منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   الشعر والأدب العالمي المترجم (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=127)
-   -   كتاب : الأخوة الزائفة - جاك تنيّ (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=3877)

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:31 AM

كتاب : الأخوة الزائفة - جاك تنيّ
 
جاك تنيّ
عضو مجلس الشيوخ الأمريكي
الأخوة الزائفة
القصة المذهلة للمكائد والديبلوماسية الخبيثة
لإخضاع البشرية والسيطرة عليها...
ترجمة : أحمد اليازوري
مقدمة المترجم
كثيرة هي الكتب التي نشرت عن الصهيونية ونشاطها العالمي ومؤامراتها ضد مختلف الدول والبشرية بشكل عام.. ولكن هذا الكتاب فريد من نوعه، فكاتبه أمريكي نال مركزاً سياسياً مرموقاً، دونه بعد دراسة دقيقة وتحريات واسعة عبر سنوات طويلة. إنه (جاك تني)، عضو مجلس شيوخ ولاية لوس أنجلوس سابقاً، ورئيس لجنة شكلت لمهمة خاصة، قدم كتابه قائلاً:
(إن هذا الكتاب ليس إلا صرخة لأبناء الولايات المتحدة والغرب والعالم أجمع، يحذرهم من الصهيونية التي تسعى للسيطرة على البلاد وتغيير معالمها، وتدمير الأمم والقضاء على كافة الأديان..)
(إنها القوى الصهيونية الخفية التي ورطت أمريكا في الحروب العالمية والحروب الفرعية الأخرى !! والقوى الصهيونية هي التي ستكون السبب في حرب عالمية ثالثة لإخضاع الدول العربية لإسرائيل وجعلها دويلات قزمة تدور في فلكها).
إنها قصة الصهيونية واليهود عبر التاريخ، ونشاطاتهم ومنظماتهم العالمية والمحلية، والأدوار التي لعبوها في إثارة الفتن والحروب ونشر المبادئ الهدامة، ودخول كل الميادين وتوجيه الصراعات من خلف الستائر، وكانت حكمتهم تقول (السيطرة على الملك أفضل من الجلوس على العرش).
وتعود قصة هذا الكتاب إلى سنة 1953 عندما أحست حكومة ولاية كاليفورنيا بأمريكا أن نشاطات غريبة وسرية وقوى خفية تسيطر على اقتصاد الولاية والنشاطات الحيوية فيها، فأوكلت إلى (جاك تني) وعدد من زملائه مهمة جمع المعلومات وتقصي الحقائق. وكان المؤلف أثناء بحثه يتلقى التهديدات بالموت ومضايقات سافرة وصلت إلى حد التلصص على هاتفه وشن حملات عليه في الصحافة.. ولكنه واصل البحث والتقصي، وكانت التقارير تجمع والمعلومات تتجمع، ولكنها كانت تتعرض للسرقة والحرق، لكن المؤلف ثبت حتى تجمعت كل المعلومات، وما أن أوشك على تقديم التقرير الضخم للحكومة حتى اختفى كل شيء. لكنه دون ملخصاً لذلك في كتاب ما كاد يخرج من المطبعة حتى اختفى من السوق.
فقد أحرقت الصهيونية والأجهزة الحليفة لها في العالم كل نسخ هذا الكتاب عندما صدر في الولايات المتحدة، ولم تبق منه إلا نسخ أقل من عدد أصابع اليد، منها هذه النسخة والتي كان للأستاذ (الصالحين نتفه) الجهود الموفقة في الوصول إليها عن طريق صديق للمؤلف نفسه.. وقد قمت بترجمته على حلقات في صحيفة (الفاتح) الليبية، ثم أعدت ترجمته للنشر إيماناً بأن من الواجب أن يوزع على نطاق عربي وعالمي.
يتابع المؤلف في فصول الكتاب المتتالية تحليل الشخصية اليهودية من خلال التلمود، كتابهم المقدس المليء بالخرافات والحقد على كل ما هو غير يهودي، والعداء لكل الشعوب الأخرى.
ويروي قصة تأسيس الصهيونية على يدي هرتزل، ويفصل في عرض وتقصي النفوذ المالي اليهودي في الغرب على أيدي أسرة آل روتشيلد ودور اليهود وبعض أفراد هذه الأسرة في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكيف تحالفوا مع النازية في بداية الثانية، ثم ميلهم الواضح إلى الحلفاء عندما أدركوا رجحان كفتهم، ويبين كيف دفعوا (الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية ضد الألمان، تماماً كما حدث سنة 1917، ولو لم تتدخل الولايات المتحدة لما كان الصهاينة يحتلون اليوم أراضي العرب الفلسطينيين).
ويكشف (تني) دور يهود روسيا من الحركة الصهيونية العالمية، ويعود مع التاريخ إلى (يهود خزر) الذين اعتنقوا اليهودية في نهاية القرن الثامن عشر وتعصبوا لها كما لم يتعصب لها قوم آخر من اليهود.. ومنهم في روسيا، وعلى أيديهم قامت الثورة الشيوعية، وقادوا هم مظاهرات الخراب والدمار، وعندما افتلتت زعامة الكرملين من أيديهم هاجر الكثير منهم إلى الولايات المتحدة حاملين معهم نفس المبادئ والتعصب العجيب، وعاشوا فيها قوماً داخل أحياء (الغيتو) مع العمل في نفس الوقت على التخريب داخل المجتمع الأمريكي والسيطرة على اليهود، وعلى الكثير من أوجه الحياة فيها. ويعري المؤلف النشاطات السرية الصهيونية هناك وتنظيماتهم المتعددة العاملة تحت ستار محاربة معاداة السامية والافتراء، ودورهم في السيطرة على الإعلام الأمريكي، وخاصة الإذاعات ودور النشر، وتوجيه السياسة الأمريكية ومهازل انتخابات الرئاسة.. ثم يبين وسائل الصهيونية في السيطرة على اليهود الأمريكيين وابتزاز المال ونشر الرعب بينهم وإيهامهم أن الأشباح تطاردهم ولا سبيل لهم إلا التضامن مع المؤسسات اليهودية.
ويتحدث المؤلف عن مأساة (اغتصاب الأرض المقدسة)، وأساليب اليهود الإرهابية هناك، وكيف لعبت أمريكا وبريطانيا الدور الأكبر في قيام إسرائيل، وكيف كتب اليهود نص وعد بلفور ومن أوصله إلى الرئيس الأمريكي ليمليه على حكومة (صاحبة الجلالة) البريطانية.
وهناك حقيقة تخفى عن معظم الناس، وهي أن سنة 1897 شهدت مولد منظمتين يهوديتين الأولى: (الجمعية الاشتراكية اليهودية) لتدمير الحكومات والأديان والسيطرة على العالم. والثانية (المنظمة الصهيونية العالمية) للاستيلاء على فلسطين. ويبين المؤلف كيف أقام اليهود النظام الرأسمالي الربوي ودعموه في الغرب، وقادوا الثورة الشيوعية في الشرق، وذلك كله للسيطرة على العالم ومد أخطبوطهم في كل مكان.
وإذا كان المؤلف يؤكد على الصلة بين الشيوعية والصهيونية فهذا أمر واضح. وإذا كانت الصهيونية وإسرائيل حليفة للغرب ولأمريكا بالذات، فلأن مصالحها تتحقق بذلك التحالف. وإذا كان هناك عداء يبدو بين إسرائيل والكتلة الشيوعية، فلأن المصالح تباعدت، ولكن تبقى الحقيقة الكبرى، وهي أن الصهيونية تتحالف مع كل شيطان أينما كان، وتسير حيث مصلحتها ومصلحة اليهود في كل مكان، وفي نفس الوقت تبقى التنظيمات اليهودية منتشرة في كل مكان، ويظل لها نفوذ في الشرق والغرب لا ينكر.
إن المطامع الصهيونية لا تقف عند حد ولا تقنع بحيز ولا مكسب محدود.. وإذا بدا للبعض أن إسرائيل ستقنع بجزء من فلسطين والأرض العربية وأنها مستعدة للتعايش مع العرب وتريد السلام، فإن ذلك سراب خادع.. فاليهود مازالوا تحت سيطرة أحفاد يهود خزر، ومازالوا يحملون في قلوبهم عبارة التوراة (شلت يميني إن نسيتك يا أروشليم). ويردد رئيس وزرائهم اليوم، بعد توقيع اتفاقيات (كامب ديفيد): (شلت يميني إن تخليت عنك يا أورشليم).
أحمد اليازوري
سبتمبر 1978
المؤلف
مؤلف هذا الكتاب هو (جاك ب. تني)، ولد سنة 1898 في ميسوري بالولايات المتحدة. وقد انتقل مع والده إلى لوس أنجلوس، وخدم في القوات الأمريكية بفرنسا ونال وسام الشرف سنة 1919.
كان في مستهل شبابه يميل إلى الموسيقى والبيانو بشكل خاص حتى برع فيه، ولكنه سرعان ما هجر الموسيقى وأصبح مهندساً معمارياً، غير أنه كان أصلاً يميل إلى التاريخ، ودرس القانون وأصبح أستاذاً فيه، ثم دخل مهنة المحاماة حتى وصل إلى المحكمة الأمريكية العليا سنة 1945.
ولما كان ذا شخصية لامعة، تحررياً في أفكاره السياسية، فقد كان هدفاً للقوى السرية العاملة على تدمير حركة العمال وحكومة الولايات المتحدة. ولكنه رفض الخضوع، فكان أن هزم في كل محاولات الترشح لمراكز قيادية في النقابات. وكانت تلك التجربة هي التي وضعته وجهاً إلى وجه مع الحركة السرية التآمرية، وظل ثمانية عشر عاماً يدرس ويبحث ويتحرى حتى توصل إلى ما توصل إليه عن القوى الصهيونية الخفية التي تجتاح الولايات المتحدة وتتحكم فيها.. ثم قضى ثمانية عشر عاماً أخرى في الحياة الوظيفية والخدمة العامة تأكد له فيها ما توصل إليه سابقاً.
في سنة 1936 انتخب في المجلس التشريعي بولاية كاليفورنيا حيث استمر لمدة ست سنوات. وفي سنة 1942 انتخب ممثلاً لمقاطعة لوس أنجلوس في مجلس شيوخ الولاية وظل حتى هزم سنة 1954. وبعدها تولى جمع مادة هذا الكتاب مع اللجنة المكلفة.. وعانى في ذلك ما عاناه حتى كانت محاولة قتله، لكنه نجا جزئياً إذ ظل يعاني من الشلل.. وفي الستينات ظهر هذا المؤلف لتطويه بسرعة الأيدي الخبيثة...

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:32 AM

مقدمة المؤلف
لقد أنعم الخالق على الإنسان بقوة العقل والتعليل، وحباه القدرة على تحقيق إرادته حسبما يمليه عقله وضميره.. هذا الإنسان يتمتع ساعة مولده بشعور غريزي للمحافظة على بقائه، ويمتد ذلك الشعور للمحافظة على أسرته وعشيرته ووطنه. ولا تستطيع إلا أعتى المؤثرات الشريرة طمس هذه المواهب الإلهية، ومن المشكوك فيه أن تقدر كل القوى الخبيثة على فعل ذلك والاستمرار فيه زمناً طويلاً. إن الطفل سرعان ما يتعلم أن النار تحرق، ولا بد من بذل جهد كبير لإقناعه بعكس ذلك، طالما ظل يحمل آثار حروق تجاربه الأولى. غير أن الجنس البشري، لسوء الحظ، لا يحتفظ بآثار جروح وحروق التجارب والدروس المستقاة من التاريخ، ويظل كل جيل يتعرض للمعاناة من الحروق القديمة المتكررة.
والواقع أن التاريخ يعلم مختلف الشعوب دروساً مختلفة عن ظرف واحد وواقع متكرر واحد. والذين ينشدون القوة عن طريق السيطرة على الأمم يتعلمون من أخطاء الذين حاولوا قبلهم وفشلوا في محاولاتهم، فينتبهون للأخطاء ويتجنبون تكرارها. أما الذين لا يريدون لأنفسهم الاضطهاد والاستغلال فإن بوسعهم أن يتعلموا أساليب من قاوموا الاضطهاد والاستغلال ونجحوا، وتطبيق ذلك في محاولاتهم للتحرر والانعتاق.
وبينما يتواصل امتداد التاريخ في مشهد شامل متكامل الفصول والأحداث، يتضح فشل المصابين بجنون العظمة، لأن الأمة التي يريدون استعبادها تستطيع اللجوء إلى سيوفها وقواتها، لأنها عرفت كيف ترد الضربة. ومع ذلك فالأمة التي تهزم لا تخضع للعبودية لأنها تعرف الحرية وتتذكر حلو طعمها، وتثور عندما تواتيها الفرصة، والفرصة لا شك تأتي دائماً.
إذن، ما الدرس الذي يستفيده الذين يريدون السيطرة في يومنا هذا ؟ هل هناك طريقة جديدة ومختلفة يمكن بها إخضاع الناس ؟
إن الصراع اليوم يتميز بأنه يهدف إلى السيطرة على عقول الناس وعواطفهم. فوسائل الدعاية العالمية تخضع لتوجيه الذين يرمون إلى تسيير النخبة العالمية وتوجيهها، وتستخدم في ذلك الثورة والإرهاب بشكل مفرط. لذا نجد السياسي الخانع ينفذ ما يمليه عليه أسياده الذين يستطيعون رفعه أو دق عنقه كما شاءوا. أما الفاشلون والمخيبة آمالهم والمتمردون والتائهون فهم أدوات طبيعة في أيدي من يريدون استخدامهم لإفساد العقول وتمييع الأخلاق. لذا نجد الاستبدادية (الدكتاتورية) تتقدم على ألف جبهة، تلبس أقنعة مختلفة، حسب كل حال وموقف.
إذا كانت (الخيانة) كلمة قبيحة، ومعرفة تعريفاً واضحاً في دستور الولايات المتحدة، فإن (عدم الولاء) ليس له تعريفاً في الدستور، فتقديم المساعدات والسلوان لأعداء الوطن زمن الحرب لا يعتبر مجرد عمل يثير الاشمئزاز في نفس المخدوع، بل ويولد الاحتقار في قلب العدو، وربما يؤدي إلى كارثة. ولكن ما هي أعمال الخيانة الأشد دهاء وهولاً ؟ أليست هي التنازل عن الاستقلال والسيادة المكتسبتين بعد عناء شديد ؟ تنازل واستسلام بدون مقاومة ؟ الاستسلام لمن ؟ ولأي شيء ولأي سبب ؟ (لتجنب الحرب والانفجار المحتمل لقنبلة ذرية !) هذا هو الجواب.
إذا أمكن إقناع البشرية أن الشر خير وأن العبودية استقلال، فلن يرغب أحد بعد اليوم في أن يكون خيّراً أو أن يكون حراً. وإذا كان من الفطنة أن يصبح الإنسان مجرد شيء ثانوي في الآلة الجماعية، لا فرداً يتمتع بالكرامة الإنسانية، فإنه سيقنع بدور بسيط، أو لا يبالي مطلقاً بما يدور حوله. وإذا كان أسمى مفهوم ديني هو إنكار الله وعبادة المادة باعتبارها أعظم دين، أصبح الكل ملحداً بعيداً عن أي ولاء للعقيدة. وإذا ظلت معاني المفردات القديمة كما هي، بينما يجري بالتدريج عكس وقلب الظروف والحالات التي تصفها، أصبح من الممكن إجبار الجنس البشري على السير لتكبيل الأصفاد وحجب نور الحقيقة عن عينيه.
إن قلب المفاهيم عند الشعب وتحويل تفكيره السليم يتطلب الجهد الكبير، ولكن هذا يجري بسرعة، ويمكن أن يتحقق. وإذا أردنا تدوين عمليات القلب والتحويل الجارية على تفكير الشعب الأمريكي احتاج الأمر كتاباً ضخماً.
لما كان الأطفال، بطبيعتهم واستعدادهم للتأثر، سريعي التأثر، فإنهم بالتأكيد هم ضحايا حملات الدعاية وسمومها. والأطفال لا شك رجال المستقبل الذين يؤثرون على سير الانتخابات، وبمقدار النجاح في توجيه تفكيرهم يكون التحول في اتجاههم السياسي. وعندما يزول طموح التنافس نتيجة الدعاية الجماعية وسيطرتها وحدها، تتوقف الجهود الفردية والرغبة في التنافس والفوز، وحيثما تنعدم الجهود تنعدم الإنجازات، وحيثما يطمس الدين تنعدم الأخلاق، وبدون الأخلاق لا توجد الأسرة ويعم الشقاء المجتمع، ولا تبقى إلا الدولة.. وأفضل نوع من الدول التي تضم مجتمعاً بلا دين ولا وجه هي (الحكومة العالمية).
ولكن، ماذا عن الذين يخططون لهذه الشرور ؟ وكيف ينجون ؟ ما سوء عاقبة ما يبيتون لبقية الجنس البشري ؟ ألا يصنعون وحشاً سوف يقدم في النهاية على القضاء عليهم ؟ لكنهم لا يخافون.. فهم يعتقدون أنهم أحكموا خططهم، ويتجنبون بحذر شديد الحفر التي حفروها للآخرين. ونجدهم كذلك يتمتعون بمقدرة فطرية يكاد يستحيل معها أن يزاولوا ما يدعون غيرهم إليه وما يبشرون به. فبينما ينفقون ملايين الدولارات للدفاع عن الاندماج العنصري، ويتجنبون بمهارة فائقة مصاهرة غيرهم من الأجناس. وبينما يبشرون بالمبادئ العالمية، يزاولون أسوأ لون من التعصب القومي. وإذا كانوا يشهرون بمساوئ التعالي الجنسي، فهم في نفس الوقت يدعون أنهم شعب الله المختار. وبينما يستنكرون الاضطهاد والتعصب والحرب، نراهم عندما يتسلمون زمام أشد السلطة الناس مزاولة للاضطهاد وأكثر الناس تعصباً وأشدهم حباً للحروب، ونجدهم يمولون حروباً لا يخوضونها بأنفسهم ثم يخرجون وكأنهم هم المنتصرون. وهم يعيشون منذ ألفي سنة كأمة واحدة داخل الأمم، ليس لهم علم أو بلد. ورغم ما يقولونه من خيبة أمل ونكسات وعداوات صريحة من جانب الأمم التي عاشوا بينها، نتيجة سوء أفعالهم، مما وصمهم بالتحقير، لكنهم ظلوا مصممين على متابعة مخططاتهم الشريرة التي رسموها.
لقد أغلقت، تقريباً، كل سبل الخلاص من العبودية (الذي وضعه اليهود على رقبة أمريكا) ويقيمون عليها حراسات مشددة، وأن مجرد اقتراب أدنى الناس شجاعة من هذه السبل يبعث ألف صوت وصوت من أصوات النفير والإنذار. أما الذي يحاول الخلاص فإنه يلاقي مصرعه على أيدي من يريد مساعدتهم. وأما الذين يعرفون الحقيقة أو يفطنون إليها فإن مصيرهم هو التشهير بالجنون. إن القوى الشريرة لا تحب أن يسقط الشهداء في محاربتها لأن الشهداء أبطال، والأبطال ينجبون الزعماء والأتباع ! ويمكن القول باختصار (إن من الخطر الكفاح من أجل الحرية ومن أجل الاستقلال ـ من أجل دستور الولايات المتحدة).
كان لا بد من تأليف هذا الكتاب، سواء أكانت المنظمات المخربة المقصودة تتشكل من سويديين أو إيرلنديين أو إنجليز، تماماً كما كان يجب وضع الكتب عن الفاشيين في إيطاليا، والنازيين في ألمانيا، والبلشفيين في الاتحاد السوفياتي. وإذا ألفت الكتب عن الإيطاليين أو الألمان أو الروس لا نجد روح الحقد على الإيطاليين أو الألمان أو الروس كأفراد، أو على دياناتهم أو أجناسهم أو أصلهم العرقي. وكذلك الشأن بالنسبة لليهودية. إن ما يقدم إنسان على فعله يكون مبعث مدحه أو لعنه. فلا يمكن اتهام كل الألمان بجرائم هتلر، وليس الإيطاليون جميعهم مسئولين عن أعمال موسوليني، ولا تتهم كل الروس بما فعله ستالين أو الشيوعية.
وكذلك لا يلام كل اليهود بسبب تعصب الصهيونية، ولا يحملون كلهم مسئولية سياسة ونشاطات منظماتهم ووكالاتها. ولكن، وفي نفس الوقت، لا يوجد من بين مئات المنظمات اليهودية الأمريكية المنتعشة في الولايات المتحدة اليوم إلا منظمة واحدة يمكن اعتبارها أمريكية الولاء بشكل واضح. فقد رأينا عند (المجلس الأمريكي لليهودية) من الشجاعة ما دفعه لإعلان ولائه السياسي للولايات المتحدة والولاء الروحي لليهودية. ولذا فقد واجه الإهانات وسخط الصهاينة جزاء وطنيته، وقد كتب (موريس لازرون) في إبريل سنة 1952 في (أخبار المجلس) وهي النشرة الرسمية للمجلس الأمريكي لليهودية، يقول:
(لا يحق للفرد اليهودي شخصياً أن يتخذ قرارات يمليها عليه التفكير الوطني، ... ويجب أن يكون كل ما يقال أو ينفذ يهدف لمصلحة الشعب اليهودي ودولة إسرائيل).
إنه مما يسعد معظم اليهود الأمريكيين أن يندمجوا في الحياة الأمريكية، وأن يكونوا يهودا في الأمور التي تتعلق بالمشاعر فقط وأمريكيين في كل ما سوى ذلك.. والواقع أنه لو ترك لليهود الأمريكيين الحرية لما رضوا بأن يكون ولاؤهم لدولة أجنبية. لقد كانت الولايات المتحدة في وقت ما منارة الأمل ليهود العالم، وقد تدفقوا إليها من إسبانيا والبرتغال، ومن ألمانيا وهولندا بعد الثورة الأمريكية، وكذلك من أوروبا الشرقية بمئات الألوف في بداية القرن. وقد تركوا فرحين مساقط رؤوسهم، سعداء بتنشق هواء الحرية النقي.. وولت أيام الشرطة السياسية والملفات المتراكمة. وقد كان بنجامين فرانكلين أول المسيحيين الذي تبرعوا بسخاء لكنيس فيلاديلفيا وتلاشى بالتدريج حقد وكبرياء العالم على اليهود.
غير أن اليهود عندما دخلوا أمريكا بنوا أحياء (الغيتو)(1) والتي كانت مستعمرات لقوم يتحدثون نفس اللغة الأم، ويتمسكون بنفس التقاليد والعادات والدين. وقد كان يسكن هذه الأحياء اليهود الذين سكنوا أحياء (الغيتو) الأوروبية المسورة، والذين حاربوا التحرر الفردي وأصروا على نوع جديد من (الغيتو) أسموه (الأمة اليهودية). وأصبح ذلك الاتجاه هو روح الصهيونية الأمريكية ـ القوة الدافعة للصهيونية العالمية.
كانت كلمة (صهيون) أصلاً اسماً لمعقل (جبوسايت) الذي ربما كان الجزء الجنوبي من التل الشرقي في القدس. وبعد أن احتلها داود، بنى الهيكل فوقه، ثم امتد الاسم حتى يشمل التل بكامله. ومع الزمن أصبح الاسم مرادفاً لمدينة القدس..
لقد جاءت الصهيونية نتيجة التعلق بصهيون، مما دفع اليهود الذين نفوا إلى بابل إلى إعادة بناء الهيكل، وألهب الحماس في كفاح المكابيين (أسرة عبرية) ضد (أنتيوكس إيبفانس).
ورغم توالي القرون لم يفتر إيمان اليهود في (تجميع المشتتين) في فلسطين والسيطرة على العالم، وأن (لا بد أن يسود قانون صهيون). ولم يتغير شيء بالنسبة لليهود إلا تفسير الوسائل التي تحقق ذلك الهدف، وسائل جديدة للهدف القديم، وخطة مركزة بأسلوب علمي حديث، ولا داعي لبرامج وخرائط توضح الاستراتيجية، بل يكفي أن يكون الفهم الضمني أساساً للكنيس. ولم يكن الهدف اليهودي من إقامة السلطة الإسرائيلية على نطاق عالمي في فلسطين خطة (معترفاً بها) لاكتساح العالم لا في أذهان اليهود أنفسهم، وحسب تفسيرهم السري للتوراة والتلمود. ولقد ظل الوجود اليهودي نفسه طيلة ألفي سنة يشبع بهدف ذي حدين: تدمير الحضارة المسيحية وإقامة إسرائيل كقوة مسيطرة تحكم العالم بأسره. (الفصل الأول والثاني من هذا الكتاب).
وقد أكد رئيس وزراء إسرائيل السابق بن غوريون في حديث له بمدينة نيويورك في 29 من مايو 1951 بأن إقامة الدولة اليهودية الجديدة (إسرائيل) ليس هو غاية أحلام الصهيونية، وأن الحركة الآن أكثر ضرورة من أي وقت مضى.
وأدلى لويس د. برانديس، من المحكمة الأمريكية العليا، ببيان صريح ومكشوف عن الأهداف اليهودية، ولكن قل من يتوقف ويتريث لتقصي حقائق الأمور.
ولقد رأينا التعلق الصهيوني بموسكو والمغالاة في حب فلسطين يسيران جنباً إلى جنب، ولم يجرؤ إلا القليل على لفت الأنظار إلى هذه الحقيقة(2). وهذا (دبنو) المؤرخ اليهودي، يعلن أن عقيدة الاشتراكية قد نمت مع العقيدة القومية الصهيونية (على خطين متوازيين)، وبهذا أوضح ما يتحتم أن يتوصل إليه كل خطاب يختص في دراسة هذا الموضوع. ومن أوضح الأمثلة على هذه الحقيقة هو (موسى هيس)، الحاخام الشيوعي، وصهيون (الجمعية الاشتراكية اليهودية) (الفصل السادس).
إن للفلسفة الماركسية والفلسفة الصهيونية أصل واحد، فكلاهما أداة لهدم الدين، وازميل لتفريق الشعوب وتشتيت مواطنيها. والماركسية فلسفة ملحدة هدفها مسخ الإنسانية إلى وحش فظيع، وهي عقيدة كره وعنف وسفك دماء، وما صيحة (الإخوة) و(المساواة) إلا شعارات خادعة وزائفة تؤدي إلى الحقد الطبقي والعبودية. وحيثما سارت الشيوعية نجد الأخ يكره أخاه، ونجد في طريقها جبالاً من القتلى وأنهاراً من الدماء، وهي عندما تبشر بالعالمية فإنما تهدف إلى إطفاء جذوة الروح الوطنية لكي لا يقاوم ضحاياها الغزو، وليس (المجتمع الخالي من الطبقات) الذي تدعو إليه إلا عالماً من العبيد والأسياد.
وقد ظلت مبادئ الشيوعية الخبيثة منذ (الإعلان الشيوعي) سنة 1918، تجد من يروج لها في كل مكان، وقد طورت وسائلها وأساليبها، وقام بذلك رجال دهاة في كل أرجاء العالم. والملاحظ أن المهاجرين اليهود حملوا مبادئها إلى الأماكن المزدحمة في (المنفى)، حيث صقلتها (الجمعيات الاشتراكية اليهودية)، وحقنت فيروسها في دماء الشعوب الأخرى. وأن فلسفتها اللاإنسانية تحمل سمة قابيل، وقد جردت ماديتها العالم من مثله وجاءت لنا بعصر الحيرة، ويعد أسلوبها المخادع جزءاً هاماً من الخطة، وربما الخطة نفسها.
ولا بد أن نوضح في هذا التحليل بأن اليهودية العالمية، مع أنها الوسيلة، إلا أنها ضحية هذه المخططات، كمثل بقية الشعوب. ومع أن اليهودية العالمية ربما تكون الوسيلة، فإن المسؤولين من الأمم الأخرى هم الأداة. وعندما نتفحص قوائم المخربين والمدمرين نجد الأسماء اليهودية تفوق كل ما عداها من الأسماء، ولكن قل من يشير إلى ذلك، خوفاً من الاتهام بمعاداة السامية.
إن من ينتقد اليهودية المنظمة يجابه دوماً بصيحة (معاداة السامية) حتى لو كان المنتقِد من اليهود أنفسهم.
وعندما يظهر هذا المُؤَّلف سيقابل بنفس الصيحة. ورغم أن الصهيونية حركة سياسية واقتصادية فلن يمنع ذلك اليهود من الرد مدعين بأن النقد يستهدفهم دينياً وعرقياً.
إن قضية (الحرية في مزاولة الدين) تقتضي دوماً حرية الضمير، حرية الإيمان بأي عقيدة أو عقائد دينية دون مساس بحريات الآخرين. وتشمل حرية الضمير هذه حق ممارسة المبادئ الأخلاقية لهذه العقائد في الحياة اليومية. ومع ذلك فالحريات الدينية، كغيرها من الحريات، ذات صلة دائمة بحريات الآخرين، أما الاعتقاد بخلاف ذلك فهو تدمير للحضارة.
وينطبق هذا على الإيمان باليهودية كدين، وهناك حقيقة تاريخية مذهلة، وهي أنه (لم يشك أحد قط من الجانب الديني البحت لليهودية).
لقد خدعت الأمم غير اليهودية دائماً بقبولها جميع النشاطات اليهودية على أنها (أعمال دينية)، والواقع أنها كانت دوماً درعاً متعدد الأغراض، وكانت في بعض الأحيان سلاحاً ذا قوة هائلة لا تصدق.
وفي الولايات المتحدة اليوم شبكة من منظمات التجسس والدعاية الصهيونية، تتجسس على اليهود وعلى غير اليهود، وتنشر الدعاية المؤثرة على الطرفين، ويتعرض اليهود الأمريكيون إلى الاستغلال دوماً فيدفعون عشرات الملايين سنوياً لدعم الوكالات المتعددة التي تضاهي بميزانياتها الإدارات الحكومية.
وقد بدأ الشعب الأمريكي يطرح الأسئلة وبدأ يطالب بالإجابة عليها، ولن يقنع إلى الأبد بظواهر الأمور.
لقد قادت هذه الدراسة والبحث إلى معرفة بعض الخفايا التاريخية التي كاد يستحيل الوصول إليها، وجاءت النتيجة كقصة مذهلة بل وصاعقة، ولكنها حقيقة لا يمكن نقضها أو تفنيدها. غير أنها ستواجه بالتأكيد، بالقمع بكل وسيلة ممكنة، وستبذل الجهود لتدميرها ومنعها من النشر والانتشار واطلاع الناس عليها. ولو فشلت هذه الجهود أو فشلت جزئياً فسوف تستغل كل وسائل الاتصال للنيل من المؤلف. وستلجأ القوى الخبيثة إلى استعمال كل الوسائل وأساليب السخرية، ومن المحتمل تماماً أن تنجح هذه الجهود، ولكن شيئاً واحداً لن يتم: فلن يحاول أحد تفنيد حقائقه أو مواجهة تحديه بنقاش صريح.
(1) ـ الغيتو هو الحي المنعزل ذي الأسوار العالية الذي اعتاد اليهود الحياة فيه منفصلين عن غيرهم من السكان الآخرين.

(2) ـ لقد كان الصهاينة من أبرز قادة الحركة البلشفية والثورة الشيوعية في روسيا، وظلت الحركة الصهيونية تعول الكثير على موسكو، وكان اليهود المهاجرون من روسيا للولايات المتحدة هم أول من بشر بالماركسية هناك. ولم تتبدل العلاقات الروسية ـ الصهيونية إلا بعد أن اتخذت إسرائيل خطاً واتجاهاً حاسماً في تحالفها مع الولايات المتحدة

يتبع ...

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:34 AM

الجزء الأول
خلفية جنون العظمة
(( نحن اليهود، نحن المدمرون، وسنبقى المجرمين إلى الأبد، ومهما فعلتم (أيها الأمميون) فلن يلبي ذلك حاجاتنا ومطالبنا، وسنظل ندمر أبداً، لأننا نريد عالماً لنا، عالماً إلهياً، ليس بوسعكم صنعه ))
من كتاب: (أنتم أيها الأمميون)
تأليف: موريس صمويل. مطبعة هاركورت وشركاه، نيويورك 1924.
الفصل الأول
شعب الله المختار
(وسأنعم عليكم، وعلى ذريتكم من بعدكم، بالأرض التي أنتم فيها غرباء، كل أرض كنعان، ملكاً أبدياً، وسأكون ربهم).
يحكي لنا الكتاب المقدس، أنه عندما بلغ إبراهيم سن التاسعة والتسعين، تجلى له الرب وأعطاه العهد السابق الذي حمل صفة الدوام بين الرب وذرية إبراهيم. (إذا كان الرب قد وعد إبراهيم بمنح ذريته أرض كنعان، فكيف ينكر اليهود أن العرب ليسوا من ذرية إبراهيم من نسل إسماعيل ؟)
وتستند اليهودية المغالية على هذا للزعم بأن اليهود هم (شعب الله المختار)، وأن كل ما عداهم من أقوام يعيشون خارج نطاق رحمته ومحبته. (وستأتيكم ثروات الأمميين(1).. وسيبني أبناء الغرباء جدرانكم وسيحكمكم ملوكهم، وسترضعون لبن الأمميين، وستنعمون في مجدهم..).
هذه نماذج من الوعود التوراتية التي حفظها ربابنة اليهود.
ويعلن موريس صمويل في كتابه (أنتم أيها الأمميون) أن الفجوة بين اليهود والأمميين لا يمكن أن تسد أبداً. ولا يتخذ اليهود هذا الموقف بناء على الإيمان الديني، فاليهودي الذي يعمد (ينصر) يبقى يهودياً، وحتى اليهودي الملحد يبقى يهودياً. وينطبق هذا الموقف أيضاً على الشيوعي اليهودي، والذي يظل عنيفاً حتى مع التخلي عن إيمانه بالله. ولذلك يستطيع (موريس هيس)، تلميذ ماركس المتحمس، وضع كتب لليهودية الحديثة، والعمل في نفس الوقت كمنظم للخلايا الشيوعية في بولندا وروسيا على أيدي اليهود. ولم يكن يسمح للجمهور أبداً أن يعلم بأن الانقسام الذي حدث في الحركة الشيوعية بروسيا إلى بلشفية ومنشفية (الأغلبية والأقلية) كان نتيجة للخلاف بين الرفاق حول قضية القومية اليهودية (الفصل الرابع). ولم يحدث قط، ولا يوجد اليوم أبداً، أي خلاف بين هذين القسمين الثوريين حول العقيدة والأساليب والأهداف.
لذا، فاليهودي ليس مجرد شخص ملتصق باليهودية وبينما يعتبر اليهودي سامياً، من ناحية عرقية، فإنه يظل شيئاً أكثر من ذلك. وإذا تخلى عن تعصبه فلا يغرق نفسه في الأجناس السامية، وإنما يظل جزءاً من ذلك الفرع اليهودي الذي نشأ فيه. والواقع أن اليهودي يبقى يهودياً رغم انتمائه السياسي الواضح أو اتجاهه الديني. وبالطبع يوجد الشواذ، لكن الشواذ هم الذين يبرهنون على صحة القاعدة العامة.
ويفرق موريس صمويل، السابق ذكره، بين (الولاء) كما يفهمه ويطبقه الأمميون، وبين (الولاء) كما يفهمه ويطبقه اليهود، فيقول: (إن الولاء الخالص لا يمكن أن يفهمه اليهود، فهو أمر محير). إذن فالولاء للحكومة ليس من طبيعة اليهود، وأما الولاء لوعد إسرائيل فألف نعم ‍‍‍‍!! ولكن هذا الولاء لا يكون لحكومة الأمميين المؤقتة. ويعلن صمويل أنه، لما كانت مؤسسة الأمميين الرئيسية هي نفسها صميم البناء الاجتماعي (( لذا فإننا هنا نحن (اليهود) أشد الناس تدميراً )).
ويؤكد صمويل بأن اليهودي المتطرف والكافر يختلف عن الأممي المتطرف بمقدار ما يختلف اليهودي المتعصب عن الأممي الرجعي. (ويؤمن اليهودي المتعصب وغير المتعصب بأن لا فرق بين أممي وأممي). وفي هذا الاعتراف الصريح تتبين كيف يقوم اليهود العلاقة بين الأممي واليهودي. فاليهود كلهم مهما اختلفوا وتناقضوا ينظرون إلى كل الأممين بنفس المنظار ويحكمون عليهم نفس الحكم. (وما الدين نفسه إلا تعبيراً عملياً عن الفرق) بين اليهودي والأممي، (وليس سبب الاختلاف).
ويضيف صمويل قائلاً: (صحيح أن التعبير عن الرأي يعمل على تقويته مثلما تعمل ممارسة الموهبة على تطويرها. ولكن التعبير لا يخلق رأياً ولا يمارس موهبة. وحتى الولاء الشعوري للشعب اليهودي ليس إلا تعبيراً جانبياً عن يهوديتنا، فلم تكن الرغبة الشعورية في البقاء كشعب هي التي أعطتنا إرادة التحمل، بل إن الشعور الجماعي الطاغي عندنا هو الذي جعلنا ويجعلنا شعباً).
وتلخص الفقرات التالية من كتاب (أنتم أيها الأمميون) النظرة اليهودية لعالم الأممين:
(إن التبرؤ من الديانة اليهودية، أو حتى الانتساب للجنس اليهودي لا يغير اليهودي، وربما يعمد بعضنا نحن اليهود إلى تضليل أنفسهم، كما يفعل بعضكم أيها الأمميون. ولكن يبدو أن روح العصر الحديث لم تفعل شيئاً لتقليل التحامنا. ويستمر الاختلاف (بين اليهود وغيرهم)، ورغم أن جماهيركم ربما لا تعرف السبب في الاختلاف عنا، فلا بد أن هناك سبباً كافياً لذلك..).
(لقد التحقنا بجيوشكم وحاربنا فيها فوق طاقة أعدادنا، ولكن الدعوة اليهودية إلى عدم العنف ومعارضتها للعنف والحرب هي التي تلون حركة اللاعنف العالمية. ولقد التحقنا بعالمكم الرأسمالي في منافسة مقصودة، إلا أن الاشتراكية اليهودية والاشتراكيين اليهود هم حملة أعلام تحرير العالم ! لقد قام ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي عصري، وهذا عدد قليل (بالنسبة لعدد سكان العالم) قاموا بإعطاء القوة العالمية التي تحارب المعتقدات والمؤسسات التقليدية زخمها الرئيسي وأسهموا فيها بأكبر نصيب..)
(إن اليهودي الذي كان خاملاً في السابق، نظراً لقلة احتكاكه بعالمكم، أصبح اليوم فعالاً ونشيطاً. لقد تكشفت عبقريته، وبعد أن كانت عداوته لأسلوب حياتكم في السابق خفية، أصبحت عداوته اليوم واضحة وفعالة، إنه لا يستطيع منع نفسه ولا يستطيع خداع نفسه، بل ولا تستطيعون أنتم منعه، ولا جدوى من مطالبته والقول له: (ارفع يديك)، لأنه ليس سيد نفسه وهواه بل عبد إرادته..).
(إن تطرفنا نفسه من نوعية مختلفة، والحافز عندنا غريزة فطرية. فلا يتحتم علينا انتزاعه شيء من أنفسنا لنصبح (متطرفين) أو حالمين بالعدالة الاجتماعية، فنحن كذلك بفطرتنا ولا نرى شيئاً ثورياً على الإطلاق، إنه مغروس في كياننا.. أما بالنسبة لكم فهو جهد وعذاب، فكيانكم يصرخ ضده من الأعماق..).
(إن عالميتنا هي التي تعطينا شخصيتنا العالمية، ولما كنا وحدنا العالميين بفطرتنا، لا بالقول والادعاء، فسنبقى طبيعيين مع أنفسنا إلى الأبد).
عند دراسة ظاهرة الاتجاه الحركي الصهيوني للسلطة العالمية لا بد أن نسلم بأن التلمود نفسه يشكل عاملاً هاماً في أي دراسة لهذه الظاهرة.
فما هو التلمود ؟
لقد قال بنيامين دزرائيلي عنه (إننا نجد فيه حشداً من الآراء المتناقضة، وعدداً غير محدود من القضايا السببية، ومنطقاً من النظرية العلمية، وبعض الحكم المبهمة، والكثير من الحكايات الصبيانية والأوهام الشرقية، والأخلاقيات والصوفية، والمنطق واللامنطق، والحلول البديعة والحقائق العامة والألغاز.. وقد كان بنو إسرائيل يزدادون بهجة كلما زاد حجم تلمودهم..).
ويقول الدكتور (ميلمان) في كتابه (تاريخ اليهود): (إن القارئ للتلمود في فصوله المتتابعة يقف حائراً أمام هذا الحشد الغريب: هل يعجب بالحقائق المجازية العميقة والمقالات الأخلاقية البهيجة، أم يبتسم للإسراف البشع، أم يقشعر بدنه للكفر الجريء ؟ ولا بد لنا أن نقتفي آثار التلمود في الخرافات الأوروبية والآداب الأوروبية. والتلمود بالنسبة لليهود هو الدائرة السحرية التي عمل داخل نطاقها العقل القومي بصبر وأناة طيلة عصور طويلة لرسم أوامر القدماء والسحرة العظماء، ممن وضعوا ورسموا الخط المقدس الذي لا يجرؤ أحد على اجتيازه).
ويقول الدكتور (فيليب تشاف) في كتابه (تاريخ الكنيسة المسيحية): (إن التلمود يمثل النمو البطيء طيلة قرون عديدة. وهو خليط من التعاليم اليهودية والمعرفة والحكمة والحمق اليهودي، وهو كوم من النفاية، وفيه لآلئ مخبأة ذات حقائق صحيحة، وقصص شعرية ذات مغزى أخلاقي. إنه (العهد القديم) أساءوا تفسيره ووجهوه ضد (العهد الجديد) حقيقة وليس شكلياً. إنه إنجيل (حبري) ليس له وحي ولا مسيح ولا أمل، وهو يشارك الجنس اليهودي في عناده وتماسكه.. والتلمود إنجيل اليهودية، ليس له أصل بالمسيحية بل هو معاد لها. وقد أكمل عزل اليهود عن كل الشعوب الأخرى).
ويقول (لويس فنكلستين) في مقدمة كتاب (الفئة الأولى من الفريسيين(2)) (لقد أصبحت الفريسية تلمودية وأصبحت التلمودية حبرية القرون الوسطى، ولكن لم يحدث طيلة هذه الفترة التي تغيرت فيها الأسماء، والتي يحتمل أن تكون العادات والقوانين قد أصابها التعديل، أن تغيرت روح الفريسي الأولى. فعندما يترنم اليهودي بصلواته فإنما يستخدم صيغة أعدها علماء ما قبل العهد (المكابي)، وعندما يرتدي العباءة المخصصة ليوم الغفران وأمسية عيد الفصح، فإنما يلبس عباءة العيد أيام الفرس القديمة، وعندما يمارس التلمود فإنه يكرر في الواقع العبارات التي استخدما في المجامع الفلسطينية. وليست المظاهر الخارجية للفريسية هي وحدها التي ظلت في حياة التلمود بل إن روح العقيدة ظلت أيضاً حادة وحيوية).
ونجد في الطبعة الأولى من (التلمود البابلي) الذي راجعه وصححه الدكتور اسحق وايز، رئيس كلية الاتحاد العبري، وفي مقدمة الناشر ما يلي: (إن التلمود يخلو من ضيق الأفق والتعصب الأعمى الذي يتهم فيه في المعتاد، وإذا استخدمت تعبيرات خارج سياق المعنى وتخالف ما قصده المؤلف فبوسعنا التأكد بان هذه العبارات لم توجد مطلقاً في التلمود الأصلي وإنما هي إضافات تالية من أعدائه وممن لم يدرسوه على الإطلاق).
ولكي يدحض الشهادة اليهودية حول التلمود، كتب الحبر وايز يقول: (لم تكن الهجمات التي شنت على التلمود من أعداء اليهود وحدهم، وإنما جحد به عدد كبير من اليهود أنفسهم، منكرين أنهم يهود تلموديون أو أنهم يشعرون بأي حماس نحوه. ولكن لا يوجد إلا القلة (القرائيين)(3) في روسيا والنمسا، والأقل منهم من السامريين في فلسطين، ممن ليسوا يهوداً تلموديين في حقيقة الأمر. هذا بينما المتطرف والمصلح، والمحافظ والمتعصب، يجد له نداً في التلمود، ويتبع في كثير من خصوصياته الممارسات المنصوص عليها في التلمود.. إن اليهودي الحديث هو نتاج التلمود).
ونقرأ في مقدمة (تاريخ التلمود) بأن التلمود ضحية اضطهاد متواصل: (لم يكن يمر قرن واحد من القرون العشرين في حياة التلمود دون أن يوجد أعداء ألداء أقوياء يتآمرون عليه ويبذلون كل جهد لتدميره ولكنه ما يزال باقياً كاملاً، ولم تعجز قوة أعدائه فقط عن تدمير حتى سطر واحد منه، بل ولم تقدر على إضعاف تأثيره في أي فترة من الزمن. وهو لا يزال مسيطراً على عقول الشعب كله، الذي يبجل محتواه كحقيقة مقدسة، وقد ضحت أعداد لا تحصى بأرواحها وما تملك لإنقاذه من الفناء).
يعتبر التلمود مجموعة من القوانين المدنية والكهنوتية، توارثها الربيون ورجال الدين اليهود وأصبح السلطة النهائية، في أي قضية من قضايا السلوك اليهودي، وهو صاحب الكلمة الأخيرة التي تحكم علاقات اليهودي مع اليهودي الآخر، ومع الأمميين. والتلمود مؤلف كبير مكتوب باللغة العبرية وبتكون من عدة مجلدات، ولكن دراسته مقصورة على الربيين ورجال الدين اليهود ولا يعرف منه اليهود العلمانيون والأمميون إلا القليل النادر.
وتعتبر (أسفار موسى الخمسة) (من العهد القديم) عند المسيحيين من (الكتاب المقدس)، وفيها قوانين موسى الأساسية لمن أراد قراءتها ودراستها، ويظل التلمود وحده ـ التفسير اليهودي والتطبيق التفصيلي لهذه القوانين ـ سراً غامضاً مشئوماً.
ومهما يقال من شيء آخر عن التلمود فإن جميع الأطراف المحايدة تتفق على أنه يضم، بالإضافة للعبارات العدائية، الكثير من الملامح السيئة. ولا عجب حينئذ أن يحرق مرات عديدة. ولئن كان الإنجيل قد حرق أيضاً، وحوربت كذلك كتب متنوعة في عصور الجهل، واعتقد البعض أن قوى خرافية تسيطر عليها ـ قوى شر أو خير ـ فإن الكتب الخيرة سمت مكانتها، والكتب الشريرة دمرت. وإذا كان التلمود معادياً للمسيحية كافراً بمبادئها، وإذا كان يعلم أتباعه ازدواجية في العقيدة والأخلاق، مرة لليهودي وعلاقته باليهود، وأخرى لليهودي وعلاقته بالأمميين، فإنه يستحق التدمير، حسب عقلية القرون الوسطى. وبالطبع لو استطاع اليهود حرق الإنجيل لحرقوه، وهذه (دائرة المعارف اليهودية)(4) تذكر قولاً لتارفون: (إن كتابات (المنيم) تستحق الحرق حتى لو وجد فيها اسم الله) !
ويعترف الكتاب اليهود الآن بأن كلمة (منيم) التي يكثر ذكرها في التلمود تعني المسيحية. وقد حرم التلمود تناول اللحم والخبز والخمر مع المنيم، والحيوان الذي يذبحه المنيم يحرم أكله، ولم يسمح لأقارب (المنيمين) (مفرد منيم)، بالحداد بعد موته، بل كان يطلب منهم ارتداء ملابس الحداد ظاهرياً والفرح في الباطن. ولم تكن تقبل شهادة (المنيمين) في محاكم اليهود، وإذا وجد إسرائيلي شيئاً من متاع المنيم فإنه يمنع من رده.
ويصنف الأمميون في صنف (البرابرة)، بل إن دائرة المعارف اليهودية بأن التفسير (الرباني) للفقرة (31) من حزقيال (34) والقائل: (وأنتم يا قطيعي، قطيع مرعاي، أنتم الآدميون) يعني أن اليهود فقط هم الآدميون. وهذا التفسير يضع الأمميين في منزلة دون منزلة الآدميين: فهم حيوانات أدنى منزلة. ولا يحق للآدميين الادعاء بشيء أمام محكمة اليهود المدنية. تقول دائرة المعارف اليهودية: (وبالتالي فالأمميون مستثنون من القوانين المدنية الموسوية العامة) وتنص (المشنا) (مجموعة القوانين المشكلة لأساس التلمود) على أنه إذا ادعى أممي على إسرائيلي يصدر الحكم لصالح المدعى عليه، أما إذا كان المدعي إسرائيلياً ضد أممي، يأخذ الإسرائيلي تعويضاً كاملاً. وينص التلمود على أنه لو اعتدى ثور إسرائيلي على ثور كنعاني (أممي) فلا يتعرض الإسرائيلي لقصاص ما، أما إذا اعتدى ثور كنعاني على ثور إسرائيلي فعلى الكنعاني دفع تعويض كامل للإسرائيلي.
وإذا باع إسرائيلي لأممي أرضاً تحد أرض يهودي آخر، يحرم الإسرائيلي من الحق الكنسي، لأن الجار اليهودي ربما قال: (لقد تسببت في تثبيت أسد على حدودي). بل لقد كان يعتقد ربابنة التلمود بأن كل ما يملكه الأمميون متاع مغتصب، ولذا يعتبر (مشاعاً) كالأرض التي لا يملكها أحد في الصحراء، ويمكن لإسرائيلي الاستيلاء على الأرض وكأنها غنيمة حرب.
وتقول دائرة المعارف اليهودية من ناحية أخرى: (.. لم يكن يسمح للمرأة الأممية بأن ترضع طفلاً يهودياً إلا بحضور اليهود، وحتى في هذا الحال يخشى أن تسمم الطفل..) ويعلق التلمود على عدم نزاهة الأمميين واصفاً إياهم بأنهم (زمرة من الصبية الضالين، ألسنتهم تتحدث غروراً، وأيديهم اليمنى أيد زائفة).
ويعتبر سيمون يوهاي أشد المتعصبين المعادين للأمميين، وهو مؤلف كتاب (أفضل الأمميين يستحق القتل). ويضع المترجمون اليهود أحياناً كلمة (المصريين) بدلاً من (الأمميين). ويرى هذا المؤلف التلمودي أن الأمميين (يشبهون الكلب الأناني)، بينما (يشبه الإسرائيلي الحمارة الصبورة). وقد تنبأ (جودا بن علاي) بأن الأمميين (سيلحق بهم العار أخيراً).
والواقع أنه سواء أكان التلمود يضم هذه المبادئ أم لا يضمها فإن الأمر يبدو قليل الأهمية. فمعظم الديانات في أصلها وأثناء تطورها تبدي اتجاهات مماثلة نحو (الكفار) و(الوثنيين)، ويبدأ كل دين بافتراض أنه وحده (الدين الصحيح)، وأن ربه هو الإله الأوحد، وأن المؤمن الحق هو الذي اختاره الله. وقد نظر الكهنوت المسيحيون مرة بجد في مسألة السماح بعقد سلام مع الكفار، وعما إذا كانت الوعود المعطاة له ملزمة للمسيحيين. وقد حرمت مصاهرة (الكافر) و(الأجنبي) عند معظم الديانات، وحرمت في المسيحية حتى بين المنتمين لمذاهب مختلفة.
ويمكن عرض المزيد من التلمود نفسه (الطبعة الرسمية) ومن أقوال المترجمين والمؤلفين اليهود الرسميين، ولكن ما سبق يكفي لفهم مصادر العداء الرسمية للأممية. وقد أخذت معظم المواد المدونة هنا من دائرة المعارف اليهودية، لا من التلمود، لكي لا يقال إنني تجنبت روح الأصل أو أخذت عن تفسيرات وترجمات متحاملة وخارجة عن السياق.
ومن المتوقع أن تعمد الحركات الدينية، بدافع الإخلاص وعمق الإيمان، إلى إخراج الكافرين بها من دائرة النجاة، وكذلك ينظر المؤمنون بكل حركة إلى المخالفين لعقيدتهم نظرة اشمئزاز وكراهية، ولكن القليل النادر من الحركات الدينية يبعد كل الناس على أساس العرق والجنس. فالذين يدخل في أي دين يستقبله أتباعه بحرارة وروح الأخوة مهما كان جنسه. ولكن هذا بالتأكيد ليس هو روح التلمود، مهما فسر وتناقضت أقواله. فهو لا يؤمن بيهوه (الرب) فقط، بل وبالشعب الواحد الذي يتمتع بوئام دائم معه. إنه مبدأ التعالي الجنسي يرتفع فوق كل حدود تصور الهتلريين، مبدأ يبني ادعاءه على أساس (الكتاب المقدس) ويصنف العالم في طبقتين فقط: الإسرائيليين والقطيع.
إن من غير الممكن تقدير مدى تأثير التلمود على يهود العالم، ومن الخطأ مجرد القول أن تأثيره عظيم. فتأثيره العميق على عقول يهود الخزر المتوحشين في روسيا المنغولية واضح في أنشطة ذريتهم ـ في دفعهم الحثيث لليهود الشيوعيين والصهاينة المنظمين للاستيلاء على العالم ـ ولا يجوز أن يتجاهل عنصرية التلمود أي بحث حول هذا الموضوع.
يعتقد اليهود بأن فكرة المسيح الخاص بهم هي النتيجة الطبيعية لفكرة (أمل المستقبل التنبؤي). فهم ينظرون إلى (المسيح) على أنه النبي الأول الذي رسم صورة دقيقة لملك المستقبل المثالي. والمسيح عندهم مرتبط تماماً برغبتهم في السيطرة على العالم، ويعتقدون أن المسيح الذي يظهر من جديد هو سليل داود، وسيكون منارة للعالم، وسيأتيه العالم ينشد الرشد والاحتكام إليه، وسيسيطر (المسيح) على كل الأمم، وسيرسي دعائم العدل في العالم كله، وستكون عاصمته القدس.
إذن سيظهر (مسيح) من آل داود ويعيد مجد إسرائيل ويمد سلطانها على كل الأمم. وكان اليهود يتوقعون ظهوره في نهاية القرن الرابع الميلادي وتدمير إمبراطورية روما وأسر آخر إمبراطور حياً بعد القضاء على جيشه قضاء تاما وحمله في السلاسل أسيراً إلى جبل صهيون ليحاكمه المسيح. وبعد سماع تقرير طويل يقتل الإمبراطور على يدي المسيح نفسه. بعدها تخضع كل الأمم المعادية التي تدمر مع الإمبراطورية الرومانية، ثم يحكم المسيح العالم كله إلى الأبد.
وتعمد معتقدات يهودية أخرى إلى تصوير المسيح كرجل تقي يحكم العالم بتوجيه يهوه. ويتوقع هذا الاعتقاد السيطرة على العالم بتدبير إلهي وإقامة سلام عالمي. وترى هذه النظرية أن الحب والعدل سيحلان محل العنف والقوة، وسيتحقق انتصار هذا المسيح بتغيير قلوب الإنسانية جمعاء في اللحظة التي يتم فيها الإيمان برسالة إسرائيل.
وترى بعض المذاهب اليهودية أن المسيح موجود فعلاً وأنه يحيا حياة سرية. ويؤكد البعض أنه ولد في مدينة بيت لحم في اليوم الأول لتدمير الهيكل. ويعتقد أن سيأتي كلص في الظلام، وأو يظهر كوميض البرق، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بقدومه.
ومهما كان الاعتقاد اليهودي ـ سواء أكان المسيح قد ولد فعلا أو أنه لما يأت بعد ـ فإن جوهر الفكرة الدائمة هو أن المسيح سيخلص إسرائيل من الأمميين، ويعيد مجد القدس، ويحكم العالم من فوق العرش القديم للسلطة اليهودية.
وقد ظهر عدد كبير من الشخصيات اليهودية المذهلة التي ادعت أنها المسيح نفسه أو المسيح السابق للمسيح الحقيقي الذي يأتي من نسل داود. كان الكثير منهم ولا شك دجالين يستغلون آمال ومعتقدات اليهود من أجل مصالحهم الشخصية. وربما انخدع بعضهم فاعتقد بأنه كذلك أو تظاهر بذلك. ولبس البعض ذلك الثوب طمعاً في نشر عقيدة لم يمكن أن يتقبلها اليهود لو دعى إليها رجل عادي. ومهما كانت البواعث فقد وقفوا مدعين بأنهم منقذو إسرائيل.
والواقع أن هؤلاء الذين لبسوا ثوب المسيح قد حققوا لليهود طموحهم في السيطرة على العالم. أكثر مما يعترفون به. فقد ولّد كل دجال انطباعات نفسية عند الكثير من المسيحيين، وأصبحت الشكوك تساورهم، أولاً: هل عيسى هو المسيح المنتظر، وثانياً: هل بنيت تنبؤات العهد القديم على وحي إلهي أو إلهام إلهي ؟ وقد عمد الكثير من المسيحيين، الذين يشاهدون نوبات اليهود المتكررة انتظاراً لمقدم المسيح الذي تعدد المدعون بأنه هو هذا المسيح، عمدوا إلى التوفيق بين هذا المسيح وبين عقيدتهم، وبذلك أفسحوا المجال لظهور اعتقادات متناقضة ستؤدي يوماً إلى تمزيق المسيحية. والأدهى من ذلك أن كتّاباً وزعماء معينين من المسيحيين تأثروا بخرافة (شعب الله المختار) ونسوا رسالة المسيح التي تمد يد الخلاص الإلهية لكل الناس، فوافقوا الادعاء اليهودي بالسيطرة الحتمية على العالم وبدأوا يبررون الآراء المتناقضة ويوفقون بينها.(5)
كان إفشال الرومان محاولة اليهود للاستيلاء على السلطة العالمية بقوة الجيوش لطمة عنيفة لكبرياء اليهود وغرورهم في القرن الذي تلا ظهور المسيحية. وكان الجرح يبدو مميتاً بالتأكيد ولكن التاريخ يسجل التئامه العجيب. فقد كان الأحبار اليهود مصممين على عدم توقف السير نحو تحقيق (العهد) بإيجاد وسائل للنصر لم يحلم بها أحد بعد، متأكدين بأن هذه الوسائل ستتكشف لهم ويطبقونها.
لقد كانت المهمة المباشرة دوماً هي المحافظة على (الأمة اليهودية). والواقع أنه لا توجد في التاريخ حقيقة واحدة أكثر جلاء ووضوحاً من حقيقة العداء اليهودي العجيب لكل من سواهم من الناس. ولا تفهم خرافة (شعب الله المختار) إلا على أساس الاعتقاد الغريب بالترفع والتفوق الجنسي عند اليهود.
ولا يفوق العداء الشامل لكل الأمميين إلا الحقد اليهودي على المسيحية بشكل خاص. وإذا كان المسيح قد أتى بالخلاص لكل أجناس الأرض فقد أساء اليهود فهم (العهد مع إبراهيم) وأن رسالة المسيح قد نسخته وأبطلته. ولكن اليهودي طالما ظل حبيس المعزل (الغيتو) الذهني لبني جنسه فإنه لا يستطيع أن يتقبل هذه العقيدة. والمسيح الذي توقع اليهودي قدومه يرى فيه محارباً لا يقهر، يهزم الأمميين ويعيد بناء الهيكل ويحكم من القدس أمم العالم. ويبدو من أقوال اليهود أن إلههم (يهوه) إله غيور حسود، وأن المجد والسلطة ليستا إلا لأحفاد إبراهيم الذي يحمل (العهد).. ويبدو كذلك أن اليهودية المنظمة لن تتخلى عن اعتقادها الباطني بأنها شعب الله المختار.
وربما كان المسيح (اليهودي) المنتظر مند أمد بعيد مجرد رمز لعبقريتهم والسلاح الحاد لبراعتهم. فالذي لا يمكن إنجازه بحد السيف يمكن تحقيقه بالعقل بسهولة أكبر، خاصة وأن السيطرة على المَلِك أفضل من الجلوس على العرش، وفي غرفة التوجيه والقيادة قوة أكبر تدميراً من مائة قنبلة ذرية، ومن الأجدى أن تمول الجيوش لتحارب بعضها لا أن تحارب الطرفين بنفسك. ومن الأسهل التغلغل داخل حكومة ما بدلاً من الاستيلاء عليها بالقوة، وما يمكن إنجازه بحكومة واحدة يمكن أداؤه بحكومة لكل الشعب.
(1) ـ يطلق اليهود كلمة (الأممين) على غيرهم من الأمم الأخرى.

(2) ـ الفريسيون: هم إحدى طائفتين دينيتين هامتين لليهود، كانتا ذات شأن في عهد المسيح عليه السلام. ظهر الفريسيون بعد أن استطاعت أسرة المكابيين تخليص اليهود من طبقات السلوقيين. وامتازوا بحرصهم الشديد على التعاليم الدينية شفوية كانت أو تحريرية، وتخليصها من الشوائب والبدع الدخيلة، فأحدثوا حركة ونشاطاً فكرياً كان له أثره في حياة الشعب عامة ونزعته الدينية بوجه خاص، وساعدوا على تطور اليهودية، امتد نشاطهم إلى القرن الثاني الميلادي.

(3) ـ القرائية مذهب يهودي نشأ في بغداد في القرن الثامن رفض التمسك بالتلمود، ويقال إن معتنقيه يتمسكون بالإنجيل.

(4) ـ وضع دائرة المعارف اليهودية أكثر من أربعمائة عالم ومتخصص تحت إشراف مجلس تحريري.

(5) ـ قارن هذا الكلام من مسؤول أمريكي سابق مع سياسات الإدارة الأمريكية في العقود المتأخرة.


يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:36 AM

الفصل الثاني
الفشل في إصلاح اليهودية
دعا الدكتور كوفمان كوهلر، من (معبد بيت إل) بمدينة نيويورك، إلى مؤتمر إصلاح يجمع الأحبار في (بيتزبرغ) بألمانيا، وذلك في 17 ـ 18 من نوفمبر 1885. ولقد أصبح البرنامج الذي تبناه المؤتمر أساساً لإصلاح اليهودية(1). وكان الإعلان الأساسي الذي دعا للإيمان به كما يلي:
(أننا نعتبر اليهودية تمثل أسمى إدراك للمفهوم الإلهي، كما تعلمنا كتبنا المقدسة، وكما تعهد لذلك المعلمون اليهود. وتؤكد بأن اليهودية قد حفظت وسط الصراعات والمحن المستمرة.. هذه هي الفكرة الإلهية كحقيقة دينية رئيسية للجنس البشري).
(ونحن نقدر ما يسجله الكتاب المقدس من تكريس الشعب اليهودي لرسالته وهي خدمة الله الأوحد، ونوقره كأعلى مصدر للإرشاد الديني والأخلاقي. وإننا نعتبر أن الاكتشافات الحديثة للأبحاث العلمية في عالم الطبيعة والتاريخ لا تعادي مبادئ اليهودية، باعتبار أن الكتاب المقدس يعكس الآراء البدائية لعصره، ويعبر عن مفهوم العناية الإلهية والعدل إزاء الإنسان بأوصاف إعجازية).
(وأننا نرى في التشريع الموسوي نظام تدريب للشعب اليهودي على رسالته أثناء حياته الطبيعية في فلسطين. واليوم لا نقبل إلا بالقوانين الأخلاقية فقط كملزم لنا، ولا نحافظ إلا على الطقوس التي تنعش وتقدس حياتنا، ولكننا نرفض كل ما لا يتمشى مع آراء وعادات المدنية الحديثة).
(ولسنا نعتبر أنفسنا أمة بعد اليوم، بل جماعة دينية، ولذا فنحن لا نتوقع العودة إلى فلسطين ولا عبادة التضحية تحت حكم أبناء (هارون) ولا استعادة أي من القوانين الخاصة بالدولة اليهودية).
(ولما كانت المسيحية والإسلام ديانتين وليدتين عن اليهودية فإننا نقدر رسالتيهما الإلهيتين لنشر التوحيد والحقيقة الأخلاقية. وإننا نعترف بأن روح الإنسانية العريضة لعصرنا حليفة لنا وتحقق أماني كل من يعمل معنا لإرساء سلطان رسالتنا، ولذا فنحن نمد يد الزمالة الحقة المستقيمة لكل الناس).
(ونحن كذلك نؤكد على الاعتقاد اليهودي بأن روح الإنسان خالدة، ونرى في الاعتقاد بالبعث الجسدي، والجنة والنار، وهذه أفكار لا جذور لها في اليهودية، كمكاني إقامة أبدية للجزاء والعقاب).
وكذلك تبنى الإعلان بالإجماع قراراً يعلن بأنه لا يوجد في روح اليهودية أو قوانينها ما يمنع إقامة صلوات الأحد في الأحياء التي تبدو فيها ضرورة لهذه الصلوات. وتعترف مقدمة القرار بأهمية المحافظة على (السبت) التاريخي كصلة مع الماضي ورمز لوحدة اليهودية.
ولكن يجب الملاحظة بان جوهر اليهودية المتعصبة هو الاعتقاد باستعادة إسرائيل. فقط كان العالم اليهودي ينظر إلى الشتات كعقاب إلهي، ولكن اليهود كذلك يظلون شعب الله المختار، وظل الاعتقاد بانبعاث المسيح من إسرائيل يصبح (ملك الملوك) ويعيد اليهود إلى المكان والموقع الذي وعدوا به. وأما التخلي عن القومية أو الجنس فهو خسران لليهودية، فقد كانت الديانة اليهودية مرتبطة تماماً باليهودي العرقي، ورغم بعض الاحتجاج على ذلك، لم يكن لها علاقة بالإنسانية بشكل عام.
وبالطبع فقد قوبل نكران هذه الأسس الاعتقادية من جانب الإصلاحيين بمعارضة عنيفة واستنكار شديد من قبل المتعصبين. ولكن العقل والمنطق وتسعة عشر قرناً من الشعور الجماعي، كان بجانب المصلحين. ولا شك أن التاريخ سيسجل أنه، لولا تدخل عوامل أخرى، لكانت ما تسمى بـ (المشكلة اليهودية) في طريقها إلى الحل المرضي. وقد كان مؤتمر الأحبار بفرانكفورت سنة 1845 قد أعلن بأن (كل مطالب العودة لأرض آبائنا واستعادة دولة يهودية يجب أن تحذف من صلواتنا). واستطاع الأحبار الألمان والأمريكان المتحركون على طريق الحرية الجديدة، النظر إلى التشتت على أنه نعمة، وأصبحوا يعتقدون بإمكان فصل اليهود عن القومية اليهودية والجنس اليهودي ويفترضون قيام شخصية روحية يمكن أن تضم كل الأجناس والقوميات. وبذلك شكل بيان 1885 نقطة تحول هامة في التفكير اليهودي. ولكن سرعان ما وضعت العراقيل في طريق نموه، وكاد يدمر على أيدي جماعات المهاجرين الذي تدفقوا من أوروبا الشرقية.
كان اليهود الروس متعصبين إلى درجة الجنون، ولم تكن رحلتهم إلى الولايات المتحدة لمجرد أسابيع أو أشهر قليلة وإنما كانت رحلة تغطي خمسة قرون من التطور والتفكير. وكانت القفزة من عبودية القرون الوسطى إلى أمريكا الحرة قفزة تتوقف معها الأنفاس.. ولكنها كانت بالنسبة لليهود الروس مجرد خطوة هامة على الطريق الطويل التي يجب أن تؤدي بهم في النهاية إلى إعادة إسرائيل والعودة إليها.. وقد أصبحوا الصهاينة المتقدين حماساً والقوة الدافعة للقومية اليهودية في أمريكا.
كانت المعابد اليهودية التي أقامها اليهود الروس في الولايات المتحدة شديدة التعصب. فلم ترتبط هذه المعابد مع (اتحاد الطوائف اليهودية بأمريكا)، بل توحدت تحت اسم (اتحاد الطوائف اليهودية المتعصبة بأمريكا). ولم تكن عند أولئك اليهود رغبة في أن يصبحوا يهوداً ذوي ديانة يهودية وأسسوا صحفاً باللغة (الييدية) (لغة اليهود في الاتحاد السوفييتي)، ومدارس يهودية على النظام الروسي. وأسسوا حول الكنيس والمدرسة العبرية (المركز اليهودي) الذي تطورت عنه مراكز الجماعة اليهودية، الموجودة اليوم في المدن ذات العدد الكبير من السكان اليهود. وقد كان الهدف من جهودهم التنظيمية المتزايدة الرغبة في المحافظة على يهودية شباب اليهود الأمريكي، وهوية الشعب اليهودي كأمة متماسكة، وكذلك الرغبة المفهومة في صون اليهودية.
كان اليهودي الذي ينادي بإصلاح اليهودية في الولايات المتحدة يقول: (هذا البلد هو فلسطيني، وهذه المدينة هي قدسي، وهذا المعبد هو هيكلي). نعم، قيل هذا في أول كنيس يهودي إصلاحي أقيم في تسارلستون سنة 1841. ولكن اليهود الروس المتعصبين لم يكونوا مطلقاً يفكرون في يهودية ليس لها (حياة قومية). فقد عملت المعازل (الغيتو) على إبقائهم شعباً منعزلاً، وبذلك حافظوا على الديانة اليهودية، وكان الحفاظ على الديانة اليهودية عندهم يحتم المحافظة على اليهودية كعنصر وشعب، لأنه لو ماتت القومية اليهودية لاختفت العنصرية اليهودية بالضرورة، ومعها الديانة اليهودية.
في الثامن من يونيو 1915 بعث لويس برانديس (من المحكمة العليا للولايات المتحدة) رسالة إلى المجلس الشرقي للمؤتمر المركزي للأحبار الإصلاحيين، جاءت الفقرة التالية:
(يشكل اليهود قومية متميزة، يعتبر كل يهودي فيها، مهما كان بلده ومركزه ومسكنه ومعتقده، عضواً بالضرورة).
(1) ـ اشتهر المؤتمر باسم (الميثاق الحبري للكنيس العبري االإصلاحي).

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:37 AM

الفصل الثالث
الاضطهاد و(معادات السامية)
إن الوضع التاريخي لليهود في أوروبا مشوش: شوشه المؤرخون الأمميون واليهود على حد سواء، فأخذوا، انطلاقاً من الخنوع الغريب عند الأمميين، والذرائع المتأصلة عند اليهود، يصورون المسيحي الأوروبي كمضطهِد متعطش لسفك الدماء، ويصورون المقيم اليهودي كضحية بريئة. وهذه التقسيمات التاريخية مثل (عصور الظلام) و(العصور الوسطى)، و(القرون الوسطى) إلخ.. ليست إلا تقسيمات تولد انطباعات الشر والقسوة والبربرية. وترسم هذه التعبيرات لتاريخ اليهود في أوروبا صورة سوداء، ولذا فاليهودي ينتصب إزاء هذه الخلفية كشهيد وضحية للقسوة المسيحية. ولا يخفى على المرء تبجح اليهود وسعي مؤرخيهم لتحقيق مآربهم الخاصة. ولكن الذي لا يمكن فهمه هو السبب في رغبة المؤرخين المسيحيين في تحريف وتشويه التاريخ. ونحن بالطبع لا نقول إن كل المؤرخين المسيحيين قد ارتكبوا هذا الإثم، ولكن مؤلفات هؤلاء المؤرخين المنصفين ليست متداولة على نطاق واسع، ومن الصعب الوصول إلى مؤلفاتهم دائماً.
كانت روابط القرابة في الثمانمائة سنة الأولى من إقامة اليهود في أوروبا هي السمة المميزة للتجمعات البشرية. فلم يكن لمكان الميلاد أهمية كبيرة، ولم يكن أحد يظن أبداً أن مكان الميلاد سيصبح بالضرورة هو الذي يمنح الشخص الحقوق ويتطلب منه الواجبات القومية. وكانت الشعوب الأوروبية، التي أخذت تضعف عندها ببطء روابط الدم العائلية والقبلية، عميقة الشعور بالولاء والالتحام من خلال روابط القرابة الدموية. ولم يكن اليهود يتمسكون بهذا المفهوم وحسب، بل كان ذلك هو الفرضية المنطقية الكبرى التي اعتمد عليها وجودهم نفسه ! وقد كان ذلك المفهوم هو النقطة الوحيدة التي اتفقت عندها الأمم المسيحية والأمة اليهودية في أوروبا، والقطة التي تولد في الفرن لا تصبح بالضرورة قطعة من (البسكوت)، كما يقول (ولنجتون). وكذلك لم يكن مولد طفل بريطاني أو يهودي الأبوين مصادفة في باريس يعطي هذا الطفل الجنسية الفرنسية. ولم يصبح مكان الميلاد يعطي المرء مزايا وحقوق المواطنية إلا في المائتي سنة الأخيرتين. ولكن هذا المبدأ الجديد ظل يتعلق بجانب واحد فقط.. فبينما قدمته الأمة المسيحية لكل الأجناس والأقوام، رفضته اليهودية المنظمة من حيث الجوهر.. ولكن هذا لا يعني أن اليهود لا يستغلون هذه المزايا الجديدة استغلالاً كاملاً، بل إنهم يستغلونها جيداً، ويظلون يصرون في نفس الوقت، وبخبث، على أنهم (أمة) منفصلة متميزة ومختلفة، أمة داخل الأمم، وهم في نفس الوقت مؤهلون لمزايا خاصة، أعظم مما يتوقعها المواطنون العاديون.
لن يستطيع إلا القليل من الناس أن يطعن في الافتراض القائل إن وجود (أمة داخل أمة) أو (دولة داخل دولة) يتعارض مع الاستقرار الاجتماعي ومع أمن الدولة نفسه. ولكن هذا تماماً هو الحال الذي كان عليه كل بلد أوروبي أقام فيه اليهود.
ويمكن أن نتساءل: لماذا لم يذرف أحد الدمع علناً على طرد اليسوعيين من فرنسا وغيرها من بلدان أوروبا ؟ ومن يحزن اليوم لمحنة المسيحيين الذين وقعوا بين شقي رحا المكائد السياسية الفرنسية، المسيحيين الذين هربوا من مساقط رؤوسهم وعانوا النفي والموت وصودرت أموالهم وممتلكاتهم عندما كانوا مع الطرف الخاسر ؟ هذا، بينما لا توجد نسبة بين الأعداد الهائلة من المسيحيين الذين عانوا الاضطهاد، وبين عدد اليهود القليل جداً ممن يقال أنهم عانوا على يدي أوروبا المسيحية..
ولقد شاعت القصة المحزنة لطرد اليهود من إسبانيا سنة 1492، حيث طرد ما بين 160 ألفاً و200 ألفاً، القصة التي تصور ظلم وقسوة فرديناند وإيزابلا والكنيسة الكاثوليكية، وتصور براءة اليهود.. وجاء بعد قرن طرد مليون مسلم من إسبانيا، هلك منهم مئتا ألف في المنفى، ولكن هذا الاضطهاد لم يستدر عطف ودموع العالم !
ولكن ما الذي جعل اليهودي إنساناً مكروهاً في العالم ؟ إنه لم يستطع العيش بسلام في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، وجاء إلى أوروبا دون أن يقدم له أحد دعوة للحضور إليها، ولم يطلب أحد منه البقاء والإقامة فيها. بل إنه في كل مرة كان يطلب منه الخروج، وكان لا بد من طرده دائماً. فلم تكن له مهمة ولا رسالة ولا دعوة في أوروبا، ولم يكن يرتبط بالأوروبيين بأي رباط. والحقيقة أنه كان يحتقرهم، ولم يحتفظ في قلبه إلا بالكراهية لدينهم وحكوماتهم ومؤسساتهم، وعندما جاء إليهم أعلن أنه مختار من عند الله وأنه منح المسيحي إنجيله وسمح للمسيحي باستخدام العهد القديم اليهودي. بل وقد ادعى لنفسه كل ما هو مسيحي، باستثناء الجمعة الحزينة وعيد الفصح.
ليس من حسن المعاشرة أن تعلن (التعالي) داخل أي جماعة من الناس، بل ومن الغباء المطلق أن تفعل ذلك داخل قوم أنت عندهم غريب تماماً، وخاصة عندما لم تكن قد تلقيت دعوة للحضور إلى ديارهم.
فالتفوق لا يحتاج إلى إعلان ودعاية، والناس سرعان ما يميزون مظاهر وملكات التفوق. ولكن الأوروبيين لم يجدوا عند ضيوفهم، الذين وفدوا بلا دعوات، شيئاً من علامات التفوق.
ولقد عرفت المسيحية العداوة البغيضة عند اليهود، وكانت أوروبا، في مراحل تطورها قد ناءت بحمل المشاكل المعقدة الناجمة عن حب البقاء.
وجاءت المشكلة اليهودية عاملاً آخر أضاف عنصر الإزعاج لذلك الحمل. ولكن المدافعين عن اليهود يريدون من العالم الحديث الاعتقاد بأنه لم يكن للأمم المسيحية بأوروبا من عمل إلا الإساءة لليهود الأبرياء، وأنه لا ثروة إلا ثروة اليهود ولا علم إلا علم اليهودي.
كانت الحياة في أوروبا بوجه عام، أثناء مرحلة التطور تلك، صعبة وقاسية. وإذا استثنينا ذوي الحال الميسورة من الأغنياء، فقد كان الكل يعاني من أيام قاسية أثناء الحروب والمجاعات والأمراض. ولم تكن الحياة مفروشة لعبيد الأرض والفلاحين الأوروبيين.. ولكنهم تحملوا ذلك الضنى والضنك، وقام أحفادهم ببناء أعظم مدنية عرفها التاريخ(1)، واكتشفوا النصف الآخر من العالم، وارتادوا معظم أطرافه النائية. وظهرت مدن عظيمة وأمم وصناعات كبرى، وتلاهم اليهود في ذلك.
عندما أعلن ثيودور هرتزل (مؤسس الصهيونية الحديثة) بأن اليهود هم الذين صنعوا الغيتو، فأما أنه كان يعتقد بأن الغيتو قد فرض على اليهود أو أن الغيتو إنما هو مؤسسة يهودية بحتة. والواقع أن القيادة اليهودية كافحت وأرست الغيتو وقاومت إلغاءه. وقد عمد هرتزل إلى الموافقة على وجود معاداة للسامية بمعناها الحرفي وبدون أن يوضح ذلك، رغم أنه كان يعترف بجلاء الحقيقة الواضحة في وجود يهود لا يعتبرون من الرجال الممتازين. ولما يئس هرتزل من حل (المشكلة اليهودية) بطريقة معقولة ومنطقية دعم مخططه الصهيوني الرامي إلى تجميعهم في وطن قومي، وانتهى إلى القول إن (الأمم التي يعيش اليهود وسطها معادية للسامية بشكل مستتر أحياناً وبجلاء واضح أحياناً أخرى).
إن الافتراض بأن شعباً يحمل في صدره بغضاً أو حقداً متأصلاً غير منطقي لشعب آخر، أو لشعب معين أو لفلسفة معينة أو ديانة معينة إنما هو سلاح جديد في الحرب العقائدية. ومن المعروف في علم التربية أن (الاتجاهات) لا تتكون فجأة عند الناس وإنما تتشكل لسبب أو أسباب متكررة بعد سلسلة من التجارب التي يمر بها الإنسان. فالطفل الذي ينحرق إصبعه لا يتطور عنده (اتجاه) مفاجئ ضد النار، قبل تجريب تأثيرها. وإذا أردت أن تؤكد بأنه لم يحدث قط كره عالمي لليهود وسوء ظن بهم فإنك تنكر أو تتجاهل سجلات التاريخ. ومن المعروف أن المؤرخين لا يضخمون هذه الحقيقة ولا يقللون من أهميتها، ولكنها ظاهرة موجودة تؤكدها اليهودية العالمية المنظمة. وتعمد الدعاية اليهودية إلى القول أنه لم يوجد شعب آخر احتقر على مستوى عالمي واضطهد في أنحاء العالم كما حدث لليهود. وإذا سألت رجل الدعاية اليهودي عن أسباب هذا الكره العالمي وهذه الإساءة العالمية في معاملة اليهود فإنك سرعان ما توصم وتتهم، دون أن تقول شيئاً آخر، بأنك (نازي وفاشي ومعاد للسامية). ولا بد أن هناك افتراضاً ضمنياً عند اليهود، ويحتمون أن يكون هذا أيضاً افتراض كل من يعنيه الأمر إذا أراد الابتعاد عن التنديد الفظيع، وهو أن اليهود هم أكثر أبناء البشرية براءة وطهراً وفضيلة، وأن أعداءهم أشد الناس وحشية وأكثرهم شروراً وأغلظهم قلوباً وأكثرهم انحطاطاً.
وإذا قبلت بهذا الافتراض على أنه حقيقة فإنك غبي ولا شك. فلا يوجد شعب سيء بكامله، أو آخر طيب في مجموعه.. فالسمعة السيئة والسمعة الحسنة لشعب معين يمكن أن تتتبع آثارها، إلى حد كبير، في نوايا وطموح ودهاء وصفات قادته. وعلى ذلك يمكن لهتلر وموسوليني وستالين أن يكسبوا شعوبهم سمعة سيئة.. ولكن هناك أيضاً قادة آخرون هم مثل لفضائل الشعوب التي يمثلونها، ويشتهرون بصفات الكرم والفضيلة والإنسانية. ولكن اليهودية المنظمة ترفع صوتها أنه حيثما حل اليهودي فإنه يواجه بالكراهية والسرقة والاضطهاد، وأن الأمة بعد الأخرى قامت بفتح النيران على اليهود مراراً وتكراراً وطردهم رسمياً عندما يتبين الناس أنهم يهود. وتدعي تقارير اليهودية المنظمة أنه لم تحدث في التاريخ حالات استثنائية، فلم يحدث قط أن عاشوا سعداء، اللهم إلا فترات من الهدوء الخبيث كان المسيحيون الشريرون فيها يستعيدون أنفاسهم وقواهم للقيام بحملات عدائية أشد رعباً.
إن من يستنتج من ذلك أن اليهود دائماً ضحايا بريئة لا يحملون في قلوبهم شراً ولا يثيرون الفتن ليس إلا أحمق أو متحيزاً. إن المنطق لا يقول أن كل الناس يتمتعون بالكمال. والعقل كذلك يوحي بأن تأكيد اليهود على الحقد العالمي عليهم إما أن يكون جزاء عادلاً لهم أو أن هذا التأكيد ليس له أساس من الصحة.
لقد كانت تصرفات الشعوب وتصرفات الناس في كل الأزمنة متقاربة، وطبيعتهم واحدة، ولا يوجد دليل يثبت أن الناس في هذا الزمان أسوأ كثيراً ممن قبلهم في العصور الماضية.. فالرحمة والكرم والتواضع صفات متوارثة تنتقل من جيل لآخر، وكذلك الطيبة لا تلد إلا طيبة.. أما إذا حدث دائماً كراهية أو عدم ثقة عالمية باليهود، فمن الضروري التفتيش عن سبب لذلك. ومن غير المعقول الاعتقاد بأن اليهود كانوا السبب في ذلك دائماً لمجرد أنهم يهود فقط.
لا بد أن نجد الإجابة في شخصية القيادة اليهودية.
لقد بدأت صيحة الاضطهاد الديني تبدو عميقة منذ زمن بعيد.. وقد كانت تستخدم في البداية كما تستخدم كلمة (عنصري) هذه الأيام، ولنفس الغرض، وكان الهدف منها دمج المصالح اليهودية وإجبار اليهود على التلاحم، مع التنديد بالمذاهب الأخرى من أجل دفع الطموح اليهودي إلى الأمام. ولقد كانت اليهودية دوماً هي التي تخوض معارك (الاضطهاد الديني) وتشنها. وبينما وجدت وتوجد ستظل توجد خلافات عقائدية بين الكنائس المسيحية، فلا تؤدي هذه الخلافات لمهاجمة أساس المسيحية نفسها. وليس على المرء إلا مراجعة (الحوليات اليهودية) حتى يرى الهجوم اليهودي المنظم على المسيحية، ويأخذ فكرة عن الاضطهاد الديني في الولايات المتحدة. وبينما نجد كلا من البروتستانت والكاثوليك يحترمون أتباع اليهودية، لا نرى إلا اليهودية المنظمة تكره المسيحية. ويسهل اكتشاف سجل اليهودية الطويل وجهدها المضني لطمس كل وسيلة من وسائل التعبير المسيحي من كل مظاهر الحياة اليومية بأمريكا.
لقد قام الكتاب اليهود وغيرهم ممن يدافعون عن اليهود بتقديم أسباب واهية لمعاداة السامية. ويعمد الكتاب اليهود إلى تفسير اضطهاد اليهود على أساس أنهم (متهمون باطلاً بأن جنسهم يقوم على استغلال السكان الأمميين الذين يعيشون بينهم). وهناك نظرية اخترعها اليهود حديثاً وهي أنهم دائماً (كبش الفداء). وينفس الطريقة التي يفسر بها الماركسيون الفاشية على أنها نتاج الرأسمالية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، يفسر الكتاب اليهود المعاداة للسامية بأنها نتاج (نظم اجتماعية بالية). ولكنهم في الواقع إنما يرمون إلى هدف آخر بهذا التفسير: (فالنظام الاجتماعي البالي) يعمد، من خلال (قياداته المفلسة)، إلى تحريض الناس على ذبح اليهود بقصد تحويل غضب المعدمين عن (الأسياد) إلى اليهود، ويدعو إلى اضطهاد اليهود لكي يمكن توجيه عنف (العمال المستغلين) إلى (الإسرائيليين الأبرياء) بدلاً من (أصحاب العمل والمسؤولين الشرهين). والواضح أنه هذا التفسير يخلو من المنطق، وهو محض افتراء وليس له دليل تاريخي، وهو إهانة للعالم المسيحي، مدثرة بتعليل نفس شرير.
وقد ظهرت نظرية يهودية أخرى تدعي بأن العداء للسامية مرض، وهي بالتحديد (مرض عقلي). لقد ندر أن ظهر في التاريخ تصور أكثر زيفاً وعجرفة من البيان القائل أن المعاداة للسامية مرض ! وهذا الادعاء في جوهره إنما يدعي كذلك الكمال اليهودي والفضيلة اليهودية والتفوق اليهودي، بينما يحيل الكافرين باليهودية ومن ينتقد أهلها إلى مستشفى الأمراض العقلية.
ولكن ما هو أساس ما يسمى بالمعاداة للسامية ؟
يمكننا الإجابة بأن المعاداة للسامية غير موجودة، لأن هذا الاصطلاح إنما هو من صنع الشيوعية الصهيونية لتغطية المعاداة للأمميين. فقد أعلن لويس برانديس اليهودي والقاضي بالمحكمة الأمريكية العليا قوله: (إن اليهود أمة متميزة). وهذا هو هيرتزل يقول: (بوسعي أن أمنحكم تعريفي كأمة، ويمكنكم إضافة الصفة اليهودية لها. فالأمة اليهودية في رأيي هي جماعة تاريخية من الناس ذات التحام كبير، يجمعهم إلى بعضهم عدو مشترك. وإذا أضفتم كلمة (يهودية) فإنكم تصبحون ما أفهمه، وهو أنكم الأمة اليهودية).
وإذن يمكن القول أن (معاداة السامية) طلاء تمويه لحصان طروادة الصهيوني.
إن (العدو المشترك) للأمة اليهودية حسب افتراض هرتزل، هو المسيحية(2). فقد ظل قادة اليهود عبر القرون ينظرون إلى المسيحيين من خلال عيني (سيمون بن يوهان) وكان موقفهم الدائم معادياً للأمميين ومعادياً للمسيحيين. وكان لا بد أن يعمل هذا الموقف، المحفور على قلوب وأدمغة الأجيال المتعاقبة من اليهود، على إلهاب مشاعر الاحتقار المستتر الكامن في صدر كل فرد منهم، أما أن تكون من (النخبة) (وشعب الله المختار ـ شعب العهد)، ثم تضطر للجوء إلى بلاد (العدو الخالد)، فهذا أمر يحقرك ويخيب أملك خيبة فوق حدود التصور. ولذا يصبح الدهاء والاحتيال والمناورة واستغلال العدو هو المخرج للحقد الدفين.. ولكنهم عندما ينكشف خداعهم ويقع عليهم غضب المخدوعين يصرخون مدعين بأنهم ضحايا (الاضطهاد الديني ومعاداة السامية).
ربما وجدت وتوجد حالات يساء فيها لليهود بدون مبرر، وإذا اعتقد الإنسان خلاف ذلك فإنه يكون متعصباً كاليهودية المنظمة نفسها. غير أن التاريخ يسجل كذلك الكثير من حالات وحوادث الظلم لكثير من الشعوب، وأقلهم تعرضاً لذلك هم اليهود. هذا، بينما اليهودية المنظمة هي التي تؤمن بالاضطهاد العالمي لليهود على أنه حقيقة مُسلَّم بها.
ولا بد من أن تفتش عن صلب قضية (المعاداة للسامية) في المفهوم شبه النازي عن النقاء الجنسي والتفوق العرقي في الاعتقاد بأن اليهودي، بغض النظر عن بلده ومركزه في الحياة، وبغض النظر عن عقيدته وكفره، وانتمائه السياسي وأي اعتبارات أخرى، إنما هو فرد وعضو في (قومية مميزة وخاصة). وها هو أحد المسؤولين اليهود يؤكد بأن (إنكار الجنسية اليهودية إنكار للوجود اليهودي نفسه). وقد أعلن (ليون سيمون) بأنه (ليس لليهودية رسالة لإنقاذ روح الفرد، كما للمسيحية، وإنما ترتبط أفكارها بوجود الأمة اليهودية). وكتب موسى هيس (الحبر الشيوعي) يقول: (إن كل يهودي، رضي أم أبى، يتحد اتحاداً فعالاً مع كامل الأمة اليهودية).
أليس هذا المفهوم هو محور أحلام هتلر بالرايخ الثالث في تجمع (أخوة الدم) (وحماية وتحرير الأقليات الألمانية ؟) وهل طلب هتلر أو ادعى للشعب الألماني أكثر مما طلبه وادعاه سيمون وهرتزل وهيس وبرانديس لليهود ؟ الجواب عن ذلك هو أن هتلر ربما كان متواضعاً، قياساً مع ذلك.
ونتيجة هذه الفلسفة هي خلق مفهوم عن التفوق الجنسي يتحدى كل جهد سليم الطوية يعمل لإقامة أخوة الإنسان.
(1) ـ هذا رأي المؤلف في الحضارة الأوروبية أو الغربية المعاصرة، ولا نختلف معه حول تقدمها المادي، ولكننا نخالفه الرأي في جوانبها الأخرى وبخاصة الروحية والإنسانية.

(2) ـ المؤلف بحكم كونه مسيحي معذور في الإصرار على عداء اليهودية للمسيحية ولكن اليهود ألد أعداء الإسلام كذلك، وقد كادوا لنبي الإسلام وتعاونوا مع الوثنيين ضده.. وظل اليهود يكيدون للإسلام والمسلمين طيلة عصور التاريخ، وهم يحلمون اليوم باحتلال المدينة وهدم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:38 AM

الفصل الرابع
قوة المال الرهيبة
(( عندما نهبط نصبح الطبقة الكادحة الثورية والموجهين من طرف خفي لكل الأحزاب الثورية.. وعندما نصعد تصعد معنا قوة أموالنا الرهيبة))
ثيودور هرتزل (مؤسس الصهيونية الحديثة) في كتابه (الدولة اليهودية)
نلاحظ في القول السابق لهرتزل أنه لم يقل (عندما يهبط بعض اليهود) أو (عندما يصعد بعض اليهود)، ولكن قال بالتحديد (عندما نهبط.. وعندما نصعد) ! فقد كان هرتزل يفكر في (الأمة اليهودية)، لا في اليهود كأفراد. ولم يكن هرتزل يبالي أبداً، سواء شق اليهود طريقهم بالقوة والعنف عبر الأسوار الأوروبية أم اشتروا عملية الدخول شراء أو بالرشوة، أو جمعوا بين هذه الوسائل كلها لتحقيق الهدف الجماعي. ولم يكن هرتزل يدعو للفضائل والأخلاق أو يتنبأ بحدث، بل كان يوضح حقيقة تاريخية ويصدر توجيهاً لليهودية العالمية. وقد أحدث ذلك الجمع بين (الطبقة الكادحة الثورية) وبين (قوة المال الرهيبة) تغيرات هامة هزت العالم بالثورة الشيوعية.
لقد قيل إن النقود هي جذور كل بلاء، ويمكن أن يقال أيضاً إن المال مصدر القوة، وخاصة القوة الشريرة. إذ يمكن له أن يحقق ما يعجز عنه المنطق والتسول والتملق. وهو العصا السحرية لبلوغ المنزلة الخاصة والنفوذ الخاص في المقامات العليا، والمال أيضاً هو الذي يشتري الحكومات كما يشتري السكك الحديدية، وهو الوقود الذي يحرك الجيوش والأساطيل، وتتحطم الثورات بدونه.. ويمكن للنقود في العصر الحديث أن تشتري الرأي العام.. أما عامل الغد فهو لمن يسيطر على الصحافة والإذاعة.
المعروف أن روح المصلحة الخاصة هي التي تتحكم في الإنسان. ولا شك أن مواطن الضعف في الطبيعة الإنسانية واضحة، ويعرف اليهود مواطن الضعف هذه جيداً في تعاملهم مع الأمميين ـ في عالم التجارة والسياسة. وهو يرون أن من واجبهم استغلال مواطن الضعف من أجل تحقيق أهداف إسرائيل.
ولليهود قانونهم الخاص، ولا يحتكمون مطلقاً لقانون البلدان الأممية التي يعيشون فيها، ويظل هذا القانون دوماً أعلى وأسمى من قانون بلدان إقامتهم. ففي روما، مثلاً، عاشوا يحتكمون إلى قانونهم، بترخيص خاص من القيصر، وبالتالي لا يرون في خرق قانون الأمميين أمراً ينافي الأخلاق أو خطأ يلامون عليه. وحينما تعارضت مصالح اليهود مع قوانين البلد الذي يقيمون فيه، يجب تنفيذ الأهداف اليهودية أولاً وقبل كل شيء.
ويعتبر اليهودي ما يسمى بحريات الأممين مجرد خرافة. فهو لا يبالي بهم طالما ظل يناور من أجل الأهداف اليهودية، وليست الحرية عنده إلا مجرد فكرة تستخدم في حملة (بيع). والحرية، شأنها شأن الشعارات الجيدة في التعامل التجاري، ليست إلا طمعاً مؤكد المفعول عند التعامل مع جماهير الأمميين. وتعتبر المصطلحات من أمثال (الحرية) و(التحرر) و(الديموقراطية)، في عملية إضعاف السلطة القائمة، تعبيرات جذابة وفاتنة. ويشعر اليهودي بأن العالم الأممي مفتون بهذه الأفكار، واستعمالها هناك يجعل الأمميين مهادنين، ويمكن عن طريقها الإطاحة بهم. فكلما هادن الأمميون اقترب تحقيق (العهد) ـ عهد إبراهيم.
هنالك طريقتان للسيطرة على الشعوب تأكد مفعولهما بمرور الزمن، الأولى: استخدام الثروة بسخاء، والثانية: مزاولة الإرهاب. أما استخدامهما معاً بمهارة وعبقرية فربما يجعل العالم كله يركع على ركبتيه. وإذا قلبنا صفحات التاريخ، وجدنا أن الأمر لا يختلف، سواء انهارت الأمم تحت ضربات عدو خارجي أم تهاوت نتيجة استغلال داخلي. وليست الحرب في أي مفهوم حديث مغامرة جريئة ولا تقتصر على حركات الجيوش وقصف المدن. فالمكر والخداع والتسلل والخيانة أسلحة ذات فعالية تفوق فعالية القنابل الذرية، واستخدامها بمهارة يحقق النصر الفعال.
ولكي تحقق إسرائيل مرماها فإنها تظل في حرب مع عالم الأمميين. وليست هذه الحرب خفية فقد أعلنها اليهود منذ ألف سنة.. ولم تكن المعارك التي خاضتها عبر القرون سوى مناوشات. أما الأسلحة الجديدة والمهارات الجديدة والطرق الجديدة في الحرب فليست إلا نتاج العصور. وقد عمل تطور الثروة من جهة على إفساد قوة الأباطرة، بينما عمل تصاعد الإرهاب من جهة أخرى على تهاوي العروش. ولقد حوربت الديانة ودنست المقدسات، واستغلت العيوب الإنسانية وأجبرت على دفع الثمن غالياً. ولم يكن لدم الإنسان قيمة منذ حروب الأفيون إلى اغتصاب آل روتشيلد خيرات جنوب أفريقيا.
وقد تطورت كثيراً (البروليتاريا) الثورية اليهودية مع ارتفاع قوة الأموال اليهودية الرهيبة. فلولا مساعدة رجال المصارف اليهود لفشل القائد الثوري اليهودي للجيش الأحمر " تروتسكي " (برونزتين)، ولولا القوة الرهيبة للمال اليهودي لاستحال غزو واحتلال فلسطين.
وليس يعقوب تشيف وآل روتشيلد وآل وربرغ إلا قليلاً من رجال المصارف العالميين الذين لعبوا دوراً هاماً في تشكيل مصير الحضارة المسيحية الغربية ودعم اليهودية ومؤامراتها العالمية.
ولد يعقوب هنري تشيف سنة 1847في مدينة فرانكفورت بألمانيا. وقدم إلى الولايات المتحدة سنة 1865 والتحق بإحدى مصارف نيويورك. وفي سنة 1870 أصبح مواطناً أمريكياً، ثم عاد إلى أوروبا سنة 1873 حيث قام باتصالات واتفاقات هامة مع بعض كبار الصيارفة اليهود والمصارف اليهودية الرئيسية في ألمانيا. وعندما عاد إلى أمريكا أصبح شريكاً في مؤسسة مصارف كوهين ـ لويب وشركاهم وذلك سنة 1875، حيث أصبحت ارتباطاته المالية مع آل روتشيلد ووكلائهم الرئيسيين في ألمانيا ـ آل وربرغ ـ ذات أهمية كبرى.
وفي خلال عشر سنوات مات إبراهام كوهين واستقال سلمون لويب، فأصبح يعقوب تشيف رئيساً للشركة. وقد تولى عدة مرات منصب نائب رئيس غرفة تجارة نيويورك وكان مديراً لشركة (الصندوق المركزي) و(شركة برق الاتحاد الغربي) و(شركة ويلز فارغو السريعة).
وقام تشيف، من خلال مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم) بتعويم قروض الحروب العالمية اليابانية (1904 ـ 1905) وبذلك تأكدت هزيمة روسيا فيها. وكذلك سوق القرض الصيني سنة 1911. وقاده حقده على روسيا إلى مزاولة ضغط كبير لمنع وصولها إلى أسواق نقد الولايات المتحدة.
وتعلن السلطات اليهودية أن تشيف استخدم دائماً ثروته ونفوذه لخير اليهود ومصالحهم(1). وقد توفي سنة 1920 وورثه ابنه (مورتمر ليو) كرئيس لمؤسسة (كوهين لويب وشركاهم).
كان (مائير أنسلم) هو الذي أسس (آل روتشيلد)، وكان ابن تاجر يهودي من فرانكفورت اسمه (أنسلم موسى باوير). وقد كان والده يعده لمنصب (حبر) لكنه فضل عالم المال والذهب. ثم أخذ يستخدم توقيعاً باسم (ريد تشيلد) ومعناه (الدرع الأحمر)، ثم تطور الاسم إلى (روتشيلد). وقد استقر في مهنة إقراض النقود. وفي سنة 1801 أصبح وكيل (وليام لاندغريف التاسع)، وفي سنة 1802 أخذ باوير، الذي أصبح يحمل اسم (روتشيلد)، يفاوض حول أول قرض حكومي، وهو بمبلغ عشرة ملايين طالر (نقد جرماني) للحكومة الدنمركية. وقد مات في نيويورك سنة 1812 تاركاً خلفه عشرة أطفال خمسة ذكور وخمس بنات.
وقد تأسست فروع لآل روتشيلد في كل من فيينا ولندن وباريس ونابلي، حيث تولى إدارة كل فرع واحد من أبناء روتشيلد. ولقد تمكن الأخوة، بتعاملهم البارع مع عدد كبير من العملاء في كافة أنحاء العالم، بالإضافة لاستعمال أساليب ذكية وماهرة في الاتصال السريع، تمكنوا بذلك من إيقاع كل أوروبا في شباكهم المالية. وكذلك عملت المصاهرة الداخلية للأسرة على تضامن آل روتشيلد وحفظ مصالح الأسرة، وتأكيد استمرار سيطرتهم على العديد من المؤسسات. وفي سنة 1815 منحت استراليا للأخوة امتياز وراثة الأراضي، وفي سنة 1821 أصبحوا يحملون ألقاب (بارون)، وتمكنت بنات آل روتشيلد فيما بعد من الزواج في بريطانيا والقارة الأوروبية من شباب لأسر أممية وبذلك امتد نفوذ آل روتشيلد ودماؤهم إلى (مجلس اللوردات البريطاني) وإلى الدوائر الحاكمة في أوروبا.
كان (سليمان روتشيلد) مسؤولاً عن فرع فيينا، وقادته علاقته الوثيقة مع الأمبر (مترينخ) إلى عقد صلات وثيقة مع القوى المتحالفة.
أما (يعقوب)، الأخ الأصغر، فقد تولى إنشاء فرع باريس بعد استعادة (بوربونز). وقد فاوض من أجل تقديم القروض الكبيرة، ولكنه أصيب بخسارة فادحة في ثورة 1848. وقد مول أولى السكك الحديدية بفرنسا وجنى أرباحاً طائلة من المضاربات.
وأما (كارل) فقد ترأس فرع (نابلي)، وكان أقل الفروع الخمسة أهمية، ثم توقف سنة 1860 عندما ضمت نابلي إلى إيطاليا.
ويعتبر (ناثان) الأخ الثالث، العبقري المالي للأسرة. وقد توجه سنة 1800 إلى مانشستر ببريطانيا ثم انتقل إلى لندن بعد خمس سنوات، واستخدم الحمام الزاجل والقوارب السريعة لإرسال معلومات التجسس واستغلال المعلومات الخافية على الجمهور، وأتقن فن الدعاية والمضاربة والتلاعب بالأسعار. وقد حدث سنة 1810 أن أصدر (ولنجتون)(2) بعض السندات التي عجزت الحكومة البريطانية عن التصرف حيالها، فاشتراها روتشيلد بتخفيض كبير في قيمتها، ثم استعادتها الحكومة فيما بعد بالقيمة الأصلية (الأسمية). وسرعان ما أصبحت أسرة روتشيلد مشتركة مع القوة المتحالفة في الحرب ضد نابليون، فقدمت القروض اللازمة لمواصلة الحرب. ثم أصبحت ثروة روتشيلد متورطة في مصير النزاع، وأصبح بقائها مرهوناً بانتصار المتحالفين، فقام (ناثان) بمراقبة معركة ولنجتون في (واترلو) الشهيرة وكان يتابع مد المعركة وجزرها بحماس المقامر الذي وضع آخر درهم عنده على آخر ورقة رهان.. وكانت هزيمة (بلوشر)(3) قبل يومين من ذلك قد أصابت لندن بنوبة جنونية جعلت الأسهم تتدهور في السوق.. ولما كان روتشيلد قد علم بهزيمة نابليون قبل ساعات من انتشار الخبر فقد سارع إلى شراء الأسهم وجنى من وراء ذلك ثروة ضخمة.
وقد روج روتشيلد القروض الأجنبية في بريطانيا وحدد الأسعار وبالإسترليني وجعل الأقساط قابلة للدفع في لندن. وسرعان ما أصبح الوكيل المالي لكل الحكومات المتقدمة بطلبات للقروض.
وجاء (ليونيل) سنة 1836 ليرث أباه (ناثان) في إدارة فرع لندن. وكان سقوط لويس فيليبس بفرنسا سنة 1848 قد زاد من أهميته في لندن. ولم يلتزم ليونيل التزاماً صارماً بالمصالح المالية كما كان يفعل أبوه، فأخذ يهتم بالقضية اليهودية بشكل خاص والأمور السياسية بشكل عام. وانتخب ممثلاً لمدينة لندن سنة 1847 ثم سنة 1849 و1852. وفي سنة 1858 صدر قرار من البرلمان البريطاني تغير بموجبه (قسم النواب)، الأمر الذي سمح باحتلال مركزه في مجلس العموم وظل محتفظاً به حتى سنة 1874.
والملاحظ أن فرع لندن أثناء إدارة ليونيل له لم يمول اكثر من ثمانية عشر قرضاً حكومياً، منها قرض مجاعة إيرلندة، والقرض التركي سنة 1858.
وقد اشتركت عائلات يهودية أخرى في عمليات تمويل الحكومات، مثل آل لازرد، وأل شيترن، وآل سبير، وآل سلغمان، فعمدت إلى اقتفاء آثار روتشيلد وأساليبهم في إقامة الفروع الإدارية في العواصم الأوروبية بحيث يشرف على كل فرع أحد الأخوة من الأسرة الواحدة. وحدث بعد سنة 1848 أن فتحت الحكومات الأوروبية المجال للاقتراض من الجمهور بدلاً من الاعتماد المطلق على آل روتشيلد. وقد استطاع آل شتيرن جني بعض الثمار وخاصة من القروض البرتغالية. وعمدت المؤسسات اليهودية الصغرى إلى توحيد مواردها، وتمخضت عن ذلك (الأرصدة المتحركة) و(مصرف درسدنر) ومصرف (دوتشي رايخ بانك ببرلين).
وقد اتفق آل روتشيلد مع (بليخر ودر) عند انتهاء الحرب الفرنسية ـ البروسية على دفع مبلغ خمسة ملايين فرنك كتعويض لألمانيا. وفي سنة 1875 قدم لندن قرضاً للحكومة البريطانية بمبلغ خمسة ملايين جنيه استرليني لشراء أسهم في شركة السويس، وبذلك حقق ربحاً كبيراً. وفي سنة 1884 أقرض الحكومة المصرية مليون جنيه.
وقد ثارت فرنسا على (النفوذ السامي لآل روتشيلد) وفي سنة 1876 أنشأت مصرف (الاتحاد العام) برأسمال قدره أربعة ملايين فرنك ثم رفعته إلى 25 مليون فرنك سنة 1878. وقد تقرر أن يكون المصرف (كاثوليكيا) بشكل رئيسي، ولكن (الاتحاد العام) فشل بعد أن واجه العديد من المصاعب وألحق الدمار المالي بالكثير من الأسر الفرنسية. وظل آل روتشيلد وحدهم المنتصرين في ساحة المعركة المالية. تقول دائرة المعارف اليهودية: (إن عاقبة محاولة إقامة منافس كاثوليكي لآل روتشيلد عجيبة.. فالآخرون هم الآن سدنة الثروة البابوية ! ). كان آل روتشيلد يصرون دائماً على إضفاء طابع السرية على عملياتهم.
ولننتقل الآن إلى أسرة وربرغ التي ظهرت في هامبروغ بألمانيا، حيث ولد الأخوة آبي وماكس وبول موريتز وفليكس موريتز.
وقد أصبح آبي مؤرخاً للفن الألماني وكرس حياته للأبحاث. وأصبح ماكس وربرغ من رجال المال والمصارف. وفي سنة 1914 تولى منصب مستشار (رايخسبانك) (مصرف الرايخ). وقد ألف عدة كتب حول المال. وكان المستشار المالي للوفد الألماني في مؤتمر السلام بباريس سنة 1919. وكذلك أصبح بول موريتز وربرغ أحد رجال المصارف وشريكاً في (شركة م.م. وربرغ وشركاه) التي أسست في هامبروغ سنة 1895. وعندما ذهب إلى الولايات المتحدة سنة 1902 التحق بالمؤسسة المصرفية (كوهين ـ لويب وشركاه)، وذلك في نيويورك حيث تقاضى مرتباً سنوياً قدره 500 ألف دولار. وأصبح في سنة 1911 مواطناً أمريكياً طبيعياً وشرع في إعادة تنظيم النظام المصرفي في الولايات المتحدة. ويقال أنه كان أحد رجال المصارف الذين التقوا سراً مع السنتور نلسون ألدريخ في جزيرة جيكل سنة 1910 لوضع تفاصيل ما أصبح يسمى (قانون الاحتياط الاتحادي سنة 1913).
وأما فليكس موريتز وربرغ فقد أصبح مواطناً أمريكياً سنة 1900 وكان، كأخيه بول، من رجال المصارف في هامبورغ بألمانيا قبل ذهابه إلى الولايات المتحدة، وأصبح كذلك عضواً في مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم).
وقد أصبح بول وربرغ أول رئيس لمجلس إدارة (مجلس حكام الاحتياطي الاتحادي)، مستقيلاً ـ صدق أو لا تصدق ـ من وظيفته مع مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم)، تاركاً راتبه السنوي فيها، والبالغ نصف مليون دولار، مقابل راتبه الجديد بمبلغ اثني عشر ألف دولار سنوياً ! ومن الغريب والمهم أن نلاحظ خلال الحرب العالمية الأولى أن بول وربرغ، ومن خلال المؤسسة المصرفية الأم (م.م. وربرغ) كان مسؤولاً في وزارة الخزانة الأمريكية عن أسهم الحرية، يمول الحرب ضد ألمانيا، بينما كان أخوه ماكس، ومن خلال المؤسسة المصرفية الأم (م.م. وربرغ) في هامبورغ، يمول القيصر ضد الولايات المتحدة.
وقد استقال بول وربرغ من (مجلس الحكام) في مايو 1918 بعد أن (علق الناس على حقيقة أن أخاه كان رئيساً للوكالة السرية الألمانية)، ولكنه استقال بعد فوات الأوان، وكان العقيد هاوس قد أشار في 16 من مارس 1917 بأن بول وربرغ كان (موالياً للألمان في عواطفه).
رغم أن السنتور روبرت ل.أوين اتهم وربرغ بأنه الممثل الأمريكي لآل روتشيلد الأوروبيين، لكن مجلس شيوخ الولايات المتحدة أقر تعيينه من جانب ودرو ويلسون في مجلس الاحتياطي الاتحادي.
والجدير بالذكر، كذلك، أن ابن بول وربرغ (جيمز بول) أصبح نائباً لرئيس (مصرف القبول الدولي) وكان مستشاراً مالياً للمؤتمر الاقتصادي العالمي الذي عقد في لندن سنة 1933. وكذلك كان فريدريك ماركوس وربرغ، ابن فليكس، شريكاً في مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم) منذ سنة 1930.
(1) ـ كان تشيف واحداً من قادة (اللجنة الوطنية لإنقاذ ضحايا المذابح الروسية). وترأس صندوق وبناية الدارسات السامية في (هارفرد). وكان أيضاً رئيساً لمجلس إدارة فرع شرق آسيا في متحف نيويورك للتاريخ الطبيعي. وأهدى مكتبة نيويورك عدداً كبيراً من الكتب المهتمة بالأبحاث اليهودية. وأهدى قاعة طلاب اجتماعية لكلية بارنارد. وقد شملت أعماله الخيرية كل مظاهر الحياة اليهودية. وكان رئيساً لدار مونتيفيور، ومساهماً في تبرعات (مستشفى سيناء)، وتولى دوراً قيادياً في إعادة تنظيم (الندوة الدينية اليهودية لأمريكا). وكان أمين (صندوق بارون دو هيرش) (ومدرسة دوباين الزراعية). وقدم الأموال اللازمة لبناء (الاتحاد العبري للشباب اليهودي) في مدينة نيويورك.

(2) ـ ولنجتون قائد وسياسي بريطاني نجح في طرد الجيش الفرنسي من أسبانيا بعد عدة معارك وهزم نابليون الأول في معركة (واترلو) الشهيرة، وعين فيما بعد رئيساً للوزراء ثم قائداً عاماً للجيش البريطاني مدى الحياة (1769 ـ 1852)

(3) ـ بلوشر: 1742 ـ 1819) قائد بروسي في الحروب النابليونية، له أثر كبير في انتصار الحلفاء بليبزج وحملة واترلو.

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:40 AM

الفصل الخامس
التمهيد للاحتلال
(على أي أساس تبنون، أيها اليهود، ادعاءكم في التحرر والانعتاق ؟ على دينكم ؟ إنه العدو اللدود لدين الدولة.. وإن أبشع شكل من أشكال التعارض والتناقض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض والناقض الديني. وكيف يمكن لشخص التخلص من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوجود.. وكيف يمكن العمل على استحالة وجود المعارضة الدينية ؟ بإخماد الدين).
(كارل ماركس)
برزت الشيوعية والصهيونية وسط الفوضى والتشوش الشامل الذي عم في القرن التاسع عشر، وظهرت كل منهما في روسيا في نفس اللحظة قافزة في تكوين عقائدي كامل من أذهان مجموعة عرقية واحدة. وقد أعلنت حركة منهما بأنها تنشد السلطة العالمية وتسعى للوصول إليها عن طريق العمل الثوري. وأعلنت الأخرى هدفها في الاستيلاء على أرض ليست لها، وطلبت سلطات ومزايا استثنائية في كل مكان آخر في العالم. وفي سنة 1918 نالت كلتا الحركتين أهمية عالمية: فنالت الصهيونية وعد بلفور (الفصل الثامن)، وربحت الشيوعية الثورة الروسية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى استطاعت الشيوعية والصهيونية وحدهما الادعاء بالخروج منها منتصرتين دون أن تخسرا شيئاً: إذ فازت الشيوعية بالاتحاد السوفييتي واحتلت الصهيونية رأس حربة لها في فلسطين، وبدت كلتا الحركتين وكأنهما تحت إدارة واحدة وتوجيه واحد.
وعملت القوتان على مر السنين على دعم وتقوية وحماية بعضهما بعضاً، وأكدت كلتاهما على (معاداة السامية) في برامجهما الدعائية، تنشرها حيث تواتي الفرصة لضم (مجموعات أقلية) أخرى في مناطق تقدمهما وسيرهما. وكانت القوى التقدمية في كل مكان هدفهما الدائم. ومع ذلك فقد بشرت كل من الحركتين بقومية مغالية في التعصب لم يعرفها التاريخ من قبل، وزرعت كل واحدة عملاء لها في حكومات العالم وأخضعتا المسؤولين الخانعين لإرادتيهما. وسترفعان فيما بعد العلم وتعلنان أن (الشيوعية هي أمريكا في القرن العشرين) وأن الولاء لإسرائيل (وطنية أمريكية). والملاحظ أن كلتا الحركتين تبشران بالحكومة (العالمية الواحدة) وإخضاع الشعوب للحكومة العملاقة المثالية التي تنويان أقامتهما وتصممان على السيطرة عليها. وكلتاهما ضد الأديان وضد (الجمهورية)، وتمجدان فضائل الديموقراطية بينما تزاولان الحكم المتسلط المستبد. وبينما تنددان بالعنصرية وتفَوُّق شمال أوروبا، تتنبأ كل واحدة لنفسها بأنها ستكون نخبة العالم، وشعب الله المختار. ويعتبر أتباع كل مجموعة أنفسهم غرباء في أرض يحيط بها الأعداء، مقتنعين بأن عليهم إخضاع أعدائهم لإرادتهم، وإخضاعهم تماماً، أو أن يفنوا هم أنفسهم.
كان كارل ماركس ابناً لمحام يهودي سليل عدد كبير من الأحبار. وقد تأثرت كتاباته تأثراً واضحاً بجدل ومماحكة الأحبار البارعين في هذا الفن، وتعلق المعارف اليهودية على الفصول الخاصة بنظرية القيمة في كتابه (رأس المال) قائلة أنها (توحي، من تحليلها البارع، بنزعة تلمودية متأصلة..).
ورغم أن ماركس لم يستطع يوماً أن يكسب من النقود ما يكفي للإنفاق على نفسه أو على أسرته، فإنه أصبح خبيراً عالمياً في هذا الميدان. وليس غريباً أن تبنى هذه النظرية على تجارب حياته الخاصة. ولما كان قد عاش على كرم صديقه، فريدريك انجلز، فقد بشرت نظريته الاقتصادية بخطة مماثلة للطبقات الكادحة في العالم.
ضمن ماركس (الإعلان الشيوعي) مبادئه الأساسية وأعلن فيه أن (تاريخ كل المجتمعات السابقة يكمن في صراع الطبقات، وهو صراع أخذ أشكالاً مختلفة في العصور المتباينة.. وجاءت الثورة الشيوعية كأعنف وسيلة قطعت كل صلة مع الملكية التقليدية، ولا عجب كذلك أن تقطع الصلة مع الأفكار التقليدية الشائعة). وبعد أن يضع المقدمة الأساسية، يتقدم لصلب المشكلة: (إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هر رفع البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة من أجل كسب معركة الديموقراطية). وكيف يتم ذلك ؟ : (ستعمد البروليتاريا إلى استخدام سيادتها السياسية لتنتزع بالتدريج كل رأس المال من البروجوازيين، وتركز كل أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي البروليتاريا المنظمة في الطبقة الحاكمة ؟ وزيادة قوى الإنتاج بأسرع وقت ممكن).
ويشير ماركس منذ البداية إلى أن (الاعتداءات الاستبدادية على حقوق الملكية ضرورية جداً)، ثم تؤدي هذه الاعتداءات بالضرورة إلى (اعتداءات أخرى على النظام الاجتماعي القديم).
إن الشيوعية تتوجه بندائها إلى الفاشلين التائهين الذين لا أمل في شفائهم. فالذين يعانون من شعور عميق بالاحتقار والخيبة يجدون العزاء في الظن بأنهم (ضحايا) نظام أو استغلال ما. ويتميز الفاشل بعدم الرغبة في الاعتراف بمواطن ضعفه وعيوبه. وعندما يوجه حقده على السبب المزعوم في ضياعه يصبح مغالياً في تقديره لنفسه، وجريئاً في رغبته للانتقام. وتخلق الشيوعية ميلاً غير واع في أتباعها للعمل على الهبوط بالجنس البشري إلى مستوى عادي ويصبح الاتجاه السائد خلق تسوية معيارها التوسط في القدرة والبراعة، وخنق التفوق والطموح وأخذ عقل ماركس الغاضب المكتئب والذي تطارده أشباح المنطق التلمودي، الشاعر بالأرض الخصبة المهيأة له، أخذ يتصور بالتدريج قوة جديدة خبيثة للعمل السياسي. ومع تخليه غير الأخلاقي عن يهوديته، مزج بين مكر بني قومه وبين الخداع الميكافيلي، وأعطى (الطبقات الكادحة) عالمه (الجديد الشجاع). ولا يخفى على أحد أن فلسفته لم تعرض هدفاً نبيلاً لم تقدم دولة نموذجية، فذلك جزء حيوي من الخطة.
وأخيراً ظهر كتاب (رأس المال) الممل سنة 1855. كانت نظرية (قيمة الفائض) قد تطورت على أيدي آدم سميث، وريكاردو، وروبرت أوينز وأتباعه الإنجليز، وبراودهون في فرنسا، ورود برتوس في ألمانيا. فقام ماركس بسرقة الأفكار الرئيسية من (الخياليين) وأطاح بهيغل، واختلس (جدلياته)، واستغل أفكار فيورباخ (المادية)، وسرق نظريات (قيمة الفائض) وخلط هذا المزيج الغريب بعنف، بينما كان يلعن في نفس الوقت مختلف المؤلفين، وقدم حصيلة ذلك على أنه (الاشتراكية العلمية الماركسية).
كان ماركس يحاول أن يقول أنه بينما يزداد الغني غنى والفقير فقراً، تكون الرأسمالية بذلك تحفر لها قبراً، ولن تصبح هناك حاجة في مستقبل الاشتراكية للفؤوس والمعاول لحفر ذلك القبر.. هذا هو الأمر ليس إلا ! ولا بد أن ينتهي التفسير المادي للتاريخ، وربما التاريخ نفسه، عندما تنتهي الرأسمالية من حفر قبرها. وحتى نظام ماركس الجدلي الأنيق لا بد أن يهوي أرضاً في عالمه الاشتراكي الجديد الجريء، ولن تصبح هناك حاجة مطلقاً للبحث عن فرضية معاكسة، لأن الشيوعية ستكون آخر تركيب يجمع بين الطريحة والنقيض. ويمكن للمرء أن يفترض، قياساً على ذلك، بأن قانون الجاذبية يتوقف عندما تسقط التفاحة على الأرض وتصطدم بها.
كان كارل منجر النمساوي أول من هدم نظرية ماركس في (قيمة الفائض)، وأصبحت هذه النظرية الآن مرفوضة تماماً. ويمكن لأي طالب ذكي لم يدخل مرحلة التعليم العالي أن ينقض مفهوم ماركس (المادي) للتاريخ، الذي هو لب الماركسية. وإذا أبطلنا نظرية (قيمة الفائض) انهار الجانب الاقتصادي من الماركسية تماماً، وتصبح الإجابة في مقدور أي إنسان ذكي.. وإذا لم تثبت الملاحظة تناقصاً مستمراً في الرأسماليين وتزايداً مستمراً في العمال المعدمين فإن نظرية (قيمة الفائض) تتلاشى في سحابة من الدخان. والواقع أنه، منذ صدور كتاب (رأس المال) تزايد عدد الرأسماليين وأفراد الطبقة الوسطى الميسورة الحال بنسبة كبيرة، بينما يعيش أفراد الطبقة الكادحة في الولايات المتحدة مثلاً في حال أفضل مما عاشه كارل ماركس على نقود انجلز.
لم يكن هجوم كارل ماركس على الدين(أفيون الشعوب) هجوماً على كل الأديان بمقدار ما كان حرباً على المسيحية، ولم يكن ماركس، كمعظم المفكرين اليهود، موالياً لليهودية أكثر من التزامه بالمسيحية، ولكنه كان يهودياً من ناحية عرقية. وكان يؤمن بأن اليهودي، بصفته يهودياً، له حقوق ليست للمسيحي. فقد تساءل: (لماذا يطلب اليهودي حقوقاً لا يملكها ويتمتع بها المسيحي ؟). ورأى بمنطقه أن اليهودي، بنشدانه التحرر من الدولة المسيحية، يطلب أن تتخلى الدولة المسيحية عن تحاملها وتعصبها الديني. ولكن هل يتخلى اليهودي نفسه عن تحامله الديني وتعصبه ؟ وهل يجوز له بعدئذ أن يطالب الآخرين بالتخلي عن دياناتهم ؟ وينتهي ماركس إلى القول أنه طالما ظلت الدولة مسيحية وطالما ظل اليهودي يهودياً، يصبح الطرفان غير قادرين، الأول على منح الحرية، والثاني على نيل هذه الحرية.
إن الفلسفة الماركسية لا تتحمل التسوية والمصالحة. إذن، ما هو الحل الماركسي ؟
يستنتج ماركس أنه طالما ظلت الدول مسيحية، وطالما ظلت اليهودية عدواً لدوداً لدين الدولة فلا بد من وضع معادلة لتدمير المسيحية (وأي دين رسمي)، بإقامة مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله. يقول: (إن أسوأ شكل من أشكال التعارض بين المسيحي واليهودي هو التعارض الديني. وكيف يتخلص المرء من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوقوع.. وكيف يمكن العمل على استحالة التعارض الديني ؟.. بطمس الدين).
كان ماركس يرغب في الاعتراف بأن اليهودي قد تحرر في زمنه، ولكن بطريقة يهودية. فقد اعتقد بأن اليهودي قد تحرر بأسلوب محكم مع تحول المسيحيين إلى يهود في تفكيرهم واتجاههم العملي. فكان ماركس يعلم أن اليهودي (الذي كان يعيش في فيينا ولا يجد إلا القليل من التسامح الديني أصبح يقرر بقوته المالية فقط مستقبل أوروبا، وأن اليهودي الذي ربما يفتقر لحقوقه في أصغر مقاطعة ألمانية، قرر مستقبل أوروبا. وكان ماركس يعتقد بأن اليهودي قد جعل من نفسه سيد السوق المالية عن طريق الذهب الذي أصبح قوة عالمية، وعن طريق (الروح اليهودية العملية) التي أصبحت، عملياً، روح الشعب المسيحي. ولكن هذا النوع من التحرر، في نظر ماركس، لم يكن يكفي. فالتحرر الحقيقي في الشعور الماركسي يمكن أن يتحقق فقط بالتدمير الكامل للدين.
ولا تنادي الماركسية فقط بضرورة هدم الدين في سبيل الوصول إلى السلطة، بل ويعمل الماركسيون في كل مكان لإزالة القومية. فالدين والقومية هما السور الواقي للحضارة، ويجب إزالتهما أولاً إذا أرادت الماركسية أن تهزم العالم وتسيطر عليه. ولما كانت الوطنية والقومية النتيجة الطبيعية والمنطقية لوحدة الأسرة المتضامنة فإن الماركسية تقوم بضرب الأسرة أيضا، فلا بد من تدميرها وجعل أفرادها مجرد أعضاء تذوب في الجماعة العامة. ولا تقف الماركسية عند هذا الحد، بل لا بد من النزول بكرامة الإنسان وروح المبادرة عنده، وبفرديته، إلى المستوى العادي.
* * *
ولد ثيودور هرتزل في بودابست في 2 مايو 1860، وقد قدر له أن يكون مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة. وقد تلقى دراسته الحقوقية في فيينا، ونال شهرة كبيرة كصحفي أدبي وكاتب مأساوي. ولكن عمله كمؤسس للصهيونية الحديثة طغى على كل انجازاته الأخرى.
نشر هيرتزل كتابه (الدولة اليهودية) سنة 1896، ونادى فيه بأنه ليس أمام اليهود إلا أحد خيارين اثنين: الاندماج الكامل مع الأجناس الأخرى، أو المحافظة على النفس بالقومية السياسية، وتبنى هو الاتجاه الثاني.
كان حل هيرتزل للقضية اليهودية حلاً اقتصادياً وسياسياً بحتاً، ولم يكن يصر في بداية الأمر على فلسطين كوطن جديد لليهود.
ولكن أفكار هيرتزل اكتسحت يهود أوروبا منعشة أحلامهم القومية القديمة.
والتقى (المؤتمر الصهيوني) العالمي لأول مرة في مدينة (بال) بسويسرا سنة 1897، ووضع القواعد الدائمة لتنظيم الصهيونية، وسمى المؤتمر نفسه، جورا، (الأمة اليهودية)، وأنشأ اليهود تنظيماً سياسياً عالمياً.
ولكن الصهيونية عانت من نكسة عنيفة بموت الدكتور هيرتزل سنة 1904. ولكن هيرتزل قد عمل على تعطيل التطور العادي للعالم اليهودي على طريق الحرية الفردية أكثر مما عمله أي زعيم يهودي آخر منذ سنة 1666، فقد أوجد (عصر النهضة) و(الإصلاح) ثورة في تفكير الإنسان حول (الإنسان)، واكتسحت العالم الغربي الأفكار الجديدة عن حقوق الإنسان. ولكن هيرتزل وحركته الصهيونية ألحقا ضرراً كبيراً باليهودية العالمية في مسيرتها نحو الحرية الفردية والكرامة الإنسانية، وساقا الفرد اليهودي ثانية إلى ما وراء جدار الغيتو التي عزلت القومية اليهودية وغذت روح العداء ضد الأقوام الأخرى.
لقد ادعى هيرتزل بأن قضية (دريفاس)(1) هي التي جعلت منه صهيونياً، ولكنه أخفق في رؤية (زولا) والشعب الفرنسي الذي دافع عن دريفاس. وهاجم هيرتزل ادموند روتشيلد لدعمه المسرف للمشاريع الصهيونية بحجة أنه دعم (إنساني) لا دعماً يخدم (المصالح القومية) وهدده بإثارة الشعور العام ضده إلى درجة يصعب معها حفظ النظام.. وحاول مقايضة اشتراك اليهود في الحركات الثورية بروسيا القيصرية وألمانيا بامتياز سياسي في فلسطين. ولقد خلق هيرتزل موجة من المعاداة للسامية في كل حركة، ووضع أسافين لسوء التفاهم بين اليهود والمسيحيين، وعمل على إبعاد اليهود عن أي كفاح عادل للوصول إلى حقوق عادلة في البلدان التي نشأوا وأقاموا فيها، وأبدل ذلك بالفكرة المجرمة (انتزاع العرب من فلسطين وإقامة الدولة اليهودية).
وقد ترك هيرتزل خلفه (جمهوراً كبيراً قلقاً من اليهود، وعمل على زرع الفرقة والخلاف بين اليهود كما لم يحدث أن تفرقوا واختلفوا منذ اختلافهم على يوم السبت).
ثم عكفت الحركة الصهيونية على تشكيل طابور خامس منيع في فلسطين، وسعى قادة الصهاينة، من خلال الهجرة المتزايدة والحصول على الأراضي، إلى التدرج في نزع ملكية العرب، ثم الاستيلاء على البلد بكامله، في الوقت المناسب. ويبين نجاح الخطة مدى الصبر اليهودي والتماسك، رغم أن ذلك يترك المجال لكثير من الحديث عن أساليبهم غير الأخلاقية.
تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون وسيلة تمويل الاغتصاب السري لفلسطين، ورغم أن المنظمة اشترت، بهدوء، أرضاً واسعة قبل سنة 1910، إلا أنها صعدت نشاطها وبرامجها بعد ذلك(2).
بينما يهتاج اليهود ويثورون على القوانين والمواثيق التي تسد أمامهم الطريق للوصول إلى ما عند الغير، نلاحظ أن قانون الصندوق القومي اليهودي يمنع تأجير أراضيه لغير اليهودي ويحرم تحريماً قاطعاً بيع أي شبر من أراضيه للعرب.
وعندما بدأ الاستعمار اليهودي لفلسطين أسرع اليهود في تطوير الثقافة العبرية والمستوطنات اليهودية. ورغم توقف النشاط الصهيوني في فلسطين مع الحرب العالمية الأولى إلا أن الصهيونية واصلت مساومة الدعم اليهودي للحلفاء مقابل إعلان سياسي حول فلسطين، كجزء من تسويات ما بعد الحرب.
فترأس الدكتور حاييم وايزمان، من جامعة مانشستر، جماعة من الصهاينة السياسيين ببريطانيا، اقترحت أن تشترط بريطانيا العظمى في تسوية السلام إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ولكن الإصلاحيين اليهود في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عارضوا الصهيونية، وكانوا قد أزالوا من كتب الصلاة ذكر القدس وجبل صهيون. بل وجد من أعلن بأن الحركة وبال لليهود، وأنها ستولد وتزيد من العداء للسامية.
غير أن اليهود الروس في الولايات المتحدة كانوا أصحاب الثروة والسلطة والرغبة الجامحة في دعم الصهيونية. وكانت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) قد تأسست سنة 1897، وسرعان ما أقيمت فروع للنساء (الهداسا)، والأطفال وكذلك (شباب يهودا)، وذلك لتصعيد نشاط المنظمة الأم. وقد عمل لويس برانديس كرئيس للمنظمة الصهيونية بأمريكا قبل تعيينه في المحكمة العليا.
وفي سنة 1951، وحتى بعد إقامة دولة إسرائيل، أعادت الصهيونية تنظيم صفوفها واستعدت للقيام بعمليات احتلال كبرى. وكتب الدكتور (ماكس نوسباوم) يقول: (إن فكرة هيرتزل عن (إخضاع الأقليات) يجب أن تتحول إلى حقيقة في أيامنا هذه. فيجب أن تكون إحدى مشاريعنا للسنوات القادمة إقامة مجالس للجماعة اليهودية، تتطور إلى جماعات أشبه بالكهيلا العضوية.. إن علينا أن نحقق أحلام هيرتزل بإخضاع الأقليات وقيادتها لروح البقاء اليهودية..).
وقد صاحب ظهور آل روتشيلد نشاط تنظيمي لليهودية العالمية، وعملت مصاهرة اليهود للأسر النبيلة الأممية بأوروبا على حماية الأمميين للمطامح الصهيونية، بينما عمل التزاوج مع الأسر المصرفية اليهودية الأخرى على تعزيز النفوذ والتوجيه المالي لآل روتشيلد.
وازدادت المؤتمرات اليهودية الدولية أكثر فأكثر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وإذا كان ليو بنسكر وثيودور هيرتزل هما اللذان جهرا بالدعوة لقيام منظمة يهودية دولية، فإن آل روتشيلد بسيطرتهم على المال العالمي، هم الذين جعلوا الدعوة لذلك أمراً ممكن التحقيق. وهكذا فإن الذي كان يعد خيانة في القرن الثامن عشر مر دون أن يتحداه أحد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
وجاء ما يسمى (إعلان كوبنهاجن)، الذي تبنته (المنظمة الصهيونية العالمية) سنة 1918، وأقر كارلزباد سنة 1921، بالإضافة لتأكيد الادعاءات اليهودية في فلسطين، جاء يدعو إلى (المساواة الكاملة والواقعية بين اليهود وغيرهم في كل بلد، بالإضافة إلى الاستقلال القومي بالنسبة للأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية للأقليات اليهودية في البلدان ذات الأعداد الكبيرة من السكان اليهود، وفي كل البلدان الأخرى التي يمكن أن يطلب فيها السكان اليهود هذا الاستقلال).
ويمكن اعتبار إعلان كوبنهاجن فريداً من نوعه، مثل (الإعلان الشيوعي). فقد دعا الثاني إلى مصادرة الممتلكات الخاصة والإطاحة بحكومات العالم القائمة. وطلب الأول اغتصاب بلد لم يحتله اليهود ولم ينتسبوا إليه، وطلب، بالإضافة لذلك، إقامة (أمة داخل أمة)، وبذلك يرتفع اليهود وتصبح لهم حقوق أكبر من حقوق زملائهم من المواطنين في البلد الذي ولدوا فيه وأقاموا فيه.
ويشن دعاة الماركسية وأبواقها هجوماً عنيفاً على (الأم) و(الوطن) و(الجنة) و(العلم) و(الوطن الأم) و(الوطنية) ويجعلون هذه الأسماء المحبوبة تبدو وكأنها مستهجنة ورجعية ومجرد بقايا من العصر القبلي يحافظ عليها الأشرار من الناس لكسب المال. وترى تلك الأبواق أن (غرس) هذه القيم والمفاهيم في عقول الناس يخلق (وطنيين)، وهؤلاء (الوطنيون)، من وجهة نظر الماركسية، إقليميون وغير ناضجين ذهنياً و(رجعيون). أما اليهودية المنظمة فهي تعتبر الوطنية معادلة للقومية، والقومية معادلة للفاشية، والفاشية تعني (معاداة السامية). وهذا المفهوم اليهودي، بالطبع، ينطبق على الوطنية الأممية فقط وليس له صلة بالقومية اليهودية.
ويتفق معظم الذين ينتقدون (القومية) على أنها هي الخطر الذي يهدد بشكل أساسي الاشتراكيين الشيوعيين واليهود وغيرهم من الحلفاء الذي يشكلون عنصر تصديع داخل أي بلد. ورغم أنهم لا يصرحون بذلك علناً، لكن هذا واضح عندهم. وهم كذلك ينسون ويلقون جانباً المبدأ القائل أن كل الأفراد والجماعات المضطهدة تتجه لحماية نفسها عندما تتعرض للخطر، وأن حب البقاء هو أول قوانين الطبيعة. فالشيوعيون يعلنون بجرأة هدفهم في تدمير حرية الأفراد ومصادرة ممتلكاتهم وإخضاع حياتهم لنسق عام. وكذلك اليهودية المنظمة، سواء كانت حليفة للماركسيين، أم أمة مستقلة داخل أمة، تصر على المحافظة على وضع مستقل بجنسية مزدوجة أو بدون جنسية مزدوجة. أم الاستيلاء الناشئ عند الذين يقاومون الأهداف الشيوعية والصهيونية فإنه يدمغ زوراً بطابع (الفاشية).
ويسير رواد الجماعية شوطاً أبعد في هجومهم الدائم على القوة المقاومة عند الذين يريدون تحطيمهم. فينادي هؤلاء الرواد بأن الذين يدعون للاستعداد العسكري ولتبني سياسة خارجية قوية، هم (القوميون المتطرفون) الذي يتحولون إلى (نازيين وفاشيين). وإذا تشكلت أفكار أمة حسب هذا الاتجاه الشيوعي والصهيوني فإنها ستفشل في مقاومة أي هجوم، وتهلك دون أن ترفع يدها عن نفسها. وإذا أمكن جعل زعيم أمة يعتقد بأن الخوف من الشيوعية أو الصهيونية هو (جنون الارتياب) وأن الاستعداد لمواجهة ذلك الخطر هو (جنون العظمة) فإن دمار الحضارة سيتحقق دون بذل جهد بشري كبير من جانب أعدائها.
من الواضح أن الذين يشوهون سمعة الوطنية لا يجدون ما يعيبونه على الأفراد والجماعات ـ من الشيوعيين ـ الذي يعلنون عن نيتهم في تدمير كل الأمم ـ عدا الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن تهديد حياة وممتلكات وحريات الناس في كل مكان، فضيلة عالية المكانة عندما يمارسه الشيوعيون، وأما الإصرار على البقاء أمة داخل أمم العالم، وغزو وسرقة بلد ما، فإن ذلك يبدو مثالياً عندما يأتي من جانب اليهودية المنظمة.
والتجانس أيضاً يعتبر نوعاً آخر من أنواع (جنون العظمة) في الذهنية القومية، حسب الدعوة الماركسية لقيام دولة (عالمية) واحدة. فالدعوة للتجانس من جانب شعب ما توصم دائماً بأنها اضطهاد للأقليات بسبب الجنس أو اللغة أو الدين. فالذي يدعو إلى قيام الدولة العالمية لا يعترف مطلقاً بالولاء للوطن أو الأمة، والتمثيل السياسي أو التضامن الوطني ـ إلا إذا خضعت لفلسفته الخاصة. أما النشاطات الحاقدة والمعادية للفوضويين الأجانب والشيوعيين والصهاينة، والذي يعملون جميعاً ضد مصالح البلد الذي اختاروه للإقامة أو لجؤوا إليه، فإنها تعتبر عند الماركسيين شذوذاً يستحق التنديد. وتعلو الصيحات المعادية للتجانس بشكل خاص في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث وجدت العناصر المتنافرة، الحرية والكرم.. ولا يكفي هؤلاء اللاجئين أن يجدوا الملجأ والحرية، بل لا بد لهم بالضرورة من مواصلة إقامة التكتلات التي سببت طردهم من بلدانهم الأصلية. ولا يكفي أن يصبحوا مواطنين أمريكيين أو بريطانيين مع حريتهم في مزاولة معتقداتهم الدينية الخاصة، والتمتع بحقوق المواطنية، بل لا بد لهم أن يدمروا غريزة التجانس عند الأغلبية حتى لا يلاحظ أحد وضعهم الخاص وامتناعهم عن التجانس.
ولقد أورث ماركس أتباعه شيئاً آخر غير (الإعلان الشيوعي) و(رأس المال).. أورثهم الحب في الطعن المرير والحقد المتأجج والتصميم على العنف كما لم يسبق أن ورث أحد أتباعه من قبل. وقد حقن فلسفته بالحيوية الدامغة للتدمير. وما الكادح الملثم الذي خلقه في خياله إلا مزيج ألفي سنة من أحبار ماركس. وقد تغلغلت الحياة الملتهبة التي نفخها في مخلوقه المعذب داخل كل ذرة من كيانه، مع رغبته المستمرة في الموت على المتاريس التي توضع في طريقه.
لم يخلف ماركس برنامجاً سوى الحرب والثورة، أما (الأخوة) التي أقامها فقد كانت أمها (الحسد) وأبوها (الكراهية). ولما اعتقد بأنه قد دمر الله فقد قام هو نفسه بدور الإله. ولما أخفق في ترك علامات للطريق المؤدية إلى جنة العمال، فقد أصبح أتباعه من مائة طائفة يرسمون لأنفسهم طرائق قددا.. ويمكن (للرفاق) أن يقطعوا رقاب بعضهم البعض للتدريب على حرب (الرأسماليين)، ولا بأس بذلك لأنهم سيحاربون أخيراً إلى جنب المتاريس ضد العدو المشترك.
وكانت نتيجة كل ذلك الاهتياج والإثارة وضع أساس الصهيونية السياسية على يدي هيرتزل سنة 1897، فعقد في تلك السنة أول مؤتمرين، تمخضت عنهما حركتان يهوديتان قدر لهما أن يغيرا مسار التاريخ: (فهذا ثيودور هيرتزل يترأس (المؤتمر الصهيوني) الأول، وتلك (الجمعية الاشتراكية اليهودية) تلتقي في (المؤتمر الشيوعي) الأول في منسك.
ولا عجب أن يحتل (موسى هيس)، الذي سماه ماركس (الحبر الشيوعي) مكانة هامة في التاريخ. فهو في وقت واحد المناصر الخبيث لحركتين خبيثتين، تبدوان لأول وهلة متعارضتين تماماً ـ الصهيونية السياسية والشيوعية العالمية ـ ولم يجد هيس تناقضاً بين بهوديته وبين جموحه لتدمير العالم المسيحي. فقام هذا الكاتب والزعيم الاشتراكي، المنادي بالإطاحة بكل الحكومات الأخرى بالقوة، بتوجيه النصح لإخوانه اليهود للتضحية بالتحرر إذا كان التحرر يتعارض مع القومية اليهودية ! وأعلن عن اعتقاده باستحالة إزالة الشعور القومي اليهودي، وعن دوام بقاء الشكل اليهودي والنموذج اليهودي كما هو عليه.
وعندما تجد اليهودية المنظمة ذلك ملائماً، تعلن بأن (اليهود كانوا دائماً يؤمنون بالحركة الاشتراكية الحديثة منذ بدئها) (دائرة المعارف اليهودية)، وعندما يكون التنبؤ منها يخدم صالح اليهودية، تعلن بأن الشيوعية لا تتمشى مع اليهودية أو الصهيونية.
لقد اكتسحت أوروبا، مع ظهور الماركسية، موجة من الإلحاد عارمة، فغمرت الأماكن المنخفضة من العالم المسيحي، ومضت الموجة تتدحرج عبر البحار إلى أمريكا مرتفعة أكثر فأكثر إلى أن ضربت جدران الكليات والجامعات وعلت حتى وصلت منابر الكنائس التي تصدت للنيران والسيف. ومع تحرك المياه الموحلة، هوت أعلام دول ذات كبرياء وضاعت مع ربان السفن وقذارة الفيضان. وحيثما وصلت تلك المياه ظهرت ندبات كبيرة من التآكل والتعرية على وجه الأرض ـ ندبات على الكرامة الإنسانية الضائعة وحرياتها المتلاشية.
وبدأت العقيدة الدينية والقيم تتهاوى تحت أمواج الفيضان العاتية، وولت الحقائق الخالدة أمام الصراخ الأجش والسخريات المهينة من حشود الدهماء الشهوانية، وخيم على الأرض ليل حالك وطويل.
(1) ـ الفريد دريفاس: (1859 ـ 1935) هو جندي يهودي فرنسي سجن سنة 1894 في جزيرة الشيطان بغينيا بتهمة التجسس ثم أطلق سراحه سنة 1906 بعد حملة عنيفة أحدثت انقساماً سياسياً واجتماعياً طويلاً في فرنسا، وانبرت اليهودية تتهم الفرنسيين بالعداء للسامية.

(2) ـ يعتبر الصندوق القومي اليهودي أحد الجهات الأساسية المستفيدة من (نداء فلسطين الحر) الذي كان بدوره أكبر مستفيد من (النداء اليهودي المتحد). وقد قال بنيامين براودي، رئيس المنظمة الصهيونية بأمريكا أن (الصندوق القومي اليهودي) هو الصورة المصغرة من ملامح الحركة الصهيونية، ولو لم يوجد لما أقيمت الدولة اليهودية مطلقاً.

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:41 AM

الفصل السادس
خرافة النصر البلشفي
(هناك الكثير من الأشياء في حقيقة البلشفية نفسها، في حقيقة أن الكثير من البلشفيك يهود، وفي حقيقة أن مثاليات البلشفية تتفق في وجوه عديدة مع أسمى المثاليات اليهودية).
مجلة (التاريخ اليهودي)
(جويش كرونيل) 4 أبريل 1919
يمكن القول أن ثورة 1917 البلشفية جاءت تتويجاً لجهود الأقليات الروسية، المستعصية على التجانس مع السكان الروس، للسيطرة على الحكومة. ويعتبر يهود خزر الروس أهم هذه العناصر وأكثرها عدداً. وهذه (دائرة المعارف اليهودية) تصرح بأن الاشتراكية في روسيا (أصبحت حركة الجماهير اليهودية). وكانت قد بذلت جهوداً لتشويش النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الإمبراطورية القيصرية وذلك لإدامة تأثير وضغط حرب مطولة في الخارج، وإحداث تمرد مدمر في الداخل. وكان القيصر متأرجحاً تنقصه البراعة، وكانت الحكومة فاسدة تنقصها الكفاءة.
كانت الحكومة قد ظلت نحو مائة عام تتخبط يمنة ويسرة في حمى التردد، تنشد حلولاً لمشاكل استعصت على الحل، وتحاول تهدئة شعب لم يكن يمكن تهدئته. وفي أعقاب تحرير عبيد الأرض سنة 1861 اتخذت إجراءات صارمة ضد اليهود المحرضين على الفتن. وقد كانت السياسة الروسية مزيجاً غريباً من الشدة الصارمة والفترات المفاجئة من الحرية واللطف. فكانت السياسة أحياناً قاسية وعنيفة ولكنها نادراً ما كانت تخلو من استثارة الغضب الشديد. وكانت الحكومة في أحيان أخرى تقوم بمحاولات خرقاء لاسترضاء رعاياها وتهدئتهم باقتراح تطبيق إصلاحات أوروبية محورة ومعدلة. لكن هذه المحاولات الضعيفة كانت تقابل غالباً برصاص السفاحين والقتلة. وكانت كل القوانين التحررية و(الإجراءات الديموقراطية) و(التسامح) و(التساهل) تفسر من جانب الثوريين اليهود ورفاقهم المتآمرين على أنها دلائل على ضعف الحكومة. ولذا كانت الامتيازات والإصلاحات كثيراً ما تلغى، ثم تعزز قوات شرطة الأمن الداخلي.
وإذا كانت السياسة الداخلية لروسيا القيصرية ضعيفة فقد كانت أساليب علاقاتها الخارجية غير قوية بل عديمة الفعالية وغير موجودة. والواقع أن انعدام فعالية هذه العلاقات الخارجية كانت، أكثر من سواها، السبب في نجاح الثورة الروسية. ولو أن روسيا أقامت علاقات سياسية قوية وفعالة في نهاية القرن التاسع عشر لأمكن تلافي تنحي القيصر وما تلا ذلك من الإطاحة بحكومة الاسكندر كيرنسكي الاشتراكية المعتدلة.
كانت سنة 1898 (كما ذكرنا في الفصل السابق) قد شهدت مولد منظمتين يهوديتين: إحداهما (الجمعية الاشتراكية اليهودية)، والثانية (المنظمة الصهيونية العالمية). وقد أقيمت الأولى لتدمير جميع الحكومات المسيحية، والثانية لاغتصاب فلسطين (وبالتالي ضرب العالم الإسلامي في الصميم وتفتيت القوة العربية).
وسرعان ما أصبحت (الجمعية الاشتراكية اليهودية) أقوى حركة اشتراكية وأفضلها تنظيماً داخل روسيا. وقد انتشرت وتوزع نشاطها منذ أول مؤتمر لها في (فلنا) سنة 1897، في المراكز التي يكثر فيها السكان اليهود. وبالطبع كانت الجمعية يهودية بحتة. وبينما كان أعضاؤها يوسعون نشاطاتهم الاشتراكية داخل الحركات السياسية الثورية، كانوا يظهرون كروس فقط، لا كيهود. وقد كانت الجمعية الاشتراكية اليهودية تختلف كثيراً عن المنظمات المشابهة لها في فرنسا وألمانيا، ومن ناحية هامة: فبينما كان (فرديناند لاسال) وغيره يقللون من أهمية السمات القومية لحركاتهم في تأكيدهم على الصفة العالمية للشيوعية، كانت الجمعية الاشتراكية اليهودية تقلد الصهاينة وترد مبادئهم وتعلن أن اليهود هم أصحاب قومية متميزة. وقد قدر لهذا الخلاف أن يلعب دوراً هاماً في تطوير الحركة الثورية المتطرفة (الراديكالية) في روسيا وغيرها.
والواقع أن وحدات (الجمعية) الروسية كانت جمعيات سرية تستقطب أعضاء (العدمية)(1) (النهلستية) والمجموعات الإرهابية الأخرى. وفي سنة 1898 قامت الجمعية بتنظيم (الحزب الديموقراطي الاشتراكي الروسي) الذي جند داخل صفوفه اليساريين الروس وقدم الشيوعية لهم. وقد أصبح الحزب الاشتراكي الأول هو (الحزب الشيوعي) الحالي في الاتحاد السوفييتي، والحزب الأم لجميع الأحزاب الشيوعية في العالم. وبواسطة (الحزب الديموقراطي الروسي) أصبحت مجموعات العمال الروس المبعثرة متحدة أخوياً مع الحركة الاشتراكية اليهودية، وعن هذه الطريق تعرفت على آراء ماركس ولاسال.
وأصدرت (الجمعية) صحيفتها الخاصة في الخارج باسم (دي اربتر ستيمي)، بلغة الييدش، وهي لغة يهود روسيا التي طورت عبر القرون عن لغات أجدادهم الخزر الروس.
وقد كانت (الجمعية الاشتراكية اليهودية) زمن تأسيسها، وكذلك ظلت لعدة سنوات تالية، أكبر وأقوى خلية في الحركة الشيوعية الروسية. وعمل قادتها دون توقف على نشر الماركسية بين عمال القطاعات الصناعية في الإمبراطورية، مؤسسين خلايا سرية حيثما وجدوا ثلاثة مؤيدين أو أكثر. ثم أعيد تنظيم القيادة اليهودية في الحركة الثورية في كل مكان.
وقد عقد (المؤتمر الشيوعي) الأول في منسك في مارس من سنة 1898، حيث افتتح تحت رعاية (حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم روسيا). ولم يستطع يومها أن يحضر المؤتمر يوليوس مارتوف (يوري تسدربوم) الذي كان أحد قادة (الجمعية الاشتراكية اليهودية)، ولا لينين (فالدمير اليش اوليانوف)، لأنهما كان قد اعتقلا وأرسلا إلى سيبيريا قبل ذلك بأشهر قليلة. وانتخب المؤتمر لجنة مركزية وعين مجلساً تحررياً لصحيفة الحزب المقترحة، وأرسلوا النداء الشيوعي النموذجي إلى الطبقة الكادحة. يقول (غريغوري زينوفيف)، المؤلف اليهودي لكتاب (تاريخ الحزب الشيوعي الروسي): (لم تكن مصادفة أبداً أن يعقد هذا المؤتمر في منسك، في مدينة التجمع اليهودي ومنطقة نشاط الجمعية (الاشتراكية اليهودية).. وفي هذا الوقت، وباستعراض تاريخ حزبنا الذي أصبح اليوم منظمة عظيمة، يبدو لي من الواجب أن نتذكر العمال اليهود الشجعان الذين كانوا أول من نهض للكفاح، فساعدونا على وضع أول لبنة في أساس بنيان حزبنا).
وقد انبثق (بويل صهيون) عن ( الجمعية الاشتراكية اليهودية) وكان هدفه الرئيسي إقامة التعاونيات في فلسطين. ومنذ البداية، جسم بويل صهيون المبادئ الأساسية للشيوعية الماركسية ومبادئ الصهيونية. وقد بدأ تنظيمه في روسيا سنة 1901، ومنها انتشر إلى النمسا وفلسطين والولايات المتحدة الأمريكية. وفي 30 يوليو 1903 تجمع نحو ستين ثورياً في بروكسل ببلجيكا لعقد (المؤتمر الشيوعي الثاني). وأعلن المؤتمرون أن هدف المؤتمر هو دمج الجميع في حزب موحد يسمى (حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم روسيا). وقد عقد الاجتماع في مخزن دقيق مزين برايات حمراء، وفيه حدث أول تصادم حول مسألة العلاقة بين الجمعية الاشتراكية اليهودية وبين حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم روسيا. وكانت الجمعية والحركة الصهيونية قد ظهرتا في سنة واحدة، وكانت قضية القومية اليهودية أكبر ما يشغل أذهان أعضاء الجمعية. فكانوا قد تبنوا (الييدش) لغة لهم، وأعلنوا أن (الوعي القومي والوعي الطبقي يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب). لذا طالب أعضاء الجمعية بالاستقلال الذاتي للمشاكل اليهودية الصرفة، وحق تمثيل كل يهود روسيا. ولكن لينين تمسك بوجود حزب مركزي، ووقف معه مارتوف واكزلرود وتروتسكي، وكلهم يهود. ولم تكن قضية الخلاف قد حلت عندما تدخلت الشرطة البلجيكية، فانتقل المؤتمر إلى لندن حيث اجتمع فيها من 11 إلى 23 من أغسطس.
ونشب الخلاف مرة أخرى في لندن حول العلاقة بين الجمعية الاشتراكية اليهودية وبين الحزب. وبينما كان أعضاء الجمعية كلهم من اليهود، كان المؤتمر، عموماً، مشكلاً من اليهود في معظمه، وقد احتد النقاش بعد ذلك بين مجموعة من اليهود الشيوعيين المنظمين وبين مجموعة أخرى من اليهود والأمميين الشيوعيين غير المنظمين. وكانت الجمعية الاشتراكية اليهودية عميقة في صهيونيتها بمقدار ما كانت عميقة في شيوعيتها، وبينما كانت تصمم على تدمير المميزات القومية لكل الشعوب الأخرى، كانت تصر على المحافظة على يهوديتها وعلى أمتها الخاصة. لقد كانت الجمعية هي من جلب الماركسية إلى روسيا، ونظم المؤتمر الشيوعي الأول في منسك، وكذلك تسلمت زمام المبادرة في تنظيم المؤتمر الثاني. وكانت هي زعيمة الثورة المنظمة وقائدتها، ولكن أعضاءها كانوا أولاً وأخيراً من اليهود، عقدوا العزم على أن يسير (الوعي الطبقي) و(الوعي القومي) جنباً إلى جنب. وكان مبعوثوها قد توجهوا إلى بروكسل ولندن مع تصميم ثابت على تأمين الاستقلال الذاتي في جميع القضايا اليهودية، وجعل الحركة الثورية الشيوعية تعترف للجمعية بحق تمثيل جميع الاشتراكيين اليهود حيثما كانوا. ولكن لينين، على العكس من ذلك، وقف يدعو لحزب مركزي متصلب تكون الفروع القومية فيه مجرد وكالات تبث من خلال لغاتها المتعددة شعارات وبرامج وقرارات وأوامر اللجنة المركزية القوية. وقام اكزلرود ومارتوف واليهود الأخرون، غير المنتسبين للجمعية، بدعم لينين في مواجهة أعضاء الجمعية. وعند إجراء التصويت النهائي نجح لينين.. وكان ذلك التصويت هو الذي جلب بعد ذلك الانقسام الذي أدى إلى ظهور (البلشفية) (الأغلبية) و(المنشفية) (الأقلية).
كان غياب (الطبقة الكادحة) عن هذا (المؤتمر الثاني) صارخاً لدرجة استدعاء زينوفيف للاعتذار عن ذلك وتجلية الموقف، فبين بأن (منظمة أسكرا ولجنتنا مكونتان، في الغالب، من الطلاب الثوريين المحترفين، لم يكن فيها الكثير من العمال، إذ كان العمال مايزالون يعملون كأشخاص فرديين من أمثال بابوشكين وشاتمان اللذين بدآ يشقان طريقهما من بين جماهير العمال. ولذا لم يكن المؤتمر الثاني للحزب يتشكل من العمال بشكل رئيسي، رغم أنه وضع أساس الحزب، بل كان يضم ثوريين محترفين، يقودهم الرفيق لينين، ورغم أن المؤتمر لم يكن في تكوينه من الطبقة العاملة البحتة، فقد حمل معه جماهير العمال، وعبر عما يجيش في أعماق الجماهير الكادحة. وقد حملت هذه المجموعة، التي خلقت الحزب فيما بعد، على قمة أمواج الجماهير الكادحة).
ولكن هذا كله تلاعب بالكلام، ومحاولة ضعيفة لإخفاء الأساس المثير للحركة بكاملها. فقد وصف جميع المجتمعين بالمثقفين، ولكنهم كانوا (متسكعين) بمعنى الكلمة. فلم يكونوا عمالاً، وبالتالي لم ينتموا إلى الطبقة الكادحة. ولكن أعضاء المؤامرة الثورية رغبوا في قيادة حركة العمال، وكان من اللازم مخادعة العمال وجعلهم يعتقدون بأنها حركتهم. ومن هنا جاءت حيرة زينوفيف وغيره في اعترافهم بأن منظمي وقادة الحزب الشيوعي لم ينتموا إلى الطبقة العاملة !
ورغم أن الحزب الشيوعي الروسي قد انقسم فعلاً حول القضية اليهودية، لكنه ظل متحداً على العقيدة الشيوعية عموماً، وعلى الحاجة لتدمير جميع الحكومات الرأسمالية بشكل خاص. وبغض النظر عن الخلاف حول الأهداف النهائية، ظل (الرفاق) من كلا الشقين يحاربون جنباً إلى جنب ضد العدو المشترك.
وغني عن القول أن الجمعية (المنشفية) واصلت أنشطتها الثورية وانضمت إلى مؤتمر (حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي لعموم روسيا). وقد اعتقل الكثير من أفراد الجمعية وتم نفيهم إلى سيبيريا، ولكن الآلاف منهم توجهوا إلى الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك انتشرت شبكة من فروع الجمعية في طول الولايات المتحدة وعرضها وفي كندا. وكان النشاط الرئيسي للفروع جمع الأرصدة لصالح الجمعية الاشتراكية اليهودية في روسيا. وتدفقت أمواج من الثوريين اليهود الهاربين من الشرطة الروسية في أعقاب الثورة الفاشلة سنة 1905 لتدعم فروع الجمعية اليهودية في الولايات المتحدة.
وقد كان المقتل الشنيع للقيصر الاسكندر الثاني في 1 من مارس 1881 عاملاً على خلق موجة من الاحتقار والبغض الشديد لليهود. وأثبتت اعترافات (جولندنبرغ) التصميم اليهودي الواسع الانتشار على تدمير السلطة الدستورية بكاملها. وكان هناك تقدير بأن ما لا يقل عن عشرين في المائة من الإرهابيين هم من اليهود. وقد كانت أعمال شغب اليهود في (كييف) وغيرها عاملاً على زيادة خطورة محاولة الحكومة مهادنة القتلة والمخربين.
كانت الهجرة الفعلية من روسيا وبولندا إلى الولايات المتحدة قد بدأت سنة 1880، ولكن عدداً من اليهود الروس قد هاجروا أيضاً إلى فلسطين. وقد نددت اليهودية العالمية بجهود الروس لإخضاع المخربين على أنها (معاداة للسامية)، ووصفت إجراءات الحكومة ضدهم بأنها (وحشية). ولم تكن تلك إلا دعاية لتصعيد خطة (استعمار) فلسطين.
لم يستطع الاسكندر الثالث التخلص تماماً من الرعب الذي أصابه باغتيال والده، وظل شبح ذلك اليوم الرهيب من سنة 1881 يطارده بقية حياته. وقد صمم على مواصلة سياسة أبيه التحررية وتنفيذ الكثير من الإصلاحات التي عكف عليها. وكانت جهود روسيا الطويلة والفاشلة في معالجة قضية اليهود، الذين يتمردون على التآلف والتجانس، هي أكثر ما يشغل عقل الإمبراطور الجديد. وقد جربت كل فكرة لاسترضاء الحركات الإرهابية التي جلبت الرعب لحياة المسؤولين الروس. لكن الأعداد الهائلة من اليهود المتورطين في حوادث القتل وغيرها من الجرائم كانت مرعبة ولم يكن ميسوراً فصل المشكلة اليهودية عن المسألة الثورية. وكذلك كانت الأوقات اليائسة تتطلب إجراءات يائسة. فقد منع اليهود من الإقامة خارج المدن والقرى، حتى داخل المناطق التي كان يسمح لهم بالعيش فيها. وفي سنة 1887 استثنيت مدينة (رستوفون ـ دون) من (حدود الإقامة). وفي سنة 1891 رحل 17 ألف يهودي عن موسكو، وحددت نسب اليهود في المعاهد الحكومية، ومنع اليهود من العمل في الوظائف الحكومية، إلا في قليل من الحالات الاستثنائية، فقد أصرت روسيا على أن يكون اليهود روساً أو أن يخرجوا من البلد.
وزلزلت النشاطات اليهودية الثورية روسياً بشدة متصاعدة. فقام يهودي يسمى (مولد يتزكى) بمحاولة فاشلة لقتل لوريس ـ مليكوف. وقبل إعدام هذا اليهودي أعلن بتحد أن الإرهاب سيتواصل وأن مليكوف سيقتل، وصاح قائلاً: (إذا لم أكن أنا (القاتل) فسيكون غيري، وإذا لم يكن هذا الثاني فيسأتي الثالث.. إن الكونت مليكوف سيقتل بأيدينا). وواصلت الحكومة الروسية صراعها ومواجهة المشكلة بطريقة خرقاء، تمزقها العواطف المتضاربة، بينما كانت في حاجة لاتخاذ إجراءات صارمة من جهة وإجراءات فيها لين واسترضاء من جهة أخرى. ولكن حركات التمرد اليهودية، التي كانت تخمدها الشرطة أحياناً، والقوات الروسية أحياناً أخرى بسبب خطورتها، كانت تصور في الداخل من قبل الثوريين على أنها حركات نزيهة تواجهها الشرطة بوحشية، بينما كان رجال الدعاية اليهود من الخارج يصورونها بشكل مذابح منظمة ومدبرة من جانب السلطة. وكانت تلك القصص اليهودية تحبك جيداً، وكانت التقارير الحكومية الروسية تطمس إلى درجة ظن معها الأمميون الأمريكيون والأوروبيون، الذين يجهلون الحقيقة، أن اليهود كانوا ضحايا بريئة لحكومة متعطشة للدماء، معادية للسامية.
وتواصل الهياج مع تزايد النشاط بين الطلاب والعمال. فقد نظمت حوادث الفوضى والشغب جيداً في الجامعات، بينما كانت تحدث في المصانع اضطرابات مفاجئة.. ثم عملت الصحافة السرية داخل البلد والصحافة الملتهبة في الخارج على نشر الدعاية الثورية الحامية عن الطبقة الكادحة الروسية، والدعاية المضادة للروس للاستهلاك الخارجي. ورغم أن النشاط الثوري كان متواصلاً منذ عدة سنوات، لكنه ازداد تناسقاً وتنظيماً مع ظهور الجمعية الاشتراكية اليهودية والحزب الشيوعي الروسي، بعد سنة 1897.
وتدفق الشباب اليهودي الروسي على الأحزاب الثورية، وانجذب الكثير منهم نحو النشاطات الإرهابية. وهذا (دنبو) يعلن بأن (اليهود قد أمدوا الجيش الثوري وقدموا من المحاربين أكثر مما يسمح به عددهم بالنسبة لبقية السكان الروس).
ربما كان (غريغوري غرشوني) أشد الإرهابيين اليهود تعطشاً للدماء. وقد ولد في شافلي وغير اسمه وغادرها وانضم إلى الثوريين. وقد حكم عليه بالإعدام في فبراير من سنة 1904، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في سيبيريا، وذلك في 5 من مارس 1904. وبعد أن حبس في قلعة شلوننبرغ مدة من الوقت نقل إلى سجن اكاتويسكي، حيث هرب منه، وسافر إلى اليابان ثم إلى الولايات المتحدة حيث استقبل فيها كأحد الأبطال المنتصرين. وقد تمكن خلال ستة أسابيع من إقامته من جمع أكثر من ثلاثين ألف دولار لصالح الثوريين الروس.
وقد ظل الأوروبيون والأمريكيون في هياج شديد وعداء ملتهب (لوحشية الشرطة) الروسية في تعاملها مع يهود الخزر. وجمعت المنظمات اليهودية في كل مكان مبالغ ضخمة من المال، من الأمميين واليهود على السواء، لإسعاف (إخوانهم) التعساء الواقعين في قبضة القيصر. وفي نفس الوقت تواصلت النشاطات اليهودية الثورية والإرهابية في روسيا دون توقف.
وتواصل في نفس الوقت أيضاً تدفق يهود الخزر إلى الولايات المتحدة بزخم أشد، وأنشئت منظمات ولجان خاصة بهدف استقبال المهاجرين في جزيرة إيليس والعناية بهم في نيويورك. وسرعان ما استخدم اليهود الأمريكيون المهاجرين اليهود بدلاً من الأمميين أصحاب البلد الذين كانوا يعملون معهم، الأمر الذي خلق أزمة بطالة في نيويورك.
تقول دائرة المعارف اليهودية:
(نقلت الهجرة اليهودية من روسيا إلى الولايات المتحدة أعداداً كبيرة من الاشتراكيين، معظمهم من طلاب الكليات والجامعات، وكانوا بلا شك من بين رواد الأحزاب الاشتراكية في أمريكا. وكان ميدان نشاطهم الأساسي هو الغيتو. ولكن جماهير العمال والتجار اليهود الذين تثقفوا على هذه الدعاية، تبعثروا في أنحاء البلاد بحثاً عن العمل، وأصبحوا باعة الاشتراكية المتجولين، يبن زملائهم وجيرانهم).
ولكن لكثير من هؤلاء الثوريين اليهود سجلات إجرامية، وكانوا لذلك من غير المرغوب فيهم. وسرعان ما أنشئت (جمعية مساعدة المهاجرين العبريين) كجيش دفاعي قانوني عن حشود يهود الخزر، واستأجرت الجمعية المحامين للدفاع في قضايا الترحيل، وأوقفت بالفعل محاولات المسؤولين في الولايات المتحدة لصد التيار البشري، الذي لم يسبق له مثيل، من الثوريين الداخلين إلى هذا البلد.
ونشط الشيوعيون اليهود داخل صفوف البورجوازيين، مؤسسين ما أصبح معروفاً بالجماعات (التحررية) (اللبرالية)، والتقدمية. وكان المثقفون البرجوازيون الروس سنة 1904، و1905 يتشكلون غالباً من المحامين والمهنيين اليهود الذين لم يندمجوا جيداً مع الإرهابيين والجمعيات الثورية. ومن أجل تهدئة الجو لإثارة هياج الشيوعيين اليهود في الأيام التالية في بلدان أخرى، التقت مجموعة من المحامين والكتاب (التقدميين) على مأدبة علنية (للدعوة لإبطال كل القيود الاستبدادية والقومية).
منذ ذلك الحين، عرف يوم الثاني والعشرين من يناير سنة 1905 باسم (الأحد الدموي) للقديس بترزبرغ. ورغم وجود يهود ثوريين وسط الجماهير التي قادها القس غابون في موسكو، والتي سارت إلى (قصر الشتاء)، يبدو من المؤكد تماماً أن نوايا كل من القسيس وغالبية الناس كانت سليمة، ولم تكن مدفوعة بأي دوافع ثورية. وكان الكثير قد حمل الرايات والإعلانات.. ولا يوجد أي تعليل واضح لبدء الهجوم (القوقازي)، حيث ظهرت الوحدات فجأة في الميدان وبين الجماهير المتقدمة، مطلقة النار على الكثير من الزاحفين أثناء ردهم على العنف. وليس من المؤكد القول بأن قائد فرقة (القوزاق) قد توترت أعصابه فوق الحد الطبيعي، أم أن الثوريين اليهود كانوا قد دبروا الأمر بإرسال (معلومات) إلى الشرطة السرية بأن المتظاهرين يخفون الأسلحة ويتوجهون إلى القصر بهدف ثوري.. ولكن الاحتمال الثاني يجد دعماً قوياً مما يعرف الآن بالأساليب الشيوعية.
لقد اتهم الثوريون الأب جورجي غابون بأنه قسيس (مزدوج الشخصية)، مدعين بأنه قاد عمال القديس بترزبرغ إلى مصيدة الموت. ولكن المؤكد أنه لا توجد أي بينة تدعم هذه الادعاءات. فقد قضى الأب غابون معظم وقته الكهني بين سكان المصانع في سان بترزبرغ، ولا يوجد ما يثبت أنه لم يكن شديد التعاطف مع هؤلاء الناس في محنتهم، أو أنه لم يكن يبذل جهده لتخفيف تعاستهم. والواضح أنه نال أولاً إذنا من الشرطة السرية لتنظيم العمال في اتحادات عمالية، مما يدل على أنه كان يعمل داخل نطاق القانون، ويحاول إنقاذ العمال من براثن الشيوعية. وكان الأب غابون هو الذي قاد إضراب هذه الاتحادات، بل كان في مقدمة العمال أثناء سيرهم إلى (قصر الشتاء) في يناير 1905. وقد حمل هو نفسه عريضة الاتحاد لتسليمها باسمه إلى القيصر. والتفكير السليم يرفض احتمال أن يكون قد اشترك في مؤامرة تستهدف إقامة مذبحة لا معنى لها ولا فائدة منها، تذبح فيها جماهير عزلاء.. والواقع أن أشد الناس غباء لا بد أن يتوقع رد الفعل العام لهذه الوحشية المفاجئة. ورغم سخف وحمق القيصر نيقولا والرجال المحيطين به، فلا بد من الاستنتاج بأن قيادة (القوزاق) تصرفت بسبب دوافع مثيرة، أو أن السلطات كانت قد تلقت معلومات (خادعة) عن وجود مؤامرة كبيرة لقتل الأسرة الملكية.
وعلى أي حال، انتشرت أخبار الحادثة المرعبة في أنحاء روسيا بسرعة البرق، الأمر الذي حشد وصعد من الغضب ضد القيصر. وتضخمت حيوية ونشاط الجمعية الاشتراكية اليهودية وفروعها الثانوية. وقد حققت تلك الحادثة في دقائق معدودة أكثر مما استطاعت تحقيقه كل الدعاية والنشاط الإرهابي في عشرين سنة، وحينها أصبح بوسع الثوريين اليهود توقع الدعم من جماهير الأمميين الروس.
واجتاحت روسيا المظاهرات والإضرابات وأعمال العنف بقوة هادرة، وانتشرت حمى الثورية بسرعة، وعمل الشيوعيون المنظمون محمومين في صفوف الطبقة الكادحة. وظهرت فجأة اتحادات وروابط المستخدمين في السكك الحديدية والمهندسين والعمال، وحتى المحامين. ونودي بالإضراب في كل مكان، وبدأت التجارة والصناعة تتجه نحو توقف محتوم في كافة أنحاء الإمبراطورية. وعندما تحركت الشرطة لتفريق المتظاهرين وضرب المخربين، عمت البلد أعمال عنف جديدة وتدمير للممتلكات، وأخذت مناطق بولندا والبلطيق ترتجف بين براثن الإرهاب.
وقيل للأممين خارج روسيا أن قلاقل اليهود في روسيا كانت مذابح دبرتها الحكومة. وكانت الدعاية اليهودية قد استولت على أذهان شعوب غربي أوروبا والولايات المتحدة بتأثير من المؤرخين والكتاب اليهود، ووجدت طريقها إلى دوائر المعارف والمقالات والتأريخات، وحتى القصص التي يكتبها الأمميون للقراء الأمميين. ولم يحدث من قبل في تاريخ العالم أن طمست وشوهت جهود حكومة ما ضد حركة ثورية إجرامية، كما حدث في روسيا.
وليس غريباً أن نقرأ اليوم أن الدور الذي لعبه اليهود في الثورات الروسية سنة 1905 و1917 قد (بولغ فيه كثيراً)، وأن العناصر القيصرية قد سعت إلى (لوم) اليهود، لا الشعب الروسي، وأن التهم ضد اليهود عامة ليست إلا نتيجة لدعاية نازية (معادية للسامية). ويشير المدافعون عن قضية اليهود بخبث، معتمدين على قلة المعلومات عند الشخص العادي، إلا أن البلاشفة هم الذين قاموا بالثورة، وأن المناشفة ـ العنصر اليهودي ـ كانوا يعارضون البلاشفة. وهذه الدعاية تؤثر بلا شك على الذين لا يفهمون معنى هذه الأسماء، وليست عندهم فكرة عن كيفية وجودها. والحقيقة هي أن لينين وتروتسكي عادا إلى روسيا بعد تنازل القيصر، وأن المناشفة (الجمعية الاشتراكية اليهودية) هم الذي نفذوا المراحل الأولى من الثورة. وكان لينين وزمرته البلشفية هم الذين اختطفوا النصر والحكومة سنة 1917، وكانت مواهب لينين في الدعاية هي التي أرست خرافة النصر البلشفي.
ورغم أن اليهود، من أمثال مارنوف واكزلرود عارضوا، عقائدياً، برنامج لينين لتنظيم الحزب، لكن هذه المعارضة لم تجعلهم أقل عنفاً من اليهود الذين أيدوا لينين في ذلك. ولم يكن هناك أي فرق، سواء أسمى هؤلاء اليهود أنفسهم (الأقلية) العقائدية (المنشفية)، أم الأغلبية الانتهازية (البلشفية)، فقد كانوا جميعاً ماركسيين ثوريين متحدين على هدف تدمير العالم المسيحي والأديان كلها..
كان لا بد أن تحدث انعكاسات غريبة للنزاع داخل الحزب الشيوعي الروسي حول قضية (القومية اليهودية). لا شك أن الأصل اليهودي للحركة وعمل الجمعية الاشتراكية اليهودية على إرساء دعائم الحزب الشيوعي الروسي تعتبر حقائق تاريخية. ولكن سبب انقسام الحزب إلى شقين أصبح في السنوات التالية غريباً وغير محدد. ولكن السبب الظاهر يبقى كما كان.. فقد رأينا كيف أن اليهود يسيطرون على كلا الشقين، البلشفي والمنشفي، والتقت أيدي كلا الجناحين في كافة أنحاء العالم على النشاطات الثورية. ولكن الصراع الداخلي للسيطرة على الحركة لم ينته. فحيثما تمكنت قبضة الشيوعية كان الشيوعيون اليهود يتآمرون ويراوغون للسيطرة. وقد كان اليهود، حتى وقت هيمنة ستالين، يسيرون كلا من الحكومة السوفييتية والحزب الشيوعي في روسيا(2). وكان من أوجه الخلاف بين ستالين وتروتسكي (ليون برونستين) قضية القومية اليهودية وإجراءات ستالين الصارمة في تصفية الكثير من المناشفة القدماء وبعض البلاشفة، وكانوا كلهم تقريباً من اليهود. ولكن اليهود الذين عارضوا ستالين لم يعارضوا الشيوعية. وقد كان أنصار تروتسكي ومازالوا من نفس نوعية الشيوعيين الستالينيين. وقد نال الكثير من الشيوعيين اليهود في السنين الأخيرة شهرة واسعة لما كتبوه وتحدثوا ضد ستالين. ويكشف الفحص الدقيق لهذه الكتابات والبيانات حقيقة مذهلة، وهي خلوها من التنديد بالعقيدة الشيوعية، واقتصارها على التنديد بالستالينية فقط.
وعندما يخدم الأمر الأهداف الصهيونية، ويوضع السوفييت في صورة (المعادين للسامية)، ولكن التسمية لا تتهم الشيوعية أكثر من اتهام الرأسمالية. وبينما لم يستطع بعض اليهود تحمل حلف هتلر ـ ستالين، أصروا على نشاطاتهم الثورية. ولكن الحقيقة، مع ذلك، هي أن معظم اليهود الشيوعيين ساروا مع خط الحزب، المتعرج بالتحالف الهتلري ـ الستاليني، بدقة كبيرة.
إن الغزو والاغتصاب الخالي من الرحمة لفلسطين، بموافقة الأمم المتحدة الخالية من الأخلاق، سيؤدي أخيراً إلى تطورات مذهلة في العلاقات اليهودية ـ السوفييتية. ولا يوضح المناورات اليهودية في السنوات الأخيرة إلا فهم الخلاف اليهودي ـ الشيوعي حول القومية، كما جرى في البداية في بروكسل بين لينين ومبعوثي الجمعية الاشتراكية اليهودية.
(1) ـ مذهب ظهر في روسيا في القرن التاسع عشر ينكر أي أساس للقيم والمعتقدات الدينية ويدعو إلى هدم المجتمع هدماً مرغوباً فيه لذاته وبمعزل عن أي برنامج إنشائي بديل.

(2) ـ كان تروتسكي وزينوفيف وسفيردلوف ويوريتزي وفولودارسكي قادة يهوداً مشهورين في الحكومة السوفييتية. ورغم إخفاء الهوية اليهودية لهؤلاء القادة الثوريين على المستوى العالمي، فالاشتراكيون اليهود في أمريكا يعرفونهم. وقد أصبح اسحق ستينبرغ، عضو المفوضين الشعبيين السوفييت، مفوضاً للعدلية، وكان اورتزكي رئيساً لمجلس إدارة تشيكا القوية.

يتبع


المُنـى 1 - 2 - 2010 01:42 AM

الفصل السابع
اغتصاب الأرض المقدسة
بدأ تحويل الولايات المتحدة إلى قاعدة عمليات يهودية على نطاق عالمي، مع وصول أول سفينة محملة باليهود الروس. قد تدفق إلى أمريكا هؤلاء اليهود، الذين ينتسبون في الغالب إلى يهود الخزر ويتحدثون الييدية، والذين جاءوا إليها فقراء معدمين. وبلغ عددهم ما بين 1881 و1920 مليونين. وفي سنة 1928 كان من بين الأربعة ملايين وربع مليون يهودي في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين ونصف من أصل أوروبي شرقي، مولداً أو نسباً.
كان اليهود الروس جميعاً سواء منهم المحافظ أو المتدين أو المتطرف، اشتراكيين ملحدين. ولما كانوا لا يشعرون بارتباط يشدهم إلى ارض ميلادهم، اتجهت غرائزهم الوطنية للوعد النبوي باستعادة مجد إسرائيل. وقد اعتبر اليهود الروس أنفسهم أمة في المنفى، سواء منهم من كان يعيش تحت القبضة الحديدية لشرطة القيصر السرية، ومن كان يستنشق هواء الحرية في أمريكا. وقد كانوا يخضعون لتعليمات اليهود، وندر أن التقوا بالأمميين في عمليات التبادل الاقتصادية أو وقت الأزمات الحكومية. ولم تكن أمريكا بالنسبة لهم إلا منفى جديداً، حملوا إليها يهوديتهم الساخنة، والشعور بالتضامن، وبغض حكومات الأمميين. ولما كان اليهود الروس قد تشربوا هذه العقائد والتقاليد فقد أصبحوا صهاينة متعصبين.
وهكذا، وقبل الاعتداء الوحشي على فلسطين، خطط يهود أمريكا لمستقبل حكومة الدولة التي سيقيمونها في الأرض المقدسة، حالما ينتزعون الأرض بالقوة من أصحابها الشرعيين.
وانتشرت في الولايات المتحدة شبكة من المؤسسات التي لم تكن إلا البداية(1). فقد تضاعفت مرات ومرات مع ازدياد نفوذ اليهود وتصاعد ثروتهم. وكانت جماعات يهود الخزر، ممن لم تطأ أقدام أجدادهم الأرض المقدسة، أشد الصهاينة حماساً. أما يهود إسبانيا والبرتغال ووسط وشمالي أوروبا، فقد وجدوا في الولايات المتحدة أرضاً مناسبة لعيشهم، وكانوا على وشك القبول بها واعتبارها (الأرض المقدسة) مع القناعة بصهيونية روحية. إلا أن نواياهم الطيبة تلونت وتأثرت بالهاربين من الشرطة الروسية، الذين ألفوا العنف والعدوان. فانتزع اليهود الروس غيرهم من اليهود من (أمريكيتهم) ووجهوهم بكل صفاقة على طريق جديد نحو فلسطين، وللاستيلاء على العالم كله. وبذلك أصبح يهود (الجمعية الاشتراكية اليهودية) من الخزر، قادة اليهود الأمريكيين.
وقد شده يهود إسبانيا وألمانيا لما رأوا من عادات غريبة ولغة غريبة عند القادمين الجدد ونظروا إليهم كأجانب، لا كيهود أخوة لهم.. فرغم أن اللغة الييدية(2) كانت تكتب بالحروف العبرية، لكنها لم تكن لغة اليهود الإسبان أو الألمان.. غير أن اليهود الألمان حاولوا جعل القادمين من روسيا يهوداً أمريكيين وحسب..
ومع أن اليهود الألمان بسطوا منظماتهم خارج نطاق دور العبادة، لكن منظمتهم العلمانية كانت تساير الخطوط العامة للحياة الأمريكية. وقد قنعوا بالنشاط في مجال الأعمال الخيرية. وفي محاولاتهم المبذولة لتحويل اليهود الروس إلى يهود أمريكيين، أصبحوا قوة مسيطرة، ولكنهم في النهاية ابتلعوا داخل التيار الكاسح للقومية اليهودية التي رفضت أن تذوب في قلوب المهاجرين الروس.
في الوقت الذي وجد فيه اليهودي الروسي الحرية والثروة في الولايات المتحدة، لم يجد القناعة والطمأنينة. فقد كان ثائراً على كل سلطة حكومية موجودة، أو قلقاً متعنتاً ضيق الأفق. وكان يشغل ذهنه، من جهة، (جمع المشتتين) في إسرائيل جديدة، وكان، من جهة أخرى، مشغول البال بإقامة مثالية (يوطوبيا) اشتراكية على غرار (السنهدريم)(3) الاستبدادي المطلق. وسواء أكان هذا اليهودي الروسي متعصباً إلى حد الجنون، أم ملحداً متطرفاً، فقد ظل يهودياً من ناحية الانتماء العرقي. وكذلك أصبح تاريخ اضطهاده في أوروبا الشرقية درعاً ورمحاً في أمريكا، يستطيع بها إخفاء عيوبه ورذائله، وإخراس منتقديه. وكان انقضاضه على الاقتصاد والسياسة الأمريكية وتقاليدها، دون صد من شرطة سرية أو (مذابح مدبرة)، مشجعاً له على بذل جهود أعظم وأشد عدوانية. وعندما كان يواجه بالمعارضة كان يعرف كيف يصيح متهماً معارضيه بالاضطهاد ومعاداة السامية. وسواء كان يتكلم كحبر متعصب داعياً (لوحدة الشعب اليهودي)، أو ينادي للإطاحة بالجمهورية بالعنف والقوة كماركسي ملحد، فقد كان دوماً يرد على منتقديه بنفس التهمة (معاداة السامية).
وكانت هذه القاعدة الجديدة في أمريكا مليئة بالوعود والبشائر.. ففيها شعب متسامح يحمل مفاهيم غريبة عن الحرية، حرية الكلام التي أعطت مناعة لمن كانوا يخضعون للرقابة، وحرية الاجتماعات لمن كانوا يحرضون على الشعب والثورة، وحرية الصحافة التي يمكن تسييرها كما يشتهون، ومفهوم الولاء الذي لا يعتبر التآمر العالمي خيانة. وفي هذا البلد الغربي يمكن للغريب أن يهاجمه ويمكن للمواطن الذي ولد فيه أو نال جنسيته أن ينخرط في تنظيم لتدمير البلد.. وكذلك لا يمكن لأي فرد أن يتمتع بكل مزايا الإقامة فيه، وأن يسمح، في نفس الوقت، لقلبه وطموحه وولائه بالاتجاه إلى مكان آخر. وأكثر من ذلك، كان هذا المفهوم للديمقراطية شيئاً عظيم الفائدة. ولأن الناس كانوا طموحين يتوقون لبلوغ المراكز العامة فقد كانوا عرضة للمساعدة المالية في حملاتهم السياسية، شديدي الحساسية لمزاولة الضغط حالما يتسلمون المراكز والوظائف. وقد كان تبادل المصالح بين المسؤولين في الاتحاد السوفييتي أمراً ضرورياً للبقاء، في أمريكا أصبح ذلك سلاحاً سياسياً ذا قوة مذهلة.
كان الكثيرون، بالطبع، يريدون أن يكونوا أمريكيين صالحين قانعين بالحرية في عبادة الله على طريقتهم الخاصة، مندمجين في الحياة الأمريكية العامة.. وكان آخرون يريدون أن يصبحوا اشتراكيين يتبنون نظريات أجنبية مستوردة من أقبية ومواخير آسيا وأوروبا.. ويريد البعض أن يكون متطرفاً مهذباً يخلط العقائد الثورية بالآراء الجديدة عن الحرية، ويريد آخرون أن يقدموا النظريات الثورية الداعية للقوة والعنف، ولكن آخرين كانوا مايزالون يلتهبون حماساً لتحقيق وعد الأنبياء والعيش من أجل العودة إلى (صهيون). غير أن الجميع كانوا يريدون أن يظلوا يهوداً، مع التفاوت في درجة المغالاة في التعصب لليهودية.
وبعد زمن ليس بالطويل أصبح الشيوعي اليهودي يرفض المثول أمام لجنة تشريعية حكومية، وأصبح التلمود يستخدم للدفاع عن يهود آخرين يحاكمون لتآمرهم على أكرم حكومة عرفوها.. وبذلك يظل اليهودي المرتد عن دينه يجد طريقاً للعودة إلى أصله العرقي والتلمودي، مع القيام بنشاط الخيانة في الولايات المتحدة.
يرجع أساس الادعاء الصهيوني بحق اليهود في فلسطين إلى المغالطة القائلة أن أبناء الديانة اليهودية هم أعضاء (الجنس اليهودي) القديم، الجنس الذي أصبح (شعباً مشرداً) في بلدان العالم. وقد كان يروج لهذه القصة الخرافية (القوميون) اليهود، ثم تلامذة ثيودور هرتزل منذ سنة 1897.
رغم أن أجداد اليهود قد حكموا ذات مرة البلد الصغير فلسطين، وانتهى وجودهم فيه قبل آلاف السنين، فإن الصهاينة لا يجدون ما ينافي الأخلاق في طلب انتزاع البلد من سكانه ليصبح مكاناً لتجمع المشتتين ـ الشعب اليهودي ـ في العالم (وإعادة بناء الدولة اليهودية). ويبدو أن حقيقة مرور ألفي سنة على الادعاء بسيطرة الأجداد على فلسطين، أمر قليل الأهمية عند الصهاينة. وقد فشلت حقيقة وجود السكان العرب قروناً متوالية والدعوة لطردهم من بيوتهم، وفشلت في إثارة غريزة العطف والعدل في قلوب الصهاينة وعقولهم. فالضمير الحي لا يجد أدنى مقارنة بين الادعاء التاريخي بفلسطين، حتى ولو صدق، وبين اغتصاب فلسطين من سكانها العرب. وحتى هذا الأساس الواهي لتعليل وجود الطابور الخامس الصهيوني في فلسطين وما تلاه من أعمال عنف وانتزاع الأرض من العرب، ليس له وجود في واقع الأمر.
إن كل المراجع المعترف بها في العالم حول تاريخ أمم أوروبا وآسيا وأفريقيا تخالف الادعاء الصهيوني. فالأفراد الذين يعتنقون الديانة اليهودية، المبعثرون في أنحاء العالم اليوم، هي أحفاد سكان محليين منتشرين على نطاق واسع.
فقد انتشرت الديانة اليهودية من الأرض المقدسة فيما بين سنة 1500 و1000 قبل الميلاد، ووصلت شعوب شمال أفريقيا، على البحر المتوسط، ووصلت غرب أوروبا، والجزيرة العربية، والهند والصين والحبشة. وتحول بعض السكان الوثنيين إلى يهود إلى أيدي البعثات الدينية والتجار والمنفيين، الذين استقروا في هذه البلدان واندمجوا مع السكان المحليين. وقد تصهروا مع المواطنين، الأمر الذي أدى إلى اختفاء الأصول العرقية السابقة، وبذلك أصبح السكان الذين اعتنقوا اليهودية غير ساميين في غالب الأمر(4).
والواقع أنه ليس هناك أساس تاريخي لادعاء الصهاينة بوجود حق شرعي في فلسطين لأبناء الديانة اليهودية من شرق أوروبا. فالمراجع الرسمية، اليهودية منها وغير اليهودية، متفقة على أن هؤلاء الناس هم من نسل جنس تركي تتاري غير سامي، جاءوا إلى أوروبا من آسيا في القرن الأول الميلادي، سالكين طريقاً برياً شمال بحر قزوين، وأصبحوا بعد ذلك يعرفون بشعب خزر. وقد كانوا شعباً يحب الحروب، استقر في شرق أوروبا، وتمكن أبناؤه بالانتصارات المستمرة والناجحة من توسيع رقعتهم حتى شملت الجزء الأكبر من شرق أوروبا، غرب الأورال وشمال البحر الأسود. وقد اعتنق شعب خزر اليهودية قرب نهاية القرن الثامن، ولم يسمح بعدها باعتلاء عرش خزر إلا لملك يهودي، وأصبحت اليهودية دين الدولة.
وقد ظل التوسع هو الاهتمام الرئيسي لمملكة خزر، وجمعت في قمة انتصاراتها الجزية مما لا يقل عن خمسة وعشرين شعباً محتلاً. وفي أواخر القرن العاشر زحف الروس من الشمال وتغلبوا على خزر، وبذلك ذاب سكان خزر وولاياتها في الدولة الروسية الواسعة وهذا ما يفسر كثرة السكان اليهود في هذا البلد. ثم أصبحت أجزاء كبيرة من السكان اليهود بولنديين ولثوانيين ورومانيين.. الخ، وذلك على مجرى سنوات الانتصارات التالية.
كانت فلسطين تبعد أكثر من ألف وخمسمائة ميل عن مملكة خزر، ولذا لم يكن ليهود أوروبا الشرقية، أحفاد يهود خزر، أي ارتباط تاريخي أو عرقي باليهود الأصليين في الأرض المقدسة.
ولكن اليهود كانوا من سنة 1916 مستميتين في مطالبتهم بفلسطين، ليس إلا.. وقد فشلت كل الجهود في إقامة ما يسمى بـ (الوطن القومي) لليهود في جزء آخر من العالم، لا يتعرض فيه سكان للانتزاع من أرضهم، وعارض الصهاينة ذلك بكل ما أوتوا من قوة.
ولكن لماذا ؟
يبين التقرير الرسمي الذي أعده (وكلاء التاج البريطاني للمستعمرات)، لحساب (حكومة فلسطين)، بأن البحر الميت يحتوي على 42 مليار طن متري من معادن كلوريد البوتاسيوم وبروميد المغنيسيوم، وكلوريد المغنيسيوم، والكالسيوم، وكلوريد الصوديوم، وكذلك (كميات لا تنفد من البوتاس)، والقيمة الإجمالية لذلك خمسة آلاف مليار دولار حسب السعر الحالي (1953)، وتلك ثروة خيالية تتحدى الخيال. وهذا المصدر الطبيعي الذي يملكه العرب قانونياً، يقوم اليوم باستغلاله أبناء خزر الجشعين من خلال (شركة بوتاس فلسطين المحدودة)، وهي شركة (واجهة) للقيادة الصهيونية السرية العليا. وبهذه الثروة ينوي أبناء خزر إقامة مملكتهم اليهودية السابقة التي قامت في أوروبا الشرقية.
ولا بد من التأكيد بأن الصهاينة لا يشملون كل اليهود الأمريكيين في حركتهم، فهناك الكثير من اليهود الأمريكيين الوطنيين الذي ينظرون ببغض إلى النشاطات الصهيونية الأمريكية ووكالاتها، ويحتقرون الحركة الصهيونية بنفس قوة احتقار الأمريكيين الآخرين لها، بل ربما كان احتقار اليهود أكبر لأنهم على معرفة أكبر بحقيقة الأمر.. ويحق لهؤلاء اليهود الأمريكيين أن يكون احتقارهم أشد، لأنهم مورطون دون إرادة بينما يرغبون في مشاركة يهود العالم في الأخوة الروحية، مع الإصرار على الحرية الفردية وحقهم في أن يكونوا مواطنين صالحين مخلصين للبلد الذي ولدوا فيه أو اختاروه دار إقامة لهم.
كانت اليهودية المنظمة موالية لألمانية في الأيام الأولى من الحرب العالمية الأولى. فقد كانت اليهودية، أولاً وأخيراً، لا تستطيع تأييد قضية روسيا القيصرية. ولكنها كذلك توجهت إلى القيصر وإلى ألمانيا لانتزاع فلسطين من الأتراك لصالح اليهود. وقام بدعم ألمانيا يهود ألمان وأمريكيون من أمثال بول وفليكس وربرغ، ويعقوب تشيف من مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم).
ولكن الممولين الأمريكيين ورجال الصناعة الأمريكيين، الذي يجنون الذهب الكثير من حاجة الحلفاء، قاموا دون تردد بتأييد قضية الحلفاء، رغم الشك في أن يكون أي من هؤلاء الأمريكيين قادراً على تعريف تلك القضية بوضوح. ولكن السبب يظل محيراً، لمن يحاول التشبث بالحقائق السطحية، في تورط فرنسا وبريطانيا في كارثة دموية مع ألمانيا لمجرد أن حفنة من السفاحين الصرب قتلوا ولي عهد النمسا، ثم إعلان النمسا الحرب على الصرب. ولكن هناك خلف الأسباب المزعومة والبائسة، سياسة الإمبراطورية البريطانية القديمة حول توازن القوى، والتي كان يخشاها جورج واشنطن. فحصار إنجلترا لألمانيا حرم الصناعة الأمريكية من الأسواق الألمانية، الأمر الذي يغير مجرى التاريخ. والذين يجنون سبعة مليارات دولار من التجارة لا بد وأن يذعنوا بأن الزبون دائماً على حق، في الحرب والسلم !
ولكن الشعب الأمريكي الذي كان عليه خوض الحرب ودفع الثمن وتقديم الضحايا، لم يكن في حالة تسمح له باختيار الجانب الذي ينضم إليه. وقد كان معظم الأمريكيين قد سمعوا جورج واشنطن في تلك الأيام وهو يخبرهم عما سيصلون إليه بالتورط في حروب أوروبا الخارجية. ومع ذلك، ولأسباب غير قابلة للشرح، كان الكثير من المسؤولين الأمريكيين يعملون محمومين لإيجاد عذر للتدخل في الحرب.
لماذا ؟
مع زحف الجيش البريطاني نحو الأرض المقدسة، أخذ يتلاشى الأمل اليهودي في نيل فلسطين على يدي القيصر الروسي، ومع ازدياد احتمال الاحتلال البريطاني لفلسطين، عرف البريطانيون ما يجنونه من استقطاب اليهودية العالمية لمساعدة قضية الحلفاء.. فإذا صدر وعد بريطاني لصالح الصهيونية، أمكن استقطاب الرأي العالمي اليهودي ودفع الولايات المتحدة لدخول الحرب !
كان الصهاينة أنفسهم هم الذين كتبوا المسودة الأصلية لوعد بلفور(5). فقد حررها القاضي اليهودي برانديس واعتمدها الرئيس ويلسون، ثم قدمت بعد ذلك للسير آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا لتوقيعها.
الواقع أنه لا توجد في تاريخ الولايات المتحدة حادثة أشد إذلالاً من هذه الحادثة.
وفي السادس من إبريل 1917ن وبتوجيه من الرئيس ويلسون، أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي الحرب على ألمانيا، وأعلن ويلسون أن السلام الدائم لا بد أن يكون (سلاماً بدون انتصار)، وأعلن أنها (حرب لإنهاء الحرب) وأن الهدف منها خلق أمن عالمي للديمقراطية . واليوم فقط أصبح العالم يدرك ويؤكد بلاهة هذا الكلام المخادع.
ولم يعلن (وعد بلفور) إلا في الثاني من نوفمبر 1917، حيث كتب بلفور إلى اللورد روتشيلد:
(عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أن أنقل إليكم، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، الوعد التالي الذي يتعاطف مع مطامح الصهاينة اليهود: (( إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، على أن يفهم جلياً بأنه لا يجوز الإقدام على ما من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا الحقوق أو المراكز السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر )). وأكون ممتناً لو نقلتم هذا الوعد للاتحاد الصهيوني).
وفي 10 يونيو 1917 التقى (المؤتمر اليهودي الأمريكي) الأول وكان يتحدث باسم اليهود الأمريكيين فقط. وقد طالب بأن يرسي (مؤتمر السلام) القادم: (حقوقاً مدنية وسياسية ودينية ومذهبية وقومية متساوية، وكذلك إدارة مستقلة ذاتياً لمؤسساتهم الطائفية، سواء كانت دينية أم تعليمية أو خيرية، أم غير ذلك، بواسطة أعضاء من مختلف الهيئات القومية والدينية، والاعتراف بالمطالب التاريخية للشعب اليهودي في فلسطين، وإقامة الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية في ذلك البلد لتأمين تطويره إلى دولة يهودية).
ربما لا توجد حادثة أخرى في تاريخ العالم تمثل مدى سخافات هذا المؤتمر اليهودي المذهلة والمتناقضة. فبعد أن اكتسب اليهود في أمريكا حقوق المواطن الكاملة، أخذوا يعلنون بجرأة أنهم أمة منفردة ومستقلة، وأنهم كذلك أمة داخل الأمة. وقد كذبوا عندما قبلوا الجنسية الأمريكية الطبيعية، حالفين بالمحافظة على القانون وترك كل ولاء لأي سلطة أجنبية، وأية تابعية خارجية. ولكنهم اجتمعوا والتقوا على (العهد) وطالبوا لأنفسهم بوضع خاص، لهم ولكل إخوانهم من بني جنسهم في كل بلدان العالم. وطلبوا على وجه الخصوص الاعتراف بمطامعهم (التاريخية) في أرض شعب آخر، وطالبوا قوى العالم بمساعدتهم لسلب تلك الأرض.
وفي سنة 1922 أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً يشرك الولايات المتحدة في (وعد بلفور).
كان انتصار الحلفاء قد تم في 11 نوفمبر 1918، واندفع الرئيس ويلسون إلى باريس لحضور مؤتمر السلام. وقد مثل العرب في المؤتمر الأمير فيصل بن حسين شريف مكة الذي قاد القوات العربية كحليف للإنجليز، معتقداً أن البريطانيين سيحافظون على وعدهم ويعطون الاستقلال للشعوب كلها، بما فيها فلسطين(6). ولكن فيصل لم يفهم تماماً كل المخادعات التي كانت تدور حوله، ونظراً لعدم تمكنه من الإنجليزية والفرنسية، فقد وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه. وقد حدث في فلسطين اضطراب شديد، إلى حد دعا ويلسون أخيراً لإرسال لجنة تقص أمريكية إلى فلسطين.
وجاء تقرير كرين كينج(7) المقدم إلى ويلسون، يؤيد الجانب العربي من كل الوجوه. فكان أكثر من تسعة أعشار السكان الفلسطينيين يعارضون الهجرة اليهودية إلى البلد. وجاء في تقرير اللجنة: (إن إخضاع شعب بهذه العزيمة لهجرة غير محددة، وتصعيد الضغط المالي والاجتماعي لتسليم الأرض، يخالف تماماً المبدأ الذي وضع منذ وقت قريب، وحقوق الشعب، رغم إبقائه في إطار القانون.. ومهما حسنت نوايا اليهود، من المشكوك فيه أن يظهروا، للمسلمين والمسيحيين، حراساً أمناء على الأماكن المقدسة، أو الأرض المقدسة بشكل عام).
كانت السلطات البريطانية، بلا شك، أكثر اهتماماً بأصحاب المصارف اليهود منها بالشعوب العربية. فطرحت معاهدة مكمهون ـ حسين جانباً، وأصبح وعد بلفور أساساً للانتداب البريطاني على فلسطين.
وكانت الحكومة البريطانية قد أصدرت في السابق بياناً تفسر فيه (وعد بلفور) على أنه لا يعني (فرض قومية يهودية على سكان فلسطين، بل تطوير الطائفة اليهودية الموجودة، لكي يمكن أن تصبح مركزاً يعتز ويهتم به الشعب اليهودي كله، على أساس ديني وعرقي).
وقد أصبح الانتداب فعالاً في 23 سبتمبر 1923، وسجل وعد بلفور في مقدمة قرار الانتداب الذي يعالج مختلف الوسائل، ومشاكل الهجرة كذلك.
وكانت قد شكلت إدارة مدنية في فلسطين في يوليو 1920. وقد شنت (المنظمة الصهيونية العالمية) قبل ذلك حملة لشراء الأراضي، وبدأ تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين. وفيما بين 1918 و1935 دخل فلسطين نحو 280 ألف يهودي وفي نهاية سنة 1936 قدر عدد اليهود في فلسطين بنحو 400 ألف نسمة.
كان اليهود سنة 1914 يملكون في فلسطين 177 ميلاً مربعاً فقط، وفي سنة 1936 أصبحوا يحتلون 545 ميلاً مربعاً. وقد أسسوا فيما بين سنتي 1919 و1933 أربعة آلاف مركز صناعي.. ورغم ذلك كانوا ما يزالون أقلية صغيرة بين السكان العرب (تبلغ مساحة فلسطين نحو عشرة آلاف ميل مربع).
وكادت أن تفلس المنظمة الصهيونية العالمية، فكانت في حاجة إلى النقود لاستغلال مصادر البلد وزيادة عدد اليهود في فلسطين. فدخل حاييم وايزمان في مباحثات مع اليهود الأمريكيين بواسطة (لويس مارشال). وتوسعت نتيجة لذلك الوكالة اليهودية في فلسطين وانتعشت. وأعلن وايزمان قائلاً: (نشعر أنه قد حان الوقت لإظهار رغبتنا الشديدة والمجددة في بسط قضية الصهيونية أمام العالم اليهودي كمسألة تحتاج إلى اتخاذ قرار أخلاقي.. إن هدفنا هو كسب الشباب كي يقرر الاعتراف بمسؤولياته القومية).
وتفجرت كراهية العرب في حوادث 1929 وتطور الخلاف اليهودي العربي على الحقوق اليهودية والإسلامية في حائط المبكى إلى صراع مكشوف وقف فيه العرب المسيحيون مع المسلمين ضد اليهود. وقد كتبت لجنة بريطانية في تقرير حول الموضوع بأن القلاقل قد تسببت عن مخاوف العرب من تصاعد أغلبية يهودية، واستيلاء الغزاة المنظم على أراضيهم. وأوصت اللجنة بفرض قيود على الهجرة وشراء الأراضي. وقد قبلت التوصيات، رغم الضجة الصهيونية، وأصدرت الحكومة نتائج عمل اللجنة فيما يعرف باسم (الكتاب الأبيض)، وذلك في 20 أكتوبر 1930.
وفي إبريل 1936 انفجر العرب من جديد، وقاموا بثورة مكشوفة على اليهود وعلى بريطانيا العظمى، أيديتهم نننننبلللللرللللأيدتهم فيها هذه المرة البلدان العربية.. وقد كانت الخسائر كبيرة في الأرواح. وأرسلت في نوفمبر لجنة بريطانية أخرى إلى فلسطين برئاسة (ايرل بيل) وذكر البيان مرة أخرى أن العرب يخشون من سيطرة اليهود، وأن الصهيونية أحبطت آمالهم ومطالبهم في الحكم الذاتي. ولما وجدت لجنة بيل أن المطامع اليهودية والمطامع العربية لا يمكن أن تتوافق أو تتهادن، أوصت بتقسيم فلسطين بين الفريقين. ووافق (المؤتمر اليهودي) على ذلك بتردد في اجتماعه بزيورغ 1937، ولكن العرب عارضوا ذلك معارضة تامة.
واجه البريطانيون العنف الذي تفجر سنة 1937 بإجراءات شديدة. فحرمت (الهيئة العربية العليا) من الصفة القانونية، وسجن أعضاؤها، ولكن مفتي القدس (الحاج أمين الحسيني) تمكن من مغادرة البلد. وأقيمت المحاكم العسكرية ونفذت عمليات عسكرية كاملة للسيطرة على البلد. ولكن الثورة تواصلت، رغم كل الإجراءات الصارمة، وازدادت حدتها. وفي سنة 1938 لجأ اليهود إلى الإرهاب العنيف. ورغم معاناة العرب من إصابات مرعبة (في مواجهة اليهود والبريطانيين) كانوا ما يزالون مسيطرين على معظم البلد، وكانت حركة المواصلات في فلسطين مازالت متوقفة تماماً.
في نوفمبر 1938 أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها على إسقاط اقتراح التقسيم ومحاولة إيجاد تفاهم بين العرب والصهاينة عن طريق المفاوضات المباشرة في لندن. ولكن العرب اتخذوا موقف من يعتبر بلده يتعرض لعملية قرصنة، وأن المفاوضات ليست إلا مساومة مع لص لإعادة جزء من الأملاك المسروقة. وعندما لم يتمكن العرب واليهود من التوصل إلى اتفاق فيما بينهم، أعلن البريطانيون عن ضرورة التفتيش بأنفسهم عن حل للمشكلة. وفي (الكتاب الأبيض) الذي صدر في 17 مايو 1939، بين البريطانيون أن تفسيراتهم السابقة لوعد بلفور تعاكس التزاماتهم نحو العرب، واقترحوا استقلال فلسطين مع حماية المصالح الأساسية للعرب واليهود على حد سواء. وتقرر السماح بهجرة 75 ألف يهودي على مدى خمس سنوات، وهجرات أخرى بموافقة العرب.
ورفض اليهود والعرب مقترحات الكتاب الأبيض وأعلن اليهود الإضراب العام وشنوا موجة أخرى من أعمال العنف والإرهاب، وتواصلت الهجرة اليهودية غير القانونية، بينما اندفعت اليهودية العالمية لدعم الغزاة.
ربما أدرك ساسة بريطانيا ظلم وعد بلفور للعرب، ولكن بعد فوات الأوان للتصرف حيال ذلك. فكان الكتاب الأبيض لسنة 1939 رغبة واضحة في تصحيح خطأ سنة 1917. وفي محاولة الكتاب الأبيض لتفسير وعد بلفور تفسيراً جديداً، أصر على أن (الوطن اليهودي) قد تحقق فعلاً في فلسطين، وأعلن الكتاب الأبيض: (لذا، فإن حكومة جلالة الملك تعلن الآن بشكل قاطع بأنه لا يعتبر جزءاً من سياساتها أن تصبح فلسطين دولة يهودية ، بل تعتبر ذلك معاكساً لالتزاماتها نحو العرب، حسب الانتداب، ومعاكساً للضمانات التي أعطيت للشعب الفلسطيني في الماضي، بألا يصبح السكان العرب في فلسطين خاضعين لدولة يهودية ضد إرادتهم).
لم يعرف الغضب الصهيوني حدا له. فالسياسة البريطانية الجديدة في فلسطين تعني فشل الخطط التي وضعوها بعناية، ولم يكن عندهم أدنى استعداد للسماح بأن تنتهي المعركة بالكتاب الأبيض.. لذا عمد اليهود إلى شن حملة عالمية من التشهير بالحكومة البريطانية، تدعمهم في ذلك الدعاية التي تطمس الحقائق..
ولم تكن تلك إلا البداية !
(1) ـ تشكلت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) سنة 1907، وكان أول رئيس لها هو ريتشارد جوثيل من جامعة كولومبيا، وأول أمين سر هو الحبر ستيفن وايز. وسرعان ما نظمت فروعاً للنساء والأطفال. وقد عمل لويس برانديس رئيسا للمنظمة قبل تحوله إلى المحكمة العليا للولايات المتحدة. وكان القاضي جوليان ماك ولويس لبسكي من أعضائها الهامين. وفي سنة 1907 أيضاً تأسست (المنظمة الصهيونية العالمية بأمريكا) (بول صهيون) على أيدي أعضاء من الجمعية الاشتراكية اليهودية، وأصدرت عدة مطبوعات. وكانت أهدافها في أمريكا دعم العمال والقوى (التقدمية) في فلسطين. ومن المنظمات الأخرى (منظمة مرزافي بأمريكا) (1911)، التي عملت على بناء إسرائيل كاتحاد يهودي تجمعه الروح اليهودية. وفي سنة 1920 تأسس (حزب العمال الصهيوني المتحد)، وكان يهدف إلى إنشاء نظام اشتراكي (ديموقراطي) في إسرائيل وتقوية حركة العمال اليهود في الولايات المتحدة.

(2) ـ الييدية لغة طورها أحفاد يهود خزر، وليست لغة في ذاتها، بل خليط من الكلمات الألمانية والبولندية والروسية، أضيفت إلى لغة خزر، بالحروف العبرية، وتبناها ملك خزر، أول من اعتنق اليهودية. والمعرف أن العبرية ظهرت قبل الييدية بنحو ألفين وخمسمائة سنة.

(3) ـ السنهدريم هو المجلس الأعلى عند قدماء اليهود.

(4) ـ ومن هؤلاء (فلاشة في الحبشة)، والصينيون في الصين، وتاميل في الهند، والمغاربة والبربر في شمال أفريقيا، والخزر في شرق أوروبا، والنوبيون في جنوب مصر، وفالا في سنغامبيا، والبولنديون في بولندا، والكثيرون غيرهم من كل أجناس أوروبا وأفريقيا وآسيا.

(5) ـ يخبرنا الدكتور يعقوب دوهاس في كتابه (سيرة حياة القاضي برانديس) قصة ما وراء الكواليس، فقال: "جهزت في لندن عدة مسودات (من وعد بلفور) وبعثت إلى الولايات المتحدة عن طريق وزارة الحرب لتسلم إلى اللجنة السياسية الصهيونية الأمريكية. وكانت الهيمنة الأمريكية على مجالس الحرب قوية إلى درجة أجبرت البريطانيين على طلب موافقت الرئيس ويلسون على الوعد قبل إصداره. وبعد إبراق المسودة من حكومة إلى حكومة، سلمت إلى (سلطة برانديس) لاعتمادها وإقرارها. وبعد إجراء مراجعة هامة لها، خول الرئيس ويلسون (عن طريق العقيد هاوس المؤيد للمطامع الصهيونية) بالإبراق إلى الحكومة البريطانية بالنص الذي صدر نهائياً، والذي وافقت عليه جميع حكومات الحلفاء".
(تشير عبارة "سلطة برانديس" إلى اللجنة التنفيذية المؤقتة للشؤون الصهيونية العامة، والتي كان برانديس رئيساً لها).

(6) ـ حسب معاهدة (مكمهون ـ حسين).

(7) ـ اختفى تقرير كرين ـ كينج من ملفات الرئيس، ولكن، لحسن الحظ، كان قد طبع وصدر في مجلة (المحرر والناشر).

يتبع

المُنـى 1 - 2 - 2010 01:46 AM

الفصل الثامن
هجوم مزدوج على العالم الحرّ
(إن ما أسهم به الخيال اليهودي والسخط اليهودي للتأثير بقوة شديدة على روسيا، هو نفس ما تتجه إليه العقلية اليهودية في البلدان الأخرى).
(العبرية الأمريكية)
بنيويورك 10 / 9 / 1920
كان من نتائج الحرب العالمية الأولى مولد الاتحاد السوفييتي وإقامة (وطن) لليهود في الأرض المقدسة، وتمزيق أوصال أوروبا، وشن أول حملة لقيام (الدولة العالمية) ـ عصبة الأمم.
وكان بروز قوة المال والتجارة اليهودية العالمية، بالإضافة إلى انتشار الاشتراكية العالمية اليهودية، عاملاً على ظهور اتجاه يهودي لتدمير القومية والوطنية. وقد توحدت مع فكرة الحكومة العالمية، القوة الدافعة المركزية للقومية الصهيونية، وذلك أمر محير لم يكن يسهل كشفه أو تعليله. وكما رأينا من قبل. كان اليهود، سواء تحركوا في دوائر التجارة الدولية أم في خلايا التآمر الثورية السرية، يلتقون على الهدف المشترك المهتم بمصير إسرائيل. وقد كان كل يهودي يعرف دوره المحدد في المؤامرة الخفية لتدمير المسيحية والأمم الأخرى، فقد كانت أنسجة الكيان اليهودي نفسه طيلة ألفي سنة تستعد لأداء مهمة ذات حدين: تدمير العالم وإقامة إسرائيل لتكون القوة المسيطرة على العالم.. (لا بد أن يسود قانون صهيون).
وقد كسبت قوة المال اليهودي الدولي والقوة المدمرة للاشتراكية الثورية اليهودية انتصارات لإسرائيل لم يحلم بها أحد منذ حروب نابليون. وقد ثبتت سهولة السيطرة وتوجيه المسؤولين المسيحيين في الحكومات الأوروبية والعالم الجديد (أمريكا). أما إذا وقفت أي حكومة حجر عثرة في الطريق فإن الإرهاب والثورة هما السبيل لتذليل ذلك.
ولكن، إذا أمكن، بجهد كبير، أن تنحني الحكومات العديدة للإرادة اليهودية، فما مدى سهولة السيطرة النهائية على حكومة عالمية واحدة ؟
كان السؤال الهام الذي يواجه كلا من الممول اليهودي العالمي والثوري هو كيفية إقناع (الغوييم) بأن من مصلحتهم إقامة الحكومة العالمية. وقد أدرك اليهود أنه ما لم توضع الولايات المتحدة ضمن قوة عالمية فإن الفشل سيكون مصير هذه الخطة، أو تأخيرها على أحسن الفروض. وفي سنة 1914 كانت ألمانيا وبريطانيا، وحتى فرنسا، متغطرسة متعالية في عظمتها الإمبراطورية. أما الولايات المتحدة، فقد كانت، حسب تعاليم جورج واشنطن، ترفض السماح لنفسها بالتورط في مكايد ومشاحنات أوروبا، وكانت بسبب من آراء مونرو، تسير حثيثة لخلق إمبراطورية لها في نصف العالم الغربي. وأما الصين فكانت عملاقاً نائماً يئن تحت وطأة الأفيون الذي فرضته عليها بريطانيا، وكانت الهند في قبضة الحكومة البريطانية في وضع مشابه تقريباً. ولم تكن إلا اليابان التي أخذت تحذو حذو الغرب الرأسمالي في مغامراته وجرأته، تتحرك كقوة مسيطرة في الشرق. وأما أمريكا اللاتينية وبلدان أفريقيا المستعمرة فكانت كلها معرضة للخضوع في أي خطة للسيطرة على العالم.
وكانت كل من الصهيونية والشيوعية اليهودية قد نصبت لنفسها تمثالاً في العالم الأممي ونفخت كلتا الحركتين حياة في ذلك التمثال. ولم يعد من الضروري أن يتحدث اليهود أنفسهم، إذ أصبحت كلماتهم تنطلق من ذلك التمثال. وكان رجل المصارف المسيحي يتحدث دون وعي بلغة آل روتشيلد، وكان الوزير المسيحي وقائد العمال المسيحي يتحدث بلغة ماركس ولاسال، وكان السياسي المسيحي يردد عقائد برغر وتروتسكي وموسى هيس. أما أساتذة الجامعات ومعلمو المدارس فقد كانوا يعلمون فلسفة ومبادئ (الأممية الثانية).
كان من السهل للمرء أن يقول وأن يعتقد بأن القوى (الحديثة) تعمل لتغيير الوضع الاقتصادي للعالم، وتشد مختلف أجزائه بعضها لبعض، وتقريب إمكانية خلق (منظمة سياسية دولية دائمة). وقد أصبح العالم كله صغيراً بما انتشر فيه من شباك الاتصالات الحديثة. وأصبح من السهل اتحاد المصالح المالية والاتصال السريع ببعضها البعض، وأصبح العمال في بلد ما يتأثرون بالوضع الاقتصادي للعمال في البلدان الأخرى.
كانت المؤتمرات اليهودية الدولية قد أخذت تتعدد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فكان ليو بنسكر وثيودور هرتزل أول من دعا إلى قيام منظمة دولية لليهود، ولكن آل روتشيلد والممولين الآخرين من اليهود هم الذين مكنوا من تحقيق تلك المنظمة.
وجاءت الحرب العالمية الأولى لتحطم الخرافة القائلة بأن اليهود مواطنون يدينون بالولاء للبلد الذي ولدوا فيه أو تجنسوا بجنسيته.. وقد اقتربت هذه الخرافة من التحقق في الولايات المتحدة أكثر من أي بلد آخر في العالم قبل سنة 1881، وكان يمكن أن تتحقق لو أن يهود خزر ظلوا في روسيا. فلم تكن (اللجنة اليهودية الأمريكية المشتركة) التي تأسست سنة 1914 تستطيع التمييز بين اليهود الذين يخدمون القيصر واليهود الذين يخدمون الحلفاء، الأمر الذي يؤكد قلة ولاء اليهودي لأي جانب. وبينما تطورت الحرب وأوشك الحلفاء على النصر، استعدت اليهودية الأمريكية للانضمام لليهودية العالمية للاشتراك كأمة في مؤتمر السلام المرتقب. إن صفاقة الخطة عجيبة في حد ذاتها، ولكنها ليست أشد عجباً من خلو الميدان ممن يناقشها أو يتصدى لها. في الوضع العادي يعتبر منافياً للعمل والمنطق أن يطلب مجموعة من المواطنين الأمريكيين المشاركة في مؤتمر دولي يمثلهم فيه فعلاً مسؤولون منتخبون.. ولكن هذا هو تماماً ما اقترحته اليهودية الأمريكية !!
ومنذ ذلك الوقت أصبحت اليهودية تتميز بوضع الجنسية المزدوجة.. ولذا أصبح ولاؤها لأرض الميلاد أو البلد الذي تجنس اليهودي بجنسيته أمراً مشكوكاً فيه عند الذين يحللون الأمور وينظرون إليها بعقولهم، وأصبح لزاماً على الوطنيين في كل مكان أن يشكوا ويرتابوا، بشكل منطقي، في الفلسفة الغريبة لليهودية العالمية ونشاطها الدولي. وكذلك أصبح العالم غير اليهودي يزداد إدراكاً لاتجاهين متناقضين بشكل واضح عند اليهودية المنظمة في كل مكان: التوجه الملح والغريب نحو موسكو، والإخلاص الغريب (للأمة اليهودية) الممثلة في نجمة داود فوق فلسطين. فكان رأس المال اليهودي، من جهة، يمول الحكومات الأممية، بينما كانت الشيوعية اليهودية تسعى لتدمير هذه الحكومات من جهة أخرى. فأصبحت الثورية اليهودية على شكل (الطبقة الكادحة الثورية) قوة تآمرية داخل الأحزاب الثورية في كل مكان يراد فيه تدمير الحكومات الأممية، في الوقت الذي استغل فيه رأس المال اليهودي حكومات الأمميين لصالح أهدافه من خلال (قوة المال الرهيبة) والذهب اليهودي. وإذا أمكن الوصول إلى قوائم أسماء المجرمين، نجد الأسماء اليهودية تفوق كل ما سواها، فتقف أسماء آل كوبلن وآل جولد وآل جرينجلاس على رأس قوائم الخسة والخيانة. ولقد قدر لآل راكوسي وباوكر وبيرمان وبرونستين وكاغافيتش أن يوجهوا قيادات دول أممية، بينما كانت المنظمات اليهودية تمول حملات الدعاية لإقامة حكومات عالمية. ولا بد لعالم الأمميين الذي يئن تحت وطأة الديون القومية الخيالية والحاجة لإصلاح ما دمرته الحرب، ونفقات الدفاع، والهبوط الاقتصادي، والحروب الداخلية والمنازعات العرقية وفتن العمال، لا بد له من التوقف لفحص وتدبير الهجوم الثنائي على الحضارة العالمية.
بينما كان يتطور في مدينتي نيويورك وفيلادلفيا أسلوب لتوجيه وقيادة الشعب اليهودي في الولايات المتحدة، كانت تشن حملة سريعة لحشد الطاقات اليهودية العالمية(1). وبتأثير من عملاء المؤتمر الصهيوني الأمريكي اندفع يهود أوروبا الشرقية والوسطى في نشاط قومي مفاجئ وهياج شديد، ولكن ذلك النشاط القومي لم يكن متجهاً لصالح البلاد التي ولدوا فيها ولم تكن له صلة بالطموح أو الأهداف المشتركة لأبناء أوطانهم، بل كانت اندفاعتهم (قومية يهودية) محضة، قومية تستثني وتستبعد كل هدف أممي. كانت أشبه بقومية غزاة رحل ينظرون بعين الحسد إلى بساتين كنعان، وأشبه بحصان طروادة الذي ظهر فجأة يحمل الغزاة في جوفه.
كل يهود شرق ووسط أوروبا منظمين جيداً ومستعدين لدعم وفد (المؤتمر اليهودي الأمريكي) قبل الوصول إلى مؤتمر السلام في باريس، وقد سارت كل منظمة يهودية على الخط الذي رسمه (إعلان كوبنهاجن) بدقة. ورغم أن المطالب اليهودية التي تفتقر إلى المنطق كان يمكن أن تواجه بالسخرية في عصر أكثر نضجاً، لكن البلهاء المجتمعين في فرسايل استقبلوها بكل جدية واحترام.
كان (إعلان كوبنهاجن) قد صاح قائلاً: (نطالب بالمساواة الكاملة داخل أرضكم، ونطالب بالمشاركة في شؤونكم.. إننا نطالب بمثل حقوقكم وامتيازاتكم، وأن تعترفوا بنا ضيوفاً لهم حقوق وامتيازات خاصة، ليست لسوانا، داخل أرضكم).
وبتعبير آخر صريح، طالبت اليهودية العالمية لأبنائها بالمساواة كمواطنين مع أبناء البلدان التي كانوا يقيمون فيها، والاعتراف بوضعهم كأقلية على أنهم أبناء (الأمة اليهودية). وطالبت كذلك بأن يتوصل مؤتمر السلام إلى (ضمانات) دولية لهذه المساواة اليهودية التي يكتسبونها حديثاً، والتي تضمن لهم حقوقاً مزدوجة).
وقد قال هيرتزل ((ليست الأخوة العالمية حلماً جميلاً (يتحقق في دنيانا)، ذلك لأن العداوة أمر أساسي لتحقيق أعظم جهود للإنسان)). وإذن فمن الواضح أن إعلان كوبنهاجن لا يلتفت للأخوة الإنسانية ولا يقيم لها وزناً بل إن اليهود قد صاغوا الإعلان بلغة الفاتحين وكأنه موجه إلى شعب مهزوم.
وجاء مطلع سنة 1918 ليجد باريس وقد تسابقت إليها الوفود اليهودية من كل أنحاء العالم: جاءت من الغرب والشرق ومن الشمال والجنوب، تضم اليهود المتعصبين دينياً، وكذلك الاشتراكيين والشيوعيين، والمحافظين والمتطرفين والفقراء والأغنياء، انصبوا كلهم داخل العاصمة الفرنسية.
ومهما كانت أوضاعهم وحالاتهم في الأراضي التي قدموا منها فإنهم جاءوا إلى باريس كيهود وأصحاب أقلية قومية، وفدوا على المدينة التي كان عليها (أن تجعل من العالم مكاناً آمناً للديمقراطية).
وسرعان ما قامت العبقريات اليهودية الموجهة للحركة بتنظيم وفدها المتعدد الجنسيات، وظهرت (لجنة الوفود اليهودية في مؤتمر السلام) في 25 مارس 1919. وقد ضمت اللجنة، بالإضافة لوفود مختلف البلدان، ممثلين عن (المنظمة الصهيونية العالمية) و(بعناي يعريت)، وبذلك أصبح بوسع اللجنة الادعاء بأنها تتحدث باسم أكثر من عشرة ملايين يهودي.
يمكن القول أن (عصبة الأمم) تأسست بجهود الرئيس ويلسون، رغم أن الفكرة لم تكن عنده أصلاً. ففي حديث للسنتور هنري كابوتلوج في واشنطن في مايو 1916، أمام (العصبة الساعية لفرض السلام)، يبين أنه كان يوافق على الفكرة، مثل ويلسون. وقال كابوتلوج: (لا أعتقد أن الرئيس واشنطن، عندما حذرنا من الأحلاف المعقدة، كان يعني في أي لحظة أن نبتعد عن الانضمام لغيرنا من أمم العالم، إذا وجدت طريقة لإبطال الحرب ودعم السلام).
إن من الجهل بحقائق التاريخ أن ننكر وجود سيطرة وتوجيه يهودي لويلسون وجورج كلمنصو والشخصيات الأخرى التي كانت تؤثر على مائدة المفاوضات في (فرسايل). فليس من الصعب أن نتتبع ونكشف إنجازات اليهودية العالمية عن طريق (لجنة الوفود اليهودية). لقد كانت فكرة (الدولة العالمية) حلم اليهودية العالمية منذ زمن طويل، واستنكرت الوفود اليهودية ووسائل إعلامها الدعائية الموجهة أن يكون ويلسون وحده هو الذي اقترح ذلك. ولكن خطة ويلسون لإعادة بناء العالم، حسب تخيله، تتلخص في مبدأين اثنين: (الحق القومي في تقرير المصير) ثم (التجانس)، وهما مبدآن حيويان للأربع عشرة نقطة التي كانت صخرة صلبة في وجه أطماع اليهودية العالمية، ذلك لأن اليهود يعتبرون أن حق تقرير المصير القومي والتجانس لغير اليهود أمر لا يمكن التفكير فيه.
كانت العقول من خلف (لجنة الوفود اليهودية) قد وضعت حجر الأساس لتدمير سيادة الدول كلها، خاصة في العالم المسيحي. فقد استطاعت اللجنة من خلال عصبة الأمم أن تحد من السيادة المطلقة للدولة الواحدة، وأجبرت الدول الجديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى بأن تأخذ على عاتقها (الالتزام بمعاهدات مع القوى المتحالفة وشريكاتها، فيها من الشروط ما يحمي السكان الذين يختلفون عن أغلبية المواطنين في الجنس واللغة والدين). وقد توج النصر اليهودي بالشرط الذي وضع (حقوق الجماعات المحلية) تحت الضمان العالمي، وأخضعها لتحكيم عصبة الأمم.
ويتضح تأثير اليهودية العالمية على مؤتمر السلام أكثر ما يتضح في الشروط التي فرضت على بولندا في معاهدة فرسايل، ولم يكن أي قاهر فظ أكثر عنفاً من ذلك المؤتمر في شروطه. وقد وقع ممثلو بولندا (معاهدة الأقليات) في 28 يونيو 1919، والتي تخضع بولندا لسيادة متضاربة وتلزمها بالولاء لطبقة مميزة من المواطنين. وبضغط ناجح من اليهود، ضمنت عصبة الأمم تنفيذ (المعاهدة). ومن بين الحقوق، التي منحت للأقليات، الجنسية وحقوق المواطنية البولندية (بأوسع معنى)، وضمان حق استخدام لغاتها الخاصة، وإنشاء معاهدها ومؤسساتها الخاصة، وحيثما كانت أعداد الأقلية من السكان كبيرة، حق لها الاستمتاع بتلقي (نصيب مناسب من الأرصدة العامة). لقد كانت لغة فرسايل الرسمية هي (الأقليات العنصرية والدينية واللغوية)، ولكنها تعني ما أرادت الوفد اليهودية أن تعنيه: اليهود وحدهم.
وقد منعت بولندا، حسب شروط المعاهدة، من إجراء انتخابات أيام السبت، وأقر القانون شرعية سبت اليهود: (لا يجبر اليهود على القيام بعمل يشكل خرقاً لسبتهم، أو أداء أي عمل قانوني أيام السبت.. وتعلن بولندا رغبتها في الامتناع عن الأمر، أو السماح بإجراء انتخابات عامة أو محلية يوم السبت، وكذلك لا تجري أيام السبت تسجيلات لأغراض انتخابية أو غيرها.. وعلى اللجان التعليمية في بولندا، خضوعاً للإشراف العام للدولة، أن تقوم بتوزيع حصتها العامة النسبية وإعطاء المدارس اليهودية حصتها، حسب المادة التاسعة).
وقد أجبرت خمس عشرة أمة على أن تبتلع داخل سكانها العناصر التي لا يمكن هضمها أو تجانسها، وبذلك ضمنت هذه العناصر لنفسها الحق في ألا تخضع لسيطرة أية قوة دولية.
وقد اعتبرت عصبة الأمم معاهدات الأقليات أمراً ذا (أهمية دولية)، ومنحت (المحكمة العدلية الدولية الدائمة) حق الفصل القضائي في المنازعات الناشبة عن أي ادعاء بخرق شروط المعاهدات.
كان هدف قادة (لجنة الوفود اليهودية) ضمان التنافر داخل سكان الأمة الواحدة، وبفرض معاهدات (الأقلية) على الدولة الجديدة القائمة على أنقاض أوروبا، تصبح اليهودية العالمية في وضع يمكنها من السيطرة والتأثير البالغ. وبالطبع، كان نجاح المناورة يعتمد على الحكومة العالمية المقترحة ـ (عصبة الأمم). فلا يمكن ضمان التوسع اليهودي وغزوه، والمجسم في معاهدات الأقليات، إلا بتهديد من قوة جماعية لشرطة عالمية، ولم يكن يمكن التفكير، في مثل تلك الشروط إلا إذا صدرت صلاحيتها عن برلمان عالمي. ولذلك كان إنشاء عصبة الأمم ذا أهمية بالغة بالنسبة لرجال الاستراتيجية اليهود.
وفي سنة 1920 اقترحت (لجنة الوفود اليهودية) أن تتكون المنظمة المؤقتة، التابعة للمؤتمر اليهودي الأمريكي، من وفود عن المؤتمرات الوطنية أو هيئات مشابهة. وفي سنة 1923 توجه الدكتور (ليو موتزكين) إلى الولايات المتحدة، وفي 13 مايو خاطب اللجنة التنفيذية للمؤتمر اليهودي الأمريكي مقترحاً إقامة (المؤتمر اليهودي العالمي).
وفي 3و4 أغسطس 1926 عقد في لندن مؤتمر، كان الهدف منه تقوية (لجنة الوفود اليهودية). وقد اعتبر الاجتماع شديد الأهمية حتى أن المندوبين قرروا الدعوة إلى مؤتمر عام يعقد في أغسطس 1927.
وفي 17 ـ 19 أغسطس 1927 اجتمع في زيوريخ خمسة وخمسون يهودياً من ثلاثة عشر بلداً، يمثلون ثلاثاً وأربعين منظمة. وكان من بين أعضاء الوفد الأمريكي لذلك المؤتمر ستيفن وايز(2)، وغوستاف هارتمان، والقاضي هوغو بام، وماكس ستيو.. لقد كان الأمر في غاية الحزن !! فكان ستة من هؤلاء المضطهدين أعضاء في البرلمان البولندي، ومنهم عضو في مجلس الشيوخ البولندي، وواحد من البرلمان اللاتفي، واثنان من قضاة الولايات المتحدة ! ولكنهم كانوا هناك يناضلون بشجاعة من أجل حقوقهم !!
وقد أنشأ (المؤتمر اليهودي) في جنيف، وتحت ظل عصبة الأمم (مجلس حقوق الأقليات اليهودية).
وعندما انعقد (المؤتمر الصهيوني السابع عشر) (في بال بسويسرا 1931) دعا ستيفن إلى اجتماع يضم قادة اليهود، وكونت لجنة مؤقتة لتشرف على قيام (المؤتمر اليهودي العالمي). وفي الدورة السنوية العاشرة للمؤتمر اليهودي الأمريكي، أقرت القرارات التي توصلت إليها اللجنة المؤقتة، وبدأ التحضير لعقد مؤتمر في جنيف في 14 أغسطس 1932.
وتولى الدكتور ناحوم جولدمان إجراء الترتيبات الدولية اللازمة. فسافر وتجول في أنحاء أوروبا يعبئ اليهودية العالمية (لمواجهة قدرها). وفي 4 يوليو 1932 تعهدت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) بتقديم دعمها للمؤتمر العالمي القادم.
والتقى في جنيف، في 14 ـ 17 أغسطس 1932، أربعة وتسعون مندوباً من سبعة عشر بلداً. ولم يكن عرضاً مصادفة أن تستعرض اليهودية العالمية عضلاتها تحت سمع وبصر (عصبة الأمم). وقد وجه ليو موتزكن أنظار المؤتمرين إلى أهمية عصبة الأمم بالنسبة للصهيونية، وأعرب عن ذعره للامتناع المتزايد عن تطبيق المبادئ التي كتبها اليهود في معاهدات السلام بفرساي، ودعا اليهودية العالمية لحشد دعمها لهذه المبادئ ولعصبة الأمم.
وأعلن ناحوم جولدمان أن هدف المؤتمر اليهودي العالمي هو (انتزاع اليهود من جنسياتهم) وعزلهم خلف أسوار الغيتو تمام العزل. وصاح قائلاً: (إن عليه (المؤتمر) أن يضع الاسم الدائم للشعب اليهودي، وعليه إقامة تمثيل حقيقي، شرعي وجماعي لليهود، يحق له التحدث باسم الستة عشر مليون يهودي أمام شعوب وحكومات العالم، وأمام اليهود أنفسهم).
وكشف يوسف سبرنزاك عن الاستراتيجية اليهودية عندما قال: (إن فلسطين في حاجة لطائفة يهودية فعالة وقوية في المنفى، والمنفى بحاجة لمركز يهودي قوي في فلسطين).
وفي نفس الوقت، واصلت (لجنة الوفود اليهودية) ضغوطها وشغبها داخل (عصبة الأمم). وقد كانت إحدى القواعد الخبيثة لمعاهدات فرساي تسمح لرعايا أمم معينة بتجاوز حكوماتها الخاصة والتقدم مباشرة لرفع قضية إلى مجلس عصبة الأمم. وقد كان الكثير من المراكز في عصبة الأمم، كما في الأمم المتحدة بعدها، يحتلها اليهود، كرعايا للدول الأعضاء المتعددة، وهذا تناقض مع الإعلان اليهودي في أن كل اليهود ينتمون إلى أمة واحدة ـ الأمة اليهودية ‍ لذلك كان من الصعب ألا ينحاز مجلس العصبة عندما تعرض عليه إحدى المشاكل اليهودية.
وقد حدث أن تقدم للمجلس يهودي يسمى (فرانز برنهيم) من سكان سلسيا العليا بألمانيا، يشكو فقدان وظيفته لمجرد أنه يهودي. وكما كان يحدث في كل القضايا الأخرى، قام اليهود العاملون في عصبة الأمم، والزبانية اليهود في جنيف، بالإعلان عن ذلك (التمييز) في العالم كله. واستغلت قضية (برنهيم) كدعوى لإثارة اهتمام الرأي العالمي، الأمر الذي أدى إلى أن تقوم عصبة الأمم بتقصي الاضطهاد اليهودي في ألمانيا. ولم يوافق الممثل الألماني (كلر) على التقرير الذي نشر في 3 يونيو 1933، وتحدى الحق القضائي للعصبة في الفصل في مثل هذه القضية.. ولم تكن ألمانيا قد نسيت بعد خذلان اليهود لها عندما باعوا دعمهم لإنجلترا بتدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى. ولم يكن تقرير عصبة الأمم في تلك القضية مما يساعد على تهدئة عواطف الألمان ضد اليهود. ولو أن اليهودية المنظمة قد سعت متعمدة لإثارة الشعور المعادي للسامية في ألمانيا، لما استطاعت أن تختار وسيلة أفضل من تلك الحادثة.
كانت مبادئ ويلسون حول حق تقرير المصير والاستقلال السياسي، التي وضعها لعصبة الأمم، تحدث ارتباك اليهود ورجال دعاياتهم. ولكنهم لم يهاجموها علانية كي لا يعرضوا سمعة ويلسون للخطر، لأنه تبنى أفكارهم في مؤتمر السلام بفرساي. ولو أن الأمم احتفظت لنفسها بحق تقرير المصير والاستقلال السياسي، وحمت تلك الحقوق قوة موحدة للأمم كلها، لكان من المستحيل أن تسيطر أمة واحدة على كل الأمم. لذا أخذ رجال الدعاية اليهود، بهدوء يقللون من أهمية (تقرير المصير) و(الاستقلال السياسي) بحجة أن ذلك دليل على التعصب العرقي عند الأمم.
وقد أعلن (ناحوم سكولو) في مؤتمر كالزباد قائلاً: (إن فكرة عصبة يهودية، أوجدناها بعد حرب دامت خمسة وعشرين عاماً).
وفي نفس الوقت عملت حملة الدعاية اليهودية المنظمة داخل أمم العالم، واستخدامها المتواصل لمنابر عصبة الأمم في جنيف، على دفع العالم نحو حافة الهاوية. فكانت الشؤون الداخلية لسلسيا العليا بألمانيا تتعرض للهجوم سنتي 1936و1937، واحتد الصراع كثيراً عندما أعلنت تحللها من قيود (معاهدة الأقليات).
وكانت قضية العشرة آلاف يهودي في مدينة دانزغ الحرة سبباً في إثارة هياج كبير أمام عصبة الأمم، فكانت الحالة الخاصة باليهود القلائل كثير الامتعاض الدائم. وقد أدى فرض مزايا خاصة بهم إلى ظهور عداء طبيعي عند شعب (دانزغ)، الأمر الذي أثار السخط اليهودي عالمياً. وقد حدث توتر على إثر ذلك، وحاولت الحكومة تكسير قيود المعاهدة.
وكان انضمام النمسا في 11 مارس 1938 إشارة كي يتقدم المؤتمر اليهودي العالمي بتوسل لعصبة الأمم لحماية اليهود فيها، والبالغين 192 ألف نسمة. وقدمت توسلات مشابهة من وقت لآخر باسم يهود النمسا وتشيكوسلوفاكيا.
وأخيراً أصبحت بولندا ـ التي كانت تضم أكبر عدد من السكان اليهود ـ القضية الأساسية التي يهتم بها اليهود. فبدأ المؤتمر اليهودي العالمي سلسلة من المظاهرات العامة لإثارة السخط في العالم كله.
وصعد المؤتمر اليهودي العالمي نشاطه في الأشهر التالية، وضم الاشتراكيون والشيوعيون واليساريون أصواتهم لصوت اليهود. وبتدبير من المؤتمر، اجتاحت العالم المظاهرات والاجتماعات، وامتلأت الشوارع ومكاتب المسؤولين بالإعلانات والبيانات والعرائض، وعمل المؤتمر على مضاعفة القرارات والبيانات والاحتجاجات.
وكان رد فعل بولندا أن أصدرت سنة 1938 قانوناً ينص على أن أي شخص يقضي خارج بولندا خمس سنوات متوالية، يحرم من الجنسية البولندية والعودة إلى بولندا وتجمع اليهود الذين قضوا خارج بولندا أكثر من خمس سنوات، كغيرهم، في مخيم على الحدود عند (زباسين) عندما منعوا من دخول البلد. وسرعان ما تدخل المؤتمر اليهودي لدى سفيري بولندا في باريس وواشنطن، وأرسل الدكتور بيرلزويغ إلى وارسو لرفع القضية إلى الحكومة البولندية. ولكن الحرب العالمية الثانية أنهت القضية مع اجتياح القوات الألمانية حدود بولندا، قبل أن يتمكن بيرلزويغ من التحدث مع المسؤولين الحكوميين.
وقد تقدم المؤتمر العالمي لحكومات رومانيا والمجر والعراق والأرجواي وغيرها من البلدان التي يقيم فيها اليهود، لإعلام هذه الحكومات بأن المواطنين اليهود قوم لهم وضع خاص وحقوق استثنائية خاصة. ولم يحدث أن توقف صراخهم ولا هدأت طبول الحرب عندهم.
ومع نهاية سنة 1938 أصبح انهيار عصبة الأمم وشيكاً، ولم تحافظ على العضوية فيها إلا تسع وأربعون دولة من أصل الاثنتين وستين التي أنشأتها. وفي نهاية سنة 1940 توقف قلبها عن النبض تماماً. وقد فشلت تلك العصبة لأن الإنسانية لم تكن قد تقلصت عندها بعد نوازع الخير إلى الحد الحالي.. فكانت ماتزال معاني (الوطن الأم، والجنة، والله، والوطن)، ذات جذور عميقة في قلوب الناس وعقولهم. وربما احتاج الأمر إلى حرب أخرى وأخرى لمحو هذه المفاهيم والقيم (الرجعية) من صدر الكائن الإنساني.
يعتبر التيار الكاسح للنشاط المنظم للمؤتمر اليهودي العالمي ظاهرة ملحوظة في تاريخ التآمر والخداع الدولي. فبينما تغلغل نفوذ اليهود في ألمانيا والبلدان الشيوعية بوسائل بارعة وبطرق سرية، عملت اليهودية علانية عن طريق المؤتمر، على زرع عناصر يهودية في أهم المراكز ببلدان العالم. واستخدموا في ذلك حيلة حصان طروادة بالإضافة إلى القاعدة النفسية في أن الجرأة تبعد الارتياب. وبينما كان المراقبون يرصدون السماء قلقين لوجود دلائل رهيبة لحرب ربما تقع خارج حدودهم، لم يكن لديهم من الوقت ما يكفي لملاحظة النشاطات المحمومة لقطاعات صغيرة من (إخوانهم المواطنين) الساعين لإقامة قومية منفصلة. وفي الوقت الذي كانت فيه اشتراكية هتلر القومية تثير النقمة والسخط، قل من حلل وقارن ذلك بأساليب وخطوات اليهودية المنظمة.
وفي سنوات انحطاط عصبة الأمم، أصبحت هذه المنظمة تمثل خيبة أمل اليهودية المنظمة. ولابد أن يعزو قادة اليهود فشلها النهائي إلى وطنية الشعب الأمريكي (الضيقة) التي سدت الطريق أمام المشاركة فيها، وسيكون فشلها كذلك جزءاً من الخطة التي فشلت، ولكنه لن يكون فشلاً نهائياً للخطة.
ولكن، ومع مرور السنين، ستأتي أوقات عظيمة النفع.. فيتوجه من ألمانيا يهودي يعيد تنظيم الجهاز المصرفي للولايات المتحدة، لكي يطابق تماماً ويتمشى مع المؤسسات المصرفية التي يديرها ويسيطر عليها إخوانه اليهود في أوروبا. ويمارس ضغطاً لإعادة كتابة قوانين المال في البلد الذي تبناه، ثم يجلس في مركز هام على إدارة (المصرف الاحتياطي الاتحادي)، ويلجأ الشعب الجائع إلى أي عازف مزمار ينشد عنده خطة للإبقاء على حياته. وتصبح الشيوعية هي اللباس الأنيق، ويجد عملاؤها مراكز هامة ومؤثرة يجلسون فيها على أكتاف حكام العالم، ويبدأ الإعداد للحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية ‍! إنها تبدو، كما نتأملها الآن، وكأنها تملأ فجوة هامة في الصورة التي بدأت تتراءى معالمها الآن أمام أنظارنا الحائرة. أكان هذا الحريق العالمي الهائل هو النتيجة المنطقية لتصارع المصالح القومية ؟ أيوجد أي شيء هام في المرحلة الأولى من الحرب (سبتمبر 1939 إلى مايو 1940) يسمى (زيفا)، في الشهور الطويلة التي واجه فيها البريطانيون والفرنسيون الجيوش الألمانية ولم يفعلوا شيئاً ؟ لقد ظل الهدوء يسود الجبهة الغربية طيلة الخمسة والثلاثين يوماً من الحملة البولندية، ونحو ثمانين يوماً بعد ذلك. أيمكن أن يكون لذلك النشاط الغريب والسلبي من جانب القوي المعادية صلة مع تثاقل خطا الروس في بولندا وفنلندا واستونيا ولاتفيا ولثوانيا ؟ وما الدور الذي لعبته الأحزاب الشيوعية في العالم إزاء الهدوء على الجبهة الغربية ؟ وما هي القوة الغامضة التي جعلت (اللجنة الوطنية للحزب الشيوعي للولايات المتحدة) تعلن في أكتوبر 1939 بأن (هذه الحرب ليست حرباً على الفاشية، وليست حرباً لحماية الأمم الصغيرة من العدوان) وأن (الأمريكيين ليسوا قادمين..) وتعلن في يوليو 1941 (لتسقط حرب الفاشية الألمانية ضد الاتحاد السوفييتي) و(لن يتأخر مجيء الأمريكيين). هل كان لكل هذا الكلام معنى في بداية الحرب وفي منتصفها ونهايتها ؟
هذا قليل من الأسئلة الكثيرة التي لم يجب عنها أحد بشكل مرض، وربما لا يمكن الإجابة عنها بأسلوب التحري التقليدي. بل إنها من النادر أن تطرح دون أن تثير السخط والغضب. ولكن لابد للعقول المتدبرة أن تسعى للتفتيش عن الإجابات خلف الستارة الحديدية التي تدفن وراءها المعلومات والأسرار ـ وحتى في الطيات المظلمة للمكايد الديبلوماسية، حيث لا توجد ملفات للوثائق السرية.
في البداية أعلنت اليهودية المنظمة الحرب على الحكومات المركزية بأوروبا، وسعت لفرض إرادتها على شعوبها من خلال بنود المعاهدات وجهاز عصبة الأمم. وفي النهاية حولت حربها إلى حرب عالمية ثانية وورطت نفسها في لهيبها معظم بلدان العالم.. وفي نهاية المطاف لا يتذكر إلا القليل من الناس لِمَ كانت الحرب وكيف بدأت . وليس هناك من يتأكد ممن قاد المظاهرات ووقع البيانات ورفع الاحتجاجات وأصدر القرارات ! وكان أن زحف الرجال ومات ثلاثون مليوناً منهم، وخاضت الشعوب معارك طويلة، وكانت التضحيات والدموع والدماء والعرق ! ولكن، عندما انتهى ذلك كله، لم تعد شعوب العالم تتذكر الكثير عن ذلك.
ربما يدرك البعض أن أحداً لم يحقق نصراً فعلياً وأن السلام الموعود أمر وهمي، كما كانت وهمية صيحة (الحرب لإنهاء الحرب) والكفاح (لجعل العالم مكاناً آمناً للديمقراطية ).
(1) ـ في سنتي 1918 و1919 تم إنشاء وزارات للشؤون اليهودية في لثوانيا وأكرانيا، وفي صيف 1917 انعقد مؤتمر تمهيدي لتكوين (مؤتمر يهودي روسي) في بتروغراد، ونظم برنامجاً (للاستقلال الثقافي القومي الذاتي في روسيا، وضمان حقوق مدنية وقومية لليهود في فلسطين وبولندا ورومانيا). وتم إنشاء (المجلس القومي اليهودي الروسي) في بتروغراد في يوليو 1918. والتقى وفد من 125 يهودي أوكراني في (المجلس القومي الإقليمي) في كييف بروسيا في أواخر 1918، وطالب المجلس، برئاسة يوسيخين، أن يعيد (مؤتمر السلام) ما يسمى (تشريع حقوق الأقلية) في أوكرانيا، الذي ينظم اليهود كأمة ذات سيادة كاملة. وفي ديسمبر 1918 اجتمع في وارسو 4980 مبعوثاً يهودياً للدعوة لحقوق الأقليات. وتم تأسيس (المجلس القومي اليهودي المؤقت) من 42 عضواً، وذلك لضمان (الحقوق اليهودية) في مؤتمر السلام المقبل. وفي سنة 1918 تكون في فينا (المجلس القومي اليهودي)، ومثله في براغ سنة 1918 أيضاً، وآخر في بوكوفيا ورابع في لثواينا.

(2) ـ ولد الدكتور ستيفن وايز في بودابست بالمجر سنة 1847، وكان مؤسس وحبر (الكنيس الحر في مدينة نيويورك). وقد نظم أول فرع من اتحاد الصهيونيين، والمنظمة الصهيونية بأمريكا، وكان عضواً في عدة منظمات ومكاتب تعمل لصالح اليهود، في الولايات المتحدة، وعلى نطاق عالمي.

يتبع


الساعة الآن 05:26 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى