منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   قراءة .. في لامية أبي فراس الحمداني (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=13674)

صائد الأفكار 27 - 1 - 2011 01:17 AM

قراءة .. في لامية أبي فراس الحمداني
 
قراءة .. في لامية أبي فراس الحمداني ..

أبو فراس الحمداني

وقد علمت أمِّــــــــــي بأن منيتي ... بحدّ سنانٍ أو بحد قضيبِ
رضيتُ لنفسي " كان غير موفق " .. ولم ترض نفسي " كان غير نجيبِ"


امتداد الكفاح ( من 321 هـ إلى 357 هـ ) من نشأة يتيم الأب ذي الأعوام الثلاثة إلى مقتل الشاب ذي الستة والثلاثين ربيعا !
وبينهما تاريخ مجدٍ خالد , وديوان شعرٍ جزل ٍ صادق ..
تولى النجيب ولاية منبج وحران وهو ابن ستة عشر عاما , وتزوج ولمـا يبلغ العشرين ..
أسره الروم عام 351 هـ وظل أربعة أعوام لم يـُـفــْـدَ لأسباب يجهلها التاريخ ويعرفها أبو فراس وحده !
لم يفت الأسر من عضده ؛ بل وقف شامخا : فيفرح وهو محزون ، ويضحك وهو مأسور .. دمعه من خصائصه الكبرُ ، دمعٌ -دوما- في الحوادث غالٍ ..
لم توهن السيوف والرماح قواه ، بل ألــِفها حتى أنه استضافها بين أضلاعه وأي استضافة ! .. لك أن تتخيل أن نصل رمح عبر جسده فمكث عامين ونصف العام فلما خرج منه بعد مشقة قال: "تأمل الصور البيانية بمدلولاتها : حقا لا مجاز فيها " :
ولا تصفــنّ الحرب عندي فإنها ... طعامي مذ بعتُ الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي ... وشقــَّـقَ عن زُرق النصول إيهابي !
ولججتُ في حلو الزمان ومـُرِّه ... وأنفقت من عمري بغير حساب ِ !
فيا لـَلبدن الجواد !



نقطة ضعفه الوحيدة : فراق الحبيبة في منبج !
لولا العجوز بمنبج ...ما خفتُ أسباب المنية !
ولكان لي عما سألت من الفدا نفسٌ أبية !
فيها التقى والدين مجموعان في نفس زكية
يا أمتا لا تحزني .. وثقي بفضل الله فيــّه
أوصيك بالصبر الجميل ..فإنه خير الوصيــّة !
و للصبر مع أبي فراس حكايـــــــــــــــات! ممتدة بامتداد إبائه ..تستحق أن يخصص لها الباحثون دراسة خاصة .. ولو قلــَّـبْتَ ديوانه لوجدتَ شفرة مكررة في صفحاته هي كلمة "الصبر " وغالبا ما جاءت : الصبر الجميل !



خارطة هذا النص تؤدي إلى : تفهمٍ عقلاني لطبيعة الأصدقاء ، وإلى تقبلٍ روحاني لتصاريف القضاء ..



مُصابي جليلٌ , والعزاء جميل ُ ... وظني بأن اللــــــــــــــــــــهَ سوف يُديل ُ
جـِــراحٌ ، وأسْـــــرٌ , واشتيـــاقٌ, وغربةٌ !.. أُحـَـمـــَّــلُ؟! إنـّـي بعدها : لـَحمول ُ!


القصيدة كلهـــــــــــا محض عزاء جميل يعزي به نفسه ويسليها ..
يقينه بقرب مولاه عز وجل صهوة هذا العزاء ..
المطلع : راية بيضاء .. يعترف فيها بالضعف – كل الضعف – أمام قسوة الحياة , وتحديات التجارب ,
راية بيضاء : يسلــّم فيها بقوة الجراح المتنوعة ويفاوضها ..
راية ٌ بيضاء : لا يرفعها إلا أمام ذاته ومســـــاءً، حتى إذا تنفـّس الصبح طواها تحت وسادته ونهض على جراحه ودموعه إلى أن "يضويه الليل " فيبسطها كرةً أخرى :

وإنِّي َ, في هذا الصباح , لصالحٌ ؛ ... ولكنَّ خـَطـْبي َ في الظلامِ جليــــــلُ !!


جمل مركزةٌ قصيرة ؛ حيث أن أنينه قصير المدى غير متفجعٍ ولا نوّاح ..
وبيان شعري بإضاءة تصويرية خافتة ؛ حيث أن التصوير واقعي ّ ٌ ليلي ّ ,
لا أعرف لمَ كثُرت الفواصل بين كلمات هذه القصيدة ؟ هل شعر النُســَّاخ بآهته وهو يتوقف ليلتقط أنفاسه ؟أم تسرّب الأنين إليهم فالتقطوا بين الكلمات دمعاتهم ؟

وما نال مني الأسرُ ما تريانهُ, ... ولكنني دامي الجراح ، عليــل ُ
جراحٌ تحاماها الأساةُ؛ مخوفة ، .. وسُقمان : بادٍ ، منهما ، ودخيلُ



الراية البيضاء : ليست للعدو ..
أمام الجراح .. الظاهرة والدفينة ..والموجعات الجسدية والمعنوية .. وليس منها في الأسر القاسي إلا فراق الأحباب :

وأسرٌ أُقاسيه , وليلٌ نجومه ...أرى كلَّ شيء , غيرهنّ , يزولُ
تطولُ بي الساعات , وهي قصيرةٌ ... وفي كل دهــر- لا يسرك – طولُ!



يشعر براحة البوح قليلا ، ويهدأ ، فيحدد أسباب الوجع ، ويعدد أوصاف التعب ..
ثم يدلي بنصائحه ومشوراته ، لتكون خارطة طريق للتعايش السلمي مع تقلبات الحياة بأقل صدمات ممكنة ,
مع الصبر على نكوص الأصدقاء وتخاذل الإخوة , يرسمها بعصارة تجربته لنتعلـــَّـم مما تعلـــَّم ، فلا نتألـــَّم كما تألــَّم :


تناساني الأصحاب ، إلا عُصيبة ٌ ... ستلحق بالأخرى ، غدا ، وتحول ُ
ومن ذا الذي يبقى على العهد ؟ إنهم ... وإن كثرت دعواهم ُ، لقليــلُ
أُقلـِّـب ُ طرفي ، لا أرى غير صاحبٍ، ... يميلُ مع النعماء ، حيث تميلُ
وصرنا نرى أن المُتــاركَ محسنٌ, ... وأنَّ صديقا- لا يضرُّ – خليلُ !!!!
وليس زماني غادرٌ بي وحده .. ولا صاحبي ، دون الرجال ، ملولُ !
تصفحتُ أقوال الرجال فلم يكن ... إلى غير شاك ٍ في الزمان وصولُ !
فكل خليل –هكذا- غير منصفٍ ... وكل زمان بالكرام بخيل ُ!!!
فيا حسرتي ! من لي بخلٍّ موافقٍ ...أقول بشجوي ، مرة ، ويقولُ ؟!


للـــه أنت أبا فراس !
قبل أن ينتقل أبو فراس للجزء الآخر من خارطته عرّج به الشجن على نقطة ضعفه ، وبؤرة نزفه :


وإنّ وراء الســترِ ، أُمـَّـاً بكاؤها ... عليَّ ، وإن طال الزمان ، طويلُ
فيا أمَّــــتا ، لا تعدمي الصبر ؛ إنه ... إلى الخير والنجح القريب رسولُ
ويا أُمَّــــتا ، لا تحبطي الأجر ! إنه ... على قدَرِ الصبر الجميل :جزيل ُ
ويا أُمَّــــتا ، صبرا فكل ملمـَّة ... تجلى ، على علاتها ، وتزولُ
أما لك في ذات النطاقين أسوةٌ ! ... بمكة والحرب العوان تجولُ
أراد ابنها أخذ الأمان ، فلم تُجبْ ... وتعلمُ ، علما ، أنه لقتيل ُ
تأسـَّـي ! كفاك الله ما تحذرينه ...فقد غال هذا الناس ، قبلك ، غولُ


حق لها أن تبكي مثله !
فأي الصفات الحسنة غابت عنه؟ ولكن قدر الله وما شاء فعل ، وبات جديرا به أن يعيد تصدير هذه المواساة إلى ذاته ؛ فقد رحلت
قبله !
رحلت لتختبر الصبر في أعلى درجات توهجه وغليانه ..

رحلت فكان غيابها النصل الأعمق توغلا ، والأعنف تمزيقا ، لم ينتزع منه إلا بصعود روحه بعدها ببضع سنين ..
رثاها بحب صادق لا فخر فيه ولا مديح ، يليق بحبه للتي كانت أبا وأما وصديقا ..


أيا أم الأسير سقاك غيثٌ .. بكره منك ما لقي الأسيرُ!!!

وغاب حبيب قلبك عن مكان،
ملائكة السماء به حضور

ليبكك كل يوم صمت فيه،
مصابرة، وقد حمي الهجير!

ليبكك كل ليل قمت فيه
إلى أن يبتدي الفجر المنير!

ليبكك كل مضطهدٍ مخوف
أجرتيه، وقد قل المجير!

ليبكك كل مسكين فقير
أغثتيه، وما في العظم رير!


الجزء الآخر من الخارطة : تقبل الأقدار, والتكيف مع المكتوب، تكيف المؤمن الذي يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .. إنه الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره ، وصدق التوكل عليه سبحانه ، وحسن الظن بعفوه ومغفرته ..

ومن لم يوقّ الله فهو ممزق ٌ ... ومن لم يعز اللهُ فهو ذليلُ
ومن لم يُرده الله في الأمر كله ...فليس لمخلوق إليه سبيل ُ
وإن هو لم يدللك في كل مسلك... ضللتَ، ولو أن السماك دليلُ!
إذا ما وقاك الله أمرا تخافه ...فما لك مما تتقيه مـقيــلُ
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا ... وإن جل أنصار وعز قبيلُ
وإنَّ رجائـيــه وظني بفضله... –على قُبحِ ما قدمته – لـَجميلُ !!!


يقال : إنه ردد هذه الأبيات بعد إصابته القاتلة فاللهم اجعلها شاهدة له ، اللهم و تجاوز عنه واغفر له وارحمه ووالديه ووالدينا والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ..
و هو من قال :


زين الشبابِ أبو فراسٍ.... لم يمتَّعْ بالشبــــابْ


أبو فراس ، الذي قال فيه الصاحب بن عبّاد :بُدئ الشعر بملك (يقصد امرؤ القيس ) وختم بملك ( أبو فراس) .

أعتقد أن الأدب و التاريخ بالمجمل قد تجنّى على هذا الشاعر الشاب جدّا ، رغم جزالة وفخامة شعره ، و رقيّه من حيث الألفاظ و المعاني و حتّى الحِكم الواردة فيه .
و ما يميزه أنّه كان فارساً شاعرا بحقّ ، فلم يقل الشعر للتكسّب لدى الولاة و السلاطين مثل غالبيّة شعراء العصر العبّاسي .
و هذا ، بعد أن أغرمت بشدّة – و لوهلة من الزمان بالمتنبّي و شعره – ثم اكتشفت ( وعذرا من عشّاق المتنبّي ) أنّ (شخصه) أي غروره و كبرياءه لم يكونا إلّا " كلاما" يخالف الفعال ، خاصّة بعد أن خلّد ،بمديح و هجاء!
المهم ، بالعودة إلى أبي فراس ..
إنّ قصائده ، وشخصه كفارس و أمير شريف حرّ النفس أبيّ ، هي ما تميّزه ، خاصّة أنه نشأ يتيم الأبّ تحت كفالة زوج أخته (سيف الدولة) ،
الذي يقال ، و في بعض الروايات التاريخيّة أنّه تعمّد تركه في الأسر مدّة طويلة و لم يقايضه بمال وفير أو شخص مهمّ ، لخوفه من طموحه الشديد ، و فروسيّته ، على ملكه ،
فأراد أن يذله و يكسر شوكته و يساويه مع بقيّة الأسرى..


و هي من قصيدة ( أما لجميلٍ عندكنّ ثواب ) المرسلة لسيف الدولة ، بعد أن طال أسره ، و أكثر سيف الدولة من تجاهله :


صبورٌ ..و لو لم يبقَ منّي بقيّة
قؤولٌ و لو أنّ السيوفَ جــوابُ
وقورٌ و أحوال الزمانِ تنوبني
و للموتِ حولي حيّة و ذئابُ
و ألحظُ أحوالَ الزمانِ بمقلةٍ
بها الصدقُ..صِدقٌ ، والكِذاب كذابُ
بمن يثق الإنسانُ فيما ينوبهُ
و من أينَ للحرّ الكريمِ صحابُ
و قد صار هذا الناس إلّا أقلّهم
ذئابٌ..على أجسادهنّ ثيابُ..
تغابيتُ عن قومي فظنّوا غباوتي
بمفرق أغبانا يرابُ ترابُ
ولو عرفوني حقّ معرفتي بهم
إذا علموا أنّي شهدتُ و غابوا
و ما كلّ فعال يجازى بفعله
و لا كلّ قوّال لديّ يجابُ
و ربّ كلامٍ مرّ فوق مسامعي
كما ظنّ في لوح الهجين ..ذبابُ

وهل لنا تناسي قصيدتهُ ( أراكَ عصيّ الدمع ) حيثُ أننا كلما نقرأها مرة
نشعرُ إن بين طيّاتِها الكثير ..
( سيذكرني قومي إذا جدَّ جدَهُم .. وفي الليلةُ الظلماء يُفتقدُ البدر )
(( اراك عصي الدمع ))

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى ،أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا بت ظمآنا فلا نزل القطر
حفظت وضيعت المودة بيننا
وأحسن من بعض الوفاء الغدر
وما هذه الأيام إلا صحائف
لأحرفها ، من كف كاتبها ، بشر


بنفسي من الغادين في الحي غادة
هواي لها ذنب ، وبهجتها عذر
تروغ إلى الواشين في ، وإن لي
لأذنابها عن كل واشية وقر
بدوت وأهلي حاضرون ، لأنني
أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك ، وإنهم
وإياي ، لولا حبك ، الماء والخمر
فإن يك ما قال الوشاة ولم يكن
فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر


وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
وقور ، وريعان الصبا يستفزها
فتأرن أحيانا كما أرن المهر
تسائلني : من انت ؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت لها : لو شئت لم تتعنتي
ولم تسألي عني ، وعندك بي الخبر
فقالت : لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت : معاذ الله ، بل انت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك
الى القلب ، لكن الهوى للبلى جسر
وتهلك بين الهزل والجد مهجة
إذا ما عداها البين عذبها الهجر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق
وأن يدي مما علقت به صفر
وقلبت أمري لا أرى لي راحة
اذا البين أنساني الح بي الهجر
فعدت إلى الزمان وحكمها
لها الذنب لا تجزي به ولي العذر


فلا تنكريني يا ابنة العم ، انه
ليعرف من انكرته البدو والحضر
ولا تنكريني ، إنني غير منكر
إذا زلت الأقدام ، واستنزل الذعر
وإني لجرار لكل كتيبة
معودة أن لا يخل بها النصر
وإني لنزال بكل مخوفة
كثير الى نزالها النظر الشزر
فاظمأ حتى ترتوي البيض والقنا
وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة
ولا الجيش ، ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة
طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحي رددت الخيل حتى ملكته
هزيما ، وردتني البراقع والخمر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها
فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله
ورحت ولم يكشف لأبياتها ستر
ولا راح يطغيني بأثوابه الغنى
ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره
إذا لم أصن عرضي فلا وفر الوفر


أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي : الفرار أو الردى؟
فقلت : هما أمران احلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
يقولون لي بعت السلامة بالردى
فقلت : أما والله ، ما نالني خسر
وهل يتجافى الموت عني ساعة
إذا ما تجافى عني الأسر والضر ؟
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره
فلم يمت الانسان ما حيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة
كما ردها يوما بسوءته عمرو
يمنون أن خلو ثيابي ، وإنما
علي ثياب من دمائهمو حمر
وقائم سيف فيهمو اندق نصله
وأعقاب رمح فيه قد حطم الصدر


سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فإن عشت ، فالطعن الذي يعرفونه
وتلك القنا والبيض والضمر الشقر
وإن مت فالإنسان لا بد ميت
وإن طالت الأيام وانفسح العمر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به
وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ونحن اناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلي ذوي العلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر


قصيدة الفداء

خرج ابن أخت ملك الروم إلى نواحي منبج في ألف فارس من الروم، فصادف أبا فراس يتصيد سبعين فارسا، فقاتلهم حين لم يجد من لقائهم بدا بغير الفرار، فأصيب بسهم فأخذوه أسيرا، وطلب الروم فداء لأبي فراس إطلاق سراح أخي "بودرس" ابن أخت ملك الروم الذي كان أسيرا لدى سيف الدولة، فكتب إليه أبو فراس يحثه على الفداء:


دَعوتـُكَ للجَفــن القريـْــحِ المسهـَّــدِ
لــديّ، وللنـــوم القليــل المُشـــرَّدِ
ومـــا ذاك بُخــلا بالحيــــاةِ وإنهــا
لأولُ مبــــذولٍ لأولِ مُــجـتـــــــدِ
وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله
وما الخطب مما أن أقول له قـَـــدِ
وما زل عني أن شخصا معرضــا
لنبل العد ىإن لم يصب فكأنْ قـَـدِ
ولســـت أبالي إنْ ظفــرت بمطلبٍ
يكونُ رخيصًا أو بوسْــمٍ مُــــزوَّدِ
ولكنني أختــــار مـــوت بنــي أبي
على صهوات الخيل غيـــر موسدِ
وتأبى وآبـــى أن أمــــوتَ مـُـوسدًا
بأيدي النصارى موتَ أكمـــدَ أكبدِ
نضوت على الأيام ثـوب جــلادتي
ولكنني لـــم أنـض ثـــوب التجلــدِ
دعوتك والأبــواب ترتـــجُ دوننـــا
فكن خيــــرَ مدعــــوٍّ وأكرمَ منجدِ
فمثلك مــن يـُـدعى لكــلِّ عظيمــة
ومثلي منْ يفدى بكــــلِّ مُسـَـــــوَّدِ
أناديكَ لا أني أخافُ من الـــرَّدى
ولا أرتجيْ تأخيرَ يومٍ إلى غَــــــدِ
متى تـُخلفُ الأيامُ مثلي لكـُــمْ فتى
طويلَ نجادِ السيف رحبَ المقلـَّـــدِ
متى تلدُ الأيـــام مثـلي لكــــم فتى
شديدًا على البأســـاءِ غيـــرَ مُلَهَّـــدِ
يطاعنُ عن أعـراضكم بلســـانـِـهِ
ويضربُ عنكمْ بالحســـامِ المُهنــَّـدِ
فما كلُّ منْ شاء المعالي ينــالهـــا
ولا كل سيَّارٍ إلى المجد يَهتــَـــدِي
وإنك للمولى الــذي بــكَ أقتـــدي
وإنك للنجمُ الــــذي بـــه أهتــَــدي
وأنت الذي عرَّفتني طـُــرقَ العلا
وأنت الــــــذي أهويتني كلَّ مقصدِ
وأنت الـــذي بلغتني كـــل رتبــة
مشيت إليهـــــا فوق أعناق حُسَّدي
فيا مُلبسي النعمى التي جلَّ قدرها
لقد أخـْـلـَقـَتَ تلـك الثيــــابُ فجَـدِّدِ!

لماذا غــُيِّـــبَ أبو فراس ؟
لا أظن السبب وهج المتنبي فقد ظهر من هم أقل
والسبب غامض محير..
بعضهم يقول لو مد الله في عمره لكان أشعر العرب قاطبة لأنه أمسك بقوة وجدارة بين الجزالة وسلاسة الألفاظ، على أن أكثر ديوانه حماسة وفخر وهما غرضان يُستجلب فيهما الغريب للفخامة، وشاعرنا فخمٌ ضخمٌ بثيابه الحمر ودمعه الغالي وصبره الجميل ..

هذه المقطوعة على قصرها من أروع ما قيل في رثاء النفس
أبنـيتـي لا تـجـزعـي **** كل الأنـام إلـى ذهـاب
أبنيتي صبرا جميـــ ــلا للجـليـل من المـصـاب
نوحي علـي بـحـسـرة *** من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كـلـمـتـنـي **** فعييت عن رد الجـواب
زين الشبـاب ابـو فـرا **** س لم يمتع بالـشـبـاب
تعددت الروايات في وفاته .. فقيل مقتولا وقيل مريضا .. لكنه في كل الأحوال وحيدا , حزينا, كئيبا ..
إذا قارنتها بكل المراثي وبالذات مراثي النفس تجد البون الشاسع ..
تأمل مالك بن الريب التميمي :
تذكرت ُ من يبكي علي َّ , فلم أجد **
سوى السيف والرمح الرديني باكيــــــــــــا ..
بحرها الطويل ..
ونفــَسُها طويل ..
وقافيتها ياء المتكلم .. التي توحي بالتمجيد للذات ..
لماذا ؟ لأن النهاية مشرفة .. والموت بعيد إلى حد قريب !!
يموت شهيدا بعد أيام من إسلامه في جيش سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه .. مع كل ما ذكر فيها من الذكريات الموجعة .. إلا أنه فخور بنهايته :
فلله در ابتدائي ودر َّ انتهائيــا ..
وشتَّــــــــان بينه وبين رثاء أبي فراس لنفسه ..
الذي كانت نهايته مريرة , والموت قريب ٌ إلى حد ٍ بعيد ..!!
أبنيتي .. لا تجزعي ** كل الأنام إلى ذهاب ْ
يناديها بالهمزة فأشعر كم كانت قريبة منه !! كم كانت تحدِّق في عينيه !! عين الأب الحبيب .. لا الفارس ولا الشاعر .. ولا الأمير .. ويدللها ببنيتي للتحبب وكانت متزوجة من أبي العشائر ..لكنها في عينه لا تزال :بــُنــَيتي ..ابنته التي تحمل الكثير من ملامحه خَلقا وخُلقا ..
يواسيها مقدما ويخشى عليها الجزع "وهو الخوف المفاجيء " حين تُقلــِّبُ ميتا بعد قليل .. لا تجزعي ..كلنا من هنا سائرون .. بنفَـس مقطوعٍ خافت ..
أبنيتي .. صبرا جميلا للجليل من المصاب ْ
لم َ كرر النداء أبو فراس وهي تكاد تلتصق به ؟؟
لأنه يعلم تماما أن مصابها فيه جلل ..يراها تنقل بصرها باضطراب وهلع ؛لتشبع ناظرها منه فينادي مرة أخرى .. يوصيها بصبر جميل .. لا تشتكي معه .. ولم يكن هذا عرضا .. بل لأنه يرى أن ْ لا أحد يستحق أن تبثه الشكوى !!
نوحي علي ّ بحسرة ٍ ** من خلف سترك والحجاب ْ
تأمل حرص الأب في براثن الموت .. الاهتمام بالرعية حتى اللحظات الأخيرة .. لا تتبرجي ,, لا يسمع الرجال صوتك .. ابكي في خدرك كما ينبغي لابنة أبي فراس ٍ أن تبكيه وتنوحه ..
ألا تعجب أنه كان يوصيها بالصبر والثبات .. والآن يقول : لا بأس .. نوحي علي َّ ..
إنه ذات الشعور حين تحل لحظة فراق ٍ مع من تحب وتقول له : لا تودعني ..فأنا لا أحب الوداع .. ولا تبك ِ علي ّ فأنا لا أحب منظر الدموع ..وترجو أن يفاجئك بالحضور لوداعك ,, وتتمنى بصدق أن يقول لك الناس : لقد بكى بعد رحيلك ..
نوحي علي ّ .. لأنك همزة الوصل الوحيدة بمن في الأعلى بعد الموت .. دعي واصلا بيننا ولو مائيا ,ولو ملحيا , ولو قليلا ..
قولي إذا ناديتني ** وعييت ُ عن رد الجواب:ْ
بعدها انفجر الانفعال وبلغ الذروة وكانت لحظة الثورة الهادئة ..والانهيار (الساكن ), إذا هززتــِـني بعد قليل , إذا رفعت ِ يدي , إذا عييت ُ (عجزت ُ تعني الفشل بعد المحاولة ..لكن عييت ُ تعني فشل المحاولات برمتها !!) إذا لم أرد عليك ..-لاحظ الآن لم يقل اصبري – لا ,,بل قال الرؤية الأخيرة .. وأملى الملخص النهائي ..
زين ُ الشباب .. أبو فراس .. لم يمتع بالشباب ْ
زين الشباب .. كم يؤلمني تخيل ابنته وهي تسمع هذا اللقب !! مات وعمره دون الأربعين وقيل كان جميلا شديد الوسامة .. فهي تراه صادقا جدا حين يقول زين الشباب !!
أبو فراس .. لقب البطولات .. لقب الوزير المحارب والشاعر المنافس .. والنسيب المقرب من زوج أخته سيف الدولة .. أبوفراس غصة ٌ نطقها وكأنه شخص آخر..

منقول بتصرف

جمال جرار 27 - 1 - 2011 01:35 AM

أحسنت في الاختيار...

صيد موفق يا صائد

تحيتي لك

حنان مازن 31 - 3 - 2011 09:43 PM

مشكور ووفقك الله على الطرح
يعطيك العافية على الفائدة

صائد الأفكار 30 - 4 - 2011 12:10 PM

الاخوة جمال وقلم حائر
شاكر لكم مروركم وردودكم
بورك بكم


الساعة الآن 09:47 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى