منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   رؤية إسلامية في قضايا معاصرة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8920)

ميارى 3 - 8 - 2010 04:36 PM

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة
 

الدكتور عماد الدين خليل

* من مواليد الموصل، سنة 1358 هـ - 1939م.
* حصل على إجازة الآداب، بمرتبة الشرف، من جامعة بغداد، سنة 1382 هـ - 1962م.
* حصل على الماجستير في التاريخ الإسلامي ، من جامعة بغداد، سنة 1385هـ - 1965م.
* نال درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي، بمرتبة الشرف الأولى، من جامعة عين شمس، القاهرة، سنة 1388 هـ - 1968م.
* عمل رئيسًا لقسم التراث، ومديرًا لمكتبة المتحف الحضاري، وباحثًا علميًا في المديرية العامة للآثار، ومتاحف المنطقة الشمالية في العراق (الموصل) 1397-1407هـ (1977-1987م).
* أستاذ التاريخ الإسلامي، ومناهج البحث، وفلسفة التاريخ، في جامعات العراق.
* له العديد من المؤلفات الفكرية، والثقافية، والأدبية، والتاريخية.

ميارى 3 - 8 - 2010 04:38 PM

تقديم بقلم عمر عبيد حسنة:

الحمد لله، الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كانت الغاية من ابتعاثه: إلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء:107)، وبعد:
فهذا كتاب الأمة الخامس والأربعون: "رؤية إسلامية في قضايا معاصرة"، للدكتور عماد الدين خليل، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة قطر، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وتحريك إمكانات التجديد، وإحياء مقوماته، وتحرير مفهومه، ومصطلحه، وتنمية المسؤولية به عند كل مسلم، ليمارس دوره بالقدر الذي يستطيعه، ومن خلال الثغر الذي يقف من ورائه، ليصبح التجديد ثقافة عامة، لكل فيها نصيب، إلى جانب كونه تكليفًا شرعيًا، وفرضًا حضاريًا، للعودة إلى ينابيع التلقي في الكتاب والسنة، وتقويم سلوك المجتمع بها، ونفي نوابت السوء التي لحق بها، وإعادة المعايرة والمراجعة للواقع الاجتماعي، وما ترسب فيه من تقاليد، وعادات، قد تكون جانحة عن التعاليم الواردة في الكتاب والسنة، والتطبيقات، والتنزيلات على الواقع، المتمثلة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وممارسة خير القرون، وإحياء الأنموذج المسدد بالوحي، والمؤيد به، ليكون محل القدوة، وإلغاء الاقتداء بالنماذج البشرية التي يجرى عليها الخطأ والصواب، انضباطًا بالتكليف الشرعي: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا )(الأحزاب:21)، وسدًا لذريعة استرداد الأصنام مرة أخرى، بصورة بشرية، ولو ادعى المقتدون بها، أنها تقربهم إلى الله زلفى، فيتحول بها المسلم، من معرفة الأشخاص بالحق، إلى معرفة الحق بالأشخاص، وما يحمل ذلك من مخاطر الانحراف والتحريف، والمغالاة، والتأويل الفاسد.

ذلك أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يبعث الله على رأس كل مائة عامٍ من يجدد لهذه الأمة أمر دينها _ أو دينها " (أخرجه أبو داود، في الملاحم)، لا يقتصر - فيما نرى - على جانب إخبار المعصوم، وإنما يعني فيما يعنيه، التكليف بالاجتهاد والتجديد..

وتجديد الدين، أو أمر الدين، والعودة بمفهوماته إلى الينابيع الأولى، ونفي البدع، ونوابت السوء، لا يخص فردًا، أو جماعة، أو عصرًا، أو منطقة، أو جنسًا بشريًا، وإنما يعم.. فهو مسؤولية جماعية، تضامنية، وفرض كفائي في المواقع والثغور المتعددة.

وأعتقد - والله أعلم - أن المقصود بتجديد الدين، أو تجديد أمر الدين، على اختلاف الرواية، هو تجديد التدين، وإعادته إلى الجادة، بعد ما يمكن أن يكون ناله من الزيادة، أو الانتقاص، أو المغالاة، أو الغياب لبعض المعاني، والمسالك الأخلاقية، أو ا لركود، وفتور الهمم، وانخفاض أقدار التدين، وانطفاء الفاعلية، بسبب الإلف، وترسب العادات والتقاليد، لأن قيم الدين مكتملة، وكاملة، ومحفوظة بحفظ الله لها، وخالدة، مجردة عن حدود الزمان والمكان، لكن أقدار التدين، والالتزام، هي التي ينالها ما ينالها من الإصابات، والسقوط، والنهوض، والضعف، والنسيان، وغياب العزم، ومضي سنة التدافع البشري، والتداول الحضاري.

فالتجديد من لوازم الخلود والخاتمية.. والتجديد للتدين، وليس للدين.. والتجديد إعادة معايرة الواقع، لتحديد مواطن الإصابة.. والتجديد تقويم للواقع بشرع الله، وامتلاك القدرة على وضع الخطط والاستراتيجيات، من خلال استصحاب الواقع، وفي ضوء المعايير الثابتة في الكتاب، والسنة والسيرة، ورؤية القيم في الكتاب والسنة، والسيرة، والاجتهاد في محل تنزيلها، من خلال الواقع، واستطاعاته، واتباع سنة التدرج في الأخذ بيده، في طريق النهوض، شيئًا فشيئًا، أو بمعنى أدق: التعامل مع الواقع، من خلال القيم في الكتاب والسنة، والتعامل مع القيم من خلال الواقع.

ذلك أن استمرار الخطاب الإسلامي، خطبة، ووعظًا، وتأليفًا، وإعلامًا، بضخ سيل من الواجبات: يجب كذا، ويجب كذا…حيث لا يتورع بعضهم عن جلد المؤمنين من الناس على تقصيرهم - وإن ترافق مع الحماس الزائد، والنية الحسنة - دون القدرة على وضع دليل عمل، وخطة، واستراتيجية لحركتهم، من خلال استطاعاتهم، أو من خلال الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، والأخذ بعين الاعتبار، التوارث الاجتماعي للتقاليد، وغلبة سلطانها، والركود الحضاري، وانطفاء الفاعلية، وضمور المسؤولية…ليس من التجديد في شيء، إن لم نقل: بأنه يساهم سلبيًا في تكريس التخلف، والتراجع، وتوضُّع الإصابات في جسم الأمة.

ونخشى أن نقول هنا: بأن النخبة التي نيط بها، من حيث الشكل على الأقل، التجديد، وتقديم الحلول لمشكلات الأمة، والدليل لمسيرتها، تصبح هي المشكلة، أو هي مشكلة الأمة الحقيقية، بحيث تتحول النخبة من وسيلة تجديد، ونهوض، إلى أداة تخلف وجمود، وعجز، يستدعي "الآخر"، ليقود الأمة، ويمارس فيها التضليل الثقافي والسياسي، على حد سواء.

وهنا قضية، لا بد أن نطرحها، ونفتح ملفها للحوار، والنقاش، والمفاكرة، والمثاقفة…إلخ، مهما كانت ملابساتها صعبة، وشاقة على النفس، وأن نمتلك الشجاعة والجرأة الكافية، للمكاشفة، والمناصحة، والمراجعة، والتقويم، وهي : أن الواقع الإسلامي، الذي نحن فيه، ولا نحسد عليه، هو من بعض الوجوه، أو هو من معظم الوجوه، دليل وشاهد إدانة للنخبة، وعجزها عن التغيير والتجديد، خاصة وقد أتاح العصر من الآليات، وحفظ المعلومات، واختزال المسافات، وتوفير التخصصات، إضافة إلى هدايات الوحي، التي تتميز بها الأمة المسلمة، ما لا يدع عذرًا لمعتذر.

والادعاء بالهجمة الشرسة، والحصار الخارجي، أو بكلمة مختصرة: التعلل بالعامل الخارجي، والظروف الدولية، والإقليمية، والمحلية، بات لا يقنع أحدًا، إن لم نقل: بأنه يحمل في طياته، من بعض الوجوه، دليل الإدانة للنخبة.. وأقل ما يقال فيه: بأن النخبة بعمومها، ليست في مستوى الأحداث، وعواملها الدولية، والإقليمية، والمحلية، وليست في مستوى العصر، والقدرة على التعامل معه، هذا إن لم نقل: بأنها ليست في مستوى فهم الإسلام والعصر معًا، الفهم الصحيح.

ذلك أن إشاعة مناخ التخاذل الفكري، ومحاولة تعميم فلسفة الهزائم، وشيوع العقلية الذرائعية، عقلية التسويغ والتبرير، التي تتلخص في أنه في نهاية المطاف: ليس بالإمكان أفضل مما كان، يعني الجمود والخمود، والاستنقاع الحضاري، مع أن التكليف بالتجديد والاجتهاد، الذي هو روح سارية في الأمة، يعني: أنه بالإمكان دائمًا، الارتقاء بأقدار التدين، وبالإمكان أن يكون أفضل مما كان.

وفي تقديري، أن خصائص النخبة، ومواصفاتها، تختلف من عصر إلى عصر، ومن واقع إلى آخر، ومن مرض إلى آخر، من أمراض الأمم، في ضوء حاجات الأمة، ومشكلاتها، وعمرها الحضاري، الأمر الذي يقتضي أن ينال التجديد النخبة، بالدرجة الأولى، التي تصبح مع الزمن جزءًا من الواقع، وتعجز عن الانفلات من قيوده، وتثقلها ثقافة مجتمعها.

إن المواصفات والخصائص المطلوبة لنخب الدفاع، وحماية الحدود، والمرابطة على الثغور، واسترداد الأرض، وحماية العرض، غير المواصفات المطلوبة لعملية البناء والنهوض، وإعادة التشكيل، وممارسة التجديد والاجتهاد، وتقويم الواقع بشرع الله، ووضع الخطط والأوعية الشرعية لحركة الأمة.. إن ورش البناء والتغيير، هي بطبيعة الحال غير ورش الهدم، وترحيل الأنقاض.

ففي مرحلة الإيقاظ من النوم، وهز إيقاع السبات العام، والإنذار بالمخاطر، والقيام بعملية التحريض، وإعادة الشحن، والشحذ للقابليات، تكون الحاجة ماسة لإشعال الحماس بكل الوسائل، من ضرب الطبول، وقرع الأجراس، واختراق جدار الخوف والصمت، في مراحل الصحوة الإسلامية الأولى.. لكن الخطورة، كل الخطورة، أن يستمر قرع الطبول، بكل ضجيجها، ومساحاتها، بعد أن أصبحت الصحوة الإسلامية ، حقيقة قائمة، وهي أحوج ما تكون إلى دليل عمل لحركتها، وتأصيل لكيانها، ومرجعية لرؤيتها، وإدراك لعصرها، وتقدير لاستطاعتها، واستراتيجية لمسيرتها، وشرعية لعلاقاتها.

إن الاستمرار في مرحلة قرع الطبول، بأشخاصها، وأشيائها، وشعاراتها، ومساحاتها، ومواقعها، على الرغم من تبدل الظروف، وتغير الأحوال، وتجدد المسؤوليات، وتنوع المواقع، يعني العجز عن الاستيعاب، ويعني العجز عن التجديد، والعجز عن البناء.. إنه يعني: الغياب الرعيب عن الشهود الحضاري، والغيبوبة عن الوعي، والعودة إلى حالة السبات العام، لكن على الأنغام والأصوات الجديدة، التي أصبحت جزءًا من هذا السبات.. إنه يعني أن يُصيّر الماضي هو المستقبل، ويصبح الافتتان بالتاريخ الخاص، هو البديل عن التعامل مع الحاضر، واستشراف المستقبل.

إن تشكل النخبة وتشكيلها، أو ما يسمى بالمصطلح الشرعي: "أهل الحل والعقد"، الذين هم بمثابة العقل المفكر، والرأس المدبر، بالنسبة للأمة، لم يعد أمرًا عفويًا، تحكمه عقلية البساطة والسذاجة، ولم يعد ينفع معه الادعاء، ومزيد التوثب والحماس، وإنما لا بد لهذا الرأس المفكر، من أن تجتمع لديه الحواس جميعًا، أو بمعنى آخر، أن يتحقق بالاختصاصات جميعها، حتى يتمكن من التفكير السديد، والتدبير الرشيد، التزامًا بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علمُ.. )(الإسراء:36).

وما لم تصبح النفرة إلى تحقيق الفقه في الاختصاصات المتنوعة، التي يحتاجها العصر، والتي تحقق الاكتفاء الذاتي، دينًا، استجابة لقوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )(التوبة:122)، فإن حياة الركود، بين السقوط والنهوض، ستستمر إلى ما شاء الله ،الذي عهد بحفظ هذا الدين، وجعل النصر والنهوض، منوطًا بعزمات البشر، ومشروطًا بالتزامهم، ونصرتهم لهذا الدين، قال تعالى: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9).. وقال: (إن تنصروا الله ينصركم ويُثبّت أقدامكم )(محمد:7).. كما جعل فعل التغيير لواقع الحال، منوطًا أيضًا بإرادة البشر، وقدرتهم على التغيير، فقال: (إن الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11).. إنه الفقه في الدين، بالمعنى الشامل للدين، والمعنى العام لكلمة الفقه، بما فيها معنى الفقه الاصطلاحي.

فإذا كان التخصص، في فروع المعرفة المختلفة، مطلوبًا لعموم أفراد الأمة المسلمة، بكل فرقها، ومواقعها 0 لأن الإنجاز الحضاري يتطلب جهود أمة، ويعز على نخبة أو جماعة - فهو مطلوب بشكل أخص لأفراد النخبة، أو جماعة أهل الحل والعقد، الذين يمثلون الصفوة، أو خلاصة الخلاصة، ويثيرون الاقتداء بحالهم، ويناط بهم انتشال الأمة من واقعها، استجابة لقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ٌ-(الإسراء:36).. وقوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظنّ لا يُغني من الحق شيئًا )(النجم:28).. وقوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ) (يونس:39)..وقوله تعالى: (ولا يُنبّئك مثل خبير )(فاطر:14)..فأين أهل الخبرة والتخصص، في المسائل المختلفة، الذين يتحققون بالمرجعية الشرعية، ويصوّبون شهادة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتكون عندهم الأهلية، ليشهدوا على الناس، وينبئوهم بالحق، لينتشلوهم مما هم فيه؟!

وهنا قضية، أو هي إشكالية حقيقية في عالم المسلمين اليوم، وهي: أن الكثير من المتخصصين في فروع المعرفة المختلفة، تلقوا تعليمهم وتدريبهم، في معاهد وجامعات غير إسلامية، بالمعنى الأدق لكلمة إسلام، فارتهنوا لفلسفتها، في الحياة، ومناهجها، وكتبها، ومدرسيها، ومراجعها، وأنظمتها المعرفية، دون أن يتحققوا بالقدر المطلوب من المرجعية الشرعية، والمنطلقات الإسلامية السليمة.. إنهم يفتقدون مركز الرؤية.. لذلك نرى أن الكثير منهم قد يحكمون على الإسلام ، ويتنكرون لقيمه عن جهل، خاصة إذا عجزوا عن قولبة الإسلام ، بالقوالب الحضارية الغربية، وافتقدوا الاستجابة المطلوبة، في عالم المسلمين، ناسين أو متناسين، أدب المعرفة، ومنطق الأشياء العلمي: بأن الحكم على الشيء، فرع عن تصوره.

وقد لا يتسع المجال لإيراد الكثير من الأدلة، وشواهد الإدانة، على ذلك، وحسبنا هنا شهادة مرحلة النضج والاكتمال، التي أدلى بها الدكتور زكي نجيب محمود قبل وفاته، بعد هذه الرحلة الفكرية الطويلة، والتي تدّعي الأستاذية، وتعتمد المنطق والحجة والفلسفة، التي أدان فيها أحكامه السابقة على الإسلام، والثقافة الإسلامية كلها.. لقد جاءت هذه التوبة الفكرية، بعد شيء من الاطلاع، ولكنها بعد فوات الأوان، إلا أنها دلالة على الهدى، الذي نسأل الله أن يكتب له نصيبًا من ثوابه.

والقليل منهم، من المتحمسين للإسلام، المنحازين له عاطفيًا، يمارسون الاجتهاد الفكري الإسلامي، من خلال المنظومة الفكرية الغربية، ودليلها المعرفي الذي درسوه، دون أن يتوفروا على المرجعية الشرعية المطلوبة، والنظام المعرفي الإسلامي، وأدواته، التي تمكنهم من الإفادة من معارفهم، ووضعها في خدمة المقاصد الإسلامية، في مواقعها، لذلك يقدمون للأمة المسلمة اجتهادات، وثقافات، فاقدة للمرجعية، ونقاط الارتكاز الشرعية، والضوابط العقدية، فيجيء عطاؤهم فيه الكثير من التشويش، والدخن، والأخطاء، أو الخطايا الفكرية، ويحتاج إلى الكثير من التأصيل، والتنقية الثقافية، وتتعاظم مخاطره في أنه يجيء من الداخل الإسلامي ، أو ينبت في التربة الإسلامية .

هذا أحد وجوه الإشكالية، أما الوجه الآخر لها، فيتمثل في العجز عن المضي - عند معظمهم 0 في اختصاصهم، وجعله في خدمة قضيتهم، وعقيدتهم، فيغادرون اختصاصهم، ويخلون مواقعهم، ويتحولون إلى وعاظ، أو كتاب في القضية الإسلامية، أو خطباء، أو مرشدين، دون أن يكون عندهم الزاد الكافي لممارسة هذه الأمور الدقيقة، والخطيرة، من حيث الآثار المترتبة على الخطأ فيها، هذا إن لم نقل: وكأنهم بسلوكهم، وفرارهم من مواقعهم، يُثبتون مقولة: فصل الحياة عن الدين، وينتقصون من شمولية الإسلام.

وقد يعجب الإنسان، عند ما يرى بعضهم يتحدث عن أهمية الاختصاص، ودوره في النهوض، والتكامل، وبناء النخبة، ومن ثم الأمة، ولا يكتفي بذلك كقضية عامة - قد يكون من حقه الحديث فيها - وإنما يتجاوز للحديث في دقائق القضايا، التي لا تمت إلى اختصاصه بصلة.. إنه يسمح لنفسه الخوض، والنظر، والاجتهاد، فيما لا اختصاص له فيه، من أمر قضايا الإسلام الدقيقة!

وكأنه بفعله، يوبخ نفسه، ويعطي مثلاً سيئًا من أن شمولة الإسلام، تضيق، وتضيق عن مساحات المجتمع، وتتراجع عن مجالات الحياة، بتنوع اختصاصاتها، لتقبع في إحدى زواياها المنعزلة.

فكم من المتخصصين المتدينين في شعب المعرفة المتنوعة، علمية، وإنسانية، غادروا منابرهم، وتخلوا عن مواقعهم، وتركوها ثغورًا مفتوحة في العقل المسلم، وتحولوا إلى وعاظ، ومفتين، ومرشدين، دون أن يقدروا قيمة هذه المنابر، ومدى تأثيرها، وحاجة المسلمين إليها، لو أحسنوا توظيفها، واغتنامها، وأدركوا كيفية التعامل معها.. إنهم قد يحملون العلم، لكنهم يفتقدون الثقافة والمرجعية، التي تقود الاختصاص العلمي، وتحقق له أهدافه.

وما أزال أذكر، عندما كنت أتحدث عن أهمية الاختصاص، ودوره في بناء النخبة والأمة معًا، وأهمية إعادة تحرير مفهوم أهل الحل والعقد، في ضوء مقاصد الشرع، ومنطق العصر، وإحياء فكرة فروض الكفاية، في إحدى الجامعات، في عالمنا العربي، كيف أن إحدى المداخلات جاءت لتقول: إن ذلك عبء ثقيل، يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أننا أمة أمية، لا نقرأ ولا نحسب ! فتملكني العجب حقًا من هذا الفهم الغريب، أمام ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: "إنما بعثت معلمًا " - الحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة يتقوى بها - وقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين )(الجمعة:2)، إضافة إلى عشرات الآيات التي تحض على العلم، وتدعوا إلى التفكير، وتجعل العلم فرضًا على كل مسلم، والنفرة لتحصيل الاختصاص، فرض كفاية.

ولعل في قصة بدء الخلق وبدء الوحي، ومسيرة الوحي، وركائز بناء المجتمع المسلم، الأنموذج، ما يشكل الإجابة الحاسمة.

فلقد بدأ الخلق بتعليم آدم الأسماء كلها، وبدأ الوحي الخاتم بـ: (اقرأ)، فجاءت استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم العفوية لذلك بأنه أمي: "ما أنا بقارئ"، فأخذه جبريل فغطه، حتى بلغ منه الجهد، فقال: اقرأ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما أنا بقارئ "، ثلاثًا، وقد بلغ الجهد مداه، إلى أن قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (انظر صحيح البخاري، باب: بدء الوحي)… وكأني ببدء الوحي يقرر: أنه لا سبيل إلى وراثة الكتاب، وحمل الرسالة الخاتمة، والشهادة على الناس، والقيادة لهم، بدون القراءة، فهي طريق التخصص والمعرفة، وهي المفتاح الحضاري، بدأت بها الخليقة على الأرض، قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها… )(البقرة:31)، وأكدتها الرسالة الخاتمة: (اقرأ باسم ربك الذي خلق )(العلق:1).

وهنا قضية جديرة بالطرح، والمناقشة، ولعل المجال لا يتسع لمناقشتها بالشكل المطلوب، فلا أقل من طرحها، وهي: أن الكثير من الأخبار النبوية في مثل حديث تجديد الدين، وفي غيره، من أحاديث وردت تحت أبواب أحاديث الفتن، التي ستحل بالأمة المسلمة، وما يمكن أن نطلق عليه: مصطلح "المستقلبات"، هي من جانب، إحدى دلائل النبوة في الإخبار عن الغيب دون شك، إلا أنها من الجانب الآخر، تنبيه للمسلمين، ليعدُّوا العدة المطلوبة، للمواجهة، ويأخذوا حذرهم، ويغالبوا قدرًا بقدرٍ أحب إلى الله، ولا يعجزوا، ويستوعبوا سنن السقوط والنهوض، ويبادروا بالأعمال الصالحة فتنًا كقطع الليل المظلم، حيث يصبح الإنسان مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.. إنها حالة من الاضطراب، والضياع، والضلال، تفتقد معها الأمة ثوابتها، ويشيع فيها الجدل، والفلسفات، والمعارف الباردة، بحيث لا يكون المخرج منها، إلا بالحصانة بالأعمال الصالحة، التي تبيّن الأفكار الغثائية، وما يمكث في الأرض، وتصدق القول بالعمل.

وفي تقديري: إن هذه الأحاديث والأخبار، لم ترد لتصيب المسلم بالعطالة، وتطفئ فاعليته، وتخرجه من ساحة الفعل، إلى غرفة الانتظار، لحلول الفتن والبلاءات، بمقدار ما هي حوافز،واستفزازات، ومحرضات حضارية، للإعداد للمستقبل.. لكن المشكلة، فيما أرى، أن ثقافة التخلف، وعقلية التخلف، تضفي على أصحابها لونًا من التفسير والتبرير، يوافق حالهم، بدل أن ينتشلهم مما هم فيه.. ولو أن مسلمي العصر الأول، كان لهم هذا الفهم المعوج، وهذا التدين الساذج، لتقاعسوا عن كتابة القرآن، وجمعه ، وحفظه، ونقله، ولم يرعبهم اشتداد القتل في القراء، في معركة اليمامة، ليبادروا إلى جمع القرآن، وحفظه، خشية أن يُختلف فيه، كما اختلف اليهود والنصارى.. فإذا كان الله سبحانه قد تعهد بحفظه، بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر:9).. فلماذا يتعبون أنفسهم إذن بالجمع، والحفظ، والنقل؟!

ويمكن أن نرى بعض الملامح لهذه الفهوم والتفسيرات المختلفة، أيضًا في شرح بعضهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "…وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، هي ما أنا عليه وأصحابي " (رواه الترمذي، والحاكم).. فبدل أن نراجع أنفسنا وسلوكنا، ونختبر مدى تمكسنا بالسنن، وإقتدائنا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعتبر طريق النجاة، وبذلك نتعامل مع المقدمات التي نملكها، أقمنا معامل للتكفير، وانصرفنا للتعامل مع النتائج، التي تملكنا ولا نملكها، وهذا لا يجوز أن يفهم منه، الدعوة إلى عدم فضح الباطل، ومنازلته، وبيان زيفه، وإنما لا بد أن يترافق ذلك مع تحقيق المقصد الأساس من الحديث، وهو أن الاستمساك بالسنة، هو طوق النجاة.

إن وجود قدر بسيط من الثقافة الإسلامية ، المترافق مع الحماس، والانتصار العاطفي للإسلام، والإخلاص في الرغبة لنصرة الدين، وانتصاره، لا يؤهل صاحبه ليكون من النخبة، أو من أهل الحل والعقد، ولا يجعله أهلاً للفتيا في النوازل والمشكلات، التي تعرض للحياة الإسلامية، ولا يجعله فقيها، قادرًا على الموازنة، والمقارنة، والمقايسة، والترجيح بين الأدلة، وتقدير الاستطاعة، والنظر في محل الحكم.

فكثير من المخلصين، والمتحمسين، والعابدين، في تاريخنا العلمي والثقافي، ردّ العلماء حديثهم، لأنهم ليسوا من أهل الحفظ والضبط، أي ليسوا من أهل الفن - الاختصاص المطلوب - ولم تشفع لهم حماستهم، ولا إخلاصهم في قبول حديثهم، حتى لقد اعتبر الحماس الزائد، والرغبة في الخير، التي دفعت بعض المسلمين، ترغيبًا من الخير، وترهيبًا من الشر، لوضع أحاديث من عند أنفسهم، تحض على ذلك، من أسباب وضع الحديث، حتى الذين قالوا منهم: نحن لا نكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكذب له، ليخلصوا أنفسهم من عقابيل مخالفة قوله الصلاة والسلام: "من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار " (رواه البخاري والمسلم)! لذلك قال بعض العلماء: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.. حيث لا بد من اجتماع الإخلاص والصواب.. العلم والإيمان.. المعرفة وخلقها.. والاختصاص والحماس.. الأهلية والصدق..

كما أن ليس حفظ قدرٍ من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، أو حفظ مجموعة من المسائل الفقهية، يجعل حافظها فقيهًا.. إنه حامل للفقه، وليس فقيهًا.. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ربّ حامل فقه ليس بفقيه.. ورب حامل فقه، إلى من هو أفقه منه " (أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن). و "…رب مبلَّغ أوعى من سامع ٍ" (أخرجه البخاري).

كما أن القدرة على الخطابة، واستثارة العواطف، وإثارة الرأي العام، وزيادة التوثب والحماس، دون كسب للعلوم الشرعية، والتحقق بها، لا تؤهل صاحبها لأن يكون من أهل الحل والعقد، أو من النخبة، التي تمثل الرأس المفكر، والمخطط للأمة.. وكم عانى ويعاني المسلمون اليوم، من حضور الخطباء، وغياب الفقهاء.. وكم عانوا ولا يزالون، من زعامات الخطبة، القادرة على تجميع الناس، العاجزة عن وضع الأوعية لحركتهم، صوب استرداد الحياة الإسلامية ، ووضع الاستراتيجيات لقيادتهم، وتحقيق مقاصد الدين في الحياة، في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات أو الاستطاعات المتوفرة، وعدم خلط الأمنيات بالإمكانيات، والسنن الجارية المتعبد بها، بالسنن الخارقة، المعجزة، التي لا يد للإنسان فيها.

كما أن مجرد الانتساب إلى الجماعات، والمؤسسات، والتنظيمات، والجمعيات الإسلامية، لا يكفي وحده لأن يجعل صاحبه في أهل الحل والعقد، ولا يجعل منه فقيهًا، قادرًا على الفتوى في نوازل الحياة، إذا لم يتوفر على مرجعية شرعية، تشكل له مركز الرؤية، وتخصصٍ في أحد فروع المعرفة، وإحاطة بعلمه..

صحيح بأن النبوة، أو معرفة الوحي، في الكتاب والسنة، تشكل لنا الهدايات الأساسية، وتبين لنا المقاصد والغايات، ودليل العمل والتشغيل والتصويب، لما يمكن أن يكون من جنوح أو انحراف، حيث إنها توجه أنشطة الإنسان، وتمنحنا دليل التعامل مع الناس، والكون، والحياة، وتختصر لنا التجارب البشرية، وتبصرنا بالعواقب، وتحمي طاقاتنا من التبدد والضياع، وتحولها إلى المواقع المجدية، وتزودنا بطاقات غير محدودة، تضمن لنا استمرار الفاعلية، والقدرة على التجاوز، وتحول دون اليأس والإحباط، والانسحاب من الحياة، كما تحول دون الاستسلام للقدر الواقع، وإنما تدفعنا إلى مغالبة قدرٍ بقدر أحب إلى الله، وأرضى له..

إنها بكلمة مختصرة: تمنحنا الثقافة، بالمفهوم الشامل لها، التي تشكل لنا دليل التعامل مع الحياة، والفقه، والاستيعاب لمتغيرياتها، وتلفتنا إلى كثير من السنن الكونية، والاجتماعية، والنفسية، التي تحكم الحياة والأحياء، وتجعل تسخيرها تكليفًا شرعيًا، لا يمكن أن يتم بدونه أي إنجاز حضاري، كما تطلب إلينا مزيدًا من كشف السنن والأسباب، وتضعنا في مناخ التفكير العلمي والموضوعي، لنبدأ رحلة الحياة، متسلحين بمعرفة الطريق، ورؤية الغايات، بعيدًا عن التضليل والضلال.

فمعرفة الوحي، هي من بعض الوجوه: الثقافة، التي تبين وظيفة العلم، ومهمة التخصص، الإنسانية، وتقود خطواته، وتبين أهدافه، وتدفع إلى المزيد من التزود والإحاطة به وكشف مغاليقه، وبيان أسراره.. تمنح العلم، أو العالِم التقيّ، صاحب أهلية الفرقان، الذي تمكنه من جعل العلم والتخصص، لبنة في البناء الإسلامي الشامل.

ونستطيع أن نقول، كما أكدنا على ذلك كثيرًا: بأن الميزة التي يتمتع بها العقل المسلم، أنه لم يعان من ثنائية: الله والإنسان.. الوسائل والغايات.. والعلم والدين.. والعقل والوحي.. والدنيا والآخرة.. والمعهد والمعبد. والعمل في مجال التخصص العلمي الدقيق، والدعوة.. والفردية والجماعية.. والرجل والمرأة.. والتعليم المدني، والتعليم الديني.. والروح، والمادة.. والفرض العيني، والفرض الكفائي..إلخ.

إن معرفة الوحي في الرؤية الإسلامية ، أو الثقافة، التي منحتنا إياها معرفة الوحي، حسمت هذه الأمور جميعًا، وحققت الانسجام والتماسك، ووحدت اتجاهها ومصبها، أو بكلمة مختصرة: معرفة الوحي هي التي تحقق: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون )(البقرة:138).

لذلك أعتقد أن المسلمين الذين لمّا يستشعروا الحاجة بعد، إلى استدراك الاختصاصات المطلوبة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة، وبناء النخبة، أو أهل الحل والعقد، بناءً متكاملاً، والذين يتراجعون عن تحصل اختصاصاتهم، وبذل جهدهم للإبداع، والنبوغ بها، والذين ما يزالون يحسون بعقدة الذنب، من المتخصصين، تجاه مسؤولية الدعوة، فيدفعهم هذا الحس المغلوط، إلى مغادرة، اختصاصاتهم، والتحول إلى منابر الوعظ والإرشاد، والفتوى، دون امتلاك أداة ذلك، ووسيلته، إنما يعانون خللاً في بنائهم الثقافي الإسلامي، واستيعابهم معرفة الوحي، ومرجعيتهم الشرعية، ورؤيتهم الشاملة.. إنهم ينتقصون الإسلام ، ويهمشون دوره، ويحاصرونه، بعيدًا عن الاقتدار على صياغة الحياة، بجوانبها المتشعبة، وصبغها بالإسلام..

إنهم أدلة رديئة ومشوهة، افتقدت العلم والثقافة معًا، وفصلت الدين عن الحياة، وأخلت مواقعها المهمة، ومنابرها المؤثرة، لعلماء ومتخصصي الثقافات الأخرى، الذين يعبثون في حياة الناس، ويسيطرون على العالم، ويحتكرون وسائل وآليات التقدم، وشغلت مواقع لم تهيأ لها، وتتخصص بها، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وعجزت عن وضع تخصصها في خدمة عقيدتها، وعاشت الثقافة النصرانية، والانشطار الثقافي، الذي يضع الإنسان دائمًا أمام الخيار الصعب، فإذا اختار الدين، فما عليه إلا الانسحاب من الحياة، وإذا اختار الدنيا، فما عليه إلا أن يدير ظهره لقيم الدين.

وهكذا تستمر المعادلة الصعبة، المفروضة علينا، وليست منّا، وتنكمش الرؤية الإسلامية، وتتقطع إلى تفاريق وأبعاض، ونضفي من ثقافاتنا المستوردة، التي تعاني من هذه الثنائية، تفسيرات كيفية لمعرفة الوحي، وانتقاءات لبعض النصوص، التي نحاول من خلالها تدعيم اختياراتنا، بلون من التدين المغشوش، والفهوم المعوجة، فتختلط الأوراق، وتستمر رحلة التيه.

والمشكلة اليوم - فيما نرى - تتراوح بين الذين غادروا اختصاصاتهم العلمية، للعمل في مجال الوعظ والإرشاد، وعجزوا عن تعبيد الحياة للدين، ووضع اختصاصهم في خدمة عقيدتهم - وأنى لهم هذا إذا كانوا مرتهنين للثقافة الغربية، ومفاهيمها، التي تتلمذوا في معاهدها وجامعاتها، وهم مفتقدون للمرجعية الشرعية - وبين الذين استدعوا الإسلام ، أو الأسلمة، من خارج الاختصاص، وحاولوا إلباسه لفكرهم، أو إلباس فكرهم واختصاصهم للإسلام، وحاولوا تطبيق نظرياتهم، ومناهجهم، وأنظمتهم المعرفية، ذات النسق الغربي، أو تقنياتهم المعرفية، على الإسلام، فتحول الإسلام على أيديهم، من معيار للتقويم والتصويب، ليصبح هو موضوع التحليل، ومادته.. يقبلون منه ويرفضون، ويبرزون ويغيبون ما يتوافق مع نظامهم المعرفي، الغريب عن الإسلام، ومرة أخرى تعتمد الحضارة الغربية، هي المعيار والمقياس للحضارة الإسلامية .. يرفعون شعارات الإسلامية ، أو الأسلمة، وقد لا يفقه بعضهم الأحكام الشرعية للطهارة (!!) وبذلك يخرجون الإسلام من كونه دين حياة، يشكل نسقًا وصبغة لشعب المعرفة جميعًا، ودليلاً لوظيفة العلم، ومقاصده، إلى إحدى الفلسفات، الخاضعة للتحليل، والدراسة، والنظر.

وحيث إن العقل المسلم قد توقف عن الامتداد بشعب المعرفة، وعجز عن الإنتاج المعرفي والثقافي، من خلال نسقه ورؤيته، وحاصر معرفة الوحي، في الكتاب والسنة، وأخرجها من مجالات الحياة، بسبب عجزه وتخلفه عن استيعابها، وفهمها فهمًا متخلفًا، فقد انتهى بنا الأمر بشكل طبيعي، إلى احتضان نماذج لثقافات "الآخر"، لتحتل المنابر الفكرية الإسلامية.

لقد كان المأمول أن تتمكن الجامعات ، ومعاهد الدراسات العليا، من حل المعادلة الصعبة في العالم الإسلامي، والتوجه صوب دراسة المشكلات التي تعاني منها الأمة، ووضع الحلول، من خلال رسائل الماجستير والدكتوراه، ومراكز البحوث والدراسات، إلا أن الجامعات والمعاهد، لم تستطع هي أيضًا أن تنفك عن ثقافة التخلف، وتخرج عليها، بل أصبحت جزءًا منها، تعيش على إيقاعها، سواء منها المرتهنة في مناهجها، ونظامها التعليمي، لثقافة الغالب، على الرغم من أنها تسكن العالم الإسلامي، إلا أنها مسكونة بالغرب، أو الجامعات التقليدية، التي لم تستطع أن تطور نفسها وآلياتها، فهي تعاني من غربة الزمان والمكان، ولولا أنك تدخل إليها من الحاضر، ما عرفت لأي عصرٍ تنتسب، وفي أي زمان تعيش !

والناظر في موضوعات ومعالجات رسائل الدكتوراه والماجستير، لا يمكنه أن ينسبها، إلى عصر، أو مجتمع، أو واقع، له ظروفه ومشكلاته، مهما بذل من الجهد الفكري، إلا أن يقرأ تاريخ الإجازة، وجنسية صاحبها.. فماذا تعمل الجامعات في العالم الإسلامي ؟ وماذا تقدم من حلول لمشكلات الأمة؟ وما تفعل هذه الألقاب العلمية، الكثيرة، التي أصبحت أشبه بالأوراق النقدية الزائفة، أو بالأوراق المالية في بلاد التضخم النقدي؟

وما أزال أذكر لقائي بطلبة الدراسات العليا بقسم الدعوة والإعلام، في إحدى الجامعات العربية، وبحضور عدد من المدرسين، عند ما بدأت المداخلات، وطرح الأسئلة، وإثارة القضايا، والمشكلات الإعلامية، والسؤال عن كيفيات التعامل معها، والمعالجة لها، عندها اضطررت أن أقول: لماذا لا تكون هذه القضايا والمشكلات، التي تعاني منها الأمة، موضوعات لرسائل الماجستير والدكتوراه، وتأخذ حقها من الدرس، والبحث الأكاديمي، وتقدم رؤىً وحلولاً، لمشكلات ثقافية وإعلامية، ودعوية، تعاني منها الأمة؟ فنظر بعضهم إلى بعض!

لكن لا بد هنا من الاعتراف، أن إنضاج مثل هذه الموضوعات، ومعالجة المشكلات، يحتاج إلى جهود كبيرة، ودراسات، وإحصاءات، ومقارنات، وتحليلات.. إنها عبء ثقيل على الدارس والمدرس معًا، تختلف كثيرًا عن عمليات الشحن من الكتب القديمة، والتفريغ على الأوراق الجديدة، كما هو الحال، الأمر الذي يكرّس حالة الركود، والاستنقاع الحضاري، والجمود، أو التقليد الثقافي.

ولعل من المؤشرات الخطيرة: غياب العقل الاستراتيجي، عن الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة.. العقل القادر على استشراف الماضي، وفقه الحاضر، وإبصار المستقبل، في ضوء عطاء الوحي، وهداياته، وكسب العقل، من خلال التخصصات المتعددة، التي لابد منها لتشكيل العقل الجماعي للأمة.. وشيوع عقل التبرير والتسويغ.. وغياب فقه المقاصد، وبروز فقه المخارج، والحيل الشرعية.. غياب جلب المنافع، وبروز درء المفاسد، وسد الذرائع.. الأمر الذي لا يعني أكثر من المحافظة على الواقع، والإبقاء عليه، مما أدى بالتالي، إلى فقر المكتبة الإسلامية المعاصرة، للبحوث والدراسات، والمؤلفات، التي تقدم دراسات مقدورة في أسباب النهوض والسقوط، والانقراض الحضاري، ودراسات عن حركات التغيير، وسبب إخفاقها، وعبرة تجربتها، من خلال رؤية الوحي ومرجعيته.

وليس من قبيل المجازفة، القول: بأن معظم المتوفر من ذلك، قد يفتقر أصحابه إلى لغة التنزيل.. وعاء التفكير.. كما يفتقر إلى المرجعية الشرعية، ومركز الرؤية الدقيقة، لذلك جاء معظم كسبهم لا يتجاوز بعض النظرات، والملحوظات، والتأملات، التي تمثل نقطة الضوء، أو شرارة قدح الزناد، التي تحتاج إلى كثير من التأصيل والضوابط الشرعية، علمًا بأن دراسة أسباب النهوض والسقوط، وحركات التغيير والتجديد، تعتبر من الفروض الجماعية، التي يمكن أن تشكل المحور الرئيس لآيات التنزيل، الميسر للذكر، المستدعي للمدكر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )(القمر:17،22،32،40).

هذا على مستوى التاريخ العام، إضافة إلى التقصير الكبير والرعيب، في فقر المكتبة الإسلامية المعاصرة، إلى دراسة وتقويم حركات التغيير الإسلامي، على مستوى التاريخ الخاص، وبيان الخلل الذي حال دون بلوغها الغاية، واعتصار التجارب الذاتية لصالح الجيل، ولصالح المستقبل الإسلامي.

وقد يكون المطلوب اليوم ، أكثر من أي وقت مضى - كما أسلفنا - تحرير مفهوم أهل الحل والعقد، وإعادة تشكيل النخبة، لا سيما وأن المسلمين ما يزالون يراوحون في مواقعهم، ويعانون من حالة الركود، وتقطيع النعال، دون قطع المسافات المطلوبة.. يعانون من حالة (اللاسقوط واللانهوض).. أما عدم السقوط، فبحفظ الله ورحمته لهذا الدين، لأنه الدين الخاتم، الخالد، وأما عدم النهوض، فبعجز، وتخاذل، وقصور المسلمين، ومسئوليتهم بشكل عام، وعجز النخبة بشكل خاص، عن الإنتاج المأمول، في المواقع المتعددة، لأن الله سبحانه وتعالى ناط عملية التغيير بهم، من خلال السنن الجارية وعزمات البشر.

ولعلنا من هنا، يمكن أن نفهم، أو ندرك أهمية النصوص الشرعية، التي تدعو للانفلات من حالة الركود، والتوارث الاجتماعي، واعتزال المجتمع، والانسحاب من الواقع.. وهذا الخروج وهذه العزلة، لا تعني الهروب من المسؤولية، بمقدار ما تعني محاولة إعادة بناء النفس، بعيدًا عن الأمراض الاجتماعية، والتحقق بالسلامة، ليعود المسلم، وهو أقدر على الإسهام بعملية العلاج، والنهوض من جديد.

ولئن كان عزل المريض، والحجر عليه، هو المطلوب في الحالات الطبيعية، حتى لا تنتقل العدوى للأصحاء، فيحق لنا أن نقول هنا، بعد هذه الرحلة من الإحباطات، وحمل الكثير من الأمراض الاجتماعية نفسها، التي يعيشها الآخرون، إنه : لا بد من عزل السليم، عزل الأصحاء، حتى لا تنتقل لهم العدوى، بعد شيوع المرض، وتفشيه، وإصابته لمن يدّعون القدرة على شفائه، ممن أصبحوا هم المشكلة، وليس الحل.. ومن هنا ندرك متى تكون العزلة، لإعادة التزود، والعودة إلى الحل الإيجابي، وليس السلبي الإنسحابي، لما تعانيه الأمة، وندرك في ضوء ذلك، مدلول ومقاصد الأحاديث، والآيات، التي ترغّب فيها، وتعتبرها وسيلة النجاة.

وبعد: فالكتاب الذي نقدمه، هو عبارة عن مجموعة قضايا إسلامية، عرض لها الكاتب، وفتح ملفها، كلون جديد في سلسلة "كتاب الأمة" ، في مرحلتها الجديدة.. وقد رغبنا أن يأتي التقديم، واحدة من هذه القضايا المطروحة، في إطار التنهيج للعقل المسلم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.


ميارى 3 - 8 - 2010 04:40 PM

المقدمة :

هناك تصنيف شائع، في التعامل مع الأفكار، يتدرّج وفق معايير المساحة والتوثيق، ما بين الخاطرة السريعة، والمقال القصير، والمقال الطويل، والبحث، والدراسة.

والكتاب الذي يجده القارئ بين يديه، ينتمي - في الأغلب - إلى صنف "المقال الطويل"، حيث تمت معالجة عدد من الموضوعات الملحّة بنوع: من الإسهاب والتفصيل، لتغطية سائر المفردات، التي ينطوي عليها كل موضوع.

بعض هذه الموضوعات، مضى للتعامل مع الأفكار والتصورات، من مثل: (المستقبل لهذا الدين)، و (العقيدة والشريعة والمجتمع)، و(المعادلة بطرفيها)، و(من الأنا إلى الآخر إلى العالم)، و (محاولة لتصور المجتمع الإسلامي ).

مقالات أخرى، تعاملت مع الوقائع والخبرات والأحداث، من مثل (مغزى سقوط الماركسية)، و(عصر الاختزال)، و(الأفقي والعمقي في هندسة الحياة)، و(القرآن الكريم وفلسفة التاريخ)، و (وقفة للنقد).

إن التماسّ الجاد مع الحياة، على مستوى الفكر أو الواقع، يدفع المفكر المسلم -بين الحين والآخر- إلى أن يقول ما عنده، استناداً إلى رؤيته الإسلامية ، وقدرته على معالجة المفردات، من المنظور العقدي، الذي ينفتح على العالم، فلا يكاد يدع صغيرة ولا كبيرة، إلا وشكل إزاءها الموقف الفكري، الذي يضعها في مكانها الصحيح، من مسلسل الصراع الأبدي، بين الحق والباطل.. والوجود والضياع.. من أجل أن يتبيّن المسلم، والإنسان عمومًا موطئ قدميه في دنيا مكتظة، لا تكف عن التمخض، وفي عالم لاهث، لا تدعه المتغيرات المتلاحقة، يجد "نفسه" أو يستقرّ على حال.

وإزاء كل خبرة، أو فكرة، أو واقعة، هنالك "الصراط" الذي يشكله هذا الدين، وليس وراءه سوى الضلال.

ومهمة المفكر المسلم، أن يكشف عن الصراط، وأن يحذر من الذهاب إلى الطرق المعوجّة، التي ضيعت الإنسان، ولا تزال.

هذه المهمة التي هي بالتأكيد، ليست ترفًا، ولا اختيارًا، ولكنها فرض عين على كل قادر، من أجل تأكيد مصداقية هذا الدين، في دائرة الأفكار، أو ساحات التجارب، والوقائع والخبرات..

هي مهمة متجددة، لا تنتهي أبدًا: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الأنعام:153).

والى الله وحده نتوجّه بالأعمال.

د. عماد الدين خليل

ميارى 3 - 8 - 2010 04:42 PM

الأفقي والعمقي في هندسة الحياة

( 1 )

تتفوّق الحضارة الغربية المعاصرة، في قدرتها على هندسة العلاقات الأفقية.. تنسيق المفردات - في مستواها الأفقي - ووضع كل منها في مكانه الصحيح، من خطوط الطول والعرض، ومنحه فرصة أكبر للفاعلية، والتحقق. ولعل هذا - إلى غيره من الأسباب - ما مكّن لهذه الحضارة في الأرض، ومدّ مساحتها في الآفاق.

والذين يذهبون إلى بلدان الغرب، وبخاصة في رحلاتهم الأولى، يلحظون، أول ما يلحظون، هذا البعد، في الحياة الغربية، فيدهشون له، ويعجبون به، وقد يندفع بعضهم، وربما أكثرهم، إلى اعتناق شعارات وأهداف هذه الحياة، واتخاذها مثلاً أعلى، بعد أن تتم المقارنات الشاملة، بين هذا، الذي يعيشه الإنسان والمجتمع المتحضر في الغرب، وبين تلك الفوضى، التي تلفّ العالم الثالث، والشرق الإسلامي، فلا تكاد تبقي على أية علاقة سليمة، صالحة في المنظور الأفقي للحياة.

والذين يرحلون إلى مدن أوروبا وأمريكا، لا يملكون أنفسهم، من الانبهار، وهم يرون شبكة العلاقات، في تلك المدن، تنطوي على ذلك القدر العجيب، المتكامل، الدقيق، من التناسق، والتغطية، والإحكام.. والجمال ! وهم لم يبعدوا، أو ينفصلوا بعد، عما تنطوي عليه العلاقات العامة في بلدانهم - بالمقابل - من سوء، وتفكك، وتناقض، وانحسار، وخلل، وقبح ! فسرعان ما تكتسحهم ردود الأفعال، فيعلنون إعجابهم، وربما انتماءهم، للحياة الغربية، ورفضهم وإدانتهم واستهجانهم لحياة الشرقيين.. ثم يرجعون إلى ديارهم - إذا رجعوا - لكي يعلنوها حربًا شعواء، ضد العادات والتقاليد والأعراف، التي قادت إلى هذه البشاعة، ويطالبوا بالبديل الغربي الجاهز، الذي عاينوه هناك!

والذين يرحلون إلى ديار الغرب، ويتجولون في شوارعه ومتنزهاته، ويركبون وسائط نقله، من مكان إلى مكان، ويدخلون أسواقه، وأماكن لهوه، ويراجعون دوائره ومؤسساته، ويتعاملون مع أفراده وجماعاته، تدهشهم أمور كثيرة، عبر هذا الرحيل اليومي، في نسيج العلاقات العامة للحياة.

وأول ما يدهشهم، تلك الشبكة الدقيقة المحكمة من "الخدمات"، والقدرة على توصيلها، وتيسيرها لكل إنسان، وبزمن قياسي، قد تبدو معه الخدمات العامة في الشرق، وكأنها تمتطي ظهور الجمال والحمير، لإيصال قرب الماء للأزقّة والأحياء.. بينما هي في الغرب، تتعامل بحسابات السنين الضوئية، في وصولها للمواطنين، وفي اجتيازها لفضاء الكرة الأرضية، من أقصاه إلى أقصاه.

ليست السرعة فحسب، وإنما التغطية الشاملة لكل دقائق وتفاصيل وحاجات الحياة اليومية، المزدحمة المتجدّدة.

ويجدون، مع هذا الإحكام الخدمي، صيغة في التعامل الأخلاقي، تتميز بالصدق والجدية والإتقان.. بل إنها تمضي إلى أبعد من ذلك، فتمنح العلاقات عذوبة إنسانية، كنا قد افتقدناها في حياتنا الشرقية، منذ زمن بعيد: اللطف والبشاشة، والكلمة الطيبة، والبسمة الحانية، والنظافة، وإماطة الأذى عن طريق الناس !

ومع المسألة الخدمية، التي تحتل مساحة واسعة، في العلاقات العامة، ومع كافة أبعادها المادية، والفنّية، والإنسانية ، يجد الذاهبون إلى ديار الغرب، إنجازات مبدعة متنامية في العمران، والتخطيط، والنشاط العلمي، والتكنولوجيا، والتطلع الدائم صوب الكشف، والاختراع، والابتكار، والتجدد، والنمو، والتيسير..

ميارى 3 - 8 - 2010 04:43 PM


( 2 )

لكن هذا كله - إذا أردنا الحق - ليس سوى وجهًا واحدًا للمسألة، بينما يظل هناك الوجه الآخر!

والوجه الآخر، هو البعد العمقي للإنسان والحياة..

فالذين يتأملون الغربيين، وهم يركضون برشاقة عبر الشوارع، ويمارسون أعمالهم، والبسمة معلقة على وجوههم، أو يتنزهون، وقد احتضن أحدهم الآخر والتصق به.. يدركون كم أنهم - رغم هذا كله - غير سعداء! وأن ثمة شيئًا ما ينقصهم.. وأنهم يعيشون "السطح" بكل مطالبه وقيمه، ويتمتعون بكل مفرداته، وميزاته، ومعطياته، ولكنهم يفتقدون العمق.. البطانة الروحية، التي تمضي بعيدًا باتجاه القلب، والروح، والوجدان.. المحبة التي تتجاوز المنافع العاجلة والعلاقات العابرة، فتصير ديمومة واستمرارًا.. الآمال الكبيرة، التي تعبر نسيج الحياة اليومية إلى الأبدية.. السعي الذي يكسر جدار المنظور والملموس، باتجاه السماء البعيدة.. والتعبّد الذي يتمرد على الطقوس المتيبسة، والشكليات الخالية من النبض، ويتصل مباشرة بالله، فينتفض، ويخفق، ويطير..

المخدوعون، والمتسرعون،والمأخوذون بظواهر الأشياء، لا يرون أيّما شيء من هذا كله.. لكن الذين يتمعنون جيدًا، ويرفضون الوقوف عند حافات الظواهر والأشياء، سيجدون كم ينطوي ديكور الحياة الغربية، المتزين الجميل، على حشود من البؤس والتعاسة، واليأس، والقبح، والشقاء، بسبب من تضحل هذه الحياة، وتسطحها، وعريها الروحي، وخوائها الوجداني! وكم أن البشاشة المعلّقة على الوجوه، والبسمة المرسومة على الشفاه، تخفي حزنًا عميقًا، وقلقًا دفينًا.. إنه يرى، ويلمس، كيف أنهم يعيشون حياتهم كاملة، إذا جاز التعبير.. كيف أنهم يشبعون ويرتوون، ويستجيبون لشهواتهم، بالصيغة التي يريدون، وكم أنهم يتكاثرون بالأشياء، ويضعون في دورهم، ودوائرهم، كل ما يخطر، وما لا يخطر على البال، من التيسيرات، ووسائل اللهو، والمتعة، والإشباع.. لكن هذا كله، لا يتجاوز طبقاته الحسية والجسدية، ولا يعدو مطالب العقل والمنطق، في حدودهما القريبة، ولا يغادر ساحات المنظور والملموس..

إن هذا كله يتحقق على سطح الحياة الغربية.. في طولها وعرضها، على امتدادهما، بينما تظل، في المقابل، فجوة ما، في هذه الحياة.. حفرة عميقة تنخر في وجدان كل غربي حساس، يملك قدرًا من الشفافية، والتوفز العصبي.. يظل ثمة شيء ما ناقصًا، في صيرورة هذه الحياة.. يعذبهم، ويشقيهم، ويجعلهم، رغم صنوف الإشباع، والتيسيرات، والعلاقات المحكمة كلها، غير سعداء!

إن المتمعن في وجوه الغربيين، ليستطيع، بغير ما صعوبة، أن يكتشف كم أن الحزن، يتوغل في أعماقهم، ويستطيع - كذلك - أن يضع يديه بالسهولة نفسها على سبب هذا الحزن كله: إنهم يعيشون على السطح ، بينما هنالك في العمق فراغٌ مخيف!

( 3 )

لكأن كل واحد منهم يتساءل، بعد كل صنوف الإشباع، والتكاثر الشيئي، والتطمين الخدمي والاجتماعي: وماذا بعد؟

إنها رحلة الليل والنهار، وحصارها المخيف.. لفّها الذي لا يرحم، وروتينها القاسي، الذي يمسك بتلابيب الإنسان.. ولن تكون كل صنوف الإشباع والتيسير، إزاء هذا كله، قادرة على أن تفعل شيئًا، لإنقاذ الإنسان.. لمنحه جديدًا .. للمضي به أبعد قليلاً من موطئ قدميه، حيث يأكل، ويشرب، ويتلذذ، ويجامع، ويتكاثر.. وينام.

إن الاستجابة لمطالب الحس، يمنح الإنسان شيئًا من التوازن، لكنه إن لم يقترن، بتحفيز مطالب الروح، والاستجابة لها، فإن شرخًا محزنًا، سيشطر الإنسان، وسيجعله - في نهاية الأمر - يتضاءل، وينكمش، على مساحة محدودة من حياته البشرية لا تتجاوز دائرتي العقل والحس، ومن ثم يُحجّم، ويُصغّر، ويفقد الكثير من أبعاد بشريته، فيعيشها في أضيق نطاق، وما تلبث الحياة، أن تتكشف عن انحسار، وخواء محزنين، وأنها بأمس الحاجة إلى عمقها الضائع، وبعدها المفقود، لكي تستحق أن تعاش.

إن عبارة: "ماذا بعد؟ ماذا لو ربح الإنسان العالم، وخسر نفسه؟" التي صاغها، وطرحها، كل المنشقين على حضارة الحس، والتكاثر، والتيسير المادي.. كل الرافضين لضياع عمقها الحقيقي.. كل اللامنتمين إلى مسيرتها المتضحّلة، الخالية من أي هدف، أو مغزى كبير.. هذه العبارة تختصر المعضلة كلها. إذ أنه بدون أهداف بعيدة، تتجاوز القريب.. بدون آمال كبيرة، تعبر المنظور والملموس.. بدون إيمان عميق، بحياة وراء هذه الحياة، وعالم خلف هذا العالم.. بدون توجّه إلى الله الواحد، جل في علاه.. فلن تكون الحياة، سوى رحلة قصيرة، تتكشف سريعًا، عن نهايتها المحدودة، حيث يتبدّى للإنسان، أن لا شيء يستحق أن يعاش من أجله!

إن الغربيين بحاجة إلى بطانة، إلى عمق روحي، يضاف إلى نسيج علاقاتهم المتفوقة، في امتدادها الأفقي.. وحينذاك - فقط - يمكن أن يستعيدوا سعادتهم الضائعة، التي هي أعذب بكثير، وأعمق بكثير، من كل صنوف الإشباع والتيسير، والتطمين!.

ميارى 3 - 8 - 2010 04:44 PM

( 4 )

إن منطق الحياة البشرية، ووضعها الصحيح في العالم، يقتضيان توازنًا.. يقتضيان تلبية لكل الأشواق، وتغطية لكافة المطالب الجسدية، والحسية، والعقلية، والوجدانية، والعاطفية، والروحية. وكل محاولة لاقتحام هذه الحالة، وتمزيق خيوطها، وإحراق، أو تجميد جانب منها.. كل عبث بمقدرات الإنسان، وغاية وجوده في الأرض، سيؤول إلى الانحراف والانحسار، والميل، والتضحّل، وسيكون في نهاية الأمر، خسارة للحياة البشرية، ولا يمكن - بحال من الأحوال - أن يكون ربحًا للإنسان، بل إنه سيحمّل الحياة حشودًا من المتاعب، والتناقضات، والآلام، والتعاسات، والأحزان.

إنها أشبه بدخول مجموعة من الصبيان العابثين، محطة كبرى للطاقة الكهربائية، ومحاولة تشغيلها، بعد سلسلة من التبديل، والتغيير، والعبث بأجزائها وأسلاكها المتشابكة.. إنها حينذاك لا تمنح إنارة، أو هي قد تمنحها، ولكنها ستقترن بمخاطر، قد تودي بالمدينة، التي أريد إضاءتها في الأساس.

فإذا كانت الحياة الغربية، قد تفوّقت، في تغطيتها للمطالب الحيوية على السطح.. في دائرة العلاقات والإنجاز الفني،والمادي، والتنظيمي، فإنها سجّلت - بتبديلها فطرة الله، التي فطر الناس عليها، أو تجاهل مكوّناتها وطبقاتها - إخفاقًا ذريعًا.. إنها لم تنزل إلى العمق الروحي، لتلبية الحاجات، الأكثر دوامًا وعمقًا.

ولقد كانت نتائج هذا التضحل والانحراف، خطيرة شاملة على الحياة الغربية، وفي أكثر من اتجاه.. هذه النتائج، التي تعبر عن نفسها وضغوطها، من خلال حركات التسيّب الأخلاقي، والفلت الاجتماعي، والبوهيمية التي تكتسح الشباب، في شكل موجات متعاقبة، فتطردهم من مجرى العلاقات الاجتماعية المنتجة، وتصيب بالشلل، قدرتهم على العطاء والإبداع، الأمر الذي دفع ساسةً مثل (كندي) في أمريكا، و(خروتشوف) في الاتحاد السوفييتي (سابقًا)، إلى التنبيه المبكر، على خطورة هذه التوجهات، وتأثيرها السيئ على معدلات النمو الحضاري.

وتعبر عن نفسها حينًا آخر، بمحاولات الهروب، عن طريق المخدرات، وأقراص تدمير الجملة العصبية، ووقفها عن العمل، أو باللجوء إلى العنف والجريمة، والشذوذ الجنسي، أو بالانتحار.. وهي حالات تتزايد باستمرار، على مستوييّ الكم والنوع، وكأنها تقضم الحياة الغربية، وتدمّر نسيجها المتميز الباهر.

وهذه الممارسات المدمرة، تنداح باستمرار، لكي تتسع دائرتها من خلال التحوّل، من الفردي إلى الجماعي، ومن الصيغ البسيطة في التنفيذ والممارسة، إلى صيغ أشد فاعلية وتعقيدًا، بل إنها لتمضي، لكي تشكل علاقات حماية وصمّامات أمان، مع بعض المؤسسات والأشخاص، الذين يتربعون القمة في المجتمعات الغربية، فيُفضح بعضهم، ويظل أكثرهم متخفّين. وهم في الأحوال كلها، يزيدون من تأثير هذه الممارسات الشاذة، وفاعليتها في تدمير الحياة الغربية، وإلحاق الخسائر الجسيمة بها، سواء على مستوى القاعدة أم القمة.

وهذه الممارسات التي تشكل بقعًا سوداء كالبثور، تغطي الوجه الجميل للحياة الغربية، أصبحت كبقع الزيت، تزداد انتشارًا وسوءًا، كلما تحركت إلى مساحات جديدة، وانداحت إلى أماكن، ما خطرت على بال أحد.

وبسهولة بالغة، أصبح بمقدور أي متابع لمعطيات الحياة الغربية، حتى وهو قاعد في بلده، لا يتكلّف عناء السفر إلى هناك، أن يرى ويلمس، حشودًا من هذه الممارسات، التي تكتسح الشارع الغربي، وتمضي إلى البيوت، والأسواق، والمصارف، والمؤسسات، والدوائر العليا..

يلمسها ويراها في الصحيفة، والمجلة، والراديو، والتلفزيون، والسينما، وفي كل ما يسمى بالإعلام المقروء، أو ا لمسموع، أو المنظور. بل إنه يستطيع وهو جالس في بيته، في أقصى مدينة (متخلفة)، من مدن (العالم الثالث)، أن يرى ما الذي يجري في البلدان المتقدمة، وأن يتوقع ما الذي سيفعله، هذا السرطان الذي تكشّف عن (الإيدز)، وحشود من الويلات الأخرى، في نسيج الحياة الغربية في مستقبل قريب أو بعيد.

إنه فضلاً عن تدمير الإنسان الغربي، وتفكيك روابطه الاجتماعية، واستلاب أمنه، وتوحّده، وسعادته، ينعكس سلبًا، وبشكل متزايد، على معدلات الإنجاز، والعلاقات الأفقية العامة، التي تمثل نقطة التألق في المدنية الغربية، فأخذت تفقد الكثير من عناصر ضبطها، وثقلها، وديمومتها، وازدهارها، من مثل الأمانة، والصدق، والإتقان، والأمن، والسلام الاجتماعي..

( 5 )

بل إن المرء، يستطيع أن يلمس، تعاسة الحياة الغربية، التي تتحرك على سطح الأشياء، والتي تفتقد أيما عمق روحي، في احتجاج الغربيين أنفسهم: مفكرين، وفلاسفة، وأدباء، وعلماء اجتماع، وأخلاق، وساسة ، وفنانين، وإعلاميين، وقادة أحزاب، وجمعيات..

احتجاجهم على هذا التوجه الأحادي، في صيرورة الحضارة الغربية، ومناداتهم بالبديل، وقيامهم بمحاولات دائبة للعثور عليه.. ترى، هل سيقدر لهم النجاح؟

كلاّ، في أغلب الظن.. ذلك أنهم يسعون، إلى ولوج الدور، من غير أبوابها، ولكونهم لا يملكون المفتاح.

و يتساءل المرء: ماذا لو اجتمع البُعْدان، الأفقي، والعمقي، في هندسة الحياة؟ ألم يكن الإسلام، ذلك الدين القيم، قد دعا إلى هذا الوفاق المفقود؟ ألم يكن قد قدّم برنامج عمل، لتنفيذه في واقع الحياة؟ بل، ألم يكن تاريخ الأمة التي انتمت إليه، في عصور التزامها، وتألقها، وإبداعها، انعكاسًا صادقًا، للقاء القطبين، في حياة متوازنة، سعيدة، سخية العطاء، يلتقي فيها، ويتعاشق، الأفقي والعمقي معًا؟

فماذا لو حاول أولئك المفكرون، والفلاسفة، والأدباء، والزعماء، المحتجّون على انحراف، وتسطح الحياة الغربية، دخول الدور من أبوابها؟ أليس هذا الدخول المشروع، ذو النتائج المضمونة، هو لصالحهم، وصالح مستقبلهم الحضاري، قبل أي طرف آخر؟!

ميارى 3 - 8 - 2010 04:45 PM

مغزى سقوط الماركسية

( 1 )
يتضمن سقوط الماركسية، في أواخر الثمانينيات، أكثر من وجه، وينطوي على أكثر من مغزى، وهو يمتد، لكي يغطي العديد من السياقات، بدءًا بالتنظير العقائدي، وانتهاءً باحتمالات المستقبل. وسوف تؤشر الصفحات التاليه على جوانب فحسب، من الظاهرة، قدر ما يسمح به المجال.

البداية هناك، في الجذور التنظيرية.. في العقيدة الماركسية نفسها، فالخطأ يكمن هناك، وكل ما شهدته ساحات الممارسة، والتطبيق، من أخطاء، وعثرات، وانحرافات، وتناقضات، وإحباط، إنما يمثل انعكاسًا أمينًا و محتومًا، في الوقت نفسه، لذلك الخطأ الكبير، في أساس النظرية.

وأية محاولة لتحجيم الأخطاء، أو تعويمها، أو فك الارتباط، بينها وبين الأصل العقدي، إنما هي محاولة خاطئة في المنهج، كما أنها، قد تعكس نوعًا من التبرير للهزيمة، وحماية ماء الوجه للعقيدة "العلمية!" بحصر الانتكاسة والسقوط، في دوائر السياسة، أو الاقتصاد.

والشيوعيون أنفسهم، أول المتشبثين بمناورة كهذه، للالتفاف على حقيقة الظاهرة، وبخاصة شيوعيي الذيول، عبر جغرافية العالم الثالث، من المصابين أكثر بالإدمان على الجبن العقلي، الذي سقتهم الماركسية، كؤوسها المسكرة، إذا استخدمنا عبارة آرثر كوستلر، المفكر والأديب الشيوعي المرتدّ.. وقد يتابع هؤلاء وأولئك، كثير من المغفّلين، والمحسوبين على اليسار، لسبب أو آخر، والذين يهمهم، أن يظل شيء من القدسية للعقيدة، وإلا منوا بخسائر فادحة، في قناعاتهم حينًا، وفي مصالحهم أكثر الأحيان.

لكن لسان الحال، والمقال معًا، ومجمل المؤشرات، تقود إلى البؤرة التي تلتمّ عندها الخيوط كافة، وهي أن الانحراف، أو الخطأ، تمركز هناك في العقيدة.. في جمودها.. في أحكامها الصارمة.. في انقفالها.. في احتكارها الماضي بقوالبها الجاهزة.. في مصادرتها المستقبل، بنبوءاتها الكاذبة.. في رؤيتها أحادية الجانب.. في رفضها الأعمى للدين.. وفي إغفالها للإنسان، وجهلها بتركيبه المعقد، ذي الطبقات.

ورغم ما ادّعاه المؤسسون والمنظرون والأتباع، من علمية العقيدة الشيوعية، فإن هذا الإدعاء، لا يعدو أن يكون على حساب العلم، والمنهج، تفنده وتدحضه حشود من أعمال النقد، التي مورست إزاء النظرية، وحشود أخرى من الأخطاء والتناقضات والهزائم، التي منيت بها التجربة، بسبب من عدم قدرتها على التحقق بإدراك مرن لقوانين الحركة التاريخية.. ثم كانت النهاية المحتومة، ذلك السقوط الدراماتيكي، الذي بدا إلى حدّ كبير، مفاجأة لكثير من المراقبين، بينما هو في الحقيقة، ليس كذلك، وإنما هي الأخطاء والتناقضات، التي تنسحب خيوطها في النظرية نفسها، منذ لحظات تشكلها الأولى، وكان لا بد - في نهاية الأمر - أن يتمزق النسيج، وتسقط النظرية والتطبيق، لأن القاعدة - في الأساس - غير (علمية) على الإطلاق!

في مادّيتها الديالكتيكية، ألغت الماركسية الدين من الحساب، وتنكرت لله سبحانه.. وفي مادّيتها التاريخية، اضطرت إلى البحث عن إله بديل ودين جديد، فكانت قوانين التبدّل المحتوم، في وسائل الإنتاج، وصيغه، وعلاقاته، هي الدين وكانت الطبقة هي الإله.. وفي تصاميمها الاقتصادية، أسرت نفسه في أفعال، وردود أفعال، منتصف القرن الماضي.. فلما شبت الممارسات والمعطيات الاقتصادية عن الطوق، وشهدت مفرداتها تغيّرات جذرية عميقة، وانقلابات، تحوّلت بالكثير من المعادلات، من النقيض إلى النقيض.

لما حدث هذا وذاك، لم يعد بمقدور النشاط الاقتصادي، أن يظل على قميصه الضيق العتيق، فكان لا بد، أن يمزقه، ويرمي بأوصاله، ويستبدل به قميصًا غيره.

إن نظرية ماركس (ورفيقه أنكلز)، أو عقيدته (العلمية)، كما يحب هو وأتباعه، أن يطلقوا عليها، إنما هي انعكاس بالحق والباطل،لمعطيات قرن مضى، تم تنفيذها بالقسر، في بدايات قرن أتى، فلما أوشك هذا القرن على انتهاء، تبيّن بقوة الوقائع نفسها، استحالة الاستمرار على الاستمداد منها، وصياغة الحياة البشرية في ضوء معاييرها العتيقة، إذا ما أريد لهذه الحياة، أن تسترجع حقًا قدرتها على التوازن والفاعلية.. فكان هذا الذي كان، في السنوات الأخيرة، مما يعرفه الجميع.

( 2 )

والواقع أن عجز الماركسية، عن ملاءمة الواقع، والتطوّر بالمجتمع البشري صوب الأحسن، أخذ يتضح منذ بدايات التنفيذ الأولى، في عشرينيات هذا القرن، وما تلاها.. بل منذ الشهور الأولى، التي أعقبت ثورة أكتوبر عام 1917م. ومن أجل ذلك، جرت محاولات متواصلة، للترقيع والتقويم، واستعادة القدرة على الوقوف والسير.. ولقد شملت هذه المحاولات، تغييرات شتى، بعضها كان يتحرك على السطح، وبعضها الأخر توغّل إلى الأعماق، وغيّر وبدّل في شبكة المعطيات العقدية للماركسية، وتم استبدال قطع ووصلات، يصعب حصرها، واستعيض عنها بقطعٍ غيار، جيء بها من دائرة الرأسمالية حينًا، ومن نسيج الحياة اليومية الواقعية، حينًا آخر. وكان يوازي هذا، سلسلة من التراجعات عن مطالب النظرية، كان بعضها، ينطوي على تحول جذري، في الاتجاه، عن منطلقه الأساس.

ولقد بدا هذا واضحًا منذ محاولات لينين - المؤسس - التوفيقية، واستمرّ فيما بعد، على يد ستالين، وماوتسي تونغ، وتيتو، وخروتشوف، وأندروبوف، والعديد من المنظّرين السوفييت والصينيين، وعقائديي، ما يسمى بالشيوعيات الإقليمية، أو القومية ! في العديد من بلدان أوروبا، والعالم الثالث، لكي ما يلبث الوضع في عهد غورباتشوف، أن يتكشف عن استحالة الاستمرار على مداواة الضرس، الذي نخره السوس، ومحاولة حشوه، أو تعزيزه بالبلاتين والجسور.. وأنه لا بد من قلعه من الجذور، إذا ما أريد للثة أن تستعيد عافيتها، وللإنسان أن يأكل حتى الشبع، دونما منغصات أو آلام.

ميارى 3 - 8 - 2010 04:47 PM

( 3 )

ولقد كان خطأ الماركسية القاتل، من بين أخطاء عديدة أخرى، أنها اصطرعت مع الإنسان، والتاريخ، والخبرة الحضارية، (إذا استعملنا عبارة الناقد الإنكليزي المعاصر جون سترايتشي).. لقد أرادت تغيير الفطرة البشرية، وإعادة تركيب الإنسان، تركيبًا ميكانيكيًا صارمًا، بأكبر قدر من التسطيح، كما يقول عالما الاجتماع المعاصران تشارلز بيج، وماكيفر.. وأعلنت الحرب على التجارب، والمؤسسات، والقيم الحضارية، التي تشكلت عبر التاريخ، لصالح الإنسان: الدين، العائلة، والأخلاق، والتي تمثل ضرورات، ومرتكزات، أساسية للحياة البشرية. وكان المنشور، أو البيان الشيوعي المعروف، الذي أصدره ماركس وأنكلز، في منتصف القرن الماضي، لا يعدو، أن يكون فورة عاطفية، أو فكرية، في مجابهة حيثيات الإنسان، والتاريخ، والحضارة.. وحاول الرجلان، وكل الذين ارتضوا، أن يتبعوهما، إلباس البيان معطف العقائدية، والعلمية، والثورية.. إلى آخره، وأن يقفزوا في الفضاء.. لكن الواقع المنظور، والممارسة البشرية، ما لبثت بعد صراع مرير، وخسائر باهظة على كل الجبهات، أن أعلنت انتصارها، على التنظير الخاطئ.. وقدرتها على الثبات والديمومة، في وجه أعاصير التبديل والتحريف.. ووجدت القيادات الماركسية نفسها، تتراجع يومًا بعد يوم، وعلى أكثر من جبهة، إزاء زحف وحصار الضرورات الإنسانية، وتعلن، بين الحين والحين، استسلامها المغطى بشعارات التطوير والملاءمة، بين أسس العقيدة، ومطالب "الإنسان"!

ولقد كان من عنف الضغوط، التي مارستها الزعامات الماركسية، بالقسر والإكراه، ضد هذه المطالب والمرتكزات، أن جاء ردّ الفعل بالعنف نفسه. ففي الثورة البولندية المضادة - مثلاً - أصبح البابا، زعيم الكاثوليكية في العالم، رمزا ومخلّصًا ومعشوقًا.. وفي الانتفاضة الشعبية الرومانية، التي أطاحت بالديكتاتور المعروف تشاوتشسكو، كانت صرخات الثائرين، تشق أجواء الفضاء: "قُتل عدوّ المسيح" ! وفي جمهوريات آسيا السوفييتية، ذات الأكثريات الإسلامية ، أصرت الأجيال الناشئة، رغم سبعين سنة من عمليات غسيل المخ، بالتوجيه العقائدي والفكري، وبالتلقين التربوي والإعلامي، وبالقسر البوليسي والعسكري، الذي نفذته قواعد الحزب، والبوليس، والجيش، والشرطة السرّية، أصرت على التشبث بقيمها، وتقاليدها، وأصولها الإسلامية، فيما حدثتنا عنه بالتوثيق الدقيق، هيلين دانكوس، الخبيرة الفرنسية في شؤون الاتحاد السوفييتي، في كتابها: (القومية والدولة في الاتحاد السوفييتي)، فأطالت الحديث.

وقبالة الإغراءات، والتهديدات، والضغوط كلها، قدر أحفاد الحضارة والقيم الإسلامية هناك، على الحفاظ على هويتهم، والوقوف إزاء القيادة، التي ما وجدت وسيلة لتدمير قناعاتهم الدينية، إلا استخدمتها.

وتجريد المرأة السوفييتية من أنوثتها، ومساواتها القسرية بالرجل، أخفقت هي الأخرى.. والعائلة عادت، لكي تفرض نفسها في نسيج الحياة السوفييتية الجديدة.. ونظرية (كأس الماء) التي نادى بها منظّرو الماركسية، والتي جعلت من الدافع الجنسي، مجرد نزوة عابرة، يمكن إفراغها بسرعة، كما يشرب العطشان كأسًا من الماء، لكي يواصل الإنسان قدرته على الإنتاج، دونما توتر، سقطت هي الأخرى، وأعلن لينين بعد سنوات قلائل، إلغاءها، واستبدالها بمنطق الأسرة والإنجاب، والطفولة، التي تأوي إلى حنان الأمهات، وتعرف على وجه اليقين من هم الآباء..

ومنظومة القيم الخلقية، التي قيل إنها - كالدين والعائلة - انعكاس لحالة بورجوازية، راحت القيادات السوفييتية، تحرسها، وتعضّ على استمرارها وفاعليتها بالنواجذ، وإلا تحوّل الشعب السوفييتي كله إلى لصوص وقتلة، ومرتشين، وتعرضت الأنشطة الإنتاجية نفسها، للتسيب، والتفكك، والدمار.

والتقسيمات الطبقية الصارمة، والمفصّلة على حجم المعطيات الاجتماعية، في منتصف القرن الماضي، تهاوت هي الأخرى، وأصبح العمال أنفسهم، هم الذين يتولون كبر الثورة ضد الماركسية كما حدث في أكثر من بلد شيوعي.. وأصبح الشعب كله، بجنده، ومثقفيه، وعماله، وفلاحيه، هو الذي يخرج إلى الشوارع فيضحّي، ويتعرض للإبادة والقتل الجماعي، ثم ما يلبث، أن يفرض كلمته، ويكنس كل الزعماء والمرتزقة، وأرباب المصالح، ممن رأوا في الشيوعية مطيتهم الملائمة، لحماية مصالحهم، وضمان مراكزهم المتقدمة، في أجهزة الحزب، والدولة، ومؤسسات الأمن والمخابرات.

والإنتاجية، التي كانت معبود الماركسيين، وإلههم الجديد، التي ضحّوا من أجلها بكل ثوابت وضمانات الحياة البشرية، تعرّضت لانكسار عجيب، فلم تعد تسمن، أو تطعم من جوع.. وطبيعة الإحصاءات، والأرقام المعلن عنها، أصبحت مثارًا للتندر والسخرية، كذلك الرقم الذي يقول بأن 98% من مزارع البطاطا في الاتحاد السوفييتي، كانت تنتج ما تنتجه 2% فقط من مزارع البطاطا في أمريكا، وكتلك الواقعة التي تقول: إن المجريين، والرومانيين، والبلغار، كانوا يأكلون الدخن والشوفان، من أجل أن يذهب القمح إلى روسيا (الأم)، حينًا، ويصدّر حينًا آخر للحصول على العملات الصعبة.

وهذا حق.. فإن هيكليّات النظام الماركسي، وقوالبه المتيبسة، كادت أن تأتي على أهم ما يهم المجتمعات، التي خضعت للروس، من ضمانات الطعام، وتقتلها من الجوع، وأصبحت هذه بالذات، واحدة من مقاتل النظام الشيوعي الذي نفذت منها الولايات المتحدة، زعيمة الإمبريالية العالمية، لكي تنقص عرى الشيوعية عروة عروة، بعد أن كانت الشيوعية نفسها، قد خرّبت بيوتها بأيديها.

( 4 )

وثمة ما يقال، عن غيوم مظلمة، قد تطلع من الأفق، ويجيء بها المستقبل القريب أو البعيد، بسبب من منطقة الانخفاض الجوّي، التي شكلها سقوط الماركسية، والفراغ الذي تركته.. إنها أوروبا الموحدة، التي قد تشهر سلاحها مرة أخرى، في وجه دول العالم الثالث، أو الإسلامي المنكود، بحرب صليبية ثالثة، أو رابعة، قد تشنّ هنا أو هناك، ليس بالضرورة في صيغة عمل عسكري، وإنما بالعديد من الصيغ الأخرى، وبخاصة الاقتصادية، التي أصبحت تشكل اليوم واحدة من أخطر القدرات الهجومية، في الصراعات الراهنة.

إن شيئًا من هذا، قد تحقق فعلاً: (مثلاً سحب المعونات الغربية من دول العالم الثالث، وتقديمها لأوروبا الشرقية.. والتعاطف الملحوظ بين المؤسسة البابوية والثورات الشعبية، ضد الماركسية في أوروبا.. وحدة ألمانيا الشرقية والغربية.. اللقاءات المتكررة بين الزعامة السوفييتية الجديدة، وساسة أوروبا الغربية، من أجل مزيد من التنسيق، والعمل المشترك.. تبنّي دعوة جمهوريات البلطيق الثلاث للانفصال، مقابل الإصرار على عدم تشجيع الجمهوريات الإسلامية، لتحقيق الهدف نفسه.. الاتفاق السوفييتي الأمريكي الأوروبي، على تصفية القضية الفلسطينية، تحت مظلة مؤتمر السلام..إلخ)..

وقد يجيء هذا كله، على حساب عالم الإسلام.. بل إن الزعامة السوفييتية الجديدة، بسبب من رغبتها في التحديث، والتحرّر من أشباح الماضي، وبدافع من ضمان وصول الإمداد الغذائي الأمريكي، وبخاصة القمح، وقروض العملات الصعبة، لكي لا يتعرض المواطنون السوفييت للمجاعة، والتفكك، أخذت تطلّ برأسها إلى ما وراء القارة الأوروبية، إلى أبعد من السوق المشتركة، باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل مزيد من التعاون والتنسيق، ولن يكون هذا، مرة أخرى، إلا على حساب عالم الإسلام! (ومن يدري، فقد يكون تجميد الوضع في أفغانستان، أو محاولة تجميده، لمنع حركة الجهاد الأفغاني، من تحقيق هدفها النهائي، من بين شروط اللعبة).

ويجب ألا ننسى ها هنا، أن الشيوعية والرأسمالية، إنما هما فرعان لحضارة مادية واحدة، وأنهما يرضعان في نهاية الأمر من ثدي واحد، وأن سقوط الماركسية، كان أمرًا توقعه العديد من المفكرين والمؤرخين (ولنتذكر - على سبيل المثال - توقّعات الشهيد سيد قطب رحمه الله، واستنتاجات الكاتب الروماني كونستانتان جيوروجيو) فليس بمستغرب - إذن - أن يعود الأخوة الأعداء ، إلى اللقاء، كرة أخرى، بل ليس من المستغرب، أن يرجع المعسكر الشرقي، وهو مثخن بجراح التطبيقات الماركسية الخائبة، لكي يرتمي في أحضان أمريكا !

لكن تشاؤمًا كهذا، يجب ألا يتجاوز حدوده المعقولة، فإن عالم الإسلام كان مبتلى بالتفوّق الغربي، وما ترتب عليه من استعمار، واستلاب، وابتزاز، يوم كان الغربيون - بما فيهم الروس - ينقسمون على أنفسهم، إلى معسكرين، أو عدة معسكرات، وأن التآمر على عالم الإسلام، وتدمير مقدّراته، وابتزاز ثرواته، وحجب حقّه المشروع، بمستقبل حرّ سعيد، كان قد مورس، زمن الدولتين العظميين، كما سميتا وقتها، وقبلهما وبعدهما.. على السواء.. وما لم يتولّ المسلمون أنفسهم، مهمة الدفاع بأنفسهم، عن وجودهم، ومصالحهم، ومصيرهم.. ما لم ينسجوا بأيديهم خيوط حرّيتهم، وسعادتهم، فإن أحدًا في العالم، لن يمدّ إليهم يدًا، سواء كان هذا العالم متحدًّا، أم منقسمًا.. فالحرية لا تستجدى، وإنما تنتزع انتزاعًا، ورحم الله من قال:

ما حكّ جلدك مثل ظَفْرِكْ فتولّ أنت جميع أمــرِكْ

وكلنا يذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أن أكثر من تلاقٍ، تم بين المعسكرين الكبيرين، أيام ما سمي بالحرب الباردة، أو الصراع العقائدي، بين الاتحاد السوفييتي، والإمبريالية العالمية.. ولقد توّجت تلك اللقاءات، بوفاق هلسنكي المعروف في الستينيات، بين روسيا وأمريكا.. وكانت تلك اللقاءات، تستمد حيثياتها من المصالح المشتركة والأرضية الحضارية الواحدة، ومن ضعف وتهافت، واستخذاء، وعمالة دول، وقيادات العالم الثالث، والإسلامي على وجه الخصوص، والرغبة المشتركة في اقتسامها، واستنزافها، حتى النخاع، وتصريفًا للسلاح العتيق، بالعملات الصعبة، واستيرادًا للخامات الثمينة،وبخاصة النفط، بسعر التراب، وتصديرًا للبضائع الكاسدة، وتحريكًا للثروة، وإيجاًدا لمواطئ قدم، في الصراع الاستراتيجي بين الطرفين.

ولنتساءل، مجرد تساؤل: ما الذي عملته الزعامة السوفييتية، في حربي 1956م و 1967م مع إسرائيل؟ لقد كان إنذار بولغانين، لدول العدوان تمثيلية استهلاكية ساذجة، مرّرت علينا، لأن الذي أرغم بريطانيا وفرنسا على الانسحاب هي أمريكا، وليست روسيا.. أمريكا التي غضّت الطرف عن انقلاب عام 1952م في مصر، وكانت حتى عام 1956م تؤمل فيه خيرًا، فتحرسه، وتحميه.. ثم بعد كم من التنازلات السرية والمعلنة، قدمتها القيادة المصرية لإسرائيل، من أجل أن تنسحب، وينسحب معها الإنكليز والفرنسيون؟.

أما في حرب الـ 1967م، فإن الزعماء الروس، خدعوا عبد الناصر، بإيهامه أن إسرائيل لن تهاجم، وأن عليه هو - في المقابل - ألا يبدأ الهجوم!.. وفيما بعد، وعبر حرب الاستنزاف، ما الذي قدمته روسيا لمصر، غير الأسلحة الدفاعية الصرفة، وكأنها تحرص، أكثر من أمريكا على رضا إسرائيل وأمنها؟

وغير هاتين التجربتين المريرتين، عشرات من التجارب، التي أكدت أكثر فأكثر، أن الغربيين مهما اصطرعوا على العقائد، والمصالح، فإنهم يد واحدة على من سواهم، سواء انقسموا إلى دولتين عظميين، أو عشرين دولة متوسطة القوة، كما حدث في الحربين الأولى والثانية، أو اتحدوا في إطار أوروبا واحدة، أو عالم وفاق واحد، أو نظام عالمي جديد..

وثمة من المتشائمين، من يرى، بأن فشل النظم الرأسمالية والتوفيقية، التي ستلجأ إليها الدول، والشعوب المتحررة من الشيوعية، قد يؤدي إلى تزايد الفقر والجوع، وتفاقم مشاكل البطالة. كما أن عجز الدول الغنية - لسبب أو آخر - عن تلبية حاجات هذه الشعوب، في لحظات التشكل الجديد، والانعطاف المصيري الحاسم، قد يقود - بمعية العوامل الأخرى - إلى تمركز الثروة، وعودة الطبقية كرّة أخرى، وربما سيتمخض ذلك عن الدعوة، للعودة ثانية إلى الشيوعية التي قد تجد مبرّرات أقوى، من ذي قبل، لكي تستعيد نفوذها، مع شي من عمليات التعديل والتجميل المناسبين، للعصر الجديد!

أما أن النظم الرأسمالية والتوفيقية، قد تفشل في ملء الفراغ، فهذا حقّ، لأن هذه النظم لم تتسلم - بعد - شرعية بقائها وديمومتها في بلادها نفسها، فكيف بها في بلاد تتفاقم فيها المشاكل والتراكمات؟ وأما أن الدول الغربية، قد تعجز عن تلبية حاجات الشعوب المذكورة، أو الاستمرار في دعمها بالمال والغذاء المنتجات الصناعية، فهذا حق كذلك، لأن عطاءًا كهذا، له حد يقف عنده، وهو ليس حرًّا سائبًا، وإنما تحكمه جملة من الضوابط والشروط، التي قد لا تسمح بالاستمرار عليه.

وأما أن ذلك الإخفاق، وهذا العجز، قد يعيد الشيوعية ثانية، بثياب جديدة فذلك أمر بعيد، ليس من قبيل التحليل النظري الصرف، الذي يطرح المقدمات ويستخلص النتائج، وإنما في ضوء قوّة الوقائع المنظورة نفسها.. فها قد مضى أكثر من عامين، على تحرر تلك الشعوب، وعلى جوعها ومعاناتها كذلك، وهي تطالب أكثر فأكثر، بالتخلص كلية من بقايا الماركسية، في حياتها الجديدة.. وها قد مضى أكثر من عامين على الجوع والمعاناة، والجماهير ذات القول والفصل، تخرج إلى الشوارع، وتضحي، وتتعرض للقتل، من أجل مزيد من التحرر، من كابوس، ما كانت تصدق، أنها خارجة من قبضته.

وليس فشل الرأسمالية، والتوفيقية، وعجز الدعم الغربي، بقادر على أن يقنع تلك الشعوب، بأن تتنازل عن حريتها كرة أخرى، للصنميات والطواغيت.

إن الخبز يمكن أن يأتي.. وإن النظم البديلة، يمكن أن تُبتكر، أو تعاد صياغتها، إلى اليوم الذي تصير فيه قادرة على تلبية المطلوب.. لكن شيئًا واحدًا لا يمكن أن يجيء: عودة الشيوعية مرة أخرى، بعد ثلاثة أرباع القرن، من الجوع والقسر معًا.. وبعد سيول غزيرة من الدماء.. وعشرات الألوف من الضحايا. وإنهم ليعرفون جيدًا، أن الشيوعية، إذا عادت، فإنها لن تطعمهم من جوع، وهي - إلى ذلك - سترجع كرة أخرى إلى القسر، الذي لم يعد يطيقه الإنسان، والجماعات، والشعوب.

ميارى 3 - 8 - 2010 04:48 PM

( 5 )

وسقوط الماركسية، يؤكد مصداقية الدين - عمومًا - والإسلام بوجه خاص، وضرورته للحياة البشرية، وقدرته على الديمومة، والاستجابة والعطاء، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.. على العكس تمامًا مما تنبأ به ماركس، ورفيقه أنكلز، وبعيدًا عن ربطهما، الذي لا يقوم على أي أساس علمي، أو تاريخي، بين المعطى الديني، والمصالح الطبقية. وهذا السقوط، يجيء في أعقاب تهافت العديد من الفلسفات، والأيديولوجيات الوضعية، كان آخرها تلك الضربة القاضية التي تلقّتها (الوجودية) على يد مؤسسها نفسه: جان بول سارتر، والذي صرّح لخليلته سيمون دوبوفوار، قبيل وفاته: بأنه يرفضها جملة وتفصيلاً، وأنه ليس ثمة من حقيقة باقية إلاّ الله.

إن هذا السقوط، فضلاً عن كل ما ينطوي عليه، من معانٍ ودلالات، ليضرب عرض الحائط، بكل نبوءات واستنتاجات الماركسيين، والموضعيين عمومًا، أولئك الذي توهموا (الدين) مجرّد حالة تاريخية عابرة، وأنه سيجيء اليوم الذي يتخلى فيه عن مهمته، ويخلي فيه المكان للعقل البشري، يخطط، ويبرمج، ويرسم المذاهب، والأيديولوجيات، وينفرد بمصير الإنسان.. بل إن يومًا كهذا قد جاء فعلاً.

إن سقوط الماركسية، بقدر ما يؤكد هذا كله، بقدر ما يطرح - في المقابل - تحديًا خطيرًا أمام الإسلاميين، ربما يكون أشد من تحدي الإلحاد الماركسي نفسه، زمن انتشاره وهيمنته. ذلك أن الأمر يتطلب تحركًا سريعًا لملء الفراغ، وتأكيد القيم الإسلامية، وتعزيزها، والمضي بالمشروع الإسلامي - الحضاري، في حركة انتشار واسعة، من المحلي إلى العالمي، ومن الآني، إلى المستقبل.. وكسر حواجز الجغرافيا، وعبور أنماط الحصار المذهبي كلها، من أجل الوصول إلى الإنسان في كل مكان، والحديد - بعد - على أشدّ ما يكون سخونة، والطرق عليه، قد يعيد صياغته، بيسر وسهولة، لكي يتشكل، وفق مطالب الإنسان.. إنه زمن التقدم للعالم كله، بالرؤية أو الحل الإسلامي، إزاء كل مفردة عجزت الماركسية، عن التعامل معها بنجاح.

والهروب عن مجابهة التحديد، سيؤتي أكله السيئ مرتين، ويقود الإسلاميين إلى خسارتين لا خسارة واحدة، أولاهما: تفويت الفرصة المواتية لملء الفراغ، الذي تركته الماركسية، وسائر الوضعيات، في ضمير الإنسان وعقله وروحه، وفي نسيج حياته الاجتماعية وتطلعاته صوب المصير. وثانيتهما: منح الفرصة نفسها للمحاولات الدينية المحرّفة، وبخاصة النصرانية، كي تتقدم بالمطلوب، ولسوف يكون عجزها المؤكد، عن الاستجابة لمطالب الإنسان، فرصة جديدة للوضعية والإلحاد.. في صراع المدّ والجزر، بين الكفر والإيمان، وهو أمرُ ليس بمستغرب على سلوكيات الغربيين، الذين طالما تأرجحوا، عبر تاريخهم الطويل، بين الأفعال وردودها، بغض النظر عن مقدار الصدق والاستقامة، والصواب في نسيج تلك الأفعال، أو ردودها على السواء.

إنه زمن التأكيد على واقعية الإسلام، وهندسته المعجزة، ووسطيته، وإيجابيته، وقدرته المرنة على مجابهة كل المعضلات والحالات، بالحجم المطلوب نفسه.. زمن التواصل المكثف، المدروس، مع الحيارى والضائعين في كل مكان.. مع الباحثين عن طريق الخلاص في أقطار العالم الأربعة.

وكما خرج أجدادنا إلى العالم، يوم أن تلقوا الضوء والإشارة، لكي يُخرجوا العالم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده.. فإن على الأحفاد، أن يخرجوا كرّة أخرى إلى العالم، بالصيغ والأساليب الموازية لمطالب ومعادلات العصر الذي نعيشه.. لكي يقولوا للإنسان: هذا هو الطريق: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون )(الروم:30).

ميارى 3 - 8 - 2010 04:51 PM

من الأنا..إلى الآخر ..إلى العالم

( 1 )
يتحرك الإسلام، في توجيهاته الأساسية والتفصيلية، لكي يبني الفرد، ويرسي المجتمع، ويعزّز علاقاته، ويمتن أواصره، ويعمّق وحدته.. حركة هندسية مرسومة ومنطقية.
إنه يبدأ من الذات باتجاه الموضوع، ومن الفرد باتجاه الجماعة، ومن الآني باتجاه المستديم، ومن البيئة باتجاه العالم، ومن المحدود باتجاه المطلق. كما أنه يتحرك بصيغة الاندياح الذي تنفذه الموجه، وهي تندفع دائريًا، متسعة شيئًا فشيئًا، باتجاه حالة أكثر شمولية وامتدادًا.
فها هنا بمقدور المرء، أن يلحظ، كيف أن التوجيهات الإسلامية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، تطلب - في البدء - تعزيز الذات ، وتغييرها المتواصل إيمانيًا، ثم تمضي باتجاه الأسرة، الأقرب إلى الإنسان الفرد، في علاقاته الخارجية، ومن هناك تنداح الدائرة باتجاه الجار، والقربى، والحي والمدينة، فالمجتمع المسلم، فالأمة الإسلامية على امتدادها، فالشعوب والأمم المجاورة، فالإنسانية جمعاء.

إن بؤرة الحركة، هي الذات: (ذلك بأن الله لم يكُ مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم )(الأنفال:53)، و (إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم )(الرعد:11).. وحدّها الآخر، هو البشرية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء:107)، (وما هو إلاّ ذكرٌ للعالمين )(القلم:52)، وما بين الذات، والبشرية، تتحرك المعطيات الإسلامية ، تشريعًا وتوجيهًا، لكي ترسم لكل حالة طريقها، وتضع كل ممارسة في مكانها الموزون، ولكي ما يلبث هذا الجهد الدايناميكي، الذي لا يقف عند حد، أن يساهم في صياغة الحياة الإسلامية المتوازنة، المستقيمة، الآمنة، السعيدة، القديرة على العطاء بقطبيها: الفرد المسلم، والمجتمع المسلم.

ومن ثم نعرف، لماذا كان في نسيج المعطيات الإسلامية، ذلك التأكيد على بناء الفرد، يقابله، ذلك التأكيد على حقوق الجار، ومطالب الحي، والمدينة، وصولاً إلى المجتمع، فالأمة، فالعالم. إننا إذا تصوّرنا المسألة، ببعدها الهندسي، فإن كل جار - على سبيل المثال - سيكون مضمون الحق من جاره، ضامنًا لحق جاره الآخر، في سلسلة متواصلة، تغطي الحي كله، فالمدينة، فالمجتمع.. إلى آخره.. ومعنى هذا، أن الضمان لن يكون ثنائيًا، بين جار وجار، وإنما شاملاً للأسر كلها، للبيوت جميعًا، في هذا الحي الإسلامي، أو ذاك، وفي هذه المدينة، أو تلك، وسيعيش الجميع في انسجام وإلفة وأمان.

إن التعاليم الإسلامية - لهذا الهدف - لا تترك صغيرة، ولا كبيرة، في نظام العلاقات البشرية، لم تخطط لها، وتضعها في حالتها التوازنية القصوى: الفرد، الأسرة، الجوار، الحي، المدينة، الدولة، المجتمع، الشعب، الأمة، والعالم. ومن أجل هذا.. من أجل تلك التغطية الدقيقة الشاملة، لكافة الدوائر والمساحات، في الحياة البشرية.. من أجل الحركة، التي تأخذ بحسبانها كافة الأقطاب، التي تشارك في صنع الحياة، بدءًا من الفرد، وانتهاء بالعالم.. من أجل عدم تعجّل التعاليم الإسلامية، في التعامل مع كل خلية، في نسيج المجتمع الإسلامي، والبشري عمومًا.

من أجل هذا كله، خيّل لبعضهم أن الإسلام هو عقيدة تحقيق "الذات"، وخيّل لبعضهم الآخر أنه دين "الجماعة".

( 2 )

وقد يكون كل من الطرفين على صواب، وقد يكونان على خطأ، أو قصور في الرؤية، أو عجلة من الأمر، بل - ربما 0 على ميل أو هوى، يسوقهم إلى تأكيد قناعاتهم الفردية، أو الجماعية، باستمداد الشواهد السخية، من معطيات الإسلام، في هذا الاتجاه، أو ذاك.

إننا نجد مفكرًا فيلسوفًا متألقًا كإقبال - مثلاً - يندفع بإخلاص، قبالة ضغوط وتأثيرات الحضارة، والفكر الغربي، في النصف الأول من هذا القرن، للتأكيد على كل ما هو ذاتي، في هذا الدين.. كل مفردة، أو ممارسة، أو تعليم، أو خبرة، يمنحها الإسلام لأبنائه، ويلزمهم بها، لكي يبني كل ذاته، بالعمق المطلوب، والتأصيل الضروري، والإغناء اللازم، ولكي ما تلبث عملية بناء الذات هذه، أن تتمخض عن ذلك الإنسان، المؤمن، الواثق، القدير على الفعل، المستعد لمجابهة التحدّيات، والصمود بوجهها، واجتيازها.

إن محمد إقبال، في (تجديد الفكر الديني)، وعبر معظم دواوينه السخية، ببطانتها الفكرية، يؤكد هذا المنحى، وهو صادق في استنتاجاته هذه، لأنه كان يجد هذا الدين، لا سيما في زمن دمار الشخصية الإسلامية، وفنائها، وتلاشيها، هروبًا من تحديات الحضارة الغربية، أو اندماجًا فيها، كان يجد هذا الدين، يضع للمنتمين، برنامج عمل في ميدان تأكيد الذات، وتفرّدها، لم تبلغ سائر المذاهب والأديان الفردانية عُشر معشاره.

لكن هذا الوجه وحده لا يكفي، لأن هناك وجهًا آخر، يتعامل، ويرسم، ويخطط، من أجل أن بيني الجماعة المسلمة، ويعزّز وجودها، قبالة تحديات التآكل والفناء، ويمنحها دفعًا كبيرًا، للتميز، والتماسك، والعطاء، الأمر الذي جعل فئة أخرى من المفكرين، وبعضهم ممن حسب يومًا على ما سمي باليسار الإسلامي، يعلنون عن موقف نقيض تمامًا، للموقف المذكور، بتأكيدهم على "جماعية" الفكر الإسلامي، وعلى أن هذا الدين، كان يستهدف "المجتمع"، في نسيجه الشامل، أولاً، وأخيرًا. وهم - كذلك - قد وجدوا حشودًا من الشواهد لتغذية قناعاتهم.. ذلك أن حركة الإسلام - كما المحنا قبل قليل - بمجرد أن تنداح دائرتها، فيما وراء عتبات الذات، ستجد نفسها، تمتد إلى كل ما هو جماعي.. كل ما يخفق في نسيج المجتمع، بدءًا من التعامل بين الجار والجار، وانتهاء بالعلاقات الدولية، بين المسلمين والعالم.

لكن هؤلاء أيضًا، ما كان لهم ، أن يقفوا عند جانب واحد من الصورة، فيقعوا في خطيئة الرؤية، ذات الجانب أو التوجه الأحادي، وكان عليهم من أجل أن يكونوا أكثر موضوعية، أن يعاينوا الصورة بوجهيها معًا، رغم أن هذه الرؤية التكاملية، لا تقلل البتة من أصالة الإسلام ، وهو يتعامل مع الفرد، أو من أصالته وهو يتعامل مع الجماعة. فإن هذا الدين، قد أولى من الاهتمام، لكلا القطبين، وغذّاهما بسيل من التعاليم، والضمانات، والدوافع، والمحفّزات، ما جعل كل قطب يتحقق بأكبر قدر من الفاعلية، التي لا تجيء على حساب القطر الآخر. إنما هو التوازن والتكامل المحسوب حسابه، في دين قادم، من عند الله سبحانه، الخبير العليم، الذي يعلم سبحانه، من خلق، والذي هو أدرى، بما أبدعت قدرته.

إن المنظور التوازني، في التعامل المنهجي مع الإسلام، هو المفتاح الوحيد، للدخول من الأبواب المشروعة لساحة هذا الدين، وإلا فإن الداخلين سيذهبون يميناً أو شمالاً.. سيجد بعضهم نفسه قبالة "المجتمع" المتفوق، كما أراد له هذا الدين، أن يكون، دون أن يرى، أي من الطرفين الجانب الآخر من الصورة، التي لن تكتمل، إلا بالتحقق بمنظور توازني، يرى المسألة من أطرافها كافة.



الساعة الآن 12:30 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى