منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   فضاء السجن في روايات عبد الرحمن منيف (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=7036)

أرب جمـال 26 - 5 - 2010 01:48 AM

فضاء السجن في روايات عبد الرحمن منيف
 
عندما تم اكتشاف النفط، ظهرت الحاجة إلى مدن كبيرة، فقامت مدن لا إنسانية، من حيث حجومها، ومن حيث طبيعة بنائها، ونوع العلاقات السائدة بين السكان المقيمين فيها. لم تقم المدن تلبية لمتطلبات الحياة ولدواعي الاستمرار، بل تلبية لحاجة الصناعة النفطية، أي لخدمة مرحلة مؤقتة، فالمدن كما هو معروف نتاج تراكم حضاري، ولد قيماً وأفكاراً وطرائق في التعامل مع الطبيعة، بما في ذلك نمط البناء وفن العمارة وحجم المدن وعلاقتها بالمدن الأخرى.‏
وكان من نتائج ذلك الوضع بروز ظاهرة خطيرة، هي ظاهرة القمع بعد أن انقسم المجتمع إلى أغنياء وفقراء، ساد الغلاء وعم الفقر والظلم، ثم جاء الجوع. كان بإمكان النفط أن يكون عامل بناء وتطور ولو تم التعامل معه بطريقة صحيحة، إلا أن الطريقة التي تم التعامل بها مع هذه المادة، حولها من مادة محايدة إلى مادة سلبية ومعوقة، وإلى أداة للاضطهاد والقمع، فبرزت تشوهات عميقة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية، أدت إلى هيمنة العوامل والصيغ المختلفة، ومن أبرز التشوهات التي رافقت الحقبة النفطية اتساع ظاهرة القمع وتطور أساليبه، وامتداده إلى جميع مناحي الحياة.‏
لقد كان من أبرز تجليات القمع تغييب الآخر مادياً أو معنوياً، من خلال الاغتيال أو تكميم فمه، وأيضاً من خلال حصاره مادياً ونفسياً، بسجنه وقطع موارد رزقه. وبما أن السجن هو أبرز معلم من المعالم الدالة على وجود ظاهرة القمع، فقد تناول عبد الرحمن منيف ظاهرة السجن ـ المنتشرة في الوطن العربي بشكل أخطبوطي ـ في العديد من رواياته منها رواية "شرق المتوسط"، ورواية "الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"، بالإضافة إلى روايات أخرى تبرز الأثر النفسي الحاد الذي خلفه السجن في الإنسان، جعله غير قادر على تجاوز عطبه، فكان السجن عار الشرق.‏
ينتشر فضاء السجن في رواية "شرق المتوسط" بشكل أخطبوطي ويستغرق جميع الأمكنة، ويقدم الكاتب صورة درامية لمنطقة الشرق المتميزة بكثرة سجونها وامتدادها عبر شواطئ شرق المتوسط إلى أعماق الصحراء.‏
ويعد فضاء السجن أبرز الأمكنة حضوراً في نصوص عبد الرحمن منيف الحكائية، إذ لا يكاد يخلو نص واحد من الإشارة إليه، وهذا يدل على وضع غير طبيعي يعيشه المجتمع، حالة من الرعب والخوف بسبب اختلال العلاقة بين الحاكم والمواطن.‏
تشير الرواية منذ البداية إلى أنه شرق المتوسط، وتحاول كشف معالم هذا الفضاء ومميزاته من خلال معاناة شخصية "رجب اسماعيل" المسجون بسبب أفكاره السياسية. وما يميز منطقة شرق المتوسط هو السجون الكثيرة المنتشرة انتشار الوباء، ويحضر الفضاء ـ السجن ـ في الرواية من خلال تداعيات رجب اسماعيل وهو يرحل على ظهر الباخرة أشيلوس إلى باريس طلباً للعلاج.‏
يتراءى لرجب اسماعيل ـ وهو يسافر على ظهر أشيلوس ـ ذلك الفضاء اللعين وتلك الأيام الحزينة، وأحياناً تظهر له الباخرة وكأنها هو في سلبيته وسقوطه وفقدانه لحريته.‏
وينفتح باب السجن على مصراعيه، فيرتد رجب اسماعيل إلى تلك الدهاليز اللعينة "أتذكر أني رأيت الباب يفتح ثم رأيت بقعة الدم التي غطت مساحة واسعة من أرض القبو، لا أعرف كيف نزلت الدرجات العشر، حصل ذلك في لمح البصر، ضربني حاتم على وجهي بظهر يده، وفي اللحظة الثانية أحسست رجلاً تضربني على ظهري..."(1).‏
يصور رجب اسماعيل عالم السجن السفلي الذي يتميز بالضيق والرائحة الكريهة وبالظلام، ويقترن القبو دوماً بالموت والضعف والتلاشي والضيق: "كان القبو صغيراً لدرجة أن ثلاثة أشخاص لا يمكن أن يناموا فيه، أما الجدران والسقف فقد كانت متقاربة لزجة، النافذة الصغيرة التي تشبه ثقباً كانت تستقبل ضوءاً باهتاً...".(2).‏
يبدأ التعذيب في هذا العالم السفلي، ويستخدم الجلاد شتى أنواع التعذيب: "أوقعني خرطوم الماء المندفع من أعلى، وخلال فترة قصيرة كنت أعوم في بركة من المياه، وذهبت كلماتي التي حاولت أن تكون قاسية في جوف المياه المتدفقة، حتى إذا تعبت قال: "هذه المرة ماء، إذا سمعت صوتك مرة أخرى أغرقتك في البول"(3). كما يلجأ الجلاد إلى منع السجين من النوم حتى لا يسترجع قواه، ويصبح قابلاً للسقوط والاعتراف.‏
وإذا كانت فكرة الموت قد طغت على رجب اسماعيل في الأيام الأولى، فإن قوة إرادته وحرص أمه على عدم سقوطه، قوى في داخله إرادة الصمود، فبدأ يتأقلم مع السجن، خاصة عندما سيطر على خوفه، وتسلح بالشجاعة والتحدي، كان سلاحه جسده ثم صمته. وهكذا، بدأ رجب اسماعيل يتجاوز حدود الضعف ليكتسب الصلابة والقوة.‏
وتتداخل صورة السجن مع صورة أشيلوس تداخلاً عجيباً، ويرى رجب في الباخرة صورته، فيحذرها من العودة إلى الشاطئ الشرقي: "احذري يا أشيلوس، إن عدت يوماً للشاطئ الشرقي، سيجدون لك سرداباً أصغر من القبو، وهناك يجب أن تقاومي الجنون والوحدة، لقد جنت المخلوقات هناك...".(4).‏
كان الحلم الذي نام طويلاً مع رجب وهو في السجن أن يسافر إلى الخارج بحثاً عن الخلاص والحرية، ولكن هذا الحلم بدأ يتلاشى مثل الضباب وهو يطأ أرض باريس، فلم يستطع أن يتحرر من سجنه، وأسقط ثانية معاناته على مدينة باريس، فغدت بدورها سجناً، وتراءى له العالم بأكمله ليس أكثر من سجن كبير، فكان يتعجب من الناس الذين يضحكون ويغنون ويستغلون متاع الدنيا، ويتراءى له من باريس فضاء السجن في شرق المتوسط، فيتساءل: "هل يعرف هؤلاء الناس معنى أن يكون الإنسان سجيناً، ليس سجيناً فقط، وإنما سجين في تلك السراديب المظلمة الباردة المليئة بالحشرات، وفي فترات الراحة، يتلقى الصفعات ويجلد مثلما تجلد الثيران النابية".(5). وهكذا، ينتقل بطل الشرق المتوسط بسجنه وهزيمته إلى مكان آخر.‏
أصبح السجن بالنسبة إلى رجب حالة لا تغادره، مثل العلامة الفارقة، أصبح يجري في دمه مثل الروماتيزم. وفي باريس، تحول رجب اسماعيل إلى جيفة ساقطة لا تستحق الحياة، فباريس لم تخلق له، وهو لا يستحق أن يعيش هناك، لقد وصل إلى نهاية الطريق، وأحس أن الخلاص قد استحال إلى وهم، وبالرغم من ذلك عاد إلى الوطن ـ السجن، اقتناعاً منه أن الهروب لا ينفع، وأن النضال يجب أن يعم أكثر وينتشر ولو كان الثمن التصفية الجسدية.‏
سافر رجب من أجل الكلمة، ركب البحر الصاخب في الشتاء الحزين، سافر من أجل أن يقول الكلمات التي حلم بها طوال خمس سنين، ولكن وبعد أن حبس نفسه طول الليل والنهار في الغرفة المستطيلة الكئيبة في فندق الألزاس، وبعد أن جرب الانتحار، وجد أن الكلمات التي دوت في رأسه أيام السجن كأنها الحراب، وجدها تتحول إلى أصداف فارغة لا تعني شيئاً، فقرر أن يعود ويغسل عار السقوط، وأشيلوس التي أنقذته من حصار السجن ـ الوطن ـ لم تنقذه من سجنه، وهاهي الآن تعود إلى وطنه ليغسل العار قبل أن ينتهي، إنها تطهره وتعيده إلى نفسه، إلى قضيته "إذا أعود.. في الحادية عشر تقلع الباخرة؟... أشيلوس مرة أخرى، الصدفة؟ الرغبة المبهمة؟... الشعور بالألفة الحادقة، شيء ما يدفعني لأن أؤجل السفر خمسة أيام من أجل أن أعود إلى أشيلوس، لن أشتمها، لن أقول عنها يا أشيلوس الزانية.... فعلى ظهرها لم يمت أحد".(6).‏
ونصل في نهاية دراستنا للفضاء في الرواية إلى القول إن الأماكن الأساسية في الرواية تكاد تفقد مكانيتها أي مواقعها المادية لتصبح قيماً ودلالات. فهناك السجن حيث القمع والتعذيب، وهناك البيت حيث فقد رجب الأم والخطيبة، وحيث الموقع العائلي الذي يسوده القلق وفقدان الأمن والتهديد الدائم بخطر الاعتداء والاعتقال، وهناك السفينة أشيلوس وهي سفينة الحرية، وهناك فرنسا بلد الحرية والديمقراطية. وبين هذه الأماكن رحلة ورحلة مضادة وإن كادتا تتلاقيان في دلالة واحدة، فهي رحلة من السجن إلى البيت إلى السفينة إلى فرنسا وهي رحلة الحرية، ثم هي رحلة من فرنسا إلى البيت إلى السجن والتعذيب فالموت ولكنها رحلة حرية كذلك بمعنى من المعاني؛ لأنها رحلة تحرر وتطهر من الإحساس بخطيئة الاعتراف والسقوط.‏
ويتجذر السجن كفضاء مركزي أكثر في الشرق، الذي يتحول إلى مقبرة ملأى بالضحايا وبقايا البشر، فالشرقيون فيه "جراء تعوي في السراديب أو تموت في المزابل"(7).‏
وبعد مضي عشرين سنة على رواية شرق المتوسط، التي تصور عار الشرق، ممثلاً في كثرة السجون، يعود "منيف" مجدداً في رواية "الآن ... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" إلى الإبحار في دهاليز السجون العربية، وتصوير ما يلاقيه السجين من شتى أنواع التعذيب داخل الأقبية والسراديب، يعود مجدداً إلى معالجة الموضوع نفسه في رواية ثانية تحمل تقريباً العنوان نفسه، مع فارق في الزمن. لقد تصدى لظاهرة السجن باعتبارها أبرز الظواهر التي تدل على وجود القمع وتعدد أساليبه.‏
برر عبد الرحمن منيف العودة ثانية إلى موضوع السجن لاعتقاده أن حجم القمع الذي نعاني منه الآن لا يقاس بما كان سابقاً، فقد زاد القمع واتسع إلى درجة لا تصدق، ولا يقتصر ذلك على عدد السجون أو عدد السجناء، بل تعداهما حتى أصبح كل إنسان سجيناً أو مرشحاً للسجن، ولذلك راح الكاتب يواجه هذه المشكلة في محاولة لقراءتها مجدداً بطريقة أعمق.‏
يميل الراوي إلى تقديم فضاء سجن موران دفعة واحدة وبكثير من التفاصيل، تقديم يشير إلى تجذره وامتداده في التاريخ، كما أن ارتفاع موقعه قياساً إلى الأماكن التي تحيط به يبرز دوره الوظيفي في السيطرة وزرع الرعب والخوف، "في القسم الشمالي الغربي من موران، على طريق العوالي، مكان محظور على الناس الاقتراب منه، إذ تحيط به أسلاك شائكة ثم أسوار عالية، إضافة إلى نقاط للحراسة تمنع الوقوف أو المرور".(8).‏
وبعد تحديد موقع السجن الجغرافي، ينتقل الراوي إلى الحديث عن تاريخه: "كان هذا المكان ذات يوم سرداباً، أو بئراً، ويؤكد المتحذلقون من مزوري التاريخ أن أولاد يعقوب اختاروه ليلقوا فيه أخاهم الصغير يوسف، المدلل من أبيه، لكي يتخلصوا منه نهائياً، وبمرور الأيام وبعد أن أنقذ الصغير وكبر أصبح نبياً مشهوراً، وتحول الجب إلى سجن لا نهاية له، إذ كان يسجن فيه العصاة الذين يقطعون الطريق، ثم بدأ يسجن فيها الذين خانوا العهد وأيضاً كل من له رأي يخالف السلطان"(9).‏
فالربط بين البعدين الجغرافي والتاريخي لفضاء السجن يبرز بجلاء تاريخ القهر وتجذره في هذه المنطقة منذ عهود سحيقة، وبدأت الهيمنة الأجنبية على المنطقة ـ بعد اكتشاف النفط ـ وتحالفها مع الأمراء، "لما تسلمت المخابرات المكان، كان السلطان الأول قد مات وعزل ابنه وجاء السلطان الجديد، وكانت موران قد كبرت واتسعت عشرات المرات، وكانت المخابرات قد قدمت مئات المذكرات أن المكان قد ضاق... في هذه الفترة كما في فترات سابقة أيضاً، اضطر المسؤولون عن سجن العبيد إلى حفر أنفاق إضافية، وإلى وضع بوابات حديدية، وإلى توسيع المكان من جميع الجهات....".(10).‏
ارتبط سجن العبيد بالقتل تاريخياً، ففيه تستنطق السلطات المارقين وتحدد لهم آجالهم، فيقتل من يرى من الضروري قتله ويترك الآخرون لكي يقتلهم السجن، فمنهم من يموت كمداً، أو بالسم الذي يوضع في الطعام. أما الذين قدر لهم أن يخرجوا من السجن فموتهم يكون بعد فترة قصيرة من خروجهم، رغم أن السلطان يزورهم في بيوتهم بعد خروجهم، هذا هو تاريخ سجن العبيد الذي يلخص تاريخ موران القديم والمعاصر.‏
ويمتد سجن العبيد امتداداً شاقولياً في مستوى الأرض إلى أعماقها، وهو امتداد تراتبي يبدأ بالمستوى الأول بالنزول تحت الأرض ثلاث درجات، أين يوجد الممر الذي يستقبل فيه السجين، وهذا الممر هو بداية الجحيم، وبعد التعذيب والتحقيق يوضع السجين في الزنزانة التي تمثل المستوى الثاني من الانحدار نحو الأسفل. يصف لنا طالع العريفي هذه الزنزانة بقوله:‏
"الزنزانة في سجن العبيد قبر: صغيرة، باردة، فارغة، أقرب إلى الظلمة، تنبعث منها رائحة الموت"(11).‏
فكل مواصفات هذه الزنزانة تعمل على تدمير السجين وإضعافه تمهيداً للاعتراف، ولا يسمع داخل هذه الزنزانة إلا الصراخ، كما أن أبوابها وهي تفتح أو حين تغلق تضفي على الجو حالة من الرهبة تشبه لحظة الاحتضار. لقد صمد "طالع العريفي" رغم العديد من الوسائل المستعملة (تعذيب امرأة عارية أمامه، اعتراف أحد السجناء الصوريين أمامه، وضع أحد رجال المخابرات معه في الزنزانة..)، ثم نقل إلى الأسفل أين توجد زنزانة الموت وهي أصعب من الزنزانات التي قبلها، قضى فيها سنة وثلاثة أشهر، لكنه احتملها وخرج، ويرتبط هذا الامتداد الشاقولي للسجن بالحالة النفسية للسجين، فكلما انحدر السجين أسفل كلما أحس بالضعف والتلاشي وعدم القدرة على الاحتمال، يرتبط الأسفل دوماً بالدونية والموت، عكس الأعلى الذي عادة ما يرتبط بالحياة والقوة.‏
ويستمر تعذيب طالع العريفي جسدياً ونفسياً عبر هذا التوغل عمقاً تحت الأرض الذي يبرز تجذر السجن في تاريخ موران، فيؤخذ إلى السرداب، وهو أقصى الأمكنة على الإطلاق إذ يفقد السجين في هذا المكان صلته بزمن البشر وبزمن الكون، يصف طالع العريفي الممر المؤدي إلى السرداب: "أخذوني، سرنا في طريق طويل ثم نزلنا درجاً، كانت خطواتنا تدوي وكأننا ننزل إلى بئر أو إلى باطن الأرض.. هذا هو السرداب إذن هكذا قلت لنفسي، دفعت إلى الداخل(...) كانت الخطوات العشر إلى السرداب أطول وأصعب رحلة في حياتي، كانت كمن يدوس جمراً أو زجاجاً مكسوراً، كمن يمشي على شفرات حادة غير منظمة".(12).‏
ويبرز الوصف التفصيلي للسرداب فظاعة ما يتعرض له السجين في باطن الأرض: "... رأيت كما يرى الحالم: غرفة واسعة، شديدة الإنارة، في جانب دكة عالية، يتوسط الغرفة طاولة بأرجل إسمنتية مثبتة بالأرض، وسطها ألواح خشبية غير منتظمة وغير مصقولة، وتتدلى منها حبال وسيور جلدية، في أرضية الغرفة مجموعة من الأحذية والقمصان والعصي والكابلات.. أما الجدران فقد كانت ملطخة بالدماء، دماء قديمة وأخرى لم تجف".(13).‏
لا أريد أن أتوقف مطولاً عند مجموعة هذه الأشياء المتناثرة في السرداب الواسع، فكلها تشير إلى تاريخ من التعذيب والآلام. إن ما يستوقف القارئ لوصف السرداب هو حالة الإنارة الشديدة والدائمة، وهذا في اعتقادي أقسى شكل من أشكال التعذيب، فعندما يكون الوقت كله مضيئاً، لا يعرف السجين ليله من نهاره إلا من خلال جهاز الساعة، الذي يصبح هو الآخر عاطلاً غير دال، ذلك أن حركة الساعة لا تقترن بفعل كوني ولا نفسي، إنها ملغية. وعندما يعيش السجين باستمرار تحت حالة واحدة من الضوء، يفقد التوازن الطبيعي الذي اعتاد عليه، عندئذٍ لا يسعى إلا طلباً لإعادة هذا التوازن، وهنا يبدأ ضغط الفضاء الخارجي. والإنسان إذا أخل بنظام حياته ولم يصبح موزعاً بين الضوء والظلمة أصبح كائناً مضطرباً وقلقاً وهشاً، ,قابلاً للانكسار والهزيمة.‏
وفي الأخير، نقدم هذا الرسم الذي يظهر تراتبية فضاء سجن العبيد بموران الذي يشير إلى تجذره في التاريخ القديم ويلخص تاريخ موران المعاصر، يبدأ من السطح الذي يمثل بداية الجحيم، ثم ينزل إلى الأسفل أين توجد الزنزانة الأولى، وإذا لم يعترف السجين يؤخذ إلى زنزانة الموت، التي تقع أسفل من الزنزانة الأولى، ثم إلى السرداب، وهو أسفل مكان في السجن:‏

السرداب‏
تدل تقنية العمق المكاني المتشعب التي استخدمت في النص على أن الفضاء ـ السجن متجذر في شرق المتوسط، ومؤثر في كل من له علاقة به، فالسجن هو ذاكرة المنطقة، كما يشير العمق ـ السرداب ـ إلى الأصل، فالأسفل هو السيد، وكلما امتد الفضاء نحو العمق، تجذر أكثر وازداد سيطرة ورهبة. ويشير الامتداد نحو الأعلى ـ كون السجن يقع في أعلى منطقة في موران ـ إلى التحكم والقوة. ومن خلال اتجاه الأعلى والأسفل، يكون الضغط على السطح أقوى والتأثير أبقى. لقد ركزنا إلى حد الآن على العمق المكاني لفضاء السجن، الذي يدل على تجذره في الشرق... فالشرقيون جراد يعوي في الأقبية المظلمة الضيقة فإن فضاء السجن يتجه كذلك نحو الأعلى الذي يوحي بالسيطرة والتحكم... تبرز هذه الخاصية المكانية خاصة في سجون عمورية المنتشرة أفقياً.‏
وكما وصف الراوي سجن العبيد على لسان "طالع العريفي" يصف على لسان "عادل الخالدي" سجن عمورية وصفاً دقيقاً ومفصلاً: "السجن المركزي في عمورية عالم من الصخب والعجب والجنون، وهو أشبه مايكون بمركب كولومبس أو سفينة نوح.. نماذج لشتى البشر والمخلوقات..."(14). يضم فضاء السجن المركزي في عمورية أصحاب كل الاختصاصات وكل المهن.‏
والسجن المركزي هو سجن العاصمة عمورية، وعمورية تاريخياً هي المدينة التي أنقذها المعتصم بالله عندما استنجدت به امرأة، أما عمورية الحديثة فهي صورة للمدينة النفطية التي ظهرت فجأة في فضاء الصحراء العربية بعد اكتشاف البترول، فهي تنتظر من ينقذها قبل أن يعم الدمار.‏
وإذا كانت سجون موران تمتد شاقولياً، في إشارة إلى تجذر ظاهرة السجون في الوطن العربي، فإن سجون عمورية تمتد امتداداً أفقياً، من خلال انتشارها الواسع في كل مكان شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وهكذا يتقاطع التاريخ مع الجغرافية ليصنعا مأساة الوطن العربي، التاريخ الذي يؤكد تجذر هذا السجن في البلاد العربية، فهو البداية والنهاية، بينما يشير البعد الجغرافي إلى انتشار السجون بشكل أخطبوطي في كل الاتجاهات.‏
يروي عادل الخالدي قصة تنقله بين سجون عمورية في رحلة تشبه رحلة الإنسان بين الميلاد والموت، بدءاً من سجنها المركزي إلى سجن الغفير إلى سجن القليعة إلى أعماق الصحراء، ثم العودة إلى السجن المركزي، الذي يقوم بدور ملك الموت، فمهما ابتعد الإنسان وأحس بحرية من نوع ما، يشده إليه ثانية: "هنا العاصمة، وهذا سجن العاصمة، الواحد لو راح لآخر الدنيا، لازم يرجع لهنا"(15).‏
تبدأ رحلة عادل الخالدي من السجن المركزي باتجاه سجن الغفير، والرحلة هنا إلى المكان ترتبط بالزمان، ويكون الارتباط مقصوداً ليزيد من عذاب السجين. يقع سجن الغفير في عمق الصحراء، ويرحل إليه المساجين صيفاً ليكون تأثيره أقوى وأبقى.‏
ومن الأساليب المميزة لهذا السجن، وضع المساجين داخل المحرقة والعزل الانفرادي داخل هذه العلب القاتلة. وهنا، تتحول أشعة الشمس إلى عدو يتربص بالمساجين، خاصة عندما يطلب منهم نزع الأحذية والتوجه إلى المحرقة ـ البعيدة نسبياً ـ وسط تلك الرمال الحارقة ومثلما يتفتت الزمن إلى ذرات لا نهاية لها، فقد بدت المسافة بين المساجين وتلك العلب غير قابلة للاجتياز ضمن أي مقياس؛ فاللهب الذي ينبع من الرمل يجعل السير شاقاً إلى درجة الاستحالة "كان اللهب فيضاناً بلا انتهاء، أسياخ نار تندفع بسرعة الطلقة، بدءاً من باطن القدم حتى قمة الرأس، كنا نصرخ كالقطط المجنونة، نقفز كالجراد، وكنا نرتمي على الأرض في محاولة الاستراحة أو لتوزيع الألم على مساحة أوسع لعله يكون محمولاً أكثر، لكن ما تكاد الأيدي أو الأجساد تلامس الرمل، تتبعها الشهقات، وكأن مسامير دقت فيها‍! .. كنا نركض فوق المسامير، فوق زجاج ملتهب، على أجفاننا إلى أن وصل كل واحد منا إلى علبته!...".(16).‏
وداخل هذه العلب يكون الجحيم مزدوجاً، جحيم السماء (الشمس) وجحيم الأرض (العقارب): "... فوجئت بعدد من العقارب الموجودة داخل العلبة، كانت تتحرك تلك الحركة المجنونة؛ لأن أحداً أفسد عليها قيلولتها، ما أن رأيتها حتى شعرت أن كل ما فيّ من قوة أو قدرة على المقاومة ينهار ويتلاشى!... هل جاؤوا بها إلى هذا المكان لتنجز ما عجزوا عن إنجازه؟".(17).‏
وإذا كان هذا هو حال السجين صيفاً في سجن الغفير، فإنه ينتقل مع دخوله الشتاء القارس إلى سجن القليعة، وهو أعلى مكان في عمورية بأكملها، يصف عادل الخالدي سجن القليعة بالتركيز أولاً على تاريخه ليؤكد تجذره في الذاكرة"يقع على قمة جبل من أعلى جبال السلسلة الشمالية لعمورية.. أما إذا جرى الحديث عن البرودة، فإن الكثيرين يقولون إن مياه الشلالات هنا تتجمد طوال شهور الشتاء وبعض شهور الربيع!".(18).‏
وإذا كانت المحرقة الأسلوب المناسب في سجن الغفير الجنوبي صيفاً، فإن البرودة والجوع هما أخطر عدوين يواجه السجناء في سجن القليعة شمالاً "كان مليئاً برائحة الدواب والرطوبة، وفيه بقية تبن وأعلاف وكان مظلماً أيضاً... بعد ذلك، بدأنا نفكر ونواجه العدوين؛ البرد والجوع.."(19). أما طريقة القتل في هذا السجن العالي، فتتم بدفع السجين إلى وادي الموت السحيق، ومن المكان نفسه الذي كانت تلقى فيه القمامة.‏

سجن الغفير جنوباً (صحراء)‏
يلخص هذا الرسم رحلة عادل الخالدي مع السجون، فقد قضى السنوات العشر في سجون عمورية ولازمته مجموع الأمراض إلى آخر أيامه، لكن أخطر من كل هذه السجون المادية، أن تتحول روح عادل الخالدي وغيره من السجناء إلى سجن "وما الفرق من السجن المركزي والغفير والقليعة وعشرات السجون الأخرى إذا ظلت روحنا هي السجن".(20). فلم يتحرر السجناء بمجرد الخروج من السجون، بل دخلوا في سجون نفسية أقسى وأكثر تدميراً.‏
ويعبر هذا الانتشار الجغرافي للسجون شمالاً وجنوباً عن أن ظاهرة السجن لم تستثن بلداً واحداً من البلاد العربية، وبذلك أصبح فضاء السجن معلماً بارزاً تاريخياً وجغرافية.‏
ويتساءل عادل الخالدي في باريس أين ضاعت عمورية التي نحبها، عمورية الحمامة، ليالي القمر، أغاني الأعياد، عمورية المحبة والأيدي الدافئة والمسافرين العائدين، ويتأكد أن عمورية تلك انتهت إلى الأبد، وقامت أخرى مكانها، تحمل الاسم نفسه ولها الملامح نفسها لكن عمورية الجديدة تختلف عن التي كانت: البشر والحياة وحتى طعم المياه اختلف، لقد اتسعت وامتدت، امتلأت بالعمارات الكبيرة والشوارع الدوارة، "عمورية منطقة موبوءة، إنها خليط من الثقافات والحضارات، لم تستطع أو ربما لم يتح لها أن تجد شخصيتها وأن تكون هي: بنت المكان، والجذور والعصر، لكي تدب فيها الحياة، وإذا ظلت كذلك فإن الموت ما ينتظرها"(21). هذه النظرة جعلت عمورية مدينة مسبية يتعاقب عليها الأقوياء والماكرون.‏
يتبع


أرب جمـال 26 - 5 - 2010 01:50 AM


كان عادل الخالدي ـ وهو في سجون عمورية ـ يحلم بزيارة باريس، كي يتعلم من بشر هذه المدينة، كيف يفكرون وكيف يتصرفون، ولماذا أصبحوا هكذا، ولماذا ظلت عمورية مدينة للصمت والموت والانتظار، واحترف ناسها الصبر وهجروا الحياة وامتلؤوا حنيناً إلى جنة السماء. الآن، لم يستطع عادل الخالدي المثقل بأحزانه وبسجون عمورية أن يتحرر من كابوس السجن، ولهذا أصبحا (عادل ـ السجن) عاشقين يستحيل الفراق بينهما يجوبان شوارع باريس والحي اللاتيني، وأصبح عادل في باريس أكثر ضياعاً: "الآن تبدو لي باريس مدينة مثل المدن باقي المدن، مغلقة، قاسية، ولا تخلو من سخرية مترفعة، صحيح أنها لا تمانع في استقبال الغرباء بمن فيهم المهزومين، ولكنها تفعل ذلك بعدم اهتمام"(22).‏
وعندما يقارن عادل بين باريس وعمورية، يدرك أن تحرير عمورية يتم على أرضها وليس بالضياع في شوارع باريس، فباريس مدينة للذين ولدوا فيها وتوارثوها، فهم الذين صنعوا كل شيء فيها، أما عمورية البعيدة الغارقة في أحزانها، فلا تفارق عادل: "آه، يا مدينتي، كما قسا عليك البشر وبشرك بشكل خاص، كانوا ينتقمون من أنفسهم وهم ينتقمون منك"(23). وهكذا تتسع الهوة بين باريس وعمورية، ومع اتساعها تتجذر مأساة عادل الخالدي، نتيجة القمع الذي غيّر لون الحياة وطعمها.‏
وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، تحول السجن إلى حالة نفسية حادة مرتبطة بالبطل، تماماً كالعلامة الفارقة، بل قد تحول الوطن بأكمله إلى سجن كبير، وبذلك يتجاوز السجن مظاهره المادية وأساليب التعذيب المادية ليصبح ظاهرة شاملة لكل مظاهر الحياة، فإذا ما نجا المواطن من السجن المادي وجد سجن المجتمع بانتظاره، وهذا ما كانت تخشاه شخصيات منيف الروائية، إذ تجد نفسها غير قادرة على التخلص من سجنها، حتى بعد أن تخرج منه، ويصبح السجن حالة نفسية، تعبث بمحدودية الفرد وضعفه، وتحوله إلى حالة من الضياع والإحباط والهزيمة طوال حياته.‏
اقتصر وصف الفضاء في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" على عربة القطار أثناء رحلة تقوم بها الشخصية الرئيسية منصور عبد السلام، وتعبر فيها الحدود إلى الخارج، ومن خلال عربة القطار، تحضر بعض الأمكنة الأخرى عبر تداعيات الشخصية وارتدادها إلى ماضيها.‏
جاء فضاء القطار نتاجاً لرؤية المبدع، إذ سمح بلقاء شخصية منصور عبد السلام وإلياس نخلة، وهما شخصيتان متباعدتان متنافرتان لا مجال للقائهما، يقدم هذا الفضاء الروائي ـ القطار ـ حلاً للمبدع، حين يريد الهروب أو حين يعمد إلى عالم غريب عن واقعه ليسقط عليه رؤاه التي يخشى معالجتها، وهنا يتحول الفضاء إلى رمز وقناع يخفي المباشرة، ويسمح لفكر المبدع أن يتسرب من خلاله.‏
يتوحد الفضاء مع الزمان في هذه الرواية، فيتحولان إلى شيء واحد؛ فالحوادث كلها ستحضر في عربة القطار، ومع حلول الليل يطلق المؤلف تجريداته حتى النهاية، ليكون القطار في سيره هو الزمان وهو المكان في آن، ولا ينتقل المكان في القطار إلا مع الاسترجاع على لسان إلياس نخلة ومنصور عبد السلام.‏
وهذا القطار ـ الزمكان ـ يتحرك ليلاً على الرمال مثل حية سوداء ويسير ببطء وهو رمز مكثف لرحلة الإنسان العربي والوطن العربي عبر الضياع والمجهول:"هذا القطار الذي يشبه المقبرة يمتلئ بالعشرات، في كل عربة عدد من الناس، لكل واحد من هؤلاء عينان وأذنان، لا يوجد بينهم واحد يمكن أن يستمع إلي؟ ينظر إلى عيني"(24). يتحول القطار إلى مكان تنتفي فيه الحرية، وهو صورة مصغرة للوطن العربي، إذ يتم استجواب الشخصيتين منصور عبد السلام وإلياس نخلة من قبل رجال الجمارك، وهنا يتحول فضاء عربة القطار إلى سجن.‏
ولعل أبرز مكان يستحضره منصور عبد السلام هو الجامعة. إذ كانت هي فضاء الحرية والحيوية والنشاط وبالتالي التغيير، فإنها في الوطن العربي تحولت إلى فضاء للموت، خاصة عندما بدأ منصور يحس بأنه مراقب من طرف أجهزة الأمن "لكن سور الجامعة أصبح أقسى عليّ من سور السجن، وأصبحت القاعات الكبيرة الباردة المليئة بالعيون مثل زنزانات لها رائحة المراحيض".(25).‏
وعندما تساوت الجامعة مع السجن، بدأ منصور عبد السلام يحس بالملل وأصبح يلقي المحاضرات وكأنها واجب ثقيل، أصبح يرفض الإجابة على أسئلة الطلبة، وأصبح يحس بشكل من أشكال الازدواجية في شخصيته "تحولت قاعة المحاضرات إلى سجن، سجن حقيقي، وتحولت كلماتي إلى قطع من الحديد الصدئ، ولم أعد أصدق أنها تصدر عني، كنت أميل بأذني لكي أسمعها فأنكرها، لم أكذب كثيراً لكن لم أعد أهتم بما يجب أن يقال".(26).‏
وعندما تحولت الجامعة ـ رمز الحرية ـ إلى سجن، وتحول القطار المتحرك ليصبح دالاً على صورة السجن عبر الزمن، ينزلق منصور عبد السلام تدريجياً إلى ذلك الفضاء اللعين السجن الذي حول حياته إلى جحيم لا يطاق يستحضره في كل مرة ويتجلى له في كل مظهر ويثير فيه ذكرى أليمة تزيد من كرهه للوطن، فيستحضر السجن وعذابه "كنا في السجن ثلاثون في غرفة لا تتسع لثلاثة، وكنا قد صنعنا بقايا أكياس الخيش مروحة وربطناها بحبل، وكنا نتناوب الحراسة، كل ساعة حارس، من أجل أن نتنفس ومن أجل أن نفسح مكاناً لإنسان ينام"(27). وماكان يزيد من عذاب منصور عبد السلام ذلك السؤال الذي يعجز عن الإجابة عنه، وظل يتردد دون انقطاع "لماذا نحن موجودون هنا؟... هل فعلنا شيئاً نستحق من أجله أن نسجن؟ أفكارنا..؟"(28).‏
لقد انتقل منصور عبد السلام بسجنه وهزيمته وخيبته خارج الوطن، إلا أنه ظل يفكر في الوطن ويبكيه "وبكيت، بكيت كل شيء؛ الوطن...، بكيت أيام السجن والجوع"(29). أصبح منصور في مكان فيه الأمل بتغير الشرق وإصلاحه، لأن الألواح التي يستخرجها مع رفاقه ستكشف الحقائق وتصحح التاريخ، فيقضي على الخونة في الوطن وتتغير حال الناس، ومع ذلك لا ينسى الوطن ولا يكف عن نعيه.‏
ولما تيقن منصور عبد السلام أن الخلاص من سجنه النفسي بات مستحيلاً، عاد إلى الوطن، فلا جدوى من الفرار وقد أصبح شبه إنسان، إلا أنه اقتنع كذلك بأن فعل التغيير يبدأ من الداخل، من حيث قتل "مرزوق"، لعله يتمكن من إزاحة هذا الوشاح الأسود الذي يلبسه كل الناس، وينقذ الوطن الذي يفتك به الجوع والعذاب والقتل.‏
حاول منصور أن يهدم الجدار السميك، جدار الخيبة، وعندما عجز أطلق الرصاص على صورته في المرآة، وهي إشارة إلى أنه أطلق الرصاص على ذاته الساكنة الضعيفة، ويمثل هذا الفعل بداية التغيير، حتى وإن كان الثمن هو الجنون.‏
أسهم هذا الوضع في انتشار السجون في كل مكان وتطور أساليب التعذيب. فبعد أن كان مفضي الجدعان أول سجين في حران، أصبح كل المجتمع سجيناً أو مرشحاً للسجن فانتشر الخوف، وأصبح القمع معلماً أساسياً في الوطن. لقد ولدت سياسة النفط القمع وعددت أساليبه وأشكاله، وتجاوز السجن حدوده المادية ليكتسب أبعاداً نفسية خطيرة. لا تفارق السجين حتى بعد أن يغادر سجنه، وهذا الوضع غير الطبيعي أدى إلى خلق جيل مشوه بشكل من الأشكال وغير قادر على أن يحرر نفسه من حالة الخوف التي تكبله.‏
أقامت المدن النفطية السجن وطورت أساليبه إلى أن غدا ظاهرة خطيرة تعيق كل تطور، وتبقى هذه المدن القاسية بسجونها تصنع عار الشرق، ويبقى الشرقيون كالجراء تعوي في السراديب الكثيرة المنتشرة من شاطئ شرق المتوسط في أعماق الصحراء.‏
ليست سياسة القمع والسجن والاضطهاد التي يتعرض لها الإنسان العربي سوى محصلة سياسة النفط النهائية، التي تهيمن على منطقة شرق المتوسط، إن القمع الذي يلاحق منصور عبد السلام ورجب اسماعيل وعادل الخالدي وطالع العريفي وزكي فداوي.. هو أحد إفرازات هذه المدن المرعبة القاسية.‏
إن مفهوم الكاتب للشرق وللاستبداد الشرقي وحّد التاريخ والجغرافية، ليصبح الاستبداد صفة أزلية مقترنة بالشرق. فقد عرض الكاتب صورة قاتمة ومرعبة يلخصها "رجب إسماعيل" لامرأة فرنسية "الإنسان في بلادنا أرخص الأشياء، أعقاب السجائر أغلى منه... آه لو تنظرين لحظة واحدة في قعر سرداب من آلاف السراديب المنشورة على شاطئ المتوسط وحتى الصحراء البعيدة. ماذا ترين؟ بقايا بشر ولهاثاً وانتظاراً يائساً، وماذا أيضاً؟... وجوه الجلادين الممتلئة عافية وثقة بالنفس".(30).‏
يقابل هذا الفضاء المظلم الضيق فضاء الغرب الديمقراطي الحر، فالناس هناك يتكلمون بحرية، وينشئون الأحزاب والصحف.. إنه الفضاء النقيض لفضاء الشرق/السجن، لذلك يحذر رجب اسماعيل أهل الغرب من مجرد الاقتراب من ضفة المتوسط الشرقية، "... لو جئتم بكتبكم إلى شاطئ المتوسط الشرقي لقضيتم حياتكم كلها في السجون... سيأكلكم الندم، سوف تكفرون بكل شيء.."(31). ويحذر السفينة أشيلوس، التي نقلته من السجن /الوطن إلى الغرب/ الحرية من أن تفكر بالرجوع إلى الشاطئ الشرقي،"...سيجدون لك سرداباً أصغر من القبر، وهناك يجب أن تقاومي الجنون والوحدة، لقد جنت المخلوقات هناك...".(32).‏
يقوم الشرق /السجن بتدمير جسد الإنسان داخل تلك الأقبية الضيقة، حيث يتحول التعذيب إلى "حفلة"، بينما يقوم الغرب بترميم جسد السجين العربي المدمر، فقد سافر رجب اسماعيل إلى الغرب للعلاج من داء السل الذي ينهش جسمه بسبب تلك السجون الضيقة الباردة، وسافر عادل الخالدي وطالع العريفي إلى براغ لترميم جسديهما بعد أن أوشكا على الموت في تلك السراديب المظلمة الممتدة من شاطئ البحر المتوسط إلى أعماق الصحراء. يقوم الغرب ـ إذن ـ كفضاء للحرية والديمقراطية والحياة الكريمة التي تحلم بها شخصيات منيف الروائية، بينما يحمل فضاء الشرق كل الصفات القبيحة، ولهذا يشرح منصور عبد السلام لصديقته البلجيكية ثنائية الشرق/السجن، والغرب/الحرية، بقوله:"كاترين، نحن عالمان التقيا بالصدفة.... لا تتعبي كثيراً، ليس لأني لا أريدك، ولكن لأن لقاء مثل هذا الذي تحلمين به سيكون قصيراً وفاجعاً... نحن كما قلت عالمان، عالمان...".(33).‏
وحتى عندما تهرب شخصيات منيف الروائية إلى الغرب/الخلاص، فإن الشرق/السجن يلاحقها، ويحول دون إحساسها بالحرية، كما أن إيمان هذه الشخصيات بالغرب الذي يقوم نقيض الشرق يجعلها تقتنع بأن الغرب خلق لأهله ليعيشوا فيه بحرية وأمان، وعلى الشرق أن يحرر نفسه، ويهدم أسوار السجون، ولا تدمر هذه الأسوار إلا عندما تدمر أسوار الخوف الذي نما في داخلنا، ذات يوم، ولم يعد بذرة صغيرة، أصبح شبحاً يلاحقنا في كل وقت، وعلى أهل الشرق أن ينزعوا أشواكهم بأيديهم، وألا ينتظروا من الآخر أن ينزعها عنهم، ولذلك آثرت شخصيات منيف العودة إلى الوطن/السجن، رغم إدراكها الثمن الذي ستدفعه. عاد رجب اسماعيل ليطهر نفسه من الخطيئة، ولإيمانه بأن النضال يجب أن يستمر من الداخل فقتل، وعاد منصور عبد السلام إلى المكان الذي حوصر فيه وشرد وسجن، فكان الجنون شكلاً من أشكال مواجهة العالم. ومات طالع العريفي في مستشفى براغ عندما أدرك أنها باعت نضالهم مقابل مصلحتها الخاصة، وبقي عادل الخالدي يعرض أحزانه في شوارع باريس، ويتساءل أين ضاعت عمورية، عمورية الحب والحنان، ويدرك أن عمورية تلك قد انتهت إلى الأبد، وقامت أخرى مكانها، قاسية، ومرعبة، وضيقة، ولم يجد سوى السجن رفيقاً له، بينما دفعت الهزيمة التي تنخر جسم زكي فداوي إلى المستنقعات، الفضاء المعادل للسجن، الذي يفيض بدلالات سلبية قاتلة.‏
وعلى العموم، تميّز الفضاء الروائي في معظم روايات عبد الرحمن منيف بالتغيّر والقلق والهشاشة (وادي العيون، وحران، وموران، والطيبة، والمستنقعات، والقطار، والسفينة، والجسر)، ولذلك تميزت علاقته بالشخصيات الروائية بالعدائية والقسوة. وفي مقابل الفضاء المتغير، يقوم فضاء السجن الثابت المغلق، وينتشر بشكل أخطبوطي في جميع نصوص منيف الحكائية، فهو الأصل والجذر، وهو البداية والنهاية، وهو التاريخ والجغرافيا، وهو عار الشرق الأزلي.‏


الهوامش:‏
1 ـ عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، ص 85.‏
2 ـ المصدر نفسه، ص85.‏
3 ـ المصدر نفسه، ص86.‏
4 ـ المصدر نفسه، ص96.‏
5 ـ المصدر نفسه، ص151.‏
6 ـ المصدر نفسه، ص167.‏
7 ـ المصدر نفسه، ص136.‏
8 ـ عبد الرحمن منيف، الآن هنا... أو شرق المتوسط مرة أخرى، ص 193.‏
9 ـ المصدر نفسه، ص193.‏
10 ـ المصدر نفسه، ص196.‏
11 ـ المصدر نفسه، ص209.‏
12 ـ المصدر نفسه، ص226.‏
13 ـ المصدر نفسه، ص212.‏
14 ـ المصدر نفسه، ص316.‏
15 ـ المصدر نفسه، ص478.‏
16 ـ المصدر نفسه، ص369.‏
17 ـ المصدر نفسه، ص370.‏
18 ـ المصدر نفسه، ص400 ـ 401.‏
19 ـ المصدر نفسه، ص397 ـ 398.‏
20 ـ المصدر نفسه، ص474.‏
21 ـ المصدر نفسه، ص354.‏
22 ـ المصدر نفسه، ص303.‏
23 ـ المصدر نفسه، ص306 .‏
24 ـ عبد الرحمن منيف، الأشجار واغتيال مرزوق، ص 227.‏
25 ـ المصدر نفسه، ص306.‏
26 ـ المصدر نفسه، ص310.‏
27 ـ المصدر نفسه، ص213.‏
28 ـ المصدر نفسه، ص213.‏
29 ـ المصدر نفسه، ص341.‏
30 ـ عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، ص 146 ـ 147.‏
31 ـ المصدر نفسه، ص155.‏
32 ـ المصدر نفسه، ص96.‏
33 ـ عبد الرحمن منيف، الأشجار واغتيال مرزوق، ص 246‏


من إعداد : الدكتور صالح ولعة- الجزائر

ميارى 26 - 5 - 2010 05:12 PM

وعلى العموم، تميّز الفضاء الروائي في معظم روايات عبد الرحمن منيف بالتغيّر والقلق والهشاشة (وادي العيون، وحران، وموران، والطيبة، والمستنقعات، والقطار، والسفينة، والجسر)، ولذلك تميزت علاقته بالشخصيات الروائية بالعدائية والقسوة. وفي مقابل الفضاء المتغير، يقوم فضاء السجن الثابت المغلق، وينتشر بشكل أخطبوطي في جميع نصوص منيف الحكائية، فهو الأصل والجذر، وهو البداية والنهاية، وهو التاريخ والجغرافيا، وهو عار الشرق الأزلي.‏

شكرا لك أرب على نقل هذه الدراسة المهمة في روايات عبد الرحمان منيف التي تستحق فعلا الوقوف عندها والتي تطرح أكثر من سؤال وربما بعد ما سمعنا عنه في سجن أبو غريب وما سمعنا عنه من تعذيب للإنسان العربي في سجون غربية يجعلنا نتساءل : هل أنها فعلا مسألة إطار مكاني هو الشرق أم أنها مأساة الإنسان العربي المسلم الذي يحمل سجنه معه أينما حل والذي تسلط عليه ممارسات لا تمت بصلة لشعارات الغرب حول الحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟

أبو جمال 28 - 5 - 2010 10:56 PM

جزاك الله خيرا ..
بارك الله بك ..
طرح موفق

B-happy 20 - 10 - 2010 06:55 PM

بارك الله بك ارب على هذا الطرح المميز
تحياتي وباقات ورد


الساعة الآن 04:59 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى