منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   عبد الناصر صالح شاعر الجوع والشمس (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=15972)

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:43 PM

عبد الناصر صالح شاعر الجوع والشمس
 
في غمرة الدواوين الشعرية الجديدة كان صوت عبد الناصر[1] يحمل نغمة مأساوية (واقنسية).
أما المأساة فقد استهلكها الشاعر واستهلكته ، وكان وهو يافع قد غُمِد في سجن طولكرم سنة - بانتظاراتها وتأملاتها.... فلا بدع إن قال:
والفارس الموعود
ما زال ينتظر القطار (الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص 75)
وأما (الواقنسية) فأعني بها مصطلحًا جديدًا كنت قد نحتُّه [2] من لفظتَي - الواقعية والرومانسية، فواقعية التفاؤلية- رغم سوادها- تلبس لبوسًا شفافًا على إيقاع موسيقي حالم:
أماه يا لحن النهار
هل تسمعين
القلب يخفق والتشوق والحنين
أماه ليتك تسمعين
ندائي الملهوف يخترق الجدار
يأتي إليك مع الطيور الباكيات على الديار
يأتي مع المطر المحلق فوق أطلال المآسي والألم
أماه يا أحلى نغم (الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص21)

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:43 PM

فمن سمات الواقنسية - كما أراها - استعمال القاموس الرومانسي : من خيال وحنين وطبيعة وماض وذات ... وذلك ضمن إطار المجموع. فعبد الناصر صالح لا يتشوق هنا إلى أمه الحقيقية بقدر ما يرمز إلى شوقه إلى أمه الكبرى. القصيدة فيها تزامن ، وكلما كانت القصيدة شخصية ، وكلما زاد ارتباطها بالزمكانية اقتربت من مركز الشعر - كما يرى الشاعر الألماني الرومانسي نوفاليس.
ولو تقرّينا رموز الشاعر لنجعلها مفاتيح لنا لأبوابه لوجدنا حركات أو موتيفات : (الجوع) و (الشمس) و (الزيتون) هي أبرز ما يتردد عنده، فالجوع يعني لديــه العذاب والمعاناة:
ليتنا نعرف في الجوع الحياة (ص17)
أو
وتعود يا طفل الشقاء
تعود ترسم دربك المدهون بالجوع القديم (ص74)
لقد طافت أسراب الغربان تبشر قلب الشاعر بالجوع (ص10) بينما الجياع الآخرون فرشوا دماءهم الهادرة (ص15)، وعندما جاع انهارت تعاويذه (ص34) وبقي يحن إليها (56) ، ويظل الجوع الحاد ينبري في وسط الطريق (ص73) ، فيجوع ، ويجوع حتى النور آلاتي من عمق الشاعر (ص43).
ويدوي الجوع
والجوع مباح
آه من دهر المآسي والجراح (ص94)
وإذا كنا لاحظنا لازمة الجوع تتردد لفظًا فإنها تتوافق معنى:
ها إنني وحدي بلا زاد وبلا ماء (ص81)

تذكّرني هذه اللازمة أو الحركة بدراسة د. عبد الغفار مكاوي عن شعر رامبو ، فهو يرى أن العطش والجوع في لغة رامبو، وهما من الكلمات التي استخدمها المتصوفون- كما استخدمها دانتي- للتعبير عن شوقهم للاتحاد بالذات العلية. [3]
غير أن رامبو يستخدمها للدلالة على حالة من الظمأ - الذي لا يروي ، والجوع الذي لا يشبع.
إذن فرمز (الجوع) عند شاعرنا ليس مستحدثًا في الشعر ولكنه مستقى أو على الأقل موازٍ، غير أن ترديده يضفي عند عبد الناصر تكثيفًا للمعاناة والأزمة.

أما الرمز الثاني فهو (الشمس) ، وليس هذا الرمز بالمصطلح الصوفي الذي يعني الحقيقة، وإنما الشمس توءم للوطن ، أو كأن الشمس وفلسطين كل واحد، وعندما اعتُدي على أحدهما كان قرص الشمس محروق الضياء (ص31) ، وقد ربطت الشمس بقضبان الحديد (ص18) ، وبقيت واجفة بلا مأوى (ص24) ، وشعاعها تلوث باللون الأسود(ص85) ، فكان لا بد من أن يأتي أورفيوس- وهو مغنٍ مشهور في الأسطورة البابلية يرمز كذلك إلى الحب- حتى يغسل قرص الشمس الملوث(ص97) ، وبعدها سيكون المشوار في عيون الشمس.[4]
رأينا أن الرمزين (الجوع)، و (الشمس) يتممان الصورة. ولنسمع عبد الناصر مستخدمًا كليهما في معرض قوله:
أدفن الآهات في قلبي
وأعرى وأجوع
نختفي يا عاشق الشمس زمانًا ضاع
ما بين الدموع (ص60)

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:44 PM

أما غصن الزيتون فهو مرادف للإصرار والأمل ، وهو البداية والنهاية [5]:
هذا القلب حزينًا صار
حزينًا كغصون الزيتون المصفرة (ص9)
ثم بعد ذلك:
يا فرح الزيتون بعد رحلة المخاض والخريف (ص98)

وإذا كان الديوان قد خرج عن إطار الغموض المزيف الذي يبرزه المتشاعرون - الذين هم كالأطفال يناجون أنفسهم على ملأ من الناس.... برطانة لا يفقهها غيرهم [6]، فإن عبد الناصر صالح تبدو عليه سيماء الرهافة الشعرية الصادقة ، رغم ما تمليه عليه موجة التقليد المفتعل أحيانًا. فعلى سبيل المثال: ما الذي يحوج الشاعر أن يعنون قصيدة له هكذا: (تخطيط أولي للوحة تجريدية)؟ (ص53) ، فهل الشاعر بحاجة إلى التجريد ليعكس جوعه ، أو ليغسل شمسه؟!
وهل هذه اللوحة- إن كانت أصلاً - ورأيي أنها لم تكن- تطعم خبزًا؟
بل إنني لأتساءل : ما الذي دعا شاعرنا أن يجعل العنوان لإحدى قصائده - وبالتالي للمجموعة التي نعالجها الفارس الذي قتل قبل المبارزة فهذا الفارس يذرف الدموع ويعترف بالهزيمة (ص101) ؟؟؟ فلماذا لا يكون الفعل- (بُعث قبل .....) أو على الأقل (سًجن قبل المبارزة .....) حتى يكون معنى للمبارزة المرتقبة.
إن العنوان يعمق المأساة والفاجعة ، ولكنه مثبّط هنا نوعًا ما ؛ وهذا الرأي يسوقني إلى الاعتراض على الإهداء ، وفيه يشير الشاعر:
" إلى الذين يموتون قبيل مجيء الوقت
والذين يولدون بعد فوات الأوان بحثًا عن الحلقة
الموصلة"
أما الشق الأول فهو يلائم عنوان المجموعة وفيه مبرر، لأن من أقسى الأمور أن يموت الإنسان قبل أن يكون شاهدًا على الخلاص. ولكني لا أرى مبررًا لهؤلاء الذين سيولدون مستقبلاً ، لأن لهم مشاغل جديدة لا تدعهم ينظرون إلى الماضي، وسيكون المستقبل غريبًا جدًا علينا.
يقول أدونيس محللاً هذه الظاهرة :
" من هذا الواقع الوجودي انبثق ما يمكن تسميته بحس الشعر......أمام هذه القوة يحس الشاعر الجاهلي أنه عاجز ولا حيلة له، إنها ليست قوة الموت ، بل قوة الحركة الأفقية التي تندرج في تيارها ظاهرة الغياب، غياب الحبيبة والأهل والقبيلة. إنه شيء خفي يأتي من الخلف مفاجئًا لا يغلب" .[7]
ولا بد من الإشارة إلى ملاحظات شكلية مؤثرة - كأن يعتمد الشاعر القافية للقافية ، وهاك أمثلة:
ما عدت أطيق الغربة والهجران (ص13)
أضيفت (الهجران) ، وأردفت حتى تتقفى و (الشطآن) والشعر الحر كما نعلم لا يشترط القافية،
ويقول:
أيها الموت الظليم (ص16)
(الظليم) حتى تلائم (الجحيم) رغم أن اللفظة تعني الفاعلية والمفعولية.
ويقول: يبكي على الأراك (ص89)
وما اضطره إلى (الأراك) هو إلى (الحراك) ، ومشى على ذلك.
ولا أدري كيف يجيز الشاعر لنفسه أن يقول:

وما الذي قلتيه لليل والأموات (ص38)
ويمكن تصويبها إذا قسمنا السطر الشعري :
وما الذي قلته
لليل والأموات ؟
وما هي الحنادسة:
وأنا أراك على حنادسة تقوم
فالحندس كما نعلم هو الظلام والليل الشديد السواد ، وجمعه الحنادس.
أقول هذا وأنا أتذكر مقولة طه حسين "علينا أن نجدد مراعين اللغة والنحو" .
وقبل أن أودع الشاعر أرجو أن يحافظ على المستوى الشعري الذي يتميز به ، فشتان بين قوله:
وأقابل سيقان الألم الأسود (ص71)
وقوله:
لن أحني رأسي
ولن أخضع لك (ص87)
وشتان بين شاعرية :
أتسلق أيامي الملأى بالآهات
ونثرية:
باردًا كان كالجليد (ص19)

ومع ذلك فنحن بانتظار عطاء متواصل فيه إبداع يُنتظر من الشاعر.......
أيار/1980
[1] - عبد الناصر صالح: الفارس الذي قتل قبل المبارزة،الأسوار-1980
63 - انظر مقالي في الجديد ، العدد الثامن-1978

[3] - عبد الغفار مكاوي ، ثورة الشعر الحديث ، ج1 ص126

[4] - عنوان إحدى قصائده ، ومن الملاحظ أن هناك قصيدة أخرى جعلت (الشمس) في العنوان. وإذا اعتبرنا العنوان تركيزًا لبؤرة القصيدة فإننا نرى أهمية هذا الرمز في شعره.

[5] - انظر المجموعة ص 13،59.

[6] - عن الغموض المزيف راجع مقال مكس استمن في كتاب الأديب وصناعته ص41.

[7] - أدونيس: مقدمة الشعر العربي ص28.

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:44 PM

في حوار مع الشاعر عبد الناصر صالح


يبقى الشعر سيد الإبداع الأدبي في كل الأزمان

http://www.thaqafa.org/Main/DataFile...asersala71.jpg


حاوره: طلعت سقيرق
رفقة عمر امتدت شرايين عطائها عشقاً على الورق.. قرأتهُ في الكثير من قصائده وأنا أجسّ نبض مفرداته المسكونة بهمه الوطني وعشقه الذي لا يحدّ لفلسطين.. ومن القصائد المفردة، إلى دواوينه.. كنت أتحدث عنه حديث الصديق الذي يعرف كل شيء عن صديقه... وكانت زيارته لدمشق في العام 2005م فاتحة لقاء امتدّ عناقاً يسطُر على صفحات العمر أنّ الشعراء يعرفون بعضهم ويحبون ويعشقون ويغزلون أطر العلاقة من قلب وطن يسقي الجميع فاتحة الدخول إلى لغة الحوار الثرّ.. ضمتنا شوارع دمشق.. قلنا ما قلناه، وبقي صوت اللقاء معلقاً في فسحة التراسل والتهاتف وعلى أجنحة طيور الكلام.. وكان عليّ أن أضع السؤال بعد تجربة طويلة من الكتابة عن عبد الناصر صالح.. وكان عليه أن يفتح صنابير الحروف ليروي سيرة عاشق لفلسطين.. فكان هذا الحوار..‏

*عودة إلى البدايات.. ليتك صديقي تضعنا أمام الخطوط الأولى؟‏

** بدأت كتابة الشعر متأثراً بوالدي الشاعر محمد علي الصالح، الذي كان له دورٌ بارزٌ على الصعيدين الثقافي والوطني في النصف الأول من القرن الماضي، أي سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد كانت سيرته الأدبية والشعرية والنضالية، محطّ إعجاب العائلة والمقرّبين من المثقفين ورجال الفكر والتربية وأهالي طول كرم بشكل عام. ولازالت قصائده تتردد على ألسنة الكثيرين إلى وقتنا هذا، خاصة قصيدته في رثاء الشهيد عز الدين القسّام التي نشرت في العام 1936 في صحيفة "اللواء" الصادرة في حيفا آنذاك. كان والدي رحمه الله قارئاً من الطراز الأول، يقرأ في الشعر والأدب والسياسة، ولازلت أحتفظ ببعض الكتب القديمة النادرة التي كانت تغصّ بها مكتبة والدي التي أتى بها من حيفا إلى طولكرم عام 1948، أقول بعض الكتب، لأن الاحتلال الإسرائيلي اللعين قام بمصادرة أعداد كبيرة من القصص والمجموعات الشعرية والدراسات الأدبية في حملات التفتيش الكثيرة لبيتنا بهدف اعتقالي والبحث عن "مواد تحريضية" تدعو الشعب الفلسطيني للصمود ومقاومة الاحتلال.‏

كنت أحيط والدي بهالة من التقديس، حيث بقي إلى أن توفاه الله عام 1989 قابضاً على الجمر، متمسكاً بالأهداف والحقوق الوطنية لشعبنا، لم يقايض أحداً على مبادئه وأخلاقه ولقمة عيشه. لازلت أعتزّ ـ كما كنت ـ بهذه السيرة العطرة، وأستمد منها قوتي المعنوية وثباتي على المواقف. وأتذكر أنني عندما اعتقلت للمرة الأولى عام 1977، قال لي والدي عندما جاء لزيارتي: ـ السجن للرجال، فتعلمتُ الصبر والثبات.. والقراءة. قرأتُ ما توفر من الكتب الثقافية: قصص نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله ومجموعات شعرية للبياتي وعبد الصبور ونزار قباني، ومؤلفات في الفكر والسياسة لميشيل عفلق وعبد الله عبد الدايم وعبد القادر ياسين وغيرها الكثير، الأمر الذي ساهم في تشكيل وعيي الأدبي والشعري.. والسياسي، فكان أن انفتحتُ على عالم الثقافة من غرفة السجن. حيث تبدو الصورة الشعرية أوضح مما كانت عليه، تلمع كالبرق في ذهني، معزّزة باللغة والدلالات؛ فبالإضافة إلى الدور التنظيمي الذي أُنيط بي لدى الأخوة والرفاق في السجن، بدأ اهتمامي بالتقاط اللحظة الشعرية، بكل تجلياتها.. وبتفريغها، لاحقاً، على الورق.‏

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:45 PM

كان مندوبو الصليب الأحمر يزودّوننا بالأقلام والدفاتر. البعض من الأسرى يكتبون الرسائل لزوجاتهم وأبنائهم، ويصنعون البراويظ من مخلفات معجون الحلاقة ومعجون تنظيف الأسنان، ثم يرصّعونها بآيات قرآنية ومقاطع من قصائد لمحمود درويش أو سميح القاسم أو توفيق زيّاد، ويحتفظون بها ليقدموها كهدايا للأهل والأحباب حال خروجهم من السجن.‏

في السجن بدأ مشواري الشعري الحقيقي، فكل ما كتبته قبل ذلك لا يتعدّى كونه مجموعة خواطر لطالب في المرحلة الثانوية، خواطر ينقصها اللون والموسيقى والبحور الخليلية.‏

كتبت في الغرف المغلقة الأبواب وبين السلاسل الحديدية ديواني الأول: "الفارس الذي قُتل قبل المبارزة"، مجموعة من القصائد التي أضاءت الزنازين والغرف المظلمة بنورها ودلالاتها ومضامينها الوثابة. كل قصيدة كتبتها داخل السجن، كنت أقرأها بنبرة عالية ليسمعها المعتقلون في الغرف المجاورة، ولتسمعها، كذلك، إدارة السجن الإسرائيلية المختبئة خلف العصي والهراوات. وقنابل الغاز. كنت أنفذ وصايا والدي التي تأتيني من وراء الشبك الحديد في أوقات الزيارة، لتحثني على الجرأة والصمود وقراءة التاريخ. "إن القراءة كنز المعرفة يا ولدي". فقرأت وكتبت وحفرت على جدران الغرف مقاطع من شعري تحدياً لقرارات إدارة السجن بحظر الكتابة والرسم والأغاني. صدر ديواني الأول عام 1980 عن دار الأسوار في عكا، فكان باكورة الإنتاج الثانية التي ترى النور لشاعر سجين. كانت "خواطر من الزنزانة" باكورة الإنتاج الشعري الأول التي تُكتب في السجن للشاعر محمد عبد السلام، الذي اختفى عن المسرح الشعري دون أن ألتقيه.‏

خلال فترة اعتقالي العصيبة، أزهر الشعر في دمي، وقلبي وأعصابي، وسكن في عقلي وما بين أصابعي. نضجت تجربتي الشعريّة وانفتحت الآفاق أمامي على الثقافة الفلسطينية والعربية والعالمية. وتطورت أداتي الفنية من خلال الأبعاد المعرفية التي منها يستمد الفعل الإبداعي دوره في تحديد أسئلة الهوية والوطن.. والشعر.‏

في لحظات اليأس والألم والعذاب كتبتُ القصيدة المقاومة، التي تعبق بالثورة والحنين ورائحة الشهداء فالقصيدة، داخل المعتقل، هي سلاح الشاعر المقاتل السجين، وهي نافذته الوحيدة على فلسطين.‏

هكذا تشكل الخطاب الجمالي لقصيدتي، ومن خلال ما نُظّم من ندوات ثقافية وفكرية وأمسيات شعرية في المناسبات التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، كانطلاقة الثورة ويوم الأرض وذكرى النكبة واستشهاد قادة الفكر في بيروت وذكرى مجازر صبرا وشاتيلا، ومن خلال احتكاكي وصداقتي للأسرى ذوي الحيثية الفكرية والاجتماعية، استفدت الكثير على صعيد تنمية قدراتي وموهبتي، فواجهت أسئلة الإبداع وكتبت القصيدة المختلفة إلى حد ما، القصيدة التي واجهت الواقع بصورة جديدة ورؤية جديدة وانثيال فني شفاف كشلال متدفق بالحب والحياة والثورة.‏

لقد شكل السجن نقطة ارتكاز أساسية لانطلاقتي نحو العالم واكتشافه من جديد، وسبر أغوار القصيدة لمعرفة مكنوناتها وما تحمله من إشارات.‏

* التأثير الذي يعتبر مفصلياً في التفاتك إلى الشعر، ما هو؟‏ ؟..

**أعتقد أنني لم أصبح شاعراً من فراغ. فالشعر موهبة وحاجة داخلية وتأثر بالمحيط. ولم تتولد القصيدة إلا كنتيجة حتمية لتراكمات نفسية واجتماعية وثقافية.‏

كان والدي شاعراً، كما قلت، وانعكس ذلك على أسرتي، فأصبحوا يعشقون الشعر والأدب والعلم.‏

وقد بدأت محاولاتي الشعرية في مرحلة الدراسة الثانوية، عام 1974 مستلهماً تراث والدي الشعري والأدبي، وتراث صديقيْه عبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود، كان معجباً بهما إلى حد كبير، خاصة الشاعر الكرمي، أبي سلمى، أخيه في الرضاعة وصديقه الحميم وزميل دراسته في "الكلية الإسلامية" بالقدس، في العشرينيات من القرن الماضي، هذه الكلية كان يرأسها الحاج أمين الحسيني. حفظت مئات الأبيات من شعر الكرمي وعبد الرحيم محمود عن ظهر قلب، وأعجبت كذلك بالشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي وشعراء مدرستيّ الديوان وأبولو واتجهت، فيما بعد، لقراءة شعراء الحداثة معجباً بطريقتهم في كسر القوالب القديمة للقصيدة، وابتداع أشكال جديدة لها، اعتبرتُ ذلك تحرراً من قيود النظم التقليدي، وانتصاراً لنهج التحديث، فإعادة صياغة العالم من جديد، تتطلب قصيدة جديدة تحمل الهم الوطني والإنساني على السواء.‏

في عام 1979 التحقت بجامعة النجاح الوطنية في نابلس، لدراسة التربية وعلم النفس، بناءً على رغبة جادة في نفسي لدراسة هذا التخصّص، فالإطّلاع على النظريات التي تفسر الأدب وتحلله من منظور نفسي واجتماعي، كان هدفاً بحد ذاته. فقد تسنَّى لي أن أعرف علم الجمال والأساطير اليونانية والبابلية والتراث العربي القديم الذي شكل أرضية خصبة لرؤية شعرية تقوم على تحرير الذاكرة الإبداعية من الرؤى السابقة، ممّا اعتبرتُه، آنذاك، إضافة نوعية لثقافتي.‏

لقد أثرت الدراسة الجامعية في نفس الشاعر إلى حدٍّ كبير، وخلال الأعوام الخمسة التي أمضيتها في جامعة النجاح، أصدرت ديواني الثاني "داخل اللحظة الحاسمة" عام 1981، وهو مجموعة قصائد تستند إلى بنية وصورة فنية وعناصر ترتقي بالشعر إلى أنساق مختلفة عن طريق استيعاب طرق الأسلبة والأدوات الشعرية الحديثة.‏

لقد شكل هذا الانعطاف تغييراً نوعياً في مرجعية الشعر، فكما صمدت قصيدتي أمام كل محاولات الترهيب والتعذيب والعقاب الفردي في زنازين الاحتلال الإسرائيلي، استقام عودها، مرة أخرى، لاستيعاب مفاهيم الحداثة والمعاصرة.‏

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:46 PM

ومن خلال موقعي في مجلس اتحاد الطلبة، قدّمت الكثير على صعيد الكتابة، حيث بادرتُ إلى عقد الندوات والمحاضرات الأدبية التي تهدف إلى النهوض بثقافة الطلبة وتطوير ذائقتهم، بمشاركة عدد من كبار الكُتاب والمثقفين الفلسطينيين أمثال صبحي شحروري، ومحمد البطراوي، وأميل حبيبي، وعادل الأسطة، وخليل عودة، وإبراهيم العلم وغيرهم من روّاد الفكر والأدب. واستضاف مجلس الطلبة، في أمسيات شعرية حاشدة، الشعراء: سميح القاسم وعلي الخليلي وحنّا أبو حنّا والمتوكل طه وسليمان دغش وعبد اللطيف عقل، الأمر الذي أسهم في خلق أجواء حياة ثقافية تشحذ الهمم لمواصلة النضال، وتعزّز روح الديمقراطية والتفاهم والحوار والاحترام المتبادل بين كافة قوى وفصائل منظمة التحرير على أساس إنجاز الوحدة الوطنية كقاسم مشترك للجميع.‏

فور تخرّجي من الجامعة العام 1984، عملتُ مدرّساً في كلية النجاح المتوسطة، درّستُ مادّتي علم النفس وعلم الاجتماع.. هذه الكلية كانت، ولازالت، تمنح شهادة الدبلوم في التخصصات الأدبية والإنسانية والعلوم التطبيقية والهندسية. فواصلت المشوار، حاملاً نفس الهدف والتطلعات.‏

وفي غمرة النشاط الأدبي والثقافي الحيوي، صدر ديواني الثالث: "خارطة للفرح" عن منشورات وكالة أبو عرفة في القدس العام 1986، ويضمّ بين دفتيه مجموعة من القصائد التي لها مرجعيتها التناصية مع التراث الشعري العربي وغير العربي، بحيث قفزت قصائدي إلى مرحلة تتميز بأدوات كثيرة مثل الأسطورة والقناع، وينحو فيه الشعر بعيداً عن الخطابية والمباشرة، إلى عالم الحرية والإنسانية الرّحب. فالحرية هي شرط الإبداع الأساسي ونهر الثورة الذي يجرف السدود والحواجز.‏

* كنت قريباً من نبض الشارع الفلسطيني، هل استطاعت القصيدة في هذه المرحلة أن تحافظ على فنِّيتها؟؟.. ‏

** أفرزت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، مفردات جديدة لم يكن يستعملها الشعراء من قبل، كالملثم والحجر والمتراس والكوفيّة وغيرها من المفردات التي دخلت قاموس الشعر الفلسطيني، وعبّرت بكل وضوح عن حالة شعبنا، والمعارك البطولية التي يخوضها ضد الاحتلال وآلة القتل والدمار الإسرائيلية، كتبت، في تلك الفترة، القصيدة القريبة بمفهومها من الناس، والتي يردّدونها في جنازات الشهداء وحفلات تأبينهم وفي ميادين المواجهة اليوميّة بين فرسان الانتفاضة وضد الجنود الصهاينة، وفي حالات الحصار والاعتقال ومنع التجوّل.‏

شعرتُ، أنّ من واجبي كتابة هذا النوع من الشعر، لكنني كنت أحرص على المستوى الفنيّ وعدم الوقوع في مأزق النثرية والشعارات. لقد تمثلتُ الانتفاضة بتجلياتها وصورها ومشاهدها، وأعتقد أنني كنت ناطقاً رسمياً أميناً بلسانها. هذه هي مهمّة الشاعر، أنْ تمسّ قصائده الواقع، وأن يكون صادقاً في التعبير عن مشاعر الناس وأحاسيسهم التي لا يستطيعون التعبير عنها بالشعر. هم يصنعون الحدث ـ المعجزة بأيديهم وحجارتهم ومقاليعهم، ونحن كشعراء مهمتنا تحويل هذا الفن البطولي إلى فن شعري.‏

* كان الشعراء السابقون زمنياً: محمود درويش، سميح القاسم، فدوى طوقان، توفيق زَيّاد، هم المعروفون عندنا في الوطن العربي.. ألم يصبكم هذا بالظلم؟؟.

**الشعراء الذين ذكرتهم شعراء كبار لهم قاماتهم الشعرية العالية، وأثروا المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، وربما العالمي، وهم قيمة فنية وتاريخية لا يمكن تجاهلها، فهم الجذع الثقافي الذي ترعرعت عليه قصائدنا ومدّنا بأسباب الحياة والتقدم. وهم المظلة التي ننعم في رحابها بالدفء والراحة والاكتشاف. ولكن المؤسسة الثقافية العربية بتركيزها على هذه الأسماء فقط، وتسليط الضوء عليها، أصابتنا بنوع من الإجحاف، لقد تم تجاهلنا، نحن الجيل الذي تلا شعراء المقاومة الأوائل. لا أدري، ربما عن غير قصد، وربما توجد هناك أسباب موضوعية أو فنية لهذا التجاهل. نأمل أن يتم الالتفات لنا والاطلاع على تجاربنا وفتح الطريق أمامنا للتواصل مع العالم العربي، وإسماع صوتنا للجماهير العربية. نحن شعراء قضيّة وبالتالي، ننأى بأنفسنا عن الخوض في متاهات الصراع والمحسوبية والتحزّب والانجرار وراء مصالح سياسية وشخصية ضيقة، وننأى بأنفسنا وأقلامنا عن "الكتابة الحلمنتيشية" التي تولد الفراغ والوهم والعدم؛ فالشعر الهابط ليس له لون ولا طعم ولا رائحة.. في الداخل الفلسطيني، هناك حراك ثقافي وشعري متواصل، وأصوات شعرية جديرة بالاهتمام والمتابعة لإبراز دورها وموهبتها.‏

أدّعي ـ بتواضع ـ أننا قدمنا جهداً لا بأس به على صعيد الشعر، وأدخلنا دماء جديدة للقصيدة الفلسطينية تحت الاحتلال، وأضفينا عليها لوناً خاصاً بها، وحداثة خاصة تؤهلها لعضوية نادي الشعر العربي. نتمنى على أخوتنا في وزارات الثقافة العربية واتحادات الكُتّاب والمنتديات والمراكز والجمعيات الثقافية، أن يسدلوا الستار ـ قريباً ـ على هذه المعضلة، وأن يفتحوا الأبواب أمام التجارب المتميزة والجادّة.‏

*عانيتَ من السجن والاعتقال، ما تأثير ذلك على صحتك أولاً، وعلى نفسيّتك ثانياً،وعلى شعرك ثالثاً؟؟..

** في السجن، تعرضتُ لأبشع أنواع التعذيب على أيدي رجال المخابرات الإسرائيلية، فمن الاعتداء بالضرب والشبح وتكبيل اليدين إلى الخلف، وتغطية الرأس، بشكل كامل، بكيسٍ أسود ذي رائحة نتنة، إلى الزجّ في الزنازين الخشبية والإسمنتية لأيام عديدة وعدم تمكين السجين من النوم عن طريق إسماعه أصوات ٍ غريبة مزعجة يقومون بتسجيلها على شريط كاسيت ووضعه بالقرب من السجين، وعندما يتم ربط جهاز التسجيل بالكهرباء تبدأ الأصوات بالخروج.. كنت أسمع أصوات مختلفة من الصراخ العالي والبكاء والعويل، وأخرى تنهال عليّ بالشتائم ثم تسدي لي النصائح بالاعتراف بالتهم الموجّهة ضدي لضمان "سلامتي" وخروجي من أقبية التحقيق حياً، وإلاَّ فإن الموت أو العاهات الدائمة ستكون من نصيبي، فلربما أصاب بالشلل أو العجز الجنسي.. أو الجنون.‏

هذا غيضٌ من فيض مما يتفننون به من أساليب تعذيب بحق الأسرى، ففي أيام الشتاء والبرد القارس، يجبرون الأسير على خلع ملابسه والظهور أمامهم عارياً بالكامل لبضع ساعات وهم يغمزون ويلمزون ويتبادلون الضحكات. وبعد ذلك، يأتي دور اللكمات والعصي والأسلاك الكهربائية.. والرش بالماء.‏

كنت، كلما تعرضتُ للتعذيب، أشعر أنّ فلسطين تقترب مني، وأقترب منها، وتمنح لقصائدي شرعيّتها. وكلما تمادى رجال المخابرات الإسرائيلية في تسديد الضربات لي، ازداد اقتناعي بعدالة قضيتي، وبحق شعبي في العودة وممارسة سيادته الوطنية على أرضه التي شرّد منها بالقوة.. الآن، حالتي الصحية ليست على ما يرام، فما تزال آثار السجن مطبوعة على جسدي.. وفي قلبي.‏

أجدني، أقف، الآن على رأس تلة في طولكرم، أنادي أشجار الزيتون واللوز وبيادر القمح والزعتر، أن لا تتلوّث بغبار العولمة.. والتطبيع، وأخاطب مبدعي الأرض الذين يروونها بعرقهم ودمهم، أن يصمدوا أمام جدار برلين الجديد، جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، وأمام غول الاستيطان.‏

أما حالتي النفسيّة، فهي على أحسن ما يرام، فالقيود التي كبّلتني لسنوات، أضحت مصدر قوةٍ وتمكين وإصرار صلب على نيل الحقوق الوطنية من جهة، وعلى حتمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس، من جهةٍ ثانية.‏

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:46 PM

هل تستطيع إسرائيل أن تلغي الذاكرة الفلسطينية؟ يمكن لطائراتها ودباباتها وجرافاتها وكل ترسانتها الضخمة أن تقتل وتبطش وتدمّر، لكنها تعجز، بالتأكيد، عن إلغاء فلسطين من ذاكرة شعبنا الفلسطيني وتاريخه وتراثه، وفي أدق تفاصيل حياته اليومية، والواقع، أنها لا تعجز فحسب، وإنما هي بالمقابل، تزيد من إصرار شعبنا على حقّ العودة، وإضاءة أبعاد جديدة في ثقافتنا المعاصرة. فالحق لا يضيع، فثقافتنا تتجدد وتتطور، وتبقى راسخة، في الوقت نفسه في الجذور.‏

وكلما أمعن الاحتلال الإسرائيلي في سياسته القمعية التنكرية لحقوق شعبي، كلما وجدتُ، ووجد غيري، أفقنا الأوسع في التعبير عن الوطن بكل أدواتنا الفنية ووسائل إبداعنا، وكلما وجدنا، أيضاً أفقنا الوطني النضالي والشعري لمواصلة الكتابة والصمود والسير على درب العودة والاستقلال والدولة.‏

أما من حيث تأثير السجن على قصيدتي، فالكتابة داخل السجون تعني مقاومة الموت، تعني أن ينتصر الشعر في صراعه مع السجّان. في السجن تبدو القصيدة هي الرئة الصالحة للتنفس والحصن الواقي من الموت.. كان الشعر شرياني الباقي وعينيَّ المفتوحتين على الأفق. اكتب أيُّها الشاعر، قلت في نفسي، هاهي القصيدة تأتيك منقادةً كحصانٍ أليف. اكتب أيها الفارس المحاصر إلاَّ من إرادتك وعنفوانك، فكتبتُ على الأوراق النادرة ولفافات السجائر، وعلى جدران الغرف الرمادية والزنازين الخانقة، دمي النازف من رأسي حتى أخمص قدميّ.‏

ذات ليلة من عام 1977، زارتني قصيدة: "رسائل سجينة إلى أمي" فأخذت أردّد في صمت:‏

"الموكب الموعود شقّ طريقه عبر البحار‏

وسرى، تعانقه النسائم والمحار‏

ورأيت طلعتك الندية من بعيد‏

مَثُلتْ أمامي مثل طيفٍ لا يحيد‏

أماه يا لحن النهار‏

هل تسمعين؟‏

القلب يخفق والتشوّق والحنين".‏

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:47 PM

وعندما هممتُ بكتابتها وتفريغها على الورق، أطفأ السّجانون الأنوار في غرف الأسرى، فقد حان موعد النوم حسب قانون إدارة السجن. لقد أطفؤوا نور الغرفة، لكنهم عجزوا عن إطفاء نور الشعر وبريق الأمل القادم رغم ستائر العتمة. عندما أشرقت الشمس في اليوم التالي، قمتُ بتفريغ شحنتي العاطفية على ما توفر لي من أوراق. عندما تزورني القصيدة أحسّ بالذهول، بحالة من التوتر وعدم التركيز، بحيث لا أستطيع سماع الأحاديث من حولي، أو الانتباه إلى حركات الأخوة والرفاق داخل غرفة السجن. كنت ـ تحت ضغط هذه الحالة النفسية ـ أشعر بأني أمتلك قوة غير عادية، تمكنّني من اختراق جدران السجن وقضبانه وأبوابه الحديدية الموصدة بشكل محكم، لأذهب بعيداً.. أتكئ على جذع زيتونة منتظراً أن تأتي الفتاة التي أحببتُّها وأرى في عينيها صورتي، وترى في عينيّ بشائر الحرية القادمة.‏

الذكريات أمامي تنساب كمنبعٍ متدفق، لتصبّ في نهر الانتفاضة المقدّس، محافظة على وضوح الرؤية ونقاء الصورة. هل يكفي الحديث عن السجن؟ هل يكفي الحديث عن القصيدة التي تلمع كالبرق في ظلام الخيام والغرف المغلقة؟.‏

في تلك الفترة، كتبتُ الشعر الغنائي الذي يلهب العواطف والمشاعر، ويحوّل التراب والشجر والحجر إلى كائنات حيّة تتحرّك وتتنفّس.. وتقاوم.‏

أما الآن، فإنني أسعى لأن يكون لقصيدتي تشفيرها الخاص وأنساقها الإشارية الخاصة بها، أكتب الشعر الذي يخلو من تيار التدفق والغنائية المفرطة. وفي ديواني الأخير "فاكهة الندم" خروج عن السمترية القديمة والقوالب الشعرية الجاهزة. وقصائدي الأخيرة تجنح نحو الميثوبيا، وفيها اهتمام واضح بالبنية الداخلية، ومنخرطة في أطر نسقية مختلفة. في رأيي، هو المايسترو الذي يضبط إيقاع الحياة. وإيقاع الحياة متوتر وقلق ومدهش.. ومجنون.‏

*بعض قصائدك كانت تُهَرّب من السجن بطرق مختلفة لتصل إلى الناس، ليتك تحدثنا عن ذلك؟‏

** عندما كنا نضرب عن الطعام لهدف تحسين أوضاعنا الاعتقالية، مثل تزويدنا بالكتب والدفاتر والأقلام وشفرات الحلاقة والصابون وفرشات النوم والراديو والصحف اليوميّة، كان السجانون يداهمون الغرف مدججين بالأسلحة والهراوات والدروع الواقية وقنابل الغاز المسيل للدموع، مستعينين بقوات الجيش وحرس الحدود، ويعتدون على الأسرى بالضرب والإهانات والألفاظ النابية. كانوا يخرجوننا إلى ساحة السجن ويصلبوننا في الشمس الحارقة أو في البرد الذي لا يطاق، وجوهنا إلى الحائط وأيدينا خلف ظهورنا ثم يتّبعون أساليبهم المعهودة لنا، فالتهديد والشتائم والاعتداء بالأيدي والأرجل وأعقاب البنادق، هي اللغة التي لا يتقنون غيرها. نبقى على هذا الوضع لساعتين أو ثلاث، أو ربّما من الصباح إلى المساء. قسم من الجنود يذهب إلى الغرف لتفتيش حاجات الأسرى، مثل الخزائن الصغيرة المثبتة على الحائط والملابس والبطانيات والشبابيك.. وحتى دورات المياه. والقسم الآخر يبقى في الساحة لإكمال مهمّته "الأمنية". كانوا يصادرون كل شيء، حتى أبسط حقوق الأسرى: الفراش. وعندما نعود إلى الغرف في المساء، نجدها خالية إلاَّ من البلاط.‏

المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:48 PM

كنا نعرف النوايا الحقيقية لإدارة السجن. فهي تهدف من وراء هذه "الغارة" إلى كسر الإضراب وتركيع الأسرى وتقويض جبهتهم الداخلية. وفي المقابل، نتفق، فيما بيننا على استمرار هذه الخطوة النضالية، فمن غير الممكن أن نمنحهم فرصة للانتصار علينا. فوحدتنا هي صمام أمان صمودنا، وهي الصخرة التي تتحطم عليها مؤامرات إدارة السجن الصهيونية.‏

يتجدد العهد، ويستمر الإضراب عن الطعام لمدة أسبوع أو أسبوعين حتى تذعن إدارة السجن لمطالب الأسرى وتزودنا باحتياجاتنا.‏

كنت، في مثل هذه الأوضاع الصعبة والقاسية، أخبئ قصائدي في معدتي خشية السطو عليها ومصادرتها، بحيث أغلْفها جيداً بالنايلون الشفاف المخصّص لقطع الخبز وأُحكم إغلاقها بواسطة الولاعة، فيذوب النايلون على نفسه، وبعد فترة قصيرة يتماسك، أبتلع القصائد المحميّة من التلف، بهذه الطريقة، كما أبتلع كبسولة الدواء..فتستقرّ في المعدة. وعند الحاجة، أقوم بإخراجها، إمّا عن الطريق التقيّؤ، أو.. دوره المياه.‏

كانت الكبسولة الواحدة تكفي للاحتفاظ بعشرات القصائد والبيانات والقرارات التنظيمية. فعددٌ قليل جداً من الورق الناعم الشبيه بورق السجائر، يتّسع لكتابة ديوان شعر كامل.‏

وعندما كانوا يصادرون دفاتر الشعر والمقالات الأدبية الخاصة بي، تظل "الكبسولة" هي النسخة البديلة التي لا يستطيعون مصادرتها أو الاستيلاء عليها.‏

بهذا الأسلوب كنت أهرّب أشعاري إلى الخارج من السجن أو إلى السجون الأخرى. فالسجين المفرج عنه كان يبتلع عدداً من الكبسولات عشيّة إطلاق سراحه، وعندما يحين موعد زيارة الأسرى، نعلم أن الأمانة وصلت إلى أصحابها.. إما للأهل أو لمكاتب الصحف والمجلات في القدس وحيفا.‏

هذا الاختراع الذي أنجزه الأسرى، بجدارة هو جزء من فن إدارة الصراع مع سلطات الاحتلال في السجون الإسرائيلية.‏


المفتش كرمبو 15 - 5 - 2011 02:49 PM

*من هم شعراء جيلك، وماذا تقول عنهم؟‏

** شعراء جيلي كثيرون، وأنا أحبهم جميعاً، وأعتز بهم وبما قدموه للمشهد الشعري الفلسطيني. وبعضهم جاد في تطوير ثقافته واستكمال مشروعه الشعري، وأخص بالذكر الشاعر المتوكل طه الذي أصدر عدداً من المجموعات الشعريّة الجديدة التي ترتقي إلى مستوى متقدم، من الناحية الفنية واللغوية والإيقاعية وفيها دلالات وتجاوز للشكل القديم، وكذلك الشاعر محمد حلمي الريشة الذي اتجه لكتابة قصيدة النثر المحمّلة بإشارات ومضامين ذاتية ملغزة. والشاعر سميح فرج الذي يتمترس خلف قصيدته الغنائية التي تزخر بالصدق الفني والهم الوطني العام. والشاعر وسيم الكردي، القارئ والمثقف، الذي يؤمن بأن الشعر يجب أن ينهض بذائقة الملتقي. والشاعر محمد مسعد الذي كتب القصيدة الرمزية الجميلة المفعمة بالتراث والأسطورة. والشاعر عبد القادر صالح صاحب الموهبة الجياشة والقصيدة العالية والذي لم أقرأ له منذ سنوات ولا أعرف أين هو الآن. أدعو لهم، جميعاً، بالمزيد من الإبداع والتقدم.‏

* هل استطاع النقد العربي أن يغطي جزءاً من تجربتكم الشعرية، إذا افترضنا أنكم شعراء الجيل الثاني في الشعر المقاوم زمنياً؟‏

** مع الأسف، لم يتطرّق أحد من النقاد العرب لنتاجنا الشعري، باستثناء الشاعر والناقد طلعت سقيرق الذي قدّم جهداً عظيماً يستحق التقدير، بتأليفه كتاب "الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني"، حيث قام بجمع قصائدنا والكتابة عنها والإشارة لتجاربنا الشعرية بشكل مستفيض. فمن خلال عرضه للقصائد وتحليلها ووضعها في سياقها الاجتماعي والثوري، مهّد الطريق لكي يتعرّف القارئ العربي على نتاجاتنا، وفتح نافذة كانت موصدة لزمن طويل، نفذنا من خلالها إلى ذائقة المتلقي العربي، كذلك الأمر في كتابيه "شعر الانتفاضة" و"عشرون قمراً للوطن"، وهو جهد عظيم يدل على مدى ارتباط الأستاذ طلعت سقيرق بأرضه وشعبه وثقافته.‏

كما أودّ الإشادة بالأستاذة الأديبة فريدة النقاش، رئيسة تحرير مجلة "أدب ونقد" المصرية التي تناولت ديواني: "المجد ينحني أمامكم" وتجربتي الشعرية في معتقل "أنصار 3"، في مقالها الأسبوعي بجريدة الأهالي المصرية، ولا تزال تفرد صفحات مجلة أدب ونقد للإبداع الشعري والقصصي الفلسطيني داخل فلسطين، وبين الفينة والأخرى، تنشر لي هذه المجلة الرائعة بمستواها وهيئة تحريرها، مجموعة من القصائد، والدراسات النقدية التي تتصدّى لأعمالي الشعرية. دون ذلك، لم أسمع أنّ أحداً من النقاد العرب التفت إلينا.‏

*هل يختلف ذلك في الداخل، بمعنى، هل استطاع النقد أن يعطيكم حقكم داخل فلسطين.‏

** في فلسطين، الأمر يختلف كليّاً، فالنقاد والأكاديميون الذين يدّرسون مادة الأدب العربي في الجامعات الفلسطينية، منشغلون بالكتابة عن الأدب الفلسطيني، كالشعر، والرواية والقصة والمسرحيّة، ويكلفون طلبة كليات الآداب بالمهمة ذاتها.‏

ومن حسن حظنا، نحن الجيل الذي نما وترعرع تحت الاحتلال الإسرائيلي، أن تناول الأديب والناقد المميّز الأستاذ صبحي شحروري أعمالنا الشعرية بالنقد والتحليل. هذا الناقد المثقف المطلع على نظريات النقد الأدبي، يتمثل النص الذي يريد الكتابة عنه، حتى أنّ ذاته الناقدة تحلّ محل ذات الشاعر أو الروائي أو القاص، فقد استوعب نظريات البنيوية والشكلانية والواقعية الاجتماعية وغيرها، واستطاع صهرها، في داخله مع الالتزام بالخط القومي الواضح.‏

لقد كتب شحروري نقداً لكل أعمالي الشعرية، وأعمال غيري من الشعراء أو الروائيين. فالنقد عنده إبداع، ونص جديد على النص. وهناك نقاد آخرون مهمّون، أذكر منهم على سبيل المثال: د. خليل عودة ود. إبراهيم نمر موسى، ومحمد مدحت أسعد، وإبراهيم مصطفى رجب الذين تناولوا بالنقد الموضوعي مجموعاتي الشعرية.‏

في الداخل الفلسطيني توجد مدارس نقدية، وتعقد الندوات وورشات العمل والأيام الدراسية بمبادرة وزارة الثقافة، والاتحاد العام للأدباء والكُتاب الفلسطينيين، وفي إطارها يجتمع المثقفون والأدباء والنقاد ليناقشوا ديواناً شعرياً، أو مجموعة قصصية أو رواية، أو يبحثوا قضية ثقافية ما، مثل استراتيجية الثقافة الفلسطينية. كما أن مجلة "الشعراء" الصادرة عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله، ومجلة "الكلمة’" الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في رام الله، أيضاً، تضطلعان بدور فعّال في تكوين الوعي الفكري والثقافي والتراثي والنقدي، وتسهمان في إغناء الحركة الأدبية والفكرية داخل فلسطين.‏

* يقال إنّ الشعراء الذين ولدوا بعد العام 1950، غيّروا مجرى القصيدة الفلسطينية، بأي اتّجاه كان هذا التغيير؟‏

**الظروف السياسية التي خيّمت على الشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948، وفقدانه لأرضه وممتلكاته، ولجوئه إلى مخيّمات الشتات في العالم العربي، ألقت بظلالها على العملية الإبداعية برمّتها، وعلى مشاعر الناس وأفكارهم وتوجهاتهم. نلحظ ذلك في الشعر والقصة والرواية.‏



الساعة الآن 04:20 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى