منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   سِير أعلام وشخصيات (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=57)
-   -   إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=29103)

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:24 PM

إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم

ترجمة: كامل جابر


العام 1922 قام علماء الآثار من جامعة بنسلفانيا والمتحف البريطاني بمغامرة مشتركة للتنقيب في مدينة أور القديمة التي دُفنت تحت الرمال في جنوب العراق. وقد غيَّرت اكتشافاتهم معرفةَ العالم وفهمه للتاريخ وما قبله. اللقى الغنيّة التي عثروا عليها في تنقيبهم، سلَّطت الضوء على 3500 سنة من الحضارة المبكرة، ابتداءً بالقرى الأولى التي بُنيت على حافّة الأهوار الملحيّة حوالى 4000 قبل الميلاد، في ما يُعرَف اليوم بالعراق الحديث. لقد كانت أور مركزاً للحضارة السومريّة التي ازدهرت على طول الفرات. وقرب مكان إقامة الكاهنة الكبرى في معبد إله القمر نانا، عثر المنقِّبون على قرص مُدوَّر من مرمر يُصوِّر كاهنة تترأس طقسَ إراقة، كان مكسوراً ومشوَّهاً بصورة متعمَّدة. وعندما تمَّ ترميمه، وجُمعت قطعه سويّة، ظهر نقشٌ على ظهره يقول: "إنهيدوانا، زوجة نانا/ ابنة سركون، ملك الجميع، في معبد/ إنانا في أور منصّة أنتِ بنيتِ، ومنصّة/ مائدة السماء (آن) أنتِ سمِّيتِ". هكذا اكتشف المنقِّبون وصفاً لإنهيدوانا، الكاهنة الكبرى لإله القمر، وأول شاعرة معروفة في التاريخ، والتي تُعتبر كتاباتها أقدم عمل لمؤلِّف معروف بأنه شخصية تاريخية. المقال الآتي مأخوذ من كتاب للباحثة بتي دي شونك ميدر.
تذكر إنهيدوانا في القرص اسمَ أبيها "سركون ملك الجميع". وقبل العثور على القرص، لم يكن الباحثون يعرفون ما إذا سركون شخصاً تاريخيّاً حقيقيّاً، أو متخيّلاً أسطوريّاً. لم يسمع أحد قطّ بإنهيدوانا قبل ذلك. وها قد مرّت خمس وسبعون سنة منذ اكتشاف إنهيدوانا، قام فيها الباحثون بالكشف عن (وفكّ مغاليق) آلاف الألواح الطينيّة المشويّة واللقى التي وسّعت نطاق معرفتنا عن العراق القديم. من بين الخمسة آلاف، أو أكثر، من الألواح الأدبيّة العراقيّة القديمة، يوجد من أعمال إنهيدوانا ثلاث قصائد طويلة لإنانا، وثلاث قصائد لنانا، واثنتان وأربعون تسبيحة معبديّة. وإذ كانت إنهيدوانا الشخص الرئيسيّ في القرص، البالغ قطره 25,6 سم، فإنّ الشكل الدائريّ في الفنّ السومريّ للقرص فريد وخاصّ، وربّما يرمز إلى شكل البدر التمام لنانا. يرتبط كلّ من إنهيدوانا وإنانا بإله القمر: إنهيدوانا هي الكاهنة الكبرى لنانا، الذي هو إله القمر الرئيسيّ. وإنانا هي ابنة الزيجة القمريّة لنانا وننكال.
تصف إنهيدوانا نفسها على القرص (النقش الأصليّ الوحيد بخطّ يديها، بحسب وستنهولز) بأنها سيّدة نانا الحقّ، زوجة نانا. لقد عُيّنت إنهيدوانا في منصبها ككاهنة كبرى لنانا من قبل أبيها الملك. تعيينها يتبع تقليداً بدأ قبل إنهيدوانا بمئات السنين، حيث تصبح ابنة الملك كاهنة كبرى لإله القمر في أور.
كان تنصيب إنهيدوانا حدثاً فريداً من نواحٍ عدّة. ففي وقت تعيينها، تمكّن سركون من توحيد جميع الدويلات المتحاربة في العراق القديم تحت حكومة مركزيّة واحدة في مدينة أكد الشماليّة. وكان هذا التوحيد هو الأوّل للمدن الجنوبيّة تحت منظمة إداريّة واحدة. القبائل البدويّة، التي تتحدّث الساميّة، والتي يعود إليها نسب سركون، دخلت سومر من جهة الغرب قاطعةً الصحارى الواقعة في ما يعرف اليوم بسوريا والجزيرة العربية، كي تعيش في سلام مع السومريّين على الأقلّ، منذ الألفيّة الرابعة، وربّما قبل ذلك. ولا يوجد دليل على أيّ صراع عرقيّ.
تصف جوان أوتس المزيج المتنوّع، الذي تكوّن منه الشعب السومريّ، كالآتي: "مصطلح "السومريّون" عادة ما يستخدم لوصف حضارة عامّة لمجموعة سكانيّة تتكوّن من عناصر لغويّة مختلطة، ويوجد أكثر من سبب للاعتقاد أنّ التشكيلة العرقيّة كانت متنوّعة كذلك. ومن أولى السجلاّت، لا يبدو أنّ ثمّة تميّزاً اجتماعيّاً في سومر بين الأشخاص الذين يحملون أسماء ساميّة، والذين يحملون أسماء سومريّة. ولأننا لا نستطيع تمييز أيّ عنصر إقحاميّ في هذا الخليط السكانيّ، علينا أن نعزو هذا الأمر إلى تمازج السلالات العرقيّة في عهود ما قبل التاريخ".
عُرفت لغة المتحدّثين الساميّين بالأكديّة نسبة إلى عاصمة سركون (أكد). وتبنّى الأكديّون في نهاية الأمر الخطّ المسماريّ السومريّ لكتابة لغتهم. في عهد السلالة المبكرة (2960 - 2360 قبل الميلاد) هيمن عدد من الملوك الساميّين على السلطة. وقد أصرّ سركون على نقل مركز السلطة إلى الشمال، بعيداً عن المدن الجنوبيّة. وقد تفجّرت الثورات المتفرّقة هنا وهناك، حيث حاولت مدن الجنوب تخليص نفسها من الهيمنة الأكديّة خلال عهد سركون الطويل، كذلك في عهود الذين خلفوه في الحكم.
يرى بعض الباحثين أن سركون عيّن ابنته ككاهنة كبرى في أور، من أجل تحصيل دعم المؤسسة الدينيّة هناك. كانت أور، حيث ستعيش إنهيدوانا، مدينة في الجنوب في قلب الحضارة السومريّة، بينما كانت أكد تقع بعيداً في الشمال بالقرب من مدينة بغداد في الوقت الحاضر. بتعيين ابنته في مؤسسة دينيّة مهمّة، أمل سركون أن يمارس سيطرة أكثر فعاليّة على مقاطعات الجنوب ذات الغالبية السومريّة.
"سيّدة نانا الحق" و"زوجة نانا"، هكذا تدعو إنهيدوانا نفسها في القرص. بالطبع، زوجة نانا، في الأسطورة السومريّة، كانت إلهة القمر ننكال. وككاهنة كبرى، مدّت إنهيدونا جسراً، أو ملأت الفراغ اللغزيّ بين الآلهة والبشر الفانين. في طقس الزواج المقدّس السنويّ تصبح إنهيدوانا ننكال، وتتهيّأ للقاء نانا في السرير المكرَّس في المعبد. وبسبب دورها كزوجة لنانا، فإنّها تدعى نن - دنكير، أي السيّدة التي هي إله.
هكذا تصف إنهيدوانا نفسها بطرق ثلاث على القرص. أوّلها، زوجة نانا في وصفها كاهنة كبرى. وثانيها، مخلوق فانٍ لأنها ابنة سركون ملك الجميع. وأخيراً، المحبّة والمخلصة لإنانا، والتي أهدتها منصّة.
كلّ قصيدة من قصائد إنهيدوانا الثلاث ("إنانا وابه" و"السيّدة ذات القلب الأعظم" و"تسابيح لإنانا") هي أغنية مديح لإنانا. ورغم أنّ واجباتها الكهنوتيّة والعامة انصبّت على الزوج القمريّ نانا وننكال، إلاّ أنّ عبادة إنهيدوانا الخاصّة كانت لإنانا.
لَصْق قطع القرص المتشظّية يعطينا، ليس فقط الدليل التاريخيّ على وجود هذه الكاهنة، لكن صورتها الحقيقيّة منحوتةً على مرمر، وهي تمارس طقساً عباديّاً لحبيبتها إنانا. هذه اللقيا النادرة، إضافة إلى اكتشاف شِعرها في ما بعد، تمثّل تراث امرأة قديمة من لحم ودم صارعت، كما يرينا شِعرها، من أجل أن تجد معنى لحياتها ومعاناتها. لقد تركت لنا إنهيدوانا سجلاً يشهد على قدرة إحدى النساء على فهم تقلّبات قدرها، وتحويلها من خلال عبادة تلك الإلهة المعقّدة إنانا. لقد زوّدتنا إنهيدوانا بلمحة خاطفة عن عالم خفيّ، تواجه فيه النسوة القديمات النسيج المغذّي لعبادتهنّ في شكل قرنّه بحميميّة مع أجسادهنّ - إلهاتهنّ.
قصّة حياة إنهيدوانا
بدأت قصّة إنهيدوانا قبل أن تولد: أصبحت أميرة، ثمّ كاهنة كبرى بفضل صعود أبيها سركون إلى السلطة، الذي هيمن على جميع أنحاء العراق القديم. وكي نفهم موقع إنهيدوانا في التاريخ علينا أن نفهم علاقتها بأبيها.
وُلدت إنهيدوانا في منزل هذا الرجل الطموح الكاريزماتيكيّ، وهي الابنة الوحيدة بين أطفال خمسة. ورغم أن سركون كان متزوّجاً بامرأة أكديّة تدعى تشلتم تتحدّث الساميّة، فربّما لا تكون هذه المرأة أمّ إنهيدوانا. فقد يكون لسركون زوجات أخريات، ومن المؤكد أنّ لديه محظيّات عديدات. يظنّ بعض الباحثين أن أمّ إنهيدوانا كانت سومريّة، وذلك بسبب قدرة الشاعرة إنهيدوانا الباهرة على استخدام اللغة السومريّة. لقد نشأت إنهيدوانا في وقت اتساع سلطة سركون السياسيّة، وكانت عودة أبيها من معارك يحرز فيها انتصارات في أرض أجنبيّة مشهداً مألوفاً لها كطفلة. لقد شهدت تملّق الشعب الأكديّ لأبيها، واحتفالات النصر في القصر. وعرفت أن أعمامها، وأبناء عمومتها، كانوا يحكمون ويحافظون على المدن التي فتحها أبوها الملك سركون. كما سمعت بأوروك وأور وأمَّه، وهي مدن في الجنوب كان يحكمها الملك لوكالزاكيسي، الذي قاتل جيش أبيها. لقد عرفت إنهيدوانا أن هؤلاء الناس كانوا سومريّين، أمّا هي فأكديّة.
نشأت إنهيدوانا وسط تطوّر خلاّق لبعض البنى الحضاريّة الأساسيّة في مجتمعها. لقد هيمن السومريّون على المنطقة لخمسمئة سنة قبل مجيء سركون، وصعوده إلى السلطة. كانت السومريّة اللغة المحكيّة الرئيسيّة، وقد ابتكر السومريّون الخطّ الصوريّ (الذي كان الأساس في الكتابة المسماريّة) وطوّروه. ويمثّل هذا الخطّ أوّل محاولة ناجحة لكتابة لغة تُستخدم في نواحي الحياة العامّة كلّها، اقتصاديّة وسياسيّة وأدبيّة ودينيّة. لقد حفّزت الحضارة السومريّة طاقات إبداعيّة كثيرة. في هذه الخمسمئة سنة التي مرّت قبل سركون، انتشر التأثير السومريّ في أنحاء العراق القديم كلّه وفي البلاد المجاورة. وعبد الناس، في هذه المناطق، الآلهة السومريّة، وبنوا المعابد والزقورات، وطوّروها، منشئين كمّاً من الأساطير والأغاني والقصص، التي كان معظمها متعلّقاً بأيّام الآلهة.
عندما جاء سركون إلى السلطة بشّر بتغييرات حضاريّة في طريقة الحياة السومريّة التقليديّة، خاتماً عهد السلالة المبكرة. فاستبدلت اللغة السومريّة بالأكديّة، كلغة محكيّة رئيسيّة. ولأوّل مرّة كُتبت اللغة الساميّة الأكديّة القديمة باستخدام الكتابة المسماريّة التي ابتكرها السومريّون. وفقدت المدن السومريّة التقليديّة سلطتها ونفوذها حين نقل سركون مركز السلطة إلى وسط البلاد في أكد.
هكذا أصبحت الطاقة الإبداعيّة في أيدي الساميّين. لقد استخدمت الألواح، والرُّقُم المكتوبة في هذه الفترة، الخطّ الجديد بطريقة اتّسمت، كما يصفها جي أن بوستكيت، بشكلانيّة وانتظام كبيرين. ويرى سي. جي كاد بأن الكتّاب من خلال استخدامهم الطين الناعم كتبوا الرموز المسماريّة بعناية وجمال ودقّة لا تضاهى، حتّى أتى الخطّاطون الآشوريّون، فشرعوا بالعمل على ألواح مكتبة آشور بانيبال. ووفقاً لبوستكيت حدث تغيير مدهش في نظام القياس والأوزان، والذي كان في الماضي يختلف من مدينة إلى أخرى: الآن وُحِّدت جميع مقاييس الطول، والمساحة، وحجم السائل، وسعة المادة الجافّة، وربّما الوزن، في نظام منطقيّ واحد استمرّ كمعيار رئيسيّ لأكثر من ألف سنة. لقد أصبحت هذه التغييرات ممكنة نتيجة قيام حكومة مركزيّة جديدة...
في خضم هذه التغييرات المثيرة، كبرت الأميرة إنهيدوانا، وأصبحت امرأة بالغة وسط المجد والثروة. وكإبنة للملك، لا بدّ لها من دور تلعبه في تحقيق التغييرات الهائلة التي ابتدأها أبوها، والذي عيّنها، في ما بعد، كاهنة كبرى لإله القمر نانا في المعبد في أور، بعيداً عن بيتها في أكد. وأثناء حياتها الطويلة، أصبح أحد أقاربها ملكاً. ووفقاً لميسل فإن سركون سنّ قانوناً ملزماً لمن أتى من بعده الى الحكم: الحفاظ على السلطة والنمو من خلال احتكار التبادل التجاريّ، وفرض الأتاوات. وقد ترك رميش، أخو إنهيدوانا الذي تولّى الحكم بعد سركون، نقوشاً يعلن فيها انتصاره على انتفاضة في مدن جنوبيّة، وعلى مقاطعة عيلام الشرقيّة، وتل براك في سوريا اليوم. ويُعتقد أن رميش قُتل على يد أخيه الأكبر وخليفته مانيشتوشو الذي قمع حركات العصيان في البلاد وفي الأراضي الأجنبيّة. لقد قتل مانيشتوشو أيضاً. وبحقّ كان ابنه نارام - سن حفيد جدّه سركون، إذ توّج عهده الاستثنائيّ بإعلان نفسه إلهاً. ويلاحظ كاد أن الوثائق الأكديّة لا تزوّدنا بأيّ دليل، أو أي إشارة تدلّ على هيمنة نظام اقتصاد المعبد السومريّ.
تألُّه نارام - سن وضع دور المعبد التقليديّ في مواجهة مع دور الملك. لقد استولى نارام - سن، بإعلان إلوهيّته، على أرض المدينة المكرّسة للإله، والأملاك التي كانت تقليديّاً وقفاً للمعبد. وما يزيد في تعقيد الصورة أنّ إله مدينة أكد هي الإلهة عشتار، أو إنانا الأكديّة. إذاً، الصراع بين الوسط الدينيّ ومعابده وأفراده من جهة، وبين الحكّام الدنيويّين الذين تمتّعوا بخمسين سنة من السلطة السلاليّة من جهة ثانية، هو دليل آخر على التحوّل في المؤسّسات الحضاريّة، وفي الوعي في تلك الفترة. وقد يكون رفع إنانا في قصائد إنهيدوانا إلى مكان مركزيّ بين الآلهة الأخرى رأياً منشقّاً احتجاجاً على تدخّل الملك في أمور الدين.
أخيراً، اتخذت إنهيدوانا وعياً جديداً للفرد، كما رأينا في الفنّ الأكديّ، وكتبت عن نفسها: "أنا، أنا إنهيدوانا". أرقّ المشاعر وأكثرها حميميّة ألهمت شعرها. استكشفت هذه الشاعرة الدور التحوّليّ الذي تلعبه المشاعر في الفرد. اليوم، ونحن في فجر القرن الحادي والعشرين، بدأنا للتوّ بفهم الثقل الحقيقيّ الذي تحمله الأحاسيس والصور في نفس الإنسان. لقد فتحت إنهيدوانا نفسها لهذه البواعث قبل أربعة آلاف سنة.
يتبع

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:25 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
الزوج القمريّ نانا وننكال
بذلت الكاهنة الكبرى السومريّة، وعمّال المعبد في أور، طاقات وموارد كثيرة من أجل العناية بسعادة الزوج القمريّ نانا وننكال. وبينما ظهرت الإشارة الأولى لنانا في عهد السلالة المبكرة، إلاّ أن الإله الذي دعاه السومريّون نانا إنما تقمّص دوراً متّخذاً صفات معقّدة تشكّلت، على الأرجح، في الماضي السحيق. ترينا النقوش والعلامات، التي أتتنا من العصر الحجريّ القديم على عظام الحيوانات وقرونها، أن أسلافنا راقبوا القمر بعناية كبيرة. وقد سُجِّلت مراحل القمر بدقّة على بعض اللّقى من هذا العصر. ويعتبر ألكسندر مارشاك، الذي فكّ مغاليق تلك العلامات، هذا النشاط جزءاً من الأسطورة العامّة لأولئك الناس. واعتماداً على هذه الملاحظة الدقيقة، يمكننا التأكّد من أن الناس الأوائل لاحظوا التوافق بين الدورة الشهريّة الحيضيّة للنساء من جهة، ودورة القمر ذات الـ29,5 يوماً من جهة أخرى. بالطبع، طرحت هذه المعادلة لغزاً محيّراً أمام أذهان أسلافنا النامية. ونظراً لوجود القلّة لهدايتهم، في التاريخ أو في الثقافة، فإنهم وجدوا أن الانسجام أو الاقتران بين النساء والقمر علامة مقدّسة للارتباط بالمجهول الذي يحيط بهم: هكذا أصبح القمر إلهاً أو إلهة معبودة، كما أصبحت النساء شفيعات، أو وسيطات يمتلكن سلطة روحيّة عظيمة.
كذلك كان القمر يُشاهَد، في أنحاء سومر كلّها، ويُرى ليليّاً لتعيين الشعائر والممارسات الطقوسيّة، ولحساب الوقت. كان يوم ظهور القمر الجديد "أُوساكار" مهمّاً وخاصّاً. ففي هذا اليوم من كلّ شهر كان يُقام عيد يدعى أش أش. وكان يقام هذا العيد أيضاً بعد منازل القمر الرئيسيّة: اليوم السابع واليوم الرابع عشر. اشتملت القرابين، التي تُقدّم لإله القمر، على الثيران والأغنام والحملان، كذلك على زنابيل التمر والرمّان وغيرها. وقد تضمّنت هذه الاحتفالات المنظّمة سجلاّت محفوظة بعناية لجميع النذور والقرابين. ونستطيع الوقوع على أهميّة هذه الاحتفالات في أور من خلال معرفتنا أنّ المعبد هو من كان يتحمّل أكلافها، إضافة إلى الملك والقادة الكبار وأعيان المدن الأخرى، والذين يتناوبون على تجهيز المستلزمات الضروريّة للاحتفالات الطقوسيّة هذه.
منازل القمر بعد البدر التمام لا يُحتفل بها. ويبدو أن القمر المتضائل يمثّل رحلة صوب العالم السفليّ، حيث زار نانا الربّ نركال، إله العالم السفليّ، فكتب وقدّر مصائر الموتى في يوم اختفاء القمر (المحاق يونا - آ): يوم اضطجاع القمر.
موضع القمر الجديد في السماء يبدو أفقيّاً في العراق، بينما يشابه مظهره في سومر تـاج نانا، أو قرونها. ولهذا فإن شكل القوارب الواسعة الانتشار، والتي تدعى في السومريّة ماكور (وسيلة النقل الرئيسيّة في أهوار الدلتا)، يكون على هيئة قمر جديد، في معنى أنّه ذو شكل هلاليّ. ويُعتقد أنّ نانا كان يركب قارب السماء الهلاليّ الشكل في مسيرته الشهريّة.
ما برح الباحثون يدرسون، وبشكل مفصّل، اكتشاف وولي لمجمع معبد إله القمر في أور. ورغم أنه لم تُفهَم بعد كيفيّة استخدام المباني، إلاّ أنّ إجماعاً عامّاً حديثاً يقول إنّ المجمع يحتوي على دكّة مرتفعة، وفوقها تنتصب الزقورة. أرض الدكّة المرتفعة، والمحاطة بجدار، تنقسم إلى فناءين دينيّين معزولين كما يصفهما هول: "أحدهما يشمل الجانب الشماليّ الغربّي كلّه من المرتفع، وهو ميدان نانا، والآخر يشتمل على الجهة الشرقيّة التي تعود إلى ننكال. الخطّ الفاصل بينهما، أو ربّما منطقة التقائهما، هي الزقورة في الوسط. والمعبد الذي انتصب في يوم ما من على قمّة الزقورة، كان ميدانهما المشترك، حيث يُعبَد الاثنان سويّة".
ظهور نانا في العام 2600 قبل الميلاد، كان أحد المرّات العديدة التي يظهر فيها إله القمر في تاريخ البشريّة. لقد راكم هذا الظهور من المعاني القديمة التي ربطت البشريّة بعبادة القمر. وكقمر يبزغ في الليل ويضيء الظلام، كانت ألقابه سمويّة وأرضيّة، "الفخور المبتهج يأتي من زرقة السماء، لابساً عرجون الهلال كتاج. وفوق الأرض كان هو الراعي الإلهيّ، كذلك العجل المرح اللعوب. وفي إحسانه كان يجود بالزبدة والجبن والقشدة على عباده المؤمنين". يعتقد ولفكان هيمبل أن بقرات نانا العديدات، في هيئتهنّ السمويّة، ظهرن كنجوم في السماء، وكان القمر راعياً، ما أدى إلى تسمية مجرّتنا بدرب اللبّانة (الطريق اللبنيّة).
ومثلما كانت إنانا إلهة كوكب الزُّهرة، كانت أيضاً الطفل الأكبر للزوج القمريّ نانا ونركال. ووفقاً لوصف إنهيدوانا، فإن إنانا هي المدّ والجزر في قلب الخطّة الكونيّة. ولذلك فهي رمز آخر، كالقمر، للنظام الطبيعيّ في التحوّل. وكخلاصة للتقلّب تضمّ إنانا بين ذراعيها الممتدّتين، في صورة واسعة، كلّ التناقضات والأضداد والتنافرات التي تشتمل عليها دورات الطبيعة في العالم: الندرة والوفرة، العنف واللطف، الموت والحياة.
بعكس إنانا، لم تكن إنهيدوانا ابنة القمر، لكن عروسه، مؤدّيةً دور ننكال في طقوس الزواج المقدّس. تماماً كما كتبت كاهنة كبرى، جاءت بعد إنهيدوانا، أنها امرأة بخواصر مؤهّلة في طهرها جديرة بالكهنوتيّة.
في طقوس الزواج المقدّس، تصبح إنهيدوانا ننكال، أي القمر الأنثى: لقد أعادت إنهيدوانا تمثيل اقتران الإله والإلهة، الأنثى والذكر، السماء والأرض، ذلك الاقتران الذي أنزل بركات الخصب والنجاح في السنة الجديدة.
العناية بننكال، كانت إحدى وظائف إنهيدوانا الرئيسيّة، والمحافظة على رضاها وتغذيتها كي تبقى كريمة مع الشعب.
ننكال التي مُثّلت، كما يبدو، على شكل تمثال إلهة، خُصَّت أكثر العناية التكريسيّة. وقد خُصّص معظم وقت الهيئة العاملة في المعبد وطاقتها، في سبيل العناية بالإلهة التي عاشت في حيّزها الخاص بها في المبنى المقدّس، الذي هو مأوى الكاهنة الكبرى؛ الكَيبار. يصف ويدك مساكن معبد ننكال بالقول: "تُحاط الباحة، أو البلاط المركزيّ، بغرف شبيهة بغرف البيوت الخارجيّة، لكنّ صفات أخرى أضيفت إليها، موجودة فقط في بيت الإله، منها مكان الغسل والوضوء، حيث يطهّر العابد أو الكاهن نفسه، قبل التوجه إلى المالك الإلهيّ للبيت. أيضاً، ثمّة قواعد تُنصب عليها أعمدة حجريّة تحيي ذكرى المنجزات الدينيّة لخدم كبار مثل الملك والأنتو. ودكّات، في إزاء الحائط، تُتّخذ كمقاعد لإداريي المعبد الإلهيّين، أو لمديري شؤون المعبد. تدلّ بعض الأشياء كجِرار الخزن، وحفرة الحائك، والجداول، والألواح الاقتصاديّة، على النشاطات المتنوّعة التي تتطلّبها عمليّة إدارة المُلك. والمَقْدِس تقابل الغرف التي تُشيّد جانبيّاً في البيت الخاصّ لصاحب المنزل. هنا جلست الإلهة على منبر، وتضرّع زوّارها متودّدين إلى تمثالها".
لعبت الإلهة ننكال دوراً مهمّاً في ديانة إله القمر في أور، المدينة الوحيدة التي تقترن بها. وفي نصوص متأخّرة كانت تدعى "أم أور"، بينما توجد تسبيحة لننكال ذُكرت في النصوص العتيقة من عصر الفارا حوالى 2500 قبل الميلاد.
رُسمت الدورة الحيضيّة الشهريّة لننكال، وكذلك الدورة الحيضيّة لإنانا. وكضرب من التحرّيات الكشفيّة، وجد كلوز وِلْك أن جذر الفعل "تحيض" إنّما هو في اسم إشارا، الإلهة عشتار- إنانا في خاصّيتها الأموميّة. ورغم أنها لم تكن أمّاً البتّة فقد أصبحت عشتار إشارا عندما ولدت في ملحمة الخلق الأكديّة المجيدة أثراهيسس. لقد وجد كلوز ولك أن جذر الفعل "رِش"، الذي يعني "تحيض" أو "تطمث" أو أن "يكون في المهد"، قُلِبَ في اسم عشارا إلى "شِر". أمّا الفعل الأكديّ القريب "هر اشتو" فمعناه: يربط أو يضمّد، ويستخدم للإشارة إلى الضماد بالملابس والأقمشة التي تستخدمها النسوة أثناء النزف الحيضيّ. الإلهات، كنماذج بدائيّة للنساء، حملن دورة القمر ذات 29,5 يوماً في أجسادهن. وقد لوحظت هذه العلاقة الخارقة بين دورة القمر ودورة الأنثى في طقوس الكثير من الحضارات. في كتابها "دم وخبز وورد" تعزو جودي كران أصل هذا الطقس، وحتّى منشأ حضارتنا وبدايتها، إلى اكتشاف أسلافنا التناسق والانسجام بين الدورة الحيضيّة ومراحل القمر. وتقارن جودي كران بين طقوس العزل والاعتكاف الحيضيّ التي دُوّنت في القرنين الماضيين من قبل جيمس فريزر، وجين سي كوديل، وماركريت ميد، وآخرين. لقد توجّب على المرأة الحائض، خصوصاً في أوّل طمث لها، الالتزام بمحرّمات ثلاث: ألا ترى ضوءاً، ولا تمسّ ماءً، ولا تلمس أرضاً أو تراباً. قوّة دم الحيض العظيمة، التي استلزمت هذه المحظورات، كانت تُعزى إلى تزامنها مع منازل القمر ومراحله. لذلك توجّب على المرأة القيام بممارسات تحتوي وتُسخّر عظمة هذه القوّة وروعتها، لجهة أن الآلهة يمكنهم التدمير بسهولة كما يمكنهم الخلق بسهولة. تطوّرت هذه الممارسات المبكرة إلى الطقوس الأولى. وتعتمد كران على قصص الطقوس الحيضيّة من جميع أنحاء العالم، وهي تتحدّث عن ممارسات متقنة مبتكرة استطاعت بواسطتها النساء احتواء اللغز.
هذا الطقس الكبير، الذي كانت تلقى من أجله ننكال العناية والاهتمام، هو الزواج المقدّس. يضمن هذا الاحتفال دوام خصوبة الأرض. لذلك ربّما أُقيم في بداية السنة الجديدة بعد الحصاد. تتمثّل ذروة هذا الطقس في لقاء الإلهة ممثَّلةً بالكاهنة الكبرى، والإله ممثَّلاً بالملك، في نكاح جنسيّ مقدّس. وهذا الفعل له قوّة، على ما يذهب السومريّون، تقدح الشرارة لإعادة توليد الحياة الزراعيّة كلّها.
يتبع

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:25 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
إنهيدوانا كمفسّرة أحلام
وظيفة رئيسيّة أخرى للكاهنة الكبرى تتلخّص في كونها قناة لإيصال الرسائل والوصايا من الآلهة: في الليل تستلم الكاهنة الكبرى، في نومها، ما تدعوه إنهيدوانا هديّة ننكال من الأحلام. بعد ذلك تُفسّر كيفيّة تعلّق هذه الأحلام بالأفراد، أو بالناس ككلّ. في سومر تُعتبر الأحلام النبوئيّة بمثابة رُسُل إلهيّة مهمّة. ثمّة نصّ من نصوص الزواج المقدّس يصف كيفيّة الطلب من إنانا الاستلقاء والنوم أمام ربّ تموز الشخصيّ، ربّما للحصول على رسالة في حلم. ويرى أحد الباحثين أنّ الإشارات النصّية لوضع الاستلقاء، أو الاضطجاع، بالإضافة إلى صلتها بالزواج المقدّس، تقترن في صورة كبيرة بالأحلام. ويرى هالو وفان دجك أن ننكال كمثل إلهات أخريات يُعرَفن كنصيرات وراعيات لتفسير الأحلام، وأن ذِكر الأريكة الطقوسيّة (حرفيّاً الأريكة المشرقة المثمرة) يُشير إلى طريقة، أو تقنيّة معيّنة لإثارة الاستجابة الربّانيّة الإلهيّة. وعلى هذه السنّة تستمرّ إنهيدوانا في فكّ رموز الأحلام التي أرسلتها ننكال. وبالرغم من عدم وجود أمثلة دقيقة مطابقة لكاهنة كبرى وهي تلعب هذا الدور، يؤكّد هالو وفان دجك أنه، على الأقلّ، جدير بالذكر الدور الكبير نسبيّاً الذي لعبه تفسير الأحلام المشهود له في الأمثلة السومريّة للكهانة مقارنةً بدورها المتواضع نسبيّاً في الذخيرة الهائلة للطرق التنبّوئيّة التي جاءت في ما بعد.
كانت ننكال (إلهة القمر) ابنة ننكَيكوكا (إلهة القصب) وأنكي (إله الحكمة والمياه العذبة). ويعتقد جاكسون أن ننكال ربّما تكون أيضاً إلهة القصب. وبهذا النسب كانت ننكال في البيت بين القصب على حافّة الأهوار المحيطة بالنهرَين العظيمين دجلة والفرات. والقصب يملأ الدلتا، حيث يلتقي النهران في رأس الخليج الفارسيّ. هذا المأوى المائيّ يلائمها جيّداً كي تصبح الإلهة التي تُرسل الهبات كأحلام. تقول إنهيدوانا نائحة:
"ليس لي أن أبسط يدي
من السرير المقدّس النقيّ
ليس في قدرتي أن أفسّر
هبات ننكال من الأحلام
لأيّ أحد".

ننكال، التي يعني اسمها "المرأة العظيمة"، تهيم في تلك المنطقة الفاصلة بين الأرض اليابسة، والأعماق المائيّة للأنهار. وفي ذلك المكان الانتقاليّ، بين الوعي الصلب واللاوعي الوحليّ، تبزغ الأحلام. ننكال هي التي تحوك هذه الأحلام، وتجوب الأهوار تحت نور القمر، نور زوجها القمر نانا، لتفتح صنبور لعبة الصور الخياليّة الخصبة في الظلام الذي يشكّل الأحلام، التي تُرسلها، بعد ذلك، إلى كاهنتها الكبرى التي بدورها، ومن خلال موهبتها ومهارتها، تقوم بتفسيرها.

مكانة إنهيدوانا في التاريخ
المثال الذي وضعته إنهيدوانا أثّر على تقليد الكاهنة الكبرى في أور لخمسمئة سنة لاحقة، قام خلالها الملوك الذين تتابعوا بتنصيب بناتهم وأخواتهم على الوظيفة الكهنوتيّة الكبرى. لقد استحدثت إنهيدوانا تقليداً رفع الوظيفة الكهنوتيّة الكبرى إلى مكانة عظيمة ومبجّلة. وكان جلال الكاهنات في أور يصل إلى درجة احتفاظهنّ بوظيفتهنّ لدى حدوث التغيير السلاليّ في الحكومة المدنيّة في المدينة. وقد أحرزت إنهيدوانا نفسها تأليهاً حقيقيّاً في الثيولوجيا المتأخّرة. فقد دُفنت هي وغيرها من الكاهنات الكبريات، في مقبرة خاصّة بجوار الكَيبار في أور. ويبدو أنّ هذه المكانة الخاصّة التي حصلت عليها الكاهنات الكبريات، حتّى بعد وفاتهنّ، كانت موجودة مبكراً في التاريخ السومريّ: تشير النصوص إلى وجود أعياد معيّنة مكرّسة ومهداة إلى "الراقدات"، وثمّة سجلاّت تشير إلى أن هدايا الجبن والزبدة والتمر والزيت قُدِّمت إلى الكاهنات الكبريات المتوفّيات. كما أن بعضهنّ قد عُبد في مراقد، أو مزارات صغيرة في معبد ننكال. وبعد وفاة إنهيدوانا بثلاثمئة سنة، رمّمت كاهنةٌ كبرى، تدعى إنانيدو، المقبرة تاركةً هذا الإهداء: "في ذلك الوقت - وبالنسبة إلى غرفة الطعام التي نُصبت فيها رموز أورنو، اليوم المشؤوم للكاهنات الكبريات القديمات - الجدار لم يحط بالمكان. تُركت الثغرة فيه كما هي، كصحراء قفر، لم تُنصب عليه حراسة، ومكانه لم يُنظّف. أنا بعلمي العظيم بحثتُ عن غرفة المقادير المقبلة. أنا حقّاً اتخذت مكاناً مقدّساً أكبر من المكان الذي كان مرقد الكاهنات الكبريات القديمات. حقّاً أحطتُ مكانه الخرب بجدار عظيم، ووضعت حراسة قويّة هناك، ومكانه أنا انتقيتُ حقّاً".
يؤكّد إهداء إنانيدو أن الكاهنات الكبريات اللواتي جئن قبلها قد احتللن مكانة عالية.
لقد أصبح شعر إنهيدوانا جزءاً من الآثار الأولى في الأدب السومريّ، والتي تمّ تبنّيها واستخدامها في مدارس النُّسّاخ في المعبد خلال العهود السومريّة الجديدة (1900 - 2200). وقد وُجدت نسخ عدّة لكتابات إنهيدوانا، لم تزل باقية إلى يومنا هذا، بسبب النُّسّاخ المتعلّمين في العهود السومريّة الجديدة، وكذلك تلامذة مدارس النسخ البابليّة القديمة، الذين نسخوا عمل إنهيدوانا وهم يتعلّمون مهنة النسخ والكتابة.

قصائد إنهيدوانا وتسابيحها
كان يمكن لإنهيدوانا، لولا كتاباتها، أن تظلّ مجرّد اسم على لائحة الكاهنات الكبريات في أور كبقية بنات الملوك اللواتي اعتلين منصب الكهنوتيّة الكبرى لخمسمئة عام. في التنقيب الأركيولوجيّ يُعتبر العثور على ثلاث قصائد طوال لإنانا، وثلاث قصائد لنانا، واثنتين وأربعين تسبيحة لمؤلّف واحد، بمثابة العثور على منجم ذهبيّ للمعلومات الفنيّة. ولأن مؤلّفاتها الجميلة دُرِّست ونُسخت ورُتّلت لأكثر من خمسمئة عام بعد وفاتها، يدعو تكفا فريمر - كينسكي إنهيدوانا بشكسبير الآداب السومريّة القديمة. النصوص الأدبيّة من الفترة السركونيّة هي الأولى من نوعها التي يمكن قراءتها بطلاقة وسلاسة. ولأن كتابات إنهيدوانا كانت من بين تلك النصوص المبكرة الأولى، فإن قصائدها جزء من النصوص الأدبيّة الأولى المعروفة في التاريخ.
لقد عُرفت الكتابة واستُخدمت في سومر حوالى ستمئة سنة قبل أن يحدث تغييران مهمّان يفتحان الطريق للغة المكتوبة كي تُعبّر عن الفوارق الدقيقة في اللغة المحكيّة. قبل هذه الابتكارات، كانت النصوص تميل إلى أن تكون مجرّد أسماء تُنظَم سويّة. أولى هذه التغيّرات سمحت للعلامات المسماريّة السومريّة، التي كانت وبشكل طبيعيّ تُعبّر عن الكلمات بأكملها، أن تُستخدَم للإشارة إلى المقاطع اللفظيّة. وبذلك ازداد، في صورة كبيرة، عدد الكلمات المحكيّة التي يمكن كتابتها. هذا التوسّع في مدى التعبير سرعان ما أدّى إلى تطوّر ثانٍ، هو استخدام علامات معيّنة للتعبير عن بعض العناصر النحويّة مثل زمن الفعل، والشخص، أو الفاعل. وقد ساعد كلا التطوّرين على القيام بعمليّة تطوير معجم مفيد من المفردات. وثمّة مكتبة كبيرة، من النصوص التي تعكس هذه التغيّرات، عُثر عليها في أبو صلابيخ، وهي مدينة صغيرة شمال نيبور: لقد عُثر هنا على أقدم النصوص الأدبيّة القديمة، والتي تعود إلى حوالى 2500 قبل الميلاد، والتي تحتوي تعاويذ ورُقىً سحريّة، وتسابيح للمعابد، وأساطير حول الآلهة، وأدب الحكمة. وهذه الترانيم القديمة المُشار إليها تمثّل بشيراً لترانيم المعبد التي كتبتها إنهيدوانا بعد حوالى مئتي عام.
يذهب تراث إنهيدوانا إلى أبعد من كونها المؤلّفة الأولى في تاريخ الآداب: النابغة والأديبة العبقريّة التي لم تؤثّر على وظيفة الكاهنة الكبرى في أور فحسب، لكن أيضاً على الثيولوجيا واللاهوت السومريّ. وبتعبير حديث، يمكن القول إنها أثّرت على سيكولوجيا عصرها، والأجيال التي أتت من بعدها. لذلك يدعوها هول بأنها أبرز شخصيّة في تلك الحقبة، وربّما الأبرز في أيّ حقبة من تاريخ ديانة إله القمر في أور. وصلت إلينا معظم أعمالها في نُسخ مصنوعة في الحقبة البابليّة القديمة (حوالى خمسمئة سنة بعد وفاتها). شهرتها الفائقة يشهد لها عدد النسخ الموجودة الآن لتسابيح إنانا، إذ يوجد لدينا حوالى الخمسين نسخة منها. ويرى هالو وفان دجك أن نتاجاتها الشعريّة، ولا بدّ، قد استُخدمت كنموذج لكَتَبَة التسابيح في الأزمنة اللاحقة.
يتبع

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:26 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 

تسابيح المعبد

الاثنتان والأربعون ترنيمة لا تؤكّد فقط القدرة الإبداعيّة لإنهيدوانا الشاعرة، لكنّها تقدّم أمثلة مثيرة للممارسات الطقوسيّة، والفهم السومريّ للآلهة وللإلهات واللاهوت العراقيّ القديم. لم تُكتب التسابيح لإله المعبد، أو إلهته، لكن للبيت المقدّس نفسه، ألـ - إِ، أو الإيكال حيث عاشت الإلهة، أو الإله. في "تسابيح المعبد" يُحمَد المعبد في صور مختلفة: المزار المائيّ، أسد البراري العظيم، جامع قوى السماء، تاج السهوب العالية، البقرة الوحشيّة، سرّة الأرض والسماء. في إحدى هذه التسابيح تصف إنهيدوانا معبد إيبابر، معبد إله الشمس أتو، فتقول:

"قرونك المشرقة فضّة

لحيتك اللازورديّة اللامعة

تتدلّى بإسراف".



... بعض العبارات في هذه التسابيح تبدو مدهشة لجهة تمركزها حول المرأة وانحيازها إليها. ولا نعرف ما إذا كان ذلك ناجماً عن كون إنهيدوانا امرأة، أو بسبب الحضارة، التي بفضل قربها الروحيّ من الأرض، وهي تقليديّاً بمثابة ملكوت الإلهة، قد دمجتها بحساسيّة أنثويّة. لم تكن صور القوى الأنثويّة شائعة في النصوص الدينيّة إلى درجة أنها كانت تحتاج إلى توضيح، رغم أنّ هذا الخيال الصوريّ قد يكون عنصراً طبيعيّاً في حضارة فيها تماثيل للإلهات. على سبيل المثال، في التسبيحة السادسة لمعبد الإلهة شوزيانا تقول الشاعرة:

"بذرتْ زهوراً بغزارة

في موقعك النيّر

البيت الموصد الشامخ

للنساء المخلصات".



وفي تسبيحة لننهُرساك، الإلهة الأمّ في سومر، تقول عن المعبد: "إن داخلكِ رحماً عميقة مظلمة". وفي التسبيحة الخامسة عشرة تصف معبد كيشباندا بالقول:

"ثدي الأمّ مرعب ومكان أحمر

مُصان في الرحم المظلمة".



أمّا تسبيحة إنهيدوانا الثامنة لمعبد نانا في أور، الأكيشنوكال، فهي مثيرة ومدهشة في صورة خاصّة، لأنها تقيم في الكَيبار الذي يُذكر في التسبيحة، التي نثبّتها كاملةً ههنا:

"يا أور

تتناسل ثيراناً واقفة

في أجمة الماء والقصباء

الصخرة البيضاء أكشنوكال

عِجل بقرة عظيمة

آكِل الحبّ في السماء المقدّسة

بقرة وحشيّة أحبولة نُصبت على عشّ

أور

أوّل آكل ثمار في الأرضين

مزار في المكان النقيّ

أوّل قطعة أرض لآن

يا بيت سيون

الأميريّ يليق ببابك الأماميّ

الملوكيّ يليق بحائطك الخلفيّ

عيدك تسبيحة أدا

الطبول المقدّسة وأوب معدنيّ والآلات المغطاة بالجلود

تملأ مآدبك

ضياؤك الفيّاض

ربوبيّتك المخلصة

أشياء نفيسة

في الكَيبار، غُرف الكاهنات

ذلك المزار الفخم للنظام الكونيّ المقدّس

يتابعون مرور القمر

ضوء القمر المتضائل ينتشر على البلاد

ضوء النهار الجارف يملأ كلّ بلاد

أيّها البيت

وجهك المشعّ

أفعى عظيمة في هور القصب

أساسك

أيّها المزار

الأبسو الخمسون

البحار السبعة

يفحص الأعمال الباطنيّة وما تخفي صدور الآلهة

أميرك

مالك الأمر

تاج السماء العريضة

هو أشمبابار

ملك السماء

يا مزار أور

بَنى هذا البيت على موقعك المشرق

وشيّد مقعده على منبرك".



الاثنتان والأربعون تسبيحة دلالة على منزلة إنهيدوانا الرفيعة، وأهميّتها في مدن عدّة، إضافة إلى أور حيث عاشت، وأوروك المحاذية التي ربّما تكون قد أدّت فيها وظيفة الكاهنة الكبرى. ويلخّص الباحثان هالو وفان دجك موضوع التسابيح كالآتي: "ترينا تسابيح المعبد أنّ إنهيدوانا عالمة لاهوتيّة ثيولوجيّة منظوميّة متضلّعة بخفايا المعتقدات السومريّة، وقادرة على تبنّيها من وجهة نظر جديدة".

يتبع

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:27 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
قصائد إنانا الثلاث
لقد مرّت أربعة آلاف سنة منذ أن كتبت إنهيدوانا قصائدها هذه. تجمع الشاعرة في وصفها، جنباً إلى جنب، جمال الإلهة ورقّتها، وعنفها وقوّتها الصاخبة. هذا التناقض مروّع ومدهش. عين العقل غير معتادة على مشاهد دمويّة من صنع إلهة. ونحن لا نكاد نفهم، أو نتخيّل إلهة ذات رغبة دمويّة كهذه. إنانا شريرة في هجماتها، وصارمة لا تلين في مطالبها.
كانت إنهيدوانا شاعرة متّقدة ذات بصيرة نافذة، عاشت في مستهلّ تغيّر حضاريّ هائل. قبلها وبعدها جاءت حضارات متعدّدة متعاقبة ظلّت لآلاف السنين تفهم نفسها على أنها مشدودة إلى النسيج الكونيّ لآلهة الخصوبة وأخواتها. لقد عبّرت إلهات العصر الحجريّ الحديث في العراق القديم، عن تجربة المقدّس بطرق متنوّعة. بعضهنّ، كما في جارمو وحلف، كنّ أوعية الخصوبة الممتلئة. وعلى النقيض من ذلك، تظهر الإلهة الساماريّة راقصة مع عقربها على الأنغام الغريزيّة للطبيعة الوحشيّة. أمّا إلهة العبيديّين، ذات الرأس الأفعوانيّ، فإنها ترفع طاقة الأفعى، ذلك الحيوان الأرضيّ الذي يحوّل نفسه باستمرار من خلال سلخ جلده. الأرجح أن إلهة الحيوانات ظهرت في أشكال متعدّدة في الخزف الحلفيّ: مالك الحزين، الثور، الزرافات، الأفعى. في العصر الحجريّ الحديث، وُجد عالم المقدّس في العالم الطبيعيّ، وفي عمليّاته المستمرّة كالولادة والنمو والموت. ولم تُصنّف المعتقدات السلفيّة في ديانة العصر البرونزيّ، إلاّ أن مبدأ انغماس الطبيعة بالإلهيّ كان افتراضاً حيويّاً في النصوص السومريّة المقدّسة، والممارسات الطقوسيّة. وثمّة اعتقادات مشابهة كوّنت لبّ الدين السومريّ والتركيبة الأساسيّة التي من خلالها يُعرَف بانثيونه. وخلال الألف سنة التي مرّت على وفاة إنهيدوانا، حدث تحوّل في دين الشرق الأدنى: لقد أصبح الآلهة الذكور أكثر بروزاً في البانثيون، وأحياناً اتخذوا أسماء الإلهات الأُوَل وقواهنّ. وفي ما بعد، خرج إبراهيم من أور، مدينة إنهيدوانا في جنوب العراق القديم، وجاء بقيادة يهوه إله العبرانيّين. ولد إبراهيم حوالى العام 1700 قبل الميلاد، وأمضى سنواته الأولى في أور الكلدانيّة، وليس من شكّ في أنه أمضى بعض الوقت في المعابد السومريّة مع عائلته وأصدقائه الفتيان. ويتابع بوسكيت رحلة إبراهيم بالقول:
"تحرّك إبراهيم من أور الكلدانيّة في أقصى الجنوب السومريّ، على طول الفرات حتّى أعاليه في ناهور، في مكان ما على منابع نهر الخابور. وسار بعد ذلك إلى الجنوب الغربيّ صوبَ فلسطين في تطواف جدير ظاهريّاً بالتصديق في سياق أوائل الألفيّة الثانية قبل الميلاد".
وسواء أكان ذلك حقيقة أم أسطورة، فإن القصص المتعلّقة بأصل إبراهيم تشير إلى وجود صلة مباشرة ما بين الأسطورة السومريّة والقصص الإنجيليّة. كما أنها تشير إلى وجود مصدر لمنشأ الكثير من المتشابهات الإنجيليّة. وفي هذا الصدد يقول كريمر: "من المحتمل جدّاً أن يكون ثمة دم سومريّ في أجداد إبراهيم الذين عاشوا لأجيال في أور، أو في بعض المدن السومريّة الأخرى. باختصار، قد يكون الاحتكاك السومريّ - العبرانيّ أكثر حميميّة مما يُعتقد اليوم. والقانون الذي ظهر وانتشر من صهيون (أشعيا 2: 2) ربّما يكون ضارب الجذور في التراب السومريّ".
في الألفيّة الأولى قبل الميلاد، تطوّر الإله العبرانيّ متّخذاً صفة توحيديّة، رغم أنه، كما يدلّ عليه اسمه: ألوهيم، والتي تعني حرفيّاً: آلهة، حافظ على صيغة التعدّد أو الجمع. لم يكن هذا الإله في الطبيعة، بل كان منفصلاً عنها. يتمتّع بممارسة إرادته، والطبيعة تستجيب لأوامره. يمثّل هذا الوعي الجديد قفزة هائلة للمخيّلة، بعيداً عن العالم الماديّ. سير الحياة في المادّة أصبح أمراً ثانويّاً مقارنة مع سيطرة الإله ذي القدرة الكلّية. لهذا فإن الانقسام ما بين الطبيعة والإله حدث بصورة نهائيّة. وبوضوح أكثر، كان ذلك حدثاً مهمّاً في تطوّر الوعي، وكان هذا الفهم للإله انتقالاً راديكاليّاً من الاعتقاد بالوجود الإلهيّ في المادّة.
لقد مرّت قرون عاش خلالها هذان النوعان من الفهم للإلهيّ جنباً إلى جنب. الممارسات الدينيّة الكنعانيّة، والتي حملت شبهاً كبيراً للممارسات الدينيّة في العراق القديم، وجدت طريقها إلى المعابد العبريّة. لقد بُنيت أعمدة للإلهة أشيرا في الحرم المقدّس. وفي حقيقة الأمر، عاشت كاهنات الإلهة في المعبد، وهناك حكن ثياب أشيرا، مثلما حكن ثياب إلهة القمر في كَيبار إنهيدوانا في أور. شعر إنهيدوانا يمكن أن يُرى على أنه توكيد، أو إعادة توكيد لدين الآلهة القديمة، والقديمة جدّاً. إلهتها إنانا تحارب أيّ محاولة للشكّ في تفوّق الطبيعة، وأوّليّتها كجسد الإلهة. في قصيدة "إنانا وأبه" يظهر هذا الصراع واضحاً وجليّاً. جنّة عدن على سفوح جبل حمرين تهدّد بهزيمة إنانا والإطاحة بها. آن، إله السماء وأعظم مناصري إنانا، ينحني أمام عالم أبه المثاليّ غير الطبيعيّ الخالي من الصراعات. إن إغراء أبه لآن يسبق إغراء يهوه لآدم وحواء بأن جنّته لهما مقابل طاعتهما له. هذه الجنّة ليست الطبيعة التي تحكمها إنانا على الإطلاق. وإحساساً بالخطر من الآلهة، الذين يتوقون إلى الفردوس مثل آن وأبه، تُعلي إنهيدوانا إنانا فوق جميع الآلهة السومريّة.
في القصيدة الثانية "السيّدة ذات القلب الأعظم" (راجع الصفحتين 6 7) تؤسّس إنهيدوانا، أو تبرهن على أن الإلهة إنانا هي التعبير الأسمى عن حقيقة الكون. هذه القصيدة هي أتمّ سرد مكتشف حتّى اليوم عن أديان سلفيّة كانت الآلهة الرئيسيّة فيها إناثاً.
بالنسبة إلى قصيدة إنهيدوانا الثالثة، "تسابيح لإنانا"، فهي هاجس داخليّ، وتحذير استباقيّ لهزيمة إنانا الوشيكة الحدوث. ففي هذه القصيدة تُنفى إنهيدوانا من منصبها في المعبد، وتُطرَد إلى البرّيّة من قبل كاهن، أو ضابط مغتصب. ورغم أن إنهيدوانا في النهاية تستعيد مكانتها ككاهنة كبرى، إلا انها تتوقّع، في صورة دقيقة، الإطاحة بإلهتها.
في بداية الألفيّة الجديدة، لا تزال البشريّة تعاني من الفصل بين الروح والمادّة. الانقسام الذي أحدثه يهوه، وإضافات المسيحيّة المتأثّرة بالإغريقيّة، إضافة إلى انفصال الشرّ والخير، منح عقلية تناقض النور - الظـلام، التي تعمّ نفوسنا، شرعيّتها.
الأديان التوحيديّة المهيمنة علّمت الأجيال، وبصورة فاعلة، أنّ الشرّ يقع خارج نفوسنا، وأنّ الشيطان موجود في الآخرين. لقد تعلّمنا أن ننكر إمكان قيامنا بالشرّ. الفصل بين الخير والشرّ، من قبل العبرانيّين، وبعد ذلك من قبل المسيحيّة، كان يسانده النظام الإغريقيّ للفكر المنطقيّ، والذي حلّ أخيراً محلّ أولويّة الطبيعة والأسطورة. لقد استخدم الشاعر جارلس أوسلون، الذي ترجم الشعر السومريّ، قول هيراكليتس، "الإنسان غريب عن أكثر الأشياء ألفة إليه"، للتعبير عن اعتقاده أن رجال ما بعد الحداثة ونساءها يمكنهم اكتشاف صلتهم بالطبيعيّ الأكثر ألفة وتنشيطها. كما أنه يشكو من "الفرد كذات... هذا الافتراض الفريد، الذي بواسطته أدخل الرجل الغربيّ نفسه بين ما هو كائن خلقته الطبيعة، وبين مخلوقات الطبيعة الأخرى".
يصرّ شعر إنهيدوانا على أن نرى الجانبَين، المضيء والمرعب، من الأعمال التي يمكن الإنسان القيام بها. تذكر إنهيدوانا أن الطبيعة هي نور وظلام، وبمعرفة ذلك نحن نتوقّع النور والظلمة. والأهمّ أن نبدأ بتمييز هذه الثنائيّة الاستقطابيّة في نفوسنا. تقدّم إنانا صورة واقعيّة جدّاً عن طبيعة الإنسان. فقط عبر اعترافنا بقدرتنا على القيام بالشرّ يمكننا أن نتعلّم احتواءه والسيطرة عليه.
... في السنوات الثلاثين الماضية تصوّرت النساء ديناً متمرّكزاً حول عبادة الإلهات، فبدأنَ برتق دين قديم حقيقيّ شكّلت الأنثى قلبه. والآن أنهينا للتوّ كتابة شيء حول امرأة امتدّ تراثها الدينيّ إلى العصر الحجريّ الحديث. في ثقافة العالم الغربيّ أبّدت الأديان المهيمنة الصمت الذي أحاط بنا أربعة آلاف سنة، والآن يحطّم صوت إنهيدوانا هذا الصمت. لقد كشف علماء الآثار عن آلاف الصور لإلهات من العصر الحجريّ القديم والحديث والعصر البرونزيّ. وبناءً على هذه اللقى والاكتشافات، بدأت النساء برتق ماضٍ ثقافيّ كانت فيه مكانتهنّ الاجتماعيّة تختلف كثيراً عمّا هي عليه اليوم، لجهة أنها مُستمدَّة من الدين الذي عُرِّفت فيه الأنوثة بصورة جليّة، والذي كان دورهنّ فيه مركزياً.
كتابة إنهيدوانا هي وصف شعريّ لمدى الأنوثة الكامل. كتابة لها بعدٌ ذو طراز بدائيّ، ولذلك هي لا تصوّر امرأة واحدة بعينها، بل تعطينا جميع الإمكانات المعقّدة التي تحتلّ المساحات الشاسعة في اللاوعي. أعماق اللاوعي مصدر حيويّ، وقد تغرف منه النساء وفقاً لحاجاتهنّ وميولهنّ. شعر إنهيدوانا هو دعوة لتوسيع تعريف المرأة في إطارٍ تصوّره كتاباتها بصورة نابضة بالحياة.
في "تسابيح لإنانا"، تُطرَد إنهيدوانا بصورة وحشيّة من مكانها في الكَيبار، وتفقد مكانتها ومنصبها ونفوذها، لكنها لا تفقد صوتها: تبقى ملتزمة مبادئها، داعيةً المنشدين أن يغنّوا أغنيتها في ضوء النهار، كما تصرّ على أن تحافظ إنانا على عهدها. وفي النهاية تستعيد إنهيدوانا مكانتها.
على جميع الهِبات التي منحتها لنا نقدّم جزيل شكرنا لإنهيدوانا، ونشترك معها في تسابيحها: "إنانا أيتها البتول/ حمدكِ جميل".

أرب جمـال 1 - 1 - 2013 11:28 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
قصيدة "السيّدة ذات القلب الأعظم"
تُعتبر هذه القصيدة البيان الكامل لثيولوجيا إنهيدوانا. وبخلاف القصيدتين الأخريين، لا تحتوي على قصّة ما، أو حكاية، لكنها تبدو مجموعة مهلهلة النسج من ترانيم لإنانا. فقط في نهاية القصيدة تخبرنا إنهيدوانا عن غرض كتابتها، فتقول إنها مرّت في فترة طويلة من المعاناة التي يمكن لإنانا فحسب أن تسبّبها لها. لذلك تتساءل عن دوافع إنانا وهواجسها: كيف تعذّبها على هذه الشاكلة، وهي من أكثر عابديها إخلاصاً لها؟ تُقسم هذه القصيدة إلى أجزاء خمسة. الجزء الأوّل عبارة عن ابتهال لقوى إنانا المروِّعة، يحتوي أغنية موت رهيبة. الجزء الثاني يصف طقساً يدعى إدارة الرأس، أو انقلاب الرأس. هذا الطقس، الذي ابتكرته إنانا، يُكرَّس فيه رجل وامرأة (مخنّثان) كخادمين مقدّسين في معبد إنانا، يؤدّيان دورهما ككاهنين للنواح ينشدان من أجل تهدئة قلب إنانا المضطرب. يتألّف الجزء الثالث من مجموعة من الأبيات الشعريّة التي تنتهي جميعها بعبارة "لك إنانا". تُعدّد إنهيدوانا مساحات في حياة الإنسان تسيطر عليها إنانا، وفي ذلك تفصيل للمي: مي الإلهة. في كثير من هذه المساحات تلوّح إنانا بقوّتها مؤثّرةً في العالمَين: العالم الخارجيّ لشؤون البشر، وعالم أعماق النفس الإنسانيّة. بعد ابتهال "هو لك" تستمرّ إنهيدوانا في تلاوة قوى إنانا، لتتحدّث، في الختام، عن مصيبتها: "أنا، أنا إنهيدوانا"، ذاكرةً إلهتها، متوسّلةً إليها كي تضع حدّاً لمعاناتها الشديدة التي ابتلتها بها. ينتهي هذا الفصل الختاميّ بإعادة الصوغ والتصريح ثانية بإخلاص إنهيدوانا غير المنتهي... ترنيمة أخيرة للحمد.
السيّدة ذات القلب الأعظم
متّشحة بالضوء الساطع
ملكة متحمّسة للمعركة
بهجة الأنونا
ابنة القمر الكبرى
عالية في الأرضَين
تشمخ بين الحكّام العظام
ملكة المآثر الفريدة
تقطف المي
من الأرض والسماء
تفوّقت على آن العظيم
من بين الآلهة كلّها لها القوّة
أحكامهم تضمحلّ
أمام كلمتها التي لا مثيل لها
تزحف أمامها آلهة الأنونا العظيمة
وتنكسر
يجهل آن خطّتها
لا يقف أبداً ضدّ أمرها
هي متقلّبة وخفيّة
تكمل المي العظيمة
وتجعل القوى من دون عيوب
هي الأولى بين الآلهة
تسحب بيديها بُرَة الأنف
ملزمة خشبيّة هي
تقرص الآلهة
خوفٌ يومض فيُكفّن الجبل
يُخْرِس الطرق
تصرخ
الآلهة ترتجف وتضطرب
والأنونا ترتعش
تجثم مثل قصبة مُنحنية
على زئيرها الدم - دام
الأنونا يهربون ويتوارون
من دون إنانا
آن يتردّد
أنليل لا يمكنه تعيين الأقدار
من يجرؤ على تحدّيها
ملكة شامخة الرأس
أعظم من الجبل
تتحدّث...
مدن تستحيل خرائبَ مهجورة
تسكن بيوتها الأشباح
ومزاراتها تمحل
العفاريت ترمي حبال الفخاخ
الأجساد تحترق بلهب مبثّر.
من يعصِ تطارده
تُصِبْ عينيه بالدوار
تقاتل وتشتبك
أو تنشئ الأعاصير
هي الوحيدة الرائعة التي
القتال لعبتها
لا تملّه ولا تتعب
هي لا تتعب أبداً
تعدو خارجاً
تشدّ صندلها.
زوبعة ريح محاربة
تمتطي إعصاراً
تُمزّق ثوب الملك
ريح غباريّة جنوبيّة جافّة
تهبّ على مسكنها
في عقابيلها
تثير يأساً يملأ الصدور.
اللبؤة إنانا
تربض في أجمة القصب
تقفز لتمزيق الذي لا يخشاها.
قطّة الجبل الوحشيّة
تجوس خلسة على الطرقات
تكشف عن أنيابها التي تقطر
تصرّ بأسنانها
ملكة الثور الوحشيّ
سيّدة ذات عضلات قويّة
لا أحد يتجرّأ على الهروب منها
أعظم من جميع الحكّام العظام
حفرة فخّ للعنيد الجموح
حبل مصيدة للشرير
حيث تنفث السمّ
يتفجّر القتال
هياجها المنقلب
غيظ امرأة مقدّسة
طوفانٌ ثائر
لا تسدّه الأيدي
قناة تطفح بالماء
تغمر الطريق
تُغرق الذي تبغض.
السيّدة النسر
أجنحتها الشيطانيّة تخفق فوق الأراضي الأجنبيّة
الذين تمسكهم
لن يفلتوا منها أبداً
السيّدة الصقر
تضرب
إسطبل الحيوانات
تذبح الأبقار والثيران
ويلٌ للمدينة التي تعبس لها
حقولها ممحلة
الملكة ترقص في حرثها
الحشائش تنبت في آثار أقدامها
حتّى لو أراد
آن لا يستطيع أن يفعل شيئاً
سيّدة نار الأجمة
تحرق السهب العالي
سيّدة المعركة الحامية
تضرب عدوّها حتّى يستسلم
هي
وسط الدمار
تصرخ في الجلبة
تبدأ أغنيتها المقدّسة
أغنية نُقشت بعصا
تنقش خطّتها التي لا تُمحى
تغنّي
خبزها عويل
حليبها بكاء
خبز الموت وحليبه
يا إنانا
خبز الموت وحليبه
الذي يأكل لا يدوم
الذي تُطعمه
يحترق من ألم المرارة
يتقيّأ على الروث.
أغنيتها غُنّيت
ببهجة القلب
في السهب
ببهجة القلب
تغنّي
وتغمس صولجانها
في الدم المتخثّر
تُحطّم الرؤوس
تقطّع الفريسة
بالفأس الأكولة
والرمح المُدمّى
طوال اليوم
المحارب يرمي
هذه الشفرات الشريرة
يسكب الدم على القرابين.
لذلك: الذي تطعم
يتعشّى من الموت.
هذه أغنية غنّتها
في السهب الواسع
لمعان الظهيرة الصامت
تُحوّله إلى سواد
متدثّرةً بالضياء
تُغشي العيون
حتّى يصبح وجه الصديق
كوجه العدوّ
تنادي من السهب البعيد
حتّى الحقل الخصيب
يصبح يباباً
عواؤها
مثل رعد أشكور
العواء الرياحيّ
يهزّ الأبدان
يجعل اللحم يرتعد.
من يجرؤ على معارضتها
مناظرتها المميتة؟
من يجرؤ على النظر إلى قتالها الوحشيّ
لعبة السلاح
التي تملأ الأرض بالغضب
تُذهب كلّ شيء.
سيّدة المحراث
أرض الخراب الخالية
تتمزّق تحت شفرتك.
أمامك
وقف المتبخترون
يحنون رقابهم الماكرة
فتتوتّر أمام حقيقتك.
صنائع قلبها الفخور
الملكة وحدها خلقتهم
هي المبجّلة في المجلس
تجلس على العرش
تنتشر يميناً وشمالاً
بحركة بسيطة من يدها المشوِّهة
تُحوّل الجبل إلى كومة نفايات
تنثر الرماد من الفجر حتّى الغروب
بصخور عظيمة تَرجم
والجبل
مثل جرّة فخار
يتحطّم
بقوّتها العظيمة تصهر الجبل
تُصيّره راقوداً لوَدَكِ الغنم.
هي إنانا
حاملة السعادة
أمركِ الرهيب
خنجر في اليد
ينشر الضياء على الأرض.
السمك الذي اصطيد من الأعماق
بشبكتها الممتدّة
لن يفلت منها أبداً
الطيور التي علقت
تتقلّب في الشبكة الصغيرة العيون.
ما تحوّله إلى تراب دقيق
لن ينهض مرّة أخرى
رائحة الخوف تصبغ ثوبها
ترتدي
الخطّة المنقوشة الكبرى للسماء والأرض
الذي يُصغي إلى كلمتها
لن ينظر إلى آن
مجلس الآلهة العظيم
يثرثر ويهذر في ارتباك
لا يستطيع أن يسبر جوهر خطّتها.
تحمل الحياة في السماء
بيد واحدة
السيّدة القطّة الضارية
المستقلّة بين آلهة الأنونا
إنانا
تجرّين الرجال إلى صراع لا نهاية له
أو تتوّجين بالشهرة حياة إنسان مصطفى
إنانا
مرتدية ثياب الفتاة البتول
في حجرات النساء
تعانق بكلّ قلبها
الفتاة اليافعة ذات المظهر الوسيم
العذراء امرأة تقاوم بطريقة شريرة
تتمايل تحت الغضب
هائمة في طرق مظلمة ومهجورة
مكان راحتها الوحيد في بقعة ضيّقة
بمكان السوق المزدحم
ثمّة في الشبّاك القريب
أمّ تحمل طفلها وتحدّق.
هذه الحالة المرعبة
السيّدة ستُصلح
ستزيل التنكيل
عن جسدها المتعب.
فوق رأس العذراء البتول
تصنع علامة الصلاة
يداها مطبقتان أمام أنفها
تعلن أنها رَجُلة
في الطقس المقدّس
تأخذ الدبّوس
الذي يُثبّت ثوب المرأة
تكسر إبرة فضيّة رقيقة
تكرّس قلب العذراء كقلب ذكر
تعطيها صولجاناً
لأنّ ذلك عزيز عليها
تزيل لعنة الإله
المحنة تزول
من لا شيء تخلق
ما لم يكن أبداً
فطنتها الحادّة
تشقّ الباب
حيث الذكاء المتوقّد يقيم
وتكشف
ما يعيش في الداخل
ما يخفى في الصدور.
الذي لا يخاف
ويعاند شبكتها المنصوبة ذات العيون الصغيرة
سينزلق ويعلق بها.
رجلٌ هو
الذي قاومها وازدراها
دعته بالاسم
وألحقته بالنساء
كسرت صولجانه
أعطته الدبّوس
الذي يثبت ثوب المرأة.
هذان اللذان
أعادت تسميتهما:
امرأة قصب الهور ورجل قصب الهور
أمرت الخدم المقدّسين
أن يشرعوا في طقس الانجذاب
بلي - بلي المُنقلب الرأس
البطل الرئيس كوركارا
يدخلون في حالة انجذاب صوفيّ
يبكون يعولون
يُنهَكون ويتعبون
ينشدون الأغاني من أجل تهدئة الإله.
السيّدة
طوال اليوم، وكلّ يوم، باكية
لم تعودي تطوفين السماء
البكاء لا يهدّىء قلبك
قلتُ: قفي!
كفى!
نواحٌ غير منتهٍ
ذلك لا يهدّئك
حبيبة آن المقدّس
انظري إلى عواطفك المُعذِّبة
طوال الوقت تبكين.

شيماء يوسف 1 - 1 - 2013 11:50 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
شكرا لك على ما طرحت

بانتظارك وبانتظار باقة من مواضيعك المفيدة

لك منّي ارق تحية وأعذبها


shreeata 2 - 1 - 2013 12:14 AM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
مشكورة عزيزتي ارب على روعة الادراج
تحيات لك
سلمت لنا بروعتك

ابو فداء 2 - 1 - 2013 01:14 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
مشكووره
موضوع كبير
والخط صغيررررر
ومحسوبك النظر على قد الحال
تحيااتي

بصيرة الأعمى 2 - 1 - 2013 01:25 PM

رد: إنهيدوانا سركون الأكدي... أول شاعرة في العالم
 
صراحة الموضوع طويل جدا وأنا ملحوقة بالوقت
سأعود في وقت لاحق
محبتي
بصيرة
#cc#



الساعة الآن 02:19 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى