منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   الريف في الشعر العربي الحديث ـــ نبيلة الرزاز (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6628)

B-happy 8 - 5 - 2010 11:52 PM

الريف في الشعر العربي الحديث ـــ نبيلة الرزاز
 
الريف في الشعر العربي الحديث ـــ نبيلة الرزاز


"من الواضح أن طبقة الفلاحين في البلاد المستعمرة، هي الطبقة الثورية الوحيدة، أن هذه الطبقة، لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئاً، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء، والفلاح المنبوذ الجائع، هو الإنسان المستغل الذي يكتشف قبل غيره أن العنف وحده، هو الوسيلة المجدية".
فرانز فانون
فقد توقع الكثيرون أن يكون وقود الثورة الذي يتأجج، من هؤلاء الفلاحين، الذين لم يمتلكوا يوماً أرضاً ثابتة تحت أقدامهم، يقيمون فيها مطمئنين إلى مستقبل أبنائهم، بل هم دوماً مشردون، يشقق أيديهم المعول، ويمد الشقاء على وجوههم أخاديد عميقة، وينضب أديم وجوههم وهم يعملون في الأرض ولا يمتلكونها بعد كل هذا، ويظل الخوف يطاردهم، إذ قد يستغني عنهم الإقطاعي، أو المستوطن مالك الأرض، فيطوفون من جديد، باحثين عن لقمة العيش.
مثل هذا الإنسان، هو أحق الناس بالثورة، وأقدرهم عليها، وأجرؤهم فيها، فإن لم يكن فيها رابحاً، فإنه لن يكون كذلك خاسراً لشيء، فلا شيء لديه يخسره.
ليس له من الحياة إلا الشقاء والكد، ليلقى أجره عليهما جوعاً وعرياً، وذلاً ومهانة يلقاهما من الاستعمار وأعوانه من الإقطاعيين، كل هذا إلى ما في نفوس الفلاحين من شهامة ومروءة وطيب يعيش في ظل البيئة التقليدية التي تظل سليمة البنيان، كل هذا هو الذي يجعل النار في نفوسهم، حتى إذا مستها نسمة هواء، امتد لهيبها فأحرق.
وما زلنا نذكر كيف أن بطش الاستعمار كان ينزل بالفلاحين خاصة، فقرية دنشواي في مصر لم يزل يذكر المجاهدون حتى اليوم ضحاياها الذين كانوا شرارة أولى من شرارات الثورة التي ظلت تعتمل في النفوس حتى انفجرت أخيراً قوية عارمة سنة 1919. وأما الثورة العربية في سورية التي اندلعت سنة 1925 فلم تكن انطلاقتها إلا من القرى التي امتدت منها بعد ذلك إلى المدن، وتألقت بطولات الفلاحين حينذاك لتظل بعد ذلك ماثلة في أذهان الشعب، وأبناء الريف منهم بخاصة، وارتسمت أسماء رجال الثورة وبطولاتهم في مخيلات أطفال القرى الذين عاصروا هذه الثورة وهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من أعمارهم. واختلفت الأحلام التي تداعب أخيلة الصغار في القرى، فلم تكن تلك الأحلام الناعمة الرخية، أحلام المستقبل الهانئ والرغد والرفاهية، بل أصبحت الأحلام الحافلة بمغامرات الثورة، فهم يقلدون في ألعابهم هذا أو ذاك من المقاتلين الذين تروى حكاياتهم على ألسنة آبائهم، وتردد أنغاماً ودندنات على شفاه الأمهات.
وكذلك الجزائر فإن الاستجابة الكاملة للثورة فيها كانت في جماهير الريف، الذين عاشوا حياة الشظف والبؤس في أرض جزائرية يمتلكها مستوطنون فرنسيون فأدركوا أن قضيتهم هي قضية استرداد الأراضي من المستعمرين، هي كفاح وطني لن يكون إلا بثورة مسلحة، وقد وجد قادة الثورة في أبناء الريف الجزائري، الذين عاشوا حياة جامدة ساكنة، حفاظاً على قيم أخلاقية لم تصل إليها يد التخريب الاستعماري، ووسائل التمزيق، واكتشفوا فيهم شعباً كريماً سخياً مستعداً للتضحية، راغباً في العطاء، رفيع الشمم والإباء، ينتظر الفرصة السانحة حتى يقدم كل ما يستطيع في سبيل هدف يطمح إلى تحقيقه، هدف تحرير الأرض، وبالتالي تحرير النفوس من الذل والمهانة، والسعي للعيش على أنهم بشر في هذا الكون.
وهكذا كان اللقاء بين قادة الثورة وأبناء الريف سبيلاً لتفجر ثوري عظيم استمر ما يجاوز السنوات السبع وقدم من الضحايا ما ينوف على المليون. وعجزت المصفحات والطائرات عن الوقوف أمام ذلك الزحف الشعبي المقدس.
واستطاع القرويون وأبناء الريف في كثير من البلاد المتخلفة بانتفاضاتهم، أن يؤكدوا أن أمتهم لم تمت، ولن تموت، فإنها وإن عاشت سنين وسنين تحت نير المستعمر تعاني جوره وتكابد من آثار التخلف التي تركها في الشعب، فإنها لا زالت تحمل في ضمائرها –على صمتها- جذوة الرغبة في الحياة الكريمة، وشعلة الثورة، إن هؤلاء الفلاحين، لم يكفوا في أثناء سنوات الصمت، عن الثبات على طراز من الحياة، فيه حفاظ على العادات والتقاليد، لأنهم أحسوا أن في هذا النمط من الحياة عداء للمستعمر، لقد حافظ أبناء الريف باستمرار على ذاتيتهم، إن أنفة الفلاح، وإحجامه عن النزول إلى المدن، واشمئزازه من مقاربة العالم الذي بناه الأجنبي، جعله يدرك دوماً أن يوم الخلاص من هذا الأجنبي لا بد آت، وأنه لن يتمتع بالحياة حقاً، إلا حين يخرج المستعمر من أرضه.
فمن هم هؤلاء الذين يقاتلون في الفيتنام. إنهم زارعو الذرة والرز، أصحاب الحق في الأرض: "ما كانوا جنوداً هؤلاء الذين أشعلوا نار الحرب ضد الاحتلال، وإنما كانوا قرويين بسطاء، ومن أجل حبهم لأرض آبائهم تطوعوا للقتال، إنهم لم ينتظروا حتى يتم تدريبهم، واكتسبوا مهارات ثماني عشرة موقعة... واخترقوا البوابات، واقتحموا مواقع العدو مخاطرين بحياتهم

فابن الأرض الذي عاش مع التراب والزرع، وجعل من المعول صديقاً له، لا بد أن يُشد إلى هذه الأرض برباط قوي متين، فيعصر الألم قلبه إذ يرى خيرها الوفير بين أيدي المستهترين الذين لا يقيمون لهذا الخير وزناً، وأما هو ورفاقه من منتجي النبت والزرع، فلا يعرفون إلا الجوع والفقر والاستكانة للمستغلين.
ويغمر الأسى نفسه إذ يرى الأرض التي ناضل من أجل أن تكون له تحرق وتدمر من قبل المستعمرين. لهذا نرى الفلاح في هذه البلاد المتخلفة جريئاً على الوقوف صامداً في وجه الطغاة متحدياً، يطلب الحياة للأرض التي أنبتته، والقرية التي غذته، ويتنقل في أثناء نضاله ضد المستعمر من مكان إلى آخر حاملاً بين جوانحه صورة قريته، لتكون وقود الثورة في نفسه:
لقد سافرت في طول البلاد وعرضها
ذكريات قريتنا الصغيرة تملَّكت عقلي
هناك يرقد نصف قلبي يا حبيبتي

وتنداح دائرة النضال لدى المواطن الفلاح شيئاً فشيئاً وينضم الجهاد إلى الجهاد فيكون نضال أمة بكاملها من أجل الوطن، ثم من أجل الإنسانية.
وقد أدرك المناضلون الحقيقيون في البلاد المتخلفة، ما يعانيه الفلاح من جور وظلم، وعرفوا دوره الكامل في الثورة، فأحبوه وشاركوه النضال، وقاتلوا معه ومن أجله، حتى لقد أوصى الشاعر التركي ناظم حكمت الذي قضى حياته ثائراً مشرداً أن يدفن بعد موته بين الفلاحين، تقديراً لجهادهم..
يا رفاقي، إذا لم يكن من نصيبي رؤية ذلك اليوم
أي إذا مت قبل الخلاص،
فاحملوني إلى الأناضول
وادفنوني بمقبرة في إحدى القرى
***
ولتنتشر الجرارات والأغاني على طول المقبرة
ومع خيوط الفجر الأولى،
لتفعم رائحة الشباب والبنزين المحترق...
كل الحقول دفنوني بمأدن

وللثورة دوماً وجهان، وجه النضال المسلح، ووجه النضال بالكلمة، ويبدو أن الريف كريم دوماً، كريم برجاله الذين يضحون بالروح والجسد يريقون دماءهم في سبيل الحرية والكرامة، وكريم برجاله الذين يحملون الكلمة كذلك لأخوانهم مشعلاً ينيرون به، فقد أنبت لنا الريف نبتات شعرية غضة وفيرة الخير، فكان منه هؤلاء الشعراء الذين نذروا أنفسهم للنضال، وتألموا إذا رأوا رفاقهم في الريف العربي لا يزالون يعيشون في ظلام الجهل الحالك، يعانون أقسى أنواع الحياة، لا يعرفون إلا العري والجوع والقهر، فجعلوا كلمتهم السلاح الذي يضربون به العدو المستغل، كما جعلوا منها ذلك البوق الذي يوقظ المستضعفين الغافلين، وقد أدركوا أن الكتاب والعلم هو الذي أحيا فيهم الرغبة في الثورة، على واقعهم البائس، فليقولوا إذن كلمتهم الشعرية علَّها تنفذ إلى قلوب إخوانهم من الفلاحين، فتكون كنسمة الهواء التي تصيب ناراً خامدة فتلهبها.
ولتمتد جذور الكلمة نحو قرانا
كي تورق في قلب قرانا تلك الكلمات
وليقرأها الرجل الطيب
ولتنضج، ولتصبح رايات
تتقدم خطوات الإنسان
لتقيم على أرض الجنة

فالشاعر عبد المعطي حجازي قائل هذه الأبيات ابن للقرية أحبها، وحمل هذا الحب في فؤاده، منتقلاً به إلى المدينة، حيث يبحث عن العلم والمعرفة اللذين يساعدانه على الإدراك العميق لمأساة قريته، بل لمأساة أمته كلها التي تتمثل بهذه القرية.
وفي المدينة صفعتهم متناقضات الحياة، وقسوتها على أمثالهم من الفقراء، وأحسوا بالغربة بين أناس لا يقيمون وزناً إلا لذوي المال والثراء، فعاشوا في المدينة مغبونين، يمرون بأعينهم على كل ما يبهر ويبهج، ولا ينالون إلا ما يمسك الرمق، يسكنون البيوت الضيقة المعتمة التي لا تزورها أشعة الشمس يوماً، في أزقة ودروب مظلمة، ويجوبون شوارع فسيحة ذات أبنية عالية متلألئة الأنوار، فتهترئ نعالهم لكثرة ما يطوفون في هذه الشوارع، وتكل عيونهم لكثرة ما يحددون فيها النظر، ويعودون بعد كل هذا خائبين، ليبيتوا بين جدران أكلتها الرطوبة والعفن.
هؤلاء الشعراء من أبناء القرى، هم الذين أدركوا مأساة الإنسان الحقيقية في وطنهم، عانوا أنواع الشظف في القرية والمدينة، فنذروا أنفسهم للنضال، وصورة قريتهم وحياتهم الأولى لا تبرح منهم المخيلة، تذهب معهم حيثما توجهوا، لتذكرهم دوماً بإخوانهم في الشقاء، الذين عايشوهم في القرية وطعموا معهم ألوان البؤس والشقاء.
ما زلت خادمك المطيع
لكنه علمُ الكتاب
وعصرنا الذهبي، عصر الكادحين
عصر المصانع والحقول
ما زال يغريني بقتلك أيها القرد الخليع

لقد عرف شاعر الريف في قريته، ليالي الحرمان في الكوخ النائي وخيبة الفلاح، بعد أن كان قد روَّى الحبة بدمائه. إذ يراها تسرق من يده وهو ينظر إليها بعين مغيظة يائسة، تتمنى لو تظل الحبة بعد كل هذا الجهد دفينة في التراب، ما دام لن يأكلها. تلك الحياة التي لم تكن إلا ترقباً للردى، بين أنياب وحش يعيش في المدينة، مترفاً بنتاج أناس في القرى، يقبلون على الموت بصمت وسكينة ورضى غبي، هي التي جعلت شعراء القرى كلما رأوا تناقضات المدينة وثراءها، وإغلاقها الأبواب العريضة في وجوههم، يثورون وتتفجر غضبتهم، وتعمق المأساة في نفوسهم، وتتضخم في أذهانهم صورة أبناء القرية الذين يعيشون على آمال صغيرة مسكينة منهارة، ينهشهم الجوع، وتمر بهم الأيام متواترة متشابهة، يتقبلون كل ما فيها برضى هادئ ساكن.
الشمس والحمرُ الهزيلة والذباب
وحذاء جندي قديم
يتداول الأيدي، وفلاح يحدق في الفراغ
***
والحاصدون المتعبون
"زرعوا ولم نأكل
ونزرع صاغرين فيأكلون

ونما الإشفاق والعطف في نفوس هؤلاء الشعراء على إخوانهم في القرية، وأهليهم الذين يحيون حياة البساطة والسذاجة والحرمان، ويموتون فلا يلفهم بعد موتهم إلا كفن الفقر، ولا يحملهم إلا النعش القديم المهترئ، وينصرف عنهم الناس إلى الكدح مسرعين بعد مواراتهم التراب، لتكون ثمرة كدحهم سغباً على سغب.
والشاعر الذي ترك القرية إلى المدينة، فلم يجد إلا الجدران الصلبة القاسية التي منعت عنه الريف، وحجزته عنه بين الأسوار العالية، والأزقة الضيقة، أو الشوارع العريضة الصخابة التي تضج بالناس، كان عليه أن يجاهد في هذه المدينة وأن يكون صاحب مخلب وناب، ليشق فيها طريقه قبل أن تدوسه أقدام المتدافعين المتزاحمين، فإذا ذهب إلى قريته يزورها، ليتمتع بحياة بين أناس يحبونه ويعرفونه، لقي فيها إخواناً وأهلاً وأحبة يشفق عليهم، ويتألم لهم، فيزداد حزنه، وتتعاظم المأساة أمام ناظريه، فهؤلاء الناس الذين يريد لهم أن يتمردوا، لا يزالون يتحدثون بطيب إذ يجتمعون ساعة الأصيل، أمام الدار، فيستعرضون تجاربهم في الحياة، ويعجبون من قسوة القدر، وكيف تنزل حتى بذلك الغني الذي اعتلى وشيد القلاع، وملئت خزائنه بالذهب اللماع، وإذا به بين ليلة وضحاها، يسلِّم روحه مضطراً لعزرائيل. ويصل بهم طيب النوايا إلى أن يروا أبناءهم أو آباءهم يموتون ويدفنون، فيذرفون دمعتين، ولا يحسون بقسوة القدر إذ تصيبهم بموت الأحبة، لأنهم عرفوا لها مظهراً أقوى وأشد إذ تلاحقهم بالقحط والمحل، فيمرون بعام جدب بعد آخر يشغلهم عن موتاهم، ومصائبهم الصغيرة.
ولكن هناك ما ينتشلهم منها هو الحديث عن البطولة.
لقد غرست الأمهات القرويات في نفوس أبنائهن إعجاباً عميقاً بالبطولات القروية التي ظهرت في أثناء الاستعمار، فالبطولات التي رددتها الأمهات حكايات لأطفالها ودندنتها نغمات في آذانهم، أخذت تتضح جوانبها شيئاً بعد شيء مع نمو الأطفال وصارت تعني في نفوسهم وهم شباب بعد ذلك قصة النضال والثورة، لذلك رأينا الشعراء أبناء الريف يخلِّدون أولئك البسطاء من الفلاحين الذين دفعهم الظلم للتمرد، فوقفوا موقفاً بطولياً فردياً من السلطات، ونالوا محبة القرويين لأنهم وجدوا فيهم رمزاً للثورة وإن لم تكن هذه الموقف الفردية منظمة واعية، ولكنها كانت تمرداً على سلطة جائرة، "فشاهين" مثلاً شخصية يعرفها كل أبناء الجبل في منطقة اللاذقية، متمرد على السلطة هارب، ينام على مرأى الدم، ويفيق على خفقات الذعر، مطارد، صهواته البراري، السيد يلاحقه والسلطة تطلب رأسه، إنه يمثل التمرد الذي لم يكتشف بعد طريقه السليم، ولكنه على كل حال بطولة وصمود في وجه الظلم، أُعجب بها الفلاحون وصار الجيل يرويها حكايات للجيل الآخر، وخلَّدها الشعراء الذين أنبتتهم الجبال لأنهم كانوا ينامون وهم صغار، على نغمات من أمهم تروي حكايات شاهين وأمثاله
فارس يطلع من صدر البراري
حاملاً للريح موالاً عتيقاً
غيَّبته الريح:
"كوني يا رياح
خيمتي،
مدِّي لي الأفق جناح

وهكذا فإن الشعراء الذين عاشوا في الريف وأحسوا بما لدى أبنائه من قدرة على القتال والصمود إذا تفجرت في نفوسهم الرغبة فيه آمنوا أن تمردهم لن ينطلق إلا من القرية، ولكنهم المسؤولون عن بداية هذا الانطلاق فلن تندلع الثورة ناراً مستعرة ما دام أبناء الريف المثقفون غافلين صامتين.
ففيهم يجب أن تتدفق دماء الحياة من جديد، وهم الذين عليهم أن يضحوا بدمائهم لتكون شعاعاً يهدي سائر أبناء الريف، ولسانهم هو الذي عليه أن يعلن في الناس كلهم غضبة الفلاحين الذين عاشوا قروناً على الحرمان والغبن.
وإذا لم يحمل أبناء الريف المتعلمون ما عليهم من تبعات، فكيف للريف أن يصل إلى حياة حرة كريمة:
هيهات أتولد جيكور
الأمن خضَّة ميلادي
هيهات أينبثق النور
ودمائي تظلم في الوادي
أيسقسق فيها عصفور
ولساني كومة أعواد

وجيكور هو قرية السياب التي لم تفارق مخيلته مدى حياته، فكانت موطن الشقاء كما كانت موئل البهجة، وهي منطلق الثورة الاجتماعية والسياسية، كما أنها رمز للمأساة الإنسانية، ودافع للتحرر الإنساني.
مثل هذا الحنين المؤلم إلى الريف يغمر الشاعر صلاح عبد الصبور فيذوب قلبه ألماً إذ يرى الأم تبكي ما أصاب قريتها، ولكنه يتحدث باسم كل قروي أدرك المأساة مصراً على الصمود والمقاومة:
أترى بكيت لأن قريتنا حطام؟
ولأن أياماً أثيرات تولَّت لن تعود؟
أماه! إنا لن نبيد
أماه! قولي للصغار:
أيا صغار...
سنجوس بين بيوتنا الدكناء إن طلع النهار
ونشيد ما هدم التتار

فكل ما أصاب الفلاحين، من سغب وعطش، وحرمان وهوان، واغتصاب من قبل المستعمرين وأعوانهم، جعل شعراء القرى يعتقدون أن ريفهم سيكون منطلق الثورة، لا في بلادهم فقط بل في كل بلد في العالم الثالث، لأن طبقة الفلاحين في هذا العالم هي التي عانت أشد ضربات الاستعمار قسوة، وهي كذلك الطبقة المحرومة والمظلومة حقاً في هذا العالم النامي.
لذلك جعل قسم كبير من الشعراء فكرة العودة إلى القرية هدفاً لا يتخلى عنه، العودة لا من أجل الهروب من المدينة، والبحث عن العيش الهادئ المطمئن بل من أجل أن يطلقوا ثورتهم من منطلقها الصحيح، من تلك البيوت الفقيرة التي طالما غُلِّقت أبوابها على غضبة مكبوتة، وألم ينتظر الفرصة السانحة ليتفجر، من البيوت التي لا تطمع يوماً أن تصل إلى حقها في الحياة دون تضحية منها ودماء، لهذا قال سليمان العيسى:
سنعود لنبدأ ثورتنا
في كوخ الحطاب المزري

فهو يعرف ماذا يريد من هذه الثورة. أن يكون للفلاح الذي تمزق لهاثاً على قبضة محراثه يشق الأرض، نصيب من الظل الوارف، فهو الذي أطعم الناس جميعاً وأغناهم، وما كان عمره إلا دمعاً ودماً ضائعاً، يغوص في لحمه مخلب الظلم الكاسر، ويمضي والمعول بين يديه اللتين تشقق جلدهما وجف، وهو الغريب في الحياة الذي لا أرض له ولا مستقر: ونمضي والفؤوس على كواهلنا من المهد إلى اللحد تكاثر جمعنا في الشمس، وامتلأت بنا الصحراء أكلُّ الناس فلاحون أغراب، بلا أرض ولا أبناء؟

يتبع

B-happy 8 - 5 - 2010 11:55 PM

ولم تكن هناك ثورة فلاحية ضخمة في البلاد العربية، بل ظهرت حركات تمرد بسيطة، واحدة تلو الأخرى، جعلت بعضاً من الحكام يدركون أن الفلاح في بلادنا مغبون، وأنه ابن الوطن الحقيقي، غير أن حقه المشروع بالأرض لا يمنح بسهولة، وإنما يؤخذ بالقوة، لقد وزعت الأرض أولاً بالمذياع فثار الشاعر ولكن حين وزعت الأرض فعلاً على الفلاحين سنة 1959 وأمسك كل فلاح بقرار التمليك، فقد ملأت الفرحة قلب هذا الشاعر، وهو يرى سكان الكوخ تعلو أصواتهم، فلا يخافون ولا يهمسون، والشاب فيهم يحمل معوله منتصراً كمن حملت جبهته الغار، وشعر الجميع أنهم أصبحوا أصحاب الأرض حقاً، فهم مواطنون الآن، لهم حق الحياة، لذلك سيكونون فداء للوطن الذي فُكَّ فيه أسرهم:
أرضنا.. نحن هنا سادتها
وانثنى محمود في إدلالة


هذه الدنيا بيمناه قرار
ورمى الصك بكفي هامساً


إنه حقل لأطفالي ودار

وهكذا نرى أن القرية كانت لهؤلاء الشعراء الشباب مهماز الثورة، لأنهم فيها نموا وترعرعوا، ولها تألموا، وحملوا بين ضلوعهم من حبها الشيء الكثير، واعتقدوا أن مهمتهم في الحياة، هي أن يوقظوا الإنسان القروي البسيط، ليحمل راية الحق. لذا فإن واحدهم يرى أن كلمته إن لم تنفذ إلى القرية، ولم تمر عليها عيون الفلاحين، فإنها لن تكون إلا جثة ميتة، تسري إليها العفونة، دون أن تبعث حياة جديدة في الناس.
قلبي الأرض تنبض قمحاً وزهراً وماء نميراً
قلبي الماء قلبي هو السنبل
وإذا كان الشعراء قد تركوا الريف مرتحلين إلى المدينة، فإنهم لم يتركوه إلا بأجسادهم، أما الأرواح منهم، فظلت مع الريف، مع الأسر التي تشدهم إليها صلاة متينة، فلم ينسوا يوماً أنهم أبناء ريف:
وأنا ابن ريف
ودَّعت أهلي وانتجعت إلى هنا
لكن قبر أبي بقريتنا هناك يحفُّه الصبَّار
وهناك ما زالت لنا في الأفق دار
وإذا كان الشعراء قد حملوا معهم إلى المدينة صورة بؤس القرية، ومأساتها العظيمة، فإنهم حملوا كذلك، حنيناً إلى الحياة فيها، بين أحضان الطبيعة، حيث لا تزاحم بين الناس، ولا تدافع، حياة هادئة مسترخية، كل ما فيها حلو في عيني ابنها، الطريق الملتوي، والأفق عند المغيب، وظلال النخيل، والمئذنة والترعة، وغمغمات الطير، وعناق الزهر، حتى أصوات البهائم، وهي تختفي في مدخل القرية، قد تركت في مسامع بعض هؤلاء الشعراء أنغاماً حبيبة إلى نفوسهم.
وهذا السياب يرى كل ما في قريته جيكور جميلاً جميلاً، في الصيف والشتاء، في النور والظلام:
ولكن في جيكور
للصيف ألواناً كما للشتاء
وتغرب الشمس كأن السماء
حقل يمص الماء
أزهاره السكرى غناء الطيور
ناحلة كالصدى
فإذا أحس الشاعر الريفي بثقل جو المدينة، بدروبها التي تضيق به في نهاية المطاف، بالجدران الصامتة الميتة في بيته البارد، ذكر القرية، بأفقها الرحب العريض الحنون، أو ذكر الليالي المقمرات والسكون، وامتدت جذور الغربة في نفسه، وتمنى لو يعود إلى القرية، فاراً من ازدحام المدينة الخانق وجوها الصاخب، وأفقها الضيق.
والأفق رحب في القرى حنون
وناعم وقرمزي يحضن البيوت
وتسبح الأشجار فيه كالهوادج المسافرة
يا ليتنا هناك
نسير تحت صمته العميق
ونوره المخضب الرقيق
ابن الريف يبحث عن الهدوء والسكينة في المدينة فلا يجدهما، يفتش عن الأفق الفسيح فلا يرى إلا الجدران الصلبة العالية تسجنه بين جنباتها، لهذا فإنه يحلم دوماً بعودة إلى قريته، يبتني فيها بيتاً بين أحضان الطبيعة، بعيداً عن الصخب والضجيج.
وقد حلم السياب دوماً ببيت في القرية صغير، يبنيه مع من يحب تحت الغصون، بجانب النبع، يضوع فيه العطر، ويتفتح الزهر.
ولا يجف الحنين في نفوس الشعراء أبناء الريف إلى دور القرية، حتى إلى تلك التي عرفوا فيها الجوع والأحزان والأمراض، وشاهدوا فيها الأطفال يموتون، إنها ليست بيوت العطر والزهر ولكنها موطن الحياة البسيطة الساذجة التي كانوا يحيون، فالسياب مثلاً يذكر منزل "الأقنان" وهو بعد أن أصبح خرائب تئن فيها الريح وتطل منها عين البوم الدائب النوح، يستعيد في مخيلته الحياة التي عاشها الناس في هذا المنزل، سواعد مفتولة، وأغنيات خضراء، وناراً توقد في ليالي القمر الشتائية، يدندن حولها القصاص:
"يحكى أن جنية"... كل هذا يذكره الشاعر بحنين وشوق، ممزوج بالألم والأسى، مما يجعل الشاعر في آخر قصيدته يدعو بالسقيا لهذا المنزل:
ألا يا منزل الأقنان، سقتك الحيا سحب
تروِّي قبري الظمآن، تلثمه وتنتحب
وللسياب قصيدة أخرى في دار جده سماها: "دار جدي"
يكفي أن نشير إليها حتى لا يطول الحديث عن هذا الشاعر وقريته جيكور التي نظم فيها شعراً، لو جمع بعضه إلى بعض لكان ديواناً كاملاً، فقد وصفها بجمال طبيعتها وهو لا يزال حديث العهد بالشعر، وكانت له رمز الجهاد في فترة نضاله الثوري، كما ذكرها بذوب من الحنين والشوق في أيام مرضه وبعده عنها.
وربما كانت هذه الصلة المتينة التي ظلت تشد الشاعر الفلاح إلى قريته، هي التي جعلته يجد عند فتاة القرية، ما لا يجده عند فتاة المدينة، فهي الحبيبة التي تمنحه الطمأنينة والراحة، وهي التي يطمع بأن تبني له العش الصغير، فيه رغيف الخبز الذي يغنيه عن كل مأكل شهي، ما دام في عشه اللطيف، تُعنى به زوجة راضية قنوع، ويطربه ضحك الطفل البريء، الذي يفتح أمام عينيه رحاب الحبور والسعادة
ولذا فإن حجازي يحثه إلى حب كان قد ودعه في القرية، وهو لا يزال في مقتبل العمر، يعيش بين أحلام الشعراء الشباب، ولكن بعد أن حملت مركبه الرياح إلى المدينة، يواجه ليلها القاسي بلا حب، ويمضي في فراغ بارد مهجور غريب، يبحث عن اللقمة، وفي عينيه سؤال يستجدي خيال صديق، فلا يجد، أخذ ينادي حبيبه الغائب:
ملاكي، طيري الغائب!
تعالي، قد نجوع هنا
ولكنا هنا اثنان
ونعرى في الشتاء هنا ولكنا هنا اثنان
وتبلغ الفرحة بالشاعر عبد المعطي حجازي ذروتها حين تأتي الحبيبة من الريف، فهي تلك التي تستطيع أن تحتمل معه حياة الجوع والعري:
حبيبي من الريف جاء
كما جئت يوماً، حبيبي جاء
وألقت بنا الريح في الشط جوعى عرايا
فأطعمته قطعة من فؤادي
وكذلك البياتي، فقد ترك القرية إلى المدينة، وظل يحن إلى فتاة القرية في الفترة الأولى، قبل أن تغرقه حياة النضال بعبابها، ويتمنى لو يعود إلى الحقل، بأرضه السوداء، والمحراث فيه، بعصافيره وسنديانه..
تراها لم تزل تذكر من


عمرها يوماً به كانت وكان
يوم ألقته على الأرض وقد


نامت القرية عنا والزمان

وأما السياب الذي كان أكثر الشعراء تشبثاً بقريته وريفه، فيذكر أنه أحب راعية للقطيع وهو لا يزال في أحضان الريف، فلم يبرح خيالها ذهنه إذ عاش في المدينة حتى حين عرف فتيات المدينة وأحبهن، كان يبحث عن التشابه بينهن وبين بنت الريف، وكأنه لم يعجب بابنة المدينة هذه إلا لأن لها ما يشبه فتاة الريف.
أما كنت ودعت تلك العيون الظليلات والخصلة النافرة
كأني ترشفت قبل الغداة سناً هذه النظرة الآسرة
أما كان في الريف شيء كهذا أما تشبه الربة
الغابرة؟
وترد سليمان العيسى رسالة من فتاة القرية النائمة في حضن الجبل، تعاتبه فيها، وتذكر أنها لا تزال تحرس ذكريات شباب ثائر وكفاح أليم، فتعود به الذكرى إلى أيام حلوة خلت في القرية.
حلو كالحب عتاب منى
أهلاً بخيالك طفلتنا
يا للذكرى تطوي الزمنا
وتجدد شطرا.. من عمري
ولأن شاعر القرية يعرف أنه يحمل تبعة ضخمة في مسيرته، فإنه يخشى أحياناً أن تغريه ابنة المدينة وأن تصرفه عن مسيرته الطويلة في درب الجهاد، حتى أسرته حين تسلمه إلى المدينة التي تأخذ بألباب الشباب، تخاف أن يغرق في حب هناك فينسى قريته ويبهره الجمال المدني بكل ما فيه من زخرف وتصنع، فيكون سوراً في وجهه يحبسه عن القرية، ويمحو من ذهنه قضيتها، فيضيع بين أصل قد أهمله، ومدينة قد ترفضه وتدعَّه أبوابها. وكأنما كان الآباء يخشون أكثر ما يخشون هذه النتيجة لأولادهم، لذلك تكون الوصية الملحة للأبناء قبل فراقهم، أن يحفظوا قلوبهم لبنات القرية.
أقول يا أبي عذرا
وقعت في هوى بنيَّة هنا
وأنت كم حذرتني من نسوة المدن
لكنني رأيتها كأنها أنا
فقيرة حزينة، مات أبوها يا أبي
وتقرأ الشعرا
أحببتها، لكن طريقها طويل
فشاعر الريف في المدينة، يبحث عن الصديق فلا يحظى به، ويشعر بالغربة تأكل فؤاده، ويحتاج إلى إنسانة تصدقه الحب، ولا تتخذه لهواً ولعباً، فيحن إلى بنات الريف، بسذاجتهن وصراحتهن، أو يبحث عمن تشابههن في المدينة، كي تفهم حزنه، وتشاركه شقاءه، وتسهم معه في معركة النضال. ولو لها ابن القرية مع فتيات المدينة اللعوبات، فسيظل يحس في قرارة نفسه، أنه لم يصل إلى شاطئ الاستقرار العاطفي، ويستمر في لهاثه وراء الحب المخلص، وقد يصفعه صلف بنت المدينة أحياناً، كما حدث للشاعر محمد الجنيدي، حين لعبت بمحبوبته الدمشقية أقاويل أولئك الزملاء الذين عابوا عليه قرويته وفقره، ولكن مثل هذه المواقف من الفتيات، هي التي جعلت ابن الريف يزداد تمسكاً بريفه، بل ويحاول أن يعلن للناس كلهم أنه الريفي الذي يفخر بهذا، كما فعل الشاعر محمد جنيدي إذ قال:
أنا يا سمراء ريفيٌّ.. فإن


أنكرتْنا الشام حيناً فاسألي
لم يزد يوماً رخيص المنهل


لم ندع أقداسنا في السبل
فقرنا أغلى من التبر.. ففي


فقرنا خصب الإباء الأعزل



والفقر لا يشينهم، فهم يعتزون به، ما دام فقراً فيه إباء وترفع، وربما كان صلف أغنياء المدينة، هو الذي دفع الشعراء القرويين لأن يعتزوا بانتمائهم إلى القرية، فهي نبع الخير والحب والعطاء، وهي أرض الوحي التي تنبت الشعراء، والبركان الثائر الذي سيسمع هديره، وتلتمع ناره، حين تثور الكبرياء في أبنائها.
اطرحوا العبء على بيدرنا


كل ما في الريف حب وعطاء
اغمسوا أحلامكم في قريتي


عندنا الوحي ومنا الأنبياء
يا نسيم الريف إني شاعر


صاغه من روحه هذا الهواء
من هدير الريف من إعصاره


من لظاه حين تطغى الكبرياء
فالقرية أغنية تتردد على ألسنة شعراء الريف، بنغمة حزينة تارة، وحالمة أخرى، ومتألمة ثائرة غاضبة مرة ثالثة.
ويرى الكثيرون ممن درسوا هذه الظاهرة لدى الشعراء أنها ليست إلا مظهراً من مظاهر القلق في المدينة الغريبة الممزقة التي يعيش الشاعر فيها في الفترة الأولى وحيداً، يبحث عن مثل ذلك المجتمع المتعاطف الذي عرفه في القرية، فلا يصطدم إلا بالوحدة والانفراد، وتمزق العلاقات الإنسانية، وقسوتها في الصداقة والحب وعلاقة العمل، ويعتقدون أن الريف يمثل حياة يفتقدها الشاعر في المدينة فلا يجدها، ويذكر الدكتور عز الدين إسماعيل أن "هذا الحنين إلى القرية، يظل ينازع التجربة الحية في المدينة بعض الوقت، ولا يتخلص الشاعر منه، إلا بعد عناء كثير، حين يرسخ في نفسه، إنه مهما نقم من حياة المدينة فإنه ما يزال جزءاً منها، ومحباً لها".
ويذكر أيضاً: "إن مما يساعد الشعراء على هذا التحول إدراكهم لحقيقة أنه في المدينة يتمثل الوجه الحضاري للأمة، وبخاصة الوجه السياسي
والحقيقة التي نستطيع أن نخلص إليها من خلال استعراضنا للشعر العربي الحديث، وبعض الشعر الغربي، هي أن الحنين إلى الريف إحساس شائع لدى الكثير من الفنانين، فالحضارة الصناعية في الغرب، قد حولت المجتمع الإنساني إلى آخر آلي، يسلب البشر إنسانيتهم مع الزمن ويحركهم آلات يتضخم إنتاجها الفكري والمادي يوماً فيوماً على حساب العواطف الإنسانية التي تتضاءل، ويقسو البشر بعضهم على بعض، وتذوب القيم الإنسانية أمام حرارة المادة، ويعيش الإنسان وحيداً، غريباً أحياناً حتى بين أفراد أسرته.
ويأكل الناس بعضهم بعضاً كما كان الإنسان المتوحش يفعل، ولكنهم الناس المتحضرون، يبحثون عن طرائق حديثة لهذا الأكل، ووسائل تبدو في ظاهرها مهذبة، ولكن الفنان المرهف الشعور، يدرك كل ما في أعماقها من وحشية وقسوة، لهذا يتمنى الخلاص من مثل هذا المجتمع الصناعي الآلي، ويحن لعودة إلى عصور الزراعة، حيث حياة الهدوء والاطمئنان، وحيث العيش البطيء المتأني الذي لا يعرف ازدحام المدن الصناعية وصخبها، وتدافع الناس فيها، وتسابقهم إلى المادة، ويتمنى أن يعيش بين أحضان الطبيعة التي تهيِّئ له الاسترخاء والسكينة والعودة إلى نفسه.
وقد نجد خيطاً من التشابه يصل بين شعراء الريف عندنا وشعراء الغرب هؤلاء، الذين يتمنون الهروب إلى الريف، ولكنه خيط لا يطول، وهو يتمثل بتلك الصور الحلوة للقرية، بيوتها التي تضوع عطراً، وظلالها الوارف، ونغمات عصافيرها الراقصة. وينقطع هذا الخيط، لنجد بعد ذلك هوة كبيرة بين شعرائنا الذين ولدهم الريف، فذاقوا فيه مرارة الفقر، وعرفوا معنى العطش والبطون الفارغة، وامتلأت نفوسهم حقداً على أولئك الذين يلتهمون خيرات الريف، وكأنهم الجراد، لا يتركون لأبنائه إلا الحصى والزؤان، وبين شعراء الغرب.
وإذا كان شعراء القرية قد حنوا أحياناً إلى حياة سهلة فيها، بين أخوانهم وأحبتهم الذين يعرفون كيف يتضامنون حين تنزل الشدائد بهم، فلأنهم وجدوا تمزقاً بين أبناء المدينة، يزداد كلما كانت أكبر وأضخم، كما أنهم وجدوا سدوداً منيعة، حصينة، ترفع في وجه ابن الريف الذي يهبط المدينة، ولكنهم إلى جانب هذا الحنين الحالم أحياناً، كانت تشتد فيهم الرغبة كذلك في كثير من الأوقات، في العودة إلى القرية، لكي يحولوها إلى فوهة بركان، تنطلق منه حمم الثورة، وتحمل فيه رايات النضال، وإذا كان الشاعر الغربي يريد بالهروب إلى الريف. أن يصل إلى خلاص طوباوي للإنسان، فيه عودة إلى الوراء، فإن شاعرنا العربي يبغي خلاصاً واقعياً عملياً لكل إخوانه، ينتشلهم فيه من البؤس، بثورة لا يتطلع إليها الفقير في بلادنا العربية فقط، بل كل فقير في أي طرف من أطراف العالم، وبخاصة في العالم النامي. وهي ثورة لا يلتفت فيها الإنسان إلى الخلف يحن إليه، بل يتطلع إلى الأمام، عازماً على بناء عالم جديد كل الجدة.
من أجل أن تتفجر الأرض الحزينة بالغضب
وتطل من جوف المآذن أغنيات كاللهب
وتضيء في ليل القرى، ليل القرى كلماتنا،
ولدت هنا كلماتنا
وإذا كانت القرية قد شغلت شعراء العصر الحديث الريفيي الأصل، في سنوات عيشهم الأولى في المدينة، ثم انصرفوا عنها إلى موضوعات أخرى، فكان ذكر القرية يملأ دواوينهم الأولى كأباريق مهشمة للبياتي، ومدينة بلا قلب لحجازي.. ثم أخذ ينمحي وتغيب صورة الريف شيئاً فشيئاً فيما تلا من دواوين، فما أظن أن هذا كان نتيجة "لإدراكهم لحقيقة أنه في المدينة يتمثل الوجه الحضاري للأمة، وبخاصة الوجه السياسي" بل لأن ابن الريف صدمته المدينة أولاً بمتناقضاتها، وأشعرته أنه القروي الفقير البسيط، الذي هبط المدينة، وهو لا يحمل معه إلا زاد الفطرة والسذاجة، والآمال العريضة التي لن يتمكن من تحقيقها، ما لم يكن قوياً قادراً على أن يتحدى كل ذوي الثروة والنفوذ وأصحاب الجذور الممتدة في المدينة منذ زمن بعيد.
فبعد أن كان ينوي أن يحرر الريف الذي تلسعه سياط العذاب الاجتماعي والسياسي معاً، يرى أن تبعته أكبر من ذلك، وأنها تمتد إلى ما هو أوسع، إلى تحرير الوطن كله، بما فيه من فلاحين وعمال وفقراء وضعفاء، بشتى أنواعهم وأشكالهم، وتتسع دائرة اهتمام الشاعر كلما توغل في طريق النضال، حتى تشمل العالم الثالث كله، بجميع من فيه من البؤساء، وتعود فتمتد حتى تضم بؤساء العالم الذي وصل إلى قمة الحضارة، وغرته قوته، فأخذ يقتِّل البشر دون حساب في الحروب.
وقد يستغرق شاعر الريف في حياة المدينة بمباهجها وصخبها ومسراتها ولكن هذا لا يعني أن الشاعر قد تحول عن قريته، وإنما يعني أن عمق الإدراك الذي اكتسبه الشاعر في طريق نضاله، وإطلاعه الدائب، ورغبته الملحة في تحقيق العدالة الإنسانية، كل هذا جعله يعي أن الجور كما أصاب ريفه فقد أصاب كذلك أناساً كثيرين في وطنه الذي يضم الريف والمدن، وعليهم جميعاً أن يكونوا كتلة واحدة في النضال من أجل التحرر.



الساعة الآن 06:54 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى