منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   فلسفة وعلم نفس
علم ما وراء الطبيعه والقوى الخارقه
(http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=75)
-   -   ما هي الكينونة التي تعيش لذاتها فقط برؤية سارتر ؟ (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8542)

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:30 PM

ما هي الكينونة التي تعيش لذاتها فقط برؤية سارتر ؟
 
إن فلسفة سارتر لا تقيم أية قاعدة منطقية , لأن وظيفتها هي الثورة ضد " القاعدة " لتبقى حرية الفرد المطلقة في التصرف , فجوهر الحرية عند سارتر ليس إلا حريته , واندغام الفرد في محيطه الجمعي هو الهزيمة له والانحطاط وفقدان لكل معنى ذاتي وجوهري , فلا يطلق جناحي الإنسان إلا الإنسان لذاته وليس الآخر , لأن الإنسان موجود لذاته , والكينونة " باصطلاح هايدجر " هي التي تعيش لذاتها وتصارع عبثية وجودها .

فما هي الكينونة التي تعيش لذاتها فقط برؤية سارتر ؟

يرى سارتر – ومن وراءه صف طويل من فلاسفة الوجود – يرون أن الحقيقة المادية للإنسان هي شيء متناقض مع تكوينه المتحرر , فالإنسان هو الكائن الوحيد الموجود ليعيش حياته بحرية وهي من ترسم خطوط وجوده وكيانه , كما أن الحرية هي من تحكم الإنسان وليس الإنسان من يحكمها . وبهذا النمط الحر من الحياة يصبح الفرد – وفقط وفقاً لهذا التصور السارتري – شيئاً موجوداً لذاته ويعيش من أجلها , ولا يعيش بذاته المادي والفيزيائي ويستسلم له بهوادة كما سائر الكائنات الحية . فبعد أن يفقد الكائن البشري هويته ككائن " بذاته " يغدو كائناً " لذاته " لأن كل موجودٍ يملك ذاتاً ما عدى الإنسان الذي يعيش لحريته , ويعيش " لذاته " , هذا هو " الوعي الذاتي الحُر " الذي يقصده سارتر بالضبط .

ولا غرو أن سارتر يرفض القيم الأكسيولوجية العريقة في الفلسفة , ولكنه بنفس الوقت يعي أن الفرد لا يمكن له أن تتحقق حريته إلا بأن يحيط الفرد بوعيه , وهذا ما يستأمن الفرد من تدمير حريات الآخرين . وبهذه الفكرة يقيم سارتر تناقضاً : أن تكون حريته مناطة بالوعي الذاتي , وكل ذاتٍ – في آخر المطاف – مسئولة أمام نفسها وليست مسئولة أمام هذا الآخر .

وقام مشروع سارتر على رفض الحرب العالمية الثانية والتبشير بقيمة الفرد بعد صراع القبائل الأوروبية وضياع كل قيمة جمعية يمكن أن يُدعى لها , ولا يسع سارتر أن يكرر خطأ أوروبا كرة تلو كرة , إن الوجودية السارترية هي نتيجة طبيعية للصراع الدموي الذي دمر العالم , ولا يمكن إصلاح العالم إلا بالتفلسف الذاتي الوجودي . وهنا يطيب لسارتر أن يقول : " إن حريتي هي الأساس المتفرد للقيم , ولما كنت الكائن الذي توجد به القيم , فلا شيء , لاشيء مطلقاً يمكن أن يبرز في اختبار هذه القيمة أو تلك " .

ومن هذه النظرة الشخصية الطافحة بكل ماهو خاص وذاتي وتأملاتي يقلب سارتر مفاهيم الفلسفة التقليدية , فالإنسان ليس كوجيتو ديكارتي – أو ذات مفكرة – فسارتر يرى الإنسان بمنظور آخر , إنه الكائن التاريخي - إن صحت التسمية بذلك - أو الإنسان الذي يوجد ثم يصير ما يريده , وهذا هو لب النظرية السارترية الشهيرة ( الوجود يسبق الماهية Existence precedes essence ) فالإنسان لا يحمل الماهية قبلياً ولا يُخلق بأوصاف محددة سلفاً , إن الإنسان هو الفعل الحر الخلاق الذي لا يقف بوجهه شيء , هو الوحيد الذي يصير ما يشاء بوعيه , وتتحدد ماهيته على هواه هُو , وحين يموت الفرد وتقفل جميع مشاريعه التي أراد تحقيقها , يمكن – حينئذٍ – أن توصف ماهيته وأن يجري الكلام عنها , ومادام الفرد حياً فلا مجال أن نصف ماهيته غير المتحققة واللا مكتملة .

هكذا يكون الفرد حراً في تحديد أفعاله منطلقاً من الداخل , أي مما هو ذاتي وأصلاني ونابع من الإرادة الشخصية , وهنا نتيقن من أن سارتر هو أكبر الرافضين لأي شكل من أشكال السلطة – السياسية والاجتماعية على السواء – وله مبرراته التي يسوقها لهذا الرفض , فهو مثلاً يتصور أن المجتمع عبارة عن مجموعة من " الأنات " التي لا ترتبط ببعضها إلا بأوهن العرى والوثائق , والفرد الواحد قادر على دفع مجتمع بكامله للتغيير حسب الشواهد التاريخية . التاريخ لا تصنعه جماعات بل أفراد موجودون للتغيير , فسارتر يعتبر أن الذات الوجودية الحقة هي التي تنفرد وتنعزل وتستمد قوام وجودها من نفسها ولا تخضع لهيمنة الآخرين , وهذه الذات يجدها سارتر مجبرة على الكفاح والنفاح لأجل تحقيق أصالتها ورغباتها وغرائزها , إنها ذات مجبرة على رفض التاريخ بطوله وعرضه , لأن الذات يجب أن لا تكترث لشيء قبلها يحددها ويرسم ملامحها ويتلاعب بوجودها , إنها ذات " حاضرة " بكل ما للكلمة من ثقل , فالحاضر هو الذات وآنيتها , والذات هي من تنزع من الحاضر أرضيته الاجتماعية والطقوسية التي وُلد منها , لأن الإنسان لاشيء يجب أن يقيده غير " ذاته الحر " , الذات السارتري الناقد والثائر ضد كل قيد .

إن وجودية سارتر لم تكن ملحدة بالدين فقط , بل طال غليانها العلوم والدراسات الفلسفية والموضوعية التقليدية , إن الأفكار الموضوعية مقبولة في بعض أركانها , ولكن حتماً لا يمكن لهذه " الأشياء " أن تحكم " الذات " . إن العلم والموضوعية في الأفكار تخدمان الذات الحر وليس العكس فلا يخدم الإنسان العلم ولا أي موضوع خارجي على حساب ذاته في الداخل , فالإنسان وذاته يندان عن كل دراسة , إن رأي سارتر عن الدين والأخلاق هو نفس رأيه عن العلم , فكل هذه هي مجرد أشياء , مجرد أدوات يمكن استهلاكها ورميها واستبدالها , بخلاف ما لا يُستبدل كـ" الذات " و " الإنسان " .

والسخط السارتري يكون ضد العالم والوجود كله , ورغم هذا السخط , فإن ثمة شيء واحد يمنع الإنسان من قتل نفسه , إنه الشيء الذي يدعو الإنسان للتمسك بالوجود والحياة , هذا الشيء هو " القلق " لأجل الحرية والحياة , وحرية سارتر تمتد لفك الإرتباط من كل شيء وتعري هذا الوجود من كل آماله وأخلاقياته ومثالياته المزيفة , لقد نقض سارتر كل قيمة جمالية ومثالية من أجل قيمة الإنسان وحده على حساب كل المواضيع الخارجية , وهو بهذا يصور لنا أن كل ما نكتشفه ونعجب به ونتأمل به الخير , هو في الحقيقة ليس إلا انعكاساً داخلياً في الذات وخداعاً لها وتهرباً منها مما هو كامن وأصيل وسطها , فلا التاريخ ولا الدين ولا الأخلاق ولا الفنون ولا الآداب إلا تابعة للإنسان وخانعة لسلطانه الذاتي , ويمكننا هنا أن نقول : إن سارتر لا يؤمن بغير قيمة وحيدة في الوجود هي اعتبار أن الإنسان هو الإله الذي لا أول ولا ثاني بعده .

إن وجودية سارتر هي تماماً نفس الشيء الذي قاله الناقد الفرنسي فولكييه في كتاب ( هذه هي الوجودية ) إنها الوجودية التي تثور ضد مقولة سقرط " اعرف نفسك " وتصير إلى " كن كما تريد " .

وهذا يعني فيما يعنيه أننا أمام نظريات لا نهائية من الآراء والانتقادات والشطحات بعدد كل إنسان يملك العقل والوجدان , فما دامت الموضوعية ساقطة أمام الذات , فلا يعني هذا غير التشعب في الرؤى والتناقضات والعبث , وهو مايراه سارتر بديهياً وطبيعياً جداً , فمنذ بداية الوجود الإنساني كانت الذاتية وتجاربها هي من تحكم , وكل إنسان – مهما بلغت عنده الموضوعية – سيكون في آخر أمره محكوماً بحقائقه الخاصة مهما حاول الآخرون إقناعه بعكسها .

ويُفصح الناقد الفرنسي ألبيريس في كتاب ( سارتر والوجودية ) عن رأيه في جملة من المسائل , من بينها رأيه في إنسان سارتر فيقول ألبيريس : " الإنسان السارتري متحلل دائماً من كل إلزام قبلي وهو لا يقبل أي تصوير مسبق ولا أي نموذج وهو أبداً متدفق غير مشدودٍ إلى ماض " .

هذا التفرد والتميز الفرداني الذي يروج له سارتر لا يفضي إلا لحقيقة واحدة , وهي أن الإنسان الوجودي هو أكبر المتوحدين , فهو من يحرص على إبقاء المسافة بعيدة وشاسعة بينه وبين الآخرين , فالوجودي يحرص أكثر ما يحرص على الانفصال والتنافر الدائم عن الغير لأن الاحتكاك الدائب بهذا " الغير " لا ينتج عنه إلا ذوبان الذات بالآخر وفقدانها لكل مقومات كيانها الأصيل وموتها , هذا الشيء هو الصاعقة التي يتحاشاها سارتر ويهرب منها ويعبر عنها في معظم أعماله النظرية والأدبية , فالفرد لديه هو الاستثناء الحقيقي عن كل قاعدة تحاول ضمه , الفرد السارتري هو النشاز الدائم والنغمة المميزة ضد كل قانون , ولهذا السبب فإن الوجودي عند سارتر هو صاحب كل جديد وشاذ وغير مقبول لدى الآخرين .

في هذا التقرير تصبح الحرية هي الإنسان لأنها هي من سيقود الذات لمجرياتٍ غير مرسومة أو مُتحكم بها . وحتى فيزيائياً وجود الإنسان غير مكتمل إلى ساعة موته , والأهمية تكمن في التكوين النفسي حيث يكون اللا إكتمال في أوجه على الدوام , إن التكوين النفسي والإرادي عند الفرد هو أبعد الأشياء عن التحدد , فلا أحد يمكنه الزعم بأن وجوده ميت تماماً وهو يفكر ويشعر ويكون , فبداخل كل فرد ثمة نزعة سلوكية وغرائزية تدفعه دائماً إلى الاختيار في كل مرحلة من مراحل وجوده , وهو المسئول عن هذه الاختيارات ولا يشاركه أحد هذه المسئولية ولا يجب أن يُشارَك بها , وهذه الاختيارات التي تتقافز إلى روح الفرد هي من تنم عن صيغة مستمرة من الفعل والوجود وإرادة الحرية .

لقد انطلق سارتر من الذات وجعلها محراباً للوجود وأسس الكوجيتو السارتري الخاص به , فالذاتية هي الحرية الشخصية وتعني من نواحي أخرى أن الفرد لا يقدر على تخطي الذاتية الإنسانية ولكن مجرد عيشه فيها هو الغاية القصوى ولا يزعم أحدهم بأن أكمل ماهيته الإنسانية أو بلغ أعلى مراتبها ودرجاتها . وسارتر رغم لاهوتيته الفردية يقرر أن الذات تتصل بالآخرين وليست ذاتاً ضائقة بهم رغم حرصها على عدم الضياع فيهم , إنها هي الذات الحريصة ضد كل ما ينتقصها ويقمعها ويحد من أصالتها . وقمع الآخرين لذات الإنسان – أو قمع الإنسان لذاته وهو الأسوأ – هو اغتيال لكل ما يمت للحياة والوجود بصلة , هذا هو القيد الذي يجب على الجميع التخلص منه والتطهر من آثاره , إنها مسؤولية الأنا مع الآخر , ومسؤولية الإنسان مع ذاته .

إن الضمير عند سارتر هو كل ما يمنع الإنسان من إيذاء نفسه ومجتمعه ومحيطه , إنه الضمير الذاتي الأصيل الذي يحجب الإنسان عن الخطيئة , وهو بذلك يخالف كريكجارد الذي صرح بأن الإنسان سيقف بضميره أمام الله , وكما أسلفنا فإن حرية سارتر تتجاوز كريكجارد إلى ما هو أقصى منها , إنه من أضاف بعداً لادينياً وإلحادياً للوجودية , ولم يتخل عن إنسانيته , وسبب ذلك يعود لأن سارتر يفترض أن حرية الله تتناقض مع حرية الذات الفاعلة بلا حدود واللامتحددة أبداً , فقد حصر سارتر الوجود كله على ذات الإنسان وضميره , وأعطى هذا الإنسان المعول ليدمر كل ما يحول أمام الماهية من تحقيق نفسها , إنه كمن يصلب التاريخ بكل محتوياته على خشبة الذات والحرية .

ويستحث سارتر الوجوديين على أن يكونوا أكثر من مجرد أشياء جامدة بلا معنى , وينفخ فيهم الروح ليصبحوا أشياء تعيش لذاتها , أشياء تتحرك وتتوق لجوهرها وماهيتها الحرة , هذا الجوهر المتعالي والمتخطي ضد ما يعوقه ويكبل أطرافه , التعالي الحقيقي – أي الاختيار الحر – ولن يكون هذا التعالي المستمر والمنبثق سوى الماهية الإنسانية في أوج نشاطها , ذلك أن الإنسان ليس مجموعة ما يملك , بل مجموعة مالم يملك بعد , إنه مجموعة ما يجد به أن يملكه ويحققه .


منقول

عشتار 20 - 7 - 2010 11:56 PM

مشكور جمال وقد تكون لي عودة للتعليق
يعطيك الصحة والعافية


الساعة الآن 01:32 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى