منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   قبلة... على أرض غريبة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=16466)

روح., 30 - 5 - 2011 01:33 AM

قبلة... على أرض غريبة
 
قبلة... على أرض غريبة

في هذه اللحظة... وفي هذا المكان الصلب الوسيع من العالم أحاول أن أذيب ألمي. أحس ثقل الأشياء. كأنما الجسور تضغط فوق رأسي. قلبي يجهش في كأس من العذاب. تبدو لي الدنيا لحظة بلا لون كالقرمز في قاع البحار كل شيء لا فائدة فيه: أن تمتلئ عيناي بدهشة الجديد أو أن تطير ضلوعي عندما ينبثق الواقع المجهول.‏
كلماتي بالأمس فوق الورق خطوط ميتة... توابيت سوداء. حتى الحروف في أعماقي لا تحمل سوى ضجيج عدمي زائف. لا مبالاة مريرة تجتاحني. يتساوى عندي الوجود والعدم. التفاهة تنبع من كل شيء حولي.‏
"لندن" ورذاذ الضباب الصيفي الثقيل يجثم فوق المدينة الرصاصية وفوق صدري. الكآبة تغلغلني... تمسك علي أنفاسي وعطش قاتل يمزق حلقي. أسحب قدمي بعسر من (المتحف البريطاني) وألوف التماثيل الحجرية تسد عيني ودماغي. في الشارع وحيدة. حازم... أين أهرب منك يا حازم؟ هل يلعق الحجر الأصم من بين أهدابي بريق الحنين إليك؟ أشتاقك يا حازم وأكره هزيمتي. لا شيء يحررني منهما: شوقي وهزيمتي. فقد الزمن سيالته ومائيته وغدا نقطة جامدة لهاوية غير ذات قرار. ليس استمرارنا للحياة معناه أين أنت يا حازم؟ ووجهك قريب من وجهي وأصابعي. الراجفة تمسح خط (القطوب) بين عينيك الحبيبتين؟ ليتني كنت امرأة غبية يا حازم فما لمست جسدك... ولا نشقت عطر بسمتك... ولا ضممتني. ليتني عرفت فرح الحنان وأنا معك. إذن لبقي لي من خلوع السفينة الغارقة ما أصل به إلى شاطئ الأمان.‏
وليلة وداعنا أغمضت عيني... ولم أذق الكأس... ولم أمنحك جسدي. امتهنت أنوثتي وقسوت علي فحصنت نفسي دونك بالكبرياء. ولما أمسكت بوجهي لتقبلني كنت أغرق في الدموع. وأنت تقول: "ثريا... يا أحب امرأة إلى قلبي المعذب... أو ترضين أن تكوني دمية من عاج".‏
وارتحلت.. وعيون النساء من حولك تنغرس في لحمي الأبيض... تفقأ عيني الواسعتين... تصلب شفاهي الحزينة.‏
أراك الآن يا حازم. صوتك يهدر في أعماقي والشرر يتطاير من أحداق الشباب حولك. النار في سواعدهم ونداء الخلاص فوق الشفاه ينتظر اللحظة الفاصلة وأنت تقول لهم... نحن يا أخوة نكرس أنفسنا للقضية. أن نقع فريسة الظلم فذاك ليس خطأنا. أما أن (نريد) أن نرفع عنا هذا الظلم فهذه أصعب تجربة يمكن أن نمر بها. لن يكون لنا فرح حقيقي قبل أن تتحول الجموع المجهولة إلى تصميم... إلى عزم... إلى إرادة... إلى عمل.‏
واستمع إليك. العذاب في أحشائي. أشواك الصبير والحسك تملأ حلقي. أحس الرجفة تجتاح أوصالي. أمد يدي إلى عنقي كأنما يد قاسية تختفي. وجه إنكليزي تافه يبدو شمعياً بارد البياض. نظرتي مصلوبة فوق عينين فاتحتين بلون الخرز. أية أشباح ميتة تتراءى لي الآن: هذه الوجوه الباهتة من البلاستيك كم أفتقد معها اللون الأسمر الحار وقد أرضعته الشمس. كم أحن إلى عيون عميقة السواد... عميقة الغور والأحزان. ثمة أعوام من حياتي تتسابق. بعضها جميل مشرق. وبعضها مثل كابوس مرعب. ومن الصعب أن أعود إليها بتسلسل زمني. إنه شيء يبعث في رعدة تشبه هبوطاً فجائياً من فوق جبل. أيام سوداء تتراءى أمام عيني ربما امتدت فأغرقتني بسوادها إلى الأبد. إن تسوية عنيفة مريرة يجب أن تتم بيني وبين العالم.‏
مات الأمل في صدري يوم غادرت مدينتي الصغيرة في الطرف الآخر من الأرض. أي التصاق كان بيننا. في عيني أطياف سحرية من أزقتها... ومرابعها... وحجارة آنيتها والأماسي المعبودة في طرقات غوطتها. وأمس لما سألتني تلك الإنكليزية ذات الوجه الجامد كوجوه الدمى ماذا جئت أفعل في لندن كنت أمضغ في أعماقي السؤال نفسه. وأجبتها وأنا أختنق ببحة. أمس يحمل هزءاً صامتاً مجروحاً... لا شيء... لا شيء جئت من أجله... ماذا أفعل هنا يا حازم؟ أتراني أنسى ضياعي... وساعات الألم القاتمة... ودمي المتعلق في عنق شجرة منسية قرب النهر... والحياة التي تحطمت بين يدي... وحبنا الذي غدا أشبه بالدوار؟‏
واجتاز الشارع الغارق في سكون مريع. إنه السبت. لم أعتد أبداً أن أرى مدناً صامتة يوم السبت. لكأنني أقذف في جوف حلم من التاريخ. أحس النقمة على هذا الشارع اللامتناهي حيث أقطن. إنه ينقلني بحقد شامت إلى سجن صغير. سجن لن أتخلص منه قبل يوم أو أكثر. لا متاجر... لا باعة... لا حركة بشرية سوى امرأة تعرض الحب برخص عجيب. ترى لماذا يسمحون ببيع الأجساد في أيام السبت؟ يا لبابل... كم أشم رائحتها في صناعة هذا الحاضر المتمدن الطليق. ألهث وأنا أزرع خطواتي فوق الإسفلت الرطب المعتم. الجفاف والشوك يطبقان بوحشية فوق عنقي. الناس هنا يشربون عصير الفواكه في زجاجات فاخرة معبأة أو من نوافير أنيقة من النايلون. وأنا... أنا الشرقية المتمردة المتهمة أبداً مع أبناء قومي ببدائية الحياة أشعر الحنين إلى غمر من الفواكه ذات عبير يشبه عبير بلادي أهجم عليها كما يهجم النحل فوق الأزهار البرية واقضمها بأسناني وأمتص رحيقها بنهم.‏
أقف بذهول لأشتري من بائع متجول يجر الفواكه في عربة... وألتفت حولي. لكأنك معي يا حازم ندفع الثمن. أفتقد عنفوان الرجولة وأشعر المرارة وأنا أمد يدي بالمال. لكأنما اعتدنا نحن نساء الشرق أن نعيش الاعتزاز والفخر عندما ننضوي تحت أجنحة الرجال. أضم غلتي الصغيرة وأهرع عبر الصمت إلى غرفتي الموحشة.‏
أحس الأنس وأنا أستاف عبير البرتقال واليوسفي. ترتعش حبات العنب تحت يدي الراجفتين وتمتد أمامي كروم الغوطة والزبداني وبيارات البرتقال. إن أفراحاً ما تعود إلي فجأة بما يشبه السحر لتضفي علي لوناً من ألوان العزاء.‏
حازم... لم أذكرك الآن بمثل هذه القوة وهذا العنف؛ وأنا معك... أتمرغ على شواطئ يافا... تتوهج المدينة المتآلقة قرب البحر الثائر. تتفجر الأنوار. تطير. وأمواج من الأعماق الساحرة ترمي الزبد الفضي فوق الرمال الرائعة. وتضحك... وتضمني إلى صدرك... تلتقط حبات الماء بشفتيك.. (ألم أقل لك يا حبيبتي إن يافا مدينة ما حلمت بمثلها الأساطي؟ر).‏
تبرق البرتقالات بين يدي... حازم... والبسمة الحزينة تتضوع فوق شفتيك:‏
(كم أحب البرتقال يا ثريا... إن فيه عطر بلادي)‏
مصباح الشارع ينثر نوراً مغبراً. أدير المفتاح في الباب. على السلم أقف. أقلب حبات البرتقال. يخيل إلي أنني ألقى في واد سحيق. كأنما أُسقيت الموت. فقدت حواسي ودار رأسي ووقعت. حبات البرتقال تنفرط. تتناثر كعقد خرافي مشؤوم. أفتح عيني. سكين داكنة الزرقة تجرح خد البرتقال الحزين. خط كالوشم... كاللعنة ينغرز فوق القشرة النارية المتوهجة. واقرأ وأنا مرتاعة:‏
(مستورد من يافا)‏
وأبكي... وتضيع يدي بين خدود البرتقال وخدي. كأنما الجرح فوق وجهي... كأنما السكين في شفتي... كأنما الوشم يدمغ حقيقتي بالعار.‏
وتمتد أنامل الإنكليزية صاحبة البيت مثل أفاعٍ باردة بيضاء تلتقط حبات البرتقال وتقول لي: "تلك برتقالاتك.. ألا تريدينها... لا تزال سليمة...‏
وأصرخ بها: خذيها... ليست برتقالاتي.. ليست برتقالات حازم... خذيها يا سليلة شقي مجرم أباح حقول البرتقال...‏
أدير وجهي المتورم... وأحس سائلاً ساخناً في جنبي الأيسر. لعله يقطر دماً أسود. أمد يدي... برتقالة جريحة قد التصقت بي... أبت أن تنساق ليد الإنكليزية الرخوة كالمطاط. التجأت إلى صدري... لا تريد أن تفترق عني. أقبلها... ألامسها بخدي الملتهبين. كانت تضرع لي أن أضمها. في منفاها همومك يا حازم... وفي نعومتها جلد طفلي المفقود منذ ستة أعوام.‏
وتضج أمامي حقول البرتقال.‏
ويهدر صوتك يا حازم: (حبيبتي... يا برتقالتي الذهبية.... يا أغلى برتقالة. سوف أخذك معي إلى (دير القمر). هناك بيارة (آل مراد) هل تعرفين بيارة آل مراد حيث كنا نلعب ونحن صغار؟ إليها نعود الآن).‏
وأضحك...‏
من أين لي أن أعرف بيارة آل مراد يا حازم. أنا دمشقية... دمشقية. إنما أعرفها من ظلال الحنين التي تخبئ في عينيك... أعرفها في حكايات أمك المجروحة... في صمت أبيك وتنهداته كلما أقبل الشتاء وحل موسم البرتقال.‏
أنا أعرفها يا حازم رؤيا على أهداب الصغار الذين يلدهم الظمأ والحرمان وأحبها أملاً حلواً في طفل تريد له أن يلهو في ربيع ما تحت أغصان البرتقال.‏
وأحبس نفسي في صمت قاس. يمور في أعماقي ضجيج لا حد له. ينفجر بارود. تثور النيران. أسير وفي رأسي صخرة من (سترمبولي). أجتاز أنهاراً من الدم. يصرخ بي جنود موعودون بروابي الجنة: عودي أم الطفل... طفلك هناك.‏
وأصم أذني...‏
وأزحف مع سيل الرجال السمر‏
في صدري طائران حزينان... ليس لي طفل يشتهي ثدي الأبيض.‏
أزحف... من أجل قبلة منحتها لبرتقالة غريبة في ليلة غريبة... فوق أرض غريبة.‏

قمر كيلاني

أبو جمال 5 - 6 - 2011 12:00 AM

احترامي وتقديري لاختيارك الرائع لهذه الكاتبة السورية

اخوك
ابو جمال


الساعة الآن 02:19 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى