منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   فلسفة وعلم نفس
علم ما وراء الطبيعه والقوى الخارقه
(http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=75)
-   -   منهج المسلمين في علاج مشاكل المسنين (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=7425)

ميارى 8 - 6 - 2010 04:01 AM

منهج المسلمين في علاج مشاكل المسنين
 
بقلم / رضا الحمراني
أخصائي في علم النفس الإكلينيكي، المغرب


لقد شهد العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين اهتماما ملحوظا بشؤون المسنين حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة سنة 1982م في اجتماع لمندوبي مائة و أربع و عشرين دولة أن العقد التاسع من القرن العشرين هو عقد كبار السن، كما تبنى مؤتمر الأمم المتحدة بمدريد سنة 2002 م خطة عمل عالمية لمعالجة مشاكل الشيخوخة، لكن هذه الملتقيات الدولية كانت أشبه ما تكون بالتجمعات الفكرية النظرية التي لم يطبق لها قرار ولم تفعل لها خطة إلا في نطاق ضيق وبشكل جزئي من طرف بعض جمعيات المجتمع المدني.
لقد كان من الأولى لهؤلاء المسئولين الدوليين عن قضايا المسنين أن يطلعوا إطلاع المتأمل المتمعن لسلوك النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع كبار السن، ليتبين لهم كيف كان منهجه عمليا وعالميا بحيث كان يؤثر ويعالج بفعالية كل مشاكل من بلغ من الكبر عتيا، وتتجسد الطريقة النبوية في رعاية المسنين في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه»، إن هذا الحديث يحمل في طياته فائدتين عظيمتين:
أولهما أنه يخاطب كل شبان العالم مهما كانت مرجعيتهم الدينية أو الدنيوية للعناية بأي شيخ مسن مهما كان لونه أبيض أو أسود ومهما كان عرقه عربي أو أعجمي، ومهما كان دينه مسلم، مسيحي، يهودي أو مجوسي ... ألخ، والشاب المسلم ينبغي أن يكون من أحرص شباب العالم على تطبيق هذه الوصية الغالية لأنه إنسان أصيل يرحم الناس كافة سواء كانوا أطفالا أصغر منه أو شيوخا أكبر منه.
أما الفائدة الثانية من الحديث فهي تبشير كل شاب طبق هذه الوصية االنبوية بطول عمره في حياته الدنيوية، فما أكرم شاب شيخا لكبر سنه إلا أكرمه الله تعالى أولا بطول العمر حتى يصبح هو بدوره شيخا وثانيا يسخر له في شيخوخته شابا صالحا يحسن رفقته كما أحسن رفقة الشيوخ في شبابه، وهذه جائزة مستحقة من الله جل علاه الذي يقول : ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾(الرحمن:60)، لتبقى الرحمة دائمة متواصلة بين الأجيال داخل المجتمع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إن السؤال المطروح في هذا السياق هو : بأي كيفية يستطيع جيل الشباب تطبيق ما تدعوا إليه هذه النصوص القرآنية و النبوية في سلوكهم اليومي تجاه جيل الشيوخ ؟ و ما هي الطرق و الوسائل التي تمكنهم من النجاح في مساعدة المسنين على مواجهة المشاكل التي يعيشونها في هذه المرحلة الحاسمة من عمرهم ؟

1. تكيف المسنين مع تغير الأوضاع المادية و الاجتماعية
يتعرض عدد لا يستهان به من كبار السن لمشاكل مادية تصاحبهم بمجرد الدخول إلى مرحلة الشيخوخة، فعند بلوغ سن التقاعد يتراجع دخل المتقاعدين بشكل كبير مما يضطرهم إلى تغيير مساكنهم من بيوت لائقة إلى منازل أقل لياقة، أما في حالة عدم استفادة بعض المسنين من التقاعد فيتعرضون لفاقة و عوز مادي يفقدهم المسكن لعدم قدرتهم على أداء واجبات الكراء فيصبحون بالتالي عرضة للتشرد، أمام هذا التظهور المأساوي لأوضاع هذه الشريحة الضعيفة من المجتمع يستطيع الشباب الراشدون ممن يسر الله عليهم و وسع لهم أرزاقهم أن يبحثوا عن هؤلاء الشيوخ و يعينوهم قبل أن يطلبوا منهم المساعدة لأنهم كانوا بالأمس القريب يعملون كما يعمل الشباب لكن صحتهم خانتهم حين ضعفت فاضطروا للسؤال و لو كان فيهم رمق من قوة لما لجئوا إلى حرج التسول.
كما أن على مؤسسات الدولة و الشركات الخاصة تخصيص برامج لتوظيف هذه الشريحة المحتاجة من المسنين في وظائف تناسب و تراعي الوضع الصحي لهؤلاء، و نجد هذا الأمر واقعاً ملموساً في بعض الدول الواعية بهذا الشأن كالسويد و الولايات المتحدة حيث تقترح على كبار السن أنشطة بديلة عن وظائفهم السابقة خلال فترة التقاعد كصيانة بعض المعدات و الآلات في بعض المصانع و الحراسة في بعض المؤسسات العمومية و الخاصة و المساعدة في بعض الخدمات المنزلية كالتنظيف و التمريض و تربية الأطفال.
إن هذه الوظائف تمكن المسنين من استغلال أوقات شيخوختهم في ممارسة بعض الخدمات التي توفر لهم فرصة الحصول على عائد مادي يضمن لهم حياة كريمة و يقيهم شر السؤال، إنهم بذلك يعيشون كالنخلة التي تعتمد على نفسها لتقف شامخة في السماء، عكس شجرة العنب التي تستند على دعائم تُجلب لها لتضمن بقاءها. أما إذا فقد المسن صحته من جراء مرض أو إعاقة فالواجب على أبنائه و باقي أفراد أسرته العناية به دون قيد أو شرط، لكننا نجد في بعض الأحيان فئة من كبار السن الذين فقدوا أقاربهم و ذويهم و هنا يبرز دور المؤسسات الاجتماعية الحكومية و الجمعوية في إنشاء مراكز خاصة برعاية المسنين و تكوين أخصائيين في العمل مع هذه الشريحة المباركة من المجتمع.

2. علاج اضطراب العلاقات الزوجية في مرحلة الشيخوخة
إن أهم علاقة يلحقها الاضطراب في حياة بعض المسنين بعد توقفهم عن العمل هي العلاقة الزوجية، فقد تكون نسبة عدم التوافق بين الزوجين في مرحلة شبابهما و رشدهما قليلة الحدّة لانشغال كل منهما بوظيفته، فالمرأة تكون منهمكة في أغلب الأوقات بأداء واجباتها المنزلية و توفير متطلبات أبنائها و شريك حياتها، أما الزوج فتجده في معظم الأحيان منشغلا بعمله خارج المنزل، لكن بمجرد تقاعد الزوجين عن هذه الوظائف الاجتماعية يصبح لديهما متسع من الوقت للاحتكاك ببعضهما البعض فيشتد الانفعال في العلاقة بين بعض الأزواج و يكثر عدم التفاهم بينهما إلى درجة عالية من الحدّة قد تصل أحياناً إلى حد الطلاق.
إن الزوجين في مثل هذا الحال ينسيان ما كان بينهما من مودة و عشرة و ما حققاه من انجازات لسنوات طويلة، حيث أنعم الله عليهما بالمسكن و المأكل و المشرب و الملبس و المركب و الذرية الطيبة و صدق الله تعالى حين قال في هذا الباب ﴿ و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم﴾ (النحل:18) فعوض أن يُقبل الزوجين المسنين على شكر الله و حمده حمداً عملياً على ما متعهما به من ثمار الحياة الأسرية بأن يستمرا في التمسك بحبل الله و هو الزواج و لا يتفرقا عنه عبر الشقاق و الخلاف، و تجدر الإشارة إلى أن هذا الداء متفشي في بعض أسرنا لغياب الدواء الروحي و هو الاعتقاد في كون الزواج في الدنيا هو مقدمة للعشرة الزوجية الأبدية في الآخرة و عدم الاكتفاء بالنظرة الضيقة لهذه الرابطة المقدسة على أنها علاقة دنيوية قد تنتهي بنهاية الأدوار الاجتماعية التي لعبها كل من أبطال الحياة الأسرية و هما الأب و الأم.
إن تأسيس الأسرة على قواعد دينية أساسها هو مبدأ : (ما كان لله دام و اتصل و ما كان لغير الله انقطع و انفصل) هو السبيل الوحيد لضمان البقاء و الاستمرارية للخلية الأسرية في الدنيا و الآخرة أما بناءها على أسس مادية فذلك من شأنه أن يشق أركانها و لو في آخر أيام العمر و هي اللحظات التي يكون فيها الزوجين في أمس الحاجة لبعضهما البعض خصوصاً و أن الأبناء يكونون في قمة انشغالهم بآداء مسؤوليات جيلهم الصاعد.

3. علاج اضطراب الدور الاجتماعي للمسنين
لقد كان المسنين خلال القرن الرابع عشر الهجري يشعرون بتقدير كبير لذواتهم لأنهم كانوا يقدمون النصائح و التوجيهات للأشخاص الأقل منهم سناً، و قد كان الشباب في تلك الفترة يبحثون عن إرشادات كبار السن و يعتزون بتطبيقها، أما الشيوخ ابتداء من مطلع القرن الخامس عشر الهجري فقلَّما يقصدهم أبنائهم و أقاربهم لطلب الرأي و المشورة فأصبحوا يشعرون من جراء ذلك بالدونية و بعدم الفعالية في المجتمع الأصغر منهم سناً، و السبب في ذلك يرجع إلى أن الشباب يعتقدون بأن أفكار الشيوخ قديمة و آرائهم متجاوزة و الجلوس معهم مضيعة للوقت، لذلك فهم يبعدونهم عن شؤون حياتهم و لا يشركونهم فيها، بل ترى الابن البار منهم يطرد أباه من داره ليضعه في دار العجزة لأن زوجته المصونة يضيق صدرها حينما يصدر عن أبيه قول أو فعل لا يرضيها، فتحول دور المسنين بذلك من حالة العطاء و الايجابية إلى حالة التهميش و السلبية.
إن جيلنا المسلم المعاصر ينبغي أن يتقي الله في الشيوخ و يعيد إدماجهم في الحياة اليومية سواء منها الأسرية أو العائلية بأن يخصص لهم في البيت أحسن مكان و أن يلتزم بالأدب عند مجالستهم و المبالغة في التقرب إليهم و إظهار التودد إليهم، و حين يُصدر الجد مثلا رأيه في موضوع ما فعلى الجميع احترامه و تطبيقه إن كان صائباً أو التحلي باللباقة اللازمة عند رده إن كان خاطئاً، لكن لماذا ينبغي أن نتجمل بكل هذه الأخلاق الحسنة في معاملة كبار السن ؟ الجواب بكل بساطة لأن المسلم الشاب يعتبر إحسانه للمسنين عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى لأنه سبحانه جمع الأمر بعبادته و الأمر بالإحسان للوالدين المسنين في آية واحدة فقال ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريماً...﴾ (الإسراء : 23)، إن هذه الآية تعتبر بأن عبادة المؤمن من صلاة و زكاة و صيام و حج لا تكون كاملة و لا يختم الله عز وجل عليها بخاتم القبول إلا إذا كانت مقترنة بالضرورة مع الإحسان لمن هم أكبر منا سناً و أشرف منا قدراً عند الله تعالى و هم الأشخاص الذين بلغوا من الكبر عتياً.

4. علاج طول أمل المسنين في الدنيا بالعمل للفوز بالآخرة
إن الإنسان حينما يبلغ مرحلة الشيخوخة لا يصبح كبير السن دفعة واحدة، بل يتدرج في الكبر شيئا فشيئا، و هذا من مظاهر الجمال في اسم الله تعالى : «اللطيف» حيث أنه سبحانه لم يجعل تطور الإنسان في العمر تطوراً سريعا تفزع له النفوس بل جعله تطوراً لطيفا متأنياً تستأنس به قلوب عباده، فحين يطل ابن آدم على مشارف الكبر يدخل ابتداء إلى مرحلة الكهولة في الأربعينات ثم الشيخوخة في الخمسينات ثم يستأسد الشيب فوق رأسه في الستينات و يبلغ بعد ذلك مرحلة الهرم في السبعينات فما فوق، إن هذه المرحلة الأخيرة من الشيخوخة هي أصعب مراحل الكبر على الإطلاق و قد سماها القرآن الكريم «أرذل العمر» قال الله عز وجل ﴿و الله خلقكم ثم يتوفاكم و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير﴾ (النحل : 70) كما تعوذ من شرها النبي عليه الصلاة و السلام فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه و سلّم كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز و الكسل و الجبن و الهرم ...» متفق عليه، وفي رواية أخرى وردت في صحيح البخاري تعوذ صلّى الله عليه و سلّم من أن يرد إلى أرذل العمر، و أرذل العمر كما ذكره المفسرون هو أخسه و أدناه و آخره و فيه تضعف القوى و تفسد الحواس و يضطرب الفكر و يختل النطق و يقل العلم و يسوء الحفظ و قد يصاب فيه المرء بأمراض خطيرة كالخرف (Alzheimer) أو الرعاش المرضي (Parkinson)، و قد يتفاحش الكبر في بعض الأحيان بشكل حاد ليصبح الإنسان كالطفل الصغير المعدوم الإدراك حيث قد يصل به الأمر أحياناً إلى عدم التعرف على زوجته و أبناءه و أقاربه.
ينبغي الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك جهود علمية مضنية يبدلها بعض علماء و أطباء الدول الغربية لاكتشاف أدوية تطيل العمر و تقضي على أعراض الشيخوخة و الهرم، و قد انحرف معهم في هذا الاتجاه بعض الأطباء المسلمين الذين ضعف إيمانهم بالغيب و قوي تأثرهم بالغرب، لكن محاولات كل هؤلاء محكوم عليها بالفشل و الخيبة مسبقاً بنص حديث رسول الله صلّى الله عليه و سلّم الذي رواه أسامة بن شريك رضي الله عنه : «أن الأعراب قالت يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال : نعم يا عباد الله تداووا فإنّ الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحد، قالوا : يا رسول الله ما هو؟ قال: الهرم» رواه أبو داوود و الترمذي و ابن ماجة في كتاب الطب و صححه الألباني، إن هذا الحديث صريح العبارة إذ أنه ينفي بشكل قطعي وجود علاج للهرم و الشيخوخة لأنها سُنّة فطرية خلقها الله تعالى و لا يمكن إيقاف زحفها في تضاريس جسد الإنسان و في مناخه العقلي و النفسي و لو اجتمعت لذلك أطباء البشرية كلها.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif لكن لكل قاعدة استثناءات، فقد يحفظ الله جل علاه بعض عباده من الوقوع في هذا التدهور الجسدي و الفكري شرط أن يكونوا في مرحلة شبابهم من الذين يبحثون عن سبل التقرب إلى الله بالطاعات المفروضة و المسنونة و يحرصون على تجنب الوقوع في المعاصي المحرمة و المكروهة و يواظبون على مصاحبة القرآن قراءة و حفظاً و تدبراً و تطبيقاً مع الأخذ بزمام الأسباب المادية الأخرى كالاعتدال في الطعام و الشراب و العناية بالتبكير في اليقظة و النوم...إلخ، إن كل هذه الممارسات الدينية والدنيوية لا تقضي بشكل كامل على أعراض الشيخوخة، لكنها قد تطيل في عمر الإنسان وتخفف من حدّة أعراض الهرم وتحفظه من الخرف وقلة العلم.
لقد أكد ثلة من المفسرين لكتاب الله تعالى على أن بعض المؤمنين يستثنون من حالة الرد إلى أرذل العمر، وقد استدلوا على هذه الحقيقة بالآية الكريمة التي تقول : ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون﴾ (التين : 4-6)، لقد أشار الله تعالى في هذه الآية بوضوح إلى أن الشيخوخة تتكون من عدة مراحل وعبر عنها بكلمة سافلين وهي جمع سافل أو أسفل أي أن الإنسان ينزل من قمة قوته في الشباب إلى سفوح الضعف في الشيخوخة ويهبط في دركاتها دركة دركة إلى أن يصل أسفل الدركات على الإطلاق وهي مرحلة أرذل العمر، ثم يضيف الله عز وجل قائلا : ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي أنه سبحانه استثنى أهل الإيمان من الوقوع في الخرف وقلة العلم، لهذا قال ابن عباس رضي الله عنه : (إن المسلم إذا طال عمره لا يزداد بذلك إلا كرامة عند الله وعقلا ومعرفة)، وفي حديث أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» متفق عليه، قال ابن حجر ينسأ له في أثره أي يؤخر الله أجله ويزيد في عمره.
لقد تواتر في نفس السياق عند عامة المسلمين وخاصتهم بأن من حرص على حفظ القرآن و داوم على قراءته كل يوم لا يصاب بالخرف ولا بالهذيان ومن الأمثلة الدالة على ذلك القارئ الشيخ حسن بن إبراهيم الشاعر الذي عاش في المدينة المنورة وعمره قد جاوز المائة سنة (ولد عام 1291 ه و توفي سنة 1400 ه) و رغم تقدم سنه كان يُقرئ تلاميذه القرآن ويعلمهم القراءات العشر، وهو يسمع لأكثر من شخص يقرؤون في أكثر من موضع في المسجد النبوي في آن واحد وهو يصحح لهم تلاواتهم جميعا ويسدد ما بها من شرود عن قواعد التجويد.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif إن طول العمر إذن رغبة لا يدركها طالبها بالبحث عن الأدوية المعالجة لأعراض الشيخوخة بل يبارك الله في أعمار عباده ببركة إقبالهم على طاعته واجتهادهم في البعد عن معصيته لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على التوجه إلى الله بهذا الدعاء الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قلما كان رسول الله يقوم من مجلس حتى يدعوا بهؤلاء الدعوات لأصحابه : «اللهم أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك... ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا...» حديث حسن رواه الترمذي، إن أول فائدة في هذا الحديث أن دعاء الرسول كان مبتدأ بطلب العصمة من المعاصي لأنها تقصر الأعمار وتنشر الأمراض في الأبدان، ثم دعا صلى الله عليه وسلم لأصحابه و كل أفراد أمته بدوام نعمة البصر والسمع والقوة التي بها يسعد الإنسان في كبره، و استعمل كلمة "الوارث" في دعائه ومعناها "الباقي" والمراد بها أبق يا رب ما أنعمت به علينا من قوتنا في شبابنا إلى وقت كبرنا وتقدمنا في السن، ويضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لبعض أصحابه بطول العمر، ولو كان طول العمر شرًا للمؤمن لما دعا به لأصحابه، و في نفس السياق سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس خير ؟ قال « من طال عمره وحسن عمله » رواه الترمذي وصححه الألباني.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif علاج طول الأمل في الدنيا عند المسنين إذن ينطلق من تصحيح نظرة هؤلاء لنهاية العمر، فحين يصبح الإنسان شيخا يشعر بأن الوقت يمضي بسرعة ويتمنى لو استطاع أن يقلل من سرعته، ولذلك فالمسن يكون كثير الحساب للوقت عكس الشاب الذي ينظر للزمان بعين المبتدأ فيشعر بأن سنوات كثيرة من مستقبله لازالت تنتظره ويستطيع أن يفعل فيها الكثير والكثير. إن قلق الشيوخ من تسارع الزمان يجعل بعضهم يخاف من الموت الذي سيفرقه مع الأبناء والأحفاد إذا كان ضعيف الإيمان بالآخرة شديد التمسك بالدنيا فيسرف أوقات شيخوخته الغالية في الحسرة على الماضي و أيامه الجميلة وهذه السلبية تجعله يركن إلى الكسل والخمول ويميل إلى تجميد روح العمل في ما تبقى من حياته و يصبح أسير النظرة المثالية للماضي، فالإنسان الواقعي يدرك أنه لا يمكن أن يحقق كلما أراد لأن آمال بني آدم طويلة وحياته قصيرة لا تتسع أوقاتها لعمل كلما خطط لفعله.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif وهناك فئة أخرى من المسنين يغُرهم الشيطان ويوهمهم بأن أجلهم لا زال بعيد و بالتالي فلا حرج عليهم إذا تمادوا في اجتراح المعاصي و استمروا في الانغماس في الملذات والله تعالى يبين فساد تصورهم لحقيقة أجلهم قائلا : ﴿إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا﴾ (المعارج :6-7)، إن الشيطان يدخل لقلوب الشيوخ عبر نافذة طول الأمل فيمنيهم بطول العمر ويخدعهم بأحلام ذهبية وآمال وردية وخيالات شهية، ويدعوهم إلى ابتغاء أسباب الغنى والثروة العاجلة موهما إياهم بأن المال يزيد في العمر، فترى بعض ضعاف القلوب من المسنين ينساقون وراء هذا الإغراء ويتزاحمون مع الشباب في قاعات القمار ونوادي سباق الخيل إلى غيرها من ألوان العبث بالأوقات الغالية للشيخوخة والهدف من وراء ذلك كله هو الطمع في المال والرغبة في التمتع والتنعم بما تبقى من العمر.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif لقد ذم الله تعالى المخدوعين من المسنين ومن الشباب أيضاً بهذا الداء وهو طول الأمل قائلا : ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعملون﴾ (الحجر:3) و ذم في آية أخرى الراغبين في البقاء في الدنيا و العازفين عن لقاء ربهم في الآخرة فقال فيهم سبحانه ﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة و من الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر و الله بصير بما يعملون﴾ (البقرة:96) لذلك ترى الشيخ و قد اشتعل رأسه شيباً و أمله في الدنيا لا زال غضاً طرياً و صدق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم في وصفه لهذا الصنف المذموم من كبار السن قائلا : «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنين حب الدنيا و طول الأمل » رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إن دواء طول الأمل في الدنيا لدى عباد الله الذين بلغوا من الكبر عتياً هو دعوتهم إلى تقصير آمالهم في الحياة الدنيوية و ترغيبهم في القناعة بما أعطاهم من نعم كثيرة وحثهم على شكرها شكراً غزيراً، كما ينبغي توجيههم إلى هجران الأماني الخادعة فالدنيا لا تسوى عند الله جناح بعوضة و لا تستحق أن يتعلق بها قلبك أيها الشيخ الوقور و لا ينبغي لك أن تفني عمرك الباقي فيها بالجري خلف حطامها الزائل لأن القلوب الصالحة لا تتعلق إلا بالأمور الخالدة و ليس بالأمور الفانية، فلماذا لا زلت تتزاحم يا أيها الرجل الكبير السن مع صغار السن على متاع الدنيا من أموال و بيوت و مراكب و هي في الحقيقة ليست لك فلو دامت لمن مات قبلك لما وصلت إليك.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif إن أعقل المسنين هو أحرصهم على تطبيق وصية رسول الله صلّى الله عليه و سلّم التي أوصى بها ابن عمر حين شده من منكبه و قال : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» رواه البخاري، فينبغي للشيوخ حسب هذا الحديث أن يربوا أنفسهم على التعامل مع الدنيا بتقمص شخصية أحد الرجلين الذين ذكرهما النبي صلّى الله عليه و سلّم ، الأول هو «الغريب» الذي يكون مقيماً في الدنيا لكنه يؤمن بأن مدة إقامته فيها قصيرة فتراه مجتهداً في التزود خلال هذه الفترة المحدودة للرجوع إلى وطنه الأصلي و هو الآخرة، أما إذا كانت همة المسن كبيرة في التقرب إلى الله مثل كبر سنه فإنه يتقمص شخصية الرجل الثاني و هو «عابر السبيل» أو المسافر الذي لا يعتبر نفسه مقيما في الدنيا و لو للحظة بل هو في سير دائم بالليل و النهار إلى بلد الإقامة و هو الجنة و قلبه يفيض شوقاً ليجاور ربه في أعلى عليين مع النبيئين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقاً، لذلك فهو لا يتوقف في الدنيا عن المسير للقرب من رب العالمين فنومه عبادة و يقظته عبادة و عمله عبادة و زواجه عبادة...و كل حركاته و سكناته عبادة خالصة لوجه الله تعالى.
http://www.elazayem.com/huda-off.gif وخلاصة الكلام فإن الشيخوخة هي مزرعة لغرس أحسن الأعمال الزكية التي يختم بها المسنون حياتهم الدنيوية، و لا يُسَهل الله لكبار السن هذه الخاتمة البهية إلا إذا أحسنوا اختيار أحد الطريقين في شيخوختهم، فالمسنين الذين يتمسكون بحبل الله في الدنيا حين يبلغون من الكبر عتيا يكرمهم المولى سبحانه بأربع كرامات، أولها أنه يقويهم على طاعته فتراهم من كبار المجتهدين في الأعمال الصالحة، أما الكرامة الثانية فهي فراغ قلوبهم من هموم الحياة فمهما واجهوا من خطوب و مكاره و صعوبات فهم يصبرون على شدتها لأنهم يعلمون علم اليقين أنها عابرة و زائلة لا محالة، و الفائدة الثالثة أن الله تعالى يرضيهم بالقليل الذي يكفيهم من الدنيا و هو خير لهم من كثير نعمها الذي قد يلهيهم عن الآخرة من فاخر المطاعم و المشارب و الملابس و المساكن و المراكب، أما رابع الكرامات و أجملها على الإطلاق فهي أن الله عز و جل ينورهم بنوره و يكرمهم بولايته، فلا يبصرون إلا بنور بصيرته و لا يتكلمون إلا بلسان قرآنه و سنة نبيه صلّى الله عليه و سلّم و لا يقومون إلا بما أمر به و لا يتجرؤون على فعل ما نهى عنه. أمّا كبار السن الذين كبرت أمانيهم في الدنيا و صغرت آمالهم في ابتغاء الدار الآخرة فيقذف الله في قلوبهم أربع صفات ذميمة، أولها التكاسل عن الطاعات و ثانيها سكن الهموم و الغموم و الأحزان في صدورهم، أما ثالث الأخلاق الرديئة فتتجلى في كونهم يصبحون من أحرص الناس على جمع المال الذي يميل بصاحبه عن طريق الهدى و الصلاح، و رابع الرذائل التي يصاب بها المسنون المعرضون عن الآخرة فهي قسوة القلب و العياذ بالله، فاختر يا أيها الشيخ الفاضل أي الطريقين أهدى و أقوم سبيلا.
الـهـوامــش :
1- محمود المصري، حق المسنين، سلسلة الحقوق الإسلامية، ص: عدة صفحات، ط 1، مكتبة الصفا، القاهرة– مصر، 1429 هـ / 2008 م.
2- ابن رجب البغدادي، جامع العلوم و الحكم، ص : 378 – 379، ط جديدة منقحة، دار الفكر، بيروت – لبنان 1412 ه/1992م.
3- أزهري أحمد محمود ، جالب الأسقام وداء الأنام طول الأمل ، مطويات إسلامية ، دار ابن خزيمة ، الرياض – السعودية.
4 -Georges AKOKA et Autres, « La Vieillesse et le Vieillissement », PP : 1747 – 1767, ENCYCLOPEDIE L’HOMME DU XX° SIECLE ET SON ESPRIT, VOLUME 7, Ed OKAD , Rabat – Maroc 2007.
5 -Derk-Jan DIJK, « Age, rythmes et lampe de chevet », PP : 44 – 45, In Revue La Recherche, N° 2 Hors Série, Avril 2000, Ed Société d’Editions Scientifiques, Paris – France 2000.


الساعة الآن 05:13 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى