منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   مواضيع ثقافية عامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=67)
-   -   الصوفيون المسلمون وجاذبية القدس (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=23547)

الغضنفر 6 - 4 - 2012 02:42 AM

الصوفيون المسلمون وجاذبية القدس
 
الصوفيون المسلمون وجاذبية القدس

تمهيد‏
منذ بداية ظهور حركة التصوف الإسلامية، انجذب أصحابها بقوة إلى القدس، لما حملته تلك المدينة في المخيال الاجتماعي الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي من معان عميقة للقداسة، وهو ما دعاهم إلى التقرب منها، والارتحال إليها، للتبرك في مشاهدها، ورموزها المبجلة، ولم يتفرد المتصوفة في هذا التقرب إلى بيت المقدس، وإن كانوا قد أعطوا لتقربهم هذا سمات خاصة، عكستها طريقة فهمهم الخاص لمعاني القداسة التي حملتها العقيدة الإسلامية تجاه القدس، والطرائق الطقسية التي مارسوها في إرباطهم حول الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، وخاصة حول الصخرة الشريفة، التي ارتقى (عرج) النبي ( من فوقها إلى سدرة المنتهى، إذ أعطى هؤلاء المتصوفة لمنظومة الجغرافية المقدسة الإسلامية، التي تقف القدس في قلبها، معاني جديدة، عمقوا فيها المعاني المقدسة الإسلامية المحيطة بالقدس، وأضافوا إليها معاني ورموزاً خلاقة، وذلك تبعاً لطريقتهم، التي استهدفت "الكشف" والاتصال بالتعالي، فرأوا في القدس وفي المسجد الأقصى، وبشكل خاص الصخرة الشريفة، بوابة الاتصال بالسماء.‏
وباستثناء تلك المعاني الخاصة، والطقوس المتمحورة حولها، التي ابتدعها المتصوفة، كان هناك قاعدة عامة من الرموز المقدسة اشترك فيها المسلمون، شكلت جزءاً من ضميرهم الديني الإسلامي دعاهم جميعاً لتبجيل القدس، وإلى التقرب منها، للتبرك في مشاهدها المقدسة، لهذا تقاطر الصحابة والتابعون والأتقياء، ومن استطاع من عامة المسلمين، لزيارة القدس. ولقد قدم لنا ياقوت الحموي (ت 626هـ ـ 1229م) صورة مكثفة عن المعاني التي حملها المسلمون في ضمائرهم الدينية للقدس، جاء فيها: "القدس في اللغة المتنزَّه... ومعنى نقدِّسُ لك: أي نُطهِّر أنفسنا لك... ومن هنا بيت المقدس: أي البيت المقدسُ المُطهِّر الذي يُتَطهر به من الذنوب... وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المبارك...‏
وفضائل بيت المقدس كثيرة، ولا بد من ذكر شيء منها حتى يستحسنه المطّلع عليه، قال مقاتل بن سليمان: قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين( (الأنبياء: 1) قال: هي بيت المقدس، وقوله تعالى لبني إسرائيل (وواعدناكم جانب الطور الأيمن( (طه: 80) يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين( (المؤمنون: 50) قال البيت المقدس، وقال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى( (الإسراء: 1) هو بيت المقدس، وقوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه( (النور: 36) البيت المقدس.‏
وفي الخبر (أي الحديث) "من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء". ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس، وفيه مهبطه إذا هبط، وتُزف الكعبة بجميع حجاجها إلى بيت المقدس، يقال لها مرحباً بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى بيت المقدس، أول شيء حُسرَ عنه بعد الطوفان صخرة بيت المقدس، وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى لسليمان بن داوود عليه السلام، حين فرغ من بناء البيت المقدس: سلني أعطك، قال: رب أسألك أن تغفر لي ذنبي، قال: لك ذلك، قال: يا رب وأسألك إن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد، قال: لك ذلك، قال: وأسألك من جاء سقيماً أن تشفيه، قال: ولك ذلك.‏
وعن النبي ( أنه قال: لا تُشدّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، وأن الصلاة في بيت المقدس خيرٌ من ألف صلاة في غيره، وأقرب بقعة في الأرض من السماء بيت المقدس، ويُمنع الدجال من دخولها، ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم عليه السلام أن يُدفَنَ بها، وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحُمل يعقوب من أرض مصر حتى يدفن بها، ووصى يوسف عليه السلام، حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم من كوثي إليها، وإليها المحشر والمنشر، وتاب الله على داوود بها، وصدق إبراهيمُ الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس بالمهد بها، وتُقاد الجنةُ يوم القيامة إليها، ومنها يتفرق الناس إلى الجنة أو إلى النار، وروي عن كعب أنَّ جميع الأنبياء، عليهم السلام، زاروا بيت المقدس تعظيماً لـه... وعن ابن عباس قال: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه من موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيٌ أو قام فيه ملك، وعن أبي ذر قال: قلتُ لرسول الله (: أي مسجد وضع على الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلتُ: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، وبينهما أربعون سنة.‏
وعن الفضل بن عياض قال: لما صرفت القبلة نحو الكعبة قالت الصخرة: إلهي لم أزل قبلةً لعبادك حتى إذا بعثت خير خلقك صُرفَت قبلتُهم عني؟ قال: أبشري فإني واضع عليك عرشي، وحاشرٌ إليكِ خَلقي، وقاضٍ عليكِ أمري وناشر منه عبادي، وقال كعب: من زار بيت المقدس شوقاً دخل الجنة، ومن صلى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، ومَن صام فيه يوماً واحداً كُتبت لـه براءته من النار...‏
وقال أبو مالك القرطبي: في كتاب اليهود الذين لم يُغيَّر (لم يُحرف): إن الله تعالى خلق الأرض فنظر إليها، وقال: أنا واطئٌ على بُقعتِك، فشمخت الجبال، وتواضعت الصخرة، فشكر الله لها، وقال: هذا مقامي وموضع ميزاني وجنتي وناري ومحشر خلقي.."(1).‏
لقد جذبت تلك المنظومة الرمزية المقدسة خيال الصوفية، وبالأخص رحلة الإسراء والمعراج، التي ربطت بين عقائد التوحيد من ديانة إبراهيم الخليل حتى محمد ( وأشارت بإحدى دلالاتها على أن محمداً خاتم الأنبياء ووريثهم، وذلك حين أمَّ الأنبياء جميعاً بجوار الصخرة على أرض الحرم، كما ربطت تلك الرحلة ما بين مكة، والمدينة، وبيت المقدس في رباط مقدس يمتد في نهايته السحيقة إلى سدرة المنتهى، فضلاً عن أنها أضفت معانٍيَ قدسية هائلة لأرض (المسجد الأقصى)، إذ انفتح من عليه درب الاتصال إلى السماء، فأذهل هذا المعراج/ المعجزة خيال المتصوفة المسلمين لاحقاً، فباتوا يتقاطرون إلى القدس للتبارك، ولمحاولة استعادة، ولو من الدرجة الثانية، للحظة العروج تلك، والتي مثَّل فيها النبي ( دور (القطب ين الرمادي واللهب القدسي).‏
جمع المسلمون، فيما تضمّنه الإسراء والمعراج، بين الرمز القديم للمكان، أو الحيز المقدس، وبين التوجه الأحدث نحو الشخصية المقدسة الصالحة، حيث أصبح بإمكان البشر والأماكن إيجاد الصلة بين ما هو سماوي وما هو دنيوي(2)، وصارت لقصة الإسراء والمعراج إيحاءاتها الأكثر تجسداً بعد أن بنيت قبلة الصخرة في العهد الأموي، وارتفعت شاهقة في التعالي، تظلل الصخرة التي عرج من فوقها النبي (، فانجذب المتصوفة المسلمون إلى جوارها، وتحلقوا حولها.‏
كانت فكرة أن القرآن "كلام الله" قد أذهلت الصوفيين، فخاضوا تجربة استرجاع تلك اللحظة التي بلَّغ فيها جبريل هذا الكلام للنبي (، وقد عبَّر الإمام جعفر الصادق عن هذه التجربة، حيث يُروى عنه أنه خرَّ مغشياً عليه وهو في الصلاة، فسُئل عن ذلك، فقال: "مازلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها"، ويعلق الإمام الغزالي على تجربة الصادق "فالصوفي لما لاح لـه نور خاصيته التوحيد، وألقى عند سمعه عند سماع الوعد والوعيد، وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى، صار بين يدي الله حاضراً شهيداً، يرى لسانه لسان غيره في التلاوة"(3).‏
وبالتوازي، مع هذه التجربة مع "كلام الله"، فإن الكثير من الصوفيين الذين انبهروا بلحظة (الإسراء والمعراج) جربوا، وهم يدورون حول الصخرة وتحت قبتها، استرجاع لحظة الإسراء والمعراج النموذج الأصيل لخبرتهم الروحانية الخاصة، حيث رأوا كيف فقد محمد ( ذاتيته وهو مُنتش في الحضرة الإلهية، ورأوا في ذلك "الفناء" مقدمة لـ"بقاء" تسمو فيه الإنسانية سمواً تحقق فيه ذاتها، فهرع الصوفيون إلى القدس، متخذين من أروقة الأعمدة حول الرصيف والتحلق حول الصخرة مسكناً، كي يُتاح لهم تأمل رموز القبة التي بدأ منها الرسول معراجه(4)، كما رغب الكثير من الصوفية أن يقضوا بقية حياتهم، وأن يدفنوا في بيت المقدس، طالما أن القدس أقرب نقطة من الأرض إلى السماء، هي أرض المحشر والمنشر، والموت فيها يعادل الموت في السماء، حسب بعض الأحاديث النبوية، ويذكر ابن الجوزي عن وهب بن منبه قوله: أهل بيت المقدس جيران الله، وحق على الله أن لا يعذب جيرانه، ومن دفن في بيت المقدس نجا...(5).‏
آ ـ الصوفية‏
تضرب الصوفية جذورها إلى ظاهرة الزهد، التي اتصف بها أغلب الصحابة والتابعين، وبالأخص من سمي منهم بأهل الصفة، حيث كانوا ينقطعون للعبادة في "صفّة" بناها النبي لهم في مسجده، وهم خلاصة أصحاب الرسول، مرابطين في "صفّة" المسجد لإمداد جيوش النبي، وكان منهم مندوبو الرسول لتعليم الدين في سائر الأمصار، وهم معلمو القرآن، وفيهم خيار المؤمنين، ويضم هؤلاء الزهاد فيما بينهم: الخلفاء الراشدين، والمؤذن بلالاً، وأبا ذر، وسلمان الفارسي، وصهيب، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وعاصم الأنصاري، وعمير بن سعيد، وأصحاب بيعة العقبة، وشداد بن أوس، وتميماً الداري، وغيرهم من التابعين كسفيان الثوري، وإبراهيم بن الأدهم، والفضل بن عياض، وذي النون المصري..(6).‏
بدأت حركة الزهد هذه، في القرن الأول الهجري، حركة انكفائية، وموقفاً أخلاقياً تطهيرياً تجسد في سلوك أبي ذر، لتمضي في تطورها في المنتصف الثاني للقرن الأول الهجري، وتتجلى في مذهب زهاد الكوفة، والبصرة ومصر، احتجاجاً ضد ثراء البلاط الأموي(7)، وعند نهاية القرن الثاني الهجري، تحولت السلوكية الزهدية إلى نواة لمنهج التأويل الصوفي، مع رابعة العدوية (ت 801 م)، ومعروف الكرخي (ت 815 م)، إذ ندخل عندها عتبات الصوفية، حيث تقدم رابعة مفهوم "الحب الإلهي"، كما يقدم الكرخي مفهوم "المعرفة الذوقية" التي تقود إلى الله(8)، ولقد أجمع المتصوفة، الذين مزجوا، فيما بعد، تصوفهم بالفلسفة، على أن المقصد المشترك بينها (الاتحاد، أو الفناء، أو التوحد بالتعالي)، ولقد تفرعت الصوفية إلى اتجاهات كان أهمها: مدرسة بغداد ـ المحاسبي (243هـ)، والجنيد (298هـ)، والسقطي (253 هـ)، لتبلغ مع الحلاج (926 م)، والسهروردي (1191 م)، وابن عربي (1240 م)، فلسفة الإشراق والإلهام ذروتها القصوى(9)، وبموازاة ذلك، وبعده، تفرعت إلى طرق، لكل منها طقسها الخاص، وزواياها ورباطها.‏
ب ـ الزهاد وأهل الصفّة في القدس‏
تجلّى تعلق الفاتحين المسلمين بالقدس بصورة صريحة، عند وقوفهم قبالة أسوارها، مستندين إلى المعاني المقدسة التي حملها دينهم نحوها، فكانوا يتسابقون للمشاركة في شرف فتحها، حيث إنهم حين قاموا للصلاة قبالتها "أذّن، وصلَّت الناس صلاة الفجر فقرأ يزيد بن أبي سفيان لأصحابه (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا( (المائدة: 21)، فيقال: "إن الأمراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرؤوا هذه الآية، كأنهم على معياد واحد"(10)، ولقد تقاطر إليها في أثناء الفتح، وبعده، كثير من الصحابة والتابعين، ومنهم الزهاد وأهل الصفة، الذين يعدون بشائر الصوفية، ولقد حرصت كتب التاريخ الإسلامي، وكتب "فضائل القدس" على ذكر الصحابة والتابعين، الذين زاروا القدس، أو ماتوا فيها، للتبرك في زيارتها، أو للدفن فيها.‏
يقف في مقدمة هؤلاء، الذين زاروا القدس، الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، إذ قدم إليها في أثناء الفتح، وأعطى العهدة لبطريرك القدس صوفرونيوس، ودخلها أبو عبيدة بن الجراح (ت 18 هـ) قائداً لجيوش الفتح عند دخولها القدس، ومن ثم توفي وهو في طريقه لزيارتها للمرة الثانية، يريد الصلاة في المسجد الأقصى، دُفن غربي نهر الأردن(11)، كما زارها مؤذن الرسول بلال بن رباح (ت 19 هـ)، وأذن فيها أول أذان لـه بعد وفاة النبي (، فعندما حضرت الظهر، بعد فتح بيت المقدس، طلب عمر بن الخطاب من بلال أن يؤذن للصلاة، وكان بلال قد توقف عن الأذان من يوم وفاة النبي ( فقال: "يا أمير المؤمنين، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله ( ولكن سأطيعك اليوم، في هذه الصلاة وحدها"(12)، كما دخلها مع الفاتحين خالد بن الوليد (ت 21 هـ)، ويزيد بن أبي سفيان (ت 18 هـ)، وبويع فيها معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين، وقدم سعد بن أبي وقاص بيت المقدس، وأحرم منها، كما قدم إليها سعد بن زيد بن عمر بن نفيل، وذلك زمن الفتح، وتوفي بالبقيع، فقد أتاها بعض الصحابة وذلك بغرض أن يستهل حجة بعمرة إلى بيت المقدس، أو أن يحرم منها إلى بيت الحرام، وذلك تلبية للحديث النبوي القائل [من أهلَّ بحجة أو بُعمرة من المسجد الحرام غفر لـه ما تقدم من ذنوبه، وما تأخر، أو وجبت لـه الجنة"(13)، فقدم عبد الله بن عمر بيت المقدس، وأهلَّ منه بعمرة، وقيل إنه قدم إليه بعد صلاة الصبح، فجلس في المسجد، حتى إذا طلعت الشمس، قام فصلى ركعات هو ومن معه، ثم قعدوا إلى رواحلهم، كما قدم عبد الله بن عباس، فأهلَّ من بيت المقدس في الشتاء(14)، وقدمت صفية بنت حيي، أم المؤمنين، بيت المقدس، وصعدت طور زيتا، وصلَّت فيه، وقامت على طرف الجبل، فقالت: من هنا يتفرق الناس يوم القيامة إلى الجنة أو النار.‏
يقف في مقدمة الزهاد، وأهل الصفة، الذين حرصوا على زيارة بيت المقدس، أبو ذر الغفاري، ومعاذ بن جبل، وعياض بن غنم، وعبد الله بن سلام، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وتميم الداري، إذ أقام أبو ذر الغفاري/ جندب بن جنادة، في القدس وقضى فترة إقامته فيها في الركوع والسجود، ثم ارتحل إلى المدينة، وتوفي في الربدة في آخر خلافة عثمان بن عفان، وأن معاذ بن جبل الأنصاري أتى بيت المقدس، وأقام بها ثلاثة أيام ولياليها يصوم ويصلي، فلما خرج منها، أقبل على أصحابه فقال: أمَّا ما مضى من ذنوبكم فقد غُفر لكم، فانظروا ما أنتم صانعون فيما بقي من أعماركم، كما قدم إليها أبو هريرة/ عبد الرحمن بن صخر (ت 42 هـ)، الذي شهد الفتح من قبل، وهو الذي روى حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.."، كما زارها عياض بن غنم (ت 20 هـ)، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري (ت 70 هـ) الذي لازم معاذ بن جبل منذ أن بعثه النبي إلى اليمن، كما روي أن أبا مسعود الأنصاري/ عقبة بن عمرو الأنصاري (ت 39هـ)، إنه عندما أتى إلى القدس، ودخل المسجد الأقصى، فرآه الناس واتبعوه، فقال: ما حاجتكم؟ فقالوا: جئنا نسلم عليك ونسير معك، لأنك صاحب رسول الله (.‏
وأقام في القدس عدد من الصحابة الزهاد، إلى أن ماتوا ودفنوا فيها، أمثال: عبادة بن الصامت الأنصاري (ت 34 هـ)، الذي كان نقيباً، وشهد العقبة الأولى والثانية، وشهد بدراً والمشاهد كلها، ولاه عمر بن الخطاب قاضياً على الشام ومعلماً، وولي قضاء فلسطين، ثم قاضياً لبيت المقدس، وروي أنه شوهد وهو يبكي على سور بيت المقدس الشرقي، فسئل: وما يبكيك يا أبا الوليد؟ فقال: من هاهنا أخبرنا النبي ( أنه رأى جهنم، أقام في بيت المقدس، وتوفي في الرملة، إلا أنه دفن في القدس، كذلك أقام فيها شداد بن أوس إلى أن قضى، ودُفن فيها، وهو الذي روى الحديث النبوي: [أن الشام ستفتح، وبيت المقدس سيفتح]، ويقال إن قبره في مقبرة الرحمة، كما دفن، في بيت المقدس، وائلة بن الأسقع (ت 85 هـ)، وذو الأصابع التميمي، الذي قال لـه النبي: [عليك ببيت المقدس]، وفيروز الديلمي(15).‏
يتبع

الغضنفر 6 - 4 - 2012 02:46 AM

وقصد بيت المقدس الكثير من التابعين الزهاد للتبارك بها، يذكر الأوزاعي: كان قبيصة بن ذؤيب، وعبد الله بن محيريز، وهانئ بن كلثوم، يحضرون "للصلاة" من الرملة إلى بيت المقدس، قلت: هؤلاء كلهم عُبَّاد زهّاد، فقبيصة، كان عالماً ربانياً، مات سنة 86هـ، وابن محيريز، نزل ببيت المقدس، قال رجاء بن حيوة: إنْ فَخَر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر بعابدنا ابن محيريز، إنما كنت أعدُّ بقاءه أماناً لأهل الأرض(16)، وزارها أيضاً محارب بن دثار، الذي قيل عنه: غلبنا على ثلاث، على قيام الليل، والبسط في النفقة، والكفِّ عن الناس، وفي رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: فَضَلنا بكثرة الصلاة، وطول الصمت، وسخاء النفس، وزارها محمد بن واسع (ت 127 هـ) من البصرة، وكان من الزهاد، الذي قال: إن كنتَ لا تعقل فاحذر الدنيا، فإن كنت لا تحسن أن تحذرها، فاجعلها شوكة، وانظر أين تضع رجليك(17).‏
متصوفة القرن الثاني الهجري‏


وأشار مؤرخو الصوفية إلى أن أبرز أعلامها في القرن الثاني الهجري ـ الثامن الميلادي، رابعة العدوية، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والفضل بن عياض، وإبراهيم بن الأدهم، ويحيى بن دينار، وسعيد بن المسيب، ويضمون إليهم الإمام الشافعي لأنه صحب الصوفية سبعة عشر سنة من عمره، وكذلك الإمام الأوزاعي للسبب نفسه(18)، وعندما تتفحص سيرة هؤلاء، الذين أرسوا أسس التصوف الإسلامي، نجد أغلبهم حرصوا على زيارة بيت المقدس، للتبارك في رموزها المقدسة المختلفة.‏


رابعة العدوية (ت 180 هـ):‏
كانت حسب ابن خلكان من أعيان عصرها، ويقول آخرون أنها ولدت من أسرة فقيرة وأنها لما كبرت، توفي والدها، وهي لا تزال في ريعان الصبا، حدث في البصرة قحط، فهامت وأخواتها الثلاث على وجوههن، فأسرها أحد الرجال وباعها لرجل آخر أثقل عليها العمل.‏
وذكر العطار كيف هبطت عليها رسالتها الروحية، فيقول: إنها ذات يوم شاهدت رجلاً يرمقها بنظرة شريرة، فهربت في طريق الشام ـ وهذا أمر لـه مغزاه طالما أن القدس تقع في قلب الشام ـ "في الأرض التي باركنا حولها"، فناجت ربها على هذا الطريق، متسائلة: "أراضٍ أنت عني؟"، فسمعت صوتاً يقول: "لا تحزني ففي يوم الحساب يتطلع المقرَّبون في السماء إليك، ويحسدونك" فرجعت إلى بيت سيدها تقضي ليلها بالتهجد، وبعد أن شاهد سيدها تقواها أعتقها، فانقطعت للعبادة والتقوى، وقضت حياتها في توبة مستمرة(19)، وكان عندها سفيان الثوري، يوماً، فقال: واحزناه، فقالت: لا تكذب، بل قل واقلّة حزناه، ولو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس(20).‏
شدَّت رابعة الرحال إلى بيت المقدس، وقضت فيه بقية حياتها، وماتت بها وقبرها بظاهر القدس على رأس طور زيتا، وهو ظاهر يُزار على زمن صاحب "مثير الغرام"(21)، ويذكر صاحب الأنس الجليل أن قبرها على رأس جبل طور زيتا، شرقي بيت المقدس، بجوار مكان صعود عيسى عليه السلام من جهة القبلة، في زاوية ينزل إليها من درج(22)، يذكر ابن الجوزي أن وفاتها في سنة 135هـ، وقال غيره سنة 185هـ(23)، ويروى أنه حينما حضرتها الوفاة، جلس حولها نفر كثير من الصالحين، فقالت لهم: انهضوا واخرجوا، ودعوا الطريق مفتوحة لرُسل الله تعالى، فنهضوا جميعاً وخرجوا، فلما أغلقوا الباب سمعوا صوت رابعة وهي تقول الشهادة، فلما تلفظت النفس الأخير، تجمع أولئك الصالحون وغسلوها وصلّوا عليها صلاة الموتى، ودفنوها في مقرها الأخير(24).‏

إبراهيم بن الأدهم (ت 162 هـ):‏

من أهل بلخ، كان من أبناء الملوك، خرج متصيداً فهتف فيه هاتف، أيقظه من غفلته، فترك طريقته في التزيُّن بالدنيا، واتبع طريقة أهل الزهد والورع، وخرج إلى مكة وصحب معه سفيان الثوري، والفضل بن عياض، ثم اتجه إلى الشام(25)، يروي أنه أمضى أربعين سنة ليبلغ الكعبة، لأنه كان في كل خطوة يصلي ركعتين، وكان يقول: "غيري يسلك هذا الطريق على قدميه، أما أنا فأسلكها على رأسي"، وبعد أربعين سنة بلغها فلم يجدها في مكانها، فقال نائحاً: "واأسفاه، أصبحت أعمى حتى لا أرى الكعبة"، فسمع صوتاً يقول: يا إبراهيم! لست أعمى، لكن الكعبة ذهبت للقاء رابعة، فتأثر إبراهيم: فرأى الكعبة قد عادت إلى مكانها، وأبصر رابعة تتقدم مستندة إلى عصا(26).‏
يذكر إبراهيم أنه سأل بعض المشايخ عن الحلال فأرشدوه إلى بلاد الشام، فأتى طرسوس فعمل بها أياماً ينظر البساتين، ويحصد الحصاد، وكان يقول: "ما تهنيت بالعيش إلاَّ في بلاد الشام، افرُّ بديني من شاهق إلى شاهق، ومن جبل إلى جبل، ومن يراني يقول هو موسوس"(27)، ثم انتهى إلى بيت المقدس، وأقام فيها، وكان من عادته أن ينام عند الصخرة(28)، خرج ذات مرة من بيت المقدس فمر بطريقه بجنود (مسلحة) فقالوا له: أنت عبد؟ (أي غير حر)، قال: نعم، قالوا: آبق؟ قال: نعم، فسجنوه، فبلغ الخبر أهل بيت المقدس فجاءوا برمتهم إلى نائب طبرية، يطالبون به، فأحضره فقال له: علام سُجنت؟ قال: سل المسلحة (الجند)، قالوا أنت عبد فقلت نعم، وأنا عبد، وقالوا آبق، قلت نعم، وأنا عبد آبق من ذنوبي، فخلي سبيله(29).‏

سفيان الثوري (ت 161 هـ):‏
الصوفي الشهير، اشتهر بزهده وورعه، أتى المسجد الأقصى فصلى فيه بموضع الجماعة، وروي أنه أتى الصخرة المشرفة، فقرأ فيها ختمة، أي القرآن الكريم، ويروي الوليد بن مسلم عن بيدقة بن زيد أنه لقي سفيان في مسجد الجماعة ببيت المقدس، فسأله هل أتى القبة، أي قبة الصخرة، فأجابه: نعم، وختمت فيه القرآن(30)، وقال أبو عتبة: رأيت ببيت المقدس شيئاً كأنه محترق بالنار، عليه مدرعة سوداء، عمامته سوداء، طويل الصمت كريم المنظر، كثير الشعر شديد الحزن، فقلت له: يرحمك الله لو غيرت لباسك هذا... فبكى، وقال: هذا أشبه بلباس المصاب، وإنما نحن في الدنيا في حداد(31).‏
الليث بن سعد (ت 175 هـ ـ 791م):‏
يقول عنه المقدسي، عالم أهل مصر، كان نظير الإمام مالك في العلم، ويروى أنه لا ينقضي عنه عام إلا وعليه دين من كثرة جوده، قدم بيت المقدس، وخلال إقامته فيها زارها الخليفة المنصور، فقال لـه المنصور: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، فالحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك(32).‏
ثور بن يزيد (منتصف القرن الثاني الهجري):‏
سكن بيت المقدس، وكان يصاحبه رجلٌ تقيٌ من قرى بيت المقدس، يأتيه عند الفجر، فيصلي الصلوات كلها ببيت المقدس، وينصرف بعد عشاء الآخرة إلى قريته مع الفجر، وقد سمع ثور يحدث: أن خالد بن معدان (ت 104 هـ) حدثه بحديث رفعه إلى رسول الله (، قال: "من رأى شيئاً يهوله أو يفزعه فليقل إن الله هو الذي ليس كمثله شيء، وهو الواحد القهار، فما قالها أحد إلا فرَّج الله عنه، ولو كان بين يدي سور من حديد"(33).‏

مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ):‏
قدم بيت المقدس وصلى فيه، وجلس عند باب الصخرة القبلي، فاجتمع إليه خلق من الناس يكتبون عنه ويسمعون منه، فأقبل بدوي يطأ بنعليه على البلاط وطئاً شديداً، فسمعه مقاتل فقال لمن حوله: انفرجوا، فانفرج الناس عنه، وأهوى بيده يشير إليه ويقول: أيها الواطئ! ارفق بوطئك، فوالذي نفس مقاتل بيده، ما تطأ إلا على أجاجين (المَركَن) الجنة!(34).‏

هـ ـ الطبقة الثانية/ الصوفية في القرن الثالث الهجري‏
امتزج التصوف الإسلامي، في القرن الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي، بالفلسفة، مع معروف الكرخي، وسري السقطي، والجنيد، وذو النون المصري(35)، وسعيد الأفريقي، وصالح بن يوسف، ومحمد بن كرام، ومما لـه دلالته عن تعلق الصوفية بالقدس هو حرص أغلب هؤلاء الأعلام على زيارتها.‏
ذو النون المصري (ت 245 هـ):‏
كان أول من وصل بين العلم والدين والتصوف، اشتهر بالكيمياء التي كان يُنظر إلى نتائجها على أنها نوع من الكرامات، وكان لـه تأثير كبير في نقل التصوف من حال إلى حال، وأدخل الكلام في المقامات والأحوال في الصوفية، وهو مصري من أخميم، يقال أنه نوبي(36)، عرَّف الصوفي بقوله: "من إذا نطق، أبان نطقه على الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق"، وقال: "مفتاح العبادة الفكرة، وعلامة الهوى متابعة الشهوات، وعلامة التوكل انقطاع المطامع"(37)، كما قال: "معرفة الله على ثلاثة أوجه، معرفة التوحيد وهو لكافة المؤمنين، والثانية معرفة الحجة والبيان وهي للعظماء والحكماء والبلغاء، والثالثة معرفة صفات الوحدانية والفردانية وهي لأولياء الله وأصفيائه"(38)، رحل من مصر إلى مكة، ومنها قصد الشام إلى القدس، يروي عنه الغزالي قوله: رأيت ببعض سواحل الشام امرأة، فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله(39)، ويُروى عنه أن حين أتى بيت المقدس قال: "وجدت على صخرة بيت المقدس كل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل قانع غاني، وكل محب ذليل" (40).‏
يروي الصوفي الكبير ابن باكويه، عن النيسابوري، أنه سمع ذا النون يقول: بينما أنا في بعض جبال القدس، سمعت صوتاً يقول: ذهبت الآلام من أبدان الخدام، وولهت بالطاعة عن الشراب والطعام، وألفت قلوبهم طول المقام بين يدي الملك العلاَّم، فتبعت الصوت، فإذا أمرد مصفر الوجه يميل مثل الغصن إذا حركته الريح، عليه شملة أئتزر بها، فلما رآني توارى عني بالشجر، فقلت: ليس الجفاء من أخلاق المؤمنين، فكلمني وأوصني، فخرَّ ساجداً، وجعل يقول:‏
هذا مقام من لاذ بك واستجار بمعرفتك وألف بمحبتك، فيا إله القلوب "وما تحويه من جلال عظمتك" احمني عن القاطعين لي عنك، قال: فغاب عني فلم أره (41).‏

السري السقطي (ت 257ه‍):‏
هو خال الصوفي الشهير الجنيد (297ه‍) وأستاذه، وكان ينصحه أن يأخذ عن المحاسبي من علمه وأدبه، ويدع تشقيقه للكلام، وكان يقول له: جعلك الله صاحب حديث صوفي، ولم يجعلك صوفياً صاحب حديث، أي أن يذهب إلى الصوفية عبر معرفة الحديث والأصول، لأنه إذا ابتدأ بالتعبد والحال شُغِل عن العلم "فخرجت أمّا شطحاً أو غلطاً" فكان يخاف على الجنيد من الجدل الكلامي رغمَ إجلاله لمقام المحاسبي (42). وكان المحاسبي قد خطَّ بدايات طريق فلسفة التصوف السني، التي تصل إلى الجنيد، وتصعد إلى الغزالي.‏
كان سري (أبو الحسن) أول من تكلم ببغداد في لسان التوحيد، وحقائق الأحوال، وإليه ينتمي أكثر الطبقة الثانية من الصوفية، ومن أقواله: أن أقصر الطرق إلى الجنة، لا تسأل أحداً شيئاً، ولا تأخذ من أحدٍ، ولا يكون معك شيء تُعطي منه أحداً، ويقول: من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، فليعتزل الناس (43)، أتى من بغداد إلى بيت المقدس خارجاً من الرملة، فذكر أنه مرَّ بطريقه بغدير ماء، وعشب، فجلس وأكل العشب، وشرب الماء، فقال في نفسه: إن كنت أكلت أو شربت في الدنيا حلالاً فهو هذا، فسمع هاتفاً يقول له: يا سري فالنفقة التي بلغتكَ هنا، من أين؟! (44)، ويذكر عنه أنه قال: صليت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديتُ: يا سري، كذا تجلس الملوك؟ فضممت رجلي، وقلت: وعزتك لا مددت رجلي أبداً (45)، وبعد أن زار القدس، عاد إلى بغداد وتوفي هناك.‏

سعيد الأفريقي:‏
وهو أحد زهاد القرن الثاني الهجري، جذبته فضائل القدس فزارها، ويروى عنه أنه قال: رأيت جارية في بيت المقدس، عليها درع شعر وخمار صوف، وهي تقول: ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وأوحش خلوة على من لم تكن أنيسه، فقلت: يا جارية ما قطع الخلق عن الله؟ فقالت: حب الدنيا، إن لله عباداً سقاهم من حبه، فولَّهت قلوبهم فلم يحبوا مع الله غيره (46).‏
محمد بن كرام (ت 255ه‍):‏
الذي تنسب إليه طريقة الكرامية الصوفية، أتى بيت المقدس للتبرك بها، وواصل التعبد في مسجدها، يقال إنه اعتاد الجلوس في بيت المقدس عند العامود قرب مهد عيسى، وبقي في بيت المقدس متعبداً إلى أن توفي فيها، ودفن هناك (47).‏
الجنيد /أبو القاسم بن محمد (ت 297ه‍):‏
أصله من نهاوند، ونشأ في العراق، وصحب السري السقطي، والحارث المحاسبي، وهو من أئمة الصوفية وسادتها (48)، عارض اتجاه الحلاج، ودعاوي إسقاط التكاليف، وجهد في فلسفته عن الحرية، والربط بينها والتوحُّد في العبودية، فالصوفي حرُ إذا توحدت عبوديته لله "فإذا كنت لـه وحده عبداً كنت مما دونه حراً" مخالفاً بذلك التيار الصوفي الذي يزعم أن الحرية الصوفية التحرر من كل القيود في العبادة (49)، قالوا إنه أول من صاغ المعاني الصوفية، وكتب في شرحها، ثم زاد التصوف، بعده، أي في القرن الرابع الهجري نظاماً من الناحية النظرية والعملية (50).‏
انجذب إلى معاني بيت المقدس، وبالأخص الإسراء والمعراج، فكتب في مخطوطة "دواء الأرواح" على الإسراء والمعراج، حيث أوحى الله لرسوله ما أوحى، وقد قارن الجنيد هذا بموقف موسى عليه السلام لدى الطور الأيمن حينما نودي، فطلب الرؤية الكبرى، فدُكَّ الجبل، وصعق موسى، ولولا أن موسى في كنف الله لانتهى كما انتهى الجبل (51).‏

صالح بن يوسف أبو شعيب

(ت 282ه‍):‏
حجَّ سبعين حجة راجلاً، وفي كل حجة منها كان يحرم من صخرة بيت المقدس لينتقل بعدها ليؤدي مناسك الحج في مكة (52)، فقد احتلت مناسك الحج إلى بيت المقدس مكانة مهمة في السنة النبوية، التي دونت بطريقة مكتملة في القرن الثالث الهجري، إذ غدت العمرة تكراراً من الدرجة الثانية للإسراء النبوي، كما أصبحت الإقامة في القدس، بل والموت فيها، والدفن في ترابها مطلباً روحياً للمسلمين، طالما أنها أرض المحشر والمنتشر، وقد اكتسبت رواية ابن إسحاق للسيرة، ولقصة الإسراء والمعراج تحديداً، إيحاءاتها الأكثر تجسداً بعد إتمام بناء قبة الصخرة، التي أعطت صورة مجسدة للتعالي الروحي، وألهمت بقوة الصوفيين وجذبتهم للاقتراب من ذلك البرزخ، من هنا طور المسلمون للقدس أسلوباً رمزياً يحاكي الأحداث الخارجية (الظاهرية) للإسراء والمعراج، كوسيلة للمشاركة في تلك الرحلة الروحية، لهذا صار الكثير من الأتقياء المسلمين يبدؤون حجهم بزيارتهم أو حرمهم إلى القدس أولاً، لذا ليست من المصادفة أن يحج صالح بن يوسف، كما ذكرنا، سبعين مرة، يبدأها بالإحرام إلى بيت المقدس، ويذكر ابن دادة في سننه، بعد أن ساق حديث أم سلمة في فضل الإحرام إلى بيت المقدس، بقوله: رحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس إلى مكة (53).‏
ويظهر هذا التعلُّق بالقدس بطريقة جلية، عندما أوصى السلاطين الإخشيديون جميعاً بأن يدفنوا في جوار الحرم القدسي (54).‏

و- في العهدين السلجوقي والفاطمي‏
ذكر الرحالة ناصر خسرو، الذي زار بيت المقدس عام 1047م، في العهد الفاطمي، أنه يوجد بعد الجامع سهل كبير مستوٍ يسمى "الساهرة" يقال بأنه سيكون ساحة القيامة والحشر، ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم، ويقيمون فيه حتى يموتوا، فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد (55)، كما يذكر أنه شاهد في عرض مسجد الصخرة رواقاً في حائط، خارجه صومعتان للصوفية، وهناك مصليان ومحاريب جميلة يقيم بها جماعة منهم، ويصلون ولا يذهبون للجامع إلاًّ يوم الجمعة، لأنهم لا يسمعون التكبير، حيث يقيمون (56).‏
لقد كان ردُّ الفعل السني موارباً، على التهديدات الخارجية البيزنطية لمدينة القدس، وعلى السيطرة الفاطمية عليها، التي أثرت على نشاطاتهم الثقافية، فبقي المتصوفة محتفظين بصوامعهم ومصلياتهم ومحاربيهم حول قبة الصخرة، وصار من عادات أهل القدس، ومحيطها من فلسطين، أن أحدهم إذا حجَّ إلى البيت الحرام، وعاد، يشدُّ الرحال إلى بيت المقدس ليصلي فيه، فيقال عنه: قدَّس فلان حجَّه، كما كانت من عادات حجاج أهل المغرب العربي، بشكل خاص، أن يمرَّ على المسجد الأقصى إثر عودته من حجته إلى البيت الحرام (57).‏
بعد أن استولى السلاجقة على القدس عام 1073م، انقلب الوضع الديني في المدينة بالنسبة للأكثرية السنية، فبدأت تتوافد إليها أفواج من العلماء السنة، من المغرب أو المشرق، للتبارك في القدس، ولإزالة آثار الهرطقة الفاطمية، فنشطت معاهد قديمة، وأقيمت مدارس وزوايا جديدة للتصوف، وصل عدد حلقات الدرس إلى ثمان وعشرين حلقة، وبجوارها أقيمت حلقات الذكر الصوفية، وكثر عدد المتصوفة والزهاد، والمعتكفون حول المسجد الأقصى (58).‏
لقد قصدها كبار الفقهاء من شتى المذاهب، أمثال عبد الواحد محمد الشيرازي "الحنبلي" (ت 486ه‍ -1093م)، كما أقام بها العالم الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (ت 940ه‍ -1097م)، في الزاوية التي على باب الرحمة، المعروفة بالناصرية، نسبة إلى الشيخ نصر الطوسي، ثم عُرفت فيما بعد بالغزالية، نسبة إلى الإمام أبي حامد الغزالي، كما زارها الكثير من علماء وصوفية المغرب العربي، الذين سيُفرد لهم بابٌ خاص.‏

الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505ه‍):‏
لعله من أبرز الشخصيات الصوفية التي زارت بيت المقدس قبيل الاحتلال الصليبي لها، والذي جمع بين الفقه والصوفية، بعد أن آخى بينهما، فَرَضيِ بعده الكثير من الفقهاء عن التصوف، وكثير من المتصوفة عن الفقهاء، ولد بطوس، درس الفقه في جرجان ثم نيسابور، كان من شيوخه إمام الحرمين الجويني تلميذ الأشعري، صار مدرساً في مدرسة نظام الملك ببغداد، ونال شهرة واسعة، عانى من أزمة روحية عميقة، فقرر السفر إلى الحجاز عله يتخلص من شكه، ومن زهوه بنفسه، فغادر بغداد إلى الشام، وأقام في القدس ما يقارب العشر سنوات قضاها في التعبد (59).‏
اعتمد الفقهاء على ظاهر الشعائر، فجاء هو فبعث فيها الروح، وجعلها كما كانت في حال الإسلام الأول، وحبب الناس بالتصوف، وأقر الاعتماد بالمكاشفة، وأنها تصل بالمعرفة إلى ما لم يعرفه العقل، وقرر أن الإيمان عن طريق الكشف لا عن طريق الفلسفة هو الطريق إلى الله، وطريق الكشف الرياضة والمجاهدة (60).‏
يذكر ابن الأثير أن الغزالي أقام في القدس في الزاوية التي على باب الرحمة، والتي سميت باسمه "الغزالية" "تزهد ولبس الخيش، وأكل الدون، وفي هذه السفرة صنَّف "إحياء علوم الدين"، وسمعه منه خلق كثير، وعاد إلى بغداد" (61)، وصنف في القدس أيضاً "القسطاط" و"محك النظر" وغيرها (62).‏
الديباجي /أبو عبد الله المقدسي (ت 527ه‍):‏
أصله من مكة، أقام في بيت المقدس، وسكن درب السلسلة في القدس.‏
كما قصد بيت المقدس الفقيه محمد بن حاتم /الطوسي: الذي تفقه على دروس إمام الحرمين الجويني، كان فقيهاً صوفياً جذبه جلال مدينة القدس، فأقام فيها متعبداً، وطالباً للعلم.‏
أبو بكر الخوجاني (ت 544ه‍):‏
زار بيت المقدس، قال عنه السمعاني الذي رافقه في زيارته تلك، إنه شيخ صالح قيِّمٌ بكتاب الله، دائم البكاء، كثير الحزن، لـه أوقات حسنة، وخدم المشايخ الكبار (63).‏
يتبع

الغضنفر 6 - 4 - 2012 02:47 AM

المغاربة والأندلسيون‏
اعتاد المغاربة المرور على المسجد الأقصى في طريق عودتهم من البيت الحرام إلى بلادهم، فلقد جذبتهم إلى القدس الآيات والأحاديث النبوية المكرَّسة لتمجيد بيت المقدس، فهناك من قصدها لكسب ثواب الصلاة فيها والإحرام، أمثال، إبراهيم بن الحارث ابن عبد الملك بن مروان المقرئ من قرطبة (ت 1001م)، الذي رحل قبل موته بثلاث عشر سنة لأداء فريضة الحج، ثم انتقل إلى بيت المقدس، مثله مثل مواطنه ومعاصره حسن بن نسيب التميمي، الذي زار القدس وأخذ العلم فيها، كما طبق الأندلسيون والمغاربة الأحاديث النبوية الداعية إلى ربط الحج بالعمرة إلى القدس، فلكي يكون الحج كاملاً فإن من الواجب الانطلاق من بيت المقدس تطبيقاً للحديث القائل: "من أهلََّ بحج أو عمرة من المسجد الأقصى الشريف إلى البيت الحرام، غفر الله لـه ما تقدم من ذنوبه وما تأخر"، وخير مثال على ذلك، هو محمد بن عمر بن يوسف المالكي (الشهير بابن الفخار): فقد أدى فريضة الحج، ثم سكن المدينة، فرأى في نومه ملاكاً يقول له: ابق مجاوراً إلى موسم قابل فإنه لن يتقبل حج هذا العام، فارتاع لما رأى، فأقام بمكة مجتهداً بعمله، وخرج إلى المدينة فزار قبر النبي، ثم زار بيت المقدس، فتعبد فيه زماناً، ثم انصرف إلى مكة وحضر موسم الحج الثاني، فرأى النبي ( في نومه يسلم عليه ويصافحه مبتسماً ويقول له: يا محمد حجك مقبول، أولاً وأخيراً يرحمك الله (64).‏
كما جذبت المغاربة الأحاديث التي تبين فضل الموت في القدس، كحديث عبد الله بن عمر، القائل "من مات مقيماً محتسباً في بيت المقدس فكأنما مات في السماء"، لذا فإن محمد بن عبد الله بن تمام الطليطلي: حج إلى مكة، وسمع فيها، ثم أقام بالقدس إلى أن قضى، ودفن فيها عام 953م، كما أن الفقيه الزاهد أبا عبد الله الوليد بن سعيد بن بكر الأنصاري: رحل إلى القيروان حيث تفقه، ثم إلى مصر، فمكة، وانتهى إلى بيت المقدس إلى أن مات فيها ودفن هناك في نهاية القرن الرابع الهجري، (65) وقدم إليها من أقاصي المغرب أبو حمد عبد الله بن الوليد الأنصاري (ت 386ه‍)، وكان إمام المالكية في عصره، زاهداً، جمع الزهد والفقه، قضى بقية عمره في بيت المقدس في انتظار أن يدفن فيها، وكان يقول: جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث، قول النبي: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو يصمت، وقوله: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقوله: لا تغضب، وقوله: المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (66).‏
كما جذبت القدس إليها الإمام أبو بكر بن العربي الأندلسي: الحافظ الشهير، وذلك عام 485ه‍، ولقي فيها الإمام محمد بن الوليد الأندلسي (ت 456ه‍ -1064م)، الذي روى أنه شاهد يوم عرفة حشداً من أهل القدس وما حولها "يقفون في المسجد مستقبلين القبلة، مرتفعة أصواتهم بالدعاء، كأنه موطن عرفة، وكنت أسمع منهم أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات فإنها تعدل حجة" (67)، ولقد لقي أبو بكر بن العربي، الشاشي والغزالي أيضاً، ورأى فيها خلقاً كثيراً من أرباب العلوم (68)، وقد اشتهر في تفسير الآية (وأنزلنا من السماء ماء بقدر( (المؤمنون: 18)، إذ ذكر أقوالاً أربعة، الأخير منها قال فيه: "إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس، فإنها صخرة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة، لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء، أن تقع على الأرض إلا بإذنه" (69).‏

ح-في العهدين الأيوبي والمملوكي‏

خلت القدس من المسلمين في أثناء فترة الاحتلال الصليبي لها، بعد أن قتلوا ما فيها من مسلمين ويهود، ومنعوا زيارتها عليهم طول فترة احتلالهم، التي دامت قرابة التسعين عاماً (1099 –1187م)، فأثر عامل إبعاد المسلمين عنها، وحرمانهم منها، في تأجيج مشاعر التعلق بالقدس، وتكثيف فضائلها، ورموزها، لهذا عقب الفتح الصلاحي لها، اندفع المسلمون للسكن فيها أو لزيارتها، وأحيت فيها من جديد الزوايا الصوفية، وازدادت كثافة وعدداً، كما ازداد وتنامى تأثير جاذبية القدس أهمية بشكل أكبر بعد الغزو الصليبي، وما أعقبه من استرجاع المسلمين لها، وبفضل رواج أدب "فضائل القدس" الذي كرس مؤلفات كاملة للحديث عن قداسة المدينة، وجمع فيها كل ما قيل فيها من القرآن ومأثور، ومن ماتوا فيها من صحابة، وكثرة قبور الأتقياء والتابعين، والأنبياء، وتكاثرت رواية الحوادث الخارقة حولها، وانتشرت في كل مكان، أمثال ذلك، ما كتبه ابن القلانسي في حوادث سنة 1120م، حيث يذكر: في هذه السنة ورد الخبر من بيت المقدس بظهور قبر الخليل وولديه إسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، وهم مجتمعون بمغارة بأرض القدس، وكأنهم أحياء لن تبل أجسادهم، فعملت هذه الأخبار عملها بين المتدينين والأتقياء والصوفية والزهاد بشكل خاص، ويروي يوسف بن عبد العزيز بن الأبار في كتابه "المعجم" عن أبي زاهر قوله: أتيت بيت المقدس أريد الصلاة، فدخلت المسجد وغَفَلت سدنة المسجد حتى أطفئت القناديل، وانقطعت الرجال، وأغلقت الأبواب، فيما أنا كذلك، إذ سمعت حفيفاً لـه جناحان، قد أقبل وهو يقول: سبحان الدائم القائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الملك القدوس.. ثم أقبل حفيف يتأوه ويقول: مثل ذلك، ثم أقبل حفيف بعد حفيف، يتجاوبون بها، حتى امتلأ المسجد، فإذا بعضهم قريب مني فقال: آدمي؟ قلت: نعم، قال: لا روع عليك (70) وتشير هذه القصة بوضوح إلى تخيُّل نزول الملائكة والصلاة في المسجد الأقصى، فشكلت هذه القصص دافعاً جديداً لزيارتها، والتذكير بقوة بقدسيتها المحفورة في الضمير الإسلامي منذ اليوم الأول لدخول صلاح الدين إلى القدس، قدم إليها المسلمون من كل بلد، وفي مقدمتهم العلماء والمتصوفة، يذكر أبو شامة عن الفتح الصلاحي، أنه كان فتحاً عظيماً، شهده من أهل العلم خلق عظيم، ومن أرباب الخرق، والحُرق، وذلك أن الناس لما بلغهم ما مَنَّ الله به على يده (على يد صلاح الدين) من فتوح، شاع خبر قصده للقدس، فقصده العلماء من مصر والشام، بحيث لم يتخلف معروف عن الحضور، وارتفعت الأصوات بالضجيج والتهليل والدعاء والتكبير (71). ويذكر الزركشي، أنه بعد تحرير القدس من الصليبيين "ولما شاع الخبر المبهج للمسلمين جميعاً" كان ذلك من أقوى الأسباب التي بعثت ابن جبير على رحلته الثانية، ويروي المؤرخ أبو شامة أن الشاطبي قدم بيت المقدس قبل وفاته بثلاث سنين، وقال رجل يودعه قبل رحلته: ذكر الله ذلك الموضع بخير، وقال: لا أعلم موضعاً أقرب إلى السماء منه بعد مكة والمدينة (72)، وذلك قبل وفاة صلاح الدين عام 1193م، الذي أسس المنشآت لتوطيد الوجه الإسلامي للقدس، مما جعل الصوفية والفقهاء يتدفقون إليها، فيعمرونها بعلوم القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، واللغة، والحلقات (73)، وقد أوقف صلاح الدين جميع الخانقاه المعروفة قديماً بدار التبرك على المشايخ الصوفية، وجعل الدار المذكورة رباطاً لهم، وخصص الكثير من الوقوفات لتمويل هذا الوقف على الصوفية، وللإنفاق عليهم، وعندما أوقف أيضاً الخانقاه "الصلاحية" خصص لـه عدة وقوفات أخرى لتمويل هذه المدرسة من إيراداتها (74).‏
ولقد منح صلاح الدين للصوفية، بعد أن تدفقوا عليها بكثرة، نصف دار البطريرك، وجعلها رباطاً لهم ينزلونه، في الوقت الذي منح النصف الثاني للشافعية، وكان الصوفية أيام صلاح الدين "ملوك هذه البلاد" كما قال ابن جبير، إذ ازدادت مكانتهم الاجتماعية، وأثرهم الديني والثقافي، في أثناء الأزمة الروحية التي صاحبت الغزو المغولي والصليبي، فكثرت زواياهم ورباطهم وخوانقهم، وتدفقت عليهم الهبات، والأوقاف، وصار للتصوف مكانة كبرى في هذا العصر، الذي ظهر فيه في أقصى المغرب ابن سبعين (ت 669ه‍)، وفي أقصى الشرق، في بغداد، ظهر عبد القادر الكيلاني (ت 561ه‍) وأحمد الرفاعي (ت 578ه‍)، فكان العهد الأيوبي الذي وجد قطبه الديني في القدس، مرحلة انتقالية نحو تنظيم الصوفية في طرق، وأقطاب ومريدين، حتى غدا في العهد المملوكي كتنظيم الدولة سواء بسواء.‏
برزت خلال هذه الفترة في القدس، أسرة الصوفي بدر الدين محمد بن يوسف المرتضى (ت 650ه‍)، الذي كان لـه زاوية قرب القدس، ثم ورثه في الطريقة ابنه محمد (ت 663ه‍)، كما برز الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد المقدسي المشهور بأبي ثور (ت 595ه‍)، وغانم بن علي الأنصاري الخزرجي المقدسي (ت 632ه‍)، وشهاب الدين أبو العباس أحمد بن جعفر الأندلسي، خطيب المسجد الأقصى (ت 665ه‍) (75).‏

ط-المغاربة‏

جذبت القدس الكثير من المغاربة، وفي مقدمتهم الصوفية، في الفترة الأيوبية وما بعدها، وكان هؤلاء الزهاد والمتصوفة على قسمين، منهم من كان يمارس التصوف بشكل إفرادي، ومنهم من كان من أتباع طرق صوفية معروفة، من هؤلاء الزهاد محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو عبد الله القرشي الهاشمي، المولود بالأندلس عام 1150م، ذهب إلى مصر، ثم غادرها ليقضي بقية حياته في بيت المقدس، ويدفن فيها (76)، وقد عرفت القدس طرقاً أخرى من التصوف، مثل طريقة الشيخ أبي مدين شعيب بن الحسين (ت 594ه‍)، وقد كان أستاذ الصوفي الشهير ابن عربي، حيث نشر طريقته أحد أحفاده في القدس، فأقاموا لهم زاوية قرب باب السلسلة من الحرم القدسي، ووجدت زاوية لطريقة صوفية أخرى بالقدس، نظمها صوفي أندلسي آخر هو أبو العباس أحمد المرسي، الذي نشر في البداية طريقته الخاصة، في مدينة الإسكندرية (77).‏
اعتاد المغاربة أن يجاوروا الحرم القدسي، بقرب الزاوية الجنوبية، وهي أقرب مكان للمسجد الأقصى، فأوقف الملك الأفضل هذا المكان، كما أوقف لهم حارة سميت فيما بعد بـ "حارة المغاربة" بجوار سور المسجد الأقصى جهة الغرب عام 1193م، لتوفير المساعدة لهم، وتقديم الخدمات اللازمة لحجاج المغرب العربي، كما أنشأ لهم المدرسة "الأفضلية" بجوار حارة المغاربة، لتقديم الخدمات التعليمية لأهلها (78).‏
وفي العهد المملوكي، أوقف الشيخ المجاهد عمر المجرد بن شيخ الشيوخ بن عبد النبي المصمودي المغربي المالكي، عام 1304م "زاوية المغاربة" على الصوفية والمتعبدين، والتي أنشأها من ماله الخاص، الكائنة في حي المغاربة نفسه، واشتملت هذه الزاوية على عشرات الحجرات (79)، ولقد عرفت القدس واحداً من أعلام الطرق الصوفية المغاربة الأندلسيين، وهو الشيخ القدوة خليفة بن مسعود المغربي المالكي (ت 784ه‍ -1382م) الذي كان من أصحاب الشطح، وكانت طريقته تُعرف بالطريقة الشيبانية، والتي كان شيخها في بلاد الشام إبراهيم بن تقي الدين الشيباني، الذي غادر القدس إلى دمشق، بعد أن ترك من يخلفه في طريقته، وكان يقف في مقدمتهم مسعود المغربي الذي نال في القدس شيئاً من التبجيل، وصار مقصداً للزائرين (80).‏


يتبع

الغضنفر 6 - 4 - 2012 02:49 AM

ي-مدارس وطرق أخرى‏
استمر الاهتمام بالصوفية في عهد المماليك، والتسابق في العناية بها، فساهم رجال الدولة وسواهم ببناء المساجد والتكايا والمدارس، وقدموا المساعدة للعلماء، والصوفية الذين تكاثر وجودهم في القدس، بعد سقوط بغداد بقبضة المغول، ومجيء مثيلهم من المغرب والأندلس، فبلغ عدد المدارس التي أشادوها إلى أربعين (81)، وقد أقام الأمير تنكز الناصري (ت 1340م) أهم مدارس العهد المملوكي "المدرسة التنكزية"، التي بُنيت بباب السلسلة، فغدت أهم مدارس القدس وبلاد الشام، حيث أصبحت معهداً علمياً ضم في جوانبه خانقاه، ودار حديث، ودار قرآن، وتولى التدريس فيها شيوخ أجلاء (82)، ولم يقتصر تدريسها على الفقه، فقد احتوت على خانقاه لاثني عشر متصوفاً، ومدرسة أيتام، فكانت الدراسة، والصلوات الصوفية الروحانية، وأعمال البر، تمارس جنباً إلى جنب تحت سقف واحد، وقد حرص المشرف على البناء أن يقيم خانقاه الصوفية أعلى الرواق الجديد للحرم القدسي، على الحدود الغربية للحرم، كي يتمكن الصوفيون تأمل قبة الصخرة عن قرب، وهي التي تمثل نموذج مسعاهم في ممارستهم لرؤياهم الروحية (83).‏
كما قام السلطان قاتيباي عام 1472م، ببناء المدرسة "الأشرفية" في القدس، ملتصقة بالحرم الشريف، ببهو متجه، بل ممتد داخل الحرم، يعكس توقاً عظيماً نحو الصخرة الشريفة، وكانت هذه المدرسة تعكس التكامل بوظائفها التعليمية المتعددة الأغراض، وضمت في كنفها المذاهب الإسلامية الأربعة، وإلى جانبهم الصوفية، إذ رتب السلطان للصوفية، الذي بلغ عددهم الستين، خمسة عشر درهماً شامياً، وخصص للمدرسين والطلبة الآخرين رواتب لإعالتهم (84)، وتولى الشيخ شهاب الدين أبو العباس بن حامد (ت 1450م) مشيخة "الخانقاه الفخرية" ذات الحجم الكبير، وكان لـه مريدون كُثر، وافتُتحت الزاوية الوفائية عام 1300م، من قبل الشيخ أبو الوفاء محمد، الذي أسست سلالته طائفة صوفية انتسبت إليه (85). كما عرفت القدس زاويتين تحملان اسم "البسطامية"، الأولى عند أسفل صحن الصخرة، يجتمع فيها أصحابها لذكر الله تعالى، والثانية يعود وقفها للشيخ عبد الله البسطامي، وشُيدت قبل عام 1387م، ولقد كان أول شيوخها الإمام الزاهد مرشد السالكين، الشيخ علي الصفي البسطامي (ت 761ه‍)(86)، كما كان هناك أيضاً زاوية القرمي، التي سميت على اسم الشيخ محمد القرمي (ت 1320م)، الذي أتى من دمشق إلى القدس، وقاد الطريقة "القرمية"، وقضى في القدس بقية عمره (87)، وجذبت القدس الصوفي الكبير تقي الدين أبا الصدق الحلبي الطولوني (ت 843ه‍)، الذي أسس الطرق الطولونية في القدس، التي بقي فيها حتى نهاية حياته، كما أتاها الصوفي الشيخ شهاب الدين الرملي المقدسي الشافعي (ت 844ه‍)، وكان صاحب كرامات، ترك الإفتاء وأقبل على العبادة في الزاوية الختنية، جانب المسجد الأقصى، وأتاها الشيخ محمد فولاد بن عبد الله (ت 844ه‍)، وانقطع للعبادة في المسجد الأقصى، وحج ستين حجة، وحكي عنه كرامات، ومكاشفات، وله هيبة زائدة على الصوفية في خانقاه الصلاحية حيث كان يعمل بواباً فيه، ودفن في القدس (88) وقضى الشيخ الصوفي شمس الدين محمد بن عيسى البسطامي الشافعي (ت 875ه‍) بقية حياته في القدس، وكان من فقراء البسطامية الصوفية، ودفن في القدس، وكذلك الصوفي شمس الدين محمد بن حسين المقري (ت 876ه‍)، بقي في القدس حتى نهاية حياته (89)، وقدم إليها من الموصل الشيخ أبو بكر بن علي الشيباني الموصلي (ت 797ه‍) وكان من أعلام الصوفية، ومن كبار الأولياء، والذي بقي في القدس حتى وفاته، واتخذ الطريقة القادرية (نسبة إلى عبد القادر الكيلاني) مركزاً لها في المشفى القديم، وربطت في تعاليمها بين الجهاد الروحاني والصلوات الباطنية، وبين التعاطف الإنساني العملي، بينما درَّبت البسطامية تابعيها على نظام يشبه اليوغا، للتركيز على التيارات الروحية الأعمق للرؤى، وركزت على دعوى عنوانها "صُلح الكل"، تستهدف تقريب أصحاب الديانات المختلفة، ويمكِّنهم من فهم بعضهم، والانتقال من الكراهية إلى التآخي (90).‏


ك- الصوفية في القدس العثمانية‏
استمر الحضور الصوفي في القدس العثمانية بكثافة، وتكاثرت معه الزوايا، وقد أقام لهم محمد آغا باشا زاوية للصوفية حملت اسمه، مؤلفة من قاعة تدريس وغرفة للطعام، وثلاث غرف للمنامة، وذلك في العام 1588م، كما أقام أصحاب الطريقة المولوية، في أزميت، جامع المولوية، للصلاة ولممارسة الطقوس الصوفية في داخله(91).‏
وفي عهد محمد الرابع (ت 1648م)، بلغ عدد سكان القدس الأربعين ألفاً، كان فيها أربعون محراباً للصلاة، وسبع دور حديث، وعشر دور للقرآن، وأربعون مدرسة للبنين، وستة حمامات، وثمانية عشر سبيلاً، وتجمع في قلبها وحول الحرم الشريف زوايا الصوفية، حيث جمعت أغلب الطرق الصوفية من البدوية، والكيلانية، والسعدية، والرفاعية، والمولوية (92).‏
وعمد العثمانيون إلى تجديد الكثير من زوايا الصوفية وتكاياهم، ورمموا الأخرى، فكثرت الزوايا والتكايا، التي أعدَّت لحلقات الدراويش من مختلف الطرق الصوفية، ولاستقبال الزوار الغرباء أصحاب تلك الطرق، وتُعد الزاوية "المجيدية" التي قامت عام 1849م، من أكبر تلك الزوايا، وأكثرها ازدحاماً، ومنح العثمانيون امتيازات للراغبين في الذهاب إلى القدس من العلماء، والصوفية، والراغبين في التدريس في زواياها ومدارسها، ولقد تم تخصيص العلماء المكلفين بإدارة الزوايا السلطانية بجرايات شهرية، كما سُمح لأصحاب الطرق الصوفية ودعاتها بجمع التبرعات وإرسالها إلى القدس، أو مكة، أو المدينة(93).‏
ذكر الرحالة التركي أوليا شلبي (ت 1679م) أنه عند زيارته للقدس، وجد فيها عدداً كبيراً من الأعيان والعلماء والأشراف والفضلاء، والرجال الذين ينتمون إلى الطريقة الصوفية المولوية، ويتقاضى الواحد منهم راتباً قدره خمسمائة أقجة، وأحصى في هذه الأثناء، حاكم القدس جاويش زاده محمد باشا أي في عام 1670م، فوجد فيها مئتين وأربعين محراباً، وسبع دور حديث، وعشر دور للقرآن، وأربعين مدرسة لللبنين، أما التكايا والزوايا الصوفية فقد أحصى فيها سبعين طريقة صوفية، بما فيها الطريقة: الكيلانية، والسعدية، والرفاعية، والمولوية(94).‏
لم يتوقف المغاربة، والصوفية، عن زيارة القدس والتبرك بها، فقدم إليها الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي عام 1690م، وكتب حول زيارته كتاباً يحمل دلالة خاصة "الحضرة الإنسية في الرحلة القدسية" ذكر فيه أنه التقى في زاوية الشيخ الجراح، في المدرسة الجراحية، بجماعة من المشايخ والأعيان (95)، كما قام الصوفي مصطفى أسعد اللقيمي برحلته إلى القدس عام 1765م، وسمَّى رحلته هذه "موانح الأنس برحلتي لوادي القدس"، انتظم عند إقامته في القدس، في عداد الطريقة الخلوتية (الصوفية) (96).‏
يذكر نجم الدين الغزي (ت 1651م) صاحب "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة"، أن عدد العلماء في القرن 16 الميلادي، هو واحد وستون عالماً في فلسطين، تستأثر القدس بنصف عددهم، ويذكر محمد أمين المحبي في "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" 17م، أن عدد علماء فلسطين سبعة وستون عالماً، تستأثر القدس بأكثرهم من نصف عددهم، يكثر فيها من ينتسب إلى حلقات التصوف، ويلاحظ في القرن الثامن عشر، تكاثر أعداد المتصوفة في القدس، وتوزعهم في الغالب، على الطريقة الشاذلية والخلوتية، وكان أغلبهم منقطعين إلى العبادة (97).‏
على سبيل الختام‏

إجلال القدس والعيش المشترك‏
امتلكت جميع الأديان تصوراً خاصاً للعالم، رسمت على علائمه خريطة فصلت فيها المقدس والجليل عن المبتذل والعادي، والسماوي عن الأرضي، والشعري الملحمي عن النثري، فرفعت في هذه الثنائية الأول على حساب الثاني، بعد أن أضفت على بعض الأماكن معنى رمزياً كثيفاً مليئاً بالإجلال والقداسة، بحيث يتحول هذا المكان إلى وسيط رمزي يلبي حاجة الجماعة المؤمنة إلى الاتصال بالمتعالي ومعانقته، أو التقرب منه، فتُحول الجماعة المؤمنة –تبعاً لذلك –فضاءها الكوني، المليء بالغموض واللامعقولية، إلى عالم مشبع بالمعاني والمعقولية، يحتل فيه "مكانها المقدس" موقع المركز والقلب لذلك الفضاء الكوني.‏
لهذا تواجه الجماعات الدينية مشكلات على صعيد العيش المشترك عندما تلتقي على تقديس مكان بعينه (جبل أو مدينة)، وتنشأ المشكلة حينما تسعى كل جماعة، على حدة، على استحواذ هذا المكان، وإقصاء الأطراف الأخرى منه، والمثل الصارخ على ذلك هي علاقة الأديان التوحيدية الثلاثة بمدينة القدس، التي نظرت إليها على أنها قلب جغرافيتها المقدسة، ويمدُّنا الموقف النظري لهذه الأديان من بعضها، وممارستها العملية للسيادة، عندما تكون في موقع المسيطر السياسي على المدينة، بصورة عن موقف كل منها من فكرة العيش المشترك.‏
فالديانة اليهودية لا تعترف، على الصعيد النظري، بالمصدر السماوي للديانتين المسيحية والإسلامية، بينما تعترف المسيحية بالشرعية السماوية لليهودية، مع التأكيد على انحرافها ومسؤوليتها على صلب المسيح، إلا أنها تنكر على الإسلام شرعيته، ويتميز الإسلام باعترافه المسبق بالديانتين (المسيحية واليهودية) كديانتي وحي، ويوصي بالتعامل مع أصحابهما على أنهما "أهل الكتاب"، ولقد تعامل مع رموزهما الدينية بإجلال ومهابة.‏
فانطلاقاً من اعتقاد المسلمين بأن خط النبوة المنطلق من إبراهيم الخليل، إلى محمد (، مروراً بموسى واسحق، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وعيسى بن مريم،‏
هو حلقات من سلسة العائلة الإبراهيمية النبوية، فقد بجَّلوا جميع الأماكن التي تذكرهم بتلك العائلة المباركة، أو تُقرن بها، ورفعوا من شأن كل الرموز الدالة على الجغرافية المقدسة للديانتين المسيحية، واليهودية، بالمقابل فإن اليهودية لم تعترف بقداسة الجغرافية المقدسة للمسيحية، ناهيك عن الإسلامية.‏
على هذا يمكن القول: إن مفهوم الجغرافية المقدسة يزداد ضيقاً عن استيعاب رموز القداسة عند الديانات الأخرى واحترامها، كلما انتقلنا من الإسلام، إلى المسيحية وصولاً لليهودية، ويتسع طرداً ليشمل رموز القداسة عند الديانتين الأخريين، كلما انتقلنا من اليهودية إلى المسيحية، وصولاً إلى الإسلام.‏
فاليهودية تنكر الطابع المقدس للأماكن المقدسة للديانتين الإسلامية، والمسيحية في القدس، في حين أن المسيحية تقتصر على دمج بعض الأماكن المقدسة اليهودية في مجالها المقدسي وحسب، بينما نجد الإسلام، الذي اعترف بتعدد تجليات الوحي وبأنبياء الديانتين الأخريين، فإنه شارك الأديان التوحيدية (أهل الكتاب) مباركتهم رموزهم المقدسة في القدس، وبجّلها.‏
انعكست تلك المواقف "النظرية" على الممارسة العملية، وظهرت تبايناتها في الطريقة التي مارس فيها كل من أصحاب تلك الأديان سلطته على القدس وعلى أماكنها المقدسة وعلى أصحابها، عندما كان في موقع السيادة.‏
حرَّم الرومان منذ تيطس عام 70م على اليهود دخول القدس وهدّموا هيكلهم ثم أتى هادوريان عام 136م فأكد هذا الحرمان، وأكدت السلطات المسيحية أيضاً هذا الحرمان، في زمن قسطنطين في القرن الرابع، واستمر هذا الحال حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع، أما التجربة المسيحية الغربية الأخرى، كما جسدها الصليبيون، الذين افتتحوا ممارستهم نحو العلاقة بالآخر، بقتل جميع المسلمين واليهود عند دخولهم القدس، فقد تجلّت بأن حرموا على المسلمين واليهود دخول المدينة المقدسة، وطمسوا المعالم الإسلامية، وحولوا المسجد الأقصى، ومسجد القبة إلى كنائس، ومكان لقيادة الداوية، وإسطبلا لخيولهم، فجسدت المسيحية الغربية في المرتين موقفاً إقصائياً نافياً للآخر، ولمفهوم العيش المشترك.‏
أما التجربة اليهودية، فقد جسدتها سياسة الاحتلال الصهيوني للقدس، حيث أعلنت على الملأ، ومارست على الأرض، سياسة تهويد للمدينة المقدسة، وطمس للمعالم المقدسة الإسلامية، وهجرَّ سكانها العرب، مسلمين، ومسيحيين، غير آبهة بقيم العصر، ولا بكثافة الوجود العربي المحيط بها.‏
تتميز التجربة العربية الإسلامية في إدارة القدس منذ الفتح العمري، في أنها تقوم على الاعتراف بحق أهل الكتاب، يهود، ومسيحيين، في العيش المشترك في المدينة المقدسة، وحقهم في إقامة شعائرهم في أماكنهم المقدسة، فلقد أبطل المسلمون القرار البيزنطي الذي يقضي بمنع اليهود من دخول القدس، وأمنَّوا المسيحيين على أموالهم وأنفسهم، وكنائسهم، كما هو واضح في العهدة العمرية.‏
ولقد كرَّر صلاح الدين السلوك العمري نفسه عند دخوله القدس عام 1187م، على الرغم من مرارة التجربة الصليبية، فجعل المدينة مفتوحة لأبناء الديانتين، المسيحية، واليهودية، لإقامة شعائرهم الدينية في دور عبادتهم، وشجع المسيحيين العرب، والمسيحيين الشرقيين، الذين اضطهدتهم الفرنجة، على الإقامة في القدس، وظلت تلك المبادئ القائمة على قاعدة الاعتراف بالآخر، ومبدأ العيش المشترك، هي الإطار الناظم للاجتماع البشري في القدس، حتى طرق باب فلسطين المشروع الصهيوني الذي اتخذ موقفاً إقصائياً، لصالح تهويد القدس ليكرر بذلك التجربة الصليبية، سيئة الذكر والمصير.‏

شمس الدين الكيلاني

ابو فداء 6 - 4 - 2012 02:57 AM

مشكووور أخي الغضنفر
سلمت لناااا
موفق

ناجي أبوشعيب 6 - 4 - 2012 03:14 AM

sha@
مشكور أخي
موضوع مهمّ بمحتواه
دمت بألف ودّ
sha@

بنت فلسطين 6 - 4 - 2012 03:38 AM

السلام عليكم


لن أجد أجمل من باقة ورد أتركها كرد على موضوعك
تحيتي وتقديري لك
http://www.maktoobblog.com/userFiles...thebeauty4.gif

shreeata 4 - 5 - 2012 04:33 PM

جزاك لله عنا كل خير
وجعله في ميزان حسناتك
سلمت لنا
تحيات لك

عشتار 4 - 5 - 2012 05:40 PM

عاشت الايادي على الموفقية بالطرح
تحياتي وبانتظار جديدك


الساعة الآن 11:12 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى