحرب المرتقبة خاصة وأنذ هناك عهودومواثيق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بنو قريظة، فلما التقى مبعوثا النبي صلى الله عليه وسلم بزعيم يهود بني قريظة قالوا: ليس بيننا وبين محمد (صلى الله عليه وسلم) عهودا ولا عقودا.
لقد عزّ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرض أهل المدينة الى غزو ثلاثي مدمدم، وعزّ عليه صلى الله عليه وسلم الحصار المنهك الذي فرضه عليه الأحزاب، ففكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعزل غطفان عن قريش وراح صلى الله عليه وسلم يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم من الحرب مقابل ثلث ثمار المدينة، وعندما رضي قادة غطفان بعرض النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبق الا الا ان يوقع الاتفاق بينهم، وعند هذا المدى توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن التوقيع عندما لم يكن من حقه أن ينفرد وحده بأمر كهذا فدعا اليه أصحابه ليشاورهم بالأمر، واهتم النبي صلى الله عليه وسلم برأي السعدين رضي الله عنهم، فهما أصحاب الحق في هذا الأمر.
وبعد أن عرض صلى الله عليه وسلم عليهما الأمرقالا: يا رسول الله! أهذا رأي تختاره؟ أم وحي أمرك الله به؟
قال صلى الله عليه وسلم: بل أمر أختاره لكم، والله ما أضع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عند قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن اكسر عندكم شوكتهم الى أمر ما.
وأحسّ سعد بن معاذ أنّ اقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا صعب، هنالك قال سعد رضي الله عنه: يا رسول الله! قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا ثمرة، الا قرى-أي كرما وضيافة- أ فحين اكرمنا الله بالاسلام وهدانا لهو واعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم الا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه وأخبر رعماء غطفان أنّ اصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وانه أقرّ رأيهم والتزم به.
وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيب، ولبس المسلمون لباس الحرب، وخرج سعد بن معاذ رضي الله عنه حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ما أجمل الموت اذا حان الأجل، وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد رضي الله عنه سهما وبيلا قذفه به أحد المشركين ليتفجر الدم من وريده، ويسعف اسعافا سريعا ومؤقتا كي يرقأ نزيفه، ثم امر النبي صلى الله عليه وسلم به أن يحمل الى المسجدو وان تنصب له خيمة حتى يكون على مقربة منه أثناء تمريضه، ورفع سعد رضي الله عنه بصره الى السماء وقال: اللهم ان كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني له، فانه لا قوم احبّ اليّ ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك واخرجوه، وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعل ما أصابني اليوم طريقا الى الشهادة، ولا تمتني حتلى تقرّ عيني من بني قريظة.
شهرا كاملا وقريش تحاول اقتحام المدينة ولم تستطع بسبب الخندق الذي حفره المسلمون حوله، وفي ليلة من الليالي أرسل الله تعالى ريحا صرصرا عاتية على قريش اقتلع معها خيامهم ومتاعهم وعادوا مخذولين مدحورين الى مكة.
بعد أن انسحبت قريش رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يربي بنو قريظة، فامر أصحابه بالسير الى بني قريظة وفرضوا عليهم حصارا شديدا لخمس وعشرون يوما حتى أجبرهم على الاستسلام، وتقدموا برجاء للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم سعد بن معاذ حليفهم في الجاهلية، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضي الله عنهم من جاء بسعد رضي الله عنه محمولا على دابة وقد نا منه الاعياء والمرض، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا سعد احكم في بني قريظة!وراح سعد رضي الله عنه يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت تهلك اهلها بالحص، وقال: اني ارى ان يقتل مقاتلوهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم اموالهم.
وفاته رضي الله عنه
حين اشتد المرض على سعد رضي الله عنه، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه يعوده فوجه يعيش لحظات الوداع، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه رضي الله عنه ووضعه في حجره وابتهل صلى الله عليه وسلم الى الله تبارك وتعالى قائلا: اللهم انّ سعدا قد جاهد في سبيلك وصدق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا.
ووقعت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودعة بردا وسلام، فحاول رضي الله عنه جاهدا فتح عينيه راجيا أن يكون وجه النبي صلى الله عليه وسلم آخر وجه يراه قبل موته، ثم قال رضي الله عنه: السلام عليك يا رسول الله، اما اني أشهد انك رسول الله، وتملى النبي صلى الله عليه وسلم وجه سعد رضي الله عنه، وقال: هنيئا لك يا أبا عمرو.
ولما رأى اهل سعد رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وضع رأس سعد في حجره، ذعروا من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استأذن الله من ملائكته عددكم في البيت ليشهدوا وفاة سعد.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد نزل لسعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبله.
وعندما أخرجوه رضي الله عنه محمولا على الأكتاف الى مثواه الأخير قال ناس من المنافقين: ما أخفّ جنازة سعد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد نزل سبعون الف من من الملائكة شهدوا جنازة سعد.
وفي رواية: والذي نفسي بيده، لقد كانت الملائكة تحمل سريره.
ضغطة القبر حق
وحين دفن سعد رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لو انفلت (نجا) من ضغطة القبر أحد لانفلت منها سعد.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنت ممّن حفروا لسعد قبره، وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب شممنا ريح المسك حتى انتهينا الى اللحد.
لقد كان مصاب المسلمين بسعد رضي الله عنه عظيم، ولكن عزاؤهم كان جليل، حين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.
ذات يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا سعد! احفظ ما بين لحييك وما بين رجليك أضمن لك الجنة، فقال رضي الله عنه: أو نؤاخذ على ألسنتنا يا رسول الله؟أجابه صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا سعد! أو يكبّ الله الناس على وجههم الا من حصاد ألسنتههم.
فرضي الله عن معاذ وابنه سعد وصلى الله وسلم على من رباهما.
14- معاوية بن أبي سفيانرضي الله عنهما
أول خليفة اموي في الدولة الاسلامية
أبوه أبو سفيان بن حرب وأمه هند بنت عتبة، وقد كانا من أعتى أعداء الاسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، حتى اذا كان عام الفتح أسلما وحسن اسلامهم، وأمّن النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وقال: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، وهند بن عتبة هي من أمرت الوحشي بقتل الحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، ومن ثم طلبت منه أن يستخرج كبده بعد مقتله ولاكت قطعة من كبده رضي الله عنه، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على عمه الحمزة، ولم يحزن على استشهاده بقدر ما حزن على التمثيل بجثته رضي الله عنه، وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يومها بالانتقام لعمة الحمزة رضي الله عنه، وأن يمثل بالمشركين، فأنزل الله تعالى عليه قرآنا يحثه فيه صلى الله عليه وسلم أن يعاقب بالمثل والصبر أفضل له من العقاب، فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه سبحانه وتعالى وكفّر عن يمينه.
اسلامه رضي الله عنه
أسلم معاوية رضي الله عنه يوم الحديبية، وبقي في مكة لا يظهر اسلامه خوفا من أبيه، ثم أظهره يوم فتح مكة، قبل أن يسلم أبويه بقليل.
كان رضي الله عنه طويلا أبيضا وسيم، اذا ضحك انقلبت شفته العليا و وكان يخضب شعره ولحيته بالصفرة.
وعن اسلامه يحدثنا رضي الله عنه فيقول: في صلح الحديبية ويوم وقعوا الصلح وقع الاسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي فقالت: اياك أن تخالف أباك، فاخفيت اسلامي، فو الله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وأنا مصدّق له، ودخل مكة عام عمرة القضاء وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان باسلامي وقال لي يومها: لكن اخاك خير منك وهو على ديني (يقصد يزيد) وأظهرت اسلامي يوم الفتح فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت له.
أما عن الفتنة التي حدثت بينه وبين الامام علي رضي الله عنهما وموقعة الجمل وصفّين فقد تناولت منها ما يكفي مما تقدم في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
فرضي الله عن معاوية وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
15- مصعب بن عمير رضي الله عنه
أول سفير للدولة الاسلامية في المدينة المنورة
هو غرة فتيان قريش وأوفاهم جمالا وشبابا وحسبا ونسب، وكان اعطر اهل مكة ، وكما يقولون ولد وفي فمه ملعقة من ذهب.
لقد حظي من الدلال ما لم يحظى به ولدا قبله.
هذا القدر الريّان المدلل المنعم والذي كان حديث الحسان في مكة، ولؤلؤة ندراتها ومجالسه، أيمكن أن يتحول في يوم وليلة الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء؟
أجل! وليس على الله بعزيز، انه نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
يا الله! ما أروعه من نبأ! مصعب بن عمير أو كما يلقبه المسلمون مصعب الخير يصبح بين ليلة وضحاها من أولئك الذين صاغهم الاسلام ورباهم رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم؟
حين لامست يمين النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة صدر مصعب المتوهج، وفؤاده المتوثب، اصبحت السكينة العميقة عمق المحيط تدور في فلك مصعب الفتى الذي آمن وأسلم ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنّه وعمره رضي الله عنه، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان.
الخيار الصعب
انّ ما تعرّض له سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع أمه قد تعرض له مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكما وقف سعد رضي الله عنه موقفا صعبا وخيارا أصعب، كذلك مصعب رضي الله عنه يعيش هذه اللحظات، والخيار هو بين طاعة الأم واختيار المنهج الصح، ولا ثالث لهم، وعندما حذا مصعب حذو سعد رضي الله عنهم، واختار الاسلام على امه خناس بنت مالك والتي كانت تتمتع بقوة فذة في شخصيته، وكان رضي الله عنه يهابها الى حد الرهبة، ولم يكن يهاب أحدا على ظهر الأرض سواها.
كان على استعداد أن يجابه قريش بأسيادها وأشرافها الا خصومة أمه، فهذا الهول الذي لا يطاق، لأجل هذا قرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمر، وبقي يتردد على الصفا في دار الأرقم ويجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو قرير العين بايمانه ليتفادى غضب أمه التي لم تعلم بخبر اسلامه بعد.
ان مكة في تلك الأيام لم يكن ليخفى عليها سر، فآذان قريش كلها صاغية على كل الطرق، وعيونها وراء بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، وما ان أبصر عثمان بن أبي طلحة رضي الله عنه ذاك الفتى يدخل دار الأرقم حتى سابق ريح الصحراء وزوابعها شاخصا الى أم مصعب يلقي عليها نبأ اسلام ولدها مصعب، ذلك النبأ الذي وقع عليها وقع الصاعقة أفقدها صوابه، ويقف مصعب رضي الله عنه أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة مجتمعين يتلو عليهم – آيات من القرآن الكريم - يقين الحق وثباته القرآن الذي يغسل به الرسول صلى الله عليه وسلم قلوبهم ويملؤها حكمة وشرفا وعدلا وتقى.
وهمّت امه لتسكته بلطمة قاسية على وجهه، الا أنّ اليد التي امتدت كالسهم ما لبثت أن استرخت وتنحت أمام النور الذي زاد وجه مصعب رضي الله عنه وسامة وبهاء وجلال، ومضت به الى ركن قصيّ من أركان دارها وحبسته فيه وأحكمت عليه اغلاقه خشية عودته الى مجالس النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وظل رهين محبسه حتى اذا خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى الحبشة غافل أمه وحراسه ومضى مهاجرا أوّابا.
ذات يوم والصحابة وهم جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم، اذ خرج عليهم مصعب رضي الله عنهم ، فغضوا أبصارهم وذرفت عيونهم دمعا طيب، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلبابا مرقعا بالي، وعادوا الى صورته الأولى قبل الاسلام حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، ألقا وعطر، وتملى النبي صلى الله عليه وسلم مشهده بنظرات حكيمة شاكرة وتألقت على شفتيه الطاهرتين ابتسامته الجليلة صلى الله عليه وسلم وقال:
لقد رأيت مصعبا هذ، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله.
لقد منعته أمه حين يئست من رده كل ما كانت تفيض عليه من نعمة وأبت عليه أن ياكل طعامها انسان قد هجر الآلهة، وحاقت به لعنتها حتى لو كان هذا الانسان ابنها.
لقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرة أخرى بعد رجوعه من الحبشة، فآلى على نفسه لئن فعلت ليقتلنّ كل من يستعين به على حبسه، ولأنها كانت تعلم صدق عزمه اذا همّ على أمر، فقد ردعته باكية، وودعها باكي، وكشفت لحظة الوداع على اصرار عميق على الكفر من جانب الأم، واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن، لقد قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أم، فاقترب منها وقال: يا أمة! اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله محمد رسول الله.
فأجابته غاضبة: قسما بالثوابت، لا أدخل في دينك فيزري برأيي ويضعف عقلي.
وخرج مصعب رضي الله عنه من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا عليها الشظف والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المعطر يرتدي أخشن الثياب، يأكل يوما ويجوع أيام، الا أنّ روحه المتأنقة بنور الله تبارك وتعالى، وبسمو العقيدة قد جعلت منه انسانا آخرا يملأ الأعين جلالا والأنفس روعة.
عند ذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لأعظم مهمة في التاريخ وهي أن يكون سفيره الى المدينة المنورة، يفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ويهيء المدينة ليوم الهجرة العظيم.
أول سفراء الاسلام
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم مصعب الخير وهو يعلم أنه يوكل اليه أخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام كله في المدينة المنورة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة الى الله تعالى، والدعاة والمبشرين بعد حين من الزمان.
وحمل مصعب رضي الله عنه الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل، وكريم الخلق، وهاتين الصفتين الحميدتين كانتا جواز السفر الذي يمر من خلاله مجالس المدينة ويدخل به قلوب وأفئدة أهل المدينة الذين دخلوا في دين الله أفواجا.
حين دخل مصعب رضي الله عنه المدينة فقد استضافه أسعد بن زارارة رضي الله عنه، ولم يكن فيها سوى اثني عشر مسلما هم من بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ولم يكد يقيم بين أهلها بضعة أشهر حتى بايع النبي صلى الله عليه وسلم في العام التالي سبعين رجلا وامرأتان شقيقتان من اهل المدينة.
لقد واجه مصعب رضي الله عنه من اهل المدينة معارضة شديدة خاصة من أشرافها وسادتها على رأسهم أسيد بن حضير الذي وقف مهتاجا يخاطب مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهم والشرر يخرج من عنيه، وبهدوء البحر وقوته، يتهلل ضوء الفجر بوداعته عندما تنفرج عن أسارير مصعب الخير ويتحرك بالحديث الطيب لسانه قائلا له: أولا اجلس واستمع، فان رضيت أمرنا قبلته، وان كرهته كففنا عنك ما تكره.
الله أكبر ما أروعها من بداية يا مصعب الخير!
وبما أنّ أسيد كان رجلا عاقلا وحكيما فقد أذعن لما يطلبه مصعب رضي الله عنهم، ولم يكد يتلو عليه آيات من الذكر الحكيم حتى أخذت أساريره تبرق وتشرق، وما كاد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد رضي الله عنه وبمن معه من القوم : ما أحسن هذا القول وما أصدقه، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟
قال رضي الله عنه: يطهر ثوبه وبدنه ويشهد أن لا اله الا الله محمد رسول الله.
فأجابوه بتهليلة رجت الأرض رجا من تحت أرجلهم.
وسرى الخبر في المدينةعن اسلام أسيد وتبعه سعد بن معاذو وسعد بن عبادة زعماء الأوس والخزرج رضي الله عنهم، واقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أراف الأوس والخزرج قد تبعوا هذ، ففيم نتخلف نحن؟ وهكذا دخل الناس أغلب أهل المدينة في دين الله أفواجا.
استشهاده رضي الله عنه
لقد نجح أول سفير للدولة الاسلامية في مهمته نجاحا باهر، وتمضي الآيام ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وتتملظ قريش بأحقاده، وتعد العدة لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين، وتقوم غزوة بدر الكبرى، وتليها أحد، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم وسط صفوف الوجوه المؤمنة ليختار منها من يحمل الراية، ويدعو مصعب اليها فيتقدّم ويحمل اللواء، وتنشب المعركة الرهيبة ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويغادر الرماة مواقعهم في أعلى الجبل جريا وراء الغنائم بعدما انسحب المشركون منهزمين، وسرعان ما تحوّل نصر المسلمين الى هزيمة حين التف المشركون على المسمين يباغتونهم من أعلى الجبل، وتعم الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، وبدا المشركون يركزون على النبي صلى الله عليه وسلم لينالوا منه، ويدرك مصعب رضي الله عنه الخطر المحدق على النبي صلى الله عليه وسلم، فيرفع اللواء عاليا ويطلق تكبيرة هادرة كهدير الليل العاصف، ومضى يصول ويجول وكل همه أن يبعد أنظار المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب مصعب رضي الله عنه يقاتل وحده وكأنه جيش قائم بذاته، يد تحمل الراية في تقديس، ويد اخرى تضرب بالسيف في عنفوان، فضربوه على يده اليمنى فقطعت، وهو يردد: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، واخذ اللواء بيده اليسرى، وحنا عليه أحدهم فقطعها هي الأخرى، فضم الراية بعضديه الى صدره وهو يردد: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، ثم حملوا عليه في الثالثة بالرمح ما أخطؤوه ، ويسقط اللواء منه ليسقط شهيدا على ساحة الشرف، ويهبط وحي السماء جبريل عليه السلام على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمانه الطاهر راقدا وقد أخفى وجهه في تراب مضمخ بدماءه الطاهرة، وكأنه خشي أن يبصره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جثة هامدة بلا حراك فيصيبه السوء، أو كأنه خجلان ان سقط شهيدا قبل أن يطمئن على نجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لك الله يا مصعب...يا من ذكرك عطر الحياة.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد شهداء المعركة، وعند جثمان مصعب رضي الله عنه سالت دموعه وفية غزيرة ولم يجدوا شيئا يكفنوه فيه الا نمرة، كانوا اذا وضعوها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعوها على رجليه بان رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوا على رجليه من نبات الأذخر.
وعلى الرغم من استشهاد الحمزة وتمثيل المشركين بجثمانه رضي الله عنه، وعلى الرغم من مقتل عدد لابأس به من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، والذي كل منهم يمثل عالما خاصا لوحده، الا أنه صلى الله عليه وسلم وقف على جثمان مصعب أول سفراء الاسلام يودعه وينعاه بقول الله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضلى نحبه ومن من ينتظر وما بدلوا تبديلا
ثم ألقى في أسى نظرته الأخيرة على بردته التي كفن بها وقال عليه الصلاة والسلام: لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلة ولا أحسن لمّة منك ، ثم ها أنت شعث الرأس في بردة.
ثم هتف النبي صلى الله عليه وسلم وقد وسعت نظرته الحانية أرض المعركة، بكل ما عليها من رفاق مصعب رضي الله عنهم أجمعين وقال: انّ رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة.
ثم أقبل على أصحابه الأحياء من حوله وقال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس زوروهم وأتوهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة الا ردوا عليه السلام.
فرضي الله عن مصعب الخير وصلى الله وسلم وبارك على من رباه.
16- هشام بن العاص رضي الله عنه
من رأى صور الآنبياء عليهم السلام
هذا الصحابي الجليل كان أبو بكر الصديق رضي اللهعنه قد أرسله الى جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة وهرقل ملك الروم يدعوهما الى الاسلام، ونترك الحديث لهشام رضي الله عنه كما ورد في كتاب حياة الصحابة للعلامة الشيخ محمد يوسف كاندهلوي رحمه الله حيّا وميتا:
" بعثت أنا ونعيم بن عبد الله الى هرقل ملك الروم بدعوة الى الاسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة- ضاحية من ضواحي دمشق وتبعد عن دمشق العاصمة حوالي 10 أميا ل-
فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني- آخر ملوك الغساسنة في بلاد الشام- فدخلنا عليه فاذا هو في سريره، فأرسل الينا برسول نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسول، وانما بعثنا الى الملك، فان أذن لنا كلمناه، والا لم نكلم الرسول، فرجع اليه الرسول فاخبره بذلك، فأذن لنا الملك، فكلمته ودعوته الى الاسلام وعليه ثياب سود، فقلت له: وما هذه التي عليك؟ أجاب: لقد حلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، فقلنا له: ومجلسك هذا والله لنأخذنه منك، ولنأخذنّ ملكك الأعظم هذا انشاء الله، فقد أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما تصدى لنا رجاله، فقال لهم: لستم بهم، انهم قوم يصومون النهار ويقومون بالليل، ثم قال: قوموا! وبعث معنا رسولا الى هرقل ملك الروم، حتى اذا اقتربنا من ملكه قيل لنا: انّ دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فان شئتم حملناكم على البغال، قلنا: والله لا ندخل الا على رواحلن، فأرسلوا الى الملك جوابنا فأمرهم بان ندخل عليه، فدخلنا متقلدين سيوفنا حتى اذا انتهينا الى غرفة الملك، قلنا قبل أن ندخل: لا اله الا الله والله أكبر، فأرسل الينا: ليس لكم أن تجهرواعلينا بدينكم، فدخلنا عليه وعنده بطارقة الروم- مستشاري الحروب- وكل ما حولنا أحمر من ثياب ومتاع وفرش، فعندما دنونا منه ضحك وقال:لم لم تحيّوني بتحيتكم فيما بينكم؟
انّ تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيّي بها قومك لا يحل لنا أن نحييّك بها.
كيف هي تحيتكم فيما بينكم؟
السلام عليكم.
وكيف تردون؟
وعليكم السلام ورحمة الله.
كيف تحيّون ملككم؟
نحييّه بها ويرد علينا بها أيضا.
ما هو أعظم كلامكم؟
لا اله الا الله
فلما تكلمنا بها انتفضضت الغرفة حتى رفع رأسه اليها ثم قال: بهذه الكلمة التي قلتموها انتفضت الغرفة، أتنتفض غرف بيوتكم كلما تقولوها؟
لا... ما رأيناها فعلت مثل هذا قط الا عندك.
لكم وددت لوأنكم كلما قلتموها تفعل مثل ذلك بغرفكم وخرجت من نصف ملكي.
ولم؟
لأنه يكون أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة في شيء، بل من حيل الناس.
ثم دعوناه الى الاسلام، فسألنا عن صلاتنا وصيامن، وبعد أن أخبرناه عنهما أمر لنا بمنزل حسن وأكرم ضيافتن، فاقمنا في قصره ثلاثة أيام بلياليه، ثم أرسل الينا ليلا فدخلناعليه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة المذهبة- اناء مركب- فيه بيوت صغيرة وعليها أبواب وقفل، ففتح أحدها واستخرج منها حريرة سوداء بداخلها صورة حمراء، واذ فيها رجل ضخم العينين، وبدون لحية، لم أرى مثل طول عنقه، وله ضفيرتان من أحسن ما خلق الله، فقال: أتعرفون من هذا؟ قلنا:لا قال: هذا آدم (عليه السلام).
ثم فتح بابا آخر، وأخرج منه حريرة سوداء بداخلها صورة بيضاء، واذ فيها رجل له شعر قطيط (أجعد) أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، وقال: هذا نوح (عليه السلام).
ثم فتح بابا ثالث، وأخرج منه حريرة سوداء، بداخلها صورة رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين (واسع وأملس) طويل الخدين، أبيض اللحية مبتسم، وقال: هذا ابراهيم (عليه السلام).
ثم فتح بابا رابع، وأخرج منه حريرة سوداء بداخلها صورة رجل أبيض حسن الوجه، أقنى الأنف (طويل مع حدب في الوسط) حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب الى الحمرة، ثم قال: هذا اسماعيل (عليه السلام).
ثم فتح بابا خامس، وأخرج منه حريرة سوداء بداخلها صورة أدماء ( سمرة شديدة) سمحاء (سوداء) واذا برجل أجعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عا بس، متراكب الأسنان، متقلص الشفة( منزوية للأعلى) كأنه غضبان، وقال: هذا موسى بن عمران (عليه السلام) والى جانبه صورة تشبهه، مدهان الرأس (دهن الشعر) عريض الجبين، في عينيه قبل(حول) ثم قال: هذا هارون بن عمران (عليه السلام).
ثم فتح بابا سادس، وأخرج منه حريرة بيضاء، بداخلها صورة رجل سبط ربعة (مربوع) ، كأنه غضبان، ثم قال: هذا لوط (عليه السلام).
ثم فتح بابا سابع، واخرج منه حريرة بيضاء، بداخلها صورة رجل ابضو مشرئب الحمرة، أقنى الأنف (طويل الأنف في وسط حدب) خفيف العارضين (الخدود) حسن الوجه، ثم قال: هذا اسحاق (عليه السلام).
ثم فتح بابا ثامن، واخرج منه حريرة بيضاء بداخلها صورة تشبه اسحق، على شفتيه خال، ثم قال: هذا يعقوب (عليه السلام).
ثم فتح بابا تاسع، واخرج منه حريرة بيضاء، بداخلها صورة رجل حسن الوجه، شبيه بآدم، كأن وجهه الشمس، ثم قال: هذا يوسف (عليه السلام).
ثم فتح بابا عاشر، وأخرج منه حريرة بيضاء بداخلها صورة رجل احمر الساقين (دقيق) أخفش العينين (صغيرة) ضخم البطن، متقلدا سيف، ثم قال: هذا داوود (عليه السلام).
ثم فتح بابا حادي عشر، وأخرج حريرة بيضاء بداخلها صورة رجل ضخم الآليتين، طويل الرجلين، يركب فرس،ثم قال: هذا سليمان (عليه السلام).
ثم فتح بابا ثاني عشر، وأخرج منه حريرة سوداء بداخلها صورة بيضاء ، واذا بشاب، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن الوجه والعينين، هيئته كهيئة آدم، ثم قال: هذا عيسى (عليه السلام).
قلنا: من أين لك بتلك الصور؟ انّ هيئتها كهيئة نبينا عليه الصلاة والسلام قال: انّ آدم (عليه السلام) سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم (عليه السلام) عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين (عليه السلام) من مغرب الشمس، فدفعها الى دانيال (عليه السلام) ، ثم قال: أما والله! انّ نفسي طابت بالخروج من ملكي، وان كنت عبدا لأشركتكم ملكه حتى أموت.
ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا.
فلما أتينا أبا بكر رضي الله عنه، حدّثناه عن هرقل وما أرانا من صور، وبما قال، وبما أجازن، فقال أبو بكررضي الله عنه: مسكين! لو أراد الله به خيرا لكان، ثم قال رضي الله عنه: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم واليهود يحبّون نعت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم."
فرضي الله عن هشام بن العاص وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاه.
تمت بحمد الله وتوفيقه
المراجع في قصص مدرسة الصحابة تم جمعها من:
* مجلد تفسير الامام العلامة ابن كثير للقرآن الكريم رحمة الله عليه وجزاه الله عنا في كل خير.
* مجلد حياة الصحابة للشيخ العلامة محمد يوسف كاندهلوي رحمة الله عليه.
* اضافة الى تصفح شبكات الانترنت في استخلاص بعض المعلومات لانجاز هذا العمل الجليل.
وأخيرا اقول: ما أصبت في هذا البحث فمن الله تبارك وتعالى وحده، وما أخطأت فيه فمن نفسيومن الشيطان والله المستعان عليه انشاء الله.
جمع ودراسة : سمير السعدي

منتصر أبوفرحة 11 - 1 - 2012 11:28 PM

أبو الدرداء رضي الله عنه كان زاهدا وعابدا وتقيا
ولم نسمع بكتب التراجم كلمة فيلسوف
فمن اين جائت هذه الكلمة ؟؟؟
أتمنى تصحيح كلمة فيلسوف أو فلسفة وهي صفة لا تليق بصحابي جليل مثل أبو الدرداء رضي الله عنه
قولي زاهد عابد ورع تقي هذه الصفات التي نعرفها

منتصر أبوفرحة 11 - 1 - 2012 11:39 PM

يا إخوان إختاروا ألفاظكم جيدا عندما تتكلمون عن الصحابة وعند نقل السير
أو قائد انتفاضة في التاريخ
أو قائد معارضة في التاريخ
أعوذ بالله ماهذا الكلام التافه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أبو الر الغفاري رضي الله عنه صحابي جليل اجتهد في مسالة وأخطأ فيها ولم يكن الصواب معه فيها وهي تفسير معنة ( يكنزون الذهب والفضة )
والحق كان مع ابن عباس وابن عمر وابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين
والمعنى عن المال الذي يمر عليه الحول من غير زكاة
أما هو كان يرى الكنز اي مال مهما كان لا يزكى فاجتهد واخطأ رضي الله عنه
كيف نصف هذه المسألة الفقهية ونجيرها للسياسة الخبيثة في هذا العصر ونقول انتفاضة ومعارضة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
من اين تأتون بهذا الكلام
اقرؤوا التراجم والسير هذه هي الكتب التي نعرفها كتب تاريخنا الإسلامي هل نجد فيه هذه المصطلحات الخبيثة ...؟
أتمنى تصحيح هذه الكلامات للظرورة ولنحرتم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين


الساعة الآن 04:26 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى