منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   حوار القرآن والشّعر في "نون" أديب كمال الدين- القسم الأول (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=18453)

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:47 PM

حوار القرآن والشّعر في "نون" أديب كمال الدين- القسم الأول
 
د. حياة الخياري

http://www.adabfan.com/thumbnail.php...article_medium




القسم الأول
" جسدي خِرْقةٌ تُخاطُ إلى الأرض،
فيَا خائط الخلائق خِطْنِـي.."
(أبو العلاء المعرّي)

* مقدّمة :
يحتاج الخوض في نون الأنبياء تأصيلا نظريّا يقتضي عودة إلى كتب التفسير ومصنّفات اللّغة، حيث أمكن لعلماء تفسير القرآن تشقيق هيئة الفُلْك والحوت وكلّ ماله صلة بالبطون من نون فاتحة سورة القلم: ﴿ن. والقلمِ وما يسطرون.﴾ وقد انعكست الإيحاءات البصريّة لشكل الحرف على تناولهم اللّغويّ للآية، فذهب بعضهم إلى كونها رمزا علاميّا مدلولاته أسماء مبطّنة في بعض الآيات القرآنيّة. وفي هذا السّياق نقل ابن منظور نموذجا من الجدل الدائر بين اللّغويين في معرض شرحه لمادة (نون)، قال: "قال النحويّون: "..جاء في التفسير أنّ "ن": الحوت الذي دُحِيت عليه سبع الأرضين، وجاء في التفسير أنّ (ن) الدواة، ولم يجئ في التفسير كما فسّرت حروف الهجاء [...] قال الأزهري: "ن. والقلم" لا يجوز فيه غير الهجاء، ألا ترى أن كتّاب المصحف كتبوه (ن)؟ ولو أريد به الدّواة أو الحوت لكتب (نون) (1)
من الجليّ أنّ اللّغويين، شأنهم شأن المفسّرين، قادهم نظرهم إلى الرّبط بين سيمياء شكل حرف النون وسيماء الأسماء الدائرة في فلكه القرآنيّ، وأهمّها اسم النّبي يونس الذي التقمه الحوت فكنّى عنه الله بذي النون، وقد ورد ذكر قصّته في مواضع مختلفة من القرآن نستحضر منها قوله تعالى: ﴿وذا النّون إذْ ذَهبَ مُغاضِبا فظنَّ أنْ لنْ نَقدِرَ عليْهِ فنادَى في الظّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سبحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ. فاستجبْنا له ونجّيناهُ مِنَ الغمِّ وكذلك نُنَجِّي المؤمِنينَ.﴾ (سورة الأنبياء ، الآية 88). أمّا نون فلك نوح فتشترك مع نون حوت يونس في كونها مصدر غمّ وكرْبٍ، فتتشابه معاناة الأنبياء رغم اختلاف الآيات والسّور، إذ الاستغاثة بالله هي المنجّي الأوحد من كلّ ضيم. يقول تعالى أيضا: ﴿ونوحا إذ نادى مِنْ قَبْلُ فاستَجَبنا له فنجّيناه وأَهْلَه مِنَ الكَرْبِ العظيمِ.﴾ (سورة الأنبياء ، الآية 76)
غير أنّ ما يعنينا في دراستنا الأدبيّة، ذاك التّقاطع بين انحسار حركة الأنبياء داخل النون وحضور البحر رمزا شعريّا إلى ركوب مسيرة التّيه المقدّرة جبريّا من اللّه حينما يقرّر اختبار مدى إيمان الأنبياء وصبرهم، ولكن عبر التّلاعب بمصائرهم قاب قوسي البرّ والبحر وقاب قوسي النّجاة والغرق. وحول هذه الدّلالة دارت مجمل القصائد الحروفيّة التي اتّخذت نون الأنبياء معبرا لطرح أسئلة الشّعر في عمقها الوجوديّ الحافّ بالزّمن الخارقيّ الذي تحرّك فيه الأنبياء المحوَّطين بنوناتهم(2).


المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:48 PM

لقد كشف اختلاف الإيحاءات التي أثارها حرف النّون لدى المفسّرين عمّا يتيحه الحرف من تعدّدية المعنى(Polysémie)، وهنا بالذّات يتوقّف التوصيف ليبدأ التوظيف، وتنتهي مهمّة كلّ من اللغويّ والمفسّر من حيث تبدأ مهمّة المبدع. لقد تقاطع اسم الحرف القرآنيّ مع مسمّيات شتّى، أبعدها عن المقصد الرّمزيّ حرف التهجّي، أمّا أقربها إليه فالإحالة على كلّ ما له صلة بالمعنى المجازيّ للبطون: بطن الدّواة ، وبطن الحُوت، وبطن الفُلك، وبطن الرّحم.
موظِّفا "نون الاسم" لا "ن" التهجّي، يستلهم الشاعر المعاصر تجربة "ذي النّون" مع الحوت- الملاذ، وتجربة نوح مع الفُلْك - المتاهة، وتجربة عيسى مع الرّحم - الهويّة، وتجربة يوسف مع الأنثى- الغواية.
ولا تقلّ المغانم الفنيّة من انفتاح النصّ الأدبيّ على النصّ القرآنيّ عن فوائده المضمونيّة، فقد مثّل السّرد رافدا فنّيا لقصيدة الشّعر المنثور الذي اختار أن يستعيض عن مقوّم الوزن بانسيابيّة السّرد الحكائي الذي يوفّره القَصص القرآنيّ، وقد اعتبره القدامى تجلّيا من تجلّيات الإعجاز اللّغوي، فإيّاه قصد الباقلاّني بقوله: "فإنْ كنتَ مِن أهل الصّنعة فاعمد إلى قصّة من هذه القصص وحديث من هذه الأحاديث، فعبّرْ عنه بعبارة من جهتك وأخبر عنه بألفاظ من عندك حتّى ترى فيما جئتَ به، النقصَ الظاهر وتتبيّن في نظم القرآن الدّليل الباهر... ولذلك أعاد [الله] قصّة موسى في سور وعلى طرق شتّى وفواصل مختلفة مع اتّفاق المعنى."(3)
وليس موقف فقهاء اللغة سوى استجابة لما دعا إليه القرآن من عناية بالإعجاز اللغويّ الكامن في فنّ القصّ الذي أحاط بسير الأنبياء وألمح إليه قوله: ﴿ورسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عليكَ مِن قَبْل ورُسُلاً لمْ نَقْصُصْهُمْ عليْكَ.﴾( سورة النّساء ، الآية 164)، علاوة على أنّ القرآن قد سمّى القَصَص سورة باسمه "سورة القَصَص".

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:48 PM

من المنظور الفنّي ذاته أدرك الشّعراء الحروفيّون ما يتيحه القصص القرآنيّ من تعدّد دلاليّ كفيل بتكثيف البعد الرّمزيّ لا لسير الأنبياء فحسب، بل لما حفّ بها من وسائل ترحّل في فضائهم الخارقيّ وفضائهم اللّغويّ الحاضن.
تلك زاوية من زوايا التقاط مختلفة تطلّع من خلالها الشّعراء إلى سيمياء فلك الأنبياء فكانت نون الفلْك والحوت والرّحم خير حاضن لرؤاهم الوجوديّة والإنشائيّة الشّعريّة. ولم يكن الشّعر ليحتفي بها لولا يقينه من كونها تمثّل مدادا لنون أخرى كانت لها الحظوة الأوفر عند اللغويين والمفسّرين هي نون الدّواة التي مثّلت مجمع النّونات ومختصرهنّ.
إنّها محفّزات ترميزيّة جمّة تجمع بين الدّلاليّ والفنّي تغري الشّاعر بالإبحار في حبر النون وبحرها وتبشّره بالتربّع على عرش من مياه مالحة.
حينئذ لا بأس في أن يركب الشّاعر مسيرة الحرف المحفوفة بالأعاصير، متّخذا النبوّة شعارا والمعجزة شراعا والنون عنوانا للّضياع. لكن من المعلوم أن لا رحلة من دون زاد، ولئن كان أوّل زاد الأنبياء إيمانا بالله، فإنّ الشاعر مطالب بأن يضيف إليه أيضا إيمانا بالآية وبالحرف القرآني المشرّع لخوض غمار الإبحار. فلا غرابة والحال أن يختار أديب كمال الدين الإهداء التّالي تصديرا لديوان سمّاه "نون":
بسم الله الرحمن الرحيم
" ن. والقلم وما يسطرون ."
صدق الله العظيم

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:49 PM

الإهداء
إلى نقطتي وهلالي ..
بمناسبة استمراري حيّا حتى الآن."(4)
يقرن أديب كمال الدين بين المُهدَى إليه أي النون التي كنّى عنها بالنّقطة والهلال، ومناسبة الإهداء أي استمراره على قيد الحياة، لكأنّ الفضل راجع إلى الحرف المبارك بالسورة القرآنيّة وبما حفّ به من أنبياء، لذلك فإنّ الجلوس إلى حرف التيه النبويّ يقتضي بداية كفاءة حاضرة لدى الشاعر بالقوّة ألا وهي الإيمان بالأنبياء وبمعجزاتهم، وأخرى حاضرة بالفعل هي ما نعت به قرآنُ الشّاعرَ من جنون، وقد أشار إليهما أديب كمال الدين في قصيدة "خطاب الألف":
"وإلى الآن فلاَ ملاَذَ لي سِوى الحُرُوف
وإلى أنْ أجِدَ ملاذًا آخر
فإنّنِي أَجْلسُ أمامها
كما يَجلِس المَجانينُ أمام الأنبياء".(5)
توحي هيئة جلوس الشّاعر أمام النبيّ بهيئة جلوس المريد أمام وليّه وشيخه وتكشف عن حال الترقّب والتأهّب لتلقّي المعجزة، وهي عند شعرائنا مختصرة في حرف يستنطق لغة القصيدة مثلما استنطقت سين سليمان الهدهد، وقد استحضره الشّاعر ليترجم وجه الاحتياج إلى نبوّة الحرف في قصيدة "خطاب الألف":
" أرسلتُ لكِ سِين سُليْمان
حتّى تنْشَرحَ نونُكِ وتكْتملَ".(6)
في المقطع الشّعري إحالة على معجزة النبيّ سليمان التي تجلّت في قوله تعالى: ﴿ولِسُليمانَ الرّيحَ عاصِفَةً تجري بأمرِهِ إلى الأرْضِ التي باركْنا فيها.﴾ (سورة الأنبياء ،الآية 81) ، وهي من المواطن الشّعريّة التي تبيّن بعض أوجه التناصّ مع الخطاب القرآنيّ المتزامن عادة مع حال الضّيم التي عاناها الرّسل أثناء تبليغهم الرّسالة، نستحضر منها الآيات التالية في سياقين مختلفين ورد فيهما ذكر الشّرح، الأولى من سورة الشّرح التي خوطِِب بها محمّد، وهي قوله: ﴿ألمْ نشرحْ لكَ صَدْركَ، الذي أنقضَ ظهْرَكَ، ورَفعْنا لكَ ذِكْرَكَ.﴾ (سورة الشّرح ، الآيات 1-2-3-4)، والثانية من سورة طه التي خوطب بها موسى إذ قال: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْري، ويَسِّرْ لِي أمْري، واحْلُلْ عُقْدةً مِنْ لساني، يَفْقَهُوا قَوْلِي.﴾(سورة طه ، الآيات 25-26-27-28.)
إنّ أهمّ ما يعنينا في السّياقين ما يُلاحظ من تزامن وتواشج في كلّ مرّة بين انقباض صدر النّبي وانحسار فعاليّة اللغة يوازيه تقابل بين انشراح صدر النّبيّ واستعادة اللغة لفعاليّتها بقدرة إلهيّة حقّقت أريحيّة لنبوّة محمّد بأن "شرحت صدره ورفعتْ ذكره." كما عضدت نبوّة موسى في مواجهته لفرعون وقومه بأن "شرحت صدره ويسّرتْ أمره وحلّت عقدة لسانه." وفي السّياقين تُعلَّق المعجزة الرّبانيّة بالكلمة وهي المتوقّفة على الذِّكر عند محمّد، المشروطة بالإبلاغ والإفهام عند موسى.

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:50 PM

وإذ يستحضر الشّاعر السّياق القرآنيّ المزامن لمعجزات الأنبياء المرتهَنة بالقول، فإنّما ليعبّر عن شعور متضخّم بمدى جموح اللّغة وسطوة الحرف.
من ثمّ عُدّ الاستئناس بسير الأنبياء استئناسا بقبس سماويّ مرشد لوميض معرفة نبويّة كثيرا ما يلمع إليها النّص القرآنيّ، ومنها قوله تعالى: ﴿هل أتاك حديثُ موسى إذ رأى نارا فقال لأهلهِ امكثوا إنّي آنستُ نارا لَعَلِّي آتيكم منها بقبس أوأجِدُ على النّار هُدًى.﴾ (سورة طه، الآيتان 9- 10)
من هذا القبس النورانيّ يستمدّ الشّاعر معرفته الملتبسة لنون منسربة من بحار الأنبياء كشفت عنها تجربة نوح مع نون الفلْك- المتاهة وتجربة يونس مع نون الحوت- الملاذ.
1- نون نوح و نون يونس: مياه الفُلْك والحوت: ملاذ أم متاهة ؟
يخفي جنوح الشّعراء نحو نون الأنبياء رغبة في كسر رتابة الزّمن المعياريّ باقتحام زمن خارقيّ، وتوقا إلى التّيه في بحر اللّغة والتبعثر بين مفاصل الحروف المتحرّرة من الضّوابط "الأينيّة" و"الكيفيّة" و"الكمّيّة"، تردّنا إلى المعرفة الصّوفيّة النّاهلة من الرّؤى الفيضيّة الإشراقيّة، وأبرز تجلّياتها فيض نقطة الرّوح على دائرة الكون، وهي جهة التّموضع التي ينتقيها الصّوفيّ كلّما طُرحت رمزيّة البحر، ويشرحها جلال الدين الرّومي في "المثنوي" بقوله: "والعارفون بالأرواح فارغون مِن الأعداد، وهم غارقون في البحر الذي لا كيفيّة له ولا مقدار.
فصِرْ روحا، وعن طريق الرّوح اعرِفْ الحبيب، وكُنْ رفيقا للرّؤية لا ابنا للقياس."(7)

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:50 PM

هذه المعرفة النورانيّة الباطنيّة هي بالضّرورة ملتبسة على ذوي الأعداد والمقادير من أصحاب نون الوجود الظّاهر، وفي السّياق المعرفيّ ذاته تتنزّل قصيدة "التباس نونيّ" لأديب كمال الدين:
"هذه ليستِ النّون
هذه بداية مقدّسَة للنّون.
هذا سُطوعٌ رُوحيٌّ
وحبٌّ جارفٌ كالشَّلاّل
كاحتواءِ الهلالِ لنقطةِ النّون...
هذا منفًى بهِيج
وأناس متجَهّمُون
وبواخِر تَغْرَقُ
ومُنْشدُون يَصْدَحُون
وموسِيقى تَهِبط وَسَطَ رفِيفِ المَلائكَةِ
حوْلَ تِمْثالٍ شمْعِيٍّ كبِير لشاعرِ النّونِ...
هذه قصيدةٌ غريبةٌ
تُشْبِهُ جزيرةً تَغرقُ في البحر:
بحْرِ ذي النّون.
هذه هي النُّقطة
أعني هذا هُو الهلال:
هلالُ البحرِ وهلالُ السّماء
هذه هي النّون! (8)
إ وردت القصيدة على شكل "بيان شعريّ حروفيّ" يوضّح ما قد يشوب نون الفلْك والحوت من لبس. وبتعدّد أسماء الإشارة والأسماء المشار إليها" القصيدة، النقطة، الهلال، النون"، يقصي الشّاعر النون المعياريّة "هذه ليست النون" فينهي مسيرة نون الفَلَك الطبيعيّ المتعارف، ليبدأ مسيرة نون الفُلْك بسطوعها الرّوحيّ: "هذه بداية مقدّسة للنّون". بهذا البيان يضع الشّاعر آليّاته الترميزيّة الفنّية جنبا إلى جنب مع آليّاته المعرفيّة الصوفيّة، ليلمّح إلى الانزياح (écart) عن نونات أخرى لازمت الشّاعر وقرّر أخيرا أن يدعها على "الشّاطئ"، ليستعيض عنها بـ"نون الأنوار" الغارقة في بحر "ذي النّون" حيث يدخل الشّاعر في طقس مكاشفة الذّات بعبور معاريج نقطة النّون، وهو ما يبرّر احتلال كلّ من الشاعر والقصيدة مركز المدار في

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:51 PM

بنية التّراكيب الإشاريّة في قصيدة "التباس نونيّ":
"هذه قصيدة غريبة
تشبه جزيرةً تغرقُ في البحر:
بحرِ ذي النّون."
تستمدّ القصيدة أهمّيتها لا من مضمون الضّياع بل من مكان الضّياع وزمانه، فهي غارقة في نقطة اللاّ أين واللاّ متى "هلال البحر وهلال السّماء". إنّ غرق القصيدة في البحر الذي "لا كيفيّة له ولا مقدار"، يهيئها للغرق في بحر من الأسئلة. ذلك أنّ ضياع القصيدة في واقع الحال يمثّل دليلا للّشاعر، فبغرقها في بحر الأنبياء تكون قد صعدت إلى سطح أيّامه بعد طول انتظار، لذلك يبدو أديب كمال الدين متعطّشا لأن يحمّلها وزر السّؤال في قصيدة "قاف":
" أين كنتِ كلَّ هذِه السّنين ؟
لماذا صعَدْتِ الآن إلى سَطح أيّامي
بعد أن كان الغموضُ يأكُلكِ
كما يأكل سمكُ القرْش السّمكَ الصّغير؟
هذه أسئلة وضعتـُها أمام النّونِ
فرأيتُ الألِفَ يُلقِي بنفسه في البحْر
بهُدوء.(9)
إنّ منطقة التّموضع الأولى التي اتخذها الشّاعر منطلقا لخوض مغامرته توحي بالاندفاع باتّجاه رحلة الأنبياء الموعودة أصلا بشرطها المؤسّس أي الإبحار بداية في نون الضّياع والشّقاء أملا في نقطة معجزة يدرك الشّاعر تمام الإدراك أنّ دونها مكابدة والتباس وتلبّس باللاّأين واللاّمتى. لذلك اعتبر ارتماء الألف في البحر أوّل ترجمة عمليّة للرّغبة في اقتناص المعرفة، بها يتجاوز حيّز الكفاءة(compétence) ويقتحم فضاء الإنجاز(performance)، فتتحوّل بحار "ذوي النونات" من وجود بالقوّة إلى وجود بالفعل.
من الواضح أنّ نون الحوت تشترك مع نون الفُلْك في احتكارها فضاء التجلّي بما هو حيّز الإجابة عن الأسئلة، وتبعا لذلك يتحوّل الخطاب الشعريّ من السّرد الذي اكتنف عمليّة الإبحار إلى المناجاة التي تستبطن شحنا عاطفيّا مكثّفا يعبّر عن مدى كفاءة ألف الذّات في تحمّل وزر الانحسار داخل بطن النّون في سبيل اقتناص المعرفة.

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:52 PM

" من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّك
فأنا أحبكِ
كما أحَبّ نوح سفينتَه الغامضة .
*
من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّك
لأني أحبّك
كما أحبَّ إبراهيم الخليل النارَ التي أُلْقِيَ فيها .
*
من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ
لأنّي أحبك
كلّما اشتعلَ الرأسُ شيبا .
*
من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ
لأنّي أحبّكِ
كما يحبّ الألفُ تفرّده
والنّونُ نقطته.
من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ
رغم أنّ مواعيدكِ البخيلة قد تحوّلتْ
إلى أسطورة هدّدتْ سريري بالطُّوفان.
*
من العجيب أن أحبّكِ كما أحبّكِ
لأنّي أحبّكِ
كما يحبّ الولِيّ طريقًا
يَعْرف أنّ هلاكَه سيكُون في خاتِمته."(10)

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:54 PM

تتميّز المقاطع الشعريّة بتعاضد واضح بين تراكيب التّشبيه حيث يتمّ تبئير وجه الشّبه، والتراكيب التلازميّة التي تعكس الوعي بخطورة المغامرة الموعودة بالتّيه فالغرق. إنّها أشبه بعمليّة انتحار طوعيّ يقدم عليها الشّاعر مقابل تنسّم بصيص نور إلهيّ احتكره الرّسل بسياحتهم في سماء الله وسباحتهم في بحره. وهو ما يبرّر حرصه على خلق ضرب من التّماهي بين ثلاثيّ الإيمان والمحبّة والحكمة، يعضده تواشج بين منظومات رمزيّة مختلفة تحتضنها مساحة التجلّي وتدور جميعها حول ثنائيّة الألف والنّون أواللاّئذ والملاذ، ومنها تتداعى جملة من الومضات التخييليّة المصوّرة لهيئة تماهي الألف مع بطن النّون، بدءا بألف نوح ونون السفينة، مرورا بألف يونس ونون الحوت، وانتهاء بألف العارف ونون الحكمة، أو ألف الشاعر ونون الدّواة / اللّغة.
هذا الزّخم التخييليّ قد يصيب بحر القصيدة بضرب من الإعصار يوازيه دوار في نون النّفس يؤول إلى غرق نقطتها في القلب، وأعمق حروفه حرف القاف الذي اختاره الشّاعر عنوانا لقصيدة "قاف":
"الشّراعُ وسط السّفينة.
السفينةُ وسط البحر.
البحرُ وسط قلبي،
قلبي الذي يغرقُ شيئاً فشيئاً
في حُلمه الهادئ العنِيف."(11)
يحتفي الشاعر بطقس الغرق في غور البطون حتّى لكأنّ إيقاع التدوير السريع اللاّهث يضع القارئ في عمق طوفان المحبّة على أمل أن تفي نقطة الشّمس بوعدها لحبيبها الحرف/ البحر، وهي المكافأة التي وشّت الصّورة الشعريّة باللّون الأحمر في قصيدة "غروب النّقطة" :

المفتش كرمبو 15 - 9 - 2011 02:55 PM

" أنا النقطة
أنا الشّمسُ المكتملة
وأنتَ البحر اللاّنهائيّ.
أيّها الحرف ،
أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً
حتى أختفي تماماً
لتصبحَ أحمرَ بدمي،
بمحبّتي،
بطيورِ طفولتي."(12)
يمثّل هبوط نقطة الشّمس في بطن الحرف بداية الوقف الزّمني الذي يقابله في سير الأنبياء انشقاق فلك نوح أوالتقام الحوت ليونس، وبه تبدأ رحلة التّيه بقرار طوعيّ من الشّاعر.
وإذا كان البحر قد عكس مسافة الإبحار، فإنّ توحّد حرف الشاعر بنقطة النّون يعتبر معالجة لتلك المسافة، إنّ ذوق ملوحة مياه البحر والرّحم ما هو سوى تجسيد لطقس "الحرق" بمفهومه الصّوفيّ، أمّا لغويّا فهو سباحة مع النّفزي في "موقف ما لا ينقال"، عايشه الشاعر عبر التماهي مع بحر الحرف وحبره، وقد بلغ أقصى درجات الحميميّة في التّزامن بين حاليْ الحرق والغرق في قصيدة "محاولة في سؤال النّقطة":
" حاصرني الشتاءُ مجدّدا بأكاذيبه وزخّاتِه
فحاولتُ أن أحاصره بحروفي
ولكنّي احترقتُ وغرقتُ."(13)


الساعة الآن 08:25 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى