منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   الشخصية الإسلامية في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=12558)

ابتهال 15 - 12 - 2010 12:56 AM

الشخصية الإسلامية في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ
 
الشخصية الإسلامية في رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ



بقلم: أ.د. حسين علي محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
تُعدُّ رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ واحدة من أفضل رواياته في المرحلة "الاجتماعية الواقعية"( )، تلك المرحــلة التي تشمل رواياته الأربع: "القاهرة الجديدة" (1945م)، و"خان الخليلي" (1946م)، و"زقاق المدق" (1947م)، و"بداية ونهاية" (1949م).
ورغم أن نجيب محفوظ قد قدَّم في هذه الرواية عدداً كبيراً من الشخصيات يحتاج إلى جهد نقدي مُوازٍ للإحاطة والإشارة إليه، إلا أننا سنتوقّف أمام شخصية ثرية قامت بدورها في البناء الروائي، وتُقدِّم نموذجاً متفرداً في أدب نجيب محفوظ، وهي شخصية "السيد رضوان الحسيني"، باعتبارها شخصية إسلامية، فاعلة، نشطة.
وقد عني الكاتب بتقديم الشخصية في ملامحها الجسمية والنفسية جميعاً منذ السطور الأولى في الرواية، فأما ملامحها الجسمية، فيقدمها الكاتب بقوله: "كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولاً وعرضاً، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض، مُشرَب بحمرة، ذو لحية صهباء، يشع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاءً، وسماحةً، وإيماناً"( ).
وأما ملامحه النفسية فتتوزَّع في أكثر من فصل، يقول الروائي في الفصل الأول عنه: "كانت حياته، وخاصة في مدارجها الأولى ـ مرتعاً للخيبة والفشل، فانتهى عهد طلبه العلم بالأزهر إلى الفشل، وقطع بين أروقته شوطاً طويلاً من عمره دون أن يظفر بالعالمية، وابتُلي ـ إلى ذلك ـ بفقد الأبناء، فلم يبق له ولد على كثرة ما خَلَّف من الأطفال. ذاق مرارة الخيبة حتى أُترع قلبه باليأس أو كاد، وتجرّع غصص الألم حتى تخايل لعينيه شبح الجزع والبرم، وانطوى على نفسه طويلاً في ظلمة غاشية. ومن دجنة الأحزان أخرجه الإيمان إلى نور الحب، فلم يعد يعرف قلبه كرباً ولا هما. انقلب حبا شاملاً وخيراً عميماً وصبراً جميلاً، وطأ أحزان الدنيا بنعليه، وطار بقلبه إلى السماء، وأفرغ حبه على الناس جميعاً، وكان كلما نكد الزمان عنتاً ازداد صبرا وحبا، رآه الناس يوماً يُشيع ابناً من أبنائه إلى مقرِّه الأخير وهو يتلو القرآن مشرق الوجه، فأحاطوا به مواسين مُعَزِّين، لكنه ابتسم لهم، وأشار إلى السماء، وهو يقول: "أعطى وأخذ، كل شيء بأمره، وكل شيء له، والحزن كفر" فكان هو العزاء. ولذلك قال عنه الدكتور بوشي: "إذا كنت مريضاً فالمس السيد الحسيني يأتيك الشفاء، وإذا كنت يائساً فطالع نور غرته يدركك الرجاء، أو محزوناً فاستمع إليه يُبادرك الهناء". وكان وجهه صورةً من نفسه، فهو الجمال الجليل في أبهى صوره"( ).
وفي الفصل السادس يستكمل الروائي الصورة: "كان وجهه الأبيض يفيض بشراً ونوراً، تُحيط به لحيته الصهباء إحاطة الهالة بالقمر. وكان كل شيء حوله يلوح بالقياس إلى طمأنينته الراسخة قلقاً مضطرباً. وكان نور عينيه صافياً نقيا ينطق بالإيمان والخير والحب والترفُّع عن الأغراض"( ).
ويُضيف الحوار على لسان السيد رضوان الحسيني ما يُكمل الصورة النفسية للرجل المؤمن، الصادق في إيمانه الذي يعرف أن الأقدار بيد الله، وأن المصائب اختبار منه، وأن الحب يقهر الكراهية ويتغلّب عليها. يقول الروائي على لسانه:
-لا تقل مللت! الملل كفر. الملل مرض يعتور الإيمان. وهل معناه إلا الضيق بالحياة! ولكن الحياة نعمة الله سبحانه وتعالى، فكيف لمؤمن أن يملها أو يضيق بها؟ ستقول ضقت بكيت وكيت، فاسأل الله من أين جاءت كيت وكيت هذه؟ أليس من الله ذي الجلال؟ فعالج الأمور بالحسنى، ولا تتمرّد على صنع الخالق. لكل حالة من حالات الحياة جمالها وطعمها. بيد أن مرارة النفس الأمارة بالسوء تُفسد الطعوم الشهية. صدِّقني إن للألم غبطته، ولليأس لذته، وللموت عظته، فكل شيء جميل، وكل شيء لذيذ! كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة على الإيمان؟ كيف نضجر وفي الدنيا من نحبهم، ومن نعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يعجبون بنا، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تقل مللت"( ).
وهو المعنى نفسه ـ تقريباً ـ الذي يكرره بعد ذلك في الصفحة نفسها:
"أما المصائب فلنصمد لها بالحب، وسنقهرها به. الحب أشفى علاج، وفي مطاوي المصائب تكمن السعادة كفصوص الماس في بطون المناجم الصخرية، فلنلقّن أنفسنا حكمة الحب"( ).
أما ملامحه الاجتماعية فهو مقصد الناس عند الشدة، وعندما تمر بهم مشكلة؛ ولهذا فالسيدة "أم حسين" تلجأ إليه عساه يستطيع إصلاح زوجها، وإبعاده عن طريق الغي الذي مازال سادراً فيه:
اللهم عفوك ورحمتك" .. نطقت الست "أم حسين" بهذه العبارة وهي ماضية إلى مسكن السيد رضوان الحسيني … أعياها إصلاح زوجها وعجزت عن ردعه، فلم تر بدا في النهاية من مقابلة السيد رضوان، لعله أن يفلح هو ـ بصلاحه وهيبته ـ فيما فشلت فيه"( ).
وهو الناصح الأمين لهم، فعندما يقرر عباس الحلو أن يذهب للعمل في معسكر الإنجليز "باركه السيد رضوان الحسيني، ودعا له طويلاً، وقال له ناصحاً:
- اقتصد ما يفيض عن حاجتك من مرتبك، واحذر الإسراف والخمر ولحم الخنزير، ولا تنس أنك من المدق، وإلى المدق راجع"( ).
وهو ذو مكانة اجتماعية طيبة بين الناس، فرغم أنه محدود الإمكانات المادية إلا أنه يتنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري بزيادة الإيجارات أيام الحرب العالمية الثانية، فلم يفد، ولم يثر من مصائب الحرب كما أفاد غيره:
"إنه ليبدو لحبه الخير ولسماحته كما لو كان من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع، وإن كان في الواقع لا يملك إلا البيت الأيمن من الزقاق وبضعة أفدنة بالمرج. وقد وجد فيه سكان بيته … مالكاً طيب القلب والمعاملة، حتى إنه تنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن … رحمةً بساكنيه"( ).
وهو يقدم المعونة لكل محتاج من أبناء الزقاق؛ فالشاعر المطرود من المقهى يشكو حاله للسيد رضوان الحسيني، الذي منحه أذنه عن طيب خاطر وهو يعلم بما يُكربه، وكان حاول مراراً أن يُثني المعلم كرشه عما اعتزمه من الاستغناء عنه دون جدوى. ولما انتهى الشاعر من شكواه طيّب خاطره، ووعده بأن يبحث لغلامه عن عمل يرتزق منه، ثم غمر كفه بما جادت به نفسه وهو يهمس في أذنه: «كلنا أبناء لآدم، فإذا ألحّت عليك الحاجة فاقصد أخاك، والرزق رزق الله والفضل فضله»( ).
وقد اهتم الروائي ـ كما رأينا ـ بتقديم شخصية محبوبة اجتماعيا، قادرة على التأثير والعطاء في مجتمعها.
(2)
لا يتحرك السيد «رضوان الحسيني» وحده في فضاء رواية «زقاق المدق»، فهناك شخصيات أخرى تزحم الفضاء الروائي، فنجد في الرواية «نماذج فريدة ومختلفة من أمثال شخصية «المعلم كرشة» المصاب بالشذوذ الجنسي، وزوجته الثائرة، الحاقدة عليه دوماً، وابنه «حسين كرشة» المتمرد على روح الخنوع التي يتميز بها الزقاق، وشخصية «سليم علوان» ثري الحرب الذي لم يكتف بزوجته، فبدأ يفكر في الزواج من «حميدة» حتى تخلى عن أفكاره ومشروعاته عندما فاجأته الذبحة الصدرية وتراقص أمامه شبح الموت … ثم شخصية «زيطة» صانع العاهات للشحاذين والنصابين، والفران «جعدة» وزوجته «سنية الفرانة» التي تضربه أكثر من مرة يوميا بالشبشب، حتى يسمع الزقاق صراخه، وشخصية «الشيخ درويش» الذي كان يعمل مدرساً اللغة الإنجليزية ثم نزع إلى التصوف الذي قارب حد الجنون والهوس، وشخصية «الست سنية عفيفي» الأرملة المتصابية التي لم تكن تفكر إلا في الزواج، وكيفية الحصول على زوج، حتى ولو أنفقت كل ما تدخره بعد وفاة زوجها، وشخصية «عم كامل» بائع البسبوسة الذي يستيقظ من النوم لكي ينام مرة أخرى بسبب لحمه وشحمه المتراكمين»( ) و«عباس الحلو» الحلاق، الذي يريد الزواج من «حميدة»، و«فرج إبراهيم» القواد.
ولن نستطيع أن نتناول علاقة «السيد رضوان الحسيني» بكل هذا الحشد من الشخصيات، ولذا فسنتوقف أمام علاقته بأكثر الشخصيات أهمية في بناء الرواية وهي شخصية البطلة: «حميدة».
(3)
تعد شخصية «حميدة» هي الشخصية الرئيسة في هذه الرواية، يشخصها الروائي على هذا النحو:
«في العشرين، متوسطة القامة، رشيقة القوام، نحاسية البشرة، يميل وجهها للطول في نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلان، لهما حور بديع فاتن، ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدّت بصرها تلبسها حالة من القوة والصرامة، لا عهد للنساء بها»( ).
وفي هذا الوصف ركّز على ملامحها الجسمية حيث أشار للونها «نحاسية البشرة»، وقامتها «رشيقة القوام»، وملامحها «يميل وجهها للطول في نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلان، لهما حور بديع فاتن»، وأشار في نهاية الفقرة إلى بعض ملامحها النفسية «ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدّت بصرها تلبسها حالة من القوة والصرامة، لا عهد للنساء بها».
ولكنه في مكان آخر يشير إلى الملامح الجسمية، والنفسية، ويشير إلى الملامح الاجتماعية عرضاً في أنها «مقطوعة النسب»، يقول:
«العصر .. عاد الزقاق رويداً إلى عالم الظلال، والتفت حميدة في ملاءتها، ومضت تستمع إلى دقات شبشبها على السلم في طريقها إلى الخارج، وقطعت الزقاق في عناية بمشيتها وهيئتها لأنها تعلم أن أعيناً أربعاً تتبعها متفحصة ثاقبة: عيني السيد سليم علوان صاحب الوكالة، وعيني عباس الحلو الحلاق. ولم تكن تفاهة ثيابها لتغيب عنها؛ فستان من الدمور، وملاءة قديمة باهتة، وشبشب رق نعلاه، بيد أنها تلف الملاءة لفة تشي بحسن قوامها الرشيق، وتصور عجيزتها الملمومة أحسن تصوير، وتبرز ثدييها الكاعبين، وتكشف عن نصف ساقيها المدملجتين، ثم تنحسر في أعلاها عن مفرق شعرها الأسود، ووجهها البرنزي الفاتن القسمات … وهي فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان. ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل في بث هذه الروح القوية في طواياها. ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبعها قوية، ولا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها، وكانت عيناها الجميلتان تنطقان أحياناً بهذا الشعور نطقاً يذهب بجمالها في رأي البعض، ويُضاعفه في رأي البعض الآخر. فلم تفتأ أسيرة لإحساس عنيف يتلهف على الغلبة والقهر، يتبدّى في حرصها على فتنة الرجال»( ).
إنها ترى أحلامها أكثر من إمكاناتها وواقعها، وترى أن الزقاق يضيق عن أن يستوعب أحلامها. ومن ثم فهي تشعر بنفور من الزقاق وأهله:
«مرحباً يا زقاق الهنا والسعادة. دمت ودام أهلك الأجلاء. يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس! ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة عيناً على الأرغفة، وعيناً على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه لكماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة متطامن الرأس كالنائم وما هو بالنائم. وعم كامل يغط في نومه، والذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب. آه. وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال ودلال، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدميه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف. أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه يا أماه وغضّهما، ثم رفعهما ثانية، .. قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا تريد يا رجل يا عجوز يا قليل الحياء؟! .. مصادفة كل يوم في مثل هذه الساعة؟! ليتك لم تكن زوجاً وأباً إذن لبادلتك نظرة بنظرة، ولقلت لك أهلاً وسهلاً ومرحبا. هذا كل شيء، هذا هو الزقاق فلماذا لا تهمل حميدة شعرها حتى يقمل؟!»( ).
إنها شخصية غير منتمية، لا تُكن أية مشاعر طيبة لهذا الزقاق. فهي تسميه «زقاق العدم»( ). وإنها لتشمئز من الملابس المهلهلة التي ترتديها، وترى أن الملابس الجديدة هي كل شيء في الحياة: «ما قيمة هذه الدنيا بغير الملابس الجديدة؟! ألا ترى أن الأولى بالفتاة التي لا تجد ما تتزين به من جميل الثياب أن تُدفن حية؟!»( ). ومن ثم فهي تسلق الزقاق (زقاق العدم)! بلسانها في مثل هذه المحاورة بينها وبين أمها بالتبني:
«ـ لستُ أجري وراء الزواج، ولكنه يجري ورائي أنا، وسأنبذه كثيراً.
ـ طبعاً! أميرة بنت أمراء
فتغاضت الفتاة عن سخرية أمها، وقالت بنفس اللهجة الحادة:
ـ أفي هذا الزقاق أحد يستحق الاعتبار؟

ـ لا تسلقي الزقاق بلسانك، إن أهله سادة الدنيا!
ـ سادة دنياك أنت. كلهم كعدمهم»( ).
هذه الشخصية القلقة اللامنتمية، تبحث عن الثراء؛ فرغم خطبتها لعباس الحلو إلا أنها تفرح فرحاً طاغياً حين تخبرها أمها أن السيد سليم علوان «على سن ورمح» صاحب الوكالة يطلب يدها «وأنصتت إلى المرأة بانتباه عميق وهي تروي قصتها. وخفق قلبها خفقاً متواصلاً، وتورّد وجهها، وتألّقت عيناها بشراً وسروراً. هذه هي الثروة التي تحلم بها، هذا الجاه الذي تهيم به. وإنها من حب الجاه لفي مرض، وإن الشغف بالقوة لغريزة جائعة في بطنها. فهل يُتاح لها جاه أو ارتواء بالثروة؟»( ).
ولكن الأم تتذكّر أنها مخطوبة، وأنها قرأت الفاتحة مع الحلو، وتذهب لتستشير «السيد رضوان الحسيني» «فجفلت الفتاة من هذا الاسم قائلة:
ـ ما شأنه في أمر يخصني وحدي؟
ـ نحن أسرة لا رجل لنا، فهو رجلنا»( ).
واختيار الأم للسيد رضوان الحسيني للمشورة يشي باحترامه وتبجيله، ووضعه موضع القريب أو كبير العائلة، وقولها «هو رجلنا»، واختيارها إياه دون سواه يبين القيمة المعنوية العالية للشخصية الإسلامية.
ولقد كان رأيه عاقلاً متوازناً: «الحلو شاب، والسيد سليم شيخ، وأن الحلو من طبقتها والسيد من طبقة أخرى، وأن زواج رجل كالسيد من فتاة مثل ابنتها لا بد محدث متاعب ومشكلات لا يبعد أن يصيب الفتاة بعض رشاشها»( ).
ولكن الرشاش أصاب السيد رضوان من فم حميدة الذي لا يرحم، فقد صاحت بصوت جاف حينما سمعت من أمها ما قاله الشيخ، والشرر يتطاير من عينيها:
«ـ السيد رضوان ولي من أولياء الله، أو هذا ما يحب أن يتظاهر به أمام الناس، وإذا قال رأياً لم يبال مصلحة الناس في سبيل اكتساب الأولياء مثله، فسعادتي لا تهمه في قليل أو كثير، ولعله تأثر بقراءة الفاتحة كما ينبغي لرجل يرسل لحيته مترين. فلا تسألي السيد عن زواجي، وسليه إن شئت عن تفسير آية أو سورة ..! أما والله لو كان طيباً كما تزعمون لما رزأه الله في أولاده جميعاً»( ).
وقد رفض السيد رضوان الحسيني «تلبية رغبة حميدة وأمها في الارتباط بسليم علوان رباط زواج، ... لأنه يعلم أن الدين لم يشرع أن يخطب المسلم على خطبة أخيه «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك» وهي من شرع الإسلام. والكاتب يعرف ذلك لأنه علل منع الشيخ رضوان لإتمام هذا الزواج أن أم حميدة قد وافقت على خطبة حميدة من عباس الحلو قبل أن يتقدّم لها السيد سليم علوان»( ).
ولم تتزوج «حميدة» بالسيد سليم علوان الذي مرض مرضاً شديداً، ولكنها غادرت الزقاق مع «القوّاد» فرج إبراهيم.
وحين تُغادر إليه بيتها ذات يوم ليستدرجها في طريق الرذيلة والسقوط فإن أول ما تُحدث به نفسها هو: «ما عسى أن يقول السيد رضوان الحسيني مثلاً لو رآها تمرق إلى هذه العمارة؟»( ).
إن الزقاق يعج بالشخصيات، ولكن شخصية السيد رضوان الحسيني وحدها هي التي تستدعيها ذاكرة «حميدة» في أولى خطوات انزلاقها. وكأن لا وعيها يريد أن يتشبث بالفضيلة التي رمتها وراء ظهرها عن اختيار واعٍ.
وحينما تفكر «حميدة» في عرض «فرج إبراهيم» بالغواية، وأن يكون قواداً لها لتقتحم معه «حياة النور والثروة والجاه والسعادة، لا حياة البيت التعسة، والحبل والولادة والقذارة، حياة النجوم»( ) حينما تفكر في هذا العرض فإن السيد رضوان الحسيني يتراءى لها ليلاً وهي تفكر في حياتها المقبلة: «السلام عليكم يا إخوان»، .. هذا صوت السيد رضوان الحسيني الذي أشار على أمها برفض السيد علوان قبل أن يهتصره المرض، تُرى ماذا يقول عنها غداً إذا تناهى إليه الخبر؟»( ).
إن السيد رضوان الحسيني يمثل ـ في الرواية ـ صوت النقاء والطهر والعفاف الذي حاول أن يحمي «حميدة» من نزواتها وطيشها، لكن نداءاته ضاعت سدى، لأن شخصية «حميدة» لم تكن لتلقي بالاً للتقى والطهر والعفاف. وما أصدق ما وصفها به الروائي وهو يصور انحدارها في السقوط في سخرية مرة:
«عاهرة بالفطرة! تجلّت مواهبها، فبرعت في فترة قصيرة في أصول الزينة والتبهرج، وإن سخروا أول الأمر من سوء ذوقها، فكانت سريعة التعلم محسنة للتقليد. ولكنها سيئة الاختيار لألوان ثيابها، وفي ميلها إلى الحلي تبذل ملموس. ولو كان ترك الأمر (يقصد فرج إبراهيم) على ما تشتهي وتحب لتبدّت وكأنها «عالمة» في زواقها الفاقع، وحليها التي تكاد تغطي جسمها. وفيما عدا ذلك، فقد تعلّمت الرقص بنوعيه، ودلّت على مهارة في تعلم المبادئ الجنسية للغة الإنجليزية. ولم يكن النجاح الذي جاءها يجر أذياله بمستغرب، فتهافتت عليها الجنود، وتساقطت عليها أوراق النقود، وانتظمت في سلك الدعارة لؤلؤة منقطعة النظير»( ).
كانت شخصية «السيد رضوان الحسيني» بالنسبة «لحميدة» تُمثل الضمير الذي يُحاول أن يردعها، ويُعيدها إلى طريق الحياة القويمة، والإيمان، والطهر. ولكنها بما أوتيت من قوة وتمرد كانت تصر على انطلاقتها الشيطانية في سبل الغواية والضلال.
وتظل الصورتان ضروريتين للرواية، صورة الإيمان الذي لا تعوقه المصائب «السيد رضوان الحسيني»، وصورة «حميدة» التي تمثل العُهر المنفلت من كل القيود، والذي لا ينتمي إلا إلى طريق الضلال والغواية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من كتاب "مقالات في الأدب العربي المعاصر" للدكتور حسين علي محمد،


shreeata 15 - 12 - 2010 01:36 AM

جميل ما قرات هنا
تحيات لك
دمت بود

الغريب 22 - 12 - 2010 07:18 PM

مشكورة يا ابتهال
بانتظار جديدك

قلب., 24 - 3 - 2011 02:09 AM

يعطيك العافية

على الطرح الراقي

تسلم ايدك يا ذوق

لك أرق تحية




الساعة الآن 09:36 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى