منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   الرمزية الإيحائية في شعر بدر شاکر السياب (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8556)

B-happy 21 - 7 - 2010 02:45 AM

الرمزية الإيحائية في شعر بدر شاکر السياب
 
الرمزية الإيحائية في شعر بدر شاکر السياب


قيس خزاعل


الملخص:
تحتوي هذه المقالة علی ايضاح للمذهب الرمزي في شعر بدرشاکرالسياب الشاعر الذي کان له دور أساسي في تعيين اتجاه الشعر في الخمسينيات و الستينيات في العراق والعالم العربي، وبيّنا أن السياب کيف ألبس الشعر رداءً جديداً قد استلهمه مِن الشعراء الرمزيين في اروبا بعد ما تعرف علی آثارهم الأدبية من خلال قراءته وترجمته لأدبهم، ثم استطاع أن يطور هذا المذهب الإيحايي علی طريقته.
للرمزية التعبيرية أو الإيحائية خصائص وسمات؛ نری الکثير منها في قصائد السياب؛ کالإتجاه نحو استخدام المفردات الدارجة والکلام العامي والإستعانة بلغة الأغاني و الأمثال الشعبية في الشعر.ثم هناک مظهر من مظاهر الرمزية الغربية ألا وهو الدقة الفائقة في استخدام النعوت، فهذا مبدأ رمزي إيحائي قد يطبقه الشاعر تطبيقاً أميناً في شعره.
استخدم السياب تقنية تراسل الحواس (في الإبداع الشعري) أو مزج الحواس المختلفة و هي مهارة رمزية أخری قد ظهرت اولاً في شعر روّاد الرمزية في فرنسا.

المقدمة
ثمة خصائص عديدة من الرمزية نجدها في الشعرالعربي المعاصر بخاصة في الميل الواضح إلی استخدام لغة ذات مضامين تحوي في الغالب نبرة تکريس روحي وتوهج صوفي. فلغة السياب، تنطوي علی عناصر کثيرة من هذا النوع و علی عاطفة أکثر توهجاً من ما يملکه سائر الشعراء الطليعيين .
إن الإتيان بالصور المتلاحقة المتلاصقة، سمة من سمات الرمزية الغربية وهي ظاهرة قد وردت في کثير من قصائد السياب مما جعلتنا نعتبرها قصائد موحية ذات منحیً رمزي صرف ولو لم يکن السياب بالشاعر الرمزي الصرف في جميع شعره .
أما الظاهرة الثانية التي نستطيع لمسها في ديوان السياب هي الإقتراب من الکلام الدارج و استخدام عناصر من اللهجة العامية أو الأدب الشعبي التي صرح بها عدد من شعراء الرمزية في الغرب. و استخدمها بعض الشعراء الطليعيين في الأدب العربي الحديث، کان السياب من ضمنهم .
ثم وجود الموسيقی واختيار الشعر الحر للتعبير عن التجارب الشعرية من قبل السياب هو أوضح دليل علی نزوع السياب نحو هذا المذهب. وتراسل الحواس (في الإبداع الشعري) أو مزج الحواس المختلفة کان من اول ما بشر به الرمزيون الأوائل في فرنسا، والسياب أيضاً استخدم هذه التقنية ليضفي علی شعره مسحةً رمزيةً أخری .
" استعمال الصفات لايجوز إلاعندما تضيف شيئا ًمهما ًإلى المعنى"، فهذا مبدأ رمزي إيحائي، قد يطبقه السياب بمهارة تقنية. وکل نعوته کانت شديدة التعبير عن المعنی المقصود لاتشکو مما قد يعتري النعوت في افتقار إلی الحيوية... ويبدوللمرء أن حتمية نعوته ودقتها تنبعان من حاجة الشاعر إلی الوصف الدقيق لصورة ولدت في ذهنه نتيجة للمزج الفوري بين الفکرة والخيال في لحظة الإبداع الفکري.
خصائص الرمزية و آراء روادها:
الرمزية الإيحائية أو الخالصة هي الأسلوب الأساسي الذي مارسه شعراء ومؤسسو هذا المذهب الأدبی في الغرب. والإيحائية في الواقع طريقة الإتيان بالصور الالمتلاصقة والإستعارات والتشبيهات المتلاحقة وهي طريقة نسج الکلمات والتراکيب الغامضة التي يؤدي ربطها ببعضها إلی خلق جوٍ من الإبداع الشعري مع الغموض والضبابية في تشکيلة المقاطع وهيکل القصيدة.
بينما ذهب شادويك (في كتابه سمبوليسم)إلى أن الرمزية تعبير فني عن العواطفوالأفكار بأسلوب إيحائي بقوله: « الرمزية فن التعبير عن الأفكار والعواطف، ليسبوصفها مباشرة ولا بشرحها من خلال مقارنات صريحة ملموسة ولكن بالتلميح إلى ما يمكنأن تكون عليه صورة الواقع المناسب لهذه الأفكار والعواطف وذلك بإعادة خلقها في ذهن القارئ من خلال استخدام رموز غير مشروحة" (شادويک، ص11)

B-happy 21 - 7 - 2010 02:47 AM

بقي أن اشكر صديقنا السيد قيس واسلمه الدفة في قيادة والموضوع وادارته ان كان سيضيف عليه شيئا..

مرحبا بك قيس ..

أبو يقين الكعبي 24 - 7 - 2010 11:12 PM

الغالية بي هابي..
اصبحت تشدنا مواضيعك التي تتطرقين اليها لما تحتوي من تكامل الجوانب
مرة اخرى تجعلينا نبحر مع مركب يقود دفته شاعر من ابرز الشعراء الذين كتبوا وابدوا واسسوا للشعر الحديث...
كل التقدير والاحترام لجهودك الكبيرة وننتظر المزيد من هذه المواضيع المتميزة...
ابو يقين....

جمال جرار 6 - 8 - 2010 03:53 PM

http://www.shy22.com/upfiles/YWx87461.gif

أبو جمال 3 - 9 - 2010 07:36 PM

شكرا على الموضوع والطرح

B-happy 4 - 9 - 2010 06:30 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قیس خزاعل (المشاركة 71206)
مع تحیاتی الی کل القائمین علی هذا المنتدی الرائع
مع الشکر الجزیل لکم ..

السيد قيس ..

يعود الأمر للإدارة في حذف الموضوع من عدمه ..
يرجى مراسلتها
مع التحية

هابي

أرب جمـال 5 - 9 - 2010 02:54 AM

الأخ قيس
تحية طيبة
اعتذر عما بدر من ردودو في الموضوع

السيده بي هابي والسيد ابو يقين
شهاداتكم لكم وكل واحد أن يفتخر بما لديه بعيدا عن هنا وهذه صفحة ما وجدت لمثل هذه الردود

ارجو التقيدواحترام بعضنا البعض ,,مع الشكر.

أرب

B-happy 6 - 9 - 2010 01:55 AM

ثم التراسل في الإبداع الشعري قد يکون من خصائص هذه الرمزية و هو عبارة عن تبادل الخطاب بين حاسة وحاسة، کأن تعبر بالمسموعات عن المرئيات و بالعکس فيحل الخطاب البصري محل الخطاب السمعي. « وقداکتشف أهمية التراسل فی الإبداع الشعري شارلزبودلر في ديوانه أزهار الشر فعبرعن المسموع بالمرئي و المرئي بالمسموع و هکذا».(العظمة ص36)
« إنّ اولَّ ما بَشّرَ به الرمزيون إجراءَ الفوضی في مُدرِکاتِ الحواسِ المختلفةِ، ومحاوَلةَ الوصول بالشعر إلی اللامحدوديةِ التي وصلها الفنُّ الموسيقي».( خورشا،ص 210) و أيضا کانو يعتقدون « بإنّ الوصولَ إلی استشرافِ آفاق المجهولِ واستکناه أسرارِ الکون لايمکن تحقّقُهُ بالأدواتِ التقليديّةِ من حواسٍ بل لابدّ من الاعتمادِ علی الفنونِ والتجربةِ الشعريّة الـتي تُشبهُُِ الإبداعَ مُعتمِدَةً علی المُدرِکاتِ الخاصةِ التي أودعَها اللهُ في الإنسانِ ؛ مثلما يستطيع الراهبُ في معبده أن يَشعُر بنشوةٍ روحيةٍ لاحدودَ لها».(نفس المصدر،ص211)
يقول ت . إ. هالم[1] : ليس الشعرباکثر من رقش بالکلمات، والدقة اللامتناهية، لذلک فهي مطلوبة في کل کلمة وعلی الشعراء أن يبحثوا دائماًً عن الکلمة الصلبة ،المحددة والشخصية.ويقول عزراپاوند[2]: إياک أن تستخدم أي کلمة زائدة أوصفة لاتتکشف عن معنی وقال ت.س. إليوت[3]: کل ثورة في الشعر يمکن أن تکون، بل قد تعلن عن نفسها أحياناً أنها عودة إلی الکلام الدارج. (الجيوسی، ص730-731)
فالرمزية الإيحائية قد تصرعلی الإستقطار والإنتقائية في استعمال الکلمات ثم الوصول إلی التوهج الصوفي عن طريق استخدام لغة ذات مضامين ميتافيزيقية تؤدي إلی الإبداع الشعري واستشراف آفاق المجهول واستکناه اسرارالکون.
رمزية السياب
«فثمة خصائص عديدة من الرمزية نجدهافي الشعرالعربي المعاصر بخاصة في الميل الواضح علی استخدام لغة ذات مضامين تحوي في الغالب نبرة تکريس روحي وتوهج صوفي». (الجيوسي ص730)
ومن بين شعراء الطليعة المعاصرين توصّل شعرالسياب إلی نقطة انسجام بين القديم والحديث، حل فيها الصراع القوي إلی حدکبير. فلغته تنطوي علی عاطفة أکثر توهجاً من لغة أدونيس. ويتميزالسياب بقدرته علی اختيارالکلمة الدقيقة التي تفوق سواها في تعبيرها عن المعنی المعين . کأن کل کلمة هي الکلمة الوحيدة التي تناسب السياق. (نفس المصدر،ص738)
وخياله يستقي ايحاءه من العناصرالبدئية في الريف العراقي ،من مناظره ومن أصواته.فالخيال السمعي والطريقة التي يحس بهاالاصوات التي يصفها،کانت قوية عندالسياب.« والواقع أن قارئ شعره سرعان ماتنتقل إليه هذه الحساسية السمعية ويتفاعل معها...والصور السمعية قدتغدو أسهل علی التلقي و لتذکر.فالشاعر الذي يمتلک حساسية خاصة تجاه أصوات الحياة، و يستطيع تمثيلها في صورسمعية، يکون في موضع متميز دائماً. فصلصلة المعول الحجري الذي "يزحف" نحو الشاعر المحتضر في هذا البيت للسياب لا يمکن نسيانه: "رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي ". وتشتمل الکلمات الصوتية في قصيدته "انشودةالمطر" مايلي:
تنبض،کرکر، مطر، تهامس، ينثرالغلال، تنشج، أصيح، الصدی، نشيج، أسمع، الرعود،يرنّ، يهطل ، تطحن».(نفس المصدر، ص738-739)
وإن حب السياب الريف العراقي يرتبط دائماً بالتجربة الإنسانية ،فقد کان ينفر من مجرّد جمال الطبيعة الرومانسي الغامض، وقد کان کرهه الغموض هو الذي ساعده علی أن يکون دائماً دقيقاً في لغته وصوره... أما النعوت فقد کان يستعملها في حذر (ماكان يذعن به عزراباوند عن الرمزية)،وکل نعوته کانت شديدة التعبير عن المعنی المقصود لاتشکو مما قد يعتري النعوت في افتقار إلی الحيوية...
[1] - Thomas.E.Hulme، الفيلسوف و الشاعر البريطاني،و مؤلف کتاب "دراسات في شعر الحداثة".


[2] - Ezra Pound

[3] - Thomas.S.Eliot الشاعر والرائد الرمزي في الأدب الأمريکي.

B-happy 6 - 9 - 2010 02:03 AM

ويبدوللمرء أن حتمية نعوته ودقتها تنبعان من حاجة الشاعر إلی الوصف الدقيق لصورة ولدت في ذهنه نتيجة للمزج الفوري بين الفکرة والخيال في لحظة الإبداع الفکري.( نفس المصدر، ص739)فاستعمال الصفات لايجوز إلاعندما تضيف شيئا ًمهما ًإلى المعنى، فهذا مبدأ رمزي إيحائي، قد يطبقه السياب بمهارة تقنية.
« ولغة السياب .. بعيدة الجذور في القديم... [وهو] لايتحاشی استعمال کلمة عابرة من العامية. وهناکذلک يحس المرء أن السياب يستعمل کلمة لاغنیً عنها لأداء المعنی.[کما يعبرإليوت عن العودة إلی الکلام الدارج]مثلاً هل يسع المرء أن يفکر بأي کلمة قديمة کان بوسع السياب استعمالها من دون فذلکة أو تقعّربدل « الدرابک » في هذاالبيت :
کان نقرُ الدرابک منذ الأصيل
يتساقط مثل الثمار...» (الجيوسي،ص739)
فقد استطاع السياب عن طريق الإتيان بالتفاصيل اليومية التي تتحول إلی رموز ذات ابعاد ودلالات- أن يخلق صلة بين القصيدة العربية والناس. « فالمومس العمياء » و« حفارالقبور» والبائع المتجول الذي يشتري الحديد العتيق، تحول من بعض جزئيات في الحياة اليومية إلی رموز لقوة الحياة وحرمانها، وأنانية الفرد الذي يتمنی أن يموت الآخرون ليعيش... ».(علوش، ص19)
نستطيع أن نلاحظ بدايات دخول الرمزية الإيحائية في شعرالسياب والتعابير الغيرمباشرة، وامتزاجها شيئاً فشيئاً بنزعته الرومانسية،من خلال قصيدة " في القرية الظلماء"،إذ بدأ السياب « يستخدم الصورالرمزية، المركبة الموحية، التي تثير فينا أكثر من تساؤل، وتجعلنا نلجأ في ما رمى إليه أحياناً من بعض هذه الصور إلى تفسيرات متعددة، وهي بداية طيبة عند الشاعر في توجهه نحو ثورة رومانسية عميقة، بدأت تأخذ المنحى الرمزي لشدة تعمقها، لإستبطان خصائص النفس بغضبتها العارمة على الواقع المرير». (أبوالشباب، ص237)

في القرية الظلماء
(1)
الكوكب الوسنان،يطفيء ناره خلف التلال
والجدول الهداريسبره الظلام
إلا وميضاً،لايزال
يطفو ويرسب.. مثل عين ٍلا تنام،
ألقی به النجم البعيد
ياقلب.. ما لک،لست تهدأ ساعة؟ ماذا تريد؟
النجم غاب، وسوف يُشرقُ من جديدٍ بعد حين،
والجدولُ الهدار.. هينم ثم نام،
أما الغرام.. دع التشوق يا فؤادی والحنين!
(2)
أأضل أذکرها.. وتنساني؟
وأبيت في شبه احتضار وهي تنعم بالرقاد؟
شعت عيون حبيبها الثاني
في ناظريها المسبلين علی الرؤی _ أما فؤادي
فيظل يهمس ، فی ظلوعي،
باسم التي خانت هواي... يظل يهمس في خشوع.
إني سأغفو... بعد حين سوف احلم فی البحار:
هاتيک أضواء المرافيء وهي تلمع من بعيد
تلک المرافيء في انتظار..
تتحرک الأضواء فيها.. مثل أصداء تُبيد.
(3)
القرية الظلماء، خاوية المعابروالدروب،
تتجاوب الأصداءُ فيها مثل أيام الخريف
جوفاء.. في بطء تذوب،

واستيقظ الموتی هناک علی التلال، علی التلال
الريح تعول في الحقول. وينصتون إلی الحفيف_
يتطلعون إلی الهلال
في آخر الليل الثقيل.. ويرجعون إلی القبور
يتسائلون متی النشور!!
والآن تقرعُ فی المدينة ساعة ُ البرج الوحيد.
لکنني في القرية الظلماء.. في الغاب البعيد. (الاعمال الكاملة،ص77)

قرية السياب لها طابعها الخاص و لونها المميز، فهي قرية خاوية، يعمها الظلام، دروبها تتجاوب الأصداء فيها، وهي قرية يلفها الحزن والأسى، ناسها أموات يستيقظون في الليل الثقيل على التلال، تعول الريح فيها، فلا يجدون من حولهم سوى الظلام الدامس، والصمت الرهيب. هؤلاء الناس(الأحياء الأموات) يتطلعون إلى الهلال، ثم يعودون إلى قبورهم، يتسائلون متى النشور، إنه نمط جديد من النظم الرومانسي الذي يتسم بالعمق الشديد و بالذاتية الفردية التي تنطلق في ثورتها بهدوء، ولكنه عنيف.لم يأتي السياب بهذه الصور عبثاً، بل اختار ما اتفق و وجهات نظره الجمالية التيشرحها في دراساته النقدية، وذلك حتى يعطي المشاهد صورة عن أن الفن هو "الخيالي" و"الغريب"، الذي قد يتضمن صوراً لا أخلاقية أحياناً، ولا يتطابق مع الواقع، لكنهيعبر عن جمال جديد، وهذا الفن يعطي للمتذوق فرصة أكبر ليتذوق ويستعين بخياله كييتذوق.‏
الشاعر يرى بالبشرفي قريته المظلمة جثثاً محنطة كأن باطن الأرض ير لهم من ظاهرها،لما يجد من الظلم والعسف والإضطهاد ولكنه لايجدمن يتحرك ليقف في وجه هذا الظلم والعسف والإضطهاد.عندما يتحدث عن الحب،لايجد فيه الخيرأوالصدق أو الولاء،فحبيبته متعلقة بغيره،ولكنه وبحزن عميق لا يأسف عليها،ولا يهتم لها، ويطلب إليها أن تحب سواه،وكأنه يصرعلى أن تخونه،ولاتدين له بأية عاطفة أوشعوربالحب والولاء،لأن الوفاء انعدم في المجتمع.
والشاعر في قريته الظلماء لشدة حزنه ويأسه لا يرى أملاً في تغيير إلى الأحسن أو إلى تحرك نحو الأفضل. (أبوالشباب ،نفس المصدر،ص236)
وقد تحرر الشاعر من القافية، وبدأ يوزع تفاعيله وبخاصة في هذه القصيدة علی أسطر متفاوتة في عددها، فقد يستخدم علی السطر تفعيلتين، أو ثلاث أو أربع أو حتی خمس تفاعيل. وهو انما يقسم هذه التفاعيل علی الأسطر کما نری من أجل أن يبرز جملاً موسيقية هادئة ، رقيقة ، تتسم بالتنويع والتجديد، يسعفها صور جديدة موحية، تنم عن ذوق الشاعر، وقدرته علی خلق الصور المثيرة ، من أجل أن يعبر بهذه الصور عن هدفه الذي يصبو إليه ، وهو في ألفاظه المتوائمة ، الموسيقية ، إنما يصدر عن اقتناع بأن اللفظة تکسب أهميتها بما تحمل من معنی أو معانٍ بعد أن تأخذ مکانها بين غيرها من الألفاظ.( نفس المصدر،ص237)
في خريف عام 1955جمع ترجماته من الشعرالمعاصرونشرها في کتاب « قصائد مختارة في الشعر العالمي »،کان محتوی عدد من تلک القصائد قد أثارارتياب رجال الأمن في العراق،لاسيما تلک التي تدورحول المساجين والوطنيين والعمال أوحول الإضطهاد والفقرو... فأوقفته شرطة الکاظمية مدة سبعة أيام وحکم عليه في الأخير بغرامة قدرها خمسة دنانير لأنه لم يذکر اسم المطبعة في الکتاب (بمقتضی أحکام قانون المطابع العثماني ).
« وقدخافت امرأة بدرعلی زوجها ونصحته أن يکون حذراً في المستقبل. فکانت قصيدته التالية موغلة في الحذرغامضة في رمزيتها حتى إنها كادت أن تکون مبهمة. وکان عنوانها"تعتيم". وقد نشرتها مجلة "الآداب" في عدد کانون الأول 1955،وفيهاقال بدر وهو بمنجی من العقاب کل ماکان يريد أن يقول ضدّ الحکم الدکتاتوري السالب للحريات. فأشار إلی مثل هذا الحکم بالظلام، وأشار إلی عملائه بالنمور.
أماالرجال الذين يحاربون مثل هذا الحکم فأشارإليهم وإلی کفاحهم بالناروالنور. أما التنّور الذي يصنع فيه الخبزالبيتي في القری فهو يرمزفي القصيدة إلی الحياة السعيدة الحرة، وتعتيمه – کالتعتيم في غارة جويّة - إنما يعني عملاً موقتاً يناسب لحظته ، فهوضروري إلی أن يختبز الخبزالمانح الحياة ويمکن تجنب النمور أعداء الحياة ، أوبعبارة أخری إلی أن تنضج الظروف التي تؤول إلی ثورة ويحين موعد البعث السياسي. وقد بدأ بدر القصيدة بتوجيه الکلام إلی امرأة لعلها زوجته رامزاًبها إلی الأمة، وقال:

حين يذر النورْ / - يلقي به التنور - / عن وجهکِ الظلماء / ويهمس الديجور / آهاته السمراء / علی محياکِ / تهجس عيناک ِ / بکل حزن الدهور /وکل أعيادها: / أفراح ميلادها / وغمغمات النذور / وزهرها والخمور / النور والظلماء / أسطورة منحوتة في الصخورْ :/ کم ذاد بالنارِ،/
من أسد ضاري / وکم أخاف النمور،/ إنسانُ تلک العصور / بالنور والنارِ!/ فأطفئي مصباحنا أطفئيه/ ولنطفیء التنّورْ / وندفن الخبز فيه،/ کي لاتعيد الصخورْ / أسطورة للنار، ظلت تدور/ حتی غدا أول مافيها / آخرمافينا- وليل القبور/ أول مافيها- / ولنبقَ في الديجور/ کي لاترانا نمور/ تجوس في الظلماء / لترجم الأحياء / - من غابة في السماء – بالصخروالنار- / وتستبيح القبور! (بلاطه،المصدرنفسه،114-116)
إن القصيدة کأنها معبد قديم، عليه كتابات غريبة، يلفها الغموض والرموز، وهذه الرموز هي الأصوات و النظرات وهي أصداء تأتي منالبعيد وتختلط في وحدة تختلط فيها الألوان والأصوات ‏والنور والظلماء.
نشاهد الإفتتاح الرمزي علی الطريقة الإيحائية في هذاالمقطع من بداية قصيدة "ليلة في لندن ":
کماينسل نورخائف من فرجة الباب
إلی الظلماء في غُرفه
سمعت هُتافه المجروح يعبرنحوي الشرْفه
ليرفع من سماوة َ لندن الليل المُطل بلونه الکابي
علی طرقات ترقد في دثارالثلج ملتفّه.( الأعمال الشعريةالکاملة،ص 322 )
فهذاالمقطع مشحون بالصورالتي ربما يعجز القارئ عن ادراکها سريعاً، فتربک العقل في بداية الأمر، خاصة والشيء الذي يوصفه بدر في هذه الصور قد يکون غامضاً بين صوره المتلاحقة المتلاصقة. لانه يتعمّد التقصّي والإيحاء ويتجنب الإشارة الصريحة. والموصوف هنا هو الموت الذي يعبر الشرفة نحو الشاعر.
ثم يمزج الحواس في الأبيات التالية - ونعلم أن مزج الحواس وتشعيثها هومن أُسُس الرمزية الإيحائية الذي جاء به الشاعرالفرنسي الرمزي(ريمبو).

افتش عن عيون الماء،عن اشراقة الغبش
کأعمی نال منه السُّکرصاح،ورفرفت کفاه بين مساند الماحور
ليبحث عن رفيق: أين جاري؟أين داري؟ أين- أوّاها-
أميرتي التي کانت تناولنی کؤوس النور؟
فيبصر قلبي الدنياويلقاها؟( الأعمال الشعرية الکاملة،ص 322)

وفي قصيدة « ليلة في باريس » يقول السياب:
وذهبت فانسحب الضياء / أحسست بالليل الشتائي الحزين، وبالبکاء / ينثال کالشلال من أفق تحطّمه الغيوم. / أحسست وخزَ الليل في باريس، واختنق الهواء / بالقهقهات من البغايا.. آه ! ترتعش النجوم / منها کبلورالثريات الملطخ بالدماء /في حالة لمُدی السکاری في جوانبها انتضاء./ لم يبق منک سوی عبير /- يبکی وغيرصدی الوداع : إلی اللقاء ! (الأعمال الشعرية الکاملة،ص324)
قد يوجد في هذه الصور و في رأسها تعابير"الذهاب،الحزن والبکاء والتحطّم وصدی الوداع"، عاملٌ مشترک وهوالإحساس بانقضاء شيء وانصرامه، شيء حسن جميل توحي هذه الصور المتتابعة، بإنعدامه و انقطاع صلته الظاهرية باشاعر. حب ضائع بقت ذکراه في نفس السياب و هو يستحضره بإيجاد هذه الصور في القصيدة.
ثم يقول في مقطع آخر:
وذهبت فانسحب الضياء
لوصح وعدُک ياصديقه
لوصح وعدک . آه لانبعثت وفيقه
من قبرها، ولعادعمري في السنين إلی الوراء
تأتين انتِ إلی العراق؟ِ( الأعمال الشعرية الکاملة، ص324)

B-happy 6 - 9 - 2010 02:10 AM

يقول عيسی بلاطة عن سبب الإتيان بهذه المقاطع: « في عام 1963ذهب بدرشاکرالسياب إلی باريس لمعالجة مرضه. وکان في غرفته في الفندق محاطاً علی الدوام بالزهور و قد اکتشف أن الآنسة « لوک نوران » هي التي کانت تترکها له يومياً لدی إدارة الفندق وهی في طريقها إلی عملها في الصباح. وکانت مهتمة بشعر بدر و قضت معه بعض الوقت في ساعات فراغها تترجم إلی الفرنسية آخرما کتب من قصائد کان يقرأها لهابالعربية ويترجمها إلی الإنکليزية.
فلما عرف بدر أنها هي التي کانت تأتي له يومياً بالزهور،کتب لها قصيدة في 8 آذار 1963 عنوانها " ليلة في باريس " وفيها يعبر لها عن تقديره ويصف أثر تعاطفها وأياه وصفاً رائعاً.
فقد وجد فيها تجسيداً لوفيقه [ابنة عمه التي أحبها في الماضي وقد توفيت فی شبابها قبل سنين] وبالتالي حبه المثالي. فإن صحّ وعد الآنسة لوک نوران بالمجيء إلی العراق فإن حياته ستکون سعيدة إلی الأبد. وعندما قرأ القصيدة عليها في اليوم التالي بکت لوک نوران وعانقته وهي تردد: أأستحقّ أنا کل هذا يابدر؟...». (بلاطه، ص202-203)

عرفنا أن السياب قدعانی الفقرو المرض والفشل المتلاحق في الحب وكان منطوياً على ذاته ،مما أثركل ذلك في أدبه وظل الأسى والملال والظلام طاغياً عليه طوال حياته وبارزاً في معظم صفحات ديوانه :
«في ليالي الخريف الطوال
آه لو تعلمين
كيف يطغي الأسى والملال؟!
في ضلوعي ظلام القبور السجين
في ضلوعي يصبح الردى
بالتراب الذي كان امّى: غدا
سوف يأتي. فلا تقلقي بالنحيب
عالم الموت حيث السكون الرهيب..»( الأعمال الشعرية الکاملة، ص66)
نعم هكذا يدخلنا السياب في دائرة عواطفه من خلال الإستفهام :كيف يطغي الأسي والملال؟! ويسبقه بتصاوير الحزن والأسى وتذكرليالي الخريف الطوال المملّة. ويُحدث ذلك في أفكارنا دون أن يصف الشاعر هذه الأحاسيس بشكل مباشر.ثم يتابع القصيدة بأسلوبه الظريف ليجعلنا نتفاعل مع ما يرمزاليه.الأتيان بالصورالغامضة وعدم الصراحة والتهرب من الإشارات المباشرة،کلها من خصائص المذهب الرمزي الذي يلجأ اليه السياب لبيان مراده.
« سوف أمضي ..كماجئت واحسرتاه
سوف أمضي ..ومازال تحت السماء
مستبدون يستنزفون الدماء
سوف أمضي وتبقى عيون الطغاة
تستمدالبريق
من جذى كل بيت حريق
والتماع الحراب
في الصحاري،ومن اعين الجائعين..»( الأعمال الشعرية الکاملة،ص66)
فهذه العبارات (واحسرتاه، وتكرارسوف أمضى، بيت حريق، في الصحارى، اعين الجائعين)هي في الواقع صوروعلاقات يهدف السياب أن يلقى احساسه من خلالها في الأذهان، ذلك الإحساس الذي يكشف عن فقدان الحياة مع بقاء وجود الطغاة "مستبدون" يريقون دماء البؤساء والجائعين من امثال طبقته الإجتماعية التي دوماً تكون تحت رحمتهم.
* * *
نأتي بنموذج آخر من شعر السياب لنری مدی استطاعته علی تنويع الصور الشعرية و إثراءها ونحن نعلم إنها ظاهرة في الشعرالعربي الحد يث لم تستعمل من قِبَل السياب وحده بل نراها في شعر عبدالوهاب البيتي وصلاح عبدالصبور أيضاً. يقول السياب:
عيناک والنور الضئيل من الشموع الخابيات
والکأس والليل المطل من النوافذ بالنجوم
يبحثن في عيني عن قلب وعن حبٍ قديم
عن حاضر خاوٍ و ماضٍ في ضباب الذکريات( الأعمال الشعرية الکاملة، ص69)
نحتاج الی تركيزالحواس المختلفة لإستيعاب معاني هذه العبارات التي تدل علی معنى نهائي هو المقصود الأساسي عند الشاعر. فلقد أتی- کماسبق وشرحنا ذلک- بالصور الشعرية التي تکاد أن تکون کل واحدة منها علی حد ذاتها منفردة عن الآخر. لکن الإحساس الذي يغمرنا في النهاية هوذلک الرمز المخبّأ تحت قشرة هذه الکلمات معاً.

لأن مايريده الشاعر هو الوصول – بواسطة هذه الرموز والصور الناقصة الغامضة احياناً- إلی غايات کاملة مطلقة وعالم مثالي يتمناه. ولكن قد ضاع في ضباب الذكريات وأصبح شيئا ًمن الماضي ولايحصل الشاعر على شيء منه إلا استحضاره في القصيدة.
في قصيدته "أغنية قديمة "– التي يعتبرها ناجي علوش أفضل شعره الحر – نری لجوء السياب إلی التعبير بالصور والإبتعاد عن التعبير المباشر. حيث يقول:
في المقهی المزدحم النائی، في ذات مساء،
وعيوني تنظر في تعب ،
في الأوجه، والأيدي ،والأرجل ،والخشب:
والساعة تهز بالصخب.
وتدق – سمعت ظلال غناء..
أشباح غناء..
تتنهد في الحاني، وتدور کإعصار
بال مصدور ،
يتفس في کهف هار
في الظلمة منذ عصور!( الأعمال الشعرية الکاملة ، ص67)
إذا قرأنا هذا المقطع الوحيد مرة أخری وتمعنّا جيداً في "يتفس في کهف هار" و"في الظلمة منذ عصور" نعرف أنهما سبب الإتيان بتلک الصور التي رتّبها السياب کمقدمةٍ للوصول الی "کهف هار وظلمة منذ عصور"، هذا ما يشعر به الشاعر من ضياع عاش معه طوال عمره ؛ الخواء وظلام العصور المثقل، هو الشيء الذي يريد الشاعر التعبير عنه. ثم هناک نری شيئاً من قبيل امتزاج الحواس أو ما يسمی "التراسل في الإبداع الشعري، حيث يقول السياب: "سمعت ظلال غناء"، والظلال ليس من المسموعات. وهذا التراسل قد يکون أول ما بشر به الرمزيون الغربيون في بناء النظرية الرمزية. لذلک يجب علی قرّاء شعر السياب أن يعرفوا طريقته الرمزية ليدرکوا الغاية من التسلسل بهذه الصور والطرق المختلفة في التعبير.
ثم يتابع السياب قصيدته بالفقرة التالية قائلاً :
أغنية حبٍ.. أصداء
تنأی.. وتذوب.. وترتجف
کشراع ناء يجلو صورته الماء
في نصف الليل.. لدی شاطیء إحدی الجزر؛
و أنا أصغي.. وفؤادي يعصره الأسف:
لم يسقط ظل القدر
بين القلبين ؟! لم أنتزع الزمن القاسي
من بين يدي وأنفاسي،
يمناک ؟! وکيف ترکتک تبتعدين.. کما
تتلاشی الغنوة في سمعي.. نغما.. نغما ؟!

في نموذج آخرمن ديوانه و بقصيدته « العودة لجيکور» - مسقط رأس السياب – نلاخظ هذه التعابير التي توحي لنا بمقاصد الشاعر الرفيعة:
« علی جواد الحلم الأشهب
وتحت شمس المشرق الأخضر
في صيف جيکور السخي الثري
اسريت أطوي دربي النائي
بين الندی والزهر و الماء
أبحث في الآفاق عن کوکب
عن مولد للروح تحت السماء
عن منبع يروي لهيب الظماء
عن منزل للسائح المتعب »- (الأعمال الشعرية الکاملة، ص 228 )


هنا نجد المذهب الإيحائي الکامن في العبارات قد يؤدي دوره للکشف – بواسطة الإيحاءات – عن تعابير کامنة في قلب الشاعر. لإن الکلمات العادية وحسب الأساليب القديمة في الشعر تعجز عن أن تؤدي مثل هذا الدور الإستثنائي الملائم لمثل هذه العواطف والحالات. السياب يريد أن يبني عالماً مثالياً وهو راکباً « جوادَ الحلم الأشهب » «يبحث عنه في الآفاق » فهکذا يصورلنا هذه الحرکة وفجأة يأتينا بالندی والزهر والسّماء والبحث عن مولد للروح وبذلک يقفز من الماء إلی السماء ،فندخل معه في دائرة الشعور والعاطفة لنحس بأننا نحتاج إلی منزلٍ للسائح المتعب الذي هو الشاعر بنفسه. ولعل قصيدة « جيکور والمدينة» خيرتعبير عن بناء هذا العالم المطلق المثالي:


الساعة الآن 09:20 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى