منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   يا إلهي...الكلام يضيء السوداني والمحمود.. وميلاد القصيدة البريّة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=19859)

المفتش كرمبو 17 - 11 - 2011 05:14 PM

يا إلهي...الكلام يضيء السوداني والمحمود.. وميلاد القصيدة البريّة
 
الكلام عن هذين الشاعرين في ديوانيهما الصادرين في ذات الوقت له ما يبرره تماماً، ليس احتفالاً بالشعر ولا بالشعراء فقط، وإنما لما يقدّمه هذان الديوانان من اقتراحات جمالية واجتراحات على مستوى المضمون الذي يبدو للوهلة الأولى مخالفاً لما يسوق أو يروّج له .

"السراج عالياً" هو ديوان مراد السوداني الذي يطبع للمرّة الثانية عن دار الجندي في مدينة القدس المحتلة، في طياته تلك الروح الريانة والطافحة والطامحة للجميل والبعيد والبري والبريء ، وللنظيف والمجتبى والأصيل، وحيث يعود الشاعر إلى وظيفته الأولى وموقعه التاريخي، كرائدٍ وراءٍ وراعٍ لجماعته التي يحبّ، جماعته التي تحبطه وتبهظه وتثقل كاهله بأخطائها وخطاياها، ولكنّه يحبّها ويخاف عليها إلى درجة التوحّد والانعزال والذهاب بعيداً في البريّة. مراد في هذا الديوان يقدّم روحاً طائشة وعنيفة ومحتضنة وصريحة وجارحة وحادة في صدقها ورؤاها واقتراحاتها التي لا تتوقف عند جمالياتها الباذخة والرفيعة ولكنّها تذهب بعيداً في تقديم صياغات ومقولات مخالفة وصادمة ومحرجة أيضاً، يقول مراد في قصيدة نقش القلب :
"لا أدّعي شيئاً
فأوراق البلاد تهرأت زيفاً
أقلّب الأحلام والأيّام
ثمة هجنة تلغو بها صحف الصيارفة الكبار
موتى باب المدينة
هذي العظام ربابات تدوزنها
رياح العصف"

هذا الواقع الذي يَجْبَهُنا به الشاعر الرائي هو المسيطر على كامل الديوان، فهو طيلة الوقت "خاسر يذرع الطرقات اشتياقاً وتنقر من رأسه الطير" من قصيدة المُعنّى، وهو "شقي والمدى شردٌ ومدٌّ، وحزني بر ليل لا يحدُّ" من قصيدة (حكمة السراج)، وهو يشخص الواقع بدون أية رتوش، فيقول في قصيدة تباريح : "بنا ما بنا من هلاويس هذي البلاد وخوّانها، ونفرح إذا غبّرتنا الأغاني القتيلات وفوح البنادق مغسولة بالتعاويذ" ، الشاعر الرائي في هذا الديوان لا يجد حرجاً في البكاء، بل والإجهاش به حين يقول في قصيدة عتاب :
"شاعراً في الثلاثين .. يمشي إلى غده حائراً
بين كفيه واقعه الصعب .. يقلبه دون جدوى
في الثلاثين تودي الخسارات
بأجملنا في البكاء
في الثلاثين أغنّي أنا القروي
الحزين خسارات قومي، ملء البلاد" .

وعلى أنقاض هذا الواقع وبؤسه وفظاعته، يبني الشاعر قصيدته الحارقة والحادة والجارحة، تتحوّل القصيدة على يد الشاعر إلى الهدف والوسيلة معاً، معول البناء ومعول الهدم أيضاً، وهي قصيدة ذات إيقاعٍ عالٍ تشابه الغناء أو الصراخ على سفوح الجبال وحفافي التلال، قصيدة مراد قصيدة تتفجّر وتتفلت بمفرداتها ومعانيها إلى درجة التوتّر العالي، ليس بسبب المفردة الغريبة أو المفاجئة أو المدهشة فقط، ولكن بسبب هذه الصورة الجزئية والكلية - في آن معاً - لتشكّل نسيجاً شعرياً وشعورياً يكاد ينتقض كل ما توافق عليه الشعور أو الوجدان المستنيم أو المريض أو المبتذل، قصيدة مراد السوداني تأخذ من تراثها ما يعنيها وما يغنيها، ليس بقصد التجمّل أوالترصيع أو الاستعارة الجزئية أو التمثّل الساذج أو العفوي من التراث أو من عالمه أو من مفرداته أو صورة لا نستغربها ولا نستثقلها في قصيدة مراد، ذلك أن الصدق والحرارة والعمق والمفاجأة وقوة الاقتحام وجرأة التناول تجعل من كل ذلك جزءاً من تجربة حقيقية ونسيجٍ حيوي متصل يؤثر ويحرّض، لننظر إلى الشاعر يقول في قصيدة "هدأة" :
"يا راعي الحجل المكحل
دلّني .. قد طال ليل العاشق النواح"
هنا، الصوت صوت قديم والنغم نغم معروف له تاريخ، ولكن الصورة بنيت على قديم تجدد أو معروف تم تحديثه، بهذا المعنى، يمكن القول إن مراد السوداني يقدّم - على نحو فريد - تجربة شعرية فلسطينية استطاعت أن تمزج بين القديم والجديد بطريقة أراها شخصياً تجربة جديرة بالتوقف أمامها طويلاً، وأهم ما في هذه التجربة أنها صادقة، بلا ادعاء، وبلا صخب، القديم وعالمه يدخل قصيدة مراد دون إقحام أو تعمّد أو تصنّع .. القديم هنا معاناة قائمة على معرفة .
ففي قصائد الديوان يتمثّل الشاعر - ولا أقول يستعير- أجواء الشعراء القدماء وطقوسهم ويستبطن تجاربهم - التي هي ذات تجاربه- ليحذّر ويحرّض ويهيب ثم يخيب ثم يفرّ إلى برّه أو منتآه أو معتزله، حاملاً سراجه عالياً، باعتباره رمز المعرفة والوضوح والكشف والانكشاف، وبهذا المعنى أيضاً، يقدّم مراد السوداني صورة جديدة " للصعلوك الجديد"، وهو صعلوك لا يشبه صعاليك الزمن القديم، أولئك الذين فضحوا نسيجهم الاجتماعي وتهافت القيم من خلال بطولة فردية لم تقدّم ولم تؤخّر، الصعلوك الجديد هنا، يفرّ أيضاً إلى البراري الفسيحة: " أوقد دمعتين وارتدي ليلين" كما يقول في قصيدة "زاجل المعنى" ولكنه يجعل من فراره أو احتمائه بالبرّ - والبرّ من البراءة على ما أعتقد، أو هكذا أريد أن أعتقد - رسالة جمعية كبرى، متصلة ومستمرة، وأعتقد أن الشاعر كشف أوراقه وعالمه عندما صاح على طريقة (الورقاء) أيضا :

المفتش كرمبو 17 - 11 - 2011 05:15 PM

"أعد للصعاليك انتباهتهم
أيهذا الشريد المشعّث بالبرق
أعد للصعاليك إنشادهم بالسلاح
فقد هجر الثائرون المرايا
وغنّوا الليل طويل مواجيدهم" .
وهنا، فإن الشاعر كما شعره، أو الشعر كما قائله، فريد ومتوحّد، مستوحش ونافر وناشز، لا يهاون ولا يدخل تسويات أو مناورات، فهو لا يتورّع أن يخيط في نسيج شعره "الحداثي" كلمات ومصطلحات لها تاريخ طويل من الأخذ والرد، ولكنّها ترد هنا ببساطة وأناقة، بل وأقول : إنها تمتلك قدراً هائلاً من الجمالية اللفظية والوجدانية معاً، ففي قصيدة "تلويحة" لا يمكنك أن تحدد ما يسمى "بعصر الشاعر"، فأنت في حضرة الشعر الخالد، يقول الشاعر في هذه القصيدة :
ومنفرط قلبي على ظعنهم ضحى
فلا حزنهم يُبقي ولا نأيهم أبقى
ينخلني بّرٌ وبرق مخاتلٌ
فمن لي بعين جمرها يلفح البرقا
ورنّت بباب الواد فاختة النوى
وناحت ضلوعي من لظى بارق رقا"
هذا الشعر يقوله شاعر في القرن الواحد والعشرين، قرن التكنولوجيا والاحتلالات المتعددة والوسائط المتعددة، وحيث يُنظّر للاحبكة واللامركز واللامضمون واللاتاريخ واللافكرة . القصيدة هنا ليست تاريخاً جمالياً فقط، ولكنها موقف ثقافي وأخلاقي وجمالي أيضاً .
القصيدة السابقة تقول أنها تستطيع أن تحتوي وأن تتعايش مع أزمانها وراقاتها التاريخية والشعورية، وتقول أنها لم تفقد اتجهاها ولا ماضيها ولا حاضرها، وأنها تستطيع فعلاً أن تظلّ شعراً أخّاذاً دائماً، إذأ أحسن استعمال المفردة وأحسن بنائها وأحسن نسجها، والأهم من ذلك كله استعملت بصدق ومرارة وعمق، الشعر موقف والشكل تاريخ، هذا ما أؤمن به تماماً، شكل القصيدة مجرّد تاريخ القصيدة أو مكانها، ولكنها في نهاية الأمر موقف من العالم، تماماً كما هو الفنّ دائماً، الفن الحقيقي موقف من الدنيا كلها، ولهذا لا يتورع شاعرنا أن يصوغ قصيدته كما يريد تماماً، على قد وقدر شاعره بالضبط، فموقفه ثابت ولكن تاريخه متحرك ومضطرب وواقعه رديء تماماً ، يقول الشاعر في نهاية ديوانه:
"بلادي مضوّأة بالحراب
لياليّ مضوّعة بالعتاب
وروحي غريبة" .
الشاعر، مستبدلاً الغموض بالاقتحام، والابتذال بالقوة، والتفكّك بالعودة إلى نقطة المركز، والإبهام المريض بالقول العريض، والقصيدة الحداثية التي فقدت الطعم والسهم بالقصيدة الأمينة على تاريخها ونسغها، الشاعر، وإن كان يعرف توصيف الحال تماماً، فهو يحتمي بالبراري، كالأسد الطعين الذي يلوذ بالسهب الفسيح المضيء، الذي - وحده- يستطيع أن يقدّم وصفة التوازن والتعافي الكاملة .
ومثلما يغادر واقعه ذاهباً إلى مدى فسيح ورحيب، فهو يقوم بذات الفعل على المستوى الجماعي أيضا، فهو يغادر "الحداثي" المشبوه الملوث بالدعوات الغريبة والتيارات المريبة إلى تراث قادر على منح أجوبة جمالية ووجدانية في ذات الوقت، وبهذا المعنى، فإن القصيدة لدى مراد السوداني ما زالت موّارة وثرية وقادرة على المواجهة والرد والهجوم أيضاً، وعندما استعمل هذه الكلمات فإنني أعنيها تماماً وأقصدها أيضاً، فالقصيدة هنا ليست هامسة ولا واطئة الظهر ولا منحنية الجبهة ولا تحاول أن تستعيد عالماً ليس عالمها أو كلاماً ليس كلامها أو وجداناً ليس وجدانها، بل هي تنحت وتخلق من رحم عالمها تماماً، ولهذا كانت قصيدة عالية ورفيعة مهما علق بحواشيها من وحشي الكلام أو عريّه. "الوعر" هو ذات الشاعر بعدما "غاض ماء المروءة في صيحة الصقر" كما يقول في قصيدة "تلويحة" المشار إليها سابقاً.
وعلى نحو مدهش، نجد الشاعر يوسف المحمود يذهب ذات المذهب، ويشرب من ذات المشرب، فالديوان الذي انتظرناه طويلاً يصدر بعنوان "أعالي القرنفل" يزخر بتلك اللغة الحادة والجارحة أيضاً، كما أن قصيدته هي الأخرى لا تدّعي ولا تتوهم ولا تستسلم للموضة الدارجة والتهويم الإعلامي، قصائد يوسف المحمود - وإن كانت ذات نبرة أخفض - إلا أنها تتماثل مع قصائد مراد السوداني، في أن كلا القصيدتين تنطلقان من ذات المرجعية وتحتكمان إليها تماماً، فالواقع الرديء - برموزه ومستوياته - والغربة والاغتراب والفرار إلى البراري الفسيحة هي أيضاً ثيمات تتكرر في ديوان المحمود أو يدور حولها .
المحمود، وعلى سلاسة وليونة ومرونة ونغمة خافتة، يقدم اقتراحات للغربة والاغتراب ومفارقة الواقع الذليل والمستكين والمستنيم والراضي والمكتفي بذاته ، المحمود، وبلغة أقل ضجيجاً من لغة السوداني يقول معلناً منذ بداية ديوانه :
"ها أنا أنت
قلب طعين
وعينان جارحتان" .
ويعمّق المحمود غربته واغترابه وحيرته واضطرابه أمام هذا الواقع الراضي والساكن بالقول :
"أتوقّد كالفهد وحدي
وليلي طويل وجارح
زهرة النار عرشي
وتاجي .. ظلام سحيق
وأغصان غيم تغطي الملامح
..
فقد لدغت عقرب الارتباك

المفتش كرمبو 17 - 11 - 2011 05:16 PM

لساني .. وضاقت عليّ المطارح"
وبعيداً عن روعة التصوير في "أتوقّد كالفهد"، فإن هذا المقطع يتكرّر بأشكال عديدة ومختلفة في باقي قصائد الديوان بحيث تتحوّل فكرة الغربة والاغتراب والحيرة إلى أقنوم من أقانيم الشعر الفلسطيني وخاصة في بداية الألفية الثالثة في ملمح خاص وجديد لم يألفه الشعر الفلسطيني عادة، فهذا الشعر اعتاد الوضوح والتحديد والإجابات الحادة على الأسئلة المبهمة، الغربة والاغتراب والحيرة التي يضجّ بها ديوان المحمود والسوداني لا تكتسب المحتوى اللغوي والجمالي فقط وإنما التاريخي والسياسي والاجتماعي أيضاً، يوسف المحمود يكتب في العام 2011 هذه القصيدة بعنوان "ليس لي وطن" ويقول فيها :
"ليس لي وطن
ولا حتى شجرة أستلقي في ظلّها
السهول يجرّها الغزاة
خلف خيولهم
والجبال تدفعها العربات" .
الشاعر الفلسطيني - ومن خلال تجربتيّ السوداني والمحمود- يقدّم الآن قصائد لم تكتب بهذا الوضوح وهذه الحدّة الموجعة والكاوية، القصيدة هنا تقوم بوظيفتها الاجتماعية والتاريخية بالإضافة إلى حمولتها الفنية. أعتقد بهذا الصدد أن الشعر - لدى الشاعرين على الأقل - يغادر تلك المناطق التي دفعت إليها القصيدة الفلسطينية بالذات منذ التسعينيات حتى الآن ، فالقصيدة في الديوانين، قيد الكلام، متقشفة إلى حدٍّ كبير دون أن تفقد تلك البلاغة وصريحة دون أن تفقد الشاعرية وذات مهمة وواضحة دون أن تفقد ما يجب لها ويستحب من "غموض"، يكتب المحمود ما يلي بكلّ ما في العالم من ألم وفجيعة :
"لا وطن لي
ولا مكان أفرّ إليه
العالم ينتفخ كجيفة تطفو على الدم
وتملأ العالم بالصراخ
كرأس العاهرة" .
يتخلّص الشاعران، المحمود والسوداني، من مساوئ القصيدة التي احتلّت المسرح والمنابر منذ أكثر من ثلاثة عقود، فالقصيدة لديهما ذات مركز وذات ثقل، وبينها وبين قارئها الكثير من القواسم المشتركة والتاريخ المشترك، لغة ومفردة وصورة ووجداناً. القصيدة لدى الشاعرين تمتلك ما يكفي ويزيد من الجماعية - رغم الغناء المفرد وما يمكن أن يتهم به الشاعران من ذاتية تصل في بعض الأحيان إلى حدّ الإفراط أو التمحور حول الذات، رغم أني أرى ذلك نوعاً من التعبير عن الأنا الجمعية ليس إلا - ، وما أقصده بالجماعية هنا هو توجّه الشاعرين، المحمود والسوداني، إلى تحويل القصيدة من موقف ذاتي ومنغلق وصمت إلى رغبة حقيقية في الصدام والمواجهة، فمثل السوداني، يقول المحمود في قصيدة "حديث يومي" :
"سوف ندهش يا صاحبي
حين نعرف كل الحقائق
سوف نعرفهم واحداً واحداً
قاتلاً قاتلا
سوف نعرفهم
خائناً خائنا
سوف نعرفهم
كاذباً كاذباً" .
النثرية الواثقة التي تستمرّ بها القصيدة تحوّلها إلى نوع من الموقف الأكيد الذي لا نقاش فيه، وكأنّ الشعر هنا وبدلاً من الدفع بالقارئ إلى عالم من الاحتمالات المتقابلة والمتعارضة، إنما يدفعه إلى معنى محدّد سلفاً. والمحمود مولع بوصف عالمه الذي يريد، ولهذا تبدو قصيدته دون نقاشات كثيرة أو تعقيدات لا داعي لها ، يقول الشاعر في قصيدة "الاعتبار" :
"غيري يمجد قردة
وأنا أمجد خالقاً
يغري يريح ويستريح
وواحداً مثلي يجنّ،
غيري يسبح باسم قردته صباحاً
ثم يسجد في المساء لثعلب
أكلته أسنان الزمن"
وعلى طريقة السوداني، فإن المحمود يرفض الواقع الراضي والمستنيم، ولكنّه يذهب بذلك إلى رسم عالم كاريكاتوري بالغ الثراء والدقة والمفارقة، وبرأيي المتواضع، فإن الديوانين - بما يقترحان - يقدّمان صورة جديدة ومدهشة للمدى والمبلغ والمكان والمكانة والدور الذي وصلت إليه واضطلعت به القصيدة الفلسطينية في الأراضي المحتلة .
وكما السوداني، فإن المحمود أيضاً، يختار أن يفرّ إلى براريه الفسيحة وفضائه الأرحب، إنه لا يجد سوى تلك السهول والجبال يرى فيها وجه الله . ومن الغريب أن نجد الشاعرين يتماثلان تماماً في تشخيص الحال وفي اختيار المآل أيضاً، يقول المحمود :
"أرى في منامي
أني أهيم في كل واد
يتبعني الضباب والرمان
والغراب الأخضر يشدو في أثري
شدو بلبل جريح" .
كعادته، فالمحمود يفاجئنا بالصورة المدهشة، فالغراب أخضر ولكنّه يشدو مثل البلبل. وبعيداً عن ذلك، فإن الشاعرين يختاران النوم للرؤية، فالسوداني يقول في هذا الصدد أيضاً :
" أنام .. وأسرف في النوم حتى أراكِ "

المفتش كرمبو 17 - 11 - 2011 05:17 PM

والنوم لدى الشاعرين حالة يقظة تامة، وقدرة عالية على الكشف والمعرفة، تماماً كالضرب في البراري ومصاحبة الطيور والاستماع إلى الشجر وقراءة السماء. مرة أخرى، تستعاد التجربة القديمة للشاعر العربي الجاهلي الذي اختار الصحراء وكائناتها وما تضطرم به من مظاهر ساطعة البراءة والوضوح، وإذا كان هناك فرق في لغة السوداني ومفرداته - التي تمزج بشكل بديع بين تمثّل القديم وإعادة تمثّله وبين رشاقة الصورة الحداثية وإمكانياتها وطاقاتها - وبين لغة المحمود القريبة والسهلة - التي تعتمد كثيراً على التركيب المدهش والصورة الفنية ذات المجازات الأنيقة التي لا تغرق في الإيهام أو الوهم، فهي خيال أو خيال نظيف ونقي وقريب من الحواس جميعاً، بهذا المعنى، فإن شعر المحمود شعر حسّي يثير الشهوات على أنواعها ، إلا أن القصيدتين ورغم تشابه المضامين والرسائل إلا أنهما بشكل أو بآخر تستعيدان روح القصيدة القديمة أيضاً، أو على الأقل تستعيدان قضية الشاعر الجاهلي القديم الذي اختار الصحراء على القبيلة، والموقف الصريح على الاستنامة لصوت الشيخ أو الزعيم، وبهذا المفهوم، فإنه يمكن القول : إن الشعر يجري عليه ما يجري على كل ظواهر الكون، من المدّ والجزر والبدء والانتهاء والتكرار .
أخيراً، الديوانان متشابهان إلى حدّ الالتفات والدهشة، ويمثلان نقلة أو محطة من محطات اندفاع القصيدة الفلسطينية وتجلياتها وارتباطاتها بواقعها والرد عليه ومواجهته، وهما متشابهان أيضاً في الخيارات والاحتمالات، ومتشابهان في وظيفة القصيدة ودورها الجمالي والتاريخي، وإذا كانت الغربة والاغتراب والحيرة ونغمة التشاؤم التي تصبغ جو القصائد عموماً، إلا أن الشاعرين بشّرا بكائنات البر وخيارات البراءة أيضاً، يقول السوداني :
" يا راعي الحجل المكحل
دلني .. قد طال ليل العاشق النوّاح"
أما المحمود فيقول :
" سأمضي إلى جنة وارفة
وهناك سنقرأ ما قاله الله يا أخوتي
وسنعرف ما قاله الأنبياء لجدتنا العاصفة ".

ناجي أبوشعيب 17 - 11 - 2011 09:56 PM


لنا عودة كلّما احتجنا الى استفادة ...
جميل ما طرحت هنا ..
الأخ كرمبو بارك اللّه فيك نشاطك
احتراماتي


الساعة الآن 01:01 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى