منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   الشعر والأدب العالمي المترجم (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=127)
-   -   المهلة الأخيرة (روايه مترجمه) (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=27706)

جمال جرار 14 - 10 - 2012 12:52 AM

( 11 )

كان عليها أن تعيش يوما آخر ـ زائدا ، وغير مجدى .

رافقت ناديا العجوز إلى داخل البيت ، بل لم ترافقها وإنما يمكن القول أنها حملتها على يديها . لم تقو قدماها على حملها إطلاقا . وها هى قد رقدت ثانية فى فراشها تنظر أمامها بعيون مذنبة حزينة ، وتنصت بحذر لكل ما يجرى حولها . وبدا لها أنها لم تعد تملك أى حق فى أى شئ فى الدنيا ـ لا أن ترى ، أو تتحدث ، أو تتنفس ـ كل شئ بدا لها وكأنه مسروق . ففى الصباح ، عندما نهضوا وأخبرتهم ناديا أن العجوز قد خرجت بمفردها ، شهقوا وفرحوا ، واندهشوا لأنها تتعافى ليس بحساب الأيام ، وإنما بحساب الساعات ، وما لبثوا أن تفرقوا تدريجيا وبقيت العجوز وحدها . كانوا يطلون عليها ـ أحيانا لوسيا ، وأحيانا إيليا أو ناديا ـ يلقون نظرة ويخرجون فى الحال . وقال إيليا أنه يجب الانتظار إلى أن تبدأ العجوز بالرقص كى يصفقوا لها . أعجبتهم النكتة حتى أن لوسيا ابتسمت لها . أما فارفارا فنقلت النكتة إلى القرية مع آخر الأخبار بأن أمها نهضت على قدميها حتى ذلك الوقت وجد إيليا متسعا كى يُسَخِّن نفسه بجرعتين وكان رأسه الوردى يلمع ساخنا وينشر من حوله هالة من الضياء ، وتوهجت عيناه بمرح وخفة . كان يشعر برغبة قوية فى عمل شئ ، المشاركة فى شئ ، ولكن لم يكن هناك شئ يفعله . ولذا كان يعود من جديد إلى أمه وهو يكرر :
ـ ترقدين يا أمى ؟ ارقدى ، استريحى ، وعندما تريدين الرقص ، عليك أن تنادينا لنتفرج ـ آى نعم . نحن نعرف يا أمى ، نعرف أنك تريدين الرقص ـ لا تنكرى . ولكن العجوز أجابته بنظرة فزعة متوسلة .

كانت العجوز بمفردها ، وكان ميخائيل آخر من دخل إليها . جلس فى نفس مكانه خلف المنضدة ، حيث كان يجلس بالأمس قبل المشاجرة ، وراح يدخن وهو يأخذ أنفاسا سريعة شرهة . كان وجهه على غير عادته ملئ بقع سوداء ملتهبة وقد تورمت عيناه . كان يدخن ويتنفس بثقل وهو ينظر طوال الوقت إلـى أمه ، كان ينتظر شيئا ، ويأمل فى شئ . وصل الدخان إلى العجوز ، فسعلت بصعوبة وهى تمسك صدرها بيديها : مزَّق السعال الجاف المتعسر حلقها ، فأطفأ ميخائيل السيجارة وخرج مسرعا . وهكذا لم يقل أحدهما للآخر ولا كلمة واحدة .
بعد أن هدأ سعال العجوز جاءت نينكا إليها ، فاستجابت لها فى الحال . رفعت يدها وأخذت تمسح على كتف الفتاة ، فأحست بالدفء وبحرارة الجسد الطفولى ـ وكأن أحدا يربت على كتفها هى . وأغلقت حتى عينيها وكأنها فى لحظة سعادة خاصة .
فجأة قالت نينكا بدون أى سبب :
ـ ابنتك ، العمة لوسيا ، غير صادقة .
سألت العجوز :
ـ ماذا هناك ؟
ـ وعدت أن تشترى لىَّ سكاكر . وعدت . سمعها الجميع ، ولكنها لم تشتر شيئا . غير صادقة .
ـ قولى لها أن تشترى .
ـ أنا أخافها . قولى لها أنتِ
ـ ولماذا تخافين منها ؟ ليست وحشا ، ولن تعضك .
ـ لن تعض ، ومع ذلك أخاف نظراتها . دعيها لا تنظر إلىَّ ولن أخاف .
ـ لا تثرثرى .
ولكن نينكا واصلت إلحاحها :
ـ ما رأيك فى أن أدعوها أنا ، وتطلبين أنتِ منها ؟
ـ لا تفعلى ذلك . ما حاجتك إلى المزيد من السكاكر . لم يفرغ فمك بالأمس منها ، من الصباح إلى المساء .
انتفضت نينكا غاضبة وابتعدت عن العجوز قائلة :
ـ أنتِ نفسك تخافين منها . لو كنت لا تخافين منها لطلبتِ أن تشترى لىَّ السكاكر . أنتِ خوَّافة لا أكثر .
أرادت العجوز أن تبتسم ولكنها لم تستطع ، وإنما اهتزت شفتاها دون أى تعبير .
يبدو أنها غفت قليلا ، لأنها لم تسمع كيف دخلت لوسيا . فتحت عينيها ـ رأت لوسيا واقفة تنظر إليها ، تبحث فيها عن شئ . وحين التقت نظرتها بنظرة أمها ، سألتها :
ـ كيف حالك يا ماما ؟
قالت العجوز :
ـ لا بأس ـ لم تعرف بماذا تجيب . بدا لها أنها تجاوزت تلك الحدود التى تجعل الناس يفرقون بين حالتهم الجيدة أو السيئة . وحتى فى السابق ، فى حياتها ، كانت تفرق بصعوبة بين هاتين الحالتين : على الرغم من أنها كانت تميز أكثر بين الصحة والمرض ، التعب والقوة ، القدرة والعجز .
أصرت لوسيا :
ـ أفضل من الأمس ؟
وفجأة طلبت العجوز :
ـ تصالحى يا لوسيا مع ميخائيل تصالحى . لا داعى لأن تتشاجروا . أنا المذنبة : تهجَّمتُ عليه فلم يتحمل ، وثار غضبه ، ولكنه الآن يتعذَّب .
ـ انظروا ، تقولين ثار غضبه ، أما أنا فلا ـ قالت لوسيا فى تهكم ـ شئ رائع جدا . لقد سمعنا جميعا كلاما سيئا ، والآن علىَّ أن أعتذر له ، ماذا تخترعين يا ماما ؟ لا تدافعى عنه من فضلك ، فأنا لا أريد الآن مناقشة هذا الموضوع . لدىَّ أيضا أحاسيس أحترمها ، وأريد أن يحترمها الآخرون .
ارتبكت العجوز :
ـ أنا لا أقول شيئا ولا أبرر تصرفاته ـ لا . إنه يختلف عنك . ما العمل الآن ؟ مهما كان فهو أخوك . ومهما كنتُ فأنا أمكما ـ أمك وأمه . أريد أن تعيشا فى وئام وليس على هذا النحو . تصالحى معه يا لوسيا ، أشفقى علىَّ ، تصالحا ، ولحظتها سأستسلم ، فهذا هو الشئ الوحيد الذى يؤخرنى .
ـ أ لم تسأمى من ذلك يا ماما ؟ لقد أصبحتِ سليمة تماما ، بل وتسيرين أيضا ، ومع ذلك لا تحدثين إلا عن الموت . أ ليس لديك شئ أخر تتحدثين عنه ؟
مرة أخرى عادت نينكا فى وقت غير مناسب إطلاقا . فأبعدتها العجوز وهى تدفعها عن نفسها :
ـ اذهبى والعبى . اذهبى الآن وعودى فيما بعد ، سأنتظرك .
قالت نينكا وهى تنظر من طرف عينها إلى لوسيا :
ـ ابنتك ، العمة لوسيا غير صادقة .
لم يتبق أمام العجوز إلا أن تسأل :
ـ لماذا ؟
ـ آى نعم . أ لم تعدنى بشراء سكاكر ؟ وعدت ، وسمع الجميع ، ولكنها لم تشتر . خدعتنى .
تساءلت لوسيا فى اندهاش :
ـ وما هذا أيضا ؟! لماذا تتحدثين معى هكذا ؟
ـ أنا لا أكلمك أنتِ ، وإنما أكلم جدتى ، وعليك ألا تنصتى .
ـ من أعطاك الحق لتتحدثى إلىَّ هكذا بدون احترام ؟ هل أنا صاحبة لكِ ؟ ألا تعرفين أنه يجب التحدث إلى الكبار باحترام ؟ أ لم يعلمك أحد ذلك ؟
همست العجوز لنينكا :
ـ اعتذرى .
ـ آى نعم . قالت نينكا ونشقت بأنفها وهى على وشك البكاء . فسبقتها لوسيا :
ـ لا تفكرى فى البكاء . لن يصدق أحد دموعك . أنتِ عديمة التربية . لا أحب قليلى التربية ، ولا أحب عندما يتحدثون إلىَّ هكذا . انظروا إلى أى حد وصلت الأمور .
قالت العجوز فى حذر :
ـ لن تكرر ذلك .
ـ انتظرى يا ماما . هكذا ربيتموها : لن تكرر ذلك ، وهذا كل شئ . ولكن لماذا تصرَّفت هكذا ـ دعيها تجيب . قريبا سوف تريكم أسوأ من ذلك ، وسترون ـ استدارت لوسيا نحو نينكا : ـ إذا كنتِ فى حاجة ضرورية إلى السكاكر ، سأشترى لكِ طبعا ، ولكن لن تكون هذه هدية بل ابتزاز . هل تعرفين ماذا يعنى الابتزاز ؟
طأطأت نينكا رأسها موافقة ، فقد حققت ما أرادت : ستشترى .
حينما خرجت لوسيا ، لحقت بها نينكا . ربما أرادت أن تناوب هناك عند البوابة ، أو تلحق بها إلى الدكان وهناك ، أمام الناس ، تظهر لها فى اللحظة المناسبة وتدس يدها فى الواجهة :
ـ عمتى لوسيا ، أريد من هذه السكاكر . فهذه أحبها .
هذه هى نينكا ، لا تشبه فى ذلك لا أمها ولا أبيها ، ولا يُخاف عليها ، فهى شجاعة فى مثل تلك المواقف .
من جديد تاهت العجوز ، غرقت فى نفسها ، وعندما أفاقت كانت الشمس قد غطت منتصـف الغرفة . أخذت ترقبها وهى تخشى وتريد فى آن واحد أن تصل إلى الفراش . لقد بدا لها أنه فى هذا اليوم الذى لم تكن تملك الحق فى أن تعيشه ، قد ينكشف لها شئ لم تعرفه وهى حية . حدَّقت العجوز إلى الشمس على أرضية الغرفة ، إلى بقعتها الحامية العريضة وهى تأمل أن تعثر فيها على ذلك الرسم أو تسمع ذلك الصوت الذى يوضح لها شيئا ، ولكن ذلك لم يحدث . الشمس تقترب حثيثا من العجوز ، تزحف نحو الفراش من الناحية اليمنى حيث تسقط أشعتها مباشرة من خلال النافذة . وفى ضوئها الصامت الثاقب ظهرت قوة مؤثرة مرحة من الصعب كبحها . وفجأة خطر على ذهن العجوز أن الشمس قد تذيبها كما تفعل بتمثال ثلجى رخو مغطى بالأسمال . أخذت تتدفَّأ بأشعة الشمس وتشعر بحنانها دون أن تلاحظ هى نفسها ذلك ، سوف تبدأ الذوبان ، ستذوب وتذوب ، حتى تختفى تماما ، وسيأتى الناس ولن يجدوا أحدا فى الفراش ، وسيعتقدون أنها خرجت إلى الفناء مرة أخرى . هكذا فكرت العجوز : " الناس " ، دون أن تميِّز بين الأقرباء والغرباء .

أخيرا وصلت الشمس إلى الفراش ، ووضعت العجوز يدها تحت أشعتها كى تستمد الدفء لجسدها كله . بدا لها أن الضعف يتسرب مع الدفء ، ولكن ذلك لم يفزع العجوز : كان ضعفا واهنا لذيذا . لم تكن العجوز تريد أن تغفو ، وليحدث كل شئ وهى فى وعيها .

فى مكان ما ، على مسافة ليست بعيدة ، انهمكت فارفارا فى الحديث مع أحد ما . وفجأة تذكرت العجوز شيئا ما كانت قد نسيته تماما . عصرت الصوت فى داخلها ونادت فارفارا ، ولكن لم يجبها أحد : كان صوتها ضعيفا للغاية ، فلم يصل إلى مسافة بعيدة . صاحت العجوز مرة ثانية بصوت أقوى . سمعت فارفارا وأتت إليها .
ـ ماذا تريدين يا أمى ؟
ـ اجلسى ـ أشارت العجوز بعينها إلى مكان مجاور على الفراش .
جلست فارفارا .
ـ ماذا يا أمى ؟
ـ انتظرى ـ بدأت العجوز حديثها ـ سأموت …
ـ لا تقولى ذلك يا أمى .
ـ سأموت ـ كررت العجوز ، وأضافت : ـ عليك أن تبكينى كما يجب .
ـ ماذا تريدين ؟
ـ أن تبكينى كما يجب . هم لن يفعلوا ذلك . إنهم لا يهدهدون الطفل الآن قبل النوم ، ولا يودعون الإنسان إلى القبر ـ لا يفهمون شيئا . الأمر كله لديك . سأعلمك كيف تبكين علىَّ . تستطيعين البكـاء وحدك ، ولكن عليك أن تبكى بحرقة .
بدا أن فارفارا فهمت ، وظهر الخوف على وجهها .
ـ اسمعى . لقد ودعتُ أمى إلى القبر ، وأنتِ ودعينى كذلك . لا تخجلى ، فهم لن يفعلوا ذلك ـ تنهدت العجوز وأغلقت عينيها ، وهى ترتب فى ذاكرتها الكلمات البعيدة شبه المنسية التى لم تعد تستخدم اليوم . وبدأت بصوت حاد ممطوط :
ـ آه يا أمى ، آه يا حبيبتى …
ـ يا أمى ـ ى ـ ى ! ـ رددت فارفارا باكية وهى تهز رأسها وكأنها ترفض الاشتراك فى هذه اللعبة .
أوقفتها العجوز :
ـ لا تبكى ، اسمعى أولا ، تعلمى . لا داعى للبكاء الآن ، أنا لا أزال هنا ، احتفظى بدموعك إلى الغد . هيا قبل أن يأتى أحدهم ويعوقنا . لنحاول فى هدوء .
انتظرت حتى تهدأ فارفارا ، وبدأت مرة ثانية :
ـ إيه يا أمى ، إيه يا حبيبتى .
ـ إيه يا أمى ، إيه يا حبيبتى ـ كررت فارفارا على أثرها من خلال الدموع .
ـ لماذا تزينتِ وإلى أين أنتِ ذاهبة ؟
ـ لماذا تزينتِ وإلى أين أنتِ ذاهبة ؟
جلست العجوز فى فراشها وعانقت فارفارا من كتفيها وهى تلقنها . صار صوتها أقوى وأشد إلحاحا :
إلى أى بلد بعيد ؟
فى الطريق الممهدة
عبر الغابة الخضراء
إلى كنيسة العذراء
إلى رنين الأجراس
إلى الدعاء الروحى ،
ومن كنيسة العذراء
إلى الأرض الأم الرطبة
إلى الأهل والخلان .

استمر النهار . استمر مشمسا ودافئا خفيفا ، وكان الهواء مشبعا بقيظ حاد مثل الذى يقبل مع بداية الخريف الصحو . كانت الشمس كعادتها زرقاء ، زرقاء فاتحة من الأعلى ، وفى طرفها ، عند النهر ، حيث تغيب الشمس ، كانت مغطاة بطبقة رقيقة داكنة ، وفى الناحية اليسرى إلى الأعلى سبحت غيمة شفافة وحيدة ، صغيرة تماما كى تكمل اللوحة وكأنها أُطلِقَت من أجل أن يتمتع الناس برؤيتها . وكان ما تبقى من الفضاء فوق الرؤوس صافيا عميقا معبرا عن الهدوء اللانهائى ، والأرض المشمسة مفروشة تحته فى هدوء وراحة .
كان ميخائيل يستريح أمام عنبر الدار معتمدا بخده على راحة يده وهو يدخن سيجارة تلو أخرى .
اقترب منه إيليا وسأله :
ـ أ لم تشرب اليوم ؟
هز ميخائيل رأسه بالنفى .
ـ أما أنا فقد شربتُ قليلا ، هكذا لتعديل المزاج ، أ لم تسمع أن أمنا قامت على قدميها ؟
سمعت .
سترقص قريبا ـ آى نعم . انظر إليها ـ وتابع ضاحكا :
ـ ما رأيك لو شربنا قليلا ؟ المشروب هنا ولن نذهب بعيدا .
رفض ميخائيل قائلا :
ـ لا ، لقد قمنا أمس بالعجائب ، كفى .
ـ شربتَ أنت كثيرا بالأمس ، وأخذت تتهجم على الجميع ، وتشاجرت مع الأم .
ـ لم أتشاجر معها .
غضبتْ منك كثيرا ، وخاصة بسبب تانشورا . كانت على استعداد لضربك . هذا صحيح ـ وعاد إلى الضحك ، ثم سأل :
ـ اسمع ، متى أرسلتَ تلغرافا إلى تانشورا كى لا تحضر ؟ كنتُ معك طوال الوقت ، ولم أبتعـد عنك ، فمتى لحقت ؟
قذف ميخائيل بعقب السيجارة ، فهرعت الدجاجات إليه . نظر فى عينى أخيه قائلا :
ـ لم أرسل لها أى تلغراف .
ـ كيف لم ترسل ؟
ـ هكذا .
ـ أ لم تقل أنك أرسلت إليها ؟ كل ما حدث بالأمس كان بسبب ذلك ، أ لا تذكر ؟
ـ كيف لا أذكر ؟ أذكر . لو لم أقل ذلك ، فهل تعلم ماذا كان سيحدث لأمنا ؟ الأفضل أن نكذب عليها كى لا تنتظر .
ـ هكذا … ولكن أين تانشورا إذن ؟
ـ من أين لىَّ أن أعرف ؟
ـ هكذا إذن ، يا لها من حيلة !
ـ أرجو ألا تبلغهم . دعهم يعتقدون أننى أرسلتُ ـ قال ميخائيل بسرعة إذ رأى لوسيا قادمة نحوهما من ناحية البوابة . وطأطأ رأسه : ستبدأ الآن حديثها من جديد ، ستذكر ما حدث بالأمس وأول أمس ، كل ما حدث وما لم يحدث . لا فائدة من تقريعه الآن ، سيلوم نفسه فيما بعد ، وسيكون هذا أجدى ، ولكن كلماتها تثير الآن الغثيان ـ ليذهبوا إلى … ! فأنا لا أطيق نفسى .

بدأت لوسيا قبل أن تصل إليهما :
ـ إيليا ! ـ كانت هيئتها حازمة ، ولكن مضطربة وكأن شيئا قد حدث . لم تقل ما كان ميخائيل يخشاه ـ إيليا ، هل تعرف أن اليوم هو موعد المركب ؟ لم يبق إلا القليل من الوقت . المركب التالى لن يصل إلا بعد ثلاثة أيام .
وقف إيليا تائها :
ـ ما العمل الآن ؟
ـ قرر بنفسك . أما أنا فعلى أن أسافر ، لا أستطيع البقاء أكثر .
ينبغى السفر ـ هز رأسه موافقا ونظر نحو ميخائيل : ـ أمنا تحسنت كما يبدو .
قال ميخائيل فى وجل :
ـ لو انتظرتما قليلا .
لم يجبه أحد .
دخلوا البيت جميعا وجمدوا أمام فراش العجوز . لم تلحظهم الأم ولا فارفارا . كانت فارفارا منحنية على الأم تكاد تلمس صدرها وهى تنوح . أما العجوز فقد أغلقت عينيها وهى تردد نشيدا حزينا مفجعا ، وكان وجهها مشرقا مهيبا . أنصتوا ، وفهموا الكلمات الحنونة اليائسة ، والتى بدت مقلوبة وتحمل معنى معاكسا واحدا .
سألت لوسيا فى سخرية وبصوت مرتفع :
ـ ماذا يجرى هنا ؟ ما هذا الحفل ؟
سكتت العجوز وفارفارا فى الحال ، ثم نهضت فارفارا وقالت مشيرة إلى الأم :
ـ إنها أمنا …
قال إيليا ضاحكا :
ـ نحن نرى ، ليست أبانا طبعا .
تمتمت العجوز فى حزن محاولة أن توضح :
ـ سأموت .
ـ ماما ، والله لقد سئمنا هذه الأحاديث حول الموت ، هى نفسها لا تتغير . هل تعتقدين أن ذلك يريحنا ؟ لكل شئ حدود . لا تستطيعين الكلام عن أى شئ آخر . الحياة أمامك طويلة ، ستعيشيـن وتعيشين ، وأنتِ تخترعين وتخترعين ، لا يجب ذلك .
أضاف إيليا :
ـ حتى المائة يا أمى ، حتما ـ آى نعم .
صمتت العجوز مصوبة بصرها نحو الجدار .
ـ أنتِ تفهمين يا ماما أنك شفيتِ تماما . عيشى وتمتعى بحياتك . كونى مثل الجميع ، ولا تدفنى نفسك وأنتِ ما زلتِ حية . أنتِ حية ، طبيعية ، وعليك أن تكونى هكذا ـ سكتت لوسيا قليلا ، ثم واصلت بنفس الصوت الحنون ـ أما نحن فعلينا أن نسافر اليوم ، هذا ما يجب يا ماما .
صرخت فارفارا :
ـ ماذا حدث لكم ؟!
لم تصدق العجوز ، وأخذت تهز رأسها فى ذهول .
كررت لوسيا فى نعومة ولكن بإصرار وهى تبتسم :
ـ يجب أن نسافر يا ماما . المركب اليوم ، أما المركب التالى فبعد ثلاثة أيام . لا نستطيع الانتظار طويلا .
أنَّت العجوز :
ـ لا ، لا .
قالت فارفارا فى قلق :
ـ لا يجوز السفر اليوم ، ولا يجوز ترك أمنا . كأنكما غريبين ، فكرا جيدا . لا يجوز .
قال ميخائيل مؤيدا :
ـ لو تبقيان يوما آخر .
قالت لوسيا دون أن تجيبهما :
ـ نحن ، يا ماما ، لسنا أحرارا : لا نستطيع أن نفعل ما نريد . لدينا عملنا . كنتُ أتمنى بكل سرور لو أعيش هنا أسبوعا آخر ، ولكننى أخشى أن يطردونى من عملى ، فنحن لسنا فى إجازة . افهمى من فضلك ولا تغضبى علينا . يجب أن نسافر .
شرعت العجوز فى البكاء ، وكررت وهى تنظر تارة إلى لوسيا ، وتارة أخرى إلى ميخائيل :
ـ سأموت ، سأموت . سترون . اليوم . انتظروا قليلا ، انتظروا . لستُ بحاجة إلى المزيد . لوسيا ! وأنت يا إيليا ! انتظرا ، أقول لكما ، سأموت ، سأموت .
ـ تعودين إلى ذلك مرة أخرى يا ماما . نحن نحدثك عن الحياة ، وأنتِ تحدثيننا عن الموت . لن تموتى ، لا تقولى ذلك من فضلك ستعيشين طويلا . كنتُ سعيدة لرؤيتك . ولكن علىَّ الآن أن أسافر . سنأتى فى الصيف مرة أخرى . سنأتى حتما ، نعدك بذلك . لن نأتى على عجل كما فى هذه المرة ، وإنما لفترة طويلة .
هنا تدخل إيليا :
ـ ولماذا فى الصيف ، ليس فى الصيف ، وإنما قبل ذلك . ستتحسن أمنا تماما وستسافر إلينا . تعالى إلىَّ يا أمى ، سنذهب إلى السيرك . أنا أعيش قرب السيرك . هناك مهرجون ، ستضحكين كثيرا .
حاول ميخائيل مرة ثانية :
ـ يوم واحد لن يقدم أو يؤخر . ما الفرق ؟
انفجرت لوسيا :
ـ لا أنوى أن أناقش معك هذا الأمر ، فأنا أعرف أفضل منك ، هل هناك فرق أم لا . أم أنك لا تزال ترى أن علينا أن نأخذ ماما معنا ، ولهذا علينا أن ننتظرها ؟
ـ لا ، لا أرى .
ـ شكرا على ذلك .
أخذا يجمعان أشياءهما على عجل . لم تبك العجوز بعد ذلك ، وبدأت وكأنها قد تجمَّدت . كان وجهها مستسلما ، لا حياة فيه . لم ترد على ما قيل لها . كانت عيناها تتابعان الهرج والمرج فى ذهول .
جاءت ناديا راكضة وأرادت أن تعد المائدة قبل الوداع ، ولكنهم منعوها . لم يكن لديهم الوقت أو الرغبة فى الأكل . همس إيليا لميخائيل :
ـ ما رأيك أن نشرب قبل السفر ؟ لنشرب قليلا .
رفض ميخائيل : ـ لا ، لا أريد .
لم تنس فارفارا ، وطلبت من لوسيا بصوت مرتفع :
ـ أين الفستان ـ آ ؟
ـ ماذا ؟
ـ الفستان الأسود الذى خيطته هنا ، قلتِ أنكِ ستعطيننى إياه .
أخرجت لوسيا الفستان من الحقيبة وألقت به بين يدى فارفارا فى قرف .
وفى اللحظة الأخيرة أعلنت فارفارا :
ـ وأنا سأسافر أيضا مع الجميع . السفر جماعة سيكون أكثر مرحا .
أنَّت العجوز بصوت لا يكاد يُسمَع :
ـ فارفارا !
ـ أخشى يا أمى أن يحرق الأولاد البيت فى غيابى ، لا يجب تركهم وحدهم ، أخشى أن يفعلـوا شيئا .
لوَّح ميخائيل بيده :
ـ سافرى ، سافروا جميعا .
راحوا يودعون بعضهم البعض . قبَّلت لوسيا أمها فى خدها ، وصافحها إيليا ، وبدأت فارفارا البكاء .
ـ تعافى يا ماما ، ولا تفكرى فى الموت .
ـ أمنا رائعة .
ـ سأزورك قريبا يا أمى . ربما فى الأسبوع القادم .
رافقهم ميخائيل مودعا . سمعت العجوز وقع الخطوات من وراء النافذة . قال أحدهم شيئا ضحك إيليا على أثره ، ثم سكن كل شئ ، وأغلقت العجوز عينيها . دفعتها نينكا وهى تمد لها يدها بسكرة :
ـ خذى يا جدتى .
أبعدت العجوز يد الصغيرة عنها . نظرت نينكا إلى العجوز فى حزن وقالت عن المسافرين :
ـ سيئون .
تحركت شفتا العجوز ، ربما فى ابتسامة ، وربما فى سخرية .
وبعد ذلك عاد ميخائيل وجلس إلى جوارها على طرف الفراش ، وبعد صمت طويل قال متنهدا :
ـ لا يهمك يا أمى . لا يهمك . سنعيش كما عشنا . سنعيش . لا تغضبى منى . أنا بالطبع أحمق . أه ، كم أنا أحمق ـ تنهد ميخائيل ونهض ـ ارقدى يا أمى ، ولا تفكرى فى شئ . لا تغضبى منى كثيرا ، أحمق أنا .

كانت العجوز تنصت دون أن ترد . لم تكن تعرف ، هل تستطيع الإجابة أم لا . راودتها الرغبة فى النوم . انغلقت عيناها . وقبل حلول المساء ، قبل أن يحل الظلام ، فتحتهما عدة مرات ، ولكن ليس طويلا ، بل لتتذكر فقط أين هى .
وفى الليل ماتت العجوز .

المُنـى 10 - 11 - 2012 12:00 AM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
شكرا على الطرح المميز لهذه الرواية
تحيتي لك جمال

أرب جمـال 20 - 11 - 2012 12:02 AM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
شكرا لك على القصة
تقديري لك وتحيتي

أم جهيد بنت مسعود 20 - 11 - 2012 12:35 AM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
كانت العجوز تنصت دون أن ترد . لم تكن تعرف ، هل تستطيع الإجابة أم لا . راودتها الرغبة فى النوم . انغلقت عيناها . وقبل حلول المساء ، قبل أن يحل الظلام ، فتحتهما عدة مرات ، ولكن ليس طويلا ، بل لتتذكر فقط أين هى .
وفى الليل ماتت العجوز .كم هي محزنة هذه القصة و ما اصعب أن يموت الشخص وحيدا، بارك الله بك على هذا الطرح المميز.

shreeata 20 - 11 - 2012 12:44 AM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
مشكور اخي على روعة الادراج
تحيات لك
سلمت الايادي

صائد الأفكار 17 - 4 - 2013 08:31 PM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
اختيار موفق
شكرا لك مع التحية والتقدير

صائد

جمال جرار 26 - 4 - 2013 02:38 AM

رد: المهلة الأخيرة (روايه مترجمه)
 
شكر الله لكم حسن المتابعة
كل الود والتحية
باقة ورد والتقدير


الساعة الآن 08:18 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى