منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   أبو محجن الثقفي - حياته وشعره (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=24049)

أرب جمـال 21 - 4 - 2012 02:07 AM

أبو محجن الثقفي - حياته وشعره
 
أبو محجن الثقفي - حياته وشعره

أعد الدراسة : سامر خالد منى


المقدمة:
كان لثقيفٍ عددٌ من الشعراء في الجاهلية والإسلام، وخاصةً المخضرمون منهم، وأشهرهم أبو محجن الثقفي الذي يرتبط اسمه بالخمرة، وليس بِها وحسب بل بالفروسية والشجاعة، وفي هذا البحث سنقوم بدراسة حياة الشاعر وأغراضه الشعرية، ملقيْنَ الضوء على جانبٍ مهمٍّ من تراثنا الأدبِي الشامخ، وسيكون منهجنا الاستقصاء للمعلومات، والتحليل الأدبِي لموضوعاته الشعرية، وتصنيفها حسب أهميتها عنده وكثرتِها.
الفصل الأول: أبو محجن الثقفي (حياته):

هوَ: عَمْرُو بنُ حبيبٍ بن عمرو بن عميْر بن عوف.
كنيته: أبو عبيد.
أمه: كَنود بنت عبد الله بن عبد شمس. 1
وواضحٌ من اسم أمِّهِ أنَّها من سادات قُريشٍ (عبد شمس)، وهذا يعني حسباً رفيعاً لأبي محجن الثقفي.
وصفه: أحد الأبطال الشعراء الكرماءفي الجاهلية والإسلام.
إسلامه: أسلم في السنة التاسعة للهجرة، وروى عدة أحاديث نبويةٍ. 2
مكانته الشعرية:جعله ابن سلام من فحول شعراء الطائف، وقال:

"أبو محجن رجلٌ شاعرٌ شريفٌ".3
شغفه بالخمرةِ بعد إسلامه: رغم إسلامه فإنَّه بادئ بدء لم يتخلَّ عن الخمرة حتَّى جلده عليها عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه وحبسه بسببها، ورد في كتاب (الأغانِي) من أنَّهُ أُتِيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بِجماعة فيهم أبو محجن الثقفي، وقد شربوا الخمر، فقال:
أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله ورسوله؟
فقالوا : ما حرَّمها الله ولا رسوله، إن الله تعالى يقول:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}4

فقال عمر لأصحابه: ما ترون فيهم؟
فاختلفوا فيهم، فبعثَ إلى عليٍّ بن أبِي طالبٍ رضي اللهُ عنهُ فشاوره فقال:
إنْ كانت هذه الآيةُ كما يقولون، فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنـزيرِ
فسكتوا، فقال عمر لعلي: ما ترى فيهم؟
قال: أرى إن كانوا شربوها مستحليْن لها أن يُقتلوا، وإن كانوا شربوها وهم يؤمنونَ أنَّها حرامٌ أن يُحدُّوا.
فسألهم فقالوا: والله ما شككنا في أنَّها حرامٌ، ولكنَّا قدرْنا أنَّ لنا نَجاةً فيما قلناهُ.
فجعل يَحدُّهم رجلاً رجلاً، وهم يخرجون حتَّى انتهى إلى أبِي محجن فلمَّا جلدهُ أنشأ يقولُ:

ألم ترَ أن الدهر يعثرُ بالفتَـى * ولا يستطيع المرء صرف المقادرِ

صبرت فلم أجزع ولم أك طائعا * لحادث دهر في الحكومة جائرِ

وإني لذو صبر وقد مات إخوتِي * ولست عن الصهباء يوما بصابرِ

رماها أميْرُ المؤمنين بِحتْـفها * فخلاَّنُها يبكونَ حَـول المعاصرِ

فلما سمعَ عمرُ قوله: (ولست عن الصهباء يوما بصابر) قال: قد أبديْتَ ما في نفسك ولأزيدنَّك عقوبةً لإصرارك على شرب الخمر.
فقال له علي: ما ذلك لك وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلنَّ وهو لم يفعل وقد قال الله في الشعراء
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}.5
فقال عمر: قد استثنَى الله منهم قوماً فقال: { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}6
فقال علي:أفهؤلاءِ عندك منهمْ وقد قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يشربُ العبدُ الخمرَ حيْنَ يشربُها وهو مؤمنٌ) 7
وكان منهمكاً في شرب النبيذ، فحده عمر مراراً، ثم نفاه إلى جزيرة بالبحر، فهرب.8
توبته عن الخمرة:
وأما توبته فكانت في موقعة القادسية، فقد لحق بسعد بن أبي وقاص وهو يُحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه، فحبسه سعد عنده.9
وذلك أنَّ أبا محجنٍ كانَ يؤتَى بهِ شارباً إلَى سعدٍ فيتهدده، فيقول له: لست تاركها إلا لله عز وجل فأما لقولك فلا قالوا.
فأُتِي به يوم القادسية وقد شرب الخمرَ، فأمر به إلى القيدِ، وكانت بسعد جراحةٌ فلم يَخرج يومئذٍ إلى الناس، فاستعمل على الخيل خالدَ بن عرفطة، فلمَّا التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقَـنا *** وأترك مشدودًا علىَّ وثـاقيا

إذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقَـت *** مصاريع دوني قد تصمُّ المناديا

وقد كنت ذا مال كثيْرٍ وأخــوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليا

فلله عهد لا أخـيْسُ بِـعَـهْـده *** لأن فرجت ألا أزورَ الحوانيا

فجاءت سلمى امرأةُ سعد وسمعته وطلبَ منها أن تخلِيَ سبيله فرفضتْ، ثّمَّ سمعت أبياته السابقة فقالت له سلمى: إنِّي استخرْتُ اللهَ ورضيْتُ بعهدكَ.
فأطلقته، ولمَّا طلبَ منها فرس سعدٍ واسمها البلقاءُ رفضتْ،فركبها أبو محجن وخرجَ يقاتلُ، ثُمَّ حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه بين الصفيْن، ثم رجع من خلفِ المسلميْن إلى القلبِ،وكان يقصفُ الناس ليلتئذٍ قصفاً منكراً، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس، وجعل سعدٌ يقول وهو مشرفٌ ينظر إليه: الطعنُ طعنُ أبي محجن والضبْرُ ضبْرُ البلقاء ولولا محبسُ أبي محجنٍ لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء.
فلم يزل يقاتل أبو محجنٍ يقاتلُ حتَّى انتصف الليل فتحاجز أهل العسكرين، وأقبل أبو محجن حتَّى دخل القصر ووضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في القيد وأنشأ يقول:

لقد علمتْ ثقيفٌ غيْـر فخرٍ * بأنا نحن أكرمهم سيــوفا

وأكثرهم دروعاً سابغـاتٍ * وأصبَرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنَّا رفْـدُهم في كلِّ يَـومٍ * فإنْ جحدوا فسلْ بِهم عريفا

وليلة قادسٍ لم يشـعروا بِي * ولَمْ أكرهِ بِمخرجي الزحوفا

فإنْ أُحبَسْ فقد عرفوا بلائي * وإنْ أُطلَـقْ أجرعهم حُتوفا

فقالت له سلمى: يا أبا محجن في أيِّ شيءٍ حبسك هذا الرجلُ؟ تريد زوجها سعداً.
فقال: أما واللهِ ما حبسنِي بِحرامٍ أكلته ولا شربته، ولكنِّي كنت صاحبَ شرابٍ في الجاهلية، وأنا امرؤٌ شاعرٌ يدبُّ الشعر على لسانِي فينفثه أحيانا فحبسني لأني قلت:

إذا متُّ فادفنِّي إلى أصل كرمةٍ * تروِّي عظامي بعد موتِي عروقُها

ولا تدفننِّي فِي الفَـلاة فإننِّي * أخَـافُ إذا ما متُّ ألاَّ أذوقُها

ليُروى بِخمر الحصِّ لحمِي فإنَّنِي * أسيْرٌ لَهَا منْ بعدِ ما قدْ أسوقُها

فأخبَرت سعداً بِخبَره فقال سعدٌ: أما واللهِ لا أضرب اليومَ رجلا أبلى الله المسلميْن على يده ما أبلاهم. فخلَّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربُها إذ كان الحدُّ يُقام عليَّ وأطهرُ منها فأما إذْ بَهرجتنِي فلا واللهِ لا أشربُها أبداً.
ومن طريفِ ما يُروى أنَّهُ لما انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنته منهزماً فأنشأت تعيِّره بفراره

مَن فْارسٌ كرهَ الطعانَ يعيرنِي * رمحاً إذا نزلوا بِمزج الصفرِ
فقال لها أبو محجن:

إنَّ الكرامَ على الجياد مبيتُهم * فدعي الرماحَ لأهلها وتعطري 10
موته:
ولا ندري شيئاً عن أبي محجن بعد القادسية، فلعله سار مع الجيش الفاتح حتى "مات بأرمينية" أو "في نواحي أذربيجان" أو "في نواحي جرجان"،وذلكَ سنة 30ه/ 650م 11
وفي الأغاني أنَّهُ أخبْرهُ من مر بقبْرِ أبي محجن الثقفي في نواحي أذربيجان أو في نواحي جرجان، فرأى قبره وقد نبتت عليه ثلاثة أصول كرمٍ قد طالت وأثْمرتْ وهي معروشةٌ وعلى قبره مكتوبٌ (هذا قبْر أبي محجن الثقفي) فوقفت طويلا أتعجب مما اتفق له حتى صار كأمنية بلغها حيث يقول:

إذا متُّ فادفنِّي إلى أصل كرمةٍ * تروِّي عظامي بعد موتِي عروقُها 12
(
[1])الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، تحقيق علي مهنا وسمير جابر، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1986م، ج19/11.

(
[2])الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملاييْن، بيروت، لبنان، ط15، 2002م ج5/75، وخبره كذلك في (معجم تراجم الشعراء الكبير)، د.يَحيَى مراد، دار الحديث، القاهرة، مصر1427هـ-2006م/59.

(
[3])طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، مصر، 1974م /268.

(
[4])سورة المائدة، الآية (93).

(
[5])سورة الشعراء، الآية (226).

(
[6])سورة الشعراء، الآية (227).

(
[7])الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، ج19/15-16.

(
[8])الأعلام، خير الدين الزركلي، ج5/75.

(
[9])نفسه، ج5/75-76.

(
[10])الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، ج19/8-12، بتصرفٍ يسيْرٍ.

(
[11])الأعلام، خير الدين الزركلي، ج5/76.

(
[12])الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، ج19/17.
يتبعyuyu

أرب جمـال 21 - 4 - 2012 02:09 AM

الفصل الثانِي: الأغراض الشعرية عند أبي محجن الثقفي:

على الرغم من قلة القصائد التِي نظمها أبو محجن الثقفي، ولكننا نرى في شعره قوة اللفظ، وسلاسة العبارة، والأثر الإسلامي في شعره، فلم نعد نرى وعورة اللفظ الجاهلي المستمد من البيئة الصحراوية، ولا تلك الوقفات الطللية والقصائد المطولة التِي تطول مقدماتُها ووصف الأطلال وغيْر ذلك قبْل الغرض الرئيس، بل المقطعات السريعة التي تناسب حياة الشاعر والتي قضاها بيْن الخمر والفروسية والتوبة، ونرى كذلك قوة سبك العبارة الجاهلية في شعره، ومن هنا كان شعره من العلامات المميزة بيْن المخضرمين.
ولعل أشهر أغراضه الشعرية هي الخمرة والفخر والحكمة والغزل، وهي ما سنتناولُها بالتفصيل.

1 - الخمرة:
تحتلُّ الخمرة الصدارة في موضوعاته الشعرية، بل هي أكثَر الأغراض شيوعاً وغزارةً عنده، لعل أبا محجن أول رائد في الشعر العربي الإسلامي في وصف الخمر، سبق في ذلك الخليفة الأموي الوليد بن يزيد ، ومن جاء بعده من أوائل الشعراء العباسيين كأبي نواسٍ وغيْره، وفيها تدلهٌ وتعلقٌ غريبٌ يبلغ حد القولِ:

إذا متُّ فادفنِّي إلى أصل كرمةٍ * تروِّي عظامي بعد موتِي عروقُها
ولا تدفننِّي فِي الفَـلاة فإننِّي * أخَـافُ إذا ما متُّ ألاَّ أذوقُها
ليُروى بِخمر الحصِّ لحمِي فإنَّنِي * أسيْرٌ لَهَا منْ بعدِ ما قدْ أسوقُها
أباكرُها عنـد الشروقِ تـارةً * يُعاجِـلَنِي بعد العَـشيِّ غبوقُها
وللكأس والصهباءِ حظٌّ مُـنعمُ * فَمِنْ حقِّها ألاَّ تُضاعَ حقوقُها1
نراهُ هنا يخشى أن يدركه الموت فيفارق الخمرة التي تغلغلت في نفسه وأوشكتْ على دمارِ روحهِ، ويرجو من دافنه ألا يدفنه في فلاةٍ مقفرةٍ لا ينبت فيها زرعٌ، بل عند أصلِ كرمةٍ ومنها يُصنع الخمرُ، وذلك ليشربَها عن إشراقِ الصباح، وعند الغبوق (شرب العشيِّ)، فهذه الكأس حقها على صاحبها ألاَّ يضيعها.
ولعل هذا الوله بِها كان سبب مأساته حتَّى أقلع عنها بعد معركة القادسيةِ، وله فيها فلسفةُ غريبةٌ ففي سيرة حياته أنَّه عندما جلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنَّه لم يرَ فيها سبباً للتحريم في القرآن الكريْم، بل اعتبَرها من الصالحات، كما رأينا في استعراضنا لِحياته.
فالخمرة إذاً كانت عصب حياته، رغم علمه أنَّ الإسلام قد حرَّمها عليه من بعد نقاشٍ معه مع علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، ولكننا نراه وقد رضي بإثمها طالما أنَّها متعته:

ألا سَقِّني يا صاحِ خَمراً فإنّني * بما أنزلَ الرحمنُ في الخمرِ عالمُ
وجُدْ لي بِها صِرفاً لأَزدادَ مَأثماً * ففي شُربِها صِرفاً تتِمُّ المآثمُ2
نلحظ صيغة الأمر تتكرر في البيتيْنِ والتِي تَحمل في طياتِها رجاء، بل إنَّ استخدام الفعل (سقِّنِي) على وزن المبالغة دليل تعلق شديد بالخمرة آنذاك، وهذه حالةٌ فريدةٌ من معرفة الإثْمِ والإصرار عليهِ.
غيْر أنَّ الشاعر يُدرك استحالة استمراره على هذا الوضع، ولاسيَّما أنَّه كان من الفرسان المجاهدين، فيستفيق من ولعه بالخمرة، وينعطف عليها – بعد توبته – يصف فعالها الشنيعة في تضييع عقل المرء، فيقول:

رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها * مناقبُ تُهلِكُ الرُجلَ الحليما
فلا واللهِ أشربُها حَـياتِي * ولا أسـقي بِـها أبداً نديما3
ولعل بقوله (صالحةً) نوع من التذكر لأيامٍ كان يرى الخمرة فيها نافعةً له، ولكنَّها الآن متلفةٌ للعقل ومذهبةٌ للرشد، ومن هنا يعاهد الله ربه ألا يقربَها بعد ذلك أبداً.
وحيْنَ يحاول الناس إغراءه بالخمرة بعدما تاب، وتصويرها له بالغنيمة التِي ينالها الإنسان، فإنَّه يصور لهم السفاهة التِي تجعل الإنسان يغرق فيها:

يقول أُناسٌ اشرب الخمرَ إنَّها * إذا القومُ نالوها أصابوا الغنائما
فقُلتُ لهم جَهلاً كَذبتم أَلم ترَوا * أَخاها سفيهاً بعد ما كان حالما4
وهكذا تدرج أبو محجن الثقفي من الولع بالخمرة وإطرائِها، إلَى التخلِّي عنها وتعداد عيوبِها وأثرها السلبي على الإنسان.

(
[1])ديوان أبي محجن الثقفي/ 23-24.

(
[2])نفسه/ 17.

(
[3])نفسه / 23-24.

(
[4])نفسه / 16.

أرب جمـال 21 - 4 - 2012 02:11 AM

الفخر:
الفخر عند أبِي محجنٍ ذاتِيٍّ قبلِيٍّ على غرار ما نرى في فخر الجاهليـيْنَ، إذ لا ننسى أنَّ الشاعر مخضرمٌ عاش بيْن العصريْنِ الجاهلي والإسلامي، فكثيْرٌ من خصائص شعره جاهلية المبنَى والمعنَى، ولكنه يندفع من فخره الذاتِي ليشمل قبيلته بل فخره ذاته جزءٌ من فخره بقبيلته، وهو يفتخر بقبيلتهِ بنِي ثقيفٍ وبشجاعتها في الحروب كلها وبأسها على العدوِّ، بل يفخر بكرم السيوف ، وإسباغ الدروع، وبوقائع عشيرته في القادسية، فيقولُ:

لقد علمتْ ثقيفٌ غيْـر فخرٍ * بأنَّا نَحن أكرمهم سيــوفا

وأكثرهم دروعاً سابغـاتٍ * وأصبَرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنَّا رفْـدُهم في كلِّ يَـومٍ * فإنْ جحدوا فسلْ بِهم عريفا

وليلة قادسٍ لم يشـعروا بِي * ولَمْ أكرهِ بِمخرجي الزحوفا

فإنْ أُحبَسْ فقد عرفوا بلائي * وإنْ أُطلَـقْ أجرعهم حُتوفا1
فهم كرام السيوف الشجعان، وهم المكثرون لبساً للدروع لكثْرة ما تراهم في ساحات المعارك، وهم الثابتون في الوغَى إذا اشتدَّ الطعنُ، فيثبتون لا يَخافون الموت، وينعطف ليفتخر بنفسه وقد أبلَى بلاءً حسناً في معركة القادسية، وهو الذي يُعرف في حال حبسه بما قدَّم من دروس القتال، ولو أنَّهم خلوا سبيله لأبرز لهم شجاعته وأوردهم موارد الموتِ.
ويفتخر كذلك بإقدامهم على العدو وصبْرهم على منازلته، فيصور بلاء قومه في القادسية كذلك، وهم لا يترددون في الهجوم على العدو وهم يحملون رماحهم وسيوفهم مشرعةً للقتال قائلاً:

لمَّا رأينا خَيلاً مُحـجَّلةً * وقـومَ بَـغيٍ في جَحفَلٍ لَجِبِ

طِرنا إِليهم بـكلِّ سَلهَبَةٍ * وكـلِّ صـافي الأديمِ كالذهبِ

وكُلِّ عَرَّاصَةٍ مُثـقَّـفةٍ * فيها سِنـان كـشُعـلَةِ اللّهَبِ

وكُلِّ عَضبٍ في متنهِ أثَرٌ * ومَشرَفِّي كالمِلـحِ ذي شُـطَبِ

وكلِّ فَضفَاضَةٍ مُضَاعَـفَةٍ * منِ نَسج داودَ غيْـر مؤتشَبِ

لما التقينا ماتَ الكلامُ ودا *رَ الموتُ دورَ الرَّحى على القُطُبِ

فكُلُّنا يَستَلـيصُ صاحبَهُ * عـن نفسه، والنفوسُ في كُرَبِ

إن حَمَلوا لم نَرمِ مواضِعَنا * وإن حَـملنا جثوا على الرُّكَبِ 2
لا يرهبُهم العدو الذي جاء بِجيشٍ جَرارٍ يملأ الآفاق، بل هم يخفون سراعاً للقائه كالطيْرِ على متونِ خيولٍ تسبح كالريح، وبأيديْهم الرماح المعدة للحرب كأنَّها النار البرَّاقةُ، والسيوف التِي علت متونَها آثار طعان الأعداء، والدروع التي صارت ثوباً فضفاضاً يلبسونه في كلِّ آنٍ بل إنَّها من نسج نبي الله داود عليه السلام، وحيْنَ اللقاء صمتوا وتركوا لغة الرماح والسيوف تتكلَّمُ في أعدائِهم، والعدو لو هجم عليهم فلا يتْركونَ مواقعهم، وإن حملوا على العدو خرَّ على ركبه خوفاً منهم.
والفخر عنده قد يتعدَّى حدود القبيلة إلى الفخر بذويْهِ، كما نجد في فخره بعمه وهو كما ذكر شارح الديوان (غيلان بن سلمة الثقفي)، فهو هنا يفخر بأهله الأقربيْنَ وتصوير مكانتِهم العليا عند الملوك، وكيف لا وعمه هو الذي التقى بكسرى ملك الفرس، والصعوبة الكبْرى في اللقاء بكسرى وغيْره من الملوك، بل إنَّ جياد كسرى هدية من عمه، يقول:

عَمّي الذي أهدى لكسرى جِيادَهُ * لدى البابِ منها مُرسَلٌ ووُقُوفُ

عشيّةَ لاقى الترجـمَـانَ وَرَبَّهُ * فأدّاه فَـرداً والوفـودُ عُكوفُ 3
أراد أنَّ كسرى أدخله عليه وغيْره من الوفود وقوف لا يؤذن لهم، وهذا فخْرٌ يفيضُ عن الحدِّ المألوف إذ يشعرنا بأنَّ لعمه قيمة كبْرى عند ملك الفرس كسرى.
حتَّى فخره بنفسه، يجعله يضعها في سوية القبيلة ولا يرفعها عليها، فلا يرى لنفسه مكانةً إلا من خلال قبيلته،وهو لا يفخر بالمال الذاهب؛ ولكنه يفخر بأخلاقه الرفيعة ودينه، وهو جزءٌ من قبيلته الذين يسودون الناس ويقودونَهم، فيقول:

لا تسألي الناسَ عن مالي وكثرته * وسائلي القومَ عن دينِي وَعن خُلُقي

قد يعلمُ الناسُ أنّا من سَراتِـهمُ * إذا سَـما بصـرُ الرِّعدِيدةِ الفرِقِ

عفُّ الإياسةِ عمَّا لسـتُ نائِـلَه * وإنْ ظلمْتُ شـديدُ الحقدِ والحنقِ 4
فنراهُ يلتفتُ في البيت الثانِي إلى قومه من خلال تعبيْره عن فخره بنفسه وذلك بقوله (أنَّا)، فلا يهمه أن يكون بيْن الناس ذا مالٍ وفيْرٍ بقدر ما يَهمه أن يكونَ صاحبَ أخلاقٍ ساميةٍ وديْنٍ حَسَنٍ، وهو لا يسعى لشيءٍ يعلم أنَّ المنال بعيدٌ عنه، ولكنَّه صلبٌ وقويٌّ في استدراك حقه ممن ظلمه.
إنَّ الفخرَ عند أبي محجنٍ نوعٌ من الفخر القبلي، والذي لا زال ضارباً أطنابه في شعر المخضرميْن، فهم قدْ فُطروا فيهِ على عادات الجاهلية والتِي لم يستطيعوا التخلِّي عنها بعدُ.

(
[1])نفسه / 20.

(
[2])نفسه / 13-14.

(
[3])نفسه / 21.

(
[4])نفسه / 6-7.

أرب جمـال 21 - 4 - 2012 02:12 AM

3 - الحكمة:
ربَّما ترددت أصداء الحكمة عند أبي محجنٍ الثقفي في توبته عن الخمرة، واستغفاره لربه عما بدر منه، وعهده لله تعالَى ألا يعود لها من جديدٍ بعدما فرغ منها، لذا يقول:


أتُـوبُ إِلى الله الرحـيْـم فإنَّـه * غـفورٌ لذنبِ المرءِ ما لم يُــعاودِ



ولستُ إِلى الصَّهباءِ ما عِشتُ عائداً * ولا تـابعاً قولَ السفــيهِ المُعاندِ



وكيفَ وقدْ أعطيْتُ ربِّي مَـواثِـقاً * أعودُ لها وذو العرشِ شــاهدي



سَـأتركُها مـذمومـةً لا أذوقُـها * وإن رغمت فيها أنوف حواسدي 1

فالحكمةُ من إقلاعه عن الخمرة قناعته بأنَّها ضارةٌ، وهو قد تاب إلى ربه الذي يغفر الذنوب ما لم يعدِ المرءُ إليها، ويردُّ على كل من سوَّلتْ له نفسه أنَّ يزيِّنَ له الخمرة بالسفاهةِ، ويقف موقف الخائف من نقض العهد مع ربِّهِ وهو الذي أدَّى له المواثيق والعهود، فالخمر ذميمةٌ ولا عودة لها في عرفه أبداً.
ومن جانبٍ آخر في حكمته، نرى رضاه بالقدر واستسلامه للمصيْر الذي يخطه له، ويبدي الصبر على المصائب التِي قد تنتابه، وهو من طباع الإسلام التي تغلغلتْ في نفسِهِ:


ألَم تَرَ أنّ الدهر يَعثُرُ بالفتَـى * ولا يستطيعُ المرءُ صَرفَ المقادِرِ



صَبَرتُ فلم أجزَع ولم أكُ طائعاً * لحادثِ دَهرٍ في الحكومةِ جائرِ 2

فهو صبورٌ جَلْدٌ على ما يفعله الدهر، وليس هو الذي يَجزعُ لحوادث الزمانِ التِي غلبتْ عليهِ وجاءتْهُ غصباً عنه.
ولعل أبياتَهُ في التوبة وهو في السجن في معركة القادسية، من أعظم الأبيات الدالة على الندم والحسرة على ما فات، وخاصةً حين تغلي في عروقه روح الفروسية، والشوق للقتال والجهاد، ومن هنا يتذكر ما فرَّط في حقِّ نفسه، ويعاهد ربه بالتوبة في حال انفرجتْ وخرج من سجنه، فيقول:


كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقَـنا *** وأترك مشدودًا علىَّ وثـاقيا



إذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقَـت *** مصاريع دوني قد تصمُّ المناديا



وقد كنت ذا مال كثيْرٍ وأخــوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليا



فلله عهد لا أخـيْسُ بِـعَـهْـده *** لأن فرجت ألا أزورَ الحوانيا



هَلُـمَّ سـلاحِـي لا أبا لكَ إنَّنِي *** أرى الحربَ لا تزدادُ إِلا تماديا 3

فالحكمةُ عند أبي محجنٍ مستمدةٌ من واقعه الذي يَحياهُ، ومن بطولته في ساحة القتال، ومن توبته عن معصية الخمر التِي كادتْ تتلف بدنه وروحه.

([1])نفسه / 16-17.

([2])نفسه /23.

([3])نفسه / 17.

أرب جمـال 21 - 4 - 2012 02:13 AM

4 - غزله:
قليلةٌ هي غزليات أبِي محجن، فلا نرى قصيدةً له منتظمةً في هذا الفن سوى بضعة أبياتٍ، ولعلَّ ذلك عائدٌ لانشغاله بالخمرةِ قبل توبته، وبالفروسية والاستغفار بعد توبته، فمن ذلك غزليةٌ أو وصفٌ لمغنيةٍ ارتبطتْ بمجلس الخمرِ، فيقول وقد ثَمل بِها:

وقدْ تقومُ على رأسي مغنيةٌ * فيها إذا رفعتْ من الصوتِ غنجُ
تُرفعُ الصوتَ أحياناً وتُخفضهُ * كما يطنُّ ذباب الروضةِ الهزجُ 1
شبَّه صوت الغناء بطنيْنِ الذبابِ، وهو تشبيهٌ ليس في محله وربَّما فيهِ نوعٌ من الضعفِ، ويمكن أن نحكم على هذه الصورة بالرداءةِ، وقد أعجب شارح الديوان تشـبيه طنيْن الذباب بالغناءِ كما فعل الشاعر عنْترة بن شداد. 2
ونراه يتعلق بابنة يهوديٍّ تُدعى سميةُ، ويبثها لواعجه:

تقولُ ابنةُ الحبْرِ اليهودِ ما أرى * أبا مـحجن إلا وللقلبِ ذاكرُ
فإنَّ ابنة الحبْر اليهوديِّ تيمتْ * فؤادي فهل لي من سمية زاجرُ؟ 3
فهي ترى في أبي محجن محباً متعلقاً بِها، وذلك أنَّها تعتقد قلبه ذاكراً لحبِّها، وهو يؤكد من أنَّ سميةَ قد ملكت شغاف قلبه وتيَّمتْ فؤاده.
وفي غزله عفة نفسٍ وبُعدٌ عن الفاحشةِ، فنـراهُ يصف مغامرةً مع امرأتيْنِ تعلقتا بِه:

تمنَّتْ أن ألقاهما كلاهما وتَمنتا * فلمَّـا التقينا استحيَـتا من مناهما
بكتْ هذه وانْهلَّ أدمع هـذه * وفاضتْ دموعي في عراض بكاهما
فهما سقتانِي السمَّ يوم تولـتا * جـزانِي إلهي عنهما وجـزاهما 4
فالمرأتانِ كلتاهما ترغبانِ في لقائهِ، ولكنَّ حياءهما منعهما من إبداء أمنية اللقاء بهِ حين اجتمع بِهما، وينقلب حال العاشقيْنَ إلَى بكاءٍ، فالأولى تبكي وتبكي الثانية لبكائِها، ويبكي بدوره على بكائِهما، بل يتعبَرُ لحظة فراقهما تشبه لحظة من تَجرَّع السمَّ وأوشك على الموتِ.
فغزل أبِي محجنٍ نوعٌ من الغزل الذي لا يبلغ حد التجربة الفنية المتكاملة، بقدر ما هو تعبيْرٌ عن حالاتٍ عرضيَّةٍ لَمْ يردِ الشاعرُ أنْ يَجعل منه حالةً قائِمةً بذاتِهِ.


([1])نفسه / 20.

([2])قال عنترة: ((وخلا الذبابُ فليسَ بنازحٍ * غَرِداً كفعلِ الشاربِ المترنِّمِ )) نفسه/ 20.

([3])نفسه / 23.

([4])نفسه / 23.

الخاتِمة :نتائج البحث:
وبعد ما وقفنا على شعر أبي محجنٍ الثقفي، تكشفت لنا مقدرة فنية بديعةٌ في صوغ الشعر، وبراعةٌ منقطعة النظيْر في التعبيْر عن الحالة النفسية التِي كان عليها، ولاسيَّما في فن الخمرةِ الذي كان فاتِحةً للشعراء من بعده للإبداع في هذا الفن، ورغم قلة ما بيْن أيدينا من شعره، ولكنَّنا رسمْنا صورةً لشاعرٍ تليق بفروسيته، وتليق بِمكانتهِ الرفيعة بيْن الشعراء المخضرميْنَ.


shreeata 21 - 4 - 2012 02:18 AM

جزاك الله كل خير
على روعة الادراج
وجعله في ميزان حسناتك
رائعة ومبدعة
سلمت لنا ارب
تحيات لك

أبو جمال 21 - 4 - 2012 03:18 AM

شكرا لك على ما طرحت
لك منّي ارق تحية وأعذبها

المُنـى 21 - 4 - 2012 01:37 PM

بوركت على الطرح ويعطيك العافية

ابو الأوس 21 - 4 - 2012 02:16 PM

بارك الله بك
مشكوووووورة

hakimnexen 21 - 4 - 2012 03:26 PM

[frame="10 98"]

الله يحيك استاذتنا
الموضوع
دراسة
اكاديمية

شاملة




[/frame]


الساعة الآن 01:35 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى