منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القرآن الكريم والأحاديث وسيرة الأنبياء والصحابة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   ألم يروا ? ألم تر ? - د. مأمون فريز جرار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9076)

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:12 PM

ألم يروا ? ألم تر ? - د. مأمون فريز جرار
 
ألم يروا ( 1/3 )
د. مأمون فريز جرار





لا يدع القرآن الكريم فرصة إلا ويذكر الإنسان بحقائق الوجود ، ويدعوه إلى النظر والرؤية والتفكر والتدبر ، حتى يظل في نهار دائم لا تغشيه ظلمات الشبهات ، ولا غيوم الشهوات ، وإن حدث شيء من ذلك سرعان ما ينجلي كما قال ربنا سبحانه : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) . وهذا على خلاف ما عليه من كفر بالله تعالى فهو في ظلمات دائمة ، لا تنفعه آية موقظة ، ولا يوقظه حدث هائل ، ولا يتجلى له ما في المشاهد المعروضة من الآيات البينات. وهذا ما دلت عليه أكثر من آية كريمة ومنها قوله تعالى في الآية 146 من سورة الأعراف : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ) ، فنحن أمام صنف من البشر لا يرى الآيات ولا تنفع معه البينات ، لأنه مغلق لنوافذ الإدراك ، ومعطل لوسائل التواصل مع الكون من حوله ، فهو يعيش في قوقعة الكبرياء التي صنعها لنفسه .
وهذا الحال تبينه الآية 25 من سورة الأنعام : (وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَاعَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُٱلأَوَّلِينَ ) وهذه صورة أخرى لمن عطل كل وسائل الإدراك من قلب في كنان فلا يفقه القرآن وآياته ، وأذن يسدها الوقر فلا تسمع الآيات ولا تنتفع بها ، وعين لا ترى الآيات المتجلية آيات ولذلك لا يتسلل الإيمان من خلالها إلى القلب . هذا الحال الذي يعيشه الكفار يجعلهم يرون الأمور على غير حقيقتها حتى ما كان منها ظواهر طبيعية ، ومن ذلك ما بينه قوله تعالى في الآية 44 من سورة الطور : (وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ) فقد بلغ بهم العمى أن يظنوا العذاب النازل من السماء سحابا نازلا عليهم بالمطر . ومثل ذلك رؤيتهم المعجزات الدالة على النبوة سحرا ممتدا والنتيجة هي أنهم يظلون على كفرهم ولا يؤمنون ، وذلك ما ورد في الآية الثانية من سورة القمر : (وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) .
هذا حال الكافرين حين تحدث القرآن عنهم حديثا مباشرا ووصف واقعهم وصفا يكشف تعطيلهم للرؤية .
وقد وردت في القرآن الكريم صيغة ( ألم يروا ) و( أولم يروا ) و ( أفلم يروا ) في سياقات متعددة منها ما يحمل العجب من الكفار الذين رأوا الآيات ثم عموا عنها ، ومنها ما يلفت النظر إلى آيات متاحة للتفكر والتدبر للوقوف عندها والانتفاع بها .
في مطلع سورة الأنعام حديث عن الكفار وأحوالهم من إعراض عن آيات الله وتكذيب بالحق ُ ويأتي التعجيب من عماهم عما كان من قبل من آيات الله تعالى في القرون الخالية في الآية 6 في قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم من قرن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) وفي هذا المشهد تعجب الآية من غفلة الكفار عن حال الأمم السابقة التي كانت في خير ونعمة أكثر مما هم فيه، من مطر نازل وأنهار جارية ، وما يترتب على ذلك من رخاء وخيرات، كل ذلك لم يمنع عن تلك الأقوام عذاب الله تعالى حين كذبت بآياته لتصبح سلفا لأمم جاءت بعدها ، وفي هذا تهديد بأن الله تعالى الذي أهلك من سبق لكفرهم يهلك اللاحقين بالذنب نفسه .
ومن الباب نفسه ، باب إهلاك الأمم السابقة ما ورد في الآية 31 من سورة ياسين : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ )
ومنه ما ورد من الحديث عن قوم عاد الذين آتاهم الله نعما كثيرة فقابلوها بالجحود والاستكبار والغرور بالقوة وتكذيب نبيهم هود عليه السلام فقال الله تعالى عنهم في عجب من عماهم عما يجب أن يروه من آيات الله البينة في الآية 15 من سورة فصلت : ) فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ )
وهكذا يمضي القرآن الكريم في منهج التنبيه والتذكير وجلاء القلب والحواس لتظل على بينة من أمرها ، وللحديث بقية بإذن الله .

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:14 PM

ألم يروا 2 \ 3

أليس عجيبا أن يعيش الإنسان مع آيات الله في نفسه وفي الأرض التي يسير عليها وفي السماء التي تظله ، أي يعيش محاطا بالآيات من الجهات الست وأضيف إليها جهة سابعة هي نفسه التي بين جنبيه ثم يقع في الغفلة عنها ، ولا يدركها ولا يلتفت إليها ؟
ولهذا نجد في القرآن الكريم الذي علينا ألا ننقطع عنه قراءة وتدبرا ، نجد تذكيرا دائما بهذه الآيات لمسح آثار الغفلة التي يقع فيها الإنسان لانشغاله بأمور تذهله عنها بل تذهله عن نفسه ، ونتذكر هنا قوله تعالى عن هؤلاء ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) .
وقد رأينا في المقال السابق بعض حديث القرآن الكريم عن غير المؤمنين في صيغة ( ألم يروا ) تعجبا من غفلتهم وتنبيها للمؤمنين ألا يغفلوا كغفلتهم ، وقد وقفنا من قبل عن العجب من غفلة الكافرين عما حل بأسلافهم من العذاب وبين أيديهم شواهد من آثارهم .
ونقف اليوم على مواضع وردت فيها صيغة (ألم تر) ولكنها في مجالات متنوعة تشمل أمورا مختلفة
ومنها الآية التاسعة من سورة سبأ التي تتحدث عن آيات متنوعة تشمل السماء والأرض ، وتشير إلى ما يلتفت إليه الإنسان من آية استقرار الأرض من تحته ، تلك الآية والنعمة التي لا يتنبه إليها الإنسان إلا حين يحدث خسف هنا أو هناك ، أو زلزال وبركان ، يكون من عواقبهما كوارث كبيرة ، وكذلك في الآية تنبيه للإنسان إلى أن في السماء ألوانا من العذاب المحبوسة عنه ، تلك الألوان التي يرى بين حين وآخر مثالا منها ، ومن ذلك النيازك والشهب التي تتنزل نحو الأرض . نجد هذا في قوله تعالى : ( أَفَلَمْ يَرَوْاْ إًلَى مَا بَيْنَ أَيْدًيهًمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مًّنَ السَّمَآءً وَالأَرْضً إًن نَّشَأْ نَخْسًفْ بًهًمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقًطْ عَلَيْهًمْ كًسَفاً مًّنَ السَّمَآءً إًنَّ فًي ذَلًكَ لآيَةً لًّكُلًّ عَبْدْ مُّنًيب).
ونجد من الآيات ما يحاور الإنسان الكافر ولكن في صورة الغائب لا المخاطب وكأن في هذا الأسلوب تغييبا لهم لأنهم غابوا عما لا ينبغي أن يغفلوا عنه من آيات ربهم سبحانه الذي خلقهم وخلق لهم كل وسائل الحياة على الأرض بل سخر لهم كل ما في الوجود من حولهم ، هذا الإله الذي خلق السماوات والأرض لا يعجزه شيء ، فلا يعجزه أن يعيد خلقهم أو يذهبهم ويخلق مثلهم فهو على كل شيء قدير ودلائل قدرته لا تخفى إلا على عمي القلوب . وهذا ما ورد في سورة الإسراء في الآية 99 ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذًي خَلَقَ السَّمَاوَاتً وَالأَرْضَ قَادًرّ عَلَى أَن يَخْلُقَ مًثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فًيهً فَأَبَى الظَّالًمُونَ إًلاَّ كُفُوراً)
ويكون خلق السماوات والأرض وما فيهن من دلائل القدرة الإلهية والآيات الباهرة الظاهرة ، يكون ذلك كله دليلا على البعث بعد الموت ، فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، والذي يخلق الكبير لا يعجزه الصغير ، والذي يبدأ الخلق يكن أهون عليه أن يعيده ، إلا عند مماحك عمي قلبه ، وانطمست حواسه واسودت مراياه فلا تنعكس فيها دلائل القدرة ، تتجلى هذه المعاني في قوله تعالى في الآية 33 من سورة الأحقاف : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذًي خَلَقَ السَّمَاوَاتً وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بًخَلْقًهًنَّ بًقَادًرْ عَلَى أَن يُحْيًـيَ الْمَوْتَى بَلَى إًنَّهُ عَلَى كُلًّ شَيْءْ قَدًيرّ )
ويعجب الله تعالى من الكافرين الذين يرون بداية الخلق ثم يعجبون من إعادته ، وفي هذا العجب لفت للنظر إلى القدرة التي تجلت أول مرة والتي تتجلى مرة أخرى عند بعث الموتى ودعوة إلى البحث في كيفية نشوء الخلق وتجلي الآيات في المخلوقات وذلك في الآية 19 من سورة العنكبوت : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدًئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعًيدُهُ إًنَّ ذالًكَ عَلَى اللَّهً يَسًيرّ )
ويمضي القرآن يطرق قلب الكافرين وحواسهم ويستثير لديهم التفكير ويدفعهم إلى النظر مرة بعد مرة وفي موضوع تلو الآخر ، وها هو يلفت النظر إلى حال الناس مع الرزق ، وهو أمر حير العقلاء عبر مسيرة الإنسان ، فليس للرزق قانون معلوم ، فلا يرتبط بذكاء ولا يرتبط بعلم ولا يرتبط بعمر ، يتلخص أمره في قوله تعالى ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) ويركض بعض الناس في الأرض ركض الحيوانات في البرية ثم لا ينال إلا ما قسم له مع السعي ، وها هي الآية 37 من سورة الروم تلفت النظر إلى بسط الرزق وقبضه في إشارة موجزة بليغة ولكنها تفتح للعقل الواعي باب التفكير الواسع (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرًّزْقَ لًمَن يَشَآءُ وَيَقْدًرُ إًنَّ فًي ذَلًكَ لآيَاتْ لًّقَوْمْ يُؤْمًنُونَ ) نعم في الرزق وتقسيمه آيات لقوم يؤمنون ، بل في كل جانب من الكون آيات لمن يعقلون

يتبع

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:15 PM

ألم يروا 3\ 3

وتمضي آيات القرآن الكريم في تقريع وتنبيه لا ينتهيان للكافرين الذين تعاموا عن آيات الله تعالى المبثوثة في كل اتجاه وهاهي الآيات الكريمة تلفت النظر إلى مجموعة من الظواهر الكونية والكائنات الطبيعية التي يتصل بها الإنسان وتتصل به لا يجوز ان يمر بها أو تمر به وهو في غفلة عنها وعن تجلي آيات الله تعالى فيها ومن ذلك آية نقص الأرض من أطرافها واقرب ما يمكن قبوله من معنى في هذه الآية نقص ديار الكفر وزيادة ديار الإسلام لأن الأمر مما يمكن ان يدركه الكفاروذلك ما ورد في قوله تعالى في الآية 41 من سورة الرعد : (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَنَ نقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَسَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ) ومما يزيد هذا الفهم قبولا ما ورد من حديث عن حكم الله الذي لا معقب لحكمه وحسابه السريع للعباد ، ففي هذا الأمر عبرة تتجلى في ما كان من نصر الله تعالى لعباده في العهد النبوي وبعده الذين كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم ونصرهم وخذل عدوهم بل امتد نور افسلام من بعد إلى مشارق الأرض ومغاربها بل إننا في هذا الزمن الذي انطوت فيه الهيمنة السياسية للإسلام نجد امتداده وتأثيره الذي يثير رعب دول كبرى فتلجأ إلى تشريعات تسعى إلى الحد من المد الإسلامي
وآية اخرى كريمة من آيات الله تعالى تشير إلى غفلة الكافرين عنها هي آية الظل التي ورد عنها الحديث ولفت النظر في صيغة " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) وهنا في الحديث عن الكافرين وغفلتهم جاء الحديث عنها وعن غفلتهم عنها مع أنها آية ممتدة في حياة البشر يلمسون نعمة الله تعالى فيها وذلك ما نجده في الآية 48 من سورة النحل (أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِنشَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ )وكم في هذه الاية من تقريع للبشر الذين يستكبرون عن السجود لله تعالى الذي تسجد له ظلال الأشياء .
وتمضي الآيات تجوب أقطار هذا الوجود تلتقط ما فيها من الآيات البينات التي يغفل عنها الكافرون ويجب أن يتنبه إليها المؤمنون ومنها آية الطير وقد جاء الحديث عنها في موضعين في سياق ( ألم يروا ) الأولى في قوله تعالى في الآية 79 من سورة النحل : (أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فمنظر الطيور المتعددة في السماء مسخرة لا بد أن يلفت النظر ويثير التساؤل ويكشف عن بعض دلائل القدرة الربانية ومن المهم التوقف عند كلمة ( مسخرات ) فطيران الطيور ليس عن مزاج أو رغبة بل هو تسخير رباني
وهناك آية أخرى تتحدث عن الطير في الآية 19 من سورة الملك : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) وتلفت هذه الآية النظر إلى اصطفاف الطير في السماء وكونها في قبضة القدرة الربانية ، وفي الآية الأولى لفت نظر إلى الآيات المتجلية في الطيران .
ومن التحليق في جو السماء مع الطير تنقلنا الآيات إلى الأرض وما تنبت من أنواع النبات التي لا يكاد يحصرها الإحصاء مغ إشارة إلى ظاهرة الزوجية في النبات التي يعد حديث القرآن عنها في أكثر من موضع دليلا من أدلة لاتحصى على ربانية القرآن الكريم ، جاء في الآية 7 من سورة الشعراء : (أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) وقد جاء الحديث عن آيات الله تعالى في النبات في سياق الرد على الكافرين الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فسردت لهم سورة الشعراء آيات من التاريخ والواقع ومن الطبيعة جاء عقب كل منها ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين )
وقد جاء الحديث عن آية النبات وإعراض الكفار عنها في الآية 27 من سورة السجدة ولكن مع ربط النبات بما جعله الله تعالى سببا للحياة في الأرض وهو الماء الذي يرسله الله تعالى إلى الارض الميتة فتدب فيها الحياة : (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) ونجد في هذه الآية لفتا للنظر هنا إلى الزرع الذي يأكله الناس والأنعام التي جعلها الله تعالى مصدر خير متنوع للإنسان.
وكان للأنعام نصيب في الآيات التي تحدثت عن غفلة الكافرين وهل يستغني الناس حيث كانوا عن الأنعام التي يتمتعون بلحومها وألبانها وجلودها وأشعارها ووبرها ولهم فيها منافع شتى في الركوب والحراثة وغير ذلك فكيف تكون الغفلة عن خالقها الحكيم الخبير ؟ وقد جاء ذلك في الآية 71 من سورة ياسين : (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّاعَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) وما أشده من عتاب وما أعلاه من تكريم يجتمعان في قوله تعالى ( مما عملته أيدينا ) فأي حق عظيم لله تعالى على هذا الإنسان الجاحد الذي خلقه الله تعالى بيده وأسجد له ملائكته وخلق له ( بأيديه ) أنعاما يتمتع بها وجعلها مسخرة له يتملكها ؟
وتمضي الآيات الكريمة لتلفت النظر إلى آيتي الليل والنهار اللتين تتعاقبان على الأرض ولهما في حياة البشر أثر كبير وذلك في قوله تعالى في الآية 86 من سورة النمل : (أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فالليل للسكون واستعادة القوة بعد سعي نهار كامل ذلك النهار الذي تنكشف فيه الأشياء فيبصرها الناس ولا بد من وقفة عند وصف الاية للنهار نقسه أنه مبصر وكم في هذا الوصف من تشخيص موح يحول النهار من زمن محدود إلى كائن حي يتعايش الناس معه ويبصرون ببصره .
وأخيرا يقف القرآن الكريم مع أهل مكة الكفار ثم مع الناس جميعا في ظاهرة تلفت النظر هي الأمن الذي أحاط بمكة المكرمة منذ كانت مع الخوف الذي كان يعيشه من هم خارجها في جزيرة العرب وفي العالم ، هذا الأمن آية من آيات الله تعالى الدالة على قدرته بحمايته بيته الحرام
وهكذا تمتد الآيات الدالة على القدرة الإلهية والحكمة الربانية في آفاق الوجود لتقيم الحجة على الناس وتفتح لهم نوافذ الإيمان إن أرادوه.

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:27 PM

ألم تر آثار عذاب الله
د مأمون فريز جرار
مما دعانا الله تعالى إليه في صيغة ( ألم تر ) التفكر في ما أنزل الله تعالى من العذاب في بعض من سبق من الأمم ، وقد جاء الحديث عن ذلك في موضعين ، الأول في سورة الفجر في قوله تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد )
ولا يخفى أن المقصود من صيغة ( ألم تر ) الإعلام بأمر كان ولفت النظر إلى ما فيه من العبرة التي تتجلى فيها دلائل القدرة الإلهية التي لا يعظم أمامها طاغ ولا باغ مهما يكن له من القوة والقدرة ، وفي هذه الآيات الكريمة نجد حشدا لأبرز الطغاة في تاريخ البشرية من الأمم والأفراد ، فأما الأمم فنجد في المشهد عادا وثمود ، ونجد من أوصاف عاد ما يدل على ما كانت فيه من القوة التي تجلت في مدينة ( إرم ) ذات العماد ، التي لم يكن لها شبيه في البلاد ، ولعل من المفيد لاستكمال الصورة مراجعة ما ورد من أخبار عاد الذين قالوا من أشد منا قوة ؟ والذين قال لهم نبيهم هود محذرا إياهم ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) هؤلاء الطغاة الذين حفظ لنا القرآن الكريم بعض أخبارهم ليكون لنا فيهم عبرة ، وليكون في ما قد يكتشف من آثارهم في يوم ما شاهد صدق على ربانية القرآن الكريم يجده من يعيش ذلك الحدث ليكون دليلا مضافا إلى أدلة لا تحصى ، فيكون في صيغة ( ألم تر ) دعوة إلى التنقيب والبحث للوصول إلى آثار تدل على القوة التي كانت لأولئك القوم الطاغين الذين أهلكهم الله تعالى بجندي من جنوده :الريح التي سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام .
ومع عاد تبرز في المشهد صورة ثمود الذين ما زالت آثارهم في الصخور التي نحتوها واتخذوها مساكن لهم في الحجر ، وشبيه بها ما في البترا ، وقوم ينحتون الجبال بيوتا لا بد أنهم كانوا قوما جبارين ، ولكن جبروتهم لم يمنعهم من نزول العذاب بهم وهلاكهم بصيحة أخذتهم فصاروا كأن لم يكونوا وبقيت آثارهم دليلا عليهم وعلى ما حل بهم من عذاب الله تعالى .
ومن الأفراد الطغاة يبرز في المشهد أعتاهم : فرعون الذي قال : (أنا ربكم الأعلى) ، و (ما علمت لكم من إله غيري) ، ويبرز أهم ما تركه الفراعنة على مر الدهور : الأوتاد ، وأنا أميل مع من رأى أن الأوتاد هي الأهرام ،
ويأتي الوصف الجامع لعاد وثمود وفرعون : أنهم (طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ) ويأتي المصير المشترك بينهم وهو ( فصب عليهم ربك سوط ) وليقف الخيال عند سوط العذاب النازل بأشكال مختلفة على الطاغين في مختلف الأزمان والأماكن .
ثم يأتي بعد ذلك السوط المجهز للطغاة عبر العصور : ( إن ربك لبالمرصاد ).
وننتقل إلى سورة الفيل لنجد الأسلوب نفسه ( ألم تر كيف فعل ربك ) مكررا ولكن ليتحدث عن أمر كان قريبا من عهد النبوة ( أصحاب الفيل ) ، ولكنه بعيد عن الأجيال الآتية ، وهو ما حل بأصحاب الفيل : أبرهة وجيشه الذين جاؤوا غازين لبيت الله الحرام الذي لم يجد من البشر من يدافع عنه فكان التصدي الرباني لذلك الجيش بجيش سماوي ( قأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول )
وهكذا يبرز في المشهدين وفي السياق طغيان البشر والعقوبة الربانية التي هي له بالمرصاد .

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:29 PM

ألم تر خفايا آيات الله


..ويظل القرآن الكريم يلح على الإنسان بالدعاء الملح المتكرر الداعي إلى الوعي والتنبه والعلم بما هو متاح تحت حواسه ، ميسر التفكر فيه بعقله ، وما لم يكن له به علم من خافي الآيات التي لا يعلمها إلا الله خالق كل شيء والعليم بكل شيء رب العالمين.
ومن النوع الأخير مما يدخل في العلم الخفي من آيات الله تعالى ودلائل قدرته وهيمنته على الوجود كله ظاهره وباطنه ما ورد في قوله تعالى في الآية 83 من سورة مريم (أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطًينَ عَلَى الْكَافًرًينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً) وهذا من أمر الغيب الذي لا يطلع عليه بشر إلا ببيان رباني يكشف عن حال خفي للكفار الذين كقروا بالله وآمنوا بالطاغوت ورضوا بولاية الشيطان وأعرضوا عن ولاية الرحمن ، فكانت عاقبتهم إرسال الشياطين عليهم يغرونهم بالمعاصي ويهيجونهم إلى ارتكاب المنكرات التي يجدون عاقبتها العاجلة في الدنيا في عقوبات الفطرة بما يصيبهم من الهموم والعقد النفسية ، وبما يصيبهم من أمراض جسدية لأن ولاية الشياطين مفتاح كل شر في الدنيا والآخرة.
ومن خفايا الأمور التي أعلمنا ربنا بها في هذا الاستفهام التحريضي مما لا علم لنا به لأنه لا يقع تحت الحواس قوله تعالى في الآية 18 من سورة الحج: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فًي السَّمَاوَاتً وَمَن فًي الأَرْضً وَالشَّمْسُ والْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجًبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثًيرّ مًّنَ النَّاسً وَكَثًيرّ حَقَّ عَلَيْهً الْعَذَابُ وَمَن يُهًنً اللَّهُ فَمَا لَهُ مًن مُّكْرًمْ إًنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ).
إننا مع هذه الآية نحس أنفسنا في هذا الكون وقد تجلى في صورة مسجد كبير لا حدود له ونرى فيه كل شيء وقد خر لله تعالى ساجدا بل مكررا للسجود في كل حين ، حيث ورد فعل (يسجد) ليدل على الاستمرار والتكرار لنتابع المشاهد في السماوات التي هي مساكن الملائكة المكرمين والأرواح الطاهرة للمؤمنين في عليين ، ولتجعلنا نعيد النظر في ما نرى من حولنا في الأرض من كائنات لنراها ساجدة لله تعالى منقادة لأمره تعرفه إلها معبودا لا إله غيره ولا رب سواه ، وقد استخدمت الآية الاسم الموصول (من) وهو يدل على العقلاء. وهذا الاستخدام يردنا إلى الآية 15 من سورة الرعد التي تخبرنا أن الله تعالى يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ، وتبرز في المشهد كائنات متميزة لها بالإنسان صلة بل إن بعضها اتخذه بعض الناس آلهة عبدها من دون الله تعالى أو جعلها شريكة له سبحانه في العبادة فهناك من عبد الشمس والقمر ، وها نحن نراهما وهما في جو السماء ساجدين لله تعالى عابدين له مما ينزع عنهما هيبة المعبود حين نرى فيهما انقياد العابد ، ونرى في المشهد ذاته ، مشهد السجود والعبودية: الجبال ، هذه الكائنات الضخمة البارزة فوق الأرض ، فتسقط هيبتها من أنفسنا ، بل تتحول في أعيننا إلى كائنات عابدة لله تعالى معنا فنحبها وتحبنا لأننا جميعا عابدون لله تعالى ساجدون له كل على طريقته ، ويبرز في مشهد السجود والعبودية الشجر ، ولنا أن نغمض أعيننا ونسرح بخيالنا ونحن نستجمع صور الشجر في الأرض كلها لنراها ساجدة عابدة منقادة لأمر خالقها تؤدي ما خلقت له وتعطي ما أمرت به لا تتخلف عنه يوما ، ومع الأشجار الثابتة في أماكنها الشامخة إلى الأعالي تبرز في مشهد السجود الدواب من الكائنات الحية التي تدب على الأرض من كل شكل وحجم ولون ، ولكل منها وظيفة على هذه الأرض فلم يخلق أي منها عبثا ، وقد تخفى على بعض الناس وبعض الأجيال وظيفتها لكن حكمة خلقها تتجلى لأجيال أخرى تكتشف بديع صنع الله تعالى وبعض دلائل حكمته لتقوم الحجة على الناس في كل عصر أن لهم ربا حكيما لا بد من عبادته والسجود له انسجاما مع الكائنات الجامدة والحية ، المحلقة في السماء والشامخة على الأرض ، الثابتة والمتحركة ، فهل يجوز لهذا الإنسان الذي تميز عنها جميعا بل سخرت له جميعا أن يكون الناشز في مشهد السجود والعبودية؟ ولذلك جاء الحديث في الآية عن سجود كثير من الناس لله تعالى ولكن كثيرا من الناس هم من المتمردين الذين يأبون السجود ولذلك حق عليهم العذاب وحق عليهم الهوان لتمردهم على ربهم سبحانه.
ومن خفيات الأمور التي علمنا إياها ربنا سبحانه بالاستفهام التحريضي ما ورد في الآية 41 من سوزرة النور: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبًّحُ لَهُ مَن فًي السَّمَاوَاتً وَالأَرْضً وَالطَّيْرُ صَآفَّاتْ كُلّّ قَدْ عَلًمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبًيحَهُ وَاللَّهُ عَلًيمّ بًمَا يَفْعَلُونَ). وفي هذه الآية لا يبرز مشهد السجود بل يتجلى مشهد سمعي هو مشهد التسبيح الذي لو أصخنا السمع جيدا لأدركناه ولسمعناه ولكن اسماعنا مشغولة عنه ، ولكننا نسمع من هذا التسبيح ما يكون من الطير من تغريد وزقزقة يحولها هذا المشهد من أصوات (طبيعية) إلى تسبيح لله تعالى بل نجدها واعية بما تقوم به عالمة بما هو مطلوب منها من صلاة وتسبيح هي ومن يشاركها في شأنها ممن في السماوات والأرض من المسبحين والمصلين فيدعونا هذا المشهد إلى أن ندخل في حلقة الذكر الكونية لنشارك هذه الكائنات في تسبيحها وصلاتها.

أبو جمال 8 - 8 - 2010 08:58 PM

ألم تر نماذج من البشر


ونمضي مع الدعوة القرآنية للناس إلى الرؤية المتبصرة ، والتفكر في ما هو تحت حواسهم بل الامتداد إلى ما وراء الحواس مما تكشف عنه الآيات القرآنية من خفايا الوجود: لتكون هذه الدعوة حافزا إلى البحث والنظر ، والرحلة بالفكر والبدن ، في جنبات الأرض وفي آفاق الكون في عالم الغيب وعالم الشهادة ، في الكون وفي الإنسان.
ومما لفت القرآن الكريم نظرنا إليه في صيغة (ألم تر) نماذج من المواقف البشرية التي تتكرر في حياة البشر وهي ليست حالات فردية. ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى في سورة النساء في الآيتين 49 50و : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلً اللَّهُ يُزَكًّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتًيلاً ، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) وقد ورد في كتب التفسير أن المقصود بالمتحدث عنهم اليهود ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا كان مذموما من اليهود أن يزكوا أنفسهم بدعاوى مختلفة ، وأوهام مختلفة فإن الأمر نفسه مذموم من كل أحد ، وقد ورد النهي المباشر عن تزكية النفس في مواضع من القرآن الكريم ، فصار فعل اليهود نموذجا مذموما منهيا عنه ، بل صاروا به مفترين على الله تعالى بادعاء منزلة متوهمة لهم عنده بأنهم أبناء الله وأحباؤه وزعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة وغير ذلك من المفتريات ، وبعد هذا الالتفات لإلى نوذج تزكية النفس ادعاء يأتي في السورة نفسها ذم نموذج التحاكم إلى الجبت والطاغوت وقد تحثنا عنه من قبل.
ومن الباب نفسه نجد لفت النظر إلى نموذج من الناس يستجيب لأمر الله في الصلاة والزكاة وفي الكف عن القتال ، فإذا جاء الأمر بالقتال كانت استجابته له دون استجابته للصلاة والزكاة وملأ الخوف من الموت قلبه وجرى ذلك على لسانه ، ويأتي القرآن الكريم ليصحح هذا الموقف ويعيد تشكيل الميزان ليبين أن الآخرة هي دار القرار ، والخوف من الموت وترك لا يبعد الأجل ولا يطيل العمر ، وذلك ما تحدثنا عنه الآية 77 من سورة النساء : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ قًيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدًيَكُمْ وَأَقًيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتًبَ عَلَيْهًمُ الْقًتَالُ إًذَا فَرًيقّ مًّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةً اللَّهً أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لًمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقًتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إًلَى أَجَلْ قَرًيبْ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلًيلّ والآخًرَةُ خَيْرّ لًّمَنً اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتًيلاً).
ومن النماذج التي حدثنا القرآن الكريم عنها في صيغة (ألم تر) الشعراء الذين تعطيهم موهبة الشعر غير المنضبطة بالإيمان صفات خاصة ويكون لهم عالمهم الخاص ، وذلك ما تحدثنا عنه آيات من سورة الشعراء 224( - )226 في قوله تعالى : «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبًعُهُمُ الْغَاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فًي كُلًّ وَادْ يَهًيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُون».
ونحن هنا أمام العالم الخيالي الذي يسرح فيه الشعراء ، ويرون فيه الأشياء بمنظار الوهم لا بنور الحقيقة ، ويصورون الأشياء بعيدا عن واقعها ، ولا سيما إذا كانوا ممن لا يؤمنون بالله أو كان إيمانهم ضعيفا وانجرافهم مع أهوائهم شديدا ، ولذلك جاء من بعد الاستثناء للمؤمنين من الشعراء في الآية 227 : إًلاَّ الَّذًينَ آمَنُواْ وَعَمًلُواْ الصَّالًحَاتً وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثًيراً وَتنتَصَرُواْ مًن بَعْدً مَا ظُلًمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذًينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبْ يَنقَلًبُونَ.
ومن النماذج التي حدثنا عنها القرآن الكريم نموذج ما يطلق عليه اسم الطابور الخامس في عصرنا والآيات تتحدث عن منافقين ويهود كما ورد في كتب التفسير ، لكنه موقف يمكن أن يتكررمن بعد في مواطن يكون فيها المجتمع الإسلامي مخترقا من عناصر مريبة لم يحسن إيمانها فتقوم بسلوك يؤدي إلى الريبة والتخذيل في الصف الإسلامي وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في سورة المجادلة : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ نُهُواْ عَنً النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لًمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بًالإًثْمً وَالْعُدْوَانً وَمَعْصًيَتً الرَّسُولً وَإًذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بًمَا لَمْ يُحَيًّكَ بًهً اللَّهُ وَيَقُولُونَ فًي أَنفُسًهًمْ لَوْلاَ يُعَذًّبُنَا اللَّهُ بًمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبًئْسَ الْمَصًيرُ).
والفعل الذي يقوم به هذا النموذج من البشر جريمة شنيعة يستحقون بها عذاب جهنم.
ويمضي القرآن الكريم يلفت النظر بـ(ألم تر) إلى مواقف تثير الريبة وتؤدي إلى سوء مصير أصحابها لسوء نواياهم وقبح أعمالهم ، وها هي الآية 14 من سورة المجادلة تحدثنا عن موقف بعض المنافقين الذين تولوا اليهود وناصروهم على المسلمين ، وهذا موقف يتكرركلما كان هناك صفان : صف إيمان وصف كفر وقوم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وذلك ما تفيده الآية الكريمة : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضًبَ ؟للَّهُ عَلَيْهًم مَّا هُم مًّنكُمْ وَلاَ مًنْهُمْ وَيَحْلًفُونَ عَلَى الْكَذًبً وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وختام الحديث بـ(ألم تر) عن هذه المواقف والنماذج في سورة الحشر في الآية 11 التي تحدثنا عن مواقف المنافقين الذين ناصروا اليهود ثم تخلوا عنهم وخذلوهم في أحرج الأوقات ، وذلك شأن المنافقين الذين يقومون بدور الشيطان بين الناس قال ربنا في وصف هذا النموذج : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإًخْوَانًهًمُ الَّذًينَ كَفَرُواْ مًنْ أَهْلً الْكًتَابً لَئًنْ أُخْرًجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطًيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإًن قُوتًلْتُمْ لَنَنصرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إًنَّهُمْ لَكَاذًبُونَ).
وهكذا تتجلى من خلال هذا الأسلوب هذه النماذج والمواقف مع دعوة إلى الالتفات والتفكر الذي يؤدي إلى الحذر من سوء العاقبة.

أبو جمال 8 - 8 - 2010 09:05 PM

ألم تر نعم الله وآياته ؟
ونمضي مع سائقنا في استجلاء آيات الله ، وسائقنا هو التعبير القرآني : ( ألم تر ) يقودنا من أفق إلى آخر ليلفت نظرنا إلى ما لا يجوز أن نغفل عنه أو نجهله .
واليوم نقف مع عدد من الآيات القرآنية المبدوءة بصيغة : ( ألم تر) ، وهذه الآيات تلفت نظرنا إلى بعض نعم الله تعالى علينا التي في كل منها آية دالة عليه مذكرة به .

وأولى هذه الآيات قوله تعالى في سورة إبراهيم في الآية 19 : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتً وَالأَرْضَ بًالْحقًّ إًن يَشَأْ يُذْهًبْكُمْ وَيَأْتً بًخَلْقْ جَدًيدْ ) وهذه نعمة هي أم النعم نعمة الخلق والإيجاد من جانب وقيام هذا الخلق على الحق ، فالحق اسم من أسماء الله تعالى ، فبالحق خلق وبالحق أنزل كتبه وبالحق أرسل رسله وإلى الحق دعا عباده وبالحق يعاملهم في الدنيا والآخرة ، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن يكون الحق مرجعنا ومنهجنا في حياتنا بالتزام ما أنزل الله تعالى في كتابه .
وفي سورة الحج نجد أنفسنا مرتين أمام الدعوة إلى الرؤية والتنبه إلى بعض آيات الله تعالى ،

المرة الأولى توقفنا آية كريمة على ظاهرة متكررة هي الماء النازل من السماء ، هذه النعمة التي ألفها الناس ونسبها بعضهم إلى الطبيعة والعتاد عليها حتى فقدت بهجتها وروعتها وما لها من أثر في إحياء الأرض ونمو النبات وما يتبع ذلك من آثار في حياة البشر ، وذلك في الآية 63 في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مًنَ السَّمَآءً مَآءً فَتُصْبًحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إًنَّ اللَّهَ لَطًيفّ خَبًيرّ ) ومن المهم أن نقف على ختام الآية الكريمة وما ورد فيه من أسماء الله تعالى : لطيف وخبير ، وواضح أن نزول الغيث من السماء من آثار لطف الله تعالى ، ومن تجليات خبرته بخلقه وإحاطته بحاجاتهم التي ييسرها لهم برحمته ، فالله تعالى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء .
والآية الأخرى هي قوله تعالى في الآية 65 من سورة الحج : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فًي الأَرْضً وَالْفُلْكَ تَجْرًي فًي الْبَحْرً بًأَمْرًهً وَيُمْسًكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضً إًلاَّ بًإًذْنًهً إًنَّ اللَّهَ بًالنَّاسً لَرَءُوفّ رَّحًيمّ).
وهنا نحن أمام صورة شاملة تشمل الأرض كلها وكل ما فيها مسخر لنا ، وهو مشهد يعجز الحق عن الإحاطة به ولكنه إن لم يدركه بالبصر أحاط به بالتصور والإدراك التدريجي المرتبط بالحاجات ، ومن هذا المشهد الممتد نجد صورة مقربة لنعمة مهمة قريبة ونعمة أو قانون كوني ، أما النعمة القريبة فهي جريان الفلك في البحر وما يترتب عليها من اكتشاف آيات الله تعالى في البحر من نقل واكتشاف والحصول على خيرات غير محدودة من السمك واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من النعم ، وهناك الآية الخفية البعيدة التي تشمل الوجود كله ، هذه الآية التي سماها العلم الجاذبية ولفتت الآية إليها بإمساك الله تعالى أن تقع على الأرض وفي هذا المشهد ما يثير الرعب من جانب ويلفت النظر إلى هذه الكواكب والنجوم المعلقة في السماء والسؤال عما يمنعها من السقوط على الأرض ، ولكن في الآية تطمينا بأن الخالق الرؤوف الرحيم هو الذي يمسكها ويدير أمرها برأفته ورحمته .
وفي سورة النور نجد هذا الاستفهام التحريضي : ألم تر في الآية 43 في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجًي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلًّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مًنْ خًلاَلًهً وَيُنَزًّلُ مًنَ السَّمَآءً مًن جًبَالْ فًيهَا مًن بَرَدْ فَيُصًيبُ بًهً مَن يَشَآءُ وَيَصْرًفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقًهً يَذْهَبُ بًالأَبْصَارً ) والآية تعطينا تصويرا دقيقا لتكون نوع من الغيوم هي الغيوم الركامية التي يكثر فيها البرق والرعد وينتج عنها تساقط البرد ، يأتي ذلك لنرتفع بالآية إلى أفق السماء ونرى الغيوم عن قرب ويعشي البرق أبصارنا وتتجلى لنا جبال البرد التي تتساقط على الأرض مخلفة ما لا يعلم إلا الله تعالى من الآثار .

ونمضي مع صيغة ( ألم تر ) التي تكررت في القرآن الكريم عدة مرات في مجالات متعددة ، وقد وقفنا في المقال السابق على جزء من نعم الله وآياته لفتنا إليها هذا الاستفهام التنبيهي ، ونقف في هذا المقال مع آيات أخرى منها ما يلفت النظر إلى آيات ونعم جديدة ، ومنها ما يؤكد ما ورد من قبل من الآيات والنعم .
في الآيتين 46و45 من سورة الفرقان نجد لفت نظرنا إلى ظاهرة طبيعية نعيش معها كل يوم تلك هي ظاهرة الظل ، وهي ظاهرة مرتبطة بالأشياء والإنسان ومرتبطة كذلك بالأرض والشمس ، ويأتي الحديث عنها في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إًلَى رَبًّكَ كَيْفَ مَدَّ الظًّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكًناً ثُمَّ جَعَلْنَا ؟لشَّمْسَ عَلَيْهً دَلًيلاً ) (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) ولا يخفى ما للظل من أثر في حياة الإنسان ، فهو يقيه حر الشمس ، ويمنع ضررها عما يغطيه ، ويخفف من التبخر ، وفوق هذا فإن في لفت النظر إلى هذه الظاهرة ما يدعو إلى التفكر في علاقة الشمس بالأرض ورفع النظر من سطح الأرض إلى آفاق السماء لاستجلاء التسخير المتجلي لكل ما فيهما للإنسان هذا الكائن المكرم . وكم في هذه الظاهرة من الآفاق والأبعاد التي يدرك بعضها كل من يقرأ القرآن الكريم ويراها فيتجلى له منها على قدر علمه وسعة فهمه .
ونمضي مع الآيات القرآنية المبدوءة ب (ألم تر) وفق ورودها في السور الكريمة فنجد في سورة لقمان في الآية 29 ونظل بين آيات في الأرض وأخرى في السماء ، آيات كونية نألفها حتى تذهب روعتها و ، ونغفل عن منافعها ، فلا نشكر الله تعالى الذي أنعم علينا بها ويسر بها حياتنا . نحن أمام دعوة إلى التحديق في آية الليل والنهار ، وما يكون من طول هذا حينا وقصر الآخر حينا ، وكأنما هما كائنان متداخلان ، يلج كل منهما في الآخر على حساب طوله ، ونحن هنا في الآية الكريمة نجد ظاهرة ولوج الليل في النهار والنهار في الليل منسوبة إلى الله تعالى لنتذكره في كل ساعة من ليل أو نهار ، في الصيف حين يقصر الليل ويطول النهار وفي الشتاء حين يطول الليل وينكمش النهار ، ولتكتمل الصورة ويظهر المشهد كاملا تتجلى لنا رفيقة نهارنا الشمس المسخرة بأمر الله ليصلح معاشنا وتكون لأرضنا سراجا وهاجا ، ويتجلى رفيق ليالينا بتدرجات مراحله عبر الشهر من هلال في أوله إلى هلال في آخره وما بينهما من المنازل التي يتجلى فيها . وما أجمله من منظر يبدو لنا حين نرى الشمس والقمر مركبين في الفضاء يجريان ولكن إلى أجل مسمى ينتهي فيه ذلك الجريان ، حين تنتهي المهمة التي خلقا لها ، ويأتي التعقيب في نهاية الآية بذكر صفة من صفات الله تعالى هي الخبرة بما نعمل ، في ليلنا ونهارنا وسائر أحوالنا ، يتجلى ذلك كله في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولًجُ الْلَّيْلَ فًي النَّهَارًوَيُولًجُ النَّهَارَ فًي الْلَّيْلً وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّّ يَجْرًيا إًلَى أَجَلْ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بًمَا تَعْمَلُونَ خَبًيرّ ).
والفلك وتسخير البحر نعمة من نعم الله تعالى الكبيرة على الإنسان ، ومنظر السفن في البحر والأنهار منظر مألوف لدى الناس في أنحاء الأرض كلها ، ولعل الإلف يفقد هذه النعمة جلالها وعظمتها ، لأن الإنسان يربط الأمور بالقوانين الطبيعية ، والمعجزة العظيمة تصبح بالتكرار أمرا مألوفا عاديا . ولذلك يأتي الحديث عنها في سياق الحديث عن نعمة الله الذي يرينا آياته في كل جانب من جوانب الوجود ، ومما يلفت النظر أن الآية ختمت بقول الله تعالى ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) والذي يستوقفنا هو إيراد وصف (صبار) في ختام الحديث عن نعمة جريان الفلك في البحر ، فهل هذا إشارة إلى ما يصيب من يركب البحر من المعاناة التي تحتاج إلى الصبر ، وهي نعمة تحتاج إلى الشكر العظيم لأن في ركوب البحر ألوانا من الفوائد . ولا يخفى أن القرآن الكريم تحدث عن نعمة الله بالبحر والفلك في مواضع متعددة من القرآن الكريم .
ونجد في سورتي فاطر والزمر حديثا عن نعمة الله تعالى على الإنسان بالماء النازل من السماء وما يكون له من الآثار في الأرض ، وفي آية سورة فاطر وقفة مع الأرض وما في جبالها من الطرق التي تنكشف من خلالها ألوان متعددة ذات ارتباط بالمعادن الموجودة فيها ، جاء في الآيتين و27 28من سورة فاطر ومن اللافت للنظر أن مع الحديث عن آية الماء الذي ينزله الله تعالى من السماء وما يكون له من نتيجة في ظهور ثمرات هناك توقف عند اختلاف ألوان تلك الثمرات ، وفي السياق نفسه حديث عن اختلاف الألوان التي تتجلى في الجبال حين شق الطرق فيها وحفرها وتتجلى كذلك في الناس وفي الدواب والأنعام ، وهكذا تتجلى في المشهد ألوان ممتدة من النباتات إلى الجمادات إلى الإنسان والكائنات الحية الأخرى ، ويتجلى العلماء خاشعين لله تعالى في محراب العلم يدركون عظمته التي تثمر خشية في قلوبهم ، في ظلال هذا المشهد تتجلى عزة الله تعالى القادر على الخلق بكل تجلياته ، وتتجلى رحمته ورأفته في تجاوزه عن ضعف البشر وغفرانه لذنوب التائبين : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مًنَ السَّمَآءً مَآءً فَأَخْرَجْنَا بًهً ثَمَرَاتْ مُّخْتَلًفاً أَلْوَانُهَا وَمًنَ الْجًبَالً جُدَدّ بًيضّ وَحُمْرّ مُّخْتَلًفّ أَلْوَانُهَا وَغَرَابًيبُ سُودّ ( وَمًنَ النَّاسً وَالدَّوَآبًّ وَالأَنْعَامً مُخْتَلًفّ أَلْوَانُهُ كَذَلًكَ إًنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مًنْ عًبَادًهً الْعُلَمَاءُ إًنَّ اللَّهَ عَزًيزّ غَفُور) .


أبو جمال 8 - 8 - 2010 09:08 PM

ألم تر مواقف من الضلال

ونمضي مع القرآن الكريم وهو يدعونا إلى النظر: الذي يثير العجب في نماذج من البشر يستحق موقفهم التدبر والوقوف عنده والعجب منه ، يدعونا إلى ذلك بصيغة : ( ألم تر ) بما فيها من استفهام منفي يحمل نوعا من التعجب لا يوازيه قول : ( انظر ) لأن الموقف ليس موقف نظر فحسب ، وتتعدد النماذج البشرية المعروضة في مواطن شتى من القرآن الكريم مفتتحة ب ( ألم تر ) ، فمنها النموذج الفردي التاريخي ، ومنها ما يأتي الحديث عنه بصيغة الجمع متحدثا عن مواقف أناس كانوا في عهد التنزيل ، ويجمع النماذج كلها أنها نماذج ضلالة كان يفترض أن تهتدي إلى الحق المبين الذي انكشفت أنواره ولكنها عميت عنه وآثرت الغواية .
حدثنا القرآن الكريم في سورة البقرة في الآية (258) عن نموذج واجهه أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، هو نموذج الملك الطاغي الذي غره الملك فظن نفسه مالكا على الحقيقة متصرفا في الرعية بالأصالة لا بالاستخلاف ونسي أن الملك لله يؤتيه من يشاء ، فجره ذلك إلى ادعاء ما ليس له وما هو فوق طاقته ، فها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام يؤدي الرسالة ويبلغ الدعوة لطبقات المجتمع كافة ، بلغ أباه وحاج قومه ، وها هو مع صاحب السلطة العليا في المجتمع يسعى إلى هدايته ، وبدلا من أن يتواضع ذلك الملك ويبصر الحق ها هو يجادل بالباطل ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يكشف له عن حقيقة ربانية تفرد بها الله تعالى لتكون مفتاح هداية لقلبه يتفكر فيها ويبصر الحق ( ربي الذي يحيي ويميت ) في إشارة إلى ظاهرة الموت التي تصيب الكائنات ومنها ذلك الملك وسلسلة نسبه ، ولكنه بدلا من التفكر والتدبر تأخذه العزة بالإثم ، ويدفعه الغرور إلى الإغراق في الوهم فيقول باستعلاء يستصغر به نبي الله الذي جاء ليكشف الغشاوة عن قلبه : ( أنا أحيي وأميت ) ، أي غرور أشد من هذا إلا غرور فرعون الذي زعم الربوبية والألوهية واستعلى علوا شديدا ؟ وتتجلى حكمة الداعي في مواجهة كبرياء المدعو حين لا يمضي في لجاجة الجدال ولا ينساق إلى الزاوية الحرجة التي ساقه إليها ذلك المجادل بالباطل فينقل الحوار إلى ساحة لا مجال فيها للزعم أو الوهم ، ساحة مضيئة بنور الشمس الذي يبدد ظلمات الليل ويكشف حجب الغرور ليقيم الحجة ويبطل الباطل : ( قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) وأنى له أن يفعل ذلك ، فما دام ذلك الملك عاجزا فعليه أن يؤمن بالرب القادر الذي خلق تلك الشمس وجعل لها نظاما لا يتخلف ولا يملك أحد من الخلق أن يزعم التحكم فيه ، وقامت الحجة على ذلك المغرور وبدا عاجزا أمام نفسه وأمام من كان حاضرا ذلك المجلس ، فبهت ولم يستطع جوابا لكنه لم يؤمن وأصر على الضلالة ،،
ويحدثنا القرآن الكريم عن مواقف لبعض من عاشوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا من أهل الكتاب من قبل فعندهم علم بخبر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، فالأصل أن يبادروا إلى الإيمان برسالته ، وحين يؤمنون يفترض أن يكون إيمانهم صادقا ينير قلوبهم ويضبط حياتهم ، فلا يخفون ما لايبدون لأن ذلك من النفاق الذي لا يخفى على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، لكنهم لم يكونوا مؤمنين حقا ، بل كان إيمانهم ظاهريا مجاراة لتيار الإيمان الجارف الذي لم يستطيعوا مقاومته فلبسوا رداءه وأخفوا ضلالتهم ، ولكن موقف التحاكم إلى ( الطاغوت ) يكشفهم فلو كانوا مؤمنين حقا لتحاكموا إلى الله ورسوله لا إلى رموز الضلالة من أهل الكتاب في عصر الرسالة وها هو القرآن الكريم يعريهم ويكشف حقيقتهم وحقيقة من سار على منهجهم في الآية 23 من سورة آل عمران :
( أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ أُوتُواْ نَصًيباً مًّنَ الْكًتَابً يُدْعَوْنَ إًلَى كًتَابً اللَّهً لًيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرًيقّ مًّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرًضُونَ)
وفي الآية 60 من سورة النساء : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بًمَآ أُنْزًلَ إًلَيْكَ وَمَآ أُنزًلَ مًن قَبْلًكَ يُرًيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إًلَى لطَّاغُوتً وَقَدْ أُمًرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بًهً وَيُرًيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضًلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعًيداً ) ويكشف القرآن الكريم ذلك التعاضد بين المنافقين وأهل الكتاب الذين جحدوا ما عندهم من الأدلة البينة بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ذلك التعاضد الي يتجلى في حلف بينهم في حرب المؤمنين ولكن مع كشف خسة المنافقين وتخاذلهم في المواقف الحرجة خوفا على أنفسهم من الفضيحة ومن قوة الإيمان وذلك ما تكشفه الاية 11 من سورة الحشر : (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإًخْوَانًهًمُ الَّذًينَ كَفَرُواْ مًنْ أَهْلً الْكًتَابً لَئًنْ أُخْرًجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطًيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإًن قُوتًلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إًنَّهُمْ لَكَاذًبُونَ)
ويضعنا القرآن الكريم أمام نموذج آخر من نماذج الضلالة نموذج لم يتلبس بالإيمان ظاهرا ويبطن عداوة تكشفها المواقف بل نموذج من كان عنده اليقين من أهل الكتاب السابقين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الكبر والحسد كانا حجابا حاجزا بينهم وبين الإيمان فتحولوا من أهل علم بالحق عليهم أن يؤمنوا به ويدعوا إليه ، تحولوا إلى أئمة ضلالة يُعرضون عن الحق ويريدون أن يضلوا من آمن من الناس به ، وذلك ما تكشفه لنا الآية 44 من سورة النساء ( أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ أُوتُواْ نَصًيباً مًّنَ الْكًتَابً يَشْتَرُونَ الضَّلالة ويُرًيدُونَ أن تضلُّوا السَّبيلَ ) وكذلك ايضا الاحتكام للطاغوت مثل بعض اليهود ومشركي العرب وذلك ما تكشفه لنا الآية51 من سورة النساء ( أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ أُوتُواْ نَصًيباً مًّنَ الْكًتَبً يُؤْمًنُونَ بًالْجًبْتً وَالطَّغُوتً وَيَقُولُونَ لًلَّذًينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءً أَهْدَى مًنَ الَّذًينَ آمَنُواْ سَبًيلاً )
ويحدثنا القرآن الكريم عن نموذج ضلالة في الآية 28 من سورة إبراهيم عن الذين آتاهم الله نعمة منه فبدلا من أن يشكروها كفروا فكان أن حكواعلى أنفسهم بالهلاك في الدنيا والآخرة (أَلَمْ تَرَ إًلَى الَّذًينَ بَدَّلُواْ نًعْمَتَ اللَّهً كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارً )
وتمتد الرحلة مع هذا الأسلوب القرآني ( ألم تر ) الذي يلتفت النظر ويحفز الفكر ويدعو إلى التدبر في أمور شتى .

أبو جمال 8 - 8 - 2010 09:09 PM

ألم تر .. مواقف من الموت ؟


نمضي مع دعوة القرآن الكريم لنا إلى الرؤية بالأسلوب التحريضي : ( ألم تر ) الذي يحمل التعليم والتنبيه حينا ، والتعجب حينا آخر ، والتهديد في موضع ثالث ، نمضي مع جانب من تلك الدعوة يتضمن التنبيه إلى نماذج من البشر تجلت فيهم صفات ذميمة غير مرضية من رب العالمين ، والمطلوب من المسلم اجتناب ما اتصف به أولئك المذمومون ، بل إن القرآن الكريم ليعرض علينا الحالة ويستصدر منا بالاستفهام الوارد ( ألم تر ) الحكم على تلك المواقف من تلك النماذج .
والنموذج الأول هو : نموذج الخائف من الموت ، هذا الموت المقدر الذي لا يحمي منه فرار أو اعتصام بأي قوة ، ونجد من مواقف هذا النموذج إشارة إلى موقف تاريخي لا يقص علينا القرآن الكريم تفصيلا عنه ، ولا يخبرنا أين كان ولا متى كان ، لكنه يقول لنا إن كان فيكم من يخاف من الموت فخوفه لن ينجيه منه ، وللخائفين من الموت أسلاف من البشر يحدثنا عنهم القرآن الكريم هكذا في الآية 243 من سورة البقرة : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) وفي أسلوب الحديث عنهم تعجيب من حالهم الذي يتجلى فيه ضعف الإيمان ، وينكشف للمتدبر في الموقف أكثر من أمر ليس في حال من تحدثت عنهم الآية بل في شأن نفسه وموقفه من الموت .ونقف على بعض ما قاله المفسرون في هذه الآية وهذا ما قاله ابن عطية : (هذه رؤية القلب بمعنى: ألم تعلم، والكلام عند سيبويه بمعنى تنبه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله
]وقاتلوا في سبيل الله [)
ولا يخفى ما يتجلى في هذا الموقف من قدرة الله تعالى الذي أحياهم بعد ما أماتهم وتلك خارقة كانت لأمر أراد الله تعالى به أن يظهر قدرته المطلقة ويقيم الحجة على الناس الغافلين .
وشبيه بهذا الموقف ما تحدثنا عنه الآية 246 من سورة البقرة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ) ونقف مع ما قاله ابن عطية في شأن هذه الآية بكلام مختصر مفيد : (هذه الآية خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو، فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل، فنصرهم الله، وفي هذا كله مثال للمؤمنين يحذر المكروه منه ويقتدى بالحسن،) والموقف هو الموقف من الموت خوفا وفرارا، ولكن في صورة أكثر تحديدا وبيانا ، فنحن أمام ( الملأ ) أي علية القوم من بني إسرائيل وقد طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت لوائه لاسترداد حقوق ضائعة ، فلما استجاب الله تعالى لطلٍبهم نكصوا على أعقابهم عن القتال وتولوا هاربين منه حذرا من الموت
ويقدم لنا القرآن الكريم موقفا ثالثا من مواقف الخوف من الموت وهو شبيه بموقف الملأ من بني إسرائيل من القتال ، وهذا الموقف كان في عهد الرسول عليه وآله الصلاة والسلام وقد سجلته الآية 77 من سورة النساء : (أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) وأنا أميل إلى قول من ذهب من المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في منافقين لا في مؤمنين كانوا في حال الرخاء مستوري الحال فلما كتب عليهم القتال انكشفت حقيقتهم .
ووراء هذه النماذج والمواقف نماذج ومواقف أخرى يكشفها لنا القرآن في دعوته لنا بأسلوب : ( ألم تر) .

أرب جمـال 8 - 8 - 2010 09:28 PM

احييك ابو جمال على نقل هذا الموضوع المميز للدكتور مأمون جرار والذي هو أشهر من أن يُعرّف

بارك الله بكما

تقديري


الساعة الآن 11:09 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى