منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب ــ من أجل بابل والتلمود... تمّ ذبح العراق..! ــ للكاتب جون كيلي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=21738)

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:27 PM

كتاب ــ من أجل بابل والتلمود... تمّ ذبح العراق..! ــ للكاتب جون كيلي
 
كتاب ــ من أجل بابل والتلمود... تمّ ذبح العراق..! ــ للكاتب جون كيلي


الكتاب غير عادي من حيث أحداثه التاريخية التي ترجع الى آلاف السنين كما تم تدوينها في الإسرائيليات، ثم أعتمدت لاحقا، في وقتنا الحالي، كخطط سياسية إستراتيجية، وكآيديولوجية للتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ضد العراق، والذي بني على منطلق عقائدي وديني بحت...!

المقال الذي بين أيدينا يكشف الأسرار لأهم ما ورد في الكتاب.. أسرار مذهلة عن حجم المؤامرة الدولية ضد العراق، والتي كان الإحتلال الأمريكي له عام 2003 أحد أول خططها ونتائجها، وليس آخرها كما يتصور البعض.. ولا تزال هذه المرحلة في موضع التطبيق مع كل ما رافقها من تدمير متعمد للبنى التحتية وللإنسان ووصل الى حد لا يصدق ولا يمكن تصوره.. لكنها في واقع الأمر هي هدف أُحسنَ وضعه، وخطط له بعناية من أجل تحقيقه..!

إنه ألإلتقاء العقائدي بين تلمود اليهودية.. وأهداف الصهيونية.. وإيمان محافظي أميركا الجدد بذلك إيماناً مطلقا...

إنه الجواب على السؤال الكبير... لماذا العراق..؟!

لمحات من التاريخ القديم:

يحكي أحد الأناشيد الكنسية في الأربعينات، والذي إنتشر ترديده في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية وظهور الزعيم النازي أدولف هتلر في ألمانيا، وقيامه بإبتلاع جيرانه الدول الأوربية الواحدة بعد الأخرى.. وإظهار عداوته لليهود بوضعهم في معسكرات إعتقال ثم إرسالهم الى (المحرقة) أو ما أصبح يعرف (بالهولوكوست).

يحكي النشيد الذي كان يردده الصبية والفتيات الصغار في مدارس الأحد والكنائس عن قصة قيل أنها قد وردت في كتاب "دانيال" من العهد القديم "التوراة". تقول القصة أن ثلاثة من الأطفال أتوا من (أرض إسرائيل) هم: شادراك وميشاك وأبيدنكو، كانوا من بين سبايا اليهود في (بابل) زمن الملك البابلي "نبوخذنصر".. وأن الملك أمرهم بأن يعبدوا الآلهة البابلية فرفضوا.. فأمر الملك بحرقهم (على غرار محرقة هتلر لليهود...!)، ولكن الرب (يهوا) قد أخرجهم من النار من دون حرق ولو بسيط.!

إن العهد القديم وما ذكر فيه عن آشور وبابل.. وإعتقال اليهود من إسرائيل القديمة في (يهودا والسامرة).. هو تأريخ حي لكثير من المتطرفين من اليهود والمسيحيين ومثقفيهم وقياداتهم الدينية والسياسية، وقد لعب دوراً آيديولوجياً رئيسياً وحضي على تأييد مطلق داخل الولايات المتحدة على وجه الخصوص..! ولربما كان مقابل كل مائة مقاتل أمريكي على أرض العراق عام 2003 عدد مماثل إن لم يكن أكثر من المتحمسين لإحتلال العراق من المسيحيين الجدد المؤمنين بالصهيونية داخل الولايات المتحدة، ومنهم حاليا وبلا أدنى شك الرئيس الأمريكي جورج بوش، وأركان إدارته المهمين والفاعلين، والذين رأوا في فكرة (الحرب على الإرهاب) هي حرب صليبية جديدة قائمة بين (الخير والشر)..!

على من يريد أن يتفهم وضع الشرق الأوسط اليوم، لابد له أن لا يهمل في دراسته للتاريخ القديم، والسبب هو إعتقاد مؤيدي إسرائيل اليوم ومن أصحاب النفوذ والقرار السياسي، أن إسرائيل ما هي إلا نتاج تاريخي قام على عقيدة الكتاب المقدس والشواهد التاريخية المؤيدة لذلك بدءاً من مملكة إسرائيل القديمة، ومروراً بالأباطرة الذين حكموا المنطقة من أمثال حمورابي ونبوخذنصر ثم الإسكندر المقدوني الذي يقولون أنه توفي في بابل ودفن فيها عام 323 قبل الميلاد. وأنه بعد قرنين من السبي البابلي وحسب المصادر الدينية الإسرائيلية عاد (أطفال) إسرائيل الى فلسطين تحت قيادة نبيين من أنبيائهم وهما عزرا وناحيميا.

وحتى هذا اليوم، يعتقد المسيحيون الجدد من المؤمنين بالصهيونية، ومنهم الإدارة الأمريكية الحالية أن المسيح سوف لن ينزل الى الأرض في آخر الزمان، حتى يتم إعادة بناء هيكل سليمان في موقع المسجد الأقصى الحالي، وهذا ما يفسر إصرار إسرائيل على إجراء الحفريات تحت المسجد ولعدة سنوات بحثا عن الهيكل أو ما يقود اليه...!

أما بعض اليهود العراقيين بالأصل ممن تركوا العراق الى إسرائيل بعد قيامها عام 1948، فإنهم يتحدثون عن أموال وممتلكات يهودية قديمة قدم التاريخ تعود الى اليهود أجدادهم قد تم تدميرها ومصادرتها خلال فترة حكم صدام حسين وما سبق ذلك في تاريخ الدولة العراقية الحديثة...! ولعل هذا يفسر لنا عملية السرقة المنظمة لآثار معينة قديمة من العهدين البابلي والآشوري من متحف بغداد من قبل منظمات يهودية وبحماية الجيش الأمريكي عند دخول الأمريكان الى بغداد في التاسع من نيسان / ابريل 2003!

وكما أن التاريخ يشير الى أن (بلاد مابين النهرين) كانت مهد الحضارة الإنسانية، فإن الإسرائيليات، ومع إعترافها بتلك الحقيقة، تضيف الى ذلك العلاقة فيما بين العراق من جهة واليهود واليهودية من جهة أخرى.. ويرجعون في ذلك الى مصادرهم في أول كتب العهد القديم، وأن (جنة عدن) تقع في العراق وبالذات عند ملتقى نهري دجلة والفرات جنوب العراق...!
بداية الصراع بين اليهود وأعدائهم، يبدأ مع تاريخ التوراة حسب المصادر الإسرائيلية، حين تحدى الأراميون الإمبراطورية الآشورية الذين بدأت جيوشهم تزحف غربا من بلاد مابين النهرين بإتجاه فلسطين. في نفس الفترة وبحدود 950 قبل الميلاد، كان السوريون قد بدأوا بالزحف شرقا بإتجاه حدود الإمبراطورية الآشورية، بينما كانوا يقاتلون في الجنوب والغرب اليهود فيما يسمونه (مملكة إسرائيل).. إلا أن اليهود بادروا وعقدوا صلحا مع السوريين لغرض الوقوف معاً لتحدي الإمبراطورية الآشورية.. وتقول مصادرهم أن ذلك قد تم فعلا (بحكمة اليهود)، حيث قام الطرفين بمواجهة الجيش الآشوري واضطروه الى التراجع في معركة (قرقر) في سوريا..

بعد هذا النصر عاد الإسرائيليون والسوريون الى القتال بينهما من جديد..! هكذا تذكر المصادر مما يدلل على تكتيك يهودي أو خيانة لمعاهدة الصلح، حيث أن عدويهما كانا كل من السوريين والآشوريين على حد سواء..!!

في 841 قبل الميلاد، عاد الآشوريون الى الحرب مرة ثانية.. وهذه المرة، كما يذكر التاريخ التوراتي، قرر ملك إسرائيل (جيهو) أن يقاتل لوحده وينفرد بالنصر من دون السوريين، وفعلا صمد بوجه الهجوم العسكري الآشوري لمدة أربع سنوات، توفي خلالها (جيهو) وتسلم الحكم بعده الملك (مناحيم). في ذلك الوقت طلب الملك (آهاز) ملك يهوذا، المملكة الإسرائيلية الثانية الى جانب مملكة السامرة من مناحيم أن يعيدا تحالفهما مع السوريين، ولكن كان الوقت قد تأخر لذلك إذ هاجم الملك الآشوري السوريين، ربما بعد أن وصل الى علمه خبر الإعداد للتحالف الجديد مع الإسرائيليين ضده، وتمكن من إحتلالهم ودخل دمشق عام 732 قبل الميلاد.. ثم إستدار الى الإسرائيليين ودحرهم واقتاد معه الى (العراق) ثلاثة من قبائلهم كأسرى، وهم حسب ما يذكر التاريخ الإسرائيلي، قبائل (كادو) و(روبين) و(مانسايا) ـ هكذا ورد في كتاب "الملوك" من العهد القديم، أو التلمود الإسرائيلي.. ـ

بعد موت الملك الآشوري، تمرد الإسرائيليون على الحكم الجديد وأوقفوا دفع (الجزية) الى الآشوريين، وعقدوا هذه المرة تحالفا مع مصر.. إلا أن الآشوريين ردوا على ذلك بحملة عسكرية كبيرة حاصرت ثم إحتلت (مملكة السامرة)، وأخذت بقية القبائل الإسرائيلية العشرة كسبايا وأسرى الى (العراق) وإنهارت على إثر ذلك مملكة إسرائيل..!

إعتبر الأنبياء اليهود، أن ذلك هو عقوبة من الله لليهود بسبب الفساد الذي كان قد إستشرى بينهم، وإبتعادهم عن تعاليم التوراة (هذا النص ورد في كتاب "عاموس" من العهد القديم).

أما القبائل العشرة الذين أُخذوا أسرى الى العراق، فلم يسجل تاريخ الإسرائيليات أنهم قد عادوا بعد ذلك الى موطنهم، أي أنهم قد بقوا في العراق مع القبائل التي سبقتهم، وبالذات في مملكة آشور شمال العراق وجباله، حيث يذكر التاريخ لاحقا عن إمتزاجهم بالدم وخلال قرون عديدة مع سكنة الجبال الشمالية للعراق، ويعزي بعض المؤرخين الأكراد الحاليين الى كونهم من سلالة تلك القبائل اليهودية المسبية..!

في 701 قبل الميلاد، قام الملك الآشوري المشهور (سنحاريب) بهجوم جديد، حاصر به هذه المرة أورشليم (القدس).. ولكن الإمبراطورية الآشورية، كانت قد بلغت نقطة ضعفها وخصوصا بعد أن بدأت الإمبراطورية البابلية وسط بلاد مابين النهرين بالنهوض، ثم حصلت على إستقلالها من ألإمبراطورية الآشورية العجوز، وبدأت تظهر كإمبراطورية فتية منذ عام 626 قبل الميلاد عندما إنهارت الإمبراطورية الآشورية كلياً...

في العام 597 قبل الميلاد، قام البابليون بإكتساح مملكة يهوذا في فلسطين وأخذوا معهم حسب مصادر التلمود 3023 يهودي الى العراق.. وهذه كانت الحملة الأولى من ثلاث حملات عسكرية الثانية وقعت عام 587 قبل الميلاد، وأُسر فيها 832 يهودي، والثالثة وقعت عام 581 قبل الميلاد وأُسر فيها 745 يهودياً، وهؤلاء جميعا تم أخذهم الى (العراق)، "وردت هذه الأرقام والتواريخ في كتاب هرميا من العهد القديم".

واليوم، فإن كافة الباحثين والمؤرخين ومن مختاف الديانات والعقائد يتفقون على أن الملك البابلي الشهير نبوخذنصر (604 ـ 562) قبل الميلاد، قد أبقى على الأسرى اليهود واستخدمهم كعبيد لتوسيع بناء بابل...

في عصرنا الحالي، وفي وقت مبكر من القرن الماضي، بدأت مع ظهور السينما الصامتة في هوليوود في اميركا، عدة أعمال سينمائية أبرزت معاناة اليهود لاسيما في تاريخ سبيهم الى العراق، ومن أشهر تلك الأعمال السينمائية التي تبنتها ماكنة الإعلام الصهيوني فيلما بعنوان (ميلاد شعب) مدته 178 دقيقة، قام بتمثيله أبطال السينما الصامتة المشهورين آنذاك مثل ليليان كيش وروبرت هارون وماي مارش وغيرهم.. وقد عرض في أميركا وأوربا، وترجم الى عدة لغات وسبقته حملة دعاية كبيرة..

كان ذلك قبل 80 عاما من قرار صدام حسين بإعادة بناء مدينة بابل القديمة وتمجيد الملك البابلي نبوخذنصر الذي يناصبه اليهود في العالم الحقد والضغينة...!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:28 PM

في يوم من منتصف الثمانينات من القرن الماضي.. طُلبَ من دوني جورج خبير الآثار القديمة ومساعد مدير المتحف العراقي في بغداد، التوجه الى بابل بناء على أمر من رئيس الجمهورية.. وهناك وجد صدام حسين مع مجموعة من مساعديه ومرافقيه.. حيث طلب اليه صدام وضع الخطط لإعادة بناء بابل القديمة، وخصوصا قصر نبوخذنصر ومعبد (مردوخ) لكي تكون جاهزة في مهرجان بابل الذي سيقام عام 1987.. ثم إلتفت صدام وسأل دوني سؤالا محددا (كيف نعلم متى بني القصر على وجه التحديد..؟ وهل كان في زمن نبوخذنصر أم لا..؟)، فما كان من دوني إلا أن قدّم لصدام قطعة من اللبن (الطوب) القديم وعليها ختم نبوخذنصر والتاريخ وعبارة أنها بنيت لتمجيد الإله مردوخ...!

عندها قال صدام لدوني (يجب أن يظهر إسم صدام حسين والتاريخ على قطع الطوب التي ستستخدم في إعادة البناء...)

كان ذلك طلب لا يمكن ردّه، مع أن كثير من علماء الآثار في العالم قد إعترض على ذلك من الناحية الفنية والتاريخية.. ولكن الأكثر من ذلك أنه كان عمل يمثل صفعة للتاريخ التوراتي اليهودي الذي يأخذ موقفا عدائيا من نبوخذنصر بالذات ومن بابل بشكل خاص، ومن العراق بشكل عام..!!!

وقد عبرت عنه وسائل الإعلام الصهيونية، وكتب في ذلك عدد من كتّابهم.. وبدأوا يذكّرون بسبي الآلاف من اليهود واستعبادهم وموتهم وهم يعملون عبيدا في بناء بابل القديمة...!

سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية تبناها تلمود اليهود ومعتقدهم الديني، وكان العراق القديم والعراقيون القدماء من آشوريين وبابليين محور وسبب المأساة اليهودية القديمة.. كما كان هتلر يشخّص هذه المأساة في الأربعينات من القرن الماضي وخلال فترة حكمه النازي والحرب العالمية الثانية...!

ولعله لا نستغرب الآن عندما نقرأ الشعار الصهيوني الذي وُضع وأعتُمد في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا والذي يقول: (دولة إسرائيل من الفرات الى النيل)...!!

ننتقل في القسم الثاني لتناول لمحات من تاريخ الدولة العراقية الحديثة والتي لعبت الصهيونية العالمية دورا فيها، قبل أن نبدأ بإستعراض مأساة العراق اليوم والإصبع الصهيوني فيها..!

لمحات من التاريخ الحديث:

بعد أن إنتهينا في القسم الأول من إستعراض أحداث التاريخ القديمة والتي وردت في الإسرائيليات، وأحداث الصراع مع الإمبراطوريتين القديمتين الآشورية والبابلية وربط تلك الأحداث وتأثيراتها على عالم السياسة اليوم وخصوصا ما يجري في العراق. ننتقل في القسم الثاني الى التاريخ القريب والتي إبتدأت أحداثه مع بداية القرن الماضي وتفاعل تلك الأحداث لربط العقيدة الإسرائيلية والصهيونية العالمية بالمخططات التي تم تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط ولايزال التنفيذ مستمرا ً....!

يحكي جون كولي الصحفي ومؤلف كتاب (إتحاد ضد بابل) ما يلي:

(في ربيع عام 1966 كان في رحلة جوية مع مراسل جريدة "لوس أنجليس تايمز" (جو أليكس موريس) حملتهما من بيروت الى بغداد.. كانت بغداد قد شهدت فترات عصيبة ومتوترة منذ عام 1958، حين قام إنقلاب عسكري ضد الحكم الملكي وقتل فيه الملك فيصل الثاني الذي كان لا يتجاوز عمره 23 عاما مع عدد من أفراد عائلته ومستشاريه ومنهم رئيس الوزراء نوري السعيد (70 عاما).. كان الإنقلاب دموياً بكل معنى الكلمة، حيث تم سحل جثة نوري السعيد في شوارع بغداد وعلّقت جثة الوصي على العرش وخال الملك الأمير عبد الإله على باب وزارة الدفاع. قام بذلك الإنقلاب عميد في الجيش العراقي هو عبد الكريم قاسم، الذي حكم لفترة قصيرة، ثم قتل هو الآخر عام 1963 على يد إنقلابيين آخرين من عسكريين ومدنيين من حزب البعث، حيث كان معظمهم يعيش في سوريا.. وكان ذلك الإنقلاب أول ظهور لإسم صدام حسين عضو الحزب الذي كان معروفا بالصلابة والعنف، ولكنه لم يكن آنذاك في موقع قيادي متقدم.

لم تدم تلك الفترة الإ تسعة أشهر فقط، حين إنقلب على الحكم عبد السلام عارف، أحد رجالات إنقلاب تموز 1958.. وكان قد لقي حتفه لاحقا في حادث سقوط طائرته الهليوكوبتر بشكل مثير للشكوك بأنه كان حادث مدبر..! وقد خلفه في رئاسة الجمهورية شقيقه عبد الرحمن عارف وهو شخصية ضعيفة ومسالمة قياسا لمن سبقه..

في مطار بغداد القديم، كان بإستقبالنا دبلوماسي من السفارة الأمريكية بصحبة مترجم عراقي شاب ذكر إسمه الأول وهو (عدنان)، حيث أخذنا الى فندق بغداد في شارع السعدون وسط بغداد، وأخبرنا ان لقاءاً قد حدد لنا مع رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز.. في صالة الفندق، ونحن نرتشف القهوة العربية، إلتفت عدنان الينا قائلا: (إن العراق الجديد سوف يدهشكم.. وستعلمون أنّا لسنا جميعا من القتلة، كما حاولت أن تصور ذلك لكم بعض أجهزة إعلامكم..)
الدكتور عبد الرحمن البزاز، كان شخصية هادئة وخجولة، وكان على علاقة صداقة بقيادات بعثية منها السوريان ميشيل عفلق وصلاح البيطار، والأخير كان رئيسا لوزراء سوريا إبان حكم حافظ الأسد لسوريا، وكنت شخصيا قد إلتقيته خلال زيارتي لدمشق في الخريف السابق. كان حديث البزاز عاما تناول فيه الموقف الإسرائيلي وعدائه للعرب، وكذلك عن حركة (التمرد) الكردية في شمال العراق.. هنا طلب (جو) أن نقوم بسفرة الى منطقة كردستان للإطلاع على الوضع هناك.. وافق البزاز ولكنه قال لنا إن ترتيب ذلك سوف يأخذ بعض الوقت..، وإنتبهت الى إشارة من عين عدنان تفيد بأن لا نتكلم في هذا الموضوع..!

لاحقا وبعد خروجنا من مكتب البزاز، قال عدنان: إن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتب لكم رحلة الى الشمال وبسرعة هو رئيس الجمهورية نفسه، والذي سوف تقابلوه غدا على العشاء.. وفعلا أخبرنا الرئيس عارف أن طائرة هليوكوبتر ستقلنا صباح الغد الباكر من بغداد الى شمال العراق مع بعض المرافقين لنا...

في اليوم الثاني، كنا مع الفجر على متن الطائرة التي أقلتنا أولا الى السليمانية، ثم كركوك، ثم دهوك، وأخيرا أربيل، حيث قضينا حوالي ساعتين في كل منطقة تخللتها بعض المحادثات مع مسؤوليين اكراد.. وقد أوضح الجانبين العراقي والكردي عن النية في وقف قريب لإطلاق النار، وإعطاء الكرد حقوقهم.

كنا نعلم يقيناً، أن هناك في الشمال بعض الخبراء الإسرائيليين من عسكريين وأجهزة مخابرات قد أُرسلوا من تل أبيب مع أموال وأسلحة لإظهار نوع من التضامن والتعاطف مع الأكراد وكذلك إبقاء الضغط على حكومة بغداد وهو الأهم.. ولكن لم يتطرق أحد الى هذا الموضوع...!

بعد عودتي الى بيروت.. بدأت أبحث في كتب التاريخ في مكتبة الجامعة الأمريكية، وكذلك التحدث مع خبراء في شؤون العالم العربي.. لقد كان هناك حذر وخوف من إحتمال نشوب حرب جديدة بين إسرائيل والعرب بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وهي الأولى منذ عام 1956، حين تدخل الرئيس الأمريكي آيزنهاور لوقف الهجوم الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي على مصر بسبب أزمة تأميم قناة السويس من قبل الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر. لقد حدثت بعض المناوشات على الحدود الأردنية ـ الإسرائيلية، حين أغار الجيش الإسرائيلي على موقع لفدائيين فلسطينيين، تطلق عليهم إسرائيل (الإرهابيين) ويسميهم العرب (مقاتلون من أجل الحرية)، كذلك حدث نوع من التصادم بين الإسرائيليين والسوريين قرب مقر الأمم المتحدة في الجليل الأعلى ومرتفعات الجولان.. كما كانت هناك عمليات شد وتبادل للتهم بين عبد الناصر وليفي إشكول رئيس وزراء إسرائيل عن حزب العمل.. في ذلك الوقت، تولى موشي دايان وزارة الدفاع الإسرائيلية بما يوحي بقرب سخونة الأحداث...!

أما العراق.. فقد كان بعيدا بعض الشيء من قلب الأحداث ومناطقها الجغرافية الساخنة.. ولكن، ولمعرفة كيف أصبح العراق جزءاً من الحرب التي شنتها إسرائيل صبيحة الخامس من حزيران 1967 على كل من مصر والأردن وسوريا لتتغير بعدها خريطة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، لابد من الرجوع الى الوراء وقراءة الأحداث في المنطقة العربية ومنذ مطلع القرن العشرين...!)

عند حلول القرن العشرين، كان لبريطانيا مستعمرتين رئيسيتين.. الأولى تضمن تجهيز النفط الذي تحتاجه بريطانيا لأساطيلها البحرية، وإدارة عجلات الصناعة.. والثانية لحماية الطرق البحرية، ولاحقا الجوية الى الهند.. العراق كان المفتاح لكلا المستعمرتين (الهند والعراق) بسبب نفطه وموقعه الجغرافي...!

في 1910 بدأ النفط يتدفق من حقل مسجد سليمان في جنوب إيران.. وكانت شركة النفط البريطانية ـ الفارسية، تمثل مورداً إستراتيجياً، بالإضافة الى شركة الهند الشرقية في البصرة ونفوذها ودورها السياسي الإمبريالي لبريطانيا في جيل ما قبل النفط..

البصرة نفسها، تحمل أهمية خاصة لبريطانيا من حيث موقعها الجغرافي، وربط الطرق البرية والبحرية لأوربا والشرق الأوسط بالهند وما وراءها..!

يذكر أنه في عام 1903، كانت الحكومة الألمانية الحليفة لتركيا، قد وقّعت إتفاقا مع الإمبراطورية العثمانية لغرض بناء خط سكة حديد يربط بين برلين وبغداد عبر تركيا وسوريا، ولو قدّر لهذا المشروع، وبحسب النظرة البريطانية، من أن يكتمل، فإنه سيفتح أمام ألمانيا الطريق الى البصرة وبالتالي المحيط الهندي..!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:28 PM

في أب / أغسطس من عام 1914، بدأ دوي المدافع يسمع في أوربا والشرق الأوسط.. لقد بدأت الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة ضد ألمانيا والنمسا والأمبراطورية العثمانية (تركيا) من جهة أخرى.. وفي نوفمبر 1914، نزلت القوات الهندية بقيادة بريطانيا في نفس الموقع تماما الذي نزلت فيه قوات التحالف الأمريكية ـ البريطانية بعد 89 سنة، أي في سنة 2003 في الحرب الأخيرة على العراق، وأعني به ميناء الفاو..! وبعد السيطرة على مدينة البصرة.. ومع بداية عام 1915، بدا الجيش البريطاني بقيادة الجنرال (جارلس تاونسند) بالزحف بإتجاه بغداد..! إلا أنه في منطقة الأهوار، وخصوصا هور الحمّار واجهت تلك القوات مقاومة ضارية من العرب سكان جنوب العراق ومن بقايا الجيش التركي.. مقاومة كانت ربما أكبر بكثير من تلك التي واجهتها قوات التحالف في تقدمها نحو بغداد عام 2003...!

على الجبهة الثانية، وفي نفس السنة 1915، الى الغرب من إسطنبول، قاد الجنرال الألماني (كولمان فان دير) الجيش التركي ضد الجيش البريطاني والأسترالي في هجومهما على (غاليبولي) غرب إسطنبول ومضيق الدردنيل.. وأوقف هجومهما...!

وبالعودة الى العراق.. فإن القوات التركية واجهت القوات البريطانية على مسافة قريبة من بغداد، وبالذات في منطقة (سلمان باك) أو المدائن، حيث تمكنت القوات التركية من دفع البريطانيين مسافة 100 ميل الى الجنوب، وأعادتها الى منطقة الكوت جنوب بغداد، حيث حاصرتها هناك لمدة 140 يوما ـ إستسلم بعدها الجنود البريطانيون وعددهم 13,000 جندي في حالة من التعب والجوع، وكان ذلك في 16 نيسان / ابريل عام 1916.. مما إعتبره البريطانيون أكبر نصر يحققه (المسلمين)..! على الغرب على مدى قرون...!

في ديسمبر 1916، وبعد أن سمع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل، ووزير الخارجية ديفيد لويد جورج، ومن قبل جواسيسهم في المنطقة، أن المقاومة الشيعية من أهل مدينة النجف قاموا بإخراج الأتراك من مدينتهم.. توهم الإثنان أن إستراتيجية جديدة يمكن وضعها موضع التطبيق اساسها النفرة والصراع الطائفي بين السنة والشيعة، وتم إعتماد الجنرال (ستانلي مود) هذه المرة لقيادة الهجوم البريطاني لإحتلال بغداد.. ولكن الحقيقة أنه كان هناك قصور في الرؤيا البريطانية لفهم العقلية العراقية العشائرية على الأرض حين إعتمدوا على الجانب الطائفي كورقة رابحة..! تماما كما وقع في نفس الخطأ الأمريكان عام 2003 حين إعتقدوا أن وجود حكومة شيعية مرتبطة بهم في بغداد هو الضمان لكسبهم القاعدة الشعبية الشيعية.. ولا زالت أميركا تترنح بعد أربع سنوات من حملتها العسكرية...!!

بقيت المقاومة في العراق ضد البريطانيين بكلي طرفيها الشيعي والسني على أوجها في منطقة الأهوار والفرات الأوسط وبغداد وما حولها.. ولكن مع قوة الماكنة العسكرية البريطانية، إستطاع الجنرال مود من دخول بغداد في 15 آذار / مارس 1917.

كان مود وبقية قواته منهكين، كما كان داء الكوليرا قد تمكن من بعضهم.. مما أدى الى وفاة الجنرال مود، ودفن في بغداد...!

أما على صعيد السياسة، فقد صرحت بريطانيا، انها جاءت لتحرر العراق، وتزرع الديمقراطية فيه..! (وما أشبه ما حدث بالأمس بما حدث لاحقا بعد ثمانية عقود ولا يزال يحدث...!!)

في نفس الوقت، وضعت القيادة البريطانية في مصر، خطةُ لإعتماد المقدم لورنس، الذي عرف لاحقا (بلورنس العرب) ليقوم بقيادة حرب عصابات ضد الأتراك في الجزيرة العربية وبالتحالف مع العرب..! ولهذا الغرض، فقد إلتقى لورنس مع بعض المسؤوليين العرب في إجتماع في دمشق عام 1915 لتطمينهم ووعدهم بمنح الإستقلال لدولهم من الإمبراطورية العثمانية.. لقد أطلق على هذا اللقاء (بروتوكول دمشق) وتضمن نوع من الإستقلال للدول العربية، أو بالأحرى بعضها مثل الجزيرة العربية بضمنها اليمن، وسوريا، ولبنان، والعراق..!

ولكن في واقع الأمر فإن البروتوكول لم يكن يمثل وجهة النظر السياسية البريطانية الحقيقية، التي أرادت إستخدام العرب لدحر الأتراك.. والتريث في موضوع منح الإستقلال...!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:29 PM

كنا قد إنتهينا في القسم السابق الى ما يسمى "بروتوكول دمشق" الذي عقد بين لورنس ممثل بريطانيا في المنطقة العربية، وبعض الزعماء العرب، وتضمن في أحد بنوده على منح الإستقلال لبعض الدول العربية، ولكن في حقيقة الأمر فإن السياسة البريطانية كانت تسعى الى التريث في ذلك لوضع خطط التقسيم والخرائط السياسية المستقبلية موضع التطبيق.. وكان من أهم النقاط التي تحرص عليها الإدارة البريطانية هي الجزيرة العربية وإخراج الهاشميين منها لاسيما وأن الشريف حسين لم يكن موضع الثقة المطلقة من قبل البريطانيين، وأصبحوا اكثر ميلا الى آل سعود ذوي المنهج السياسي وحتى الديني المختلف.. أما النقطة الأخرى فهي فلسطين والوطن القومي لليهود..!

في هذا القسم سنكمل سرد سريع للأحداث التاريخية التي تلت الحرب العالمية الأولى 1914ـ 1918 وذلك للوصول الى الأحداث التي تجري في العراق اليوم وإرتباطها بالتاريخ القديم الذي تعرضنا له، وبالتاريخ الحديث الذي مهّد للوضع العربي الحالي...!!

كان بيرسي كوكس، المستشار السياسي البريطاني لدى الحلفاء والذي قام بدخول البصرة عند إحتلالها يعمل مع مستشارته الشهيرة (مس بيل) التي إشتهر إسمها بين العراقيين.. وكانت خططهما تقضي بالعمل على كسب إبن سعود، عدو الهاشميين والوهابي المنهج الديني، الى جانب الحلفاء. ومن أجل ذلك قاما بإرسال موفد من قبلهما هو النقيب (دبليو. إج. شكسبير) لكونه صديقا شخصيا لإبن سعود لغرض مفاوضته.. ولكن الذي حدث أن النقيب شكسبير قتل في الطريق عند مروره وسط إشتباك مسلح بين جماعة إبن سعود ومناوئيه.. فلم تكتمل المهمة وتوقفت في تلك المرحلة عند ذلك الحد..

تلى ذلك، قيام ما يسمى (المكتب البريطاني العربي) والذي كان مقره في القاهرة، وهو مكتب إستخبارات بريطاني، بالإتصال بالهاشميين الذين كانوا يحكمون منطقة الحجاز الغربية وإدارة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وذلك لغرض شن هجوم ضد الأتراك.. وبدأوا بمفاوضاتهم مع الشريف حسين عبر رسائل متبادلة منذ تموز / يوليو 1916.. وكانت رسائل الشريف مع هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر والذي تعهد بمنح الإستقلال للعرب...!

كان طلب الإستقلال كما تقدم به الشريف حسين يتضمن كل المنطقة العربية التي كانت تحت الحكم العثماني من مرسين جنوب تركيا شمالا الى حدود إيران شرقا والبحر المتوسط غربا، والبحر الأحمر والمحيط الهندي جنوبا، بإستثناء عدن جنوب اليمن والتي كانت محمية بريطانية أصلا..

لكن ماحصل عليه الشريف، خصوصا في العراق، هو أقل بكثير مما تم الإتفاق عليه، حيث أعرب مكماهون على أن ولايتي البصرة وبغداد يجب أن تكون ـ في هذه المرحلة..! ـ تحت الحكم البريطاني المباشر.. والإبقاء على التطلع الفرنسي في إدارة سوريا ولبنان.. أما وضع فلسطين فقد أبقي غامضا حيث أن ثلثيها كان لايزال يخضع للولاية التركية بما فيها القدس..!

على إثر ذلك، أعلن الشريف حسين ثورته على الأتراك من الحجاز في 16 حزيران / يونيو 1916 وإحتل مكة.. في وقت كانت بريطانيا ماضية في خططها الخاصة بتقسيم المنطقة، حيث إجتمع مارك سايكس وزير خارجية بريطانيا مع جورج بيكو وزير خارجية فرنسا لوضع الإتفاقية الشهيرة والمعروفة (بمعاهدة سايكس ـ بيكو)، والتي قسم بموجبها الوطن العربي من جنوب تركيا الى سوريا ولبنان والعراق.. فإخذت فرنسا سوريا ولبنان، فيما أخذت بريطانيا ولايتي بغداد والبصرة إضافة الى شرق الأردن وجزء من فلسطين، فيما ترك الجزء الآخر من فلسطين تحت الحماية الدولية...! أما ما يعرف بالسعودية اليوم، فقد أبقيت خارج هذا التقسيم، فيما إحتفظت بريطانيا على إدارتها للمشيخات العربية في الخليج وكذلك على عدن في جنوب اليمن...!

لقد تم دفع الأتراك الذين أنهكتهم الحرب شمالا من قبل الأمير فيصل بن الشريف حسين وتم ذلك بمساعدة (المكتب البريطاني العربي) وبقيادة الضابط (لورنس العرب) وذلك في ربيع عام 1917 أما غزة فقد تمكن الأتراك وبمساعدة الألمان من إستعادتها في حزيران 1917 حيث كانت تحت حكم الجنرال (اللينبي)، والذي حوّل مقر قيادته الى فلسطين.. وتقدم بإتجاه القدس حيث تمكن من إحتلالها في 9 ديسمبر 1917...!

في هذا الوقت كانت الثورة البلشفية في روسيا القيصرية قد إبتدأت.. وقد إكتشف قادة الثورة وهم لينين وتروتسكي في ملفات القيصر السرية، النص الكامل لإتفاقية (سايكس ـ بيكو)، وقاموا بدورهم بتسليمها الى الأتراك، الذين أحاطوا القادة العرب علما بها وببنودها السرية، لافتين نظرهم الى نقطة حساسة، وهي أن الغرب (المسيحي) هو في الحقيقة في حرب مع الأتراك والدول العربية لكونهم (مسلمين).. ومثل هذا الطرح، كان له في وقته أثر فاعل لطبيعة المرحلة.. بالرغم من أن ذلك لم يكن الحقيقة بأكملها، بل كانت هناك المصالح الإمبريالية المتطلعة الى موقع المنطقة الجغرافي ومواردها البترولية..

حين إستفسر الشريف حسين من البريطانيين عن هذا الموضوع طالبا بعض الإيضاحات عن البنود السرية للمعاهدة، أخبره البريطانيون أن معاهدة سايكس ـ بيكو ليست أكثر من إتفاق وبروتوكول دبلوماسي وليست معاهدة ملزمة للطرفين...!!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:30 PM

ولكن سرعان ما سقطت الحجة البريطانية في 2 نوفمبر 1917، حين نشرت رسالة وزير الخارجية البريطاني (آرثر بلفور) المرسلة الى زعيم الحركة الصهيونية (اللورد روتشيلد) وبما عرف لاحقا (بوعد بلفور). تقول الرسالة (إن حكومة جلالة الملك "بريطانيا" تنظر في موضوع تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين) وتضيف الرسالة (ولكن لا يجوز القيام بأي تعد على الحقوق المدنية أو الديانات الأخرى غير اليهودية، أو أن تؤثر على حقوق اليهود الذين يعيشون في أي بلد آخر..)

هذا الوعد هو الذي غيّر خريطة الشرق الأوسط بشكل جذري.. وكان السبب في إشعال الحروب في المنطقة، وعقد إتفاقيات السلام لاحقا، والتي لازالت بدورها تترنح حتى يومنا هذا.. إلا أن الأهم أن بعد هذا الوعد أن الطريق قد فتح أمام شريك جديد وهو الولايات المتحدة الأمريكية..!

قام الرئيس الأمريكي آنذاك (وودرو ولسن) بإدخال الولايات المتحدة في الحرب الى جانب الحلفاء وتحت شعار (الحرب لإنقاذ الديمقراطية)...!! ووضع نقاطه الأربعة عشر التي عرفت بمشروع ولسن وذلك في مؤتمر باريس في يناير عام 1919..

لقد حاول ولسن طمأناة كل من بريطانيا وفرنسا الى موقفه الحيادي تجاه صراعهما الإمبريالي على إقتسام المنطقة وحاول التقريب بين وجهات نظرهما، وذلك بعد أن كانت فرنسا تشكو من أنها لم تأخذ ما فيه الكافية من دول المنطقة.. فتم إقناع الفرنسيين بالإبقاء على سوريا ولبنان، فيما أبقت بريطانيا على العراق وشرق الأردن وفلسطين ومصر والجزيرة العربية..!

في مؤتمر باريس، وقف الأمير فيصل (الملك فيصل الأول لاحقا) ليلقي كلمته التي إستمرت 20 دقيقة، ويقف خلفه (لورنس العرب)...! حيث إعتبر الأمير فيصل أن نقاط ولسن هي بمثابة إعلان لدول مستقلة في المنطقة العربية...! هذا في الوقت الذي كان الدبلوماسيين الفرنسيين والبريطانيين يجلسون في غرفة مغلقة لوضع خرائط الحدود لتلك الدول، والتي رسمت خريطة الشرق الأوسط آنذاك....! هذا بالطبع فيما عدا فلسطين والتي كان البريطانيون قد طمأنوا زعماء الصهيونية بشأن مستقبلها...!!

أما ما يخص العراق، فإن بريطانيا إستثنت الموصل تاركة إياها بشكل (مؤقت) لسوريا، أي للفرنسيين بما يمكن تشبيهه (بحقنة مخدرة)، وركزوا على السيطرة التامة على كل من ولايتي بغداد والبصرة...!!

بدأت بريطانيا بحملة (تحرير) البصرة وبغداد عسكريا.. تماما كما قيل في عام 2003 من قبلهم ومن قبل الأمريكان...!

واجهت بريطانيا مقاومة شرسة من الآف الجنود الأتراك الذين بقوا بعد إندحار الجيش التركي، وتماما أيضا كما أعاد التاريخ نفسه في 2003، حين واجهت بقايا الجيش العراقي كل من بريطانيا وأميركا.

في 1920، وكما في 2003، قامت عشائر شيعية عربية في جنوب العراق بالتصدي للبريطانيين كما قام العرب السنّة في مناطق أخرى بتأسيس جمعيات سرية للمقاومة. إنضوى الشيعة تحت ما يسمى (جمعية النهضة الإسلامية) فيما إنضوى السنّة تحت ما سمي (جمعية حرس الإستقلال) كان لكلا الفريقين وجهات نظر مختلفة، ولكنهما من حيث المبدأ متفقين على ضرورة إخراج المحتل البريطاني..!

لقد كانت ثورة العشرين، إنتفاضة عشائرية دينية ووطنية، أكثر منها سياسية أو طائفية.. وقد وضعت البريطانيين وقوتهم على محك الإختبار.. إلا أن البريطانيين ردّوا على ذلك بقسوة حيث إستخدموا طائراتهم الحربية، وضربوا القبائل بالقنابل، وحتى أنهم إستخدموا غاز الخردل، تماما كما فعلوا في الهند قبل سنة واحدة من ذلك التاريخ وفي منطقة (البنجاب)

لقد قال وزير الحرب والطيران البريطاني آنذاك ونستون تشرتشل (لقد كان ضرب الحركة يشكل خسارة وكلفة أقل بالنسبة لنا وذلك بإستخدام الطائرات والغاز، ولم يتطلب منا الأمر على الأرض سوى 2000 جندي بريطاني، مضافا اليهم 10,000 جندي هندي!!)

نفس الأسلوب تقريبا تم تطبيقه من قبل الجنرال (كولن باول) وزير الدفاع الأمريكي في إحتلال العراق عام 2003..! بإستخدام اليورانيوم المنضب، والقنابل العنقودية، والغازات السامة في جنوب العراق وفي بغداد...!!

نعود الى بيرسي كوكس، الذي قام بموافقة الخارجية البريطانية، ووزيرها آنذاك لورد كيرزن بإعلان العراق دولة ملكية، وأختار البريطانيون الأمير فيصل الذي كان الفرنسيون قد عزلوه بعد تنصيبه ملكا على سوريا، ملكا على العراق تحت إسم (الملك فيصل الأول)، والذي وقع على الفور وثيقة تعاون مع البريطانيين ومنحهم سلطات واسعة لإدارة العراق...!
ولو أردنا أن نقفز من تلك الحقبة الى عام 2003، فقد قام الأمير الحسن بن طلال شقيق الملك الراحل حسين والذي كان ولي عهده، قام مع إبن عمومته الشريف علي بن الحسين المطالب بعرش العراق والذي إستلم مقعدا في إدارة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بمحاولة للمراهنة على خلافة صدام حسين..!

لقد صرح الأمير حسن في تموز / يوليو 2003، أي بعد ثلاثة أشهر على سقوط نظام صدام حسين، في مقابلة صحفية مع جريدة (نيويورك تايمس) بالقول: (إن ما كان يعتقده العرب حول النظام الملكي بقيادة الملك فيصل الأول من أنه نظام شكلي تابع لبريطانيا غير صحيح. كان في الحقيقة نظام يقوده رجل يتسم بالحكمة، واستطاع توحيد العراقيين على المحبة وروح العمل المشترك بالرغم من وجود قوة عظمى آنذاك وهي بريطانيا.. تحت حكم فيصل الأول إستطاع العراقيون موحدين في بناء دولتهم بغض النظر عن إنتماءاتهم المذهبية أو القومية، شيعة وسنّة وكلدان وصابئة وأكراد وتركمان.. وأصبح العراق، وهو أول دولة إنضمت الى عصبة الأمم، نموذجا للدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها...)

وبدلا من أن يطالب الأمير حسن وبشكل مباشر بإعادة النظام الملكي الى العراق، وهو ما كان يلقى التأييد من بعض أجهزة الإعلام الإسرائيلية، فإنه قال: (يمكن للعراق أن يصبح مرة ثانية نموذجا لدولة نامية إذا ما دعم إقتصاديا وسياسيا.. ووضع مواطنيه الجيدين في قلب صانعي السياسة هناك وهو نفس الإرث الذي تركه فيصل الأول حيث مكّن العراقيين من المشاركة فعليا في صنع مستقبلهم).

على أية حال، فإن بعض المؤرخين الآخرين لديهم نظرة أقل إشراقا لتقييم فترة حكم الملك فيصل الأول، ولو أن أكثرهم يتفق على أن فترة حكمه التي إستمرت حتى عام 1933 حين توفي فجأة وخلفه إبنه الملك غازي الأول هي أكثر الحقب نجاحا في تأريخ الدولة العراقية الحديثة من ناحية الإدارة الحكومية بالرغم من التأثير البريطاني المباشر في تلك الفترة..

بدأت بوادر ضعف الإدارة البريطانية تظهر في العراق تدريجياً.. والى ذلك أشار (لورنس) في مقال كتبه في صحيفة (الصنداي تايمس) اللندنية في 22 آب / أغسطس عام 1920 حيث قال: (يبدو أن البريطانيين في فخ صعب في العراق، عليهم "الهرب" منه بشرف وحفظ ماء الوجه. لقد أصبح الوضع أسوأ مما كان عليه من سوء تحت النظام التركي...! لقد إعتقلوا حوالي 14,000 شخص، ويقومون بقتل 200 عربي كمعدل سنويا لغرض فرض السلام...! لقد أبقينا هناك 90,000 رجل مع طائرات وناقلات وزوارق حربية، وقد قتلنا ما يقارب 10,000 عربي في الإنتفاضة (ثورة العشرين)...! الى متى سوف ندفع ملايين الجنيهات لنبقي الآلاف من الجيش الإمبراطوري، وندع عشرات الآلاف من العرب يعانون من أجل مصلحة الإدارة البريطانية...؟!)

في عام 1930، وقعت بريطانيا مع العراق معاهدة أمدها 25 عاما، تقضي بالتشاور فيما بينهما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وحصلت بريطانيا بموجبها على قواعد عسكرية في العراق، والتعهد بالقيام بتدريب الجيش العراقي.

لقد إستطاع البريطانيون وبإستخدام القوة العسكرية والجوية من إخضاع العشائر في العراق، والسيطرة على شيعة النجف وكربلاء والفرات الأوسط، كما تم رسم الحدود العراقية ـ السعودية.. إلا أن المشكلة التي بقيت قائمة، هي مطالبة تركيا الجديدة (الجمهورية) بقيادة كمال أتاتورك بتنفيذ معاهدة (لوزان) للسلام عام 1923، وإلحاق الموصل بتركيا.. وحيث أن البريطانيين كانوا قد علموا بوجود النفط في منطقة الموصل (عين زالة) وما حولها، فقد إستمروا بالمماطلة، كما فعلوا مع الفرنسيين.. وبعد سنتين من المفاوضات والضغوط الدولية، قبلت تركيا مرغمة على إلحاق (ولاية) الموصل بالعراق، وذلك في عام 1925


Mr.who 22 - 1 - 2012 06:30 PM

بالعودة الى أميركا، وتطلعاتها، وكما أشرنا سابقا، فقد كان رئيسها ولسن، والذي هو أصلا بروفيسور في القانون، وحاكما لولاية نيوجيرسي قبل أن ينتخب رئيسا عام 1912 (جددت ولايته عام 1916) غير متحمس أول الأمر في دعم قوات الحلفاء والإشتراك في الحرب، بل حاول إيجاد وسائل لإيقافها.. ولكن قيام غواصة ألمانية بإغراق سفينة تجارية أمريكية في مياه المحيط الأطلسي، جعلته يتدخل في الحرب ضد ألمانيا وتركيا.. وبعد إنتهاء الحرب، كان لابد لأميركا من الحصول على (الغنائم)، وربما من أهم تلك الغنائم (نفط العراق)...!، لكن بريطانيا إستمرت بضغوطها وانتهت الى تقسيم نفط العراق بينها وبين أميركا وهولندا وفرنسا ذات الحصص الأقل، فيما أبقت شركة (نفط العراق ـ آي بي سي) سيطرتها على 23 % وخصوصا حقول نفط كركوك التي بدأ إنتاجها عام 1927 وحقول الموصل، إضافة الى حصصها في حقول الجنوب بما كان يعرف بشركة النفط البريطانية ـ الفارسية، والتي تحولت الى إسم (بريتش بتروليوم).. فيما أطلقت يد أميركا في نفط السعودية والكويت وبقية المشايخ العربية شرق الجزيرة...!

على الصعيد السياسي، لعب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل، ومن خلال كافة المناصب التي شغلها ومنها وزير الحرب ووزير المستعمرات دوراً في وضع اللمسات الأخيرة في تقسيم المنطقة العربية، حيث أبقى فرنسا في كل من سوريا ولبنان وبعيداً عن فلسطين.. وكذلك منح شرق الأردن الى الملك عبد الله الأول وإبقائها تحت الإدارة البريطانية، ثم لعب الدور الكبير في تنفيذ وعد بلفور من خلال صلته الوثيقة بتيودور هيرتزل الأب الروحي للصهيونية العالمية، ومن المؤمنين بإحياء (مملكة إسرائيل) التوراتية..!

مع كل ذلك.. بقيت العين الإسرائيلية على العراق كجزء من تاريخها (الديني والقومي).. وكانت بريطانيا، ثم اميركا بعد ذلك على إحاطة تامة بإبعاد المخطط، ومن أكبر حلفاء إسرائيل وأحلامها في العراق والمنطقة، والذي أُبتدأ بتنفيذها عام 2003، وبعد ألفي عام من سقوط مملكة إسرائيل...!

يقول الكاتب والصحفي جون كولي: في يوم غائم من شهر كانون الثاني / يناير 1969، كنا حوالي 15 صحفيا في الباص الذي أقلنا الى فندق بغداد وسط العاصمة العراقية لقد جئنا لتغطية خبر الإعدام العلني في 27 من الشهر، والذي عرضه تلفزيون بغداد ويظهر 14 جثة معلقة في ساحة التحرير، مركز بغداد. من بين هؤلاء 9 من اليهود العراقيين.. وقد تم تنفيذ حكم الإعدام بهم لتجسسهم لصالح إسرائيل.. واضافت بعض وسائل الإعلام "ولصالح الولايات المتحدة".. وحين سألنا عن التفاصيل.. قام أحد الأشخاص بالإعلان عن طريق المايكروفون في الباص "أنه بإمكاننا الذهاب الى أي مكان نشاء.. والتكلم مع أي شخص نرغب بالكلام معه..!". عندها طلبنا أن نذهب الى منطقة يهودية في بغداد.. ومضى الباص بنا في شوارع فرعية ضيقة، وأخيرا توقف قرب كنيسة يهودية في إحدى المناطق، وسمح لنا بالدخول الى الكنيسة، حيث وجدنا في الداخل أحد الحاخامات اليهود وكان في الثمانينات أو ربما التسعينات من عمره ويقف الى جانبه شاب يرتدي على رأسه القلنسوة اليهودية، وقام بترجمة ما كان يقوله الحاخام الذي تكلم باللغة العربية، ومما قال: "أنظروا.. نحن أبقينا على الكنيسة.. ونمارس عبادتنا كبقية الأديان وبحرية".

كان يقف خارج البناية أحد ألأفراد ويبدو أنه من جهاز المخابرات يرتدي بدلة سوداء انيقة، ويحمل بيده جهاز راديو للإتصالات.. ولاحظنا أنه يحمل تحت جاكيته مسدسا أو ربما رشاش صغير.. ولا نخفي، أننا كنا نتوقع في تلك الظروف أي شيء من الإعتقال الى ما هو أسوأ..!. وفجأة تكلم الينا ذلك الشخص قائلا: أننا هنا في دعوة رسمية.. كمن يحاول طمأنتنا.. ثم بدأ يتكلم بجهاز الراديو، ثم ناوله الى ضابط كان يقف قريبا منه، وكنا نسمع الضابط يردد عبارة "نعم سيدي.. نعم سيدي.."، ثم اشار الينا بيده أن نعود الى الباص، الذي تحرك بنا..

كنا على أحد الجسور التي فوق نهر دجلة حين أخذت الكاميرة التي كانت معي، ومن شباك الباص، إلتقطت صورة للنهر.. وكان ذلك كما يبدو خطأ كبير إرتكبته ولم أحسب حسابه.. إذ فجأة سارت بمحاذاة الباص سيارتين من نوع "بيجو"، يظهر أنهما كانتا مرافقتين لنا، ثم سبقتنا إحداهما ووقفت أمام الباص بشكل متقاطع، حيث وقف الباص في منتصف الجسر.. ثم قام مرافقنا بالتوجه نحوي قائلا "الكاميرة.. الكاميرة.." ماداً يده ليأخذها. هما إلتفت إلي زميل لي وهو "أريك بيس" من صحيفة نيويورك تايمز ليقول لي: "إعطه الكاميرة.. إنه يظن أننا جواسيس نلتقط بعض الصور الممنوعة.."، وقمت بتسليمه الكاميرة، ثم بدأ يتكلم بجهاز الراديو الذي معه.. وبعد دقائق، قام بفتح الكاميرة ليأخذ الفلم من داخلها، وأرجعها لي.. ثم قال لنا أننا سوف نذهب الى محطة التلفزيون..

بعد فترة وجيزة وصلنا الى المحطة، حيث تم جلوسنا في صالة، وكانوا يقدمون لنا الشاي، إلا أنه لم يكلمنا أحد.. ولاحظنا أن مرافقنا إختفى في إحدى الغرف الجانبية.. بقينا هناك لمدة ساعتين، ثم بدأ الظلام مع حلول المساء، عندها قدم أحد الأشخاص وأخبرنا أننا سنذهب الى وزارة الإعلام حيث سيتم فحص الصور والأفلام التلفزيونية التي إلتقطناها، وسيتم إرسالها عبر الوزارة كما تقتضي التعليمات.. وذاك ما حدث حيث رجعنا الى الفندق، لنغادر من مطار بغداد صباح اليوم التالي...!

بعد 34 عاماً على هذه الرحلة، وكانت بغداد قد سقطت تحت الإحتلال الأمريكي.. كانت لا تزال هناك جالية يهودية بسيطة لا تتعدى 26 شخصا من بينهم أبن الحاخام الذي قابلناه عام 1969، وكان هو المسؤول عن الجالية...!

ولكن أيضا، علمنا، أن اليهود، وفي فترة ما بعد الإحتلال الأمريكي... بدأوا بشراء الأراضي والأملاك من دور وعمارات في بعض مناطق بغداد، ومن خارج العراق وبترتيب ومساعدة أشخاص كانوا في السلطة الحكومية العراقية في بداية فترة الإحتلال...!!!

لقد بدأ مجدداً الصراع التلمودي الإسرائيلي القديم مع العراق....!!!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:30 PM

هنا لابد من الرجوع مجددا الى فترة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، لنواصل الأحداث في محاولة لربط الماضي بما يحدث اليوم.. حيث كانت يومها فلسطين تحت الإدارة البريطانية المباشرة.. والعراق الملكي تحت الحماية البريطانية..! ولفهم ما حدث آنذاك وما حدث لاحقا، سنلقي أولا نظرة على حياة اليهود العراقيين.

يؤكد بعض المؤرخين أن عدد اليهود في بغداد أو (ولاية بغداد) العثمانية في القرن التاسع عشر، كان يوازي عدد المسيحيين، ويقترب من عدد المسلمين. وكما كان حال جميع الأقليات العراقية مثل الكلدان والآشوريين واليزيديين، فإن اليهود أيضا عاشوا معهم وجنبا الى جنب مع المسلمين ومع العرب أو في مناطق الكرد، وكانوا عائلات معروفة، ويتمتعون بحرياتهم الدينية والإجتماعية والإقتصادية التجارية، ويطلق عليهم بالعربية (الملّة) كما هو الحال مع المسيحيين، وذلك للتعبير عن الديانة

يعتبر اليهود العراقيين أنفسهم ورثاء طبيعيين لليهود البابليين القدامى، وخلفائهم في العادات والتقاليد.. وغالبا ما كانوا متقدمين في الأعمال التجارية والمصرفية، كما في المهن التخصصية والحرفية، وظهر منهم العديد من الأطباء والمحامين ورجال الأعمال الكبار.

يقول الباحث (حنا بطاطو)، أنه في عام 1927 عندما أُسست غرفة تجارة بغداد، كان هناك من الأعضاء المؤسسين شركات بريطانية وفرنسية، إضافة الى التجار العراقيين.. وهؤلاء أُطلق عليهم "أعضاء الدرجة الأولى"، وذلك لكون رأس مال كل منهم لا يقل عن 27,500 دينار عراقي.. وكان هذا مبلغا كبيرا آنذاك...!

وفي عام 1939، أي تاريخ الحرب العالمية الثانية، كان عدد أعضاء الغرفة 498 عضواً، منهم 215 يهوديا.. ويضيف بطاطو عن تقرير بريطاني، أن اليهود في البصرة كانوا يقودون العمل التجاري أكثر من المسلمين أو المسيحيين، ومع حلول عام 1920، بدأوا بتوسيع تجارتهم من العراق الى إيران، وكانوا منافسين حقيقيين للتجار والشركات البريطانية التي قدمت الى العراق بإستيرادهم البضائع البريطانية من بريطانيا ومن الهند، ثم بدأوا بإمتلاك شركاتهم الخاصة في كل من بريطانيا والهند ويسجل لنا أن أحدهم وهو (عزرا ساسون) كانت أملاكه تقدر في تلك الفترة بمليوني دولار.. كما كان هناك أيضا من التجار الكبار (زيون بخّور) و(عزرا صالح) اللذان يملكان شركات في بومبي في الهند وفي لندن..

لقد كانت عائلة ساسون من أغنى وأقوى العوائل اليهودية ماليا وتجاريا، وقد اطلق بعضهم عليها (روتشيلد العراق).. مؤسسها هو داود ساسون عام 1850 حيث كان منذ ذلك الوقت يتاجر مابين العراق والهند واليابان واوربا، وعندما توفي في 1864، تولى ورثته إدارة إمبراطوريته التجارية ووسعت لتغطي سنغافورة والشرق ألأقصى، ودخلت مجال الصيرفة والبنوك.. ولعل من بقايا هذه الشركات في وقتنا الحاضر الشركة البريطانية المعروفة لمستحضرات التجميل وصالوناته وهي شركة (فيديل ساسون).. أما سفير أسرائيل في اليونان وحتى عام 2005 فهو أحد الأحفاد ويدعى ديفيد (داود) ساسون..

في فترة الإحتلال البريطاني للعراق، عمل اليهود بالتنسيق مع المسلمين وغيرهم من التجار العراقيين وبقوا مبتعدين عن الأمور السياسية الخاصة بالبلد في ظاهر حالهم ولهذا فإنه عند نشوء المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية، لم تتأثر هذه العوائل بإنعكاسات هذه المشكلة في بداياتها في الثلاثينات والأربعينات...!

شهدت فترة الثلاثينات في العراق إضطرابات سياسية، وظهور تكتلات وطنية وقومية. من أبرز الأحداث آنذاك كان إنقلاب (بكر صدقي)، ثم موت الملك غازي في حادث إصطدام سيارته وبشكل غامض.. ثم وصول مفتي القدس أمين الحسيني الى العراق بعد أن كان قد نفاه البريطانيون من فلسطين الى سوريا.. ثم بدأت حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، حيث قام بعزل عبد الإله الوصي على عرش العراق بعد موت الملك غازي، الذي ترك ورئيس وزرائه نوري السعيد الى خارج العراق.. حينها نزلت القوات البريطانية في البصرة مجدداً، وتحركت قوات أخرى من غرب العراق وتم القضاء على الحركة الإنقلابية وأعدم أبرز قادتها..

يقال أنه تم قتل 100 يهودي خلال الإضطرابات التي وقعت عند حدوث إنقلاب رشيد عالي.. وسرعان ما إلتقط ذلك (ديفيد بن غوريون) أحد زعماء الصهيونية العالمية وأول رئيس وزراء إسرائيلي ليطالب بإجلاء اليهود من العراق حفظاً على سلامتهم..! وهو ما كان قد تقرر سابقا في المؤتمر الصهيوني بالعمل على فتح الهجرة الى فلسطين وتشجيعها بالإغراءات أو بالقوة.. والى ذلك يشير (شلومو هليل) العراقي الأصل ومؤلف كتاب (عملية بابل) في مذكراته..!

وفعلا، وبعد أن تم تأسيس ميليشيات (الهاغانا) الصهيونية في فلسطين عام 1942، بدأت الصهيونية العالمية تركز على يهود العراق والدول العربية الأخرى، والذين كانوا في الحقيقة غير متحمسين لتلك الهجرة..! وبدأت الهاغانا بتهريب وكلائها الى العراق خصوصا لتحقيق هذا الغرض، ومن أبرز أولئك الوكلاء ثلاثة هم: شاؤول أفيكار، أنزو سريني، سماريا كاتمان.. الذين وصلوا الى العراق من فلسطين، في مهمة وضع نواة للحركة الصهيونية خصوصا بين الشباب اليهودي...! ووضعوا خطة لتهريب الأسلحة اليهم عبر شرق الأردن وتركيا وإيران، كما بدأوا بوضع برامج تدريبية لهم.. وفي عام 1943، أدخلوا نظام الإتصالات بالراديو اللاسلكي وبرسائل سرية مشفرة مع تنظيم الموساد الأسرئيلي في تل أبيب الذي كان يتولى عمليات تهجير اليهود وتوطينهم في فلسطين...!

بحلول عام 1951، كانت النواة التي بدأها الوكلاء الصهاينة الثلاثة في العراق عام 1942، قد وصلت الى 16 فرعاً وحوالي 2000 عضواً، منهم 300 مجند قد أكملوا تدريبهم العسكري..!

لقد أوضح شلومو هليل دوره الرئيسي في هذه العملية والتي أطلق عليها (عملية عزرا ـ ناحيميا) وهو الإسم الرمزي المقتبس من التوراة، فيقول أنه كان يتحرك مابين فلسطين والعراق، وبالطائرة أحياناً، وأحياناً بإرتداء الزي العربي (العباءة والعقال) ليتنقل بالطرق البرية مابين فلسطين والعراق وتركيا وإيران، في حين كان قد تم إنشاء محطة مخابراتية للموساد في بغداد نفسها تحمل أسماء رمزية ثلاث هي (ديكيل) و(أورين) و(بيرمان).. أما في طهران فكانت المحطة الأكبر وتحمل أيضا أسماء رمزية ثلاثة هي (كولدمان) و(نوري) و(ألون).. هذه الأسماء كانت تستخدم في الشفرة اللاسلكية بين بغداد وطهران وتل أبيب..!

كان الإسرائيليون يستخدمون جبال شمال العراق للتنقل الى إيران وبمساعدة من الأكراد الذين كانوا قد بدأوا علاقات حميمة مع الإسرائيليين...!

قامت الخلايا الإسرائيلية بنقل اليهود من عبادان وخرمشهر وديسفول وكرمنشاه الى طهران أولاً، ثم عن طريق البر الى تركيا، ومنها الى فلسطين.. وأحيانا إستخدام الطريق الجوي المباشر من طهران الى فلسطين.

عمل شلومو هليل في بغداد في 1947 و1948 و1950، وفي طهران 1949، وعمل على تنظيم ترحيل اليهود. وقد تمّ إختيار منطقة (بيت سين) في فلسطين لهبوط الطائرات القادمة من طهران او أماكن أخرى لكونها بعيدة عن مقرات وتواجد القوات البريطانية..!

في 1950 منح الموساد شخصية جديدة لشلومو هليل وهي (تشارلس أرمسترونغ) من (مؤسسة الشرق الأدنى للنقل الجوي)...!

في كتابه الموسوم (عملية بابل) وصف لنا شلومو هليل كيف أن (تشارلس أرمسترونغ)..!! قام في 1949 بعقد صفقات ناجحة مع نظام نوري السعيد على شكل إتفاق لمدة سنتين يقوم خلالها بنقل اليهود العراقيين جواً من بغداد الى إسرائيل.. وقد إستطاع نوري السعيد من تمرير قانون في البرلمان العراقي يسمح لليهود العراقيين بمغادرة العراق (إذا هم شاءوا ذلك..!)، وفي حالة سفرهم تسقط عنهم الجنسية العراقية، وتجمد أموالهم في العراق...!، وقد حدد شهر آذار 1951 موعداً لإنتهاء العمل بهذا القانون...!

لقد كان القانون بالطبع يخدم الإسرائيليين الذين نجحوا من خلاله في ترحيل 100،000 يهودي عراقي الى فلسطين، ومعظمهم من المثقفين والمهنيين والحرفيين من الذين تحتاجهم فعلا (دولة) إسرائيل وهي في بداية تأسيسها.. كان هذا في الوقت الذي كانت فيه حكومة نوري السعيد قد قررت إرسال الجيش العراقي ليقاتل الإسرائيليين غرب نهر الأردن (الضفة الغربية حاليا) مع بقية الجيوش العربية....!!

أما (نعيم غيلادي) اليهودي العراقي المولد، والذي إنتقل بعد ذلك للعيش في الولايات المتحدة، فيتحدث لنا في عام 1998 من أميركا حيث يقيم، عن عائلته (هارون) والتي تعتبر من العوائل المحافظة الدينية في العراق، وكيف أنهم أعادوا بناء قبر النبي (أزيكيل) او (ذي الكفل) قرب آثار بابل القديمة.. ويذكر أنه شخصيا عمل مع نواة الموساد في العراق عند تأسيسها وأنه قد قبض عليه في عام 1947 وهو في سن 18 من قبل الشرطة السرية في بغداد عندما كان يحاول أن يهرّب شاب يهودي في مثل عمره آنذاك. وعند التحقيق معه لمعرفة بقية أعضاء شبكته، تم نزع ملابسه وإيداعه غرفة باردة في السجن في شهر كانون الثاني / يناير، وكانوا يصبّون عليه الماء البارد، ثم تم تحويله الى سجن (أبو غريب) سيء الذكر وقت صدام وبعد الإحتلال الأمريكي. ويكمل أنه تمت محاكمته وحكم بالإعدام.. ولكن تم تهريبه من السجن بتزويده بملابس عسكرية، وتم إيصاله أخيراً الى إسرائيل في مارس 1950.

في إسرائيل تم تغيير أسمه الى (هلاسكي) ليصبح إسمه مشابهاً لأسماء اليهود (الأشكيناز) أي اليهود الغربيين القادمين من أوربا، حيث كانت هناك تفرقة ولا زالت بين اليهود الشرقيين والغربيين داخل إسرائيل.. مما جعله يترك الى الولايات المتحدة.. إلا أنه يشير أيضا الى تبوأ الكثير من اليهود العراقيين لمناصب رفيعة منهم على سبيل المثال وزير الدفاع الإسرائيلي في حكومة أيريل شارون (شاؤول موفاز)، وهناك أيضا ديفيد ليفي، ويهودا شينهاف الذي ينحدر من عائلة (المعلم) اليهودية العراقية، ووالده صالح شينهاف كان من التجار العراقيين، وقد إستوطنوا في صحراء النقب مع 40 يهودي عراقي آخر، وأطلقوا على أنفسهم (فريق البابليون). يهودا هذا قتل عام 1991 وعمره 62 عاما في أحد الصواريخ التي أطلقها صدام حسين على تل أبيب.

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:31 PM

بالعودة الى خروج أو إخراج اليهود العراقيين من العراق حسب الخطة الصهيونية، فإن كافة المستندات التي كتبت ونشرت من قبل كتاب سياسيين يهود تؤكد على حقيقة دفع اليهود الى الهجرة الى إسرائيل، من هؤلاء نعيم غيلادي نفسه، الحاخام المير بيرغر، مردخاي بن بورات، حاييم شماش، موشي باغنو.. وغيرهم. كل هؤلاء يؤكدون أن الموساد وعملائها من النواة التي أسست في العراق في الأربعينات، كانوا وراء أعمال العنف والتفجيرات التي إستهدفت المحلات والممتلكات والأحياء والكنائس اليهودية في العراق، إضافة الى دور السينما ومركز ثقافي ومكتبة، لغرض إرهابهم وإجبارهم على الهجرة، وقامت ماكنة الدعاية الصهيونية النشطة بإلقاء تبعة ذلك على المتطرفين المسلمين والقوميين العرب والوطنيين العراقيين الذين هم ضد اليهود وإسرائيل...!.

يؤكد (ليا كوهين) أحد الكتّاب اليهود، أن ما حدث من تفجير للكنيس اليهودي في السليمانية بما فيها من يهود أكراد كان من تدبير وتنفيذ الموساد. ومثل ذلك ما حدث في تفجير مصرف الرافدين ومصارف عراقية أخرى وكذلك إدارات صحف في بغداد والبصرة.. لقد بلغ عدد اليهود الذين تركوا نتيجة أعمال العنف هذه 12،000 يهودي وهم ما كانوا يمثلون 10% من الجالية اليهودية العراقية!

وإذا ما ربطنا كل ذلك بالقانون العراقي الذي كان قد صدر في عهد نوري السعيد والخاص بالسماح لليهود العراقيين بالهجرة.. وتجميد أموال من يهاجر منهم.. علمنا عمق تأثير تلك الخطوة من خلال ما تركته لدى اليهود من شعور بالغبن والظلم.. وهو ما تم إستثماره بدرجة عالية من قبل الإعلام الصهيوني، ومحاولة ربطه (بمآسي) اليهود عبر التاريخ في العراق في زمن الآشوريين والبابليين.. وتوثيق ذلك بالمصادر التوراتية التي يؤمن بها المجتمع اليهودي والغربي..

لقد كان ديفيد بن غوريون وهو أحد أعمدة الصهيونية العالمية، وراء المخطط لإبقاء الباب مفتوحا للتطلع على الإرث اليهودي في العراق غبر آلاف السنين، ونقل ذلك من جيل الى آخر.. وهو ما بدأ تحقيقه بعد سقوط بغداد عام 2003، وإنتهاء صدام حسين، الذي لم يكن هو نفسه بمنأى عن تفعيل ذلك خلال سنوات حكمه كما سنرى في المستقبل...!!

أميركا..إسرائيل.. إيران.. وأكراد العراق..!!

بعد سقوط بغداد بيد القوات الأمريكية في ربيع 2003، وبعد وقت قصير من ذلك، صرح مسؤول كبير في الحزب الديمقراطي الكردستاني، بما أدخل الفرح على قلب بوش وإدارته من المحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاغون.. وهذه ليست المرة الأولى التي يعرب فيها الحزب عن تقربه وتمسحه بالسياسة الأمريكية والسياسيين الأمريكان.. ففي عام 1972، قال الملا مصطفى البرزاني نفسه (أنه يرحب بالوجود والتأثير الأمريكي، وهذا يمكن أن يحدث إذا ما إمتدت القوة الأمريكية لتشمل كردستان..)

أما التصريح الذي اشرنا اليه، والذي أطلقه براسيك نوري شاويس، مساعد مسعود البرزاني، وهو مهندس خريج ألمانيا.. والذي أطرب تصريحه آذان بوش فهو (يجب على الأمريكان البقاء في العراق لإعادة الأمن وجعل الإدارة والمصالح الحكومية تعمل بشكل صحيح من جديد وتعيد البناء.. ويمكن بعد ذلك للقوات الأمريكية ترك العراق ولكن عليها الإبقاء على قواعد عسكرية لها في العراق.. نحن نحتاج الى تحالف مع الأمريكان...!)

الحديث عن القواعد العسكرية الدائمية في العراق لقي الرضا والقبول في إسرائيل.. الحليف القوي لأميركا في المنطقة، والمساعد الكبير لأكراد العراق...!

في عام 1973، أعرب الجنرال (عزرا وايزمان) قائد القوة الجوية الإسرائيلية، والذي أصبح لاحقا رئيساً لإسرائيل، في كلمة له مع بعض كبار ضباطه عن أمله في (أن يرى قواعد لإسرائيل على الفرات...!)

وفي عام 2003، عندما رفض البرلمان التركي منح أميركا حق إستخدام الأراضي التركية لمهاجمة العراق، وهو الطلب الذي كان قد تقدم به بول ولفيتز مساعد رونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وربطه بعرض مغر بمنح قروض بمليارات الدولارات لتركيا، سارع كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، والإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، بالترحيب بالطلب الأمريكي.. ولهذه المبادرة خلفية تاريخية تجمع كل من أميركا وإسرائيل والأكراد العراقيون.!

وقد إنضم الى هذا التحالف عام 1958 شاه إيران محمد رضا بهلوي...!

في بدايات القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى، كان بعض السياسيين البريطانيين ومنهم ونستون تشرتشل ينظرون الى موضوع كردستان بإمكانية جعلها محمية بريطانية أخرى في المنطقة مثل مصر وفلسطين والعراق نفسه.. ولكن جزء من كردستان، كان قد وُعدَ به الفرنسيون في معاهدة سايكس ـ بيكو. ثم بعد 1920، وبعد توقيع معاهدة الهدنه مع الأتراك من قبل الحلفاء، طرح الرئيس الأمريكي ولسن فكرة مشروع إقامة دولة مستقلة للأرمن وأخرى للأكراد. ولكن هذا المشروع جوبه بمقاومة من قبل الأتراك وكذلك الفرنسيين والإيرانيين أيضاً، مما أدى الى تجميده وفشله..

لقد بدأت حركات المقاومة والتمرد على الحكومات المركزية العراقية من قبل الأكراد، أولا من قبل الشيخ أحمد البرزاني، ثم أخيه الملا مصطفى البرزاني، حيث تم ضربه للمرة الأولى في الثلاثينات من قبل تركيا بقيادة نظامها الجديد من قبل كمال أتاتورك، ونوري السعيد بمساعدة البريطانيين، وشاه إيران رضا شاه.. وترك مصطفى البرزاني الى منفاه في الإتحاد السوفياتي..

بعد 1958، عاد مصطفى البرزاني من منفاه ليقيم في شمال العراق، وبقيت العرقة بين الكرد والحكومات العراقية المركزية تتأرجح بين الحروب، والمصالحات وتقبيل كل منهما للآخر...!

كانت سياسة رضا شاه الوقوف ضد الأكراد ومع حكومة بغداد، أما إبنه محمد رضا بهلوي، فقد إتخذ موقفا معاكساً تماماً، وأستفاد من علاقاته بإسرائيل والمخابرات المركزية الأمريكية لتغذية ذلك ولتمهيد الطريق للإتصالات الإسرائيلية ـ الكردية..!

كان بن غوريون يؤمن بضرورة العمل على استمرار نشاط الموساد في مصر والعراق، ووضع خطة تقضي بتأسيس موضع قدم لهم في منطقة كردستان، والتي ستعتبر مهمة بالنسبة لإسرائيل في المستقبل.. وهذا ينطلق من فلسفة بن غوريون بالإعتماد على الأقليات غير العربية في الدول العربية وأفريقيا..!

لم يأت التأييد الجدي والفعلي من قبل إسرائيل للأكراد حتى عام 1964 حين تسلم (مائير أميت) رئاسة الموساد، ولو أن العلاقة كانت ترجع الى ماقبل ذلك العام. في عهد أميت، إجتمع (شيمون بيريز) وزير الدفاع آنذاك مع وكيل كردي كان يعمل جاسوساً لصالح إسرائيل خلال الأشهر الأولى من قيامها، وهو (خمران علي بدرخان)

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:31 PM

في 1965، وفي أب من تلك السنة، نظمت الموساد دورة تدريبية لمدة ثلاثة أشهر لمقاتلي (البيشمركه) الكرد، وأعقبتها دورات مشابهة.. وقد أطلق على الدورة الأولى الإسم الرمزي (مارفاد) أي السجادة...!

في أواخر صيف 1966، طلب إثنان من مساعدي (ليفي أشكول) رئيس الوزراء، ومن المتخصصين بالشؤون العربية، بالقيام بعملية مسح في كردستان ومقابلة البرزاني لغرض تقديم دراسة ميدانية.. وقد تم عتماد الدراسة، ووضع البرنامج تحت رئاسة (حاييم ليفاكوف)، حيث تم إرسال فريق طبي من أطباء وممرضين اسرائيليين مع مستشفى عسكري ميداني الى المنطقة الكردية، وتم نقلهم بالطريق البري من إيران..!

يقول (إلييف) سكرتير حزب العمل الإسرائيلي في بداية السبعينات، أنه وصل الى (حاج عمران) في كردستان على رأس وفد، وقد نظّمت الزيارة بواسطة (أحمد الجلبي) وكان ذلك عام 1972، وكان بانتظارنا بعض مساعدي البرزاني، وبعد قضاء ليلة هناك، أخذونا على البغال الى المقر السري للبرزاني في الجبال..! وكان لقاؤنا وديا وحميماً. وقد ناقشنا خلال اللقاء المساعدات الإسرائيلية للأكراد، وقد قال لي مصطفى البرزاني بالنص (أرجو إبلاغ رئيس الوزراء والوزراء أننا "إخوة" وسوف لن ننسى "أفضالكم" هذه أو ننسى أنكم اليهود أول وأفضل من ساعدنا في ساعة الشدّة..!!) ثم قدم البرزاني خنجره الخاص هدية لي، وأعطاني خنجرا آخر لأقدمه بإسمه الى صديقه رئيس الكنيست..!

عندما كشف (إلييف) هذه المعلومات في 1978، كان البرزاني مريضا ومسلوب القوى، يعيش اشهره الأخيرة (سجينا) لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية متنقلا مابين الفندق والمستشفى في واشنطن...!.. ويضيف ألييف أن عضو الكونغرس الأمريكي (ستيفن سولارز) اليهودي، قد أبلغه بأنه يتمنى أن لا تكون نهاية البرزاني أنتهاء للعلاقة بين الأكراد وإسرائيل...!

خلال شهر العسل الأسرائيلي ـ الكردي، قام البرزاني بعدة زيارات الى إسرائيل، زار خلالها المستوطنات الإسرائيلية وقادة سياسيين بارزين من أمثال مناحييم بيغن وموشي دايان وأبا إيبان وشيمون بيريز.. وغيرهم..! كما أن الموساد كانت قد اسست نواة المخابرات الكردية ودعمتها والتي أطلق عليها (الباراستان) وكان المنسق في ذلك (مردخاي هود) في إسرائيل و(إلياهو كوهين) في مقر البرزاني في كردستان..! وكانت تصل الى البرزاني شهريا دفعة مالية بمقدار 50,000 دولار لإستخدامها في التهيأة لإعداد المقاتلين والقيام بعمليات لإشغال الجيش العراقي...!!!

علميا، قام فريق طبي من الباحثين الهنود والإسرائيليين والألمان، بتحليل 526 كروموسوم "واي"، وذلك في عام 2001.. أخذت الكرموسومات من ست مجموعات هم: أكراد يهود، أكراد مسلمين، فلسطينيين عرب، يهود شرقيين، يهود غربيين، وبدو من صحراء النقب... وقد أظهر التحليل، أن كروموسومات اليهود الشرقيين والأكراد تتطابق الى حد بعيد، ويقول التقرير: أن سلالات اليهود من أولئك الذين كانوا قريبين من المناطق الكردية، ربما يشتركون في الآباء قبل مئات السنين...!!

يقول الكاتب الإسرائيلي (أليزير زافير) في كتابه (أنا كردي) أن البحث المذكور هو فرصة لإستثماره لجعل العلاقة بين اليهود والكرد متينة ومتواصلة وذلك لإبقاء الجيش العراقي بعيدا عن إسرائيل.. وهو الجيش الذي تتطلع إسرائيل أن تراه قد إنتهى....!!! كما أن العلاقة مهمة لتقوية علاقة رضا بهلوي بإسرائيل والأكراد...!

ننتقل في الموضوع القادم الى حلقة جديدة في سلسلة التآمر على العراق.. تلك هي حلقة صدام حسين....!!

إنتهينا في القسم الرابع الى تطور العلاقة الإسرائيلية ـ الأمريكية ـ الكردية.. ودور الولايات المتحدة الذي بدأ لاحقا بسيناريو مختلف عن التعاطف الإسرائيلي مع الكرد.. والحب الكردي لإسرائيل.. ونحن هنا نتكلم عن السياسيين والقادة من الطرفين وليس عن الشعوب..

هنري كيسنجر، الذي خدم كوزير للخارجية الأمريكية مابين سبتمبر 1973 ويناير 1977، كما عمل كذلك مستشاراً للأمن القومي من يناير 1969 وحتى نوفمبر 1975.. وكان المقرر والمخطط للسياسة الأمريكية طوال تلك السنوات، واللاعب الرئيسي الذي له بصماته في كثير من الأحداث العالمية.. إستعرض في الفصل الثالث من مذكراته التي نشرت تحت عنوان (سنوات التجديد) في عام 1999، التحدث عن العلاقة (الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ الإيرانية ـ الكردية)، والتي لعبت دوراً في السبعينات، وعن أهمية ودور تلك العلاقة. والحقيقة أن ما ورد في تلك المذكرات، يضع النقاط على الحروف في سياسة بوش وخططه منذ غزوه للعراق عام 2003 ولحد الآن.

يقول كيسنجر: إن حماية الأكراد من القوة العسكرية العراقية، كان يتطلب تدخلات وإرتباطات أمريكية كبيرة ومعقدة، في وقت كانت علاقة الشرق بالغرب تسوء وتضعف.. كما أن محادثات السلام العربية ـ الإسرائيلية لم تكن تسير بشكل جيد. كانت إدارة نيكسون تحت النار من معارضيها بسبب نتائج حرب فيتنام، والمشاكل الداخلية.. وأن تحقيق رغبة الأكراد في التجهيز والدعم، يجب أن توزن بالقياس الى موقعهم الجغرافي في المنطقة العربية وفي تركيا وإيران.. مع الأخذ بنظر الإعتبار المصالح الأمريكية لدى أصدقائها من الدول العربية الغنية بالنفط...!

ويلاحظ من سرد كيسنجر هنا قبل ثمان سنوات، في التحدث عن الوضع الإقليمي العربي والعالمي قبل 30 عاما، أنه يكاد يتطابق بشكل كامل مع الوضع الحالي.. حرب فيتنام ومشاكل إدارة نيكسون الداخلية والخارجية.. يقابلها حرب العراق ومشاكل إدارة بوش الداخلية والخارجية..!

مطالب الأكراد آنذاك بالدعم العسكري واللوجستي والسياسي من الأمريكان.. ومطالب الأكراد الحالية في الإستقلال ونفط كركوك والتأثير في الموقف العراقي...! وتعقد الوضع العربي الإسرائيلي في لبنان ومع الحكومة الفلسطينية في الوقت الحاضر.. ولهذا يمكن القول أن أفق كيسنجر السياسي لا يزال يطغى على خطط بوش الحالية..!

كانت نصيحة كيسنجر لإدارتي الرئيس نيكسون.. ثم الرئيس فورد، اللتان كانتا قريبتين من إسرائيل وإيران، أن تأخذا بنظر الإعتبار أن المساعدات الأمريكية والدعم الأمريكي يجب أن يوجهان حسب الأفضلية، وأن تكون تلك الأفضليات حسب المصالح الأمريكية فقط..!

خلال مؤتمر القمة الأمريكي ـ الروسي بين الرئيس نيكسون والرئيس بريجينيف عام 1972، وبعد عودة الوفد الأمريكي الى طهران من موسكو.. لاحظ كل من نيكسون وكيسنجر من خلال مباحثاتهما في موسكو وطهران، أن نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الذي بدأ يبرز كشخص قوي ممسك بزمام الأمور، قد بدأ يتقرب من السوفيات، هذا في الوقت الذي كان فيه الرئيس المصري أنور السادات يواجه مشكلة إخراج آلاف الخبراء السوفيات من مصر، والذين لعبوا دوراً مهما في الحضور السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط...

كانت تلك الملاحظة بخصوص صدام مهمة بالنسبة للسياسة الأمريكية خصوصا بالنسبة لما كان يعرفه كيسنجر من معلومات عن خلفية صدام مع المخابرات المركزية الأمريكية....!!

كيف بدأ دعم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لصدام...؟!

يقول الملك حسين، ملك الأردن الراحل، في حديث له في سبتمبر 1963 مع الصحفي المصري والعربي البارز محمد حسنين هيكل ما يلي:

(إسمح لي أن أخبرك أنني أعرف وعلى وجه التأكيد، أن ما حدث في العراق في شباط "المقصود الإنقلاب البعثي على عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963" كان بتأييد كامل من المخابرات المركزية الأمريكية...!)

وعندما يؤكد شخص كالملك حسين ذلك.. فإنه يعلم ما يقول..!

Mr.who 22 - 1 - 2012 06:32 PM

لقد بدأ أول دفع من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لصدام عام 1959، وذلك بعد أشهر من قيام الإنقلاب على الملكية في 14 تموز 1958، وحين بدأ عبد الكريم قاسم، يرمي بثقله على الشيوعيين لإستخدامهم ضد مؤيدي جمال عبد الناصر في العراق من قوميين وبعثيين.. وقتها كانت هناك هبّة قومية في العراق والوطن العربي، وكان هناك نفوذ بعثي ظاهر في سوريا، والأهم وجود الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا تحت رئاسة عبد الناصر...!

كان قاسم يرى في الجمهورية العربية المتحدة خطر يهدد الداخل العراقي لاسيما مع دعوات القوميين في العراق للإنضمام الى ذلك الإتحاد، ووقوف الشيوعيين بقوة ضد ذلك، وضد عبد الناصر.. مع كون عبد الناصر آنذاك حليف للسوفيات في المنطقة...!!

من ناحية ثانية، كانت إسرائيل وإيران تشاطران قاسم نفس الرؤيا السياسية من منظور آخر، وهو خطر الجمهورية العربية المتحدة الإقليمي بالنسبة لإسرائيل وحليفتها إيران.. وكانت كل من إسرائيل وإيران مستمرتان في مد الجسور مع حليفهم، الإنفصاليون الأكراد بقيادة البرزاني...!

ومما يجب أن يذكر هنا، أن وقوع الإنفصال وتفتيت الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961، كان اللاعب الأساسي فيه هو حزب البعث في سوريا...!

بالعودة الى قاسم، فقد كان هاجسه، زميله ورفيقه في إنقلاب 14 تموز، وهو عبد السلام عارف.. الشخص القومي التطلع والمقرّب من عبد الناصر.. لذلك قام قاسم في 11 سبتمبر 1958 بعزل عبد السلام عارف من منصبه كنائب القائد العام للقوات المسلحة.. ثم بعد ذلك بإسبوعين تم تجريده من منصبه كنائب لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم.. وأخيراً في 21 نوفمبر.. تم إعتقال عارف بتهمة التآمر (على الجمهورية).. وحكم عليه بالإعدام....!!

عند هذه المرحلة.. كان الشاب الذي يحمل السلاح دائما، والمتسم بالعنف والبالغ من العمر 22 عاما والمدعو صدام حسين التكريتي، قد بدأ يطمح ويتطلع الى الأعلى.. لقد كان أحد أفراد المجموعة المسلحة التي حاولت إغتيال عبد الكريم قاسم في أكتوبر 1959 وهو في سيارته يمر في شارع الرشيد وسط بغداد.. لكن عبد الكريم قاسم نجا من الحادث بعد إصابته بجروح بالغة.. أما صدام الذي أصيب بإطلاقة في رجله، فقد هرب عابرا نهر دجلة سباحة، ليختفي في مسقط رأسه تكريت ثم هرب بعد ذلك الى سوريا ثم مصر حيث إستقر هناك لاجيء وطالب..

تذكر مصادر المخابرات المصرية، أن صدام قام بعدة زيارات الى السفارة الأمريكية في القاهرة وذلك مابين عامي 1959 و1961.. إلا أن عبد الناصر فضّل التغاضي عن تلك التقارير لما كان يحمله من كراهية لعبد الكريم قاسم لهجمته ضد القوميين و(الناصريين) في العراق.. وضربه لحليفه عبد السلام عارف، وإعدامه لمجموعة من الضباط القوميين في العراق...! كما أن المعلومات التي لديه تقول أن الأمريكان مصرّين على تغيير الأوضاع في العراق..!

كانت هناك أيضا مجموعات من القوميين العراقيين المتواجدين في لبنان، وكانوا على إتصال أيضا بالسفارة الأمريكية هناك.. لقد كانت هناك ما تشبه المصلحة المشتركة بين البعثيين والأمريكان..!

أما بالنسبة الى البعثيين الذين كانوا متخفين داخل العراق، فقد تولى مهمة الإتصال بهم (وليم ليكلاند) الملحق العسكري في السفارة الأمريكية في بغداد...!

وهناك ما هو أكثر من هذا، ذلك هو التنسيق بين المخابرات المصرية والأمريكية لإسقاط النظام العراقي..! وكان العقل المنسق في ذلك هو (جيمس كراتشفيلد) الموظف في السفارة الأمريكية في القاهرة، والذي يوصف من قبل معارفه (بالمحارب البارد وبدرجة الإمتياز). ولما لهذه الشخصية من دور في إنقلابي 1963 و1968، لابد من إلقاء نظرة قريبة للتعرف عليها عن كثب.

خدم كراتشفيلد في الحرب العالمية الثانية في أوربا، ثم عمل في المخابرات المركزية الأمريكية في أوربا أيضا، ثم إنتقل الى الشرق الأوسط.. وقبل تقاعده كان مستشاراً في البيت الأبيض.. توفي في 22/4/2003 وعمره 86 عاما، وذلك بعد إسبوعين من سقوط بغداد ودخول الأمريكان اليها وخروج صدام منها متخفيا، وهو الذي كان كراتشفيلد قد ساعده في السابق في الوصول الى السلطة

لقد وقعت عيني كراتشفيلد على إسم صدام لأول مرة في تقارير المخابرات في السفارة الأمريكية في القاهرة، حيث كان صدام يعيش ويدرس وعلى إتصال ببعض البعثين في العراق...!

وأخيراً وفي 8 شباط / فبراير 1963، سقط نظام عبد الكريم قاسم الموالي للشيوعيين.. في صباح ذلك اليوم قال كراتشفيلد: "إنه نصر كبير"..!

أما صدام، فقد سمع بما حدث عن طريق الراديو.. فاستقل أول طائرة عائداً الى بغداد...

يقول كراتشفيلد في تصريح له لوكالة (أسوشيتد بريس) الأمريكية، أن المخابرات المركزية كانت على علم بوقوع الإنقلاب قبل ستة أشهر من تأريخه.. وكذا كان يعلم الملك حسين..! ويعترف أن صدام حينها لم يكن بالشخص القيادي أو البارز في الحزب، ولكنه كان الأجرأ وصاحب طموح كبير وتطلع الى المستقبل، كما إتسم بالعنف والقسوة على أعدائه.. وكانت هذه كلها ملاحظات تلقى الدراسة والإهتمام من قبل المخابرات الأمريكية...!

أما فيما يتعلق بدور السوفيات في المنطقة العربية، ونمو حزب البعث وعدائه التقليدي للشيوعيين والذي كان يصل حدود التصادم المسلح في بداية الستينات، فيقول كراتشفيلد، بأن ذلك قد تمت مناقشته في مؤتمر إستخباراتي غربي عقد في بيروت مع (دك رايت) رئيس المخابرات البريطانية المعروفة (أم آي 6) في نوفمبر 1962.. حيث أن الإتفاق قد تم على ضرورة إيقاف النشاط السوفياتي في المنطقة وبالضغط على الرئيس الأمريكي آيزنهاور لتغيير موقفه من عبد الناصر الذي يعتبر حليف إستراتيجي للروس، وكذلك ضرورة العمل على تغيير نظام الحكم في العراق...!!

قامت الولايات المتحدة بعد ساعات من نجاح إنقلاب شباط 63، بالإتصال بالبعثيين ووعدتهم بالإعتراف بالنظام الجديد، وقد أتى ذلك عن طريق (جيمس إيكنز) السفير السابق لأميركا في المملكة العربية السعودية، والذي كان يشغل منصب ملحقا في السفارة الأمريكية في بغداد في تلك الفترة.. قائلا (في حساباتنا، فإننا نستطيع أن نقيم علاقات أفضل مع النظام الجديد في بغداد...!) بالمقابل فقد تسلم الأمريكان ـ وحسب ما ذكر هاني الفكيكي، أحد أبرز البعثيين في 1963 ـ طائرة (ميغ 21)، ودبابة (تي 54) وصاروخ (سام) وكلها أسلحة روسية الصنع، لغرض دراستها وتحليلها، ولمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى والتي كانت كما نعلم على علاقة حميمة بالبرزاني..!

ومن الغريب أن الأمريكان قاموا بإرسال صفقة أسلحة الى حكومة بغداد عبر تركيا وإيران لإستخدامها في قتال الأكراد في منطقة كركوك الغنية بالنفط...! كما قامت الولايات المتحدة بإسداء النصيحة الى جلال الطالباني رئيس الجمهورية العراقية الحالي، بإيقاف عمليات التمرد ضد حكومة بغداد والتي كان قد بدأها في عام 1961.. وتم تنفيذ ذلك...!

وفي نفس الوقت أيضا، وضمن ما اعتبر شهر عسل أمريكي ـ بعثي، عادت شركات أمريكية مثل (بارسونس) و(بكتيل) و(موبيل أويل) لتوقع عقود مع الحكومة العراقية الجديدة، لعب فيها صدام دورا بحكم علاقته بأحمد حسن البكر...

وقد ورد أن صدام سافر سرا الى دمشق آنذاك والتقى ميشيل عفلق، وحمل معه الى العراق بعض التوصيات.. كانت كلها تصب في طموحه الشخصي اللامحدود للصعود الى الأعلى....!!

صدام حسـين، صفقات مع أمريكا.. وعداء مع إسرائيل..!

قد يسأل المؤرخون أنفسهم: لماذا أخذ العداء لصدام حسين كل هذا الوقت الطويل بالنسبة لأميركا وإسرائيل لكي يظهر بالصورة التي ظهر عليها...؟

منذ وقت مبكر، كانت المصلحة الأمريكية والإسرائيلية في العراق كبيرة. ومنذ نشوء إسرائيل وبكلمة أدق، منذ قيام ثورة 1958 ضد الحكم الملكي، كان الهاجس الإسرائيلي حول العراق هو ما يتعلق بأمنها الوطني من جهة ودفاعها ضد عدو إستراتيجي من جهة ثانية. وقد تضاعف هذا الهاجس في الستينات والسبعينات وخلال تسلم حزب البعث للسلطة في العراق، خصوصا وأن صدام كان يؤكد في كل مناسبة على (سحق الصهيونية) وعلى (تحرير فلسطين)..! في حين كانت الولايات المتحدة ترى في النفط والمصالح الأمريكية في العراق فرصة كبيرة لدعم نموها الإقتصادي وتوسيع نفوذها السياسي..! ولكن عندما إتفق الطرفان (أميركا وإسرائيل) في بداية التسعينات على إزالة صدام وإحلال نظام عراقي محله أكثر موالاة لأميركا ومصالحها وبالتأكيد إسرائيل.. رأى الإثنان أن من تبعات ذلك سيكون القيام بإعادة البناء في العراق، وهذا بحد ذاته هدف استراتيجي لتحقيق هيمنة الشركات الأمريكية والإسرائيلية وجني الأرباح الطائلة من وراء ذلك إضافة الى البعد السياسي الإستراتيجي لمجمل العملية...!

كان التأييد الأمريكي لنظام البعث في إنقلاب عام 1968، وحسب المصادر والتقارير المتوفرة، أكبر بكثير من تأييدها لإنقلاب البعث الأول عام 1963. تاريخيا، وضمن الحسابات السياسية المعلنة، يظهر إسم (روبرت أندرسون).. أحد ملوك النفط في تكساس.. والذي أصبح لاحقا وزير المالية الأمريكي في عام 1956، قبل العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر، أو ما يعرف بحرب السويس. حاول الرئيس الأمريكي آنذاك (آيزنهاور) وكذلك وزير خارجيته (جون فوستر دلاس) إرسال أندرسون في مهمة الى الشرق الأوسط في محاولة لإقناع كل من ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل والرئيس المصري جمال عبد الناصر بالإتفاق ومحاولة الوصول الى صفقة ما بهذا الخصوص..! كان بن غوريون مستعدا للقاء ناصر بشرط عدم البحث في أي موضوع يتعلق بمسالة الحدود الإسرائيلية، ورأى عبد الناصر أنه سوف لن يخرج بنتيجة إيجابية من وراء ذلك.. وعليه فشلت المحاولة ولم يتحقق الإجتماع المقترح...!

فشل أندرسون، مرة ثانية، في مهمة محاولة إحلال السلام، وعن طريق تبادل تجاري هذه المرة وبالنيابة عن الرئيس الأمريكي القادم من تكساس أيضا (لندون جونسون)، وذلك قبيل إندلاع حرب 1967 بين العرب وإسرائيل.. ففي 24 أيار، تكلم الرئيس جونسون مع أندرسون لوقف التدهور الحاصل في العلاقة العربية الإسرائيلية والتي تشير الى قرب إشتعال الحرب بينهما. لهذا الغرض سافر أندرسون الى القاهرة في مهمة سرية ووصلها يوم 30 أيار، حيث كان السفير الأمريكي هناك (دك نولتي).. وصل أندرسون بعد ساعات فقط من قيام الملك حسين بتوقيع إتفاقية دفاع مشترك مع عبد الناصر، الأمر الذي جعل إحتمالات الحرب تبدو أكثر حدوثاً.. كان أندرسون يؤمن بأن الصفقات التجارية لها مفعولها في حل المشاكل السياسية وإصلاح الوضع المتدهور في الشرق الأوسط..! لهذا إقترح في لقائه مع عبد الناصر، أن يرسل نائبه عبد الحكيم عامر في زيارة الى الولايات المتحدة. كان وراء ذلك المقترح هو إغراء مصر بالمساعدات المالية خصوصا بعد أن كانت أميركا في عهد ايزنهاور قد رفضت تمويل مشروع السد العالي في أسوان، وهو أحد أسباب إشتعال حرب عام 1956، بعد أن قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس.. وحاول هذه المرة أن يبدي إستعداد أميركا للدخول في صفقات مجزية لمصر، مما يمكن معه وقف ناصر لعدائه لإسرائيل وبالتالي نزع فتيل الحرب...! أما عبد الناصر، فقد أصر على أن قيام إسرائيل ببناء حشودها ضد سوريا لغرض مهاجمتها، سوف يدفع بمصر الى مهاجمة إسرائيل لا محالة..! وأقترح أن يقوم نائبه الآخر زكريا محي الدين بزيارة الى أميركا بدل عبد الحكيم عامر، وتمت الموافقة على ذلك... ولكن كانت إسرائيل قد أتمت خططها وإستعداداتها العسكرية والإستخباراتية للبدء بالهجوم.. وهذا ما كان في 5 حزيران 1967...!

المهمة الثالثة لأندرسون كلاعب أساسي، حدثت هذه المرة، في العراق...! بعد تموز 1968 ووصول البعث الى السلطة.. هذه المرة كانت كل الحسابات مبنية على الأساس التجاري كما هي عادة أندرسون في مهماته السرية والعلنية..!

كانت شركة النفط الوطنية العراقية، قد أعطت ترخيصا للتنقيب عن النفط لشركة النفط الفرنسية كما أنها قد دعت السوفيات الى تطوير حقول نفط الرميلة الجنوبية قرب الحدود الكويتية.. كان كل من الفرنسيين والروس قد نجح في مهمته وفي تسويق النفط العراقي..! مما دعى الى إهتمام جدي من قبل شركات النفط الأمريكية في تكساس وفي غيرها من الولايات..

في نفس الوقت، كان سعر الكبريت، قد بدأ بالصعود في الأسواق العالمية، وكانت فرنسا أيضا المستفيد الأول من ذلك من خلال عقد كان قد منح لها في عام 1966 من قبل الرئيس العراقي آنذاك عبد الرحمن عارف..

بدأت الشركات النفطية الأمريكية، وبمباركة البيت الأبيض، بمحاولة كسر الإحتكار الفرنسي ـ السوفياتي لثروات العراق من النفط والكبريت، فقام مجموعة من ممثلي هذه الشركات بقيادة (بول باركر) المقرب من وزارة المالية والبيت الأبيض، بزيارة الى بيروت للقاء السفير العراقي هناك ناصر الحاني، ولطفي العبيدي، المحامي العراقي المقيم هناك والذي على علاقة جيدة بكبار البعثيين العراقيين.. هذا في الوقت الذي بدأ أندرسون بجولات بين واشنطن وبغداد لتقديم (عروض مفتوحة) للحكومة العراقية لشراء النفط والكبريت وتسويقهما. وأخيرا نجح باركر وبمساعدة العبيدي بترتيب لقاء بين أندرسون وأحمد حسن البكر لمناقشة موضوع النفط والكبريت والعروض الأمريكية بخصوصهما..!


الساعة الآن 01:48 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى