منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   قصص بأقلام الأعضاء (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=6)
-   -   ريشة الطفولة... (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=4944)

فسحة أمل 13 - 3 - 2010 04:46 PM

ريشة الطفولة...
 
أي قدر يتربص به ليتذكره اليوم ذلك الذي سكنته غفوة الزمن أو ربما سكنها لسنين، يراها قلبه المتعب من خنقه رغبة قديمة في اللقاء، طويلة طول ليالي انتظار تلحفت بصيص أمل، حملته نافذته الصغيرة صغر الطفولة التي فرت منه إلى عالم الكبار عبر طريق مختصر.. أي قدر قاد اليوم غائب الأمس إلى مدينة سعيدة و إلى ذلك الباب..
و قف الهاشمي غير بعيد ينظر إليه بذهول.. ترتسم صورته على زجاج عينيه الأسود مهتزة.. و تعتريه ارتعاشة بحجم جرحه.. تجتاح العبرات موانئ مقلتيه كأمواج عاتية لا ترحم سفن الرجولة و التمرد الراسية فيهما منذ الطفولة.. تتلملم الصورة المهتزة بدل الانكسار.. ترتجف شفتاه في تحد لأي قوة.. يقاوم.. يحتضن انتفاضات ترسلها شهقات النحيب المكبوت في جوفه المظلم.. يتوارى في خفة خلف جدار قريب بالكاد قائم بعيدا عن أنظاره.. يرتمي أرضاً مستسلما لضعف غزاه بلا إنذار.. و يهمس بصوت مختنق كطفل في الثامنة:" أبي.. أبي.." لا يتقبل الكلمة التي تخلى عنها طوعاً و حن إليها كثيراً.. يعصر الشفتين يغطيهما بكلتا يديه و يضغط بقوه مغمغماً :" كلا.. كلا.. غير صحيح... ليس أبـ... لا تقلها.. لا ترددها" يعود به الزمن في ذلك الضياع بين مرثية الحنين و غزلية الحزن العتيق إلى صبيحة موت أمه حين أفلت يدها لاحقاً بكرته الجديدة المتدحرجة على الطريق بين السيارات المسرعة .. لتلحق هي به نحو آخر أنفاسها .. نالت شرف إيقافها مقدمة شاحنة قذفتها أمتاراً بعيداً عنه.. التفت سعيداً بالكرة فوجد الفراغ .. لكنه فراغ أبدي.. يتردد فيه صدى صرختها الأخيرة باسمه.. عقدة النجاة لم تبرحه بعدها و أصبحت نظرات الاتهام في عيون الناس لوحات شوهاء معلقة على جدران الذاكرة.. و كلمات خرجت من فاه والده لحظة حزن و يأس علقت كسنوفنية خالدة في نفسه مهدت الطريق لليلة هروب من خريف حار.. و لريشة الطفولة أن ترسم في ثقوب الغربال الذي لا يغطي الشمس سدادات قوية..
مازال الهاشمي يحتفظ بكل تفاصيل تلك المشاعر.. حين لعن والدُه كرته الصفراء تلك و تغير بعد الحادث ملتزماً الصمت.. مازال يذكر حين تجنبه معلمه مراراً و تغامز حوله أصدقاؤه .. كيف أن الشوارع كلها كانت تحوي صرخة أمه .. توقف لحظة عن الاسترجاع المر و استرق البصر نحو باب منزل جدته.. ما يزال الضيف محله ينتظر.. فلن يفتح له أحد.
عاد إلى ركنه يرسم بذات الريشة البريئة وجه والده.. يتساءل خفية عن نفسه إن كانت ملامحه قد تغريت و إن كانت الشامة على صدغه الأيسر على حالها.. يعاود استراق البصر.. يمسح بقايا الدموع بكمه.. يتساءل مجدداً ما الذي عاد به.. يبتسم ساخراً مرجحاً موت زوجته الناعمة ذات الأظافر الطويل.. يصر أسنانه تعلق عيناه بالأرض.. يعلو في ذهنه صوت صراخ و ألفاظ قاسية تمزق روحه.. " أيها الشيطان الصغير... ابتعد ارحل.. تريد قتلي.. كما فعلت بأمك قبلاً .. أنت نحس .. ارحل .. ارحل.. " يحضن ركبتيه بقوة يهمس لنفسه و لوجه والده الذي لا يدافع عنه و لا يحمل غير الصمت و التعب.." أنا لست شيطاناً أنا لا أغسل الأواني أنا لا أمسح الأرض... أنا لا آكل بقايا بقايا الطعام.. أنا فقط أكرهكِ.." يمسح مراراً عينيه الدامعتين.. يضج جوفه بغضبٍ و تمردٍ قديمين.. لمقاتل حوصر ففضل الانتحار على الاستسلام.. غضب سكنه ليالٍ قبل ستة عشر عاماً إلى جانب براءته .. فأي معول تصبح ريشة الطفولة حين تغطس في غير الألوان..
سفينة الذكريات مازالت تبحر.. يبتسم من ذكاء قاده تلك الليلة إلى درج ثيابه.. أين لبس أغلبها رغم حرارة الخريف التي لا تغادر مدينة بشار الصحراوية إلّا مع زمهرير رياح الشتاء المزيف.. تسلل في صمت الليل كاللص و لكن إلى الخارج.. لتبدأ رحلة ما خلف باب المنزل.. منزل بلا جدران.. وحوش بشر تحوم ليلاً و حيوانات ضالة .. جوع و عطش .. و أرض صلبة تمتص جسمه الصغير فراشاً و ذراعين لم يعرفا معنى التعب قبلاً وسادة.. لا مدرسة لا أصدقاء.. و دموع ترسم على الخد نداء باسم "أمي"..
حمل عوداً و أخذ يخط على التراب كلمة أبي ثم يشطبها.. كما فعل أياماً بعد هروبه وهو جالس عند الزيتونة المجاورة لمكان الحادث.. حين شاهد والده و هو يغادر منزل صديقه .. كان يعلم أنه يبحث عنه و لكنه من وحي تمرده و لوحة رسمتها ريشته الصغيرة قرر أن لا يرجع.. رغم الجوع و العطش و الأذى..
كانت أشهراً من التشرد مضت بين الأسواق و الطرقات و أكف الناس بين متصدق مشفق و صارخ ناهر.. بين مطاردات الشرطة و قانون الشارع الذي لا يرحم.. يذكرها الهاشمي ليلة ليلة و يسترجعها لحظة لحظة.. يبكيها و لا يعلم من رسم تلك اللوحة البائسة أهو رسمها أم والده أم المجتمع.. أم وحدها ريشة الطفولة فعلت..
يفلت ركبيتيه.. يسند ظهره إلى الحائط.. تغمره ذات الفرحة التي عاشها عندما لمح جدته و خاله قرب محطة الحافلات بين حشود الناس.. حين ركض نحوهما و هو يبكي و يناديهما.. حين حضنته و لم تتقزز من رائحته و لا من ملابسه القذرة الممزقة و لا شعره الطويل الأشهب.. كانت آخر دقائقه في تلك المدينة.. رحل معهما من فوره و لم تعرف بشار عن الهاشمي أي شيء بعدها.. كانت حدودها و رمالها الشاهد الوحيد على رحيله..
الهاشمي يعلم يقيناً أن والده لم يدري لوجهته سبيلاً.. و يعلم أيضاً أنه زار هذا المنزل منذ ستة عشر عاماً مرات عدّة و لكن أخواله و جدته طردوه و اتهموه بتضييعه.. كان يحلم كلّ ليلة أنه يطل عليه مبتسماً من تلك النافذة في الغرف أين ينام و يدعوه إليه فإذا ما قام نحوها وجد الفراغ.. و خيبة الأمل..
خيبة الأمل... توقف عندها و صار يرددها.. ربما يريد لها نهاية و لتلك الريشة ألواناً جديدة.. مازل كماه صالحان لمسح الدموع و رجلاه ما تزالا رجلي المقاتل الذي لا يستسلم لأي ظرف.. وقف و أطل من خلف الجدار.. اتجه نحوه بخطىً ثابتة فلم يعد ذلك الطفل أو المراهق الذي تخفيه جدته في المطبخ أو عند الجيران.. واجهه بعيون محمرة لا تروى غير الاشتياق و كثيراً من العتب.. نظرا إلى بعضهما مطولاً يلفهما صمت غارق في الحنين قطعته كلمات والده المرتعشة:" نبأني قلبي دائماً أنك هنا" ليجيبه الهاشمي: "علمت دائماً أنك لم تنسني" ليسكن الهاشمي حضن والده ما بقي من عمر ضاع أغلبه بين الحزن و الحنين.. رغم دموع جدته.

قلب., 13 - 3 - 2010 09:41 PM

الأخت فسحة أمل
ابكيتني ,, تساقطت دموعي لمشهد رسمتيه بدقة وباحتراف ..

بورك قلمك وبوركت اناملك التي خطت هذه القصة الواقعيه

ليمار 13 - 3 - 2010 10:26 PM

يدخل الحزن إلى القلب كما يدخل الوهم
فصيحا ... وظريفا
وأنا ما بين حزني وانكساري
مجبرة أن يستمر العمر في دربي

يا صلاة العمر قولي ...
كيف لا يغسل حزني
دمعك المنهال في صمتي

آماااااااااااال
سأتوقف عند هذا أيتها الأديبه
لك تقديري واحترامي لكل ماتخطه يداك
تحياتي لك ليمار

فسحة أمل 16 - 3 - 2010 12:36 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لألألأ (المشاركة 30444)
الأخت فسحة أمل
ابكيتني ,, تساقطت دموعي لمشهد رسمتيه بدقة وباحتراف ..

بورك قلمك وبوركت اناملك التي خطت هذه القصة الواقعيه


أخي الفاضل..
مرورك العطر و قراءتك أسعداني..
تقديري و احترامي..

فسحة أمل 16 - 3 - 2010 12:48 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ليمار (المشاركة 30456)
يدخل الحزن إلى القلب كما يدخل الوهم
فصيحا ... وظريفا
وأنا ما بين حزني وانكساري
مجبرة أن يستمر العمر في دربي

يا صلاة العمر قولي ...
كيف لا يغسل حزني
دمعك المنهال في صمتي

آماااااااااااال
سأتوقف عند هذا أيتها الأديبه
لك تقديري واحترامي لكل ماتخطه يداك
تحياتي لك ليمار

كيف يدخل الحزن إلى القلب كما يدخل الوهم فصيحاً وظريفاً..
ليمار غاليتي..
كيف تجمعين ما أرويه في مئات الكلمات في بضعة سطور..
الرائع هو مرورك و ردك الراقي..
مازلت أقول إذا لم تمر بنصي.. سيفقد الكثير..
محبتي و احترامي..



غربة وطن 16 - 3 - 2010 02:48 PM

مشكورة يا فسحة أمل على هذه القصة الجميلة
ولك كل شكري ومحبتي ودمت بود

فسحة أمل 21 - 3 - 2010 07:21 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة توم & جيري (المشاركة 31056)
مشكورة يا فسحة أمل على هذه القصة الجميلة
ولك كل شكري ومحبتي ودمت بود

توم و جيري..
الشكر لك لكرم مرورك..
سعيدة بإطلالتك..
تقديري..


الساعة الآن 04:57 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى