منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   النبي...جبران خليل جبران (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=1658)

أزهار 22 - 11 - 2009 10:16 PM

النبي...جبران خليل جبران
 
مقدمة
بماذا أجيب على كلماتك بشأن كتاب "النبي " ؟ ماذا أقول لك؟
ليس هذا الكتاب سوى القليل من الكثير الذي رأيته وأراه في كل يوم في قلوب الناس الصامتة وفي أرواحهم المشتاقة إلى البيان . لم يقم في الأرض من استطاع أن يأتي بشيء من عنده كفرد واحد منفصل عن الناس كافة . وليس بيننا اليوم من يقدر على أكثر من تدوين ما يقوله الناس له على غير معرفة منهم.
إنما النبي يا مي أول حرف من كلمة ..توهمت في الماضي أن هذه الكلمة لي وفيّ ومني ، لذلك لم أستطع تهجئة أول حرف من حروفها وكان عدم استطاعتي سبب مرضي بل وكان سبب ألم وحرقة في روحي ...
وبعد ذلك شاء الله وفتح عيني فرأيت النور ..ثم شاء الله وفتح أذني فسمعت الناس يلفظون هذا الحرف الأول ، شاء الله وفتح شفتي فرددت لفظ الحرف : رددته مبتهجا فرحا لأنني عرفت للمرة الأولى أن الناس هم هم كل شيء وأنني بذاتي المنفصلة لست شيئا . وأنتِ أعرف الناس بما كان في ذلك من الحرية والراحة والطمأنينة، أنتِ أعرف الناس بشعور من وجد نفسه فجأة خارج حبس ذاتيته المحدودة
وأنتِ يا مي ، أنت صغيرتي الكبيرة ، تساعدينني الآن على الإصغاء إلى الحرف الثاني وسوف تساعدينني على لفظه ، وستكونين معي دائما .
قربي جبهتك يا مريم ، قربيها ففي قلبي زهرة بيضاء أريد أن أضعها على جبهتك . ما أعذب المحبة عندما تقف مرتعشة مخجولة أمام نفسها .
والله يباركك . الله يحرس صغيرتي المحبوبة ، والله يملأ قلبها بأناشيد ملائكته جبران 3 كانون الأول 1922


هذه الرسالة التي أرسلها جبران لمي زيادة يحدثها عن كتابه النبي ..
النبي
و ظل المصطفى ، المختار الحبيب ، الذي كان فجرًا لذاته ، يترقب عودة سفينته في مدينة اورفيليس اثنتي عشرة سنة ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي ولد فيها . و في السنة الثانية عشرة, وفي اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد صعد إلى قمة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة و ألقى نظرة عميقة إلى البحر, فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب فاختلج قلبه في أعماقه, وطارت روحه فوق البحر فرحًا ، فأغمض عينيه ، ثم صلىّ في سكون نفسه . غير أنه ما هبط عن التلة حتى فاجأته كآبة صماء, فقال في قلبه: كيف انصرف من هذه المدينة بسلام, وأسير بالبحر من غير كآبة ؟ كلا ! إنني لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي فقد كانت أيام كآبتي طويلة ضمن جدرانها ، وأطول منها كانت ليالي وحدتي و انفرادي ، ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غير أن يتألم قلبه ؟ كثيرة هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع و كثير هم أبناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال فكيف أفارقهم من غير أن أثقل كاهلي و أضغط روحي ! فليس ما أفارقه بالثوب الذي انزعه عني اليوم ثم ارتديه غدا ، بل هو بشرة أمزقها بيدي كلا و ليس فكرًا أخلفه ورائي بل هو قلب جمّلته مجاعتي و جعله عطشي رقيقًا خفوقًا بيد أني لا أستطيع أن أبطئ في سفري فإن البحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني فيجب عليّ أن أركب سفينتي و أسير في الحال إلى قلبه ولو أقمت الليلة ههنا فإنني مع أن ساعات الليل ملتهبة أجمد و أبلور و أتقيد بقيود الأرض الثقيلة و إنني أود لو يتاح لي أن يصحبني جميع الذين ههنا ولكن أنى يكون لي ذلك ؟ فإن الصوت لا يشتطيع أن يحمل اللسان و الشفتين اللوتي تسلحن بجناحيه و لذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء أجل و النسر يا صاح لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقا في عنان السماء
وعندما بلغ المصطفى سفح التلة التفت ثانية "إلى البحر فرأى سفينته تدنو من المرفأ و أبناء بلاده يروحون ويجيئون على نقدّمها فهتف لهم من صميم فؤاده و قال : يا أبناء أمي الاولى أيها الراكبون متون الأمواج المذللون مدها و جزرها كم من مرة أبحرتم في أحلامي ! و ها قد أتيتم و رأيتكم في يقظتي لتي هي أعمق أحلامي . إنني على اتم الأهبة للإبحار و في اعماقي شوق عظيم يترقب هبوب الريح على القلوع بفارغ الصبر و لكنني أود أن اتنفس مرة واحدة في هذا الجو الهادئ و أن ابعث بنظرة عطف واحدة إلى الوراء و حينئذ أقف معكم ملاحا بين الملاحين أما انت أيها البحر العظيم أيها الأم الهاجعة أنت أيها البحر العظيم الذي فيك وحدك يجد النهر و الجدول سلامهما و حريتهما فاعلم أن هذا الجدول لن يدور إلا دورة واحدة بعد و لن يسمع أحد خريره على هذا المعبر اليوم و حينئذ آتي إليك نقطة طليقة إلى اوقيانوس طليق و فيما هو ماش رأى عن بعد رجالًا و نساء يتركون حقولهم و كرومهم و يهرولون إلى أبواب المدينة وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينته
وسمعهم يصرخون بعضهم ببعض من حقل إلى حقل مرددين اسمه وكل منهم يحدث رفيقه بقدوم سفينته فقال في نفسه: أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع ؟ أم يجري على الأفواه أم مسائي كان فجرًا لي ؟ وماذا يجدر بي أن أقدم للفلاح الذي ترك سكته في نصف تلمه و للكرّام الذي أوقف دولاب معصرته ؟ أيتحول قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها و أعطيهم ؟ أم تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كؤوسهم ؟ هل أنا قيثارة فتلامسني يد القدير أم أنا مزمار فتمر بي أنفاسه ؟ أجل إنني هائم أنشد السكينة و لكن ماهو الكنز الذي وجدته في السكينة لكي أوزعه بطمأنينة ؟ و إن كان هذا اليوم يوم حصادي ففي أية حقول بذرت بذاري و في أي فصل من الفصول المجهولة كان ذلك ؟ و إن كانت هذه هي الساعة التي يجدر بي أن أرفع فيها مصباحي واضعا إياه على منارتي فإن النور الذي يتصاعد منه ليس مني لأنني سأرفع مصباحي فارغا مظلما و لكن حارس الليل سيملأ ه زيتا و سينيره أيضا قال هذا معبرا عنه بالألفاظ ولكن كثيرة مثل هذا حفظه في قلبه من غير أن يعلنه لأنه نفسه لم يقدر أن يوضح سره العميق و عندما دخل المدينة استقبله الشعب بأسره و كانوا يهتفون له مرحبين به بصوت واحد فوقفه شيوخ المدينة وقالوا له: بربك لا تفارقنا هكذا سريعا, فقد كنت ظهيرة في شفقنا, وقد أوحى شبابك الأحلام في نفوسنا و أنت لست غريب بيننا كلا و لا أنت بالضيف بل أنت ولدنا و قسيم أرواحنا الحبيب فلا تجعل عيوننا تشتاق إلى رؤية وجهك
ثم قال له الكهان و الكاهنات: لا تأذن لأمواج البحر أن تفصل بيننا فتجعل الأعوام التي قضيتها بيننا نسيًا منسيًا, فقد كنت فينا روحا محيية, وكان خيالك نورا يشرق على وجوهنا وقد عشقتك قلوبنا و علقتك أرواحنا ولكن محبتنا تقنعت بحجب الصمت فلم نستطيع أن نعبر عنها, بيد أنها تصرخ إليك الآن بأعلى صوتها و تمزق حجبها لكي تظهر لك حقيقتها فإن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق ثم جاء إله كثيرون متوسلين متضرعين فلم يرد على أحد جوابا ولكنه كان يحني رأسه وكان الواقفون حوله ينظرون عبراته تتساقط بغزارة على وجنتيه وصدره وظل يمشي مع الشعب حتى وصلوا إلى الساحة الكبرى أمام الهيكل.

وحدث إذ ذاك أم امرأة عرافة خرجت من المقدس اسمها المطرة فنظر إليها نظرة ملؤها الحي و الحنان لأنها كانت أول من سعى إليه و آمن به مع أنه لم يكن له إلا ليلة و ضحاها في مدينتهم فحيته باحترام و قالت له : يا نبي الله قد طالما كنت تسعى وراء ضالتك المنشودة مفتشًا عن سفينتك التي كانت بعيدة عنك وها قد وصلت سفينتك و لم يبق من بد لسفرك عظيم هو حنينك إلى أرض أحلامك و تذكاراتك و مواطن الفائقات من رغباتك و لذلك فإن محبتنا لا تقيدك و حاجتنا إليك لا
المطرة
تمسك بك و لكننا واحدة نسألك قبل أن تفارقنا : أن تخطب فينا و تعطينا من الحق الذي عندك ، ونحن نعطيه لأولادنا و أولادنا لأولادهم و حفدتهم و هكذا يثبت كلامك فينا على مر العصور ففي وحدتك كنت ترقب أيامنا و في يقظتك كنت تصغي إلى بكائنا و ضحكنا في غفلتنا لذلك نضرع إليك أن تكشف مكنوناتنا لذواتنا و تخبرنا بكل ما أظهر لك من أسرار الحياة من المهد إلى اللحد فأجاب قائلا : با أبناء اورفيليس بماذا أحدثكم إن لم أظهر لكم ما يختلج في نفوسكم و تتحرك به ضمائركم حتى في هذه الساعة ؟

المحبة
حينئذ قالت له المطرة : هات لنا خطبة في المحبة فرفع رأسه و نظر إلى الشعب نظرة محبة وحنان فصمتوا جميعهم خاشعين فقال لهم بصوت عظيم : إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها ، و إن كانت مسالكها صعبة متحدرة و إذا ضمتكم جناحيها فأطيعوها ، و إن جرحكم السيف المستور بين ريشها و إذا خاطبتكم المحبة فصدقوها ، و إن عطل صوتها أحلامكم و بددها كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعا صفصفًا لآنه كما أن المحبة تكللكم فهي أيضا تصلبكم ، وكما تعمل على نموكم هكذا تعلمكم و تستأصل الفاسد منكم و كما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس ، هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب و تهزها في سكينة الليل المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة و تدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم و تغربلكم لكي تحرركم من قشوركم و تطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج و تعجنكم بدموعها حتى تلينوا ثم تعدكم لنارها المقدسة لكي تصيروا جبزًا مقدسًا يقرب على مائدة الرب المقدسة كل هذا تصنعه المحبة بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكم فتصبحوا بهذا الادراك جزءًا من قلب الحياة غير أنكم إذا خفتم و قصرتم سعيكم على الطمأنينة و اللذة في المحبة فلأجدر بكم أن تستروا عريكم و تخرجوا من بيدر المحبة إلى العالم البعيد حيثما تضحكون ولكن ليس كل ضحككم ولكن ليس كل ما في مآقيكم من الدموع المحبة لا تعطي إلا نفسها ، ولا تأخذ إلا من نفسها المحبة لا تملك شيئا و لا تريد أن يملكها أحد لأن المحبة مكتفية بالمحبة أما أنت إذا أحبتت فلا تقل : " إن الله في قلبي " بل قل بالأحرى : " أنا في قلب الله " و لا يخطر لك البتة أنك تستطيع أن تتسلط على مسالك المحبة لأن المحبة إن رأت فيك استحقاقًا لنعمتها تتسلط هي على مسالكك و المحبة لا رغبة لها إلا في أن تكمل نفسها و لكن إذا أحببن و كان لا بد من أن تكون لك رغبات خاصة بك فلتكن هذه رغباتك : أن تذوب و تكون كجدول متدفق يشنف آذان الليل بأنغامه أن تخبر الآلام التي في العطف المتناهي أن يجرحك إدراكك الحقيقي للمحبة في حبة قلبك و أن تنزف دماؤك و أنت راض مغتبط أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق فتؤدي واجب الشكر ملتمسا يوم محبة آخر أن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبة أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكرًا : فتنام حينئذ و الصلاة لآجل من أحببت تتردد في قلبك و أنشودة الحمد و الثناء مرتسمة على شفتيك.

الزواج
ثم قالت له المطرة ثانية : وما رأيك في الزواج أيها المعلم ؟ فأجاب قائلًا : قد ولدتم معا و ستظلون معا إلى الأبد و ستكونون معا عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء أجل وستكونون معا حتى في سكون تذمارات الله ولكن فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم احبوا بعضكم بعضا ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود بل لتكن المحبة بحرا متموجا بين شواطئ نفوسكم ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه ولكن لا تشربوا من كأس واحدة أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد غنوا ارقصوا معا وكونوا فرحين ابدا ولكن فليكن كل منكم على حده كما أن واتار القيثارة يقوم كل منها وحده ولكنها جميعا تخرج نغما واحدا ليعط كل منكم قلبه لرفيقه ولكن حذار أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ لأن يد الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم قفوا معا ولكن لا يقرب احدكم من الاخر كثيرا لن عمودي الهيكل يقفان منفصلين و السنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها


العطاء
ثم قال له رجل غني : هات حدثنا عن العطاء فأجاب قائلا: إنك إذا اعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك و لكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءًا من ذاتك لأنه أي شيء هي ثروتك ظ ألبست مادة فانية تخزنها في خزائنك و تحافظ عليها جهدك خوفا من أن تحتاج إليها غدا ؟ و الغد ، ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ فطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة و هو يتبع الحجاج إلى المدينة المقدسة ؟ أو ليس الخوف هو الحاجة هو الحاجة بعينها ؟ أو ليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غلته ؟ من الناس من يعطون قليلًا من الكثير عندهم وهم يعطونه لأجل الشهرة و رغيتهم الخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم و منهم من يملكون قليلًا و يعطونه بأسره ومنهم المؤمنون بالحياة و بسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم و خزائنهم ممتلئة ابدا ومن الناس من يعطونه بفرح و فرحهم مكافأة و منهم من يعطونه بألم و ألمهم معمودية لهم


و هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم و لا يتطلبون فرحا و لا يرغبون في إذاعة فضائلهم هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله و من خلال عيونهم يبتسم على الأرض جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك و أنت تعرف حاجته فإن من يفتح يديه و قلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه و الاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه وهل في ثروتك شي تقدر أن تستبقيه لنفسك ؟ فإن كل ما تملكه اليوم سيفترق ولا شك يوما ما ، ذلك أعط منه الآن ليكون فصل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك وقد طالما سمعتك تقول متبجحًا : إنني أحب أن أعطي و لكن المستحقين فقط فهل نسيت يا صاح أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك و مثلها القطعان في مراعيك ؟ فهي تعطي لكي تحيا لأنها إذا لم تعط عرضت حياتها للتهلكة الحق أقول لك إن الرجل الذي استحق أن يقتبل عطية الحياة و يتمتع بأيامه و لياليه هو مستحق لكل شيء منك و الذي استحق أن يشرب من أوقيانوس الحياة يستحق أن يملأ كأسه من جدولك الصغير لأنه أي صحراء أعظم من الصحراء ذات الجرأة و الجسارة على قبول العطية بما فيها من الفضل و المنة ؟
و أنت من أنت حتى أن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم و يحسروا القناع عن شهامتهم و عزة نفوسهم لكي ترى جدارتهم لعطائك عارية و أنفتهم مجردة عن الحياء ؟ فانظر أولا هل أنت جدير بأن تكون معطاء و ألة عطاء لأن الحياة هي التي تعطي الحياة في حين أنك و أنت الفخور بأن قد صدر العطاء منك لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائك أما أنتم الذين يتناولون العطاء و الإحسان و كلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيدكم نيرًا ثقيل الحمل على رقابكم و رقاب الذين أعطوكم بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه لأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين فإنكم بذلك تظهرون الشك و الريبة في أريحية المحسن الذي أمة الأرض السخية و أبوه الرب الكريم .


الغذاء
و بعد ذلك جاء إليه فندقي شيخ و قال له: هات حدثنا عن المأكل و المشرب فأجاب قائلا: أود لو أنك تقدر أن تعيش على عبير الأرض تكتفي بالنور كنباتات الهواء غير أنك مضطر أن تقتل لتعيش و أن تسرق المولود الصغير من حضن أمه مختطفا حليبها لتبريد ظمأك لذلك فليكن عملك مظهرا من مظاهر العبادة ولتكن مائدتك مذبحا تقرب عليه التقادم التقية الطاهرة من الحقول و السهول ضحية لما هو أكثر منها نقاوة في أعماق الإنسان و إذا ذبحت حيوانا فقل له في قلبك: إن القوة التي أمرت بذبحك ستذبحني نظيرك و عندما تحين ساعتي سأحترق مثلك لأن الشريعة التي أسلمتك إلى يدي ستسلمني إلى يدي من هو أقوى مني وليس دمك ودمي سوى عصارة قد أعدت منذ الأزل غذاء لشجرة السماء
وإذا نهشت تفاحة بأسنانك فقل لها في قلبك: إن بذورك ستعيش في جسدي, والبراعم التي ستخرج منها في الغد ستزهر في قلبي و سيتصاعد عبيرك مع أنفاسي ، وسأفرح معك في جميع الفصول و إذا قطفت العنب من كرومك في أيام الخريف و حملته إلى المعصرة فقل له في قلبك: أنا كرمة مثلك و ستجمع أنماري و تحمل إلى المعصرة و سيضعونني كالخمر الجديدة في زقاق جديدة و عندما تستقي الخمرة في زقاقها أيام الشتاء أنشد في قلبك أنشودة لكل كأس تشربها و ليكن لك من أناشيدك أجمل التذكارات لأيام الخريف و للكرمة و المعصرة

العمل
ثم جاء إليه فلاح وقال له: هات حدثنا عن العمل فأجاب قائلًا: إنكم تشتغلون لكي تجاروا الأرض و نفس الأرض في سيرها لأن الكسول غريب عن فصول الأرض و هائم لا يسير في موكب الحياة السائرة بعظمة و جلال في فضاء اللانهاية إلى غير المتناهي فإذا استغلت فما أنت سوى مزمار تختلج في قلبك مناجاة الأيام فتتحول إلى موسيقى خالدة ومن منكم يود أن يكون قصبة خرساء صماء و جميع ما حولها يترنم معا بأنغام متفقة ؟ قد طالما أخبرتم أن العمل لعنة والشغل نكبة ومصيبة أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءاّ من حلم الأرض البعيد جزءًا خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها و تدنيه من أبعد الأسرار
لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها و تدنيه من أبعد أسرارها ولكن إذا كنتم وأنتم في الآلام تدعون الولادة كآبة و دعامة الجسد لعنة مكتوبة على جباهكم فإنني الحق أقول لكم إنه ما من شيء يستطيع أن يمحو هذه الكتابة و يغسل جباهكم من آثارها سوى سعيكم و جهادكم و قد ورثتم عن جدودكم القول إن الحياة ظلمة فرحتم في عهد مشقتكم ترددون ما قاله قبلكم جدودكم المزعجون فالحق أقول لكم إن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة و الحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة و المعرفة تكون عقيمة سقيمة إن لم يرافقها العمل و العمل يكون باطلًا و بلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة لأنكم إذا اشتغلتم بمحبة فإنما تربطون أنفسكم و أفرادكم بعضها ببعض و يرتبط كل واحد منكم بربه وما هو العمل المقرون بالمحبة ؟ هو أن تحوك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك مفكرًا أن حبيبك سيرتدي ذلك الرداء هو أن تبني البيت بحجارة مقطوعة من مقلع حنانك و إخلاصك مفكرًا أن حبيبك سيقطن في ذلك البيت هو أن تبذر البذور بدقة وعناية و تجمع الحصاد بفرح و لذة كأنك تجمعه لكي يقدم على مائدة حبيبك هو ان تضع في كل عمل من أعمالك نسمة من روحك ، وتثق بأن جميع الأموات الأطهار محيطون بك يراقبون ويتأملون و كثيرًا ما كنت أسمعكم تناجون أنفسكم كأنكم في نوم عميق قائلين : إن الذي يشتغل بنحت الرخام فيوجد مثالًا محسوسًا لنفسه من الحجر الأصم هو أشرف من الفلاح الذي يحرث الأرض و الذي يستعير من قوس قزح ألوانًا يحول بها قطعة من النسيج الحقيرة إلى صورة إنسان هو أفضل من الاسكافي الذي يصنع الأحذية لأقدامنا " ولكني أقول لكم لا في نوم الليل بل في يقظة الظهيرة البالغة إن الريح لا تخاطب السنديانة الجبارة بلهجة أحلى من اللهجة التي تخاطي بها أحقر أعشاب الأرض والعظيم العظيم ذلك الذي يحول هيمنة الريه إلى أنشودة تزيدها محبته حلاوة و عذوبة أجل إن العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة فإذا لم تقدر أن تشتغل بمحبة و كنت متضجرا ملولًا فلأجدر بك أن تترك عملك و تجلي على درجات الهيكل تلتمس صدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينة لأنك إذا خبزت خبزًا و انت لا تجد لك لذة في عملك فإنما أنت تخبز علقمًا لا يشبع سوى نصف مجاعة الإنسان و إذا تذمرت و أنت تعصر عنبك فإن تذمرك يدس لك سمًا في الخمرة المستقطرة من ذلك العصير و إن أنشدت أناشيد الملائكة و لم تحب أن تكون منشدًا فإنما أنت تصم آذان الناس بأنغامك عن الإصغاء إلى أناشيد الليل و النهار

الفرح والترح
ثم قالت له امرأة : هات لنا شيئًا عن الفرح و الترح إن فرحكم هو ترحكم ساخرا... و البئر الواحدة التي تستقون منها ماء ضحككم قد طالما ملئت بسخين دموعكم وهل في الإمكان أن يكون الحال على غير هذا المنوال ؟ فكما أعمل وحش الحزن أنيابه في أجسادكم تضاعف الفرح في اعماق قلوبكم لأنه أليست الكأس التي تحفظ خمرتكم هي نفس الكأس التي أحرقت في أتون الخراف قبل أن بلغت إليكم؟ أم ليست القيثارة التي تزيد طمأنينة أرواحكم هي نفس الخشب الذي قطع بالمدى والفؤوس؟ فإذا فرحتم فتأملوا مليًا في أعماق قلبوكم تجدوا أم ما أحزنكم قبلا يفرحكم الآن و إذا احاطت بكم جيوش الكآبة ببصائركم ثانية إلى أعماق قلوبكم و تأملوا جيدا تروا هنالك بالحقيقة أنكم تبكون لما كنتم تعتقدون أنه غابة مسراتكم على الأرض و يخيل إلي أن فريقًا منكم يقول : " إن الفرح أعظم من الترح " فيعارضه فريق آخر : " كلا ، بل الترح أعظم من الفرح " أما أنا فالحق أقول لكم : انهما توأمان لا ينفصلان يأتيان معًا و يذهبان معًا فإذا جلس احدهما منفردًا إلى مائدتكم فلا يغرب عن أذهانكم أن رفيقه يكون حينئذ مضطجعًا على أسرتكم أجل إنكم بالحقيقة معلقون ككفتي الميزان بين ترحكم وفرحكم و أنتم بينهما متحركون أبدًا و لا تقف حركتكم إلا إذا كنتم فارغين فب أعماقكم فإذا جاء أمين خزائن الحياة يرفعكم لكي يزن ذهبه وفضته فلا ترتفع كفة فرحكم و لا ترجح كفة ترحكم بل تثبتان على حالة واحدة


يتنبع ...

أزهار 22 - 11 - 2009 10:17 PM

المساكن
حينئذ دنا منه بناء وقال له : هات حدثنا عن البيوت
فأجاب وقال :
ابن من خيالك مظلة في الصحراء قبل أن تبني في داخل أسوار المدينة لأنه كما كان لك بيتًا مقبلا في شفق حياتك كذلك للغريب الهائم فيك بيت كبيتك
إن بيتك هو جسدك الأكبر
ينمو في حرارة الشمس وينام في سكينة الليل و كثيرا ما ترافق نومه الأحلام أفلا يحلم بيتك و هل يترك الحلم المدينة و يسير إلى الغابة أم إلى رأس التلة ؟
أواه لو أستطيع أن أجمع بيوتكم بيدي فأبددها في الأحراج و الرياض كما يبذر الزارع في الحقول
أود لو كانت الأودية شوارع لكم و مسالك التلال الخضراء أزفة تطرقها أقدامكم عوضًا عن أزقتكم و شوارعكم القذرة و ياليتكم تنشدون بعضكم بعضا بين الدوالي و الكروم ثم تعودون حاملين عطر الأرض في طيات أثوابكم
و لكن هذه جميعها تمنيات لم تحن ساعتها بعد
لأن آبائكم و جدودكم إذ خانوا عليكم الضياع و الضلال جمعوكم معا لكي تكونوا قريبين من بعض و سبقى هذا الخوف مجمعا لكم زمنا بعد و ستظل أسوار المدينة فاصلة مواقدكم عن حقولكم ولكن إلى حين
بربكم أخبروني يا أبناء اورفيليس ماذا تملكون في هذه البيوت و أي شيء تحتفظون به في داخل هذه الأبواب الموصدة؟
هل عندكم السلام و هو القوة الصامتة التي تظهر ذاتكم الشديدة العزم المستترة في اعماقكم ؟
هل عنكم التذكارات و هي القناطر اللامعة التي تصل قنن الفكر الانساني بعضها ببعض ؟
هل عندكم الجمال الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات الخشب والحجارة إلى الجبل المقدس ؟
بربكم اخبروني هل عندكم كل هذا في بيوتكم ؟
أم عندكم الرفاهية فقط و التحرق للرفاهية الممزوج بالطمع الرفاهية التي تدخل البيت ضيفا ثم لا تلبث أن تصير مضيفا فسيدًا عاتيًا عنيفًا
ثم تتحول إلى رائض جبار يتقلد السوط بيمينه و الكلاب بيساره متخذا ورغباتكم الفضلى ألعوبة يتلهى بها
ومع أن بنان هذه الرفاهية حريري الملمس فإن قلبها حديدي صلد فهي تهدىء من حدتكم لكي تناموا ثم تقف أمام أسرتكم هازئة بكم و بجلال أجسادكم
تضحك من حواسكم المدركة و تطرح بها بين الأشواك كأنها أوعية سهلة الانكسار لأن التحرق للرفاهية ينحر أهواء النفس في كبدها فيرديها قتيلة ثم يسير في جنازتها فاغرا شدقيه مرغيًا مزبدًا
أما انتم يا أبناء الفضاء العائيشين في الراحة والنعيم غير المستريحين فإنكم لن تؤخذوا بالأشراك ولن يقدر رائض على ترويضكم لأن بيتكم لن يكون مرساة و ثكنة سيكون سارية
كلا و لن يكون غشاء براقا تغطى به الجراح بل جفنا تحفظ به العين و انتم لن تطووا أجنحتكم لكي تستطيعوا أن تدخلوا من الأبواب و لن تحنوا رؤوسكم لئلا تنطح السقف كلا و لن تخشى أن تتنفسوا خوفا من أن تقوض أساسات الجدران و تسقط على الأرض
أجل و لن تقطنوا في القبور التي بناها أبناء الموت لأبناء الحياة
ومع كل ما يزين مناولكم من الجلال و الجمال فإنها لن تستطيع أن تحتفظ بسركم أو أن تؤوي حنينكم لأن غير المحدود فيكم يقطن من منزل السماء الذي بوابته سحابة الصباح و نوافذه سكون الليل و أناشيده
الثياب
ثم قال له الحائك : هات حدثنا عن الثياب
فأجاب قائلًا :
إن ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم ولكنها لا تستر غير الجميل و مع أنكم تنشدون بثيابكم حرية التستر و الانفراد ، فإنها تفسدكم و تستعبدكم
ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس و الريح بثياب بشرتكم عوضًا عن ثياب مصانعكم
لأن أنفاس الحياة في أشعة الشمس ، ويد الحياة تسير مع مجاري الرياح
يقول بعضكم : " إن الريح الشمالية دون غيرها قد حاكت الثياب التي نلبسها."
أنا أقول لكم : " نعم إن الريح الشمالية قد فعلت ذلك ، ولكن العار كان نولًا لها ، و لدونة العضلات كانت لها خيطًا .
وعندما فرغت من عملها ضحكت منكم و هي تعصف في قلب الغاب
ولكن لا يغرب عن اذهانكم أن الحشمة هي ترس منيع متين للوقاية من عيون المدنسين
فإذا زال المدنسون من الجود ، أفلا تصير الحشمة قيدًا للفكر و تلويثًا له في حمأة العبودية ؟
لذلك ضعوا نصب عيونكم أن الأرض تبتهج بملامسة أقدامكم العاية . و الرياح تتوق إلى ملاعبة شعوركم المسترسلة.


البيع و الشراء
ثم دنا منه تاجر و قال له : هات حدثنا عن البيع والشراء
فأجاب وقال : إن الأرض تقدم لكم ثمارها ، ولو عرفتم كيف تملئون أيديكم من خيراتها لما خبرتم طعم الحاجة في حياتكم.
لأنكم بغير مبادلة عطايا الأرض لن تجدوا وفرًا من الرزق ولن يشبع جشعكم
فيجدر بكم أن تتموا هذه المقايضة بروح المحبة و العدالة و إلا فإنها تؤدي بالبعض منكم إلى الشراهة و بغيرهم إلى الطمع و المجاعة
و إذا ذهبتم إلى ساحة المدينة أيها الدائبون في خدمة البحر و الحقول و الكروم فاجتمعوا بالحاكة و الخزافين و جامعي الحنوط و الطيوب
و اضرعوا في تلك الساعة إلى الروح المتسلطة على الأرض أن تحل عليكم وتبارك مقاييسكم وموازينكم التي تعينون بها مقدار ما تجري عليه مقايضاتكم
و لا تأذنوا لذوي الأيدي العقيمة من ذوي البطالة أن يشتركوا في معاملاتكم لأنه لا شيء لهم يتاجرون به سوى أقوالهم التي يبيعونها لكم بأعمالكم
بل قولوا لأمثال هؤلاء:
" تعالوا معنا إلى الحقل ، أو اذهبوا مع اولادنا إلى البحر و ألقوا هناك شباككم ، لأن الأرض و البحر يجودان عليكم ،متى عملتم ، كما يجودان علينا "
و إن جائكم المغنون و الراقصون والعازفون ، فاشتروا من عطاياهم و لاترفضوهم ،
لأنهم يجمعون الأثمار و العطور نظيركم ومع أن ما يقدمونه لكم مصنوع من مادة الأحلام ، فإنه أجمل كساء و أفضل غذاء لنفوسكم.
و قبل أن تبرحوا ساحة المدينة انظروا ألا ينصرف أحد منها فارغ اليدين
لأن الروح السيدة في الأرض لا تنام بطمأنينة وسلام على تموجات الرياح حتى تشاهد بعينيها أن الصغير فيكم قد نال كالكبير بينكم كل ما هو في حاجة إليه .

الجرائم و العقوبات
حينئذ وقف أحد قضاة المدينة وقال له : هات لنا خطبة في الجرائم والعقوبات
فأجاب و قال : عندما تسير أرواحكم هائمة فوق الرياح و تمسون منفردين ليس لكم طوارئ السوء ، حينئذ تقترفون الاثم ضد غيركم و ضد أنفسكم
و لأجل ذلك الاثم الذي تقترفونه يجب أن تقرعوا برهة و تنتظروا على بوابة القدوس
فإن ذاتكم الإلهية بحر عظيم
كانت نقية منذ الازل و ستظل نقية إلى آخر الدهور
وهي كالأثير لا ترفع إلا ذوي الاجنحة
أجل إن ذاتكم الالهية كالشمس ، لا تعرف طرق المناجذ *( جمع خلد من غير لفظه ) و لا تعبأ بأوكار الأفاعي
غير أنها لا تقطن و حيدة في كيانكم
لأن كثيرًا منكم لا يزال بشرًا و كثيرًا غيره لم يصر بشرًا بعد بل هو مسخ لا صورة له يسير غافلًا في الضباب وهو ينشد عهد يقظته
فلا أود أن احدثكم الآن إلا عن هذا الانسان فيكم ، لأن هذا الانسان دون ذاتكم الإلهية و دون المسخ الهائم في الضباب هو الذي يعرف الجرائم والعقوبات على الجرائم في كيانكم
قد طالما سمعتكم تتخاطبون فيما بينكم عمن يقترف اثما كأنه ليس منكم بل غريب عنكم و دخيل فيما بينكم
ولكنني الحق أقول لكم كما أن القديس و البار لا يستطيعان أن يتساميا فوق الذات الرفية التي في كل منكم
هكذا الشرير و الضعيف لا يستطيعان أن ينحدرا إلى أدنى من الذات الدنيئة التي في كل واحد منكم
و كما أن ورقة الشجرة الصغيرة لا تستطيع أن تحوّل لونها من الخضرة إلى الصفرة إلا بإرادة الشجرة و معرفتها الكامنة في أعماقها
هكذا لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف إثما بدون إرداتكم الخفية و معرفتكم التي في قلوبكم
فإنكم تسيرون معًا في موكب واحد إلى ذاتكم الإلهية
أنتم الطريق و أنتم المطرقون
فإذا عثر أحد منكم فإنما تكون عثرته عبرة للقادمين وراءه فيتجنبون الحجر الذي عثر به
أجل و تكون عثرته توبيخًا للذين يسيرون أمامه بأقدام سريعة ثابته لأنهم لم ينقلوا حجر العثار من طريقه
و إليكم يا أبناء اورفيليس هذه الكلمة التي و إن جلت ثقيلة على قلوبكم ، فهي القيقة بعينها :
إن القتيل ليس بريئًا من جريمة القتل
وليس المسروق بلا لوم في سرقته
لا يستطيع البار أن يتبرأ من أعمال الشرير و الطاهر النقي اليدين من بريء الذمة من قذارة المدنسين

كثيرا ما يذهب المجرم ضحية لمن وقع عليه جرمه ، كما يغلب أن يحمل المحكوم عليه الاثقال التي كان يجب أ، يحملها الأبرياء غير المحكومين
لذلك لا تستطيعون أن تضعوا حدًا يفصل بين الأشرار و الصالحين أو الابرياء و المذنبين لأنهم يقفون معًا أمام وجه الشمس كما أن الخيط الأبيض و الخيط الأسود ينسجمان معًا نول واحد
فإذا انقطع الخيط الأسود ينظر الحائك إلى النسيج بأسره ثم يرجع إلى نوله يفحصه و ينظفه
لذلك إذا جاء أحدكم بالزوجة الخائنة إلى المحاكمة فليزن أولا قلب زوجها بالموازين و ليقس نفسه بالمقاييس
و كل من شاء ان يلطم المجرم بيمينه يجدر به اولا أن أن ينظر ببصيرة ذهنه إلى روح من أوقع الجرم عليه
و لإ، رغب أد منكم في أن يضع الفأس على أصل الشجرة الشريرة باسم العدالة فلينظر اولًا إلى أعماق جذورها
و هو لا شك واجد أن جذور الشجرة الشيرة و جذور الصالحة و غير المثمرة كلها متشابكة معًا في قلب الأرض الصامت
أما أنتم أيها القضاة الذين يريدون أن يكونوا أبرارا أي نوع من الأحكام تصدرون على الرجل الأمين بجسده السارق بروحه ؟
أم أي عقاب تنزلون بذلك الذي يقتل الجسد مرة ولكن الناس يقتلون روحه ألف مرة ؟
و كيف تطاردون الرجل الذي مه أنه خداع ظالم بأعماله فهو موجع القلب ، ذليل ، مهان بروحه ؟
أجل ، كيف تستطيعون أن تعاقبوا اللذين لهم توبيخ ضمائرهم وهو أعظم من جرائمهم أكبر قصاص على الأرض ؟
أليس توبيخ الضمير هو نفسه العدالة التي تتوخاها الشريعة التي تتظاهرون بخدمتها؟
فأنتم لا تستطيعون أن تسكبوا بلسم توبيخ الضمير في قلوب الأبراء كما أنكم لا تقدرون أن تنزعوه من قلوب الأشقياء
فهو يأتي لذاته في ساعة من الليل لا ننتظرها ، داعيا الناس إلى النهوض من غفلتهم و التأمل بحياتهم وما فيها من التداعيات و المخالفات
و أنتم أيها الراغبون في سبر غور العدالة كيف تقدرون أن تدركوا كنهها إن لم تنظروا إلى جميع الأعمال بعين اليقظة في النور الكامل؟
في مثل هذا النور تعرفون أن الرجل المنتصب و الرجل الساقط على الأرض هما بالحقيقة رجل واحد في الشفق بين الليل ذاته الممسوخة و نهار ذاته الإلهية
و أن حجر الزاوية في الهيكل ليس بأعظم من الحجر الذي في أسفل أساساته

الشرائع
ثم قال له مشرع : وماذا تعتقد بشرائعنا أيها المعلم
فأجاب قائلًا :
إنكم تستلذون أن تضعوا شرائع لأنفسكم ، بيد أنكم تستلذون أكثر أن تكسروها و تتعدوا فرائضها
لذلك أتم كالأولاد الذين يلعبون على الشاطئ يبنون أبراج عظيمة من الرمل بصبر وثبات ، ثم لا يلبثون أن يهدوموها ضاحكين صاخبين
فعندما تبنون ابراجكم الرملية يأتي البحر برمال جديدة إلى الشاطئ و عندما تهدمون أبراجكم يضحك البحر منكم في نفسه لأن البحر يضحك من الأبرياء ابدًا
ولكن أقول لكم في من ليست الحياة بحرًا في عقيدتهم بل ليست الشرائع التي تسنها حكمة الانسان البالغة أبراجا من الرمال فحسب
أولئك الذين يحسبون أن الحياة صخرة صلدة و أن الشريعة إزميل حاد يأخذونه بأيديهم لكي ينحتوا هذه الصخرة على صورتهم و مثالهم وفي الثور الذي يحب نيره و يتهم الوعل و الإبل و الظبي أنها حيوانات متمردة ناشزة ؟
وفي الأفعى العتيقة الأيام التي لا تستطيع أن تخلع جلدها و لذلك تنبري متهمة جميع الحيوانات بالعري وقلة الحياء ؟
وفي ذلك الذي يسبق غيره إلى وليمة العرس و عندما يملأ جوفه من الأطعمة و يبلغ حده من النهم و اشراهة يترك الوليمى و يذهب في طريقه قائلًا إن جميع الولائم مخالفة للناموس و جميع الذين يجتمعون إليها متعدّو الشريعة ؟
ماذا أقول في امثال هؤلاء؟ انهم كجميع الناس يقفون في أشعة الشمس و لكنهم يولون الشمس ظهورهم
فهم لذك لا ينظرون سوى ظلالهم و ظلالهم هي عند التحقيق شرائعهم المقدسة
و هل اعترافاتهم بالشريعة سوى انهم ينحون و يطأطئون رؤوسهم لكي يستقصوا ظلالهم على الأرض ؟
أما أنتم الذين يمشون وهم يحدقون إلى الشمس بأجفان غير مرتعشة فهل في الأرض من صورة تستطيع أن تستوقفكم هنيهة ؟
و أنتم المسافرون مع الريح أية صفحة من الصفحات الدالة على مجاري الرياح تقدر أن تقودكم في مسالككم ؟
وما هي الشريعة البشرية التي تفيدكم إذا كنتم لم تحطموا نيركم على باب سجن من سجون الانسان؟
و أية شرائع ترهبون إذا كنتم ترقصون ولكنكم لا تعثرون بقيد من قيوم العالم الحديدية ؟
ومن هو الرجل الذي يستطيع أن يأتي بكم إلى المحاكمة إذا مزقتم أثوابكم و لكنكم لم تضعوها في طريق أحد الناس ؟
أجل يا أبناء اورفليس إنكم تستطيعون أن تخمدوا صوت الطبل و تحلوا أوتار القيثارة ولكن مَن مِن أبناء الانسان يستطيع أن يمنع قبرة السماء عن الغناء ؟

الحرية
ثم قال له خطيب : هات حدثنا عن الحرية فأجاب قائلًا : قد طالما رأيتكم ساجدين على ركبكم أمام أبواب المدينة و إلى جوانب المواقد تعبدون حريتكم
و أنتم بذلك أشبه بالعبيد الذين يتذللون أمام سيدهم العسوف الجبار يمدحونه و ينشدون له وهو يعمل السيف في رقابهم
نعم ، وفي غابة الهيكل وظل القلعة كثيرًا ما رأيت أشدكم حرية حمل حريته كنير ثقيل لعنقه و غل متين ليديه و رجليه
رأيت كل ذلك فذاب قلبي في اعماق صدري و نزفت دماؤه لأنكم لا تستطيعون أن تصيروا أحرارًا حتى تتحول رغبتكم في السعي وراء الحرية إلى سلاح تتسلحون يه و تنقطعوا عن التحدث بالحرية كغايتكم و مهجتكم
إنكم تصيرون أحرار بالحقيقة إذا لم تكن أيامكم بلا عمل تعملونه و لياليكم بلا حاجة تفكرون بها أو كآبة تتألمون ذكراها
بل تكونون أحرارًا عندما تنطق هموم الحياة و أعمالها أحقاءكم بمنطقة الجاد و العمل و تثقل كاهلكم بالمصاعب و المصائب و لكنكم تنهضون من تحت أثقالها غزاة طليقين
لأنكم كيف تستطيعون أن ترتفعوا إلى ما فوق أيامكم و لياليكم إذا لم تحطموا السلاسل التي أنتم أنفسكم في فجر إدراككم قيدتم بها ساعة ظهيرتكم الحرة ؟
الا إن ما تسمونه حرية إنما هو بالحقيقة أشد هذه السلاسل قوة و إن كانت حلقاته تلمع في نور الشمس و تخطف أبصاركم
و ماذا يجدر بكم طرحه عنكم لكي تصيروا أحرارًا سوى كسر صغيرة رثة في اذنكم البالية ؟
فإذا كانت هذه الكسر شريعة جائرة وجب نسخها لأنها شريعة سطرتها يمينكم و حفرتها على جبينكم
بيد أنكم لا تستطيعون أن تمحوها عن جباهكم بإحراق كتب الشريعة التي في دواوينكم كلا و لا يتم لكم ذلك بغسل جباه قضاتكم ولو سكبتم عليها كل ما في البحار من مياه
و إن كانت طاغية تودون خلعه عن عرشه فانظروا أولًا إن كان عرشه القائم في اعماقكم قد تهدم
لأنه كيف يستطيع طاغية أن يحكم الاحرار المفتخرين مالم يكن الطغيان أساسا لحريتهم و العار قاعدة لكبريائهم؟
و إن كانت همًا ترغبون في التخلص منه فإن ذلك الهم إنما أنتم اخترتموه ولم يضعه أحد عليكم
و إن كانت خوفًا تريدون طرده عنكم فإن جرثومة هذا الخوف مغروسة في صميم قلوبكم وليست في يدي من تخافون
الحق أقول لكم إن جميع الأشياء تتحرك في كيانكم متعانقة على الدوام عناقًا نصفيًا : كل ما تشتهون و ما تخافون وما تتعشقون وما تستكرهون وما تسعون وراءه وما تهربون منه
جميع هذه الرغبات تتحرك فيكم كالأنوار و الظلال ، فإذا اضمحل الظل ولم يبق له من أثر أمسى النور المتلألئ ظلًا لنور آخر سواه
وهكذا الحال في حريتكم إذا حلت قيودها أمست هي نفسها قيدًا لحرية أعظم منها .

العقل و العاطفة
ثم طلبت إليه العرافة ثانية قائلة : هات حدثنا عن العقل و الهوى
فأجاب قائلًا : كثيرا ما تكون نفوسكم ميدانًا تسير فيه عقولكم ومدارككم حربا عوانًا على اهوائكم وشهواتكم و إنني أود أم أكون صانع سلام في نفوسكم
فأحول ما فيكم من تنافر و خصام إلى وحدة و سلام و لكن أنى يكون لي ذلك إذا لم تصيروا أنتم صانعي سلام لنفوسكم ومحبين جميع عناصركم على السواء
إن العقل و الهوى هما سكان* ( * دفة السفينة ) النفس و شراعها وهي سائرة في بحر العالم فإذا انكسر السكان أو تمزق الشراع فإن سفينة النفس لا تستطيع أن تتابع سيرها بل ترغم على ملاطمة الأمواج يمنة و يسرة حتى تقذف بكم إلى مكان أمين تحتفطون به في وسط البحر
لأن العقل اذا استقل بالسلطان على الجسد قيد أهواءه و لكن الاهواء إذا لم يرافقها العقل كانت لهيبًا يتأجج ليفني نفسه
فاجعل نفسك تسمو بعقلك إلى مستوى أهوائك و حينئذ ترى منها ما يطربك و يشرح لك صدرك
وليكن لك من عقلك دليل و قائد لأهوائك لكي تعيش أهواؤك في كل يوم بعد موتها و تنهض كالعنقاء متسامية فوق رمادها
و أرغب إليكم أن تعنوا بالعقل و الهوى عنايتكم بطيفين عزيزين عليكم فإنكم ولا شك لا تكرمون الواحد أكثر من الثاني لأن الذي يعتني بالواحد و يهمل الآخر يخسر محبة الاثنين و ثقتهما
و إذا جلستم في ظلال الحور الوارفة بين التلال الجميلة تشاطرون الحقول و المروج البعيدة سلامها و سكينتها و صفائها فقولوا حينئذ في أعماق قلوبكم متهيبين خاشعين : إن الله يتحرك في الاهواء
وما دمتم نسمة من روح الله وورقة في حرجه فأنتم أيضا يجب أن تستريحوا في العقل و تتحركوا في الأهواء


الألم
ثم نهضت من بين الجمع امرأة و قالت له : هات حدثنا عن الألم
فأجاب و قال : إن ما تشعرون به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلف إدراككم
و كما أن القشرة الصلدة التي تحجب الثمرة يجب أ، تتحطم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس
هكذا أنتم أيضا يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة لأنكم لو استطعتم أن تعيروا عجائب حياتكم اليومية حقها من التأمل و الدهشة لما كنتم ترون آلامكم أقل غرابة من أفراحكم
بل كنتم تقبلون فصول قلوبكم كما قد قبلتم في غابر حياتكم الفصول التي مرت في حقولكم
و كنتم ترقبون و تتأملون بهدوء و سكون شتاء أحزانكم و آلامكم
أنتم مخيرون في الكثير من آلامكم
و هذا الكثير من آلامكم هو الجرعة الشديدة المرارة التي بواسطتها يشفي الطبيب الحكيم الساهر في أعماقكم أسقام نفوسكم المريضة
لذلك آمنوا بطبيب نفوسكم ، وثقوا بما يصفه لكم من الدواء الشافي و تناولوا جرعته بسكينة و طمأنينة
لأن يمينه و إن بدت لكم ثقيلة قاسية فهي مقودة بيمين غير المنظور اللطيفة و الكأس التي يقدمها إليكم و إن أحرقت شفاهكم فهي مصنوعة من الطين الذي جلبته يدا الفخاري الأزلي بدموعه المقدسة.

معرفة النفس
ثم قال له رجل : هات حدثنا عن معرفة النفس فأجاب قائلًا : إن قلوبكم تعرف في السكينة أسرار الأيام و الليالي ، ولكن آذانكم تتشوق لسماع صوت هذه المعرفة الهابطة على قلوبكم غير أنكم تودون لو تعرفون بالألفاظ و العبارات ما تعرفونه بالأفكار و التأملات
و تتوقون إلى أ، تلمسوا بأصابعكم جسد أحلامكم العاري
وحسن أنكم تتوقون إلى جميع ذلك فإن الينبوع الكامن في أعماق نفوسكم سينفجر يوما ما و يجري منحدرًا إلى البحر و الكنز المطمور في أعماقكم غير المتناهية سينقب في ساعة لا تعلمونها و تفتح أبوابه أمام عيونكم
ولكن حذار أن تأخذوا معكم موازينكم لكي تزنوا بها كنزكم غير المعروف
كلا ، و لا تسبروا غور معرفتكم بقياس محدود أو حبل مشدود لأن الذات بحر ولا وزن ولا قياس له
أجل ولا تقل في ذاتك : " قد وجدت الحق " بل قل بالأحرى : " قد وجدت حقًا "
و لا تقل : " قد وجدت طريق النفس " بل قل بالأولى : " قد رأيت النفس تمشي على طريقي "
لأن النفس تمشي على جميع المسالك و الطرق
النفس لا تمشي على حبل أو خيط كلاّ ولا هي تنمو كالقصبة ، النفس تطوي ذاتها كالبشنين ( نبات يقوم على ساق لا ورق له ) ذي البتلات التي لا تحصى عديدها.


منقول


الساعة الآن 03:29 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى