منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   الشعر والأدب العالمي المترجم (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=127)
-   -   كمان روتشيلد - القصة التي أغضبت اليهود (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=1985)

أرب جمـال 27 - 11 - 2009 07:29 PM

كمان روتشيلد - القصة التي أغضبت اليهود
 
كمان روتشيلد
تشيكوف



كانت البلدة صغيرة، أسوأ من قرية، لا يكاد يعيش فيها سوى العجائز الذين كانوا يموتون بشكل نادر إلى حد مقلق ومثير للحيرة، وكانت الحاجة إلى التوابيت ضئيلة جدا في المستشفى، وحتى في السجن . وباختصار فقد كانت الأمور في غاية الإزعاج . ولو كان ياكوف إيفانوف حانوتيا في مركز المحافظة لامتلك على الأرجح منزله الخاص، ونادوه بلقب ياكوف ماتفييتش. ولكنهم كانوا ينادونه، هنا في البلدة الصغيرة ببساطة ياكوف. ولسبب ما كان لقبه في الشارع " برونزا " برغم حياة الفقر والكفاف كفلاح بسيط في بيت من بيوت الفلاحين الصغيرة الحقيرة حيث يقتصر على غرفة وحيدة يعيش فيها : هو ومارفا والمدفأة وسرير يتسع لشخصين والتوابيت، ومنضدة نجارة وباقي أدوات المعيشة. كان ياكوف يصنع توابيت جيدة متينة، ومن أجل الرجال وصغار الملاك كان يصنعها على مقاسه، ولم يخطئ في ذلك مرة واحدة إذ لم يكن هناك إنسان أطول وأقوى منه حتى في السجن برغم أنه كان قد تجاوز السبعين عاما.. ومن أجل النبلاء والنساء فقد كان يصنعها بالقياس مستخدما من أجل ذلك مقياس الأرشين ! (1) بينما كان يقبل طلبيات مباشرة بدون قياس وباستخفاف شديد .

وفي كل مرة عندما يتقاضى فيها نقودا عن عمله، كان يقول :
- أعترف .. فأنا لا أحب العمل في هذه التفاهات. باستثناء الحرفة، كان عزفه على الكمان أيضا يجلب له دخلا غير كبير . ففي حفلات الزفاف بالبلدة كان يعزف في العادة الأوركسترا "اليهودي" (2) الذي كان يقوده السمكري موسى إليتش شخكيس الذي يأخذ لنفسه أكثر من نصف الإيراد . وبما أن ياكوف كان يجيد العزف على الكمان . وخصوصا بمصاحبة الأغنيات الشعبية الروسية، فقد كان شخكيس يدعوه أحيانا للعزف في الأوركسترا مقابل خمسين كوبيكا في اليوم بغض النظر عن هدايا الضيوف وتبرعاتهم، وعندما كان برونزا يجلس بين العازفين في الأوركسترا، فإن أول ما كان يظهر عليه هو إحمرار وجهه وتصبب العرق منه إذ كان الجو حارا ورائحة الثوم تخنق الأنفاس، والكمان يزيق، والكونترباص يشخر بجوار أذنه اليمنى، وبجوار اليسرى ينشج الناي الذي يعزف عليه "اليهودي" الأصهب الهزيل . بوجهه الذي تظلله شبكة واسعة من العروق الحمراء والزرقاء، والذي كان يحمل لقب الثري الشهير " روتشيلد".

وكان هذا اليهودي اللعين يحول حتى أكثر الألحان مرحا إلى كآبة وأنين، وبدون أسباب واضحة كان ياكوف متشبعا بكره واحتقار شديدين لهؤلاء "اليهود"، وخاصة لروتشيلد وقد بدأ ذلك بالمماحكة، ثم التجريح بالشتائم البذيئة، لدرجة أنه أراد ذات مرة أن يضربه . بينما تأذى روتشيلد من ذلك . وقال من بين أسنانه ناظرا في حنق: - لو لم أكن أحترمكم لموهبتكم، لطرتم من النافذة منذ زمن بعيد. ثم بكى . ولذا فقلما كانوا يستعينون بيرونزا في الأوركسترا، وكان ذلك يحدث فقط في حالات الضرروة القصوى عندما يتغيب أحد ما من اليهود .كان ياكوف في مزاج سيئ باستمرار لأنه كان يتعين عليه دائما أن يصبر على الخسائر الفادحة . وعلى سبيل المثال، ففي أيام الآحاد وفي الأعياد كان من الإثم أن يعمل، ويوم الاثنين يوم صعب بهذا الشكل يكون المجموع حوالي مائتي يوم يتعين عليه فيها أن يجلس، خلافا لإرادته، عاطلا وأية خسارة إذا أقام أحد ما في البلدة عرسا بدون موسيقى، وكانت خسارة أيضا إذا لم يدع شخكيس ياكوفا . ولقد ظل رجل البوليس المراقب بالسجن مريضا يعطس طوال عامين . وانتظر ياكوف بفارغ الصبر متى يموت.

ولكن المراقب سافر إلى المركز للعلاج، ومات هناك، وكم كانت الخسارة إذ ضاعت على الأقل عشرة روبلات، إن الأمر اقتضى أن يصنع التابوت على نحو آخر مستخدما نوعا خاصا من القماش لتزيينه .. وراحت الأفكار حول الخسائر والانتكاسات تضني ياكوف وتعذبه، خاصة في الليل ولذا فقد وضع الكمان إلى جواره في الفراش، وكلما وردت على ذهنه ترهة ما، كان يمس الأوتار فيصدر الكمان في الظلام صوتاً يهدئ من روعه. في السادس من مايو في العام الماضي توعكت مارفا زوجته فجأة، فراحت تتنفس بصعوبة شديدة وشربت ماء كثيرا ثم ترنحت، وعلى الرغم من كل ذلك فقد نهضت في الصباح وأشعلت المدفأة بنفسها، وذهبت، حتى، لتملأ الماء، وقرب حلول المساء ترنحت مرة أخرى، في حين ظل ياكوف طوال النهار يعزف على الكمان . وعندما حل الظلام تماما، تناول الدفتر الذي يسجل فيه خسائره كل يوم، ومن جراء الملل راح يجري إجمالا سنويا لهذه الخسائر. وكانت النتيجة أكثر من ألف روبل مما زلزل كيانه لدرجة أنه ألقى بالأوراق على الأرض وأخذ يدوسها بقدميه.

ثم راح يفكر فيما إذا ما كان قد وضع هذه الآلف روبل الضائعة في البنك، لتراكمت الأرباح السنوية على الأقل بمقدار أربعين روبلا . مما يعني أن الأربعين روبلا هذه تعتبر أيضا خسارة وباختصار فحيثما اتجهت. وأينما كنت فليس هناك سوى الخسارة ولا شيء سواها. - ياكوف، نادته مارفا بغتة، إنني أموت! تطلع إلى زوجته، كان وجهها ورديا من ارتفاع درجة حرارتها، وصافيا وسعيدا بشكل غير عادي . أما برونزا المعتاد دائما على رؤية وجه زوجته ممتقعا شاحبا وتعيسا، فقد اعتوره الآن الحزن والارتباك . كان الأمر أشبه ما يكون بأنها قد ماتت بالفعل، وكانت هي راضية بذلك وسعيدة لأنها أخيراً تخرج إلى الأبد من هذا البيت القروي، ومن التوابيت، ومن ياكوف نفسه .. نظرت إلى السقف وتمتمت شفتاها بشيء ما وكان التعبير المرسوم على ملامحها ينم عن سعادة عميقة وكأنها بالفعل قد رأت ملاك الموت وتهامست معه.. كان النهار قد شقشق، وبان من النافذة كيف تلألأت شمس الصباح. عندما نظر ياكوف إلى العجوز، تذكر لسبب ما أنه طوال حياته لم يلاطفها أو يشفق عليها، ولم يفكر مرة واحدة أن يشتري لها منديلا أو يحضر لها شيئا ما حلوا، من عرس .

فقد كان يصرخ فيها ويكيل لها الشتائم بسبب الخسائر الانتكاسات، وينقض عليها مهددا بقبضتيه. وفي الحقيقة فهو لم يضربها أبدا، وبالرغم من ذلك فقد كان يفزعها ويخيفها، وكانت هي في كل مرة تتجمد من الرعب، وأيضاً لم يكن يسمح لها بشرب الشاي، لأنه بدون ذلك ستكون المصاريف أقل . أما هي فقد كانت تشرب فقط الماء الساخن. ولقد فهم لماذا يبدو وجهها الآن هكذا غريبا وسعيدا، الشيء الذي أصبح بالنسبة له مرعبا. جاء الصباح بعد طول انتظار فاستعار حصان جاره ونقل مارفا إلى المستشفي.. كان المرضى هناك قليلين، وما كان عليه الانتظار إلا قليلا، حوالي ثلاث ساعات.. ولحسن حظه استقبل المرضى في هذه المرة، ليس الدكتور الذي كان هو نفسه مريضا. وإنما التمرجي مكسيم نيكولايتش العجوز الذي كان الجميع يتحدثون عنه في البلدة بأنه على الرغم من كونه سكيرا وصاحب مشاكل إلا أنه يفهم أكثر من الدكتور، وبعد أن أدخل ياكوف العجوز إلى حجرة الاستقبال، قال: - السلام عليكم، سامحوني فنحن نزعجكم دائما يامكسيم نيكولايتش بأمورنا التافهة اسمحوا لي أن ألفت انتباهكم.. لقد أصاب المرض أهلي، رفيقة حياتي كما يقال، اعذروني على التعبير.

قطب التمرجي حاجبيه الأشيبين، ومسد فوديه، وراح يتفحص العجوز وقد تقوست على مقعد بدون مسند، هزيلة ومدببة الأنف بفم مفتوح، تشبه من جانب وجهها طائرا يهم بشرب الماء. - ماذا نفعل ؟ عاشت العجوز طويلا .. وآن الآوان لرحيلها.
- هذا الكلام بالطبع معقول إذا سمحتم يا مكسيم نيكولايتش " قال ياكوف هذا وهو يبتسم من باب التأدب" ونحن شاكرون وممتنون على تفضلكم ولكن اسمحوا لي أن أذكركم بأن الحشرة أيضا تريد أن تعيش أطول. - كل شيء جائز! ثم قال التمرجي بنبرة كما لو كان موت العجوز أو حياتها متوقفين عليه. - إذن .. هكذا .. يا ولد سوف تضع على رأسها كمادة باردة، وأعطها من هذا المسحوق مرتين كل يوم، ثم مع السلامة، بانجور. لمح ياكوف .. من تعبيرات وجهه، أن الحالة سيئة، ولن تساعدها أية مساحيق، وكان من الواضح له أن مارفا على وشك الموت، إن لم يكن اليوم فغدا . عندئذ دفع التمرجي من مرفقه برفق وغمز بعينه، ثم قال بصوت خافت:
- ماذا لو حجمناها يا مكسيم نيكولاتيش. - إطلاقاً .. إطلاقاً يا ولد .. خذ عجوزك واذهب في أمان الله، مع السلامة.

قال ياكوف بتضرع : -اعملوا معروفا.. اسمحوا لي أن أعرف .. لو افترضنا أن بطنها آلمها أو أي شيء داخلي، فعندئذ نعطيها مساحيق وقطرات . ولكن من الواضح أن عندها نزلة برد وأول شيء في حالة النزلة هو طرد الدم يا مكسيم نيكولاتيش. و لكن التمرجي كان قد استدعي المريض التالي، ودخل فعلا إلى حجرة الاستقبال أب مع ولده، في حين قال لياكوف عابسا:
-اذهب.. اذهب الحالة غير واضحة. -في هذه الحالة علقوا لها ولو حتى ألقة (3) لتجعلوها تصلي لله إلى الأبد! فصاح التمرجي في ثورة : - علمني أيضاً ! يا بليد.
اغتاظ ياكوف وتضرج كليا، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة، وتأبط ذراع مارفا وأخرجها من حجرة الاستقبال. ولما جلس في العربة فقط طالع المستشفى بنظرة قاسية ساخرة قائلا: - أجلسوكم هنا .. ممثلين، لو كان غنيا لحجمه ولكنه يستكثر على الفقير حتى ألقة واحدة .. معاتيه، مشوهون!

وعندما وصلا إلى البيت، ظلت مارفا واقفة لعشر دقائق بعد دخولها ويدها على كليتها، وبدا لها أن ياكوف لو رآها مضطجعة فسوف يبدأ حديثه عن الخسائر والانتكاسات، وسينهال عليها بالشتائم متهما إياها بالنوم وعدم الرغبة في العمل، وتطلع ياكوف إليها في تذمر وملل، وتذكر أن عيد الناسك يوحنا غدا وعيد نيكولاي صاحب المعجزات بعد غد، وبعد ذلك يوم الأحد، ثم يوم الاثنين الصعب، أربعة أيام لا يجوز العمل فيها، وربما ماتت مارفا في أي منها . إذن ينبغي أن يصنع لها اليوم تابوتا. وأخذ أرشينه الحديدي ودنا من العجوز فأخذ مقاسها، ثم استلقت هي على الفراش بينما رسم علامة الصليب، وبدأ في عمل التابوت. حين أصبح التابوت جاهزا، لبس برونزا عويناته وسجل في دفتره. -تابوت مارفا إيفانوفا 2 روبل و 40 كوبيك . وتنفس الصعدا، في حين كانت العجوز مستلقية طوال الوقت وهي مغمضة العينين وفي المساء عندما حل الظلام ، نادت عليه العجوز فجأة ، وسألته متفرسة فيه بسعادة.

- أتتذكر يا ياكوف؟ أتتذكر .. كيف رزقنا الله قبل خمسين عاماً بطفل أشقر الشعر؟ آنذاك كنا نجلس طوال الوقت على ضفة النهر نغني .. تحت شجرة الصفصاف. وبعد أن ابتسمت بمرارة أضافت: -ماتت البنت. أجهد ياكوف ذاكرته. ولكنه لم يستطع أبدا تذكر لا الطفل ولا الصفصافة . فقال: هذا يخيل لك. جاء القس وأجرى مراسيم الاعتراف. بعدها راحت مارفا تتمتم بأشياء غير مفهومة وفي الصباح ماتت .. قامت الجارات العجائز بغسلها وإلباسها ووضعها في التابوت ولكي لا يدفع ياكوف مبلغا إضافيا للشماس، تلا هو بنفسه القداس على روحها . فيما لم يأخذوا منه شيئاً عن حفر القبر، لأن حارس المقابر هو الذي قد عمد ابنته في الكنيسة بعد ولادتها. وحمل النعش إلى المقبرة أربعة رجال من قبيل الاحترام والتوفير، وليس من أجل النقود وسار خلفه النسوة العجائز، والمتسولون، واثنان من المجاذيب، بينما كان المارة يرسمون علامة الصليب بورع وتقوى .. وكان ياكوف مسرورا للغاية إذا كان كل شيء محترما ولائقا ورخيصا، وليس هناك ما يمكن أن يكون فيه إهانة لأحد.

وفيما كان يلقي النظرة الأخيرة علي جثمان مارفا المسجى في النعش، لمس بأصابعه حافة التابوت، وفكر في نفسه :" صنعة ماهرة"!
بعدما عاد من المقبرة انتابه حزن شديد واستحوذ عليه الملل، وشعر بتوعك، كان تنفسه حارا وثقيلا وقدماه ضعيفتان، وانتابته رغبة شديدة لشرب الماء، وراحت الأفكار أيضا تتصارع في رأسه، وطاف بذاكرته من جديد. إنه لم يشفق عليها مرة واحدة في حياته كلها، ولم يلاطفها . وقد عاشا في بيت واحد اثنين وخمسين عاما مرت بطيئة، ولكن حدث على نحو ما أنه طوال هذا الوقت لم يفكر فيها، ولم يلاحظ وجودها أو يهتم بها كما لو كانت قطة أو كلباً. بينما كانت كل يوم تشعل المدفأة، تطبخ وتخبز، تذهب لملء المياه، تقطع الأخشاب، وترقد إلى جواره في فراش واحد. وعندما كان يعود ثملا من الأعراس كانت في كل مرة تعلق كمانه على الحائط باحترام وتبجيل وترقده في فراشه، وكل ذلك بصمت وعلى وجهها إمارات الهيبة والاحترام. التقي روتشيلد بياكوف في الطريق، فابتسم له محييا إياه بانحناءة . وقال - أنا أبحث عنكم يا جدي ! موسي إليتش يسلمون عليكم ويدعونكم لزيارتهم حالا.

كان ياكوف في شغل شاغل عن ذلك. وكانت لديه رغبة شديدة في البكاء. دعني! قال ذلك وتابع سيره بينما انزعج روتشيلد واندفع مهرولا إلي الأمام:
- كيف يمكن ذلك؟ موسي إليتش سيغضبون! إنهم طلبوك حالا!. أدى إلى امتعاض ياكوف أن هذا "اليهودي" كان يلهث ويتلعثم في كلامه، ويرف بعينيه ولديه نمش أحمر كثير على نحو ما، وكان من المقرف لياكوف النظر إلى سترته الخضراء المرقعة بقطع قماش قاتمة، وإلى قامته الهشة الهزيلة بكاملها. صرخ ياكوف: - مالك تتدخل في شئوني يا آكل الثوم؟ دعني وشأني! غضب اليهودي وصرخ بدوره: ولكن الزموا حدودكم من فضلكم، وإلا ستطيرون من فوق السياج! زعق ياكوف واندفع نحوه مهددا بقبضته: اغرب عن وجهي .. ألا يمكن العيش بعيدا عن الوسخ! مات روتشيلد في جلده من الرعب، فقرفص مذهولا وأخذ يطوح بيديه فوق رأسه كمن يحميه من اللطمات. ثم نهض وفر هاربا، واثناء جريه كان يقفز ويضرب كفا بكف بينما ظهره الطويل الهزيل يرتعد بوضوح.

وفرح الأولاد لما حدث واندفعوا يركضون وراءه صائحين "يهودي! يهودي!"، وجرت الكلاب أيضاً خلف الجميع وهي تنبح .. ثم انطلق أحد المارة في قهقهة عالية، ثم أطلق صفارة فعلا نباح الكلاب وازداد. ويبدو بعد ذلك أن أحد الكلاب قد عض روتشيلد، فقد سمعت صرخته المرعوبة من اليأس والفزع. راح ياكوف يتمشي في المراعي، ثم اقترب من أطراف البلدة وأخذ يسير على غير هدى. فيما كان الأولاد يتصايحون، برونزا قادم! برونزا قادم! والشمس تلفح الوجوه، وصفحة المياه تتلألأ بلمعان آخذ يؤذي العين، سار ياكوف في الطريق الضيق بمحاذاة ضفة النهر، ولمح كيف خرجت سيدة ممتلئة حمراء الوجنتين من حوض الاستحمام فراح يفكر فيها: "ياه .. يالك من كلب بحر"!. و بعيدا عن حوض الاستحمام كان الأولاد يصطادون السمك بلحم السرطان، و لما لمحوه راحوا يصرخون بحنق "برونزا ! برونزا" و ها هي الصفصافة العريضة القديمة ذات التجويف الضخم وفوقها أعشاش الغربان.

وفجأة نما في ذاكرة ياكوف طفل صغير بشعر أشقر كأنه حي يرزق، بينما كانت الصفصافة التي تحدثت عنها مارفا تقف خضراء ساكنة، وحزينة .. فكم شاخت.. مسكينة، جلس تحتها وراح يتذكر .. على هذه الصفة، حيث المرج الذي تغمره الآن مياه الفيضان كانت هناك آنئذ غابة من أشجار البتولا، وعلى الجبال الجرداء كان يتراءى على خط الأفق حرش الصنوبر العتيق الذي كان يلوح وقتذاك بزرقته، بينما تسير في النهر قوارب التنزه. أما الآن فالأمر سيان . وعلى الضفة الأخرى تبدو الأرض جرداء إلا من شجرة بتولا واحدة فقط، شابة وممشوقة كفتاه بكر. وفي النهر لا يوجد إلا البط والوز، وليس في الأمر ما يشير إلى أنه في وقت من الأوقات كانت تسير قوارب للتنزه، ويبدو أن الوز قد صار قليلا على عكس ما كان في الماضي. أغلق ياكوف عينيه، فراحت تركض في مخيلته أسراب ضخمة هائلة متقابلة من الوز الأبيض. لم يكن يدري كيف حدث أنه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة من حياته لم يذهب مرة واحدة إلى النهر.. ولو كان قد حدث وذهب، فهو لم يلق بالا إليه أبدا؟ إلا أن النهر مخلص وأمين، وليس شحيحا ووضيعا.

كان من الممكن ممارسة صيد السمك فيه، و بيعه للتجار والموظفين وصاحب البوفيه على المحطة، و بعد ذلك يمكن وضع النقود في البنك. و كان من الممكن السباحة في قارب من ضيعة إلى ضيعة، والعزف على الكمان و لدفع الناس حينها، من مختلف الطبقات، نقودا من أجل ذلك، وكان من الممكن تجريب قيادة قوارب التنزه، وهذا أفضل من صناعة التوابيت. و في النهاية كان من الممكن تربية الوز واصطياده ثم بيعه شتاء في موسكو، وعندئذ كان من الجائز تحصيل ما يقرب من عشرة روبلات في السنة من بيع الريش وحده .. ولكنه غفل عن كل هذا ولم يفعل أي شيء منه في حينه، ويالها من خسارة ياه يالها من خسارة! ولو كانت كل هذه الأشياء معا : صيد السمك والعزف على الكمان وقيادة القوارب واصطياد الوز، فأي رأسمال كان من الممكن تحقيقه ! ولكن لم يكن هناك أي شيء من ذلك حتى في المنام، ومرت الحياة دون جدوى بدون أية لذة، ضاعت هباء وهدرا ولم يتبق أي شيء في المستقبل، وهنا نظر للوراء.. فهناك أيضاً لا يوجد شيء سوى الانتكاسات والخسائر، وتلك الفظائع التي تقشعر منها الأبدان.

لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بحيث لا توجد هذه الخسائر؟ يا ترى من أجل ماذا قطعوا غابة البتولا وحرش الصنوبر؟ و لماذا كف الكلأ عن العطاء؟ ومن أجل أي شيء يفعل الناس دائما كل ما هو غير ضروري لهم؟ من أجل ماذا أمضى ياكوف حياته كلها يتشاجر ويتخاصم، يزعق ويصرخ يهدد بقبضتيه، ويسيء لزوجته؟ ويا ترى ما هو الداعي لكي يفزع "اليهودي" ويهينه الآن؟ لماذا يعرقل الناس، بشكل عام، بعضهم البعض عن الحياة؟ فما أكثر الخسائر الفادحة! وما أكثر الانتكاسات البشعة من جراء ذلك! ولو لم يكن الحقد والضغينة لكان للناس من بعضهم البعض منافع عظيمة. في المساء وبالليل كان يتراءى له الطفل الصغير، والصفصافة والسمك، والصيد والوز ومارفا تشبه من جانب وجهها طائرا يهم بشرب الماء، ووجه روتشيلد الممتقع المسكين، وسحنات ما أخرى تميل عليه من جميع الاتجاهات مدمدمة بخسائره . وراح يتقلب من جنب إلى جنب، ونهض من فراشه ما يقرب من الخمس مرات لكي يعزف على الكمان. في الصباح رفع جسده من الفراش بصعوبة بالغة، وذهب إلى المستشفي. أمر له مكسيم نيكولايتش نفسه بوضع كمادة باردة على رأسه، وأعطاه مسحوقا.

ولكن ياكوف أدرك من ملامحه ومن نبرة صوته أن الحالة سيئة، ولن تنفع أية مساحيق . و بعد عودته إلى البيت أدرك أن هناك منفعة واحدة من الموت، فليس هناك ضرورة للأكل، ولا للشرب ولا لتسديد الصدقات و الإتاوات للكنيسة، و لا الإساءة للناس، وبما أن الإنسان سيرقد في القبر ليس عاما واحدا، وإنما مئات وآلاف السنين، فلو حسبنا المنفعة لبدت عظيمة ومن حياة الإنسان لا يتأتى أي شيء سوي الخسارة، أما من موته فتأتي الفائدة، وهذه الفكرة بالطبع بديهية، ورغم ذلك فكل هذا مؤلم ومرير : فلماذا يوجد في العالم ذلك النظام الغريب، حيث الحياة التي توهب للإنسان مرة واحدة فقط؛ تمر هكذا دون جدوى؟ لم يكن مؤسفا له أن يموت، ولكن ما إن وقعت عيناه في البيت على الكمان حتى انقبض قلبه، وشعر بالأسى والأسف لكونه لن يستطيع أخذ الكمان معه إلى القبر، وسيبقى الآن يتيما، وسوف يحدث معه نفس ما حدث مع غابة البتولا وحرش الصنوبر . كل شيء في هذا العالم قد ضاع، وسوف يضيع على الدوام ! خرج ياكوف من البيت وجلس قرب العتبة وهو يضم الكمان إلى صدره بقوة. وبينما راح يفكر في حياته الخاسرة التي ضاعت هدرا.

عزف على الكمان دون أن يدري هو ذاته ماذا يعزف. فخرج العزف حزينا ومؤثرا. وانهمرت الدموع عبر خديه، وكلما استغرق في التفكير، كلما غنى الكمان بشكل أكثر حزنا. أصدر مزلاج الباب الخارجي صريرا، مرة ومرتين وظهر روتشيلد في الباحة الخارجية أمام البيت. قطع نصف المسافة بشجاعة، وما إن رأى ياكوف حتى توقف فجأة وانكمش تماما، وراح من رعبه يصنع بيديه تلك الإشارات التي كما لو كان يود بها أن يبين على أصابعه كم الساعة الآن. قال ياكوف .. لا تخف .. تعال!. تطلع روتشيلد بارتياب . وبخوف أخذ يقترب ثم توقف على بعد ساجين (4) منه، وقال مقرضا: - أنتم .. اعملوا معروفا، لا تضربوني! لقد أرسلوني موسى إليتش من جديد، قالوا لا تخف اذهب ثانية إلى ياكوف وقل له لقد قالوا إن الأمر بدونهم غير ممكن إطلاقا فيوم الأربعاء عرش .. نعم .. نعم!! السيد شابوفالوف سيزوج ابنته لإنشان جيد. وأضاف " اليهودي" مضيفا عينا واحدة": و العرش(5) سيكون رغيدا .. أو .. أوو ..! - فقال ياكوف متنفسا بصعوبة: - لا أستطيع .. لقد مرضت يا أخي .

وراح يعزف من جديد والدموع تطفر من عينيه وتتساقط على الكمان، وأخذ روتشيلد ينصت باهتمام مائلا نحوه بجانبه وعاقدا ذراعيه على صدره، بينما التعبير المذعور الحائر على وجهه يتحول شيئا فشيئا إلى شعور حزين مشفق، وجحظت عيناه كأنما يعاني من إحساس بالإعجاب المضني، ثم تمتم "وااااه ه ه !" وسحت دموعه ببطء على خديه وراحت تقطر على سترته الخضراء .
ظل ياكوف طوال النهار راقدا مغموما، وبينما كان القس يحصل منه على الاعتراف في المساء، سأله عما إذا كان قد نسي الاعتراف بذنب ما مهم .
وفيما راح ينشط ذاكرته الضعيفة، تذكر من جديد وجه مارفا الناضج بالشقاء، والصرخة المؤلمة "لليهودي" الذي عضه الكلب، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع :
- سلموا الكمان لروتشيلد.
فأجاب القس :
- حسنا.
والآن يتساءل الجميع في البلدة : من أين لروتشيلد بهذا الكمان الجيد ؟ آشتراه أم سرقه، أو من الممكن أن يكون قد حصل عليه كرهن؟.. أما هو فقد ترك الناي منذ زمن بعيد ويعزف حاليا على الكمان فقط، ومن تحت قوسه تنساب أيضا تلك الأنغام الحزينة كما كانت تنساب آنذاك من الناي .

ولكنه عندما كان يحاول إعادة ماعزفه ياكوف وقتما كان جالسا على العتبة، كان يخرج منه شيء ما يوحي بالحزن والآسى، بحيث ينخرط السامعون في البكاء رغما عنهم، فيما كان هو في نهاية اللحن يجحظ بعينيه متمتا: " وااااه ه ه !" .. وإذ أثارت هذه الأغنية الجديدة الإعجاب في البلدة فقد راح التجار والموظفون يدعون روتشيلد أثناء فترات الراحة ويرغمونه على عزفها عشرات المرات.



القصة مترجمه


______
هوامش:
(1) مقياس طول روسى قديم يساوى 71سم-(المترجم).
(2) لم يكتب تشيخوف كلمة (يهودى) بالروسية، ولكنه استخدم الصفة الشائعة التى كانت تستخدم لتحقير اليهود فى روسيا القيصرية (جيد)-بكسر الجيم وتعطيشها وكسر الياء أيضا-المأخوذة من الكلمة الإنجليزية (Judas). وسوف نضعها لاحقا بين قوسين، للتمييز بينها وبين صفة يهودى بالمعنى الروسى-(المترجم).
(3) المقصود (أهلى)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح لغويا، واضعا علامة النبر على حرف آخر-(المترجم).
(4) المقصود (علقة)، ولكن ياكوف نطقها بشكل غير صحيح إملائيا حرف بحرف آخر، والعلقة هى نوع من الديدان كان الروس يستخدمونه للعلاج بوضعه على الجسم لامتصاص الدم كوسيلة لعملية الحجم-(المترجم).
(5) المقصود (حالا)، ولكن روتشيلد نطقها بشكل غير صحيح مبدلا علامة النبر-(المترجم).
(6) ساجين يساوى متر و13سم-(المترجم).
(7) المقصود (عُرس)، ولكنه نطقها بلكنة غير روسية-(المترجم).
(8) المقصود (إنسان)، ولكنه نطقها أيضا بلهجة غير



أبو جمال 18 - 5 - 2010 10:11 PM

مشكوره على القصه ويعطيك العافيه
لي عوده

الغراب الأسود 3 - 6 - 2010 02:52 PM

شكرا ويعطيكم العافيه
تحيااااتي

جمال جرار 9 - 7 - 2012 06:52 PM

شكرا على القصة ويعطيك العافية
متابع بالقسم
تحياتي


الساعة الآن 01:57 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى