منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   القصة القصيرة: مفاهيم وعناصر (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=15460)

الغريب 26 - 4 - 2011 10:31 PM

القصة القصيرة: مفاهيم وعناصر
 
القصة القصيرة: مفاهيم وعناصر



القصة القصيرة جنس أدبي عريق وتليد في التراث العربي والإنساني. وربما يرجع تاريخه إلى ما قبل عهد السومريين الذين وجدوا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ونيف. فمنذ وعى الإنسان ذاته، واحتاج إلى الاتصال بغيره، سرد وروى، وأشرك غيره في معرفة ما جرى له ولغيره من بني جنسه.

ومنذ أن اكتشف قدراته على الابتكار الأدبي أنشأ القصة، وأبدع الحكايات، فنقل الوقائع، وحور فيها، واختلق الأحداث وأحكم نسجها، متفنناً في حوار الناس الذين صنعوها، واقعيين كانوا أم غير واقعيين.



وقد تفاوت الناس في حذقهم لفن السرد وطرائق القص. ومن هنا كان لكل فرد سردياته، ونصيبها من النجاح أو الإخفاق، ومن الجذب أو الإملال، ومن الإيحاء أو المباشرة، ومن الإيجاز أو الإطناب. وربما كان القاصون الموهوبون هم أكثر الناس عناية وإتقاناً لفن السرد وسحر القص.

وقد كان للقص سلطان قوي على الإنسان، طفلاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً، فهو يستهوي الناس في كل الأعمار، وخاصة في عهد الطفولة، وذلك لما فيه من إيهام وإمتاع، ومن قدرة على تنشيط المخيلة، ومن طاقة على الإيحاء بفكرة، أو إيصال عبرة، أو تصوير حالة، ومن طبيعة في اختزال الزمن، والخلوص إلى نتيجة.

والإمتاع اليوم، كما في الأمس، شرط أساسي من شروط القصة القصيرة، فهو القادر على امتلاك المتلقي، سامعاً كان أم قارئاً، وشده وجذبه كي لا يزوَّر عما بين يديه من كلام أو سطور، يتوخى منها أن تكون منسوجة نسجاً خاصاً يجعل منها جنساً أدبياً حائزاً جمالية أو أكثر، من جماليات الأدب عامة، والقصة خاصة.

ويقتضي الموقف أن نشير إلى أن السرديات عامة نوعان: نوع يؤتى به للتسلية فقط، كالقصص البوليسية أو السير الشعبية، ونوع من السرديات التي تحتقب إمكانات للتفسير متعددة. وهو النوع الذي آلت إليه القصة القصيرة الفنيَّة، بطبيعتها وعناصرها المختلفة، مبتعدة عن أن تكون مايشبه ضبطاً يحرره الكاتب بالعدل، أو شرطي المرور، إثر حادث من الحوادث.



وقد نُظِرَ إلى طبيعة القصة القصيرة ذات يوم على أنها فن قولي أو كتابي يقوم على حدث، ويتخلله وصف يطول أو يقصر، وقد يشوبه حوار أو لا يشوبه، ويبرز فيه شخصية أو أكثر، محورية أو ثانوية، تنهض بالحدث أو ينهض بها الحدث، والحدث له بيئة خاصة، وله سياق ثقافي واجتماعي وسياسي، لا مناص للكاتب من أن يعيه ويستوعب تفاصيله وآدابه وتقاليده. ويرمي ذلك كله إلى ترك انطباع واحد في نفس السامع أو القارئ، دونما شَطْح إلى ما يشتت أو يبعثر... ولهذا لا تتعدد الشخصيات في القصة القصيرة ولا الأزمنة ولا الأصوات، إلا في حدود ضيقة. وإذا كانت الرواية تصور النهر من المنبع إلى المصب، فإن القصة القصيرة تصور دوامة واحدة من سطح النهر، فهي تعزف عن تقديم حالة كاملة لقرية أو عائلة أو شخصية، مكتفية بلقطة أو موقف قصير أو لحظة مختزلة مأزومة، لتقدم فكرة أو عبرة أو إحساساً، أو لتعزز موقفاً خلقياً يحسن أن يَتَخَفَّى ولا يختفي، وأن يصور ولا يقرر، وأن يجسد ولا يجرد، فالمباشرة الصريحة، والتقريرية الفجة، والوعظ الصارخ، تضعف نسيج القصة، وتهلهل بناءها، وتصدع دعائمها، وقد تؤول إلى خلْط ما بين القصة القصيرة، وغيرها من الأشكال السردية الأخرى.



وقد مَيَّزَ الدارسون اليوم ما بين القصة القصيرة الفنية بوصفها جنساً سردياً، وأشكال سردية أخرى، كالأسطورة والخرافة والطرفة والمثل والرسالة والمعجزة والحكايات المثيرة وسير القديسين... وفي تراثنا نماذج سردية تقترب من القصة القصيرة وتشبهها، مثل تكاذيب الأعراب وقصص الحيوان وفن الخبر وقصص الأحلام وقصص الأمثال وقصص الرحلات...

ونقع في كتاب "القصة القصيرة- النظرية والتقنية"، لإمبرت، على أشكال من السرد تشبه القصة، ولكنها ليست هي، ومن تلك الأشكال:

1-مقال التقاليد: وهو نوع يقع بين علم الاجتماع والخيال، وبه يتم رسم لوحات تتضمن مشاهد أصلية مأخوذة من الحياة.

2-لوحات الأخلاق: وهي نوع يقف بين علم النفس والخيال، كأن تعرض أمامنا أخلاق جندي أو شاعر أو صعلوك أو إنسان طيب أو شرير.

3-الخبر: ويقف بين الصحافة والخيال، ومن خلاله نعرف أحداثاً غير عادية وقعت في مسيرة الحياة اليومية.

4-الخرافة: وتقع بين الدين والخيال، والغرض منها تفسير أصل الكون بمشاركة كائنات غامضة.

5-الأسطورة: وتقف بين التاريخ والخيال، فهي قصة غير حقيقية، وتعالج أموراً غير مألوفة وغير متسقة مع القواعد العامة.

6-الأمثال: ويقع المثل بين التعليم والخيال، وأحياناً يقرأ المثل على أنه عمل أدبي. والسمات الخاصة بين الشخصيات هي الفيصل بين القصة والمثل، فحين تكون السمات فردية نكون في نطاق الأدب، وحين تكون ذات طبيعة عامة نكون في إطار التعليم.

7-الطرفة: والطرفة قريبة من القصة القصيرة جداً، ولكن الطرفة قد تتوقف عند مجرد سرد حدث خارجي، دون محاولة لفهم شخصية البطل ودوافعه النفسية، ففي الطرفة يروي المرء ولا يحكي، ولا يحدث جمالية من أي نوع. أما في القصة القصيرة فيفترض وجود حدث مختلق أكثر من الأول، ونسبة الخيال فيه أكثر، بينما نسبة الحقيقة في الطرفة أكثر.

8-الحالة: وهي تقترب جداً من القصة القصيرة، بل من القصة القصيرة جداً، فهي تعبر عن موقف طارئ أو جزئية حياتية، كأن يكون سوء الحظ أو الإخفاق أو الموت. ومن كتاب هذا اللون (بورخيس) الأرجنتيني، وزكريا تامر، وضياء قصبجي، ونجيب كيالي، ومروان المصري، من سورية.



وبعد هذا كله يبرز السؤال الأكبر، وهو: ما القصة القصيرة إذاً؟ والجواب كما يقول (امبرت): "هي عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد، برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع، فالحدث الذي يقوم به الإنسان، أو الحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانية، أو الجمادات، يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة، حيث نجد التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ، ثم تكون النهاية مرضية من الناحية الجمالية. (القصة القصيرة، لامبرت ص 52).



إن العبارة الأولى في التعريف السابق تصف القصة بأنها سرد نثري موجز يعتمد على خيال قاص فرد. وهذا شأن يحتاج إلى تفصيل أوسع، فالخيال وحده غير كاف لإنشاء قصة، إذ لا بد من ملكة تركيبية تحبك الأحداث، وتحذق سوق المتواليات، وتُنظِّم تتابعها، لتحقيق غرض الكاتب، متخذة من البيئة والسياق الثقافي الذي ينتمي إليه القاص مرجعية للاحتكام، وقد تتجاوز هذه المرجعية لمصلحة ما هو قار في النفس الإنسانية في كل زمان ومكان. والقاص البارع قد ينفذ إلى أدق التفاصيل فيما يعرضه أو يعرض إليه، بغية التنوير والنقد، أو الكشف عن المخبوء بلغة رامزة، مستهدفاً الإشادة أو الإنكار، والمدح أو القدح. بيد أن الإغراق في التفاصيل لا يعني الخوض في جزئيات تبدو مقحمة إقحاماً، أو محشورة حشراً، ولا الإتيان بعناصر لا قبل لجناحي القصة القصيرة الرهيفين بحملها. وفي هذا الصدد كتب القاص الأرجنتيني (بورخيس) يقول عن سبب إعجابه بقصص (كيبيلنغ): إنه لا يوجد في تلك القصص كلمة واحدة لا لزوم لها، وأنه يريد أن يتعلم منه هذه التقنية.



ثم إن الإرضاء الجمالي الذي أشير إليه في التعريف السابق قد لا يتأخر حتى نهاية القصة، بل قد يظهر في سياق القصة من خلال مجموعة من المسائل، كالإيقاع والسخرية والشخصية القصصية الإشكالية. والإيقاع عنصر هام من عناصر الحركة السردية والسياق الحواري، وهو قد يتمثل بالتواتر أو بالاختلاف أو بالتناظر، أو بغير ذلك من الوسائل. أما السخرية فهي ظاهرة أسلوبية يختلف التعويل عليها بين كاتب وآخر. وهي- والحق يقال- من أسباب الجذب والمتعة في أية قصة تتوافر فيها. أما الشخصية القصصية فهي عنصر سردي بامتياز. ويقتضي الإتقان في كتابة هذا الجنس الأدبي أن يحذق كتابه التعاطي معه. ومؤكد أن طرائق تقديم الشخصية ووصف ملامحها المختارة الخارجية والداخلية، والسطحية والعميقة، تختلف من قاص إلى آخر. وربما تمكن بعض القاصين من الكشف عن دخيلة شخصية من شخصيات قصصهم، وعن طباعها وسلوكها، من خلال إنطاقها بعبارة أو أكثر من العبارات المفعمة بالدلالة، في زمان ومكان محددين. وقد تتعدد سمات الشخصيات في المجموعة القصصية الواحدة، كما في مجموعة "العودة إلى البحر" للدكتور أحمد زياد محبك، وقد يجمع بينها سمات مشتركة، كما هي الحال في مجموعة "الحصار" لإبراهيم خريط، التي بدت حقاً شخصيات محاصرة ومقموعة وبائسة، أو كما هي الحال في مجموعة "الحصرم" لزكريا تامر، التي ظهر لنا سلوكها غير مفهوم ومستهجن وغير منطقي، بل هي شخصيات غير نمطية ورامزة في النهاية.



وتتنوع الشخصية القصصية، من حيث انتماؤها إلى عالم من العوالم المختلفة، فهي قد تكون إنساناً أو حيواناً، أو شيئاً جامداً أنسنه الكاتب، أو شيئاً مجرداً خلع عليه القاص صفات الأحياء من نطق وإحساس وخيال، وقد يؤتى بها من عالم الأموات لتقول شيئاً وتمضي، أو لتستغل جسراً لفكرة، أو لإقامة مقارنة بين الحاضر الراهن والماضي المولي... الخ. وفي قصص مجموعة "أحلام عامل المطبعة" لمروان المصري نماذج من هذه الشخصيات. ففي قصة بطلها من عالم الطيور، لا البشر، كتب مروان المصري يقول:

"فُتِحَ باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات، جاع، فبحث عن القفص"- (أحلام عامل المطبعة ص39). وهذه الأقصوصة البالغة أربع عشرة كلمة تعبر في نظري عن فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة الحرية والضرورة. فالعصفور الجائع هنا قايض حريته بطعامه، أو قل: باع مجرد بقائه حياً، بسجنه. ويا لها من مأساة حقيقية لا توجد في عالم الطيور والحيوان فحسب، بل تلمس أيضاً في عالم البشر والإنسان أيضاً. بل إنها هي في عالم الإنسان أولاً، وقد جيء للتعبير عنا بالرمز والإيحاء، بقصةٍ بطلها من عالم الطير لا البشر ثانياً. وبدهي أن نشير إلى أن هذه القصة هي قصة قصيرة جداً.



ويقودنا حجم هذه الأقصوصة إلى الكلام على طول القصة القصيرة وقصرها، فليس ضرورياً أن تكون موجزة إلى هذا الحد. وقد رأى النقاد أن القصة القصيرة هي ما يمكن أن يقرأ في ساعة أو ساعة ونصف، فهي أقصر من الرواية. أما القصة القصيرة جداً، فقد تكون سطراً أو سطرين أو ثلاثة، أو على أبعد حد صفحة واحدة. وقد آل هذا القصر إلى اختزال كثير من عناصر القصة القصيرة المعهودة، أو إلى تعديلها. ولا بأس في ذلك في نظرنا، إذ أننا نفهم طبيعة القوانين الأدبية، إن كان للأدب من قوانين، أنها لا توجد إلا لتخرق، لكن خرقها يجب أن يكون لمصلحة الجمال والإدهاش، وليس لصالح العبث وألعاب الصبية التي لا نظام لها. فللأدب، أياً كان، نظام، ولكن ليس له قانون ضابط صارم يمنع اختراقه. ومن هنا جاء اهتمامنا بنوع القصة القصيرة جداً، فدرسنا منها أربع مجموعات قصصية في كتابنا هذا.



ومن عناصر القصة أيضاً الزمان والمكان. والزمان عنصر يستطيع الكتاب أن يتعاملوا معه بأشكال مختلفة، فمنهم من يحن إلى الماضي ويقدمه على أنه النموذج الأجمل والأفضل مثلاً، كما في بعض قصص أحمد زياد محبك، ومنهم من يقيم نوعاً من الحوارية بين الماضي والحاضر، جاعلاً الماضي الجميل البهي يدين الحاضر الباهت البائس. وقد يختار الكتابة عن الماضي ويريد الحاضر. ومن الكتاب من يكسر أزمان السرد فينتقل نقلات مباغتة من الحاضر إلى الغابر، أو بالعكس، لأغراض سردية ودلالية بعينها. أما المكان، فتتعدد اختيارات الكتاب له، فهو قد يكون حديقة أو منزلاً أو قبواً أو غابة أو مشفى أو طريقاً أو رصيفاً... الخ. وقد يراوح القاص بين أمكنة متعددة في القصة الواحدة، أو في قصصه المختلفة، وقد يكون المكان ضيقاً أو رحباً، وقد يكون ملوثاً أو نظيفاً. وفي كل اختيار مأرب، وذلك لوعي القاص بأن المكان يؤثر في الناس ويصوغ مفاهيمهم وتقاليدهم وقيمهم، ويحدد مسارات الكثيرين منهم، كما يحدد النهر مسار الماء الذي يجري فيه. ومن الكتاب من يجعل من المكان حيزاً رمزياً، كما في قصص زكريا تامر في مجموعته "دمشق الحرائق"، فهو حارة السعدي، أو في مجموعته الأخيرة "الحصرم"، فهو حارة قويق. والحارتان كلتاهما مكان مجازي وجوده غير محقق. وهو عنوان موح بمعان يريدها القاص. وهي لا تخفى على كل ذي بصيرة.



ومن عناصر القصة القصيرة البداية والنهاية. ومن زمن بعيد رأى (ادغار آلان بو) الذي وصف بأنه أبو القصة القصيرة، أن البداية الناجحة هي التي تحدد نجاح القصة أو إخفاقها. وكذلك كان (يحيى حقي)، وهو من هو في فن القص، يرى أن القصة الجيدة هي ذات مقدمة جيدة محذوفة، لأن هذا الحذف يدفع بالقارئ إلى الإحساس بأنه إزاء عمل حي وجو فني متكامل (انظر مقدمة عنتر وجولييت، لحقي ص 4). بيد أن هذا الحكم إنْ صحَّ على بعض القصص، فقد لا يصح على قصص أخرى، ذلك لأن للقصة مستلزمات أخرى لا بد من توافرها لتنجح وتمتع وتعني. أما النهاية، ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة، وهي اللمسة الأخيرة التي تمنح الكشف عن الشخصية، أو السلوك، أو المعنى. وفيها المفاجأة التي قد تثير السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل. ومن المعروف مثلاً أن القاص السوري زكريا تامر قد عني بنهايات قصصه، فراح يؤجل تنويرها حتى النهاية، فهو يقول في قصته (انتصار) من مجموعته "النمور في اليوم العاشر" ما مؤداه: أن الملك بعد أن اتفق مع وزيره على فرض ضريبة جديدة، سمع احتجاجات الرعية على المظالم الكثيرة التي يسببها الجباة، فتأثر، وهو صاحب القلب الرقيق، وتحنن على رعيته، فعزل الوزير، وصادر أملاكه، متهماً إياه بأنه المسؤول عن هذه المظالم، ففرح المواطنون، غير أن الجباة في اليوم التالي تابعوا طوافهم على البيوت والدكاكين. وهذه نهاية فاضحة وكاشفة وساخرة من سلوك الملك، الذي يوقع المظالم على المواطنين، ثم يحمل وزيره وزر ذلك.



وتعددت أشكال النهايات في القصة القصيرة، وأمكن للنقاد أن يروا فيها ستة أنواع من النهايات، هي: النهاية الواضحة، وفيها تحل المشكلة دون تعقيدات تذكر. والنهاية الإشكالية، وفيها تبقى المشكلة دون حل. والنهاية المعضلة، وفيها يمكن أن يكون الحل من خلال مشاركة القارئ في التوقع، دون أن يكون هذا الحل هو الحل المثالي الوحيد. والنهاية الواعدة، وفيها يتم التنويه بمخارج كثيرة دون ذكرها صراحة. والنهاية المقلوبة، وفيها يتخذ البطل موقفاً مناقضاً لما كان عليه في البداية، فإذا كان يكره شخصاً في البداية، ينتهي به الأمر إلى أن يحبه في النهاية. والنهاية المفاجئة، وفيها يفاجئ السارد القارئ بحل غير متوقع-(أنظر القصة القصيرة- النظرية والتقنية ، لامبرت ترجمة علي منوفي ص 135)...



ومن عناصر القصة القصيرة، العنوان. ويمثل العنوان عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الدلالة في القصة، وجزءاً من أجزاء استراتيجية أي نص أدبي. وتتنوع العناوين، من حيث وظيفتها في القصة، فثمة عناوين تحيل إلى مضمون القصة، أو تُسْتَمَدّ من مغزاها، وعناوين لها طبيعة إيحائية، وعناوين لها وظيفة تناصية، وعناوين لها طبيعة استعارية، وعناوين يؤتى بها لتشوش الأفكار. وهذه الوظيفة الأخيرة للعنوان هي التي أرادها (امبرتو ايكو). ومن أمثلة هذا العنوان مثلاً عنوان قصة قصيرة جداً لعدنان كنفاني نصه: (مصير العظماء)، ورد في مجموعة "بروق"، على نحو ما سنرى.



وكذلك تختلف العناوين من ناحية البناء اللغوي، فبعضها يأتي كلمة واحدة، وبعضها كلمتين أو ثلاثة. ومن القاصين من يعول على أسماء الأمكنة، فيتوج بها هامة قصته، ومنهم من يركز على الأزمنة، ومنهم من يختار جملة اسمية، ومنهم من يختار جملة فعلية، ومنهم من يلجأ إلى أساليب لغوية أخرى كالاستفهام أو التعجب أو التوكيد أو النداء أو غير ذلك... ولكل قاص غرض في اختياره. والعنوان قراءة من المؤلف لنصِّه، وقد يكون هوية له، أو بؤرة من بؤره، أو مفتاحاً من مفاتيحه.



ومهما يكن الشأن، فإن القصة القصيرة العادية يحسن بها أن تجمع حسن العرض إلى نمو الحدث إلى المشهدية المسرحية، كما يتوخى من كاتبها أن يحكم بنائه ويحذق حبكته، ويختار مفرداته دونما ترخص في الفصحى ودونما إغراق في التقعر، مراعياً اللغة الوسطى، وذلك لأن تضحيته بما سبق، أو انحرافه إلى لغة شاعرية مفعمة بالتأنق والزخرف والصنعة، يجعله بعيداً عن السمت المقصود، وقريباً من فنون أخرى، قد لا تحتمل القصة أعباءها. ولا بد أخيراً من التكثيف والتركيز اللذين يجعلان من القصة القصيرة لقطة سينمائية أو قطعة من نسيج أو ومضة من ضوء، تكتنز المعنى والمتعة معاً.



أما القصة القصيرة جداً، وقد درست من مجموعاتها أربع مجموعات هي: الحصرم لزكريا تامر، وأحلام عامل المطبعة لمروان المصري، وهمهمات ذاكرة لأحمد جاسم الحسين، وبروق لعشرين قاصاً سورياً، فقد شبهتها بسبيكة الذهب، التي لا يخلط صانعها ذهبها بما عداه من المعادن الأخرى، إلا بمقدار ما يقويه. وهي سبيكة يكد الصائغ، مقاوماً نفاذ صبره، ليخرجها للناس لامعة مصقولة فيها من الجمال والقيمة قدر كبير. فإذا كان لكتاب هذا اللون النثري الحكائي الجديد القديم أن يطوروه، فلا بد لهم من أن يتخذوا من عمل ذلك الصائغ هادياً ونموذجاً، ليخرج من بين أيديهم شيء نافع ومدهش يسحر العين ويسر القلب ويعجب الفكر في الوقت ذاته. وما أجدر هؤلاء بأن يتذكروا ما كان (فلوبير) يوصي به (موباسان) قائلاً: "الجمْ نفاذ صبرك، ابحثْ تجدْ، وعندما تجد الكلمة الملائمة، اقبض عليها، ضعها في مكانها الذي وجد لها وحدها، ووجدت له وحده".


منقول

الغريب 26 - 4 - 2011 10:34 PM

عشرون قصة وعشرة قصاصين
جنوب القصة السورية


إن المجموعة المعنونة بـ "جنوب القصة السورية" هي نشر جماعي لعشرين قصّة كتبها عشرة قصاصين من محافظة درعا. وكان نصيب الواحد منهم في النشر متساوياً، فلكل كاتب قصتان فحسب. وقد نُشرت هذه المجموعة بدار الأهالي بدمشق في العام 1998.



وتطرح هذه المجموعة أسئلة كثيرة، لعلّ أهمها العنوان المختار، فهل كانت هذه القصص تمثل حقاً الإنتاج القصصي في محافظة درعا كله؟ أم كانت تمثّل بعضه؟ وهل كان عشرة قصاصين من (درعا)، هم قصاصو هذه المحافظة جميعهم، أم أن ثمّة آخرين لم ينشروا نتاجهم هنا؟.

وفي الإجابة نقول: إن العنوان غير دقيق، وغير شاعري، وغير موفق. وكان بالإمكان اختيار ما هو أفضل منه. ثم إننا لا نشك في أن قصاصين أخر لهم نتاج قصصي لم يُنْشَرْ هاهنا، وبالتالي فتمثيل الواقع الحقيقي في هذا الباب غير كامل.



ومما يلاحظ أن كُتّاب هذه المجموعة قد تركوا أنفسهم غفلاً، لم يُعرِّف أي منهم بنفسه، ولو ببضعة أسطر، على الرغم من نفع هذا التعريف.. الأمر الذي يجعلنا في جهالة من أمر إنتاجه القصصي، وإرثه الإبداعي. ويبدو لي وأنا على غير يقين، أنّ أغلبهم لم ينشر حتى اليوم مجموعة قصصية كاملة بتوقيعه باستثناء (خلف الرزور) و( زرياف المقداد) وهذا ملمح لا يعيب أيّ كاتب من كتاب المجموعة، فالراسخون في هذا الجنس الأدبي كان لهم في البداية قصة أو قصتان، ثم طوّروا أنفسهم، وصاروا أعلاماً، بيدَ أن لغة بعض الكتاب هنا لا تنمّ على خبرة وتمرّس كبيرين، فقد شابها شوائب شوّهت جمالها وخففت من ألقها، وهذا ما سنعاينه بعد قليل.



وثمّة سؤال ملح آخر يطرح نفسه، وهو: هل مثّلت هذه القصص العشرون البيئة المحلية (جنوبي سورية): موضوعات وقيماً وفناً؟ أم أنها كانت، مثلها مثل أي قصص أخرى نشرت في قطرنا، بمحافظاته الخمس عشرة، تتناول الشأن الأشمل والهمّ الأعمّ في وطننا أولاً، وفي العالم من حولنا ثانياً؟

لقد وجدتُ هذه القصص ضربت في اتجاهات أربعة: المحلية من جهة، والقومية من جهة ثانية، والاجتماعية من جهة ثالثة، والإنسانية من جهة رابعة، فهذه هي الهواجس التي أرقت هؤلاء القصاصين، فكتبوا في آفاقها.



ومن القصص ذات النكهة المحلية قصة الكاتب (موسى المسالمة) "كلانا على جانب الطريق" وهي قصة تفوح منها رائحة (درعا) وريفها في الخمسينيات، حيث الكتّاب، والخيزرانة، والبؤس والتزاحم على بيضة مسلوقة ما بين الأخ وأخته. وحيث الإحساس الأخوي النقي الجميل الذي يفجرّه افتراق الأخت المنافسة في طفولتها، عن أخيها بالزواج المفاجئ... مما يدل على أن العوز والفقر والحاجة لم يكن لها أن تعبث بمشاعر الأخوة، ومما يشي بعلاقات أسرية قوية العُرَى لم توهنها الأيام، أو يضعفها التطوّر الزائف.



ومنها قصّة (حمدي البصيري) "كيف ضاع العمر" التي تحكي أصالة الحب الريفي وصموده أمام إغراءات الغرباء الممثلين بالخادمة (ناتاشا) فالرجل الخمسيني الذي كان يعمل في (زحلة) في لبنان، لم تفارقه صورة زوجته (فاطمة) في جنوبي سورية، حين دعته (ناتاشا) إلى الخيانة، فخارت قواه وعجزت رجولته، لأن صورة (فاطمة) الفلاحة تلاحقه، وتشوش ذاكرته، ولأنّ عطرها مزيج من رائحة الأرض الملقحة تواً بالمطر، والخبز الساخن، والعرق الذي يتلألأ على جبينها كلما خبزت- (ص101). ومنها أيضاً قصة (عبد الرزاق صبح): "مقتل القمر" التي جاء في مطلعها عبارات مستمدة من اللهجة الحورانية المعروفة "يا أمي طالع شوية وراجع.. بَسْ بدّي أكمل اللعبة". بيد أن الموضوع القومي والاجتماعي لم يغب عن هموم قصاصي درعا العشرة، فقد طرقه (حسين الكراد) في قصته "عجوز القلب" و(عبد الرزاق صبح) في "الزوجة العاشقة" و(إبراهيم النجار) في "العقدة الزرقاء". (فالكراد) يروي قصة الأستاذ (الراضي) الذي ثأر من (عسكر اليهود) بعد أن آذوه وضربوه، رغم وداعته ورقته، مما اضطره إلى أن ينقضَّ على جنودهم ويمسك بيديه عنق واحد منهم ويضغط ويضغط حتى الخنق (المجموعة ص60). وكذلك يفعل (صبح) حين يبرز إيثار زوجته لفلسطين عليه وعشقها لها، الذي يفوق أي عشق آخر.. وها هي ذي الزوجة أمام صائغ ذهب تطلب منه أن يصنع لها من الذهب الخالص قطعة أو (خريطة) يحدّها شمالاً الجليل، وجنوباً سيناء، وغرباً البحر الأبيض المتوسط، وشرقاً النهر، إنها (فلسطين) التي صارت معشوقة الرجال والنساء معاً- (المجموعة ص30).



أما (إبراهيم النجار) فيتحدث في قصته "العقدة الزرقاء" عن مجزرة (قانا) التي ارتكبها الصهاينة في جنوبي لبنان في العام 1996. والتي قتلت فيها الصبية ذات العقدة الزرقاء، وقُتل معها كثيرون من الشهداء الذين يقول عنهم على لسان أحد الآباء: "سنراهم يقبلون يحملون رايات النصر، يقبلون عندما تشتد الظلمات وتعظم المصائب" (المجموعة ص78).



وجاء في بعض هذه القصص العشرين احتفاء بالبعد الاجتماعي أيضا،ً وكان ممن أولى البعد الاجتماعي عناية خاصة القاص (خلف الزرزور) في قصة "الخيار القاتل"، بعد أن تحدث في قصته "حلم على أنقاض الحذاء" عن أطياف السجن السياسي التي بدت مثل كابوس أبهظ بطل هذه القصة.. أما في "الخيار القاتل" فقد جعل الكاتب بطله اليائس المظلوم (أبو عبد الله) يهجم على الدكتور المستغلّ السافل (عبد السلام)، ويطعنه بمديته ممزّقاً أوصاله .. وقد بسط الزرزور لقارئه كل التسويغات والمقدمات اللازمة لتفهُّم هذا العمل الصادر عن (أبو عبد الله)، فقد كان (عبد السلام) يسرق عرقه عنوة، ويجعل القهر يسربل قلبه، وهو الأب لعشرة أولاد.. كما نجح الكاتب في إحداث مشهدية مسرحية موفّقة لأحداث قصته وحواريتها. وقد استقر في نقد القصة القصيرة أن تنمية الأحداث وإقامة المشهدية المسرحية عنصران هامان من عناصر القصة الناجحة، على ألا يداخل ذلك تعسّف أو افتعال أو تصنّع أو خلخلة...

وكذلك فعلت (سعاد القادري) في قصتها "مدرّس الموسيقى".. ففي هذه القصّة يقوم هذا المدرس الحيي الخجول بضرب طالبةٍ مِغْناج تأخرت عن درسه عشرين دقيقة..! فيُفاجئ ذلك الطلبة والطالبات! وقد أرادت الكاتبة من وراء هذه القصة أن تستنكر فظاظة الرجل، وأن تسخر من بدائيته التي قد يظن بعد الناس أنّه تخلص منها..! وفي هذا الملمح غَمْزٌ رقيق من مفهوم الرجولة العنيفة، التي تلجأ لاستخدام اليد بدلاً من اللسان.. وتلجأ إلى العنف، رغم وجود مندوحة لها عنه.



ولم نعدم في هذه المجموعة قصصاً تتحدث عن قيم أخرى إنسانية تتصل بالأصالة أو بمفهوم "الفطري" و"الصنعي"، وهذا ما عوّل عليه القاص (ميلاد قندلفت) في قصته "الكلب الأدرد"، فقد رُكّبتْ لهذا الكلب بدلة أسنان صنعية فأخفق بسببها في عض الذئاب التي هاجمت منزل صاحبه.. وعندما راح صاحب المنزل يخاطب كلبه هذا قائلاً: اهجمْ يا (ريكس)، عضهم، أجابه (ريكس) وقد أخرج أسنانه الصناعية من فمه، ورمى بها نحوه: خُذْ سلاحك الذي أعطيتني إياه، وعضّهم أنت (المجموعة ص86). وفي العبارة الأخيرة سخرية مرة مما هو غير طبيعي وغير أصيل، ومما يناقض حقيقة الأشياء وفطرتها. وإذا وسّعنا تحليلنا قلنا: لعل في الأمر سخرية من سلاح يُجْلَب جَلْباً، ويوضع في حوزة المرء، في الوقت الذي يُتوخى منه أن يملك سلاحه بذاته، وأن تكون قوته من نسيج جسده، تنمو وتتطوّر دون عون خارجي قد يكون مآله الضعف لا القوة، والعجز لا الإنجاز، وخاصة حين تهجم الذئاب على المنازل والديار. وواضح هنا أن الرمز جاء رمزاً شفيفاً لا كثيفاً. وهو شأن يختلف عن كثافة الرمز عند الكاتب (جهاد الخطيب) في قصته "مدينة الشياطين" أو عند الكاتبة (زرياف المقداد) في "الكل يحترق" ففي "مدينة الشياطين" ينشئ (الخطيب) قصّة رمزية فيها تنبت ذيولٌ لأهل مدينةٍ لا نعرف اسمها ولا شيئاً عن سماتها، إمعاناً في توسيع دلالتها، ولكن واحداً من رجالها لم ينبت له ذيل هو (شقي أفندي). وعندما تستشار العرافة في هذه الحالة تقول لشقي أفندي: إنّ سرّ لعنتك كامن في صندوق كتبك، وتقترح حرقه! ولكن هذا الحرق لا يفيد، ولا يُنبت ذيلاً لذلك (الشقي) الذي استشرت فيه لعنة الكتب.. إنّ الكاتب يعبّر بهذه الأقصوصة التي لم تتجاوز صفحتين صغيرتين عن مناعة المثقف ضد الجنون، على الرغم من أن شقياً بدا مجنوناً وشاذاً في نظر أهل مدينته المجنونة حقاً! و(الخطيب) –كما لاحظت في قصته الثانية- وعنوانها "مجنون يتحدث عن نفسه"- يستغل "الجنون" وصلته بالأدب قويّة جداً، ليقول أشياء لا يقولها العقلاء، فمتى كانت الكتب "لعنة"؟؟ إنها سرّ التعقل والتطوّر والتحضّر. ولكن حين يجنّ الناس حقاً، تنقلب الأمور رأساً على عقب، فيظنون العاقل مجنوناً والعالم مخبولاً.. فيا لها من مأساة حقيقية فعلاً!

أما (زرياف المقداد) فقد بدتْ في قصتها "الكل يحترق" قاصة محترفة تراعي تناظر العلاقات الداخلية في قصتها، وتمزج الواقع بالأسطورة، وتربط ما بين الفردي والجمعي، وتماهي ما بين الهم الشخصي والهم الوطني، وتصطنع علاقة من نوع ما بين المرأة (أم محمود) التي سجن ولدها، والأرض العطشى للخصب والنماء.. ولقد بدت (المقداد) هنا مشغوفةً بالمطر والشمس والتراب. وهي ثلاثة عناصر من عناصر الكون الأربعة وفقاً للفكر الإغريقي القديم. ولكنها لم تنسَ العنصر الرابع فيها وهو "النار"، فقد ألقى بطل قصتها تلك برسوم تلامذته في المدفأة ولكنها لم تحترق، بل تحوّلت إلى فراش ملوّن لا يخاف اللهب... وإذا ساغ لنا أن نرى في رسوم التلامذة تمثيلاً لأحلامهم أولاً، ولأحلام الناس ثانياً، في الريّ والشبع والدفء والخصب، ساغ لنا القول: إن أحلام الناس لا تحترق، ولا يجوز لها أن تنطفئ... وهذا تفسير يدعمه قول المعلّم لتلامذته: "أنا الأخضر في النار" بمعنى أنا الذي لا يحترق. وعلى الرغم من أنه رسم لطلابه من قبل مدفأة، رؤوس لهبها كرؤوس أناس تحترق، فإنه لم يتبنّ الاحتراق، ولم يكن يرسم سوى ما يستنكره فعلاً، إنه يمزج ها هنا ما بين الواقع والرؤية، فالواقع يحرق الأشياء والأفكار والقيم، ولكن الكاتب لا يحترق، ولا تحترق أشياؤه ولا أفكاره ولا قيمه. وعليه فرسم المدفأة هو رسم للخارج، وعدم رسم له في الوقت ذاته... وها هو ذا بطل القصة يقول في عبارة كاشفة: "أصبح الآن خارج خارطة جسده وداخله واحداً... لا فرق بينهما... تماماً كداخل الغرفة وخارجها، أو كداخل المدفأة وخارجها.. أحسّ أنه يحترق ولا نار ولا دخان، بل إن الكل يحترق ولا نار ولا دخان" (المجموعة ص93)



وتحضر في القصة صورة (أم محمود) التي تكاد تحترق شوقاً لرؤية ابنها القابع في المعتقل حيث "يمسحون هناك ذاكرة الإنسان"(ص94)، لتتناغم مع خطاب الحريق في القصة. وفي الوقت الذي نرى معلم الرسم يروم أن يشرح لطلابه فكرة مزج الألوان، نرى الكاتبة تمزج الألوان في كتابتها، فتختلط عندها صورة المدفأة، بصورة السجن، وصورة ابن أم محمود الغائب، بصورة صديقه راوي القصة الحاضر، كما تتماهى صورة النافذة مع صورة الحرية، وصورة اللهب مع صورة النور، وصورة الخائف من النار، مع صورة عاشق النار. وقد مثَّل الطرف الأول في المعادلة الأخيرة (أم محمود) ومثل الطرف الثاني (الفراش الملون) الذي لا يخاف اللهب.



إن قصة "الكل يحترق" قصة معجونة عجناً تفاعل فيها الداخل مع الخارج، والذاتي مع الموضوعي، من خلال نقلات ما بين الخيال والواقع، فجاءت أثراً ثرياً وكثيفاً. وإذا تأملنا من جديد في عنوانها "الكل يحترق" فهمنا من كلمة "الكل" الناس والأشياء والأفكار والقيم. وعرفنا أن ناقوس خطر يدق، فلنحذر ولننتبه. ومن مزايا بنية هذه القصة أنها بنية مفتوحة تتيح للمتلقي أن يشارك في إنشائها وأن يعيد إنتاجها من جديد.



وإذا كانت قصة (المقداد) السابقة قد عنيت بشخصيتين اثنتين رئيسيتين هما: (المعلم) و(أم محمود)، فإن قصصاً أخرى في المجموعة قد حملت أحداثها ونهضت بها شخصيات أخرى تراوحت ما بين عامل مغبون، ومثقف بائس، وفتاة، وجدة، وأب، وجنود، وشهداء.. إضافة إلى شخصيات أخذت من عالم الحيوان، كما في قصص (ميلاد قندلفت).. وقلما استنطق كُتَّاب هذه القصص أشياء جامدة كالرصيف أو الطريق أو المقهى أو البحر أو النهر.. الخ.



وقد بدا بعض الأبطال والشخصيات أناساً إيجابيين ثائرين منتفضين، كما في قصّة (خلف الزرزور) "الخيار القاتل" وبدا بعضهم أناساً ضعافاً مستلبين، كما في قصة (الخطيب) "مجنون يتحدث عن نفسه" وقصة (إبراهيم النجار) (شواء على نار نزقة" وقصّة (حسين الكراد): "قردة الأحلام".



وبدت لي بعض هذه القصص وقد أثقلت بتفاصيل أبهظت كاهلها. وما كان يضيرها حذفها، كما هي الحال في قصة "مقتل القمر" والتي أرى أنها يمكن أن تكتب بأسطر أقل، فتكون أكثر كثافة، وأقوى تأثيراً، فعلى الرغم من أن الكاتب وشَّى مطلعها بعبارات عامية محلية أضفت عليها شيئاً من الحميمية، فإن هذا لم يشفع لما اعترى بنيتها من خلخلة ومجانية، إذ لم نجد أي تسويغ لقتل القمر الذي مثّله الشاب (علي) الذي أحبّ (نجمة)، فهل يكون ثمن الحب البريء قتلاً يقترفه صبية ثلاثة يتآمرون على موتٍ لا معنى له ولا غاية، وبعيدٍ عن أيّ قيمة نبيلة، أو أيّ موقف شريف؟ نعم تمكن (فيصل) من كشف الجريمة، ولكن هذا الكشف لم يهب القصة معنى كبيراً، أو مغزىً حقيقياً، فهو ابن الصدفة، وإذا كان هؤلاء القتلة الثلاثة أبناء (فلان) الزعيم، قد أُلْقي القبض عليهم وسجنوا بسبب جريمتهم كما في القصة، فإن الكاتب لم يقدّم لاستنكار فعلتهم هذه، من الأحداث والأقوال ما يكفي، ولم يُدِرْ حواراً بينهم يظهر سبباً مقنعاً من زاويتهم، وغير مقنع من زاويتنا، لهذا القتل المجاني، فارتطمت القصة بالمجانية، وارتضت أن تقصر متعتها على كشفٍ للجريمة جلبته الصدفة، ولم تدخل القبّة التي تجمع الأدب والقيم الكبرى في صعيدٍ واحد.



بقي لي، قبل أن أترك القلم، أن أشير إلى لغة هذه القصص، فقد لاحظت أن بعضها قد صيغ بيد صناع ملكت ناصية اللغة وصرّفتها في أنحائها الصحيحة تراكيب ومفردات، ولاحظت أن بعضها دلّ على أن كتّابها ضحّوا بسلامة اللغة ونحوها. ومن أمثلة هذا الملمح الأخير أخطاء وردت في الصفحات التالية: (8، 10، 11، 17، 18، 19، 41، 48، 66، 74، 75، 94،

133). ومن شواهدها: قول أحدهم: "وحده اليمني عمر بن كرب الزبيدي" والصواب: "عمرو بن معد يكرب الزبيدي". وقوله: "كنا كذبة متملقون" والصواب "متملقين". وكذلك وردت في (ص17) عبارة قاصرة غير مكتملة. وذلك في السطور الثلاثة الأولى من القصة. وفي (ص41) قال الكاتب "ما زال شعره أشقراً" والصواب "أشقر"، وتكرر تنوين اسم التفصيل هذا في (ص48) و(ص66). وجاء في (ص74) قول الكاتب "يتحدث بعضهم إلى البعض" والصواب بعضهم إلى بعض. وفي (ص75) ورد: " تمركز سائقوا السيارات" والصواب " سائقو" بلا ألف. وجاء في (ص94) قول الكاتب: "وتذكر إحدى رسوم الأولاد.." والصواب "أحد رسوم" لأن مفرد (رسوم) مذكر، وليس مؤنثاً! وورد في (ص133) قول الكاتب "هم قالوا لبعضهم" وهذا تعبير مغلوط وصوابه: "كان واحدهم يقول للآخر". وثمة هنات لغوية أخرى نعزف عن الوقوف عندها.



ورغم ما سبق، فإن بعض قصص (جنوبي سورية) قد أصاب حظاً من النجاح كبيراً، وبعضها لم يصب هذا الحظ، وقد بدا على قسم منها ملامح خبرة وتمرّس توحي بأن بعض الكتّاب أنشأوا قصصاً أخرى غير المنشورة ها هنا، ولم يخرجوها للناس، أو أنهم أخرجوها، ولم نقف عليها كلّها.. ولكن قسماً آخر أوحى بأنه ربما كان يكتب للمرَّة الأولى أو الثانية، وأن كتّابه ما زالوا في خطواتهم الأولى في هذا الجنس الأدبي، لم يتصلّب عودهم، ولم ترسخ أقدامهم بعد، لذا شاب نتاجهم صدوع فنية كثيرةً، كالوصف النافل الذي يخلّ بمبدأ التكثيف، والحوار الممطوط الزائد عن حدّه، وعدم استغلال النهايات استغلالاً حسناً لتكون لحظة تنوير وكشف. كما هي الحال في قصص الكاتب (زكريا تامر)، وغيره من القصاصين، والإسراف في وضع عنوانات داخل القصة لا تخدم حبكتها، أو تواليها السردي، فبدت نوافل يمكن الاستغناء عنها بسهولة دون ضير.

بَيْدَ أن ما يستحق التحية والإكبار هو الروح الجماعية الطيبّة التي كانت وراء نشر هذه المجموعة، والتي أرست قاعدة للتعاون والتفاهم بين أدباء طالعين، في الوقت الذي بذرت بذرة أولى يعتمد عليها النقاد، فيما بعد، حين يأتون ليؤرخوا كتابة القصة القصيرة في محافظة درعا، في قابل الأيام، أو ليؤرخوا للحركة الأدبية عامة في جنوبي سورية، التي لا يمكن النظر إليها، لغير غرض الدراسة، على أنها في معزل عن حركة التأثر والتأثير بمجمل إنتاج القطر، في مجال القصة القصيرة.

shreeata 26 - 4 - 2011 10:54 PM

سلمت يمناك
ويعطيك الف الف عافية اخي الكريم
لما لموضوعك من اهمية
في التعرف على الكثير من النواقص الخاصة بي
سلمت اخي الكريم
تحيات لك

B-happy 28 - 4 - 2011 06:23 PM

اشكرك يا الغريب على الطرح المفيد

تحياتي وتقديري لك

صائد الأفكار 30 - 4 - 2011 12:05 PM

ماشاء الله عليك
بورك بك وبطرحك المميز ويعطيك العافية
بانتظار المزيد من مواضيعك

صائد

سفير بلادي 20 - 6 - 2011 11:36 PM

مشكور على الطرح والافادة
لا عدمنا حضورك ومواضيعك

الغريب 3 - 5 - 2012 10:29 PM

اسعدني مروركم وشرفني حضوركم للموضوع وبـ ردودكـ م الراقية
منورين
تحياتي لكم والمودة الصادقة
#cc##cc#
اخوكم
الغريب


الساعة الآن 05:31 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى