منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   فلسفة وعلم نفس
علم ما وراء الطبيعه والقوى الخارقه
(http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=75)
-   -   فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8541)

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:46 PM

فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم
 
فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم

- نيقولا مكيافيلي
ولد نيقولا مكيافيلي (Machiavelli) من عائلة عريقة عام 1469 في مدينة فلورنسا الإيطالية. وخلال نشأته في هذه المدينة قُدر لمكيافيلي أن يشهد تحولات أساسية في تركيبة النظام السياسي في فلورنسا. فقد انتقلت السلطة من عائلة مديتشي إلى سافونارولا[1]، رجل الدين المستبد الذي حكم فلورنسا لمدة ثلاث سنوات سقط على إثرها فاسحا المجال أمام قيام نظام جمهوري دام من عام 1498 حتى عام 1512 حيث عادت أسرة مديتشي للحكم.

تثقف مكيافيلي ثقافة عصره وكانت له صداقات واسعة في أوساط الكتاب والمفكرين، مما سمح له الحصول على ثقافة واسعة في القانون والسياسة والتاريخ والفلسفة. وهذا ما أتاح له الحصول على منصب المستشار العام للدولة في فلورنسا الجمهورية عام 1498 حيث بقي فيه لمدة أربعة عشر عاما أي حتى سقوط العهد الجمهوري فيها عام 1512. لقد كان هذا المنصب مهما في حياة مكيافيلي، إذ سُمح له أن يكون على صلة مباشرة بشؤون الدولة السياسية، الداخلية منها والخارجية. إذ كثيراً ما قام مكيافيلي بمهمات دبلوماسية خارج فلورنسا: منها أربع مهمات قام بها عند ملك فرنسا، وواحدة عند إمبراطور ألمانيا واثنتان عند الباب العالي، وغيرها عند القيصر بورجيا[2] الذي كان مكيافيلي معجباً به.

هكذا كان مكيافيلي في مركز يؤهله لفهم خفايا سياسات الدول والتعبير عنها في مؤلفاته التي وضعها في التوسكاني بعد نفيه من خدمة آل مديتشي بعد اتهامه بالاشتراك بمؤامرة جمهورية للإطاحة بالأسرة الحاكمة. فاعتُقل مع المتآمرين، ونُزعت منه المسؤوليات، وأبعد عن وظيفته ليعيش في عزلة قسرية في دار للعائلة لمدة اثني عشر عاما قضاها وهو يأمل العفو عنه والعودة إلى وظيفته ولكن دون جدوى.

وتوفي عام 1527 تاركا وراءه إرثا فكريا قيما ما زال يعتبر من أهم ما وُضع في تلك الفترة من الزمن.

من أهم المؤلفات التي تركها مكيافيلي كتاب "الأمير" الذي وضع في العام 1513، وتلاه كتاب "المطارحات" (1517)، والخطب أي "أحاديث عن كتب تيتوس ليفيوس[3] العشر الأولى" و "فن الحرب" اللذان وضعهما في العام 1521، وأخيرا مؤلفه "تاريخ فلورنسا" الذي تم نشره في عام 1525.




مكيافيلي: مختارات من كتاب "المطارحات"


عن أنواع الحكومات ومن أي نوع كانت حكومة روما
أرى أن لا أتحدث عن المدن التي كانت منذ مستهل عهدها خاضعة لسلطة مدن أخرى، وان احصر حديثي في المدن التي كانت منذ بداية نشوئها في منجاة من أية عبودية خارجية، وكانت تُحكم طبقاً لرغباتها وحدها، سواء أكانت من الجمهوريات أو من الإمارات. ولما كانت هذه المدن تختلف في منشئها، فقد اختلفت أيضاً في قوانينها ومؤسساتها. فلقد أتيح لبعضها منذ مستهل عهدها، أو بعد قيامها بأمد قصير، شخص يظهر في وقت من الأوقات يشرع لها قوانينها، كما حدث بالنسبة لإسبارطة، التي سن لها ليكرجوس[4] شرائعها، بينما حصل البعض الآخر، عرضاً على هذه القوانين في أوقات متفاوتة، بتفاوت الظروف، وهذا ما حدث بالنسبة إلى روما مثلاً.

ولا ريب انها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية، التي تُخرج رجلاً حكيماً، يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها والتي لا يضطرون إلى تقويمها. ولقد ظلت إسبارطة مثلاً، تحترم قوانينها اكثر من ثمانمائة عام، دون إفسادها، ودون أن تحس بإزعاج يهددها. اما المدينة التي لم يتح لها الحظ منظماً عاقلاً ينظم لها شؤونها، والتي تضطر هي بنفسها إلى القيام بهذا التنظيم، فتكون تعيسة الحظ شقية. ولعل أتعس منها حظاً تلك التي تكون بعيدة عن النظام، أشقى من هذه كلها، تلك التي أخطأت منظماتها طريق الصواب الذي يقودها إلى مصيرها الصحيح والحق. إذ يستحيل حتماً، ان تعاد مثل هذه الدول إلى الطريق الصحيح ثانية، وقد تتحول إلى مرتبة الكمال الحكومة التي تبدأ بداية طيبة وتستطيع تحسين أحوالها، على الرغم من عدم صحة نظامها، إذا أتاحت لها الفرص ذلك. ولكن يجب ان يلاحظ على أي حال، ان إدخال النظام إليها ينطوي على بعض الخطر، إذ ان قلة من الناس، هي تلك التي ترحب بالقوانين الجديدة التي تعرض النظام الجديد في الدولة. الا إذا شعر الجميع بضرورة هذه القوانين بشكل واضح. ولما كانت مثل هذه الضرورة لا تنشأ عادة الا مصحوبة بالأخطار، فان الدولة قد تتعرض إلى الخراب، قبل ان تصل القوانين الجديدة إلى مرحلة التمام. ولعل فلورنسا هي خير مثل على ما أقول، فقد أعيد تنظيمها بعدما حدث في اريزو، ولكن دستورها تعرض للدمار بعد ما حدث في براتو.

ولما كان هدفي الحديث عن منظمات مدينة روما، وعن الأحداث التي أدت إلى كمالها، فإنني أود القول بأن الذين كتبوا عن الدول، يقولون انها (أي هذه الدول) لا بد وان تكون منطوية على أحد أشكال الحكم الثلاثة، وهي الإمارة، وحكم النبلاء، وحكم الشعب، وان على من يقيمون حكومة في أية دولة معينة، ان يتبنوا أحد هذه الأشكال الثلاثة، طبقاً لما يتفق وأهدافهم.

وهناك آخرون يقولون، ويعتقد البعض ان حكمهم اكثر صواباً، ان ثمة ستة أشكال من الحكومات، ثلاثة منها سيئة للغاية، وثلاثة حسنة في طبيعتها ولكن من السهل إفسادها، ولذا فمن الواجب اعتبارها من النوع السيئ أيضاً. أما الأنواع الحسنة الثلاثة فهي التي سبق لي ذكرها قبل قليل. وتكون الأشكال السيئة الثلاثة تابعة الثلاثة السابقة، وتتشابه مع تلك التي ترتبط إليها إلى حد يجعل من السهل جداً على أية دولة التحول من شكل منها إلى آخر. فمن اليسير التحول من الإمارة إلى حكم الطغيان ومن حكومة النبلاء (الأرستقراطية) إلى حكم القلة (الأوليغاركي) ومن حكومة الشعب (الديموقراطية) إلى الفوضى. وهكذا يكون من يقوم على تشكيل حكومة ويختار لها أحد الأشكال الثلاثة الأولى، قد اختار لها في الواقع حكماً مؤقتاً، إذ ليس ثمة من سبيل للحيلولة دون تحوله إلى نقيضه، وذلك بسبب ما يقوم بين الفضيلة والرذيلة في مثل هذه الأحوال من تشابه.

وترجع هذه الاختلافات في الحكومات بين الناس إلى مجرد الحظ. فلقد كانوا يعيشون في الحياة في العالم، وعندما كان عددهم قليلاً أشتاتاً متفرقين كالحيوانات. ومع تكاثر ذريتهم، بدأ الناس يقتربون من بعضهم البعض، وحرصاً منهم على تحسين وسائل الدفاع عن أنفسهم، شرعوا يتطلعون إلى رجل منهم، يكون اكبر قوة وأكثر شجاعة من غيره فينصبونه رئيساً عليهم ويدينون له بالطاعة.

وهكذا بدأ الناس يتعلمون التمييز بين النبيل والطيب من ناحية، وبين السيئ والشرير من الناحية الأخرى، وذلك لأن مرأى من يسيء إلى صاحب الفضل عليه، يستفز لديهم الكراهية للمسيء والعطف على المساء إليه، وأخذوا يوجهون اللوم إلى ناكر الجميل، وينظرون بعين الاحترام إلى كل من يقدر المعروف لأهله، ذاكرين ان عين الإساءات قد توجه إلى كل واحد منهم. وهكذا أخذوا، رغبة منهم في منع شرور من هذا القبيل، يشرعون القوانين ويفرضون العقوبات على كل من يخالفها. وظهرت فكرة العدالة إلى حيز الوجود.

وحدث، على هذا النحو، أن الناس، عندما أخذوا يبحثون عن أمير لاختياره، شرعوا لا يختارون أشجعهم، كما كان الوضع في السابق، بل أكثرهم حكمة وعدالة.

وعندما بدأوا في قبول الأمراء بالوراثة بدلاً من انتخابهم، وذلك في المرحلة التي تلت، اخذ هؤلاء الورثاء في التدهور بالنسبة إلى أسلافهم، وشرعوا يهجرون أعمال الفضيلة، ويعتبرون ان على الأمراء ان لا يعملوا شيئاً سوى التفوق على الآخرين في الإنفاق، والإقبال على الشهوات والمباذل على اختلاف أنواعها. وهذا أدى إلى تركيز الكراهية على الأمراء، الذين يلجأون إلى الخوف متى أحسوا بكراهية الناس لهم مما يؤدي بهم إلى أعمال العنف التي تنتج حكم الطغيان، وبسرعة متناهية.

ويكون حكم الطغيان في وقت قصير مصدراً لسقوط الأمراء، إذ انه يولد المؤامرات والدسائس ضد أشخاصهم ويقوم على تنظيمها أناس ليسوا بالجبناء ولا بالضعفاء، وإنما من المعروفين بميولهم التحررية، وعظمتهم وثرائهم وكفايتهم، وذلك لأن مثل هؤلاء لا يستطيعون الرضى بالحياة التي يعيشها الأمراء. وتحمل الجماهير السلاح بتحريض من هؤلاء القادة الأقوياء ضد الأمراء، وعندما تنتهي من تصفية أمرهم، تخضع لسلطان أولئك الذين تنظر إليهم على انهم محرروها. وهكذا يقوم هؤلاء، الذين ينطبق عليهم تعبير "الرئيس الفرد"، بتأليف الحكومات، فيستهلون عهودهم نظراً لتذكرهم ما عانوه في ظل الطغيان، بالحكم طبقاً للقوانين التي يشرعونها، ويخضعون مصالحهم للخير العام ويحكمون ويحافظون على النظام في الشؤون الخاصة والعامة على حد سواء، بمنتهى الدقة والضبط.

ولكن عندما كانت إدارة الحكم تنتقل إلى أفراد ذريتهم الذين لا خبرة لهم بتقلبات الحظ، والذين لم يمروا بفترات عصيبة، ولم يكونوا يشاءون القناعة بالعدالة المدنية السائدة، فأنهم كانوا يلجأون إلى الطمع والطموح، واغتصاب الناس نساءهم، مما يحيل حكومات النبلاء إلى حكومات القلة (الأوليغاركية)، التي تُهمَل فيها الحقوق المدنية تمام الإهمال، فيقع لهم ما وقع للطاغية من قبل، لأن الجماهير تملّ حكمهم، وتضحي على استعداد لعون كل من يضع خطة لمهاجمتهم، وسرعان ما يبرز إنسان يستطيع بمساعدة الجماهير ومساندتها القضاء عليهم، وتصفية أمرهم.

ولما كانت ذكريات الأمير ما تزال مائلة في عقول هذه الجماهير، ولما كانت معايبه ومخازية، لا تزال حديثة العهد في واعياتهم، ولما كانوا قد تخلصوا من حكم القلة، فأنهم، يظهرون ميلاً واضحاً إلى عدم العودة إلى حكم الأمراء، فيتجهون إلى نظام حكم الشعب (الديموقراطي)، وينظمونه بشكل يضمن عدم تركيز السلطة لا في قلة من الرجال الأقوياء، ولا في أمير من الأمراء.

ولما كانت جميع أنواع الحكومات تحظى بالاحترام في مستهل عهدها إلى حد ما، يحافظ هذا الطراز الديموقراطي من الحكم على نفسه أمداً ما، ولكن هذا الأمد لا يطول، ولا سيما عندما يكون الجيل الذي قام على تنظيمه قد قضى نحبه ومضى. وسرعان ما تسود الفوضى، ولا يظل ثمة احترام لا للفرد ولا للموظف الرسمي، ولما كان كل إنسان يعمل ما يشاء في ظل عهد كهذا، فسرعان ما تُرتكب جميع أنواع الشرور والمخالفات، وتحل النتيجة المحتومة، فتعود الإمارة إلى الحكم، اما تلبية لنصيحة إنسان طيب عاقل، أو رغبة في الخلاص من هذه الفوضى على أي سبيل. وتعود الحلقة من جديد، مرحلة، على النحو الذي فصلت، حتى تصل إلى الفوضى ثانية.

هذه هي الحلقة التي تمر بها جميع الحكومات، سواء أكانت مستقلة تحكم نفسها بنفسها، أو تابعة لحكم أجنبي. ولكن يندر ان تعود نفس الحكومة إلى نفس الشكل من الحكم في المرة الثانية. وذلك لسبب واحد، وهو ندرة تمتع الحكومات بتلك الحيوية التي تضمن لها الصمود أمام جميع هذه التقلبات، والبقاء بعدها في حيز الوجود. وما يحدث عادة هو ان هذه الحكومات، وهي تفتقر في هذه الحالة التي يسودها الهرج والمرج، إلى المشورة الصادقة والقوة، تغدو تابعة إلى دولة مجاورة لها، أحسن منها تنظيماً. ولولا ذلك، لظلت الحكومات تسير في تلك الحلقة المفرغة من التحول إلى ابد الآبدين.

وعلى ضوء ما ذكرت، أرى ان جميع أشكال الحكم التي شرحتها سابقاً ليست من النوع المرضي أبداً، وذلك لأن عمر الحكومات الطيبة قصير، ولان حياة الحكومات السيئة مليئة بالشرور والآثام. وهذا هو السبب الذي يحمل المشرعين العاقلين الذين يعرفون معايبها على الامتناع عن تبني أي من أشكال الحكم هذه، واختيار بديل عنها، يتمثل في شكل من أشكال الحكم يشترك فيه الجميع، وذلك لأنهم يرون ان هذا الشكل اكثر قوة وثباتاً، إذ لو وجد حكم الأمراء والنبلاء في دولة واحدة، لاحتفظ كل من هذه الفئات لنفسها بحق مراقبة الآخرين.

وكان ليكرجوس أحد الذين استحقوا الثناء العاطر على إقامة حكومة من هذا الطراز. فلقد عهد الدستور الذي سنه لمدينة إسبارطة إلى كل من الملوك والنبلاء وجمهرة الشعب، بمهام خاصة بها. وهكذا ادخل شكلا من أشكال الحكم، قدر له البقاء أكثر من ثمانمائة عام، مما حقق له الثناء ولمدينته الهدوء والاستقرار.

ولم تكن هذه هي حالة صولون[5]، الذي وضع لأثينا شرائعها، فقد أقام فيها شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لم يقدر له ان يعمر طويلاً، وقضي عليه ان يشهد قبل موته ولادة حكم طاغ في ظل بيزيستراتوس[6]. وعلى الرغم من ان المدينة قد طردت ورثة هذا الطاغية، قبل انقضاء أقل من أربعين عاماً، وعلى الرغم من عودتها إلى ظلال الحرية بعد ان تنبت من جديد شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لشرائع صولون، الا ان هذه الحرية لم تعش طويلاً، ولم يتجاوز عمرها هذه المرة المائة عام. وعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان عدداً من الدساتير قد سن للحد من غطرسة الطبقة العالية، وتطرف طبقة العامة، الذي لم يضع له صولون حدوداً أو قيوداً. الا ان حياة أثينا لم تكن طويلة إذا ما قيست بحياة إسبارطة، وذلك لا، نظام صولون الديموقراطي لم يمتزج بسلطان الأمراء أو النبلاء.

وننتقل الآن إلى روما، فعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان القدر لم يشأ لها أن تحبى بشخص كليكرجوس، يمنحها منذ استهلال عهدها، دستوراً من النوع الذي يضمن لها حياة طويلة من الحرية، الا ان الاحتكاك بين مجلسي العامة والشيوخ، قد أدى إلى وقوع أمور كثيرة لعب فيها الحظ الدور الذي يقدر للشارع ان يلعبه أو يؤديه. وهكذا إذا لم تكن روما قد حصلت من الحظ على عطيّته الأولى، فإنها قد حصلت حتماً على عطيّته الثانية. وذلك لأن تنظيماتها المبكرة، على الرغم مما كان فيها من عيوب، لم تسر سيراً خاطئاً، وإنما مهدت السبيل نحو الكمال، ولان روملوس[7] وغيره من الملوك، استنوا عدداً من القوانين التي تتلاءم مع الحرية وتتوافق معها. ولكن لما كان هدفهم إقامة مملكة لا جمهورية، بعد ان حققت المدينة حريتها، فان هذه المملكة كانت تفتقر إلى العديد من التنظيمات اللازمة للحفاظ على الحرية، وهي تنظيمات كان من اللازم وجودها، بالنظر إلى عدم ضمان الملوك لها. وهكذا فعندما فقد ملوكها سيادتهم، لأسباب، وبطريقة سبق لي أن شرحتها في مستهل هذه المطارحة، فان أولئك الذين طرودهم من الحكم، لجأوا فوراً إلى اختيار قنصلين، يقومان بأعباء الملك، مما أدى إلى ان ما وقع عليه الطرد بالفعل، لم يتعد لقب الملك نفسه، لا السلطان الملكي. وهكذا وجد، في ظل الجمهورية الآن، وفي هذه المرحلة، القنصلان، ومجلس الشيوخ، مما عنى ان الشكل الجديد للحكم فيها قد ضم عنصرين فقط من العناصر الثلاثة التي سبق لي تعدادها، وهما الإمارة، والنبلاء. ولم يبق هناك الا العثور على مكان للعنصر الثالث وهو الديموقراطية. وقد تم هذا عندما غدا النبلاء الرومانيون من النوع الذي لا يطاق، ... مما حمل الشعب على الثورة عليهم، ومما دفعهم هم، خوفاً من إضاعة كل شيء إلى منح الشعب حصة في الحكم، مع احتفاظ مجلس الشيوخ والقنصلية، على أي حال، بالسلطة الكافية للحفاظ على مركز النبلاء في الدولة.

وهكذا بدأ الشعب يعين ممثليه (التربيون-Tribune). وأدى تعيينهم إلى إيجاد الكثير من الاستقرار في شكل الحكم في الدولة، إذا ان العناصر اللازمة الثلاثة قد تمثلت فيه. ونستنتج من هذا ان روما كانت سعيدة الطالع للغاية، لأن الانتقال من الملكية إلى حكم النبلاء، ومن الأخير إلى الديمقراطية، قد جرى في نفس المراحل، ولعين الاسباب التي حددتها في مستهل هذه الاطروحة، دون أن يؤدي انتقال السلطة للنبلاء الى إلغاء النظام الملكي ودون ان يؤدى إشراك الشعب في الحكم إلى انتزاع السلطة كلية من النبلاء، ولقد أدى امتزاج العناصر الثلاثة على النقيض من ذلك، إلى قيام دولة مثالية كاملة. ولما كان الاحتكاك بين العامة والشيوخ، هو الذي حقق هذا الكمال، فقد رأيت ان اعرض في الفصلين التاليين عرضاً وافياً الطريقة التي تحقق فيها ذلك.

هل كان في الإمكان إقامة حكم في روما يقضي على الشحناء بين الشعب والنبلاء؟
كنا نتحدث قبل قليل عن النتائج الناجمة عن أوجه الخلاف بين الشعب ومجلس الشيوخ. ولما كانت هذه الخلافات قد استمرت حتى عهد "الغراتشيين"[8] الذين تشبهوا بالملوك، إذ تحولت آنذاك إلى الأسباب التي أدت إلى القضاء على الحرية، فقد يتبادر إلى ذهن أي إنسان ان يتساءل، هل كان في استطاعة روما ان تحقق الأشياء المجيدة التي حققتها، لو لم توجد هذه الخلافات. وهنا يبدو لي ان من الجدير ان نبحث فيما إذا كان في الإمكان إقامة نظام للحكم في روما، من شأنه تبديد هذه الخلافات، وإزالتها لو قدر له ان يقوم. وللبحث في هذا الموضوع، أرى لزاماً علينا ان ندرس أوضاع الجمهوريات التي كانت في نجوة من العداوات والفتن، والتي تمكنت مع ذلك من التمتع بحياة طويلة من الحرية، وان تتحدى أشكال حكوماتها، لنرى هل كان في الإمكان تطبيقها في روما.

وقد سبق لي ان أشرت ان إسبارطة تقوم بين الدول القديمة نموذجاً على هذه الجمهوريات، كما تقوم البندقية بين الدول الحديثة طرازاً لها. فقد أقامت إسبارطة لها ملكاً يحكمها وإلى جانبه في الحكم مجلس صغير للشيوخ. أما البندقية فلم تميز بين مختلف الأسماء بالنسبة إلى المشتركين من أصحابها في الحكومة، بل صنفت جميع اللائقين بالمناصب الإدارية في مصنف واحد أطلقت عليه اسم النبلاء أو السادة. وكان الفضل في هذا الأسلوب للحظ وحده لا لحكمة مشرعيها، فأن الكثيرين من الناس الذين تجمعوا حول هذه الشطآن الرملية التي تقوم عليها المدينة الآن، والذين اختاروها مقراً لهم بالنسبة إلى الأسباب التي سبق لي شرحها، أخذوا يزدادون عدداً، إلى أن بلغوا حداً تطلب وضع الشرائع اللازمة لتنظيم حياتهم إذا أرادوا الاستمرار فيها، وهكذا ابتكروا شكلاً جديداً لحكومتهم. وكانوا قد ألفوا الاجتماع إلى بعضهم البعض للتحدث في شؤون مدينتهم، وهكذا قرروا عندما بدا لهم ان عدد سكان المدينة اصبح كافياً لتشكيل كيان سياسي، عدم إشراك جميع من يفد حديثاً إلى المدينة للعيش فيها، في شؤون الحكومة. وعندما وجدوا مع مضي الزمن ان هناك عدداً كبيراً من السكان في المدينة قد حيل بينهم وبين الحكم، ورغبة منهم في إضفاء صفة الاحترام على الحاكمين، أطلقوا عليهم اسم السادة النبلاء، وعلى الباقين اسم العامة.

...

[وعلى ضوء ما تقدم كله] أجد نفسي واثقا كل الثقة ان إقامة جمهورية يقصد لها البقاء طويلا، يتطلب وضعها على غرار ما كانت عليه إسبارطة والبندقية، على ان يُشرع في تقوية مركزها وجعله منيعا بحيث تصبح صعبة المراس على كل من يحلم في الاستيلاء عليها عن طريق هجوم مباغت يقوم به عليها، وعلى ان لا توسع من الناحية الأخرى، إلى الحد الذي يظهرها بمظهر من يبعث الرهبة والفزع عند جيرانه. ولا ريب انها ستتمكن بهذه الطريقة من التمتع بشكل الحكومة الذي اختارته لنفسها أمداً طويلاً. ولا تشن الحروب في العادة على الدول الا لسببين أولهما، الرغبة في إخضاعها، وثانيهما الخشية منها. وإذا ما اتبعت الاحتياطات السابقة، انعدم هذان السببان، وذلك لأن تحصين الدولة وجعلها منيعة بحيث يتعذر الاستيلاء عليها عن طريق الهجوم، يبعد فكرة المحاولة نفسها. عن كل طامع في السيطرة عليها. وإذا كانت في الوقت نفسها راضية عما تملكه، واتضح عن طريق الاختبار، ان لا مطامح لها، فلن يدور في خلد أحد شن الحرب عليها ليدرأ عن نفسه خطر هجومها عليه، وهو خطر يخشاه ويفزع منه، ولا سيما إذا نص دستورها ونصت شرائعها على تحريم التوسع. وليس لدي أدنى شك في ان الحفاظ على مثل هذا التوازن يؤدي إلى وجود حياة سياسية أصيلة، وإلى سيادة الهدوء والطمأنينة في مثل هذه المدينة.

ولما كانت جميع القضايا الإنسانية من الناحية الأخرى، في حالة مستمرة من الحركة والتمدد، ولا يمكن لها ان تقف جامدة راكدة، فان هذه القضايا تكون معرضة دائماً، اما إلى التحسن أو إلى التدهور والانهيار، وقد تدفعك الضرورة إلى القيام بأعمال كثيرة، قد لا يقف التعقل والمنطق إلى جانبها. وهكذا فإذا أقيمت إحدى الدول على أساس الحفاظ على الوضع الراهن دون أي تطلع إلى توسع أو تمدد. ثم دفعت بها الضرورة إلى التوسع فان مبادئها الأساسية تنقلب رأساً على عقب، وسرعان ما تصبح معرضة للخراب. أما إذا آثرت السماء من الناحية الأخرى، ان تكون كريمة معها وان تجنبها أخطار الحروب، فان الكسل والتراخي سرعان ما يعرضانها إما إلى التخنث، أو إلى تعدد الشيع والأحزاب، وكلا الأمرين يؤدي بصورة فردية أو مجتمعة إلى انهيارها.

ولما كان من المستحيل في رأيي، الإبقاء على التوازن قائماً بشكل رائع يضمن استمرار سير الأمور في هذا الطريق الوسط المعتدل، فأن من واجب كل من يقيم جمهورية، ان يدرس احتمال قيامها بدور أكثر كرماً وشرفاً، بان يجعل منها، في حالة اضطرارها إلى التوسع بدافع الضرورة، دولة قوية تستطيع الحفاظ على ما امتلكته. وهكذا إذا عدنا إلى النقطة الأولى التي بدأنا منها، والتي أثرناها، فأنا مقتنع بضرورة تبني الطراز الروماني للدستور، لا أي طراز آخر، وذلك لأن العثور على طريق وسط، بين النقيضين المتباعدين، أمر متعذر وغير ممكن.

أما المشاحنات بين العامة والشيوخ، فيجب النظر اليها، على انها إزعاج لا بد منه، لتحقيق العظمة التي وصلت اليها روما. وبالإضافة إلى الأسباب التي سبق لنا تعدادها، لإظهار ما لسلطة المدافعين عن الشعب (التربيون) من ضرورة لحماية الحرية. فمن السهل علينا ان نرى الفوائد التي يمكن للجمهورية ان تجنيها عندما تكون هناك سلطة، تستطيع توجيه الاتهامات في المحاكم، وهي سلطة كانت ضمن الصلاحيات التي خولها المدافعون عن الشعب ...

أهمية المقاضاة العلنية في الحفاظ على الحرية في الجمهورية :
ليست هناك سلطة اكثر نفعاً، واشد ضرورة للعناية بالحريات في الدولة، من تلك التي تمنح إلى أولئك الذين يندبون للعناية بهذه الحريات والتي تخولهم مقاضاة بعض المواطنين الذين يرتكبون الجنح والجرائم المؤذية لحرية الدولة أمام جماهير الشعب، أو أمام بعض القضاة في المحاكم. ولمثل هذا التنظيم فائدتان نافعتان كل النفع في حياة الجمهوريات. اما الفائدة الأولى، فهي ان هذا التنظيم يحمل المواطنين، خوفاً من القضاء والاتهام، على تجنب القيام بأي عمل يضر بمصلحة الدولة، لأنهم ان حاولوا ذلك، تعرضوا للعقوبة، مهما كانت منازلهم، ومهما علت مراتبهم. واما الفائدة الثانية، فهي ان يؤمن المتنفس للمشاعر السيئة التي قد يحس بها الأهلون في بعض المدن تجاه مواطن معين، لسبب أو لآخر، وقد تنمو مع الزمن، وإذا تعذر وجود هذا المتنفس، تفاقمت المشاعر إلى الحد الذي يدفعها إلى القيام بأعمال غير طبيعية، وبأساليب شاذة قد تُطيح بالجمهورية كلها في مهاوي التهلكة، والكارثة. فليس ثمة من وسيلة افضل لدعم الجمهورية، وتقوية مركزها، من مثل هذه التنظيمات، التي تؤمن عن طريق القانون المتنفس الصالح للمشاعر المتقلبة التي تفسد على الجمهورية أمنها وهدوءها.

ويمكن التدليل على هذه الحقيقية بعدد من الشواهد والأمثلة، لعل في مقدمتها ما أورده تيتوس ليفي عن كوريولانوس (Coriolanus)[9]. ويحدثنا ليفي بأنه عندما اشتد برم النبلاء بالعامة، لاعتقادهم بتوسع سلطانهم عن طريق تعيين حماة الشعب (التربيون)، وعندما حلت بمدينة روما المجاعة من جراء ندرة المؤن فيها، مما أرغم مجلس الشيوخ على طلب القمح من صقلية، اقترح كوريولانوس، وكان خصماً للعامة، ان الوقت قد حان لإيقاع العقوبة بهم، وحرمانهم من السلطات التي حصلوا عليها على حساب النبلاء. وهكذا أشار كوريولانوس بالإبقاء على العامة جياعا، ونصح بعدم توزيع الحنطة المستوردة عليهم. وعندما وصلت نصيحته إلى أسماع الشعب، ثارت ثائرته، واشتد سخطه على الرجل، وبلغ هذا السخط حداً كاد يعرضه للقتل، عندما كان يغادر مجلس الشيوخ، لو لم يسرع حماة الشعب (التربيون) إلى الدفاع عنه. ولا ريب في ان المرء يرى في هذا الحادث، صحة ما سبق لي قوله، وهو ما في لجوء الجمهوريات إلى خلق متنفس مشروع لغضب الجماهير، من ضرورة وجدوى، ولا سيما بالنسبة إلى مواطن معين، وذلك لأن انعدام الطرق الطبيعية يدفع الجماهير إلى طرق وأساليب غير عادية، تؤدي حتماً إلى نتائج اكثر سوءاً من الطرق العادية.

والسبب في هذا، انه على الرغم من احتمال ارتكاب الخطأ عند إيقاع العقاب بمواطن بالطريقة العادية، الا ان من النادر، أو من المستحيل ان يقع أي اضطراب في الجمهورية، إذ لا يكون هناك عند تنفيذ الحكم مجال لاستئنافه إلى قوات خاصة أو أجنبية، ومثل هذه الحالات هي التي تؤدي إلى انهيار الحريات المدنية. وعلى النقيض من ذلك، فأن القوة التي تستخدم تكون صادرة عن سلطة عامة تعمل ضمن حدود معينة، ولا تحاول هذه القوة تخطي هذه الحدود للقيام بأعمال قد تؤدي إلى دمار الجمهورية.

ولا أرى بي حاجة إلى دعم هذا الرأي بإيراد أمثلة أخرى من العصور القديمة، بالإضافة إلى المثل الذي أوردته عن كوريولانوس. إذ يجب في هذا الصدد على الجميع، في أي حال من الأحوال، إمعان النظر في الويلات التي كان من المحتوم ان تتعرض لها الجمهورية الرومانية، لو تمكنت الجماهير من قتله على ذلك النحو الفوضوي، إذ ان هذا القتل سيكون عملاً من أعمال الانتقام الشخصي الذي يستثير الخوف، مما يؤدي إلى القيام بعمل دفاعي لدرء الخطر، وهذا يقود بدوره إلى حشد الأنصار، الذي يعني في حد ذاته تأليف الأحزاب في المدينة. وهو ما كان يقضي، حتما، بسقوطها أو انهيارها. أما وقد سويت القضية على أي حال، على أيدي أشخاص مزودين بالسلطة اللازمة، فلم يعد ثمة منفذ لوقوع الشرور التي كانت ستنجم حتماً، لو سويت القضية عن طريق السلطة الفردية.

ولقد رأينا في عصرنا الحاضر ابتكارات أدخلت في جمهورية فلورنسا بسبب عجز الجماهير عن إيجاد المنفذ الطبيعي للأهواء التي استثارها أحد المواطنين من أبنائها في نفوسهم. وقد وقع هذا في الوقت الذي غدا فيه مركز فرانسيسكو فالوري في المدينة مشابهاً لمركز أي أمير في مدينة أخرى. وقد اعتبره الكثيرون رجلاً طموحاً ينتظر منه ان يلجأ بسبب جرأته، وشدة نشاطه إلى أساليب غير دستورية. ولما لم يكن هناك سبيل آخر لمقاومته الا عن طريق تشكيل حزب منافس، فقد نتج عن ذلك،انه شرع في جمع الأعوان لحماية نفسه، وذلك لأنه لم يكن يخشى شيئاً الا إذا اتخذت خطوات غير استثنائية. ولما لم تكن هناك من الناحية الأخرى لدى خصومه وسائل عادية متوافرة للقضاء عليه، فقد حزموا أمرهم على استخدام وسائل أخرى، وهكذا قرروا حمل السلاح ضده. ولو تمكنوا في مثل هذه الحالة من معارضة فالوري بالوسائل الدستورية، لتحقق وضع حد لسلطته دون الإضرار بأي شخص آخر عداه، أما وقد دعت الحاجة إلى إتباع الأساليب غير الدستورية، فان الضرر لم يلحق به وحده، بل لحق بالكثيرين من المواطنين النبلاء أيضاً.

وفي وسع الإنسان ان يقدم تأييداً للنتيجة التي توصلنا إليها قبل قليل، حادثة أخرى وقعت فعلاً في فلورنسا بعد هذه الحادثة بقليل. وهي تتعلق ببيرو سوديريني[10]، وهي عائدة إلى افتقار هذه الجمهورية إلى أية وسيلة تستطيع بواسطتها اتخاذ إجراء قانوني ضد الطموح الذي قد يبديه بعض المواطنين الأقوياء. فالحكم على مواطن قوي يستلزم ان يصدر عن اكثر من ثمانية قضاة. ومن الواجب ان يكون عدد القضاة كبيراً، لأن قلة عددهم تجعلهم يعملون طبقاً لما ينتظر من القلة ان تعمله. ولو كانت هذه هي الحالة لتمكن المواطنون اما من اتهامه إذا أساء السلوك، وفي مثل هذه الطريقة يجدون متنفساً لما يشعرون به من غيظ وعداء، دون ان يضطروا إلى طلب تدخل الجيش الأسباني، أو لما جرؤوا إذا لم يكن سلوكه سيئاً، على القيام بأي إجراء ضده، خشية ان يعرضوا أنفسهم لخطر الاتهام. وهكذا كان من المحتم ان تتوقف الشهوة التي ولدت الفضيحة عن العمل في كلتا الحالتين.

وهكذا نصل إلى الاستنتاج القائل بإنه عندما تستدعي فئة من الناس تقيم في مدينة من المدن القوى الأجنبية لمساندتها، فان من المسلم به ان هذا الاستدعاء ناجم عن النقص الموجود في دستور تلك المدينة، من حيث عدم توفيره المنظمة التي تؤمن المتنفس لأحاسيس الشر التي يتعرض لها جميع الناس، والذي يغنيهم عن اللجوء إلى الأعمال غير الدستورية. وتقوم الطريقة المثلى لسد هذا العجز في توفير العدد الكافي من القضاة الذين يمكن توجيه الاتهامات أمامهم، وفي النظر إلى القضاء على انه مهمة نبيلة وشريفة.

وقد وفرت روما جميع هذه الأمور بشكل ضمن في جميع المنازعات الكبرى، التي نشبت بين مجلس الشيوخ والعامة، عدم تفكير أي من الفريقين، أو أي مواطن فرد، باستدعاء القوى الأجنبية إلى المدينة، إذ ان توافر العلاج في الداخل قد أبعد الحاجة إلى البحث عنه في الخارج. وعلى الرغم من ان الأدلة التي أوردتها حتى الآن كافية لدعم نظريتي، وما أراه، فإنني عازم على الإتيان بدليل جديد آخر، استقيته من تاريخ تيتوس ليفي. فهو يروي انه حدث في مدينة كلوسيوم، التي كانت تعتبر اعظم مدن توسكانيا في ذلك الحين، إن اعتدى شخص يدعى كولومون على عفاف شقيقة شخص آخر يدعى آردنز، ولما وجد هذا نفسه عاجزاً عن الوصول إلى العدالة، بسبب ما يتمتع به خصمه من قوة ونفوذ، مضى إلى الغاليين الذين كانوا يسيطرون آنذاك على المقاطعة التي نطلق عليها الآن اسم "لومبارديا"، وناشدهم المجيء بقواتهم المسلحة إلى كلوسيوم، مشيراً إليهم ان من مصلحتهم الثأر له من الحيف الذي لحق به. ولو تمكن آردنز من إحقاق حقه، عن طريق قوانين المدينة، لما استثار قوات البرابرة على مدينته...

***

عن نوع الشعوب التي تحتم على الرومان قتالها ومدى الإصرار الذي أظهرته هذه الشعوب في الدفاع عن حريتها
... وذا كان هناك من يسأل نفسه، كيف يحدث مثلاً ان تكون الشعوب القديمة اكثر تعشقاً للحرية من شعوب اليوم، فإنني اعتقد بأن الرد على هذا السؤال يقوم في ان هذا الوضع ناجم عن نفس السبب الذي يجعل الناس اليوم أقل جرأة مما كانوا عليه في الماضي، وهو سبب يقوم كما أظن في الخلاف الموجود بين تعليمنا وبين التعليم في الأيام الغابرة وذلك نتيجة للبون الموجود بين ديانتنا اليوم وديانة تلك الأيام. فديانتنا التي علمتنا الحقيقة والطريقة الصحيحة في الحياة، تقودنا إلى التقليل مما نوليه من تقدير للتكريم الدنيوي. وهذا هو السبب الذي يدعو "السادة" الذين كانوا يجلون هذا التكريم الدنيوي اكثر من إجلالنا له، والذين كانوا ينظرون إليه كخير ما يأتيهم من خير، وهي نظرة تتمثل في أعمالهم التي انطبعت بطابع التفوق في العنف على ما يطبع أعمالنا منه. ويتضح هذا في الكثير من أنظمتهم. ولنبدأ أولاً بالمقارنة بين عظمة قرابينهم والتواضع الذي يميز قرابيننا. فطقوس تقديمنا للقرابين رقيقة وناعمة، بدل ان تكون آمرة وقوية، وليس فيها من عرض للشجاعة أو للشراسة. أما طقوسهم، فلم تكن تفتقر إلى الفخفخة ولا إلى الروعة، وكانت هناك بالإضافة إليها مراسيم قربانية يكثر فيها سفك الدماء، وتتميز بالقوة والشراسة، إذ تذبح فيها أعداد كبيرة من الحيوانات. وكانت هذه المناظر بالنسبة، إلى فظاعتها، تحمل الناس على اكتساب صفة الفظاعة أيضاً. يضاف إلى هذا ان الديانة القديمة لم تكن تضفي الأمجاد السماوية على الرجال الا إذا كانوا مفعمين بالأمجاد الأرضية، كقادة الجيوش مثلاً، وحكام الجمهوريات. وقد مجدت ديانتنا المتواضعين من الرجال والميالين إلى التأمل بدلاً من تمجيد رجال العمل، وقد وضعت للرجل مثله العليا في الخير والتواضع وإنكار الذات واحتقار الأشياء الدنيوية، بينما وضعت الديانة الأخرى للرجل مثله العليا في العظمة والقوة البدنية، وكل ما يدعو إلى بعث الجرأة في قلوب الناس. وإذا كانت ديانتنا تطلب من الرجل ان يكون قوياً، فأن القوة التي تطلبها فيه هي ما يمكنه على احتمال الآلام لا على القيام بالأمور التي تتطلب الجرأة.

ويبدو ان هذه الصورة من صور الحياة قد أدت إلى إضعاف العالم، وإلى تقديمه فريسة سائغة للشريرين الغلاظ القلوب، الذين يقومون على إدارته بنجاح وأمان، طالما انهم يعرفون ان عامة الرجال الذين اتخذوا من الفردوس غاية لهم، يدرسون الطريقة المثلى للاحتمال، لا الطريقة المثلى للثأر لما أصابهم من أضرار. ولكن على الرغم مما يبدو على العالم من ضعف وتخنث وعلى الرغم مما يبدو على السماء من عجز، فأن هذا الوضع ناجم ولا ريب عن إحجام أولئك الذين فسروا ديننا في حدود "دعه يعمل" لا في حدود الشجاعة وتعابيرها. إذ لو فكر هؤلاء بأن الدين يسمح لنا بأن نمجد وطننا وان ندافع عنه، لرأوا انه يريد منا أيضاً ان نحبه ونجله، وان ندرب أنفسنا على النحو الذي يمكننا من الدفاع عنه.

ولا ريب في ان هذا الشكل من أشكال التربية، وهذه التفاسير السيئة والخطيرة، هي التي تدعو إلى الحقيقة الماثلة، وهي اننا نرى في العالم عددا أقل من الجمهوريات مما كان عليه في الأيام السالفة، واننا لا نجد تبعاً لذلك لدى الشعوب نَفسَ تعشّق الحرية الذي كان قائماً لديها في الماضي.

...

على أي حال، ومهما كان الوضع، واجه الرومان في جميع أنحاء العالم، مهما كانت صغيرة، التحاماً يضم عدداً من الجمهوريات الحسنة التسلح، والعنيدة عناداً متطرفاً في الدفاع عن حريتها، مما يظهر انه لو لم تكن فضيلة الرومان [شجاعتهم]، من طراز نادر ورفيع للغاية لما تمكنوا أبداً من التغلب عليها. وأني لأكتفي بسرد مثال واحد، يقيم الدليل على صحة ما أقول، وهو مثال السمنيين. فمن الأمور البارزة كما يعترف ليفي، ان يكونوا على هذا النحو من القوة وان تكون أسلحتهم على هذه الدرجة من المضاء، بحيث استطاعوا ان يصمدوا أمام الرومان حتى أيام بابيريوس كيرسور، القنصل، وابن بابيربوس الأول، أي ان يصمدوا أمامهم مدة ست وأربعين سنة على الرغم من الهزائم المفجعة التي منوا بها، وعلى الرغم مما لحق بمدنهم من خراب، وبسكان بلادهم من تقتيل وذبح، وهي مذابح بلغت من ضخامتها إلى الحد الذي غدت فيه هذه البلاد التي كانت مأهولة في الماضي بعدد كبير من المدن والسكان، خالية مهجورة، بعد ان كانت ذات يوم حسنة النظام قوية، وكان في مكنتها ان لا تقهر لو لم تواجه فضيلة كفضيلة الرومان.


ترجمة: خيري حمّاد


يتبع

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:47 PM

مكيافيلي: مختارات من كتاب "الأمير"




... علينا أن نرى الآن الطرق والقواعد التي يجب على الأمير أن يسير فيها بالنسبة إلى رعاياه وأصدقائه. ولما كان الكثيرون قد أسهبوا في الكتابة عن هذا الموضوع، فإني أخشى أن تبدو كتابتي عنه غرورا مني لا سيما وإنني اختلفت، في هذا الموضوع خاصة، عن رأي الآخرين. ولكن لما كان من قصدي أن أكتب شيئا يستفيد منه مَن يفهمون، فإني أرى أن من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته، لاسيما وأن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة، وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها، وأن الذي يتنكر لما يقع سعيا منه وراء ما يجب أن يقع، إنما يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلا مما يؤدي إلى الحفاظ عليه. ولا ريب في أن الإنسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء، يصاب بالحزن والأسى عندما يرى نفسه محاطا بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم. ولذا فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها...


10: كيف تقاس قوة جميع الدول :

عند البحث في طبيعة هذه الإمارات، أرى من الضروري، أن نهتم بنقطة أخرى وهي: هل يتمتع الأمير بذلك المركز الذي يمكنه، في حالة الحاجة، من المحافظة على نفسه؟ أو هل هو في حاجة دائمة إلى مساعدة الآخرين؟ وخير وسيلة لإيضاح ذلك أقول أنني أعتبر الذين يستطيعون المحافظة على مراكزهم، [هم] أولئك الذين يملكون الكثير من الرجال والمال، ويستطيعون حشد جيش كاف، ويصمدون في الميدان بوجه كل من يهاجمهم. وأعتبر من يحتاجون إلى الآخرين، [هم] أولئك الذين لا يستطيعون خوض المعارك ضد أعدائهم، فيضطرون إلى اللجوء إلى قلاع أسوارهم، واتخاذ موقف الدفاع... أما الحالة الثانية، فليس هناك ما يقال سوى تشجيع مثل هذا الأمير على تزويد مدينته بالمؤن، وتقوية وسائلها الدفاعية، وأن لا يزعج نفسه بأحوال الريف المحيط بها. ولا ريب أن الآخرين سيترددون دائما في مهاجمة الأمير الذي كان يجيد تحصين مدينته، ويحسن إدارة حكومة رعاياه،... ذلك لأن الناس يكرهون دائما المغامرات التي يتوقعون فيها لقاء المصاعب، ولا يبدو قط من السهل الهجوم على رجل أجاد الدفاع عن مدينته، وقابله رعاياه بالحب.


14: واجبات الأمير تجاه المتطوعة :

على الأمير أن لا يستهدف شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها، وأن لا يفكر أو يدرس شيئا سواها، إذ أن الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة. ولا تقتصر هذه الفضيلة القائمة فيها على المحافظة على أولئك الذين يولدون أمراء، بل تتعداها إلى مساعدة الآخرين، من أبناء الشعب، على الوصول إلى تلك المرتبة. وكثيرا ما يرى الإنسان أن الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء، أكثر من تفكيره بالسلاح، كثيرا ما يفقد إمارته. ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدانها، وأن التمرس فيه وإتقانه هو السبيل إلى الحصول على الدول والإمارات.

...

فعلى الأمير، تبعا لذلك، أن لا يسمح لأفكاره بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب، وعليه في أيام السلم أن يكون أكثر اهتماما بها من أيام الحرب، وهذا ما يستطيعه بواسطة أحد سبيلين هما العمل والدراسة. فمن ناحية العمل يتوجب عليه بالإضافة إلى الإبقاء على جنوده في حالة من التدريب والنظام أن يشغل وقته باستمرار في الصيد، وأن يعود جسمه على المشاق، وأن يدرس في غضون ذلك طبيعة البلاد، كارتفاع الجبال، وعمق الوديان، وامتداد السهول وطبيعية الأنهار والمستنقعات. أجل عليه أن يعنى بجميع هذه الأمور بالغ العناية، فمعرفته هذه مجدية بطريقتين: أولهما، أن يعرف الإنسان كل شيء عن بلاده وأن يقرر أحسن السبل للدفاع عنها. وثانيهما، أن معرفته وتجاربه في منطقة واحدة تحمله على تفهم المناطق الأخرى التي يضطر إلى مراقبتها بسهولة. ذلك لأن الجبال والوهاد والسهول والأنهار في تسكانيا، مثلا، تشبه إلى حد ما نظائرها في الإمارات الأخرى. وهكذا يستطيع المرء عن طريق معرفته بإحدى المناطق، أن يعرف أحوال المناطق الأخرى. والأمير الذي يفتقر إلى هذه الموهبة، تنعدم فيه أولى الجوهريات التي يجب أن تتوفر في القائد، إذ أنها هي التي تعلمه كيف يجد عدوه، وأين يقيم معسكره، وكيف يقود جيوشه، ويخطط لمعاركه، ويفرض الحصار على المدن، آخذا الفوائد إلى جانبه.

وقد كال الكتاب والمؤرخون المديح على فيلوبومين، أمير الآخيين، لأنه في أوقات السلم كان لا يفكر بشيء آخر سوى الحرب وأساليبها، وكان، عندما يذهب إلى الريف مع أصدقائه، كثيرا ما يقف ليسألهم: إذا كان العدو على ذلك التل، ورأينا أنفسنا هنا مع جيشنا، فلمن تكون ميزة الموقع؟ وكيف نستطيع أن نتقدم لنصل إليه بسلام، محتفظين بنظام قواتنا؟ وإذا رغبنا في الانسحاب فماذا يتحتم علينا أن نفعل؟ وإذا انسحب العدو، فكيف يتوجب علينا أن نلحق به؟ وكان يضع أمامهم، في الطريق، جميع الاحتمالات التي قد تحدث لأي جيش ويستمع إلى آرائهم، ويعطي رأيه ساندا إياه بالحجج والبراهين. وبفضل هذه الأفكار الدائمة كان يجد نفسه دائما مستعدا لمواجهة أي حادث وهو على رأس جيوشه.

أما بالنسبة إلى العقل، فعلى الأمير أن يقرأ التاريخ وأن يدرس أعمال الرجال البارزين، فيرى أسلوبهم في الحروب، ويتفحص أسباب انتصاراتهم وهزائمهم، ليقلدهم في هذه الانتصارات، ويتجنب الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى الهزائم، وأن يفعل كما فعل غيره من الرجال في الماضي، ومن تقليد لشخص انهال عليه المديح والتمجيد وترك مآثره وأعماله مكشوفة للجميع، وهو ما يقال أن الاسكندر الكبير قد فعله في تقليد أخيل، وقيصر في تقليد الاسكندر، وشيبيو في تقليد كورش. ولا ريب في أن كل من يقرأ حياة كورش كما كتبها اكزونوفون، سيرى في سيرة شيبيو نجاحه في تقليد سلفه، وكيف تقيد تماما بصفات كورش التي عددها اكزونوفون، والتي تنطوي على الرأفة والعطف والإنسانية والتحرر الفكري.

وعلى الأمير العاقل أن يتبع أساليب مماثلة، وأن لا يظل عاطلا عن العمل في أوقات السلام، بل يستخدمها بجد وجهد، حتى إذا ما دارت عجلة الحظ وجدته متأهبا لمواجهة ضرباتها، وقادرا على التغلب على كل صعوبة.


15: الأمور التي يستحق عليها الرجال ولا سيما الأمراء، المديح أو اللوم :

... إن جميع الرجال ولا سيما الأمراء الذين يوضعون في مناصب رفيعة، يشتهرون بمزايا معينة، قد تكون سببا في إضفاء المديح أو اللوم عليهم. وهكذا قد يُعتبر أحد الأمراء كريما متحررا بينما يُعتبر الآخر بخيلا شحيحا (وقد آثرت استخدام هذا الاصطلاح التوسكاني)، وقد يُعتبر أحدهم ذا أريحية والآخر ذا شُح وطمع، أو قاسيا فظيعا، والثاني رحيما. وقد يُعتبر الأول ناكثا لوعده والثاني وافيا به، أو ****ا حائر العزيمة والآخر عنيفا قوي الشكيمة، أو ودودا إنسانيا والآخر متكبرا متعجرفا، أو داعرا فاسقا والآخر نقيا طاهرا، أو صريحا والآخر ماكرا، أو قاسيا والآخر لينا أو جادا والآخر هازلا أو متدينا ورعا والآخر كافرا ملحدا، وهكذا دواليك... وإني لأعرف أن كل إنسان يقر ويعترف أن من الصفات المحمودة في الأمير أن يتصف بجميع ما ذكرت من صفات ترمز إلى الخير، ولكن لما كان من المستحيل أن يمتلكها الإنسان جميعا وأن يتبعها، لأن الأوضاع الإنسانية لا تسمح بذلك، فإن من الضروري أن يكون من الحصافة والفطنة بحيث يتجنب الفضائح المترتبة على تلك المثالب التي قد تؤدي به الى ضياع دولته، وأن يقي نفسه، إن أمكن، من تلك التي قد لا تؤدي إلى مثل هذا الضياع، على أن يمارسها دون أي تشهير، إذا لم يتمكن من التخلي عنها. وعليه أن لا يكترث بوقوع التشهير بالنسبة إلى بعض المثالب إذا رأى أن لا سبيل له إلى الاحتفاظ بالدولة بدونها، إذ أن التعمق في درس الأمور يؤدي إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل تؤدي إذا اتبعت إلى دمار الإنسان. بينما هناك أشياء أخرى تبدو كرذائل ولكنها تؤدي إلى زيادة ما يشعر به الإنسان من طمأنينة وسعادة.


16: السخاء والبخل :

إذا ما عدنا الآن إلى أولى الصفات التي عددناها في السابق، تبين لي أن من واجبي القول ان من الخير أن يعتبر الإنسان كريما سخيا، ومع ذلك فإن السخاء على النحو الذي يفهمه العالم قد يؤدي إلى إيذائك. إذ أن ممارسته على شكل فضيلة، وبالطريقة الصحيحة، لا تؤدي إلى معرفة الناس به، وتجعله عرضة بالتالي لأن تتهم بالمثلبة المعاكسة. ولكن على الإنسان الذي يرغب في اشتهار أمره بالسخاء بين الناس أن لا يتغافل عن أي نوع من أنواع العرض الذي ينطوي على التفخيم إلى أقصى الحدود، حتى إن الأمير الذي تكون طبيعته من هذا النوع، سيستنزف عن طريق هذه الوسائل جميع إمكانياته، وسيجد نفسه مضطرا في النهاية، إذا أراد الاحتفاظ بشهرته في السخاء، إلى فرض ضرائب ثقيلة على شعبه، وأن يصبح مبتزا، وأن يقدم على كل عمل يؤدي إلى كسب المال. وإذا ما انحدر إلى مثل هذه الحالة، بدأ شعبه يكرهه، وانفض عن احترامه نظرا لفقره، ويكون بسخائه قد أضر بالكثيرين في سبيل نفع الأقلية، وسيشعر بأول اضطراب مهما ضؤل شأنه، ويتعرض للخطر بعد كل مجازفة. وإذا ما أدرك الأمير ذلك، ورغب في تغيير نظام معاملته، تعرض فورا لتهمة الشح أو البخل.

وعلى الأمير، تبعا لذلك، إذا كان يعجز عن ممارسة فضيلة الكرم دون المجازفة باشتهار أمره، أن لا يتعرض، إذا كان حكيما عاقلا، على تسميته بالبخل. وسيرى الناس مع مضي الزمن إنه أكثر سخاء مما كانوا يظنون، وذلك عندما يرون إنه عن طريق تقتيره أصبح يكتفي بدخله، ويؤمن وسائل الدفاع اللازمة ضد كل مَن يفكر بإشهار الحرب عليه، ويقوم بمشاريع كثيرة دون أن يرهق شعبه، ويكون بذلك كريما حقا مع جميع أولئك الذين لا يأخذ منهم أموالهم، وهم كثر للغاية، وشحيحا مع أولئك الذين لا يهبهم المال، وهم قلة ضئيلة. وقد رأينا في عصرنا الأعمال العظيمة التي يحققها أولئك الذين يُوصَمون بالبخل. أما الآخرون فمصيرهم إلى الدمار. وعلى الرغم من أن البابا يوليوس الثاني قد اشتهر بالكرم واستعمل شهرته هذه في سبيل ارتقائه سدة البابوية، إلا أنه لم يحاول الاحتفاظ بالكرم بعد ذلك، ليؤمن الوسائل اللازمة لتمكينه من شن الحروب. وقد قام ملك فرنسا الحالي بشن عدد من الحروب دون أن يفرض على شعبه أية ضرائب استثنائية، لأنه غطى بتقتيره الماضي جميع النفقات الطارئة التي تعرض لها. ولو كان ملك أسبانيا الحالي كريما سخيا، لما تمكن من إقحام نفسه في هذا العدد الكبير من المشاريع التي تكللت جميعها بالنجاح.

ولهذه الأسباب كلها، على الأمير أن لا يكترث كثيرا باشتهاره بالبخل، هذا إذا رغب في تجنب سرقة شعبه، وفي أن يكون قادرا على الدفاع عن نفسه، وتجنب الفقر وما يرافقه من مهانة، وأن لا يجبر نفسه مرغما على سلب الناس أموالهم، فالُشح هو إحدى الرذائل التي تمكنه من أن يحكم... وليس هناك ما هو أشد ضررا على نفسك من الجود والكرم. إذ باستعمالك له تفقد قدرتك على استخدامه، وتصبح إما فقيرا وإما حقيرا، أو إذا رغبت النجاة من الفقر تضحي نهابا سلابا، يكرهك رعاياك. وعلى الأمير أن يتجنب، قبل كل شيء، أن يوصم بالحقارة، أو يتعرض للكراهية، ولا ريب في أن الكرم سيقوده إلى إحدى هاتين النتيجتين. ولذا فمن الأفضل أن تكون بخيلا، فهذا يعرضك للتحقير دون الكراهية، على أن تكون مرغما بدافع الحاجة إلى أن تصبح لصا سلابا، مما يعرضك للتحقير والكراهية معا.


17: الرأفة والقسوة وهل من الخير أن تكون محبوبا أو مهابا :

إذا ما استطردنا في حديثنا إلى الصفات الأخرى التي ذكرناها سابقا، فإني أرى أن على كل أمير أن يرغب في أن يعتبره رعاياه رحيما لا قاسيا فظيعا. ولكن عليه مع ذلك أن لا يسيء استعمال هذه الرحمة... ولذا على الأمير أن لا يكترث بوصمه بتهمة القسوة، إذا كان في ذلك ما يؤدي إلى وحدة رعاياه وولائهم... ويستحيل على الأمير الجديد، من دون الأمراء جميعا، أن ينجو من سمعة القسوة والصرامة، ذلك لأن الدول الجديدة تتعرض دائما للأخطار الكثيرة. ولقد قال فرجيل على لسان ديدو:

"على كل أمير أن يواجه الحالات الحرجة ومقتضيات المُلك الجديدة باتخاذ التدابير المناسبة وحماية المُلك بإقامة حراس على مسافات بعيدة".

ومع ذلك، عليه أن يكون حذرا في تصديق ما يقال له. وفي العمل أيضا، وأن لا يخشى من ظله الخاص به. وأن يسيطر بطريقة معتدلة، يلفها حُسن التبصر والإنسانية، حتى لا تؤدي به ثقته المفرطة إلى الإهمال، وعدم الاهتمام، ويطوح به حياؤه إلى التعصب وعدم التسامح.

وهنا يقوم السؤال عما إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا أكثر من أن تكون مهابا، أو أن يخافك الناس أكثر من أن يحبوك. ويتلخص الرد على هذا السؤال، في أن من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين الأمرين فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبوك، هذا إذا توجب عليك الاختيار بينهما. وقد يقال عن الناس بصورة عامة، أنهم ناكرون للجميل، متقلبون، مراءون ميالون إلى تجنب الأخطار، وشديدو الطمع. وهم إلى جانبك طالما إنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم، وحياتهم، وأطفالهم، وكل ما يملكون، كما سبق لي أن قلت، طالما إن الحاجة بعيدة نائية، ولكنها عندما تدنو يثورون. ومصير الأمير (الذي يركن إلى وعودهم دون اتخاذ أية استعدادات أخرى) إلى الدمار والخراب. إذ أن الصداقة التي تقوم على أساس الشراء، لا على أساس نبل الروح وعظمتها، هي صداقة زائفة تُشرى بالمال ولا تكون أمينة موثوقة، وهي عرضة لأن لا تجدها في خدمتك في أول مناسبة. ولا يتردد الناس في الإساءة إلى ذلك الذي يجعل نفسه محبوبا، بقدر ترددهم في الإساءة إلى من يخافونه، إذ أن الحب يرتبط بسلسلة من الالتزام، التي قد تتحطم، بالنظر إلى أنانية الناس، عندما يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب وهي خشية قلما تُمنى بالفشل.

ومع ذلك، على الأمير أن يفرض الخوف منه، بطريقة يتجنب بواسطتها الكراهية إذا لم يضمن الحب، إذ أن الخوف وعدم وجود الكراهية قد يسيران معا جنبا إلى جنب. وفي وسع الأمير الذي يمتنع عن التدخل في ممتلكات مواطنيه ورعاياه، وفي نسائهم، أن يحصل عليهما. وعندما يضطر الأمير إلى سلب إنسان حياته، عليه أن يتوخى المبرر الصالح والسبب الواضح لذلك، ولكن عليه قبل كل شيء أن يمتنع عن سلب الآخرين ممتلكاتهم، إذ أن من الأسهل على الإنسان أن ينسى وفاة والده، من أن ينسى ضياع إرثه وممتلكاته. ويضاف إلى هذا أن المبررات لمصادرة الممتلكات متوفرة دائما. وكل من يبدأ في الحياة على النهب والسلب، يجد مبررا لسلب الآخرين ما يملكون، بينما أسباب القضاء على حياتهم أكثر ندرة وأسرع زوالا.

ولكن عندما يكون الأمير مع جيشه، وتحت تصرفه عدد كبير من الجنود، فمن اللازم أن لا يكترث كثيرا فيما إذا أطلق الناس عليه لقب الصارم، إذ بدون مثل هذه الشهرة يستحيل عليه الإبقاء على جيشه موحدا، خاضعا للنظام والواجب. وكانت هذه الصفة من الصفات البارزة في هانيبال، إذ على الرغم من قيادته لجيش يتألف من رجال من مختلف الجنسيات، ويقاتل في بلاد أجنبية، لم يقع أي نزاع بينهم، أو يظهر أي عصيان للأمير، لا في أوقات سعده ولا في فترات نحسه. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يعزى إلا لصرامته التي تنبو على حدود الإنسانية، وهذا إذا ما أضيفت إلى فضائله الأخرى التي لا حصر لها، فقد جعلت منه دائما إنسانا مهابا ومخيفا في عيون جنوده، ولو لم تكن فيه، لما كانت فضائله الأخرى كافية لإحداث ذلك التأثير. ويميل الكتاب، الذين يفتقرون إلى التفكير، إلى تمجيد أعماله من ناحية، وإلى توجيه اللوم إلى العامل الرئيسي الذي كان السبب في هذه الأعمال.

ولا ريب في أن هذه الحقيقة التي ذكرت، من أن الفضائل الأخرى قد لا تكون كافية. وقد تبدو في قضية شيبيو (المشهور لا بالنسبة إلى عصره، بل إلى جميع العصور التي تعيش فيها ذكراه)، فقد ثارت عليه جيوشه في أسبانيا، ولم تقم ثورتها إلا بسبب إغراقه في اللين واللطف، مما أدى إلى السماح للجنود بأشياء لا تتفق مع النظام العسكري. وقد وجه إليه فابيوس مكسيموس اللوم في ندوة مجلس الشيوخ على ذلك، متهما إياه بإفساد المتطوعة الرومان. وكان أحد ضباط شيبيو قد أنزل الدمار بلوكري، فلم يثأر هذا منه، كما لم يعاقب شيبيو ضابطه على حماقته لإفراطه في اللين. ومع ذلك، فقد رغب الكثيرون في تبرير أعماله في مجلس الشيوخ، وقالوا ان ثمة كثيرين يعرفون كيف لا يخطئون، أكثر من معرفتهم كيف يصلحون أخطاء الآخرين. ومثل هذا الموقف كان كافيا لتشويه سمعة شيبيو لو عاش في ظل الإمبراطورية ولكنه لما كان يعيش في ظل مجلس الشيوخ، فإن هذه الصفة المؤذية، لم يُقدر لها الاختفاء فحسب، بل قُدر لها أن تكون مصدرا لمجده.

وإنني لأنهي القول تبعا لذلك عن موضوع الحب والخوف قائلا إن الناس يحبون تبعا لأهوائهم وإرادتهم الخاصة، ولكنهم يخافون وفقا لأهواء الأمير وإرادته. والأمير العاقل هو الذي يعتمد على ما يقع تحت سلطانه لا تحت سلطان الآخرين، وعليه فقط أن يتجنب الكراهية لشخصه كما سبق لي أن أوضحت.


18: كيف يتوجب على الأمير أن يحافظ على عهوده

لا ريب في أن كل إنسان يدرك أن من الصفات المحمودة للأمير أن يكون صادقا في وعوده وأن يعيش في شرف ونبل لا في مكر ودهاء. لكن تجارب عصرنا أثبتت أن الأمراء الذين قاموا بجلائل الأعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم والوفاء بها، وتمكنوا، بالمكر والدهاء، من الضحك على عقول الناس وإرباكها، وتغلبوا أخيرا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم.

وعليك أن تدرك أن ثمة سبيلين للقتال: أحدهما بواسطة القانون والآخر عن طريق القوة. ويلجأ البشر إلى السبيل الأول، أما الحيوانات فتلجأ إلى السبيل الثاني. ولكن لما كانت الطريقة الأولى غير كافية لتحقيق الأهداف عادة، فإن على الإنسان أن يلجأ تبعا لذلك إلى الطريقة الثانية. ومن الضروري للأمير أن يعرف استخدام الطريقتين معا، أي طريقة الإنسان وطريقة الحيوان. وهذا ما نصح به قدماء الكتاب الحكام في الماضي، مستشهدين بأخيل وغيره من الأمراء الأقدمين الذين عهد بهم إلى شيرون القنطور الخرافي (حيوان) لتربيتهم وتعليمهم على نظامه. وهذا الرمز الخرافي، نصف الإنسان ونصف الحيوان، قُصد منه أن يشير إلى أن الأمير يجب أن يتعلم الطبيعتين الإنسانية والحيوانية وإن إحداهما لا يمكن أن تعيش بدون الأخرى.

وعلى الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب. ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب الذئاب. وكل من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلا، لا يفهم هذا. وعلى الحاكم الذكي المتبصر أن لا يحافظ على وعوده عندما يرى أن هذه المحافظة تؤدي إلى الإضرار بمصالحه، وأن الأسباب التي حملته على إعطاء هذا الوعد لم تَعُد قائمة. ولو كان جميع الناس طيبين، فإن هذا الرأي لا يكون طيبا، ولكن بالنظر إلى أنهم سيئون، وهم بدورهم لن يحافظوا على عهودهم لك، فإنك لست ملزما بالمحافظة على عهودك لهم. ولن يعدم الأمير الذي يرغب في إظهار مبررات متلونة للتنكر لوعوده، ذريعة مشروعة لتحقيق هذه الغاية. وفي وسع الإنسان أن يورد عددا لا يحصى من الأمثلة العصرية على هذه الحقيقة، وأن يظهر كم من المرات تنكر الأمراء لمواثيق السلام، فنقضوا معاهداتهم، وكم من المرات أضحت عهودهم لا قيمة لها من جراء تنكرهم لها، وأن يبرهن على ان أولئك الذين تمكنوا من تقليد الثعلب تقليدا طيبا قد نجحوا أكثر من غيرهم. ولكن الضرورة تحتم على الأمير،الذي يتصف بهذه الصفة، أن يجيد إخفاءها عن الناس، وأن يكون مداهنا كبيرا، ومرائيا عظيما. ومن طبيعة الناس أنْ يكونوا من البساطة والسهولة بحيث يطيعون الاحتياجات الراهنة، ولذا فإن مَن يتقن الخداع، يجد دائما أولئك الذين هم على استعداد لأن تنطلي عليهم خديعته.

وسأكتفي بسرد مَثل عصري واحد. فالبابا الكساندر السادس لم يقم بأي عمل سوى خداع الآخرين، ولم يفكر بأي شيء سوى ذلك، وكان يجد دائما الفرصة للنجاح في خداعه. ولم يكن ثمة من يفوقه مهارة في تقديم الوعود، وإغداق التأكيدات، داعما إياها بالأيمان المغلظة، في الوقت الذي لم يكن هناك من هو أقل تمسكا بها. ومع ذلك فقد نجح دائما في خداعهم، إذ أنه كان يتقن هذه الطريقة في معالجة الأمور.

وليس من الضروري تبعا لذلك، بالنسبة للأمير، أن يتصف بجميع ما أوردته من صفات، ولكن من الضروري أن يتظاهر على الأقل بوجودها فيه. وقد أجرؤ فأقول إن حيازة هذه الصفات وتطبيقها دائما قد يؤديان إلى تعرضه للأخطار. أما التظاهر بحيازتها فكثيرا ما يكون أمرا مجديا. وهكذا فمن الخير أن تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعد والشعور الإنساني النبيل والإخلاص والتدين، وأن تكون فعلا متصفا بها، ولكن عليك أن تعد نفسك، عندما تقتضي الضرورة، لتكون متصفا بعكسها. ويجب أن يُفهم، أن الأمير ولا سيما الأمير الجديد، لا يستطيع أن يتمسك بجميع هذه الأمور التي تبدو خيرة في الناس، إذ أنه سيجد نفسه مضطرا، للحفاظ على دولته، لأن يعمل خلافا للإخلاص للعهود، وللرأفة والإنسانية والدين. ولذا فإن من واجبه أن يجعل عقله مستعدا للتكيف مع الرياح، ووفقا لما تمليه اختلافات الجدود والحظوظ، وأن لا يتنكر لِما هو خير، كما قلت، إذا أمكنه ذلك، شريطة أن ينزل الإساءة والشر إذا ما اضطر إلى ذلك وضويِقَ.

وعلى الأمير أن يكون حريصا على أن لا يفضح نفسه بأقواله، مما يتناقض مع هذه الصفات الخمس التي أشرت إليها. وعليه أن يجعل الناس يرون فيه، ويسمعون منه الرحمة مجسدة، والوفاء للعهود، والنبل والإنسانية والتدين. ولعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثرها لزوما وضرورة، لأن الناس عموما يحكون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وسع كل إنسان أن يرى، بينما لا يشعر إلا القليلون. فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما القلة فيحسون حقيقتك، وستتردد هذه القلة في معارضة رأي المجموع، الذين يعتمدون على جلال الدولة في الدفاع عنهم وفي أعمال جميع الناس، ولا سيما الأمراء، وهي حقيقة لا استثناء فيها، تبرر الغاية الواسطة. وإذا استهدف الأمير مثلا أن يحتل، عليه أن يحافظ على الدولة التي احتلها، فإن جميع الناس سيرون عمله، ويعتبرونه مثالا للشرف، إذ أن من عادة الدهماء أن تغرهم المظاهر ونتائج الأحداث. ويتألف العالَم من الدهماء، أما القلة الذين لا يُعتبرون من الدهماء، فهم معزولون عن الناس عندما يقرر المجموع شيئا يرونه في أميرهم. وهناك أمير معين، يعيش في عصرنا، يحسن بنا أن نغفل ذكر اسمه، جعل همه الدعوة إلى السلام والوفاء للمواثيق، بينما هو في الحقيقة عدو لدود لهما، ولو قدّر له أن يرعى أحدهما، لأضاع دولته وسمعته في كثير من المناسبات التي تعرض لها.


21: كيف يعمل الأمير لاكتساب الشهرة؟

لا شيء يوصل الأمير إلى منزلة التقدير والإجلال أكثر من إقدامه على المشاريع العظيمة، وتقديمه الدليل على قوته. ولنأخذ مثلا معاصرا، فرديناند ملك الأراغون، والملك الحالي لأسبانيا. وقد يصح أن نطلق عليه لقب الحاكم الجديد، لأنه قد ارتقى من منزلة ملك صغير إلى ذروة المجد والشهرة، ليصبح ملك المسيحية الأول. وإذا ما درست أعماله تبينت فيها العظمة البارزة، فكلها جليل، وكلها فائق للعادة. وقد بدأ عهده بمهاجمة غرناطة، فكانت مغامرته هذه، الحجر الأساسي في مملكته. وكان يعمل في البداية، في أوقات فراغه ووفقا لأهوائه، دون أن يخشى تدخلا من أحد، فأشعل بذلك عقول نبلاء قشتالة في مشروعه، حتى أنهم من جراء حصر تفكيرهم في الحرب، لم يتوفر لديهم الوقت للتفكير بأي ابتكار أو ابتداع. وهكذا حقق لنفسه الشهرة التي أرادها، والسلطان عليهم دون أن يشعروا بذلك في بادئ الأمر. وتمكن، بالأموال التي أخذها من الكنيسة وجمعها من الشعب، من المحافظة على جيوشه، ومن خوض تلك الحرب الطويلة، التي وضعت أسس قوته العسكرية، والتي أتاحت له فرصة الشهرة وذيوع الصيت فيما بعد. يضاف إلى هذا، أنه رغبة منه في القيام بمشاريع أضخم وأكبر، وتحت ستار الدفاع عن الدين، عمد إلى الاضطهاد الديني، فطرد العرب من مملكته، وسلبهم كل ما يملكون، وليس هناك من مثل أتعس ولا أكثر شذوذا من هذا. وقام بمهاجمة إفريقيا محتجاً بنفس الذريعة، وقام بمغامرته الإيطالية، وشرع أخيرا في الهجوم على فرنسا. وهكذا فقد كان دائما يبتدع المشاريع العظيمة، مما جبر عقول رعاياه وأذهانهم، وجعلهم مشغولين دائما بالتطلع إلى النتائج. وكانت هذه الأعمال متعاقبة، حتى إن الواحد منها ليتلو الآخر، مما لم يترك مجالا لأي إنسان ليحس بالاستقرار، ويبدأ أي عمل ضده.

ومن المجدي للأمير أيضا أن يقدم بعض الأمثلة البارزة على عظمته في الإدارة الداخلية، كما سبق وسردت من أعمال قام بها السيد برنابو في ميلان. وعندما يحدث ويقوم أحد الناس بعمل خارق، سواء في خيره أو في شره، في الحياة المدنية، فعلى الأمير أن يجد الوسائل اللازمة لمكافأة هذا الإنسان أو معاقبته، بحيث يتحدث الناس عن ذلك أمدا طويلا. وعلى كل أمير، فوق هذا كله، أن يحاول في جميع ما يعمله الحصول على اشتهار أمره بالعظمة والتفوق.

ويلقى الأمير أيضا بالغ الاحترام إذا برهن على أنه إما أن يكون صديقا مخلصا أو عدوا لدودا. وهذا يعني أن يعلن، بلا تحفظ، عطفه على إنسان ما، وعداءه لإنسان آخر. ولا ريب في أن هذه السياسة أفضل دائما من البقاء على الحياد. فإذا اشتبكت دولتان مجاورتان لك في حرب، فعليك أن تقف منهما ذلك الموقف الذي يؤدي إما إلى خوفك من الدولة المنتصرة، أو عدم الخوف منها. وفي كلتا هاتين الحالتين يخلق بك أن تعلن عن موقفك بصراحة، وأن تخوض الحرب. إذ أن عدم خوضك إياها في الحالة الأولى يجعلك فريسة سهلة للمنتصر، مما يبعث في نفس المهزوم الرضى والبهجة. ولن تجد سببا أو مبررا للدفاع عن موقفك، كما لن تلقى أحدا يرحب بك. إذ أن المنتصر، أيا كان، لا يرغب في اتخاذ أصدقاء لا يطمئن إليهم، ولا يسارعون إلى مساعدته في وقت شدته. أما المهزوم فلن يرحب بك بدوره، لأنك لم تخض المعركة إلى جانبه دفاعا عن قضيته.

...

ويحدث دائما، أن مَن لا يكون صديقا لك يريد منك دائما أن تظل على الحياد، أما صديقك فيريد منك أن تعلن عن موقفك بحملك السلاح إلى جانبه. ويلجأ الأمراء المترددون عادة، رغبة منهم في تجنب الأخطار الآتية، إلى إتباع طريق الحياد، الذي يؤدي حتما إلى دمارهم وضياعهم. ولكن عندما يعلن الأمير بصراحة وقوفه إلى أحد الجانبين، ويقدر لهذا الجانب أن ينتصر، فإنه يشعر على الرغم من قوته، ومن بقاء الأمير تحت رحمته، بنوع من الالتزام تجاهه، إذ أن صداقة متينة قد أقيمت، وليس من شيمة الناس عادة، أن يتنكروا للشرف، وأن يضطهدوا من ساعدهم، متنكرين لجميله على هذا الشكل. يضاف إلى هذا أن الانتصارات لا تكون عادة على ذلك النوع من النجاح الذي يُنسي المنتصر ضميره، ولا سيما بالنسبة إلى قضايا العدالة. أما إذا هُزم حليفك فستجد المأوى لديه، وسيهب لمساعدتك ما أمكنه، وتصبح بذلك، رفيقا لطالع، قد يشرق ثانية ويرتفع. أما بالنسبة إلى الحالة الثالثة، عندما يكون المتحاربان من الضعف، بحيث لا تخشى شيئا من المنتصر، وأن الخطر عليك أكثر، أن تتخذ موقفك إلى جانب أحد الفريقين، إذ أنك تمضي إلى دمار أحدهما بمساعدة الآخر، الذي تحسم عليه الضرورة، لو كان عاقلا أن ينقذه. أما إذا انتصر حليفك، فسيظل تحت رحمتك، إذ يستحيل عليه أن لا يحتل بمساعدتك وعونك.

ويجب أن أبين هنا أن على الأمير أن يتجنب الارتباط في قضية مشتركة مع أمير آخر أقوى منه، لإلحاق الضرر بأمير ثالث، إلا إذا أجبرته الضرورة على ذلك، كما سبق وأسلفت. إذ أن انتصاره يعني وقوعك تحت رحمته. وعلى الأمراء أن يتجنبوا، بقدر طاقتهم، الوقوع تحت رحمة غيرهم وإرادتهم وأهوائهم. ... وعلى كل دولة، أن لا تبالغ في الاطمئنان إلى سياستها، بل عليها أن تضع الشكوك دائما نصب أعينها. فمن طبيعة الأمور مثلا أن لا يحاول إنسان تجنب إحدى المصاعب، إلا ويقع في صعوبة ثانية، ولكن الفطانة تحتم عليك أن تستطيع تمييز طبيعة الصعاب، وأن تقحم نفسك في أقلها ضررا وأذى.

وعلى الأمير أن يظهر نفسه دائما ميالا إلى ذوي الكفاءة والجدارة وأن يفضل المقتدرين، ويكرم النابغين في كل فن، وعليه أن يشجع، بالإضافة إلى ذلك، مواطنيه على المضي في أعمالهم، سواء في حقول التجارة، أو الزراعة، أو أية مهنة أخرى يمتهنها الناس. وبهذه الطريقة لا يتوانى الفرد على تحسين ما يملك مخافة أن يفقده. ولا يتقاعد آخر عن البدء بتجارة خشية الضرائب. وعليه أن يقدم المكافآت لكل منَ يعمل في هذه الحقول، ولكل من يسعى بمختلف السبل لتحسين مدينته أو دولته. وبالإضافة إلى كل ذلك عليه، في الفصول المناسبة من السنة، أن يشغل الشعب بالأعياد، ومختلف العروض المسرحية وغيرها. ولما كانت المدينة مجزأة إما إلى نقابات (guilds) أو طبقات، فعليه أن يهتم بجميع هذه المجموعات وأن يختلط بأفرادها من وقت إلى آخر، وأن يقدم لهم مثلا على إنسانية وجوده، محتفظا دائما بجلال منصبه ووقار مكانته، وهما ما يجب أن لا يسمح قط بتأثرهما أو زوالهما مهما كانت الأسباب.


23: كيفية الإعراض عن المنافقين

لن أتجاهل موضوعا مهما، وذكر خطيئة لا يستطيع الأمراء تجنبها إلا ببالغ الصعوبة، إذا لم يكونوا من العقلاء والحكماء، أو إذا لم يكونوا يحسنون الاختيار. وهذا الموضوع الذي أعنيه يتعلق بالمنافقين المداهنين الذين تغص بهم بلاطات الملوك والأمراء. فمن عادة الناس أن يُسروا ويتعزوا بما يملكون، وأن يخدعوا أنفسهم بذلك، وهذا يجعل من المتعذر عليهم وقاية أنفسهم من هذا الوباء، حتى أنهم إذا حاولوا هذه الوقاية تعرضوا لخطر الزراية. وليست هناك من طريقة أفضل في وقاية نفسك من النفاق، من أن تجعل الجميع يدركون أنهم لن يسيئوا إليك، إذا ما جابهوك بالحقيقة. ولكن عندما يجرؤ كل إنسان على مجابهتك بالحقيقة فإنك تفقد احترامهم. والأمير العاقل هو من يتبع سبيلا ثالثا، فيختار لمجلسه حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية في الحديث إليه ومجابهته بالحقائق، على ان تقتصر هذه الحرية على المواضيع التي يسألهم عنها، ولا تتعداها. ولكن عليه أن يسألهم عن كل شيء وان يستمع لآرائهم في كل شيء، وأن يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه أن يتصرف في هذه المجالس، ومع كل من مستشاريه، بشكل يجعله واثقا من أنه كلما تكلم بصراحة وإخلاص، كلما كان الأمير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك أن لا يستمع إلى أي إنسان، بل يدرس الموضوع بنفسه على ضوء آراء مستشاريه، ويتخذ قراراته التي لا يتراجع عنها. أما الأمير الذي يسير على طريقة مغايرة، فيتهور متأثرا بآراء المداهنين والمنافقين، أو يبدل قراراته وفقا للآراء المتعددة التي تُطرح عليه، فإنه يفقد الاحترام والتقدير.

...

ولهذا على الأمير أن يقبل النصيحة دائما، ولكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الآخرون، بل عليه أن لا يشجع مطلقا المحاولات لإسداء النصيحة إليه، إلا إذا طلبها. ولكن عليه أن يكثر من سؤالها وأن يحسن الإصغاء إلى الحقائق التي تُسرد عليه عندما يسأل عنها. وعليه في الحقيقة أن يغضب إذا رأى أحد مستشاريه يتردد في قول الحقيقة له. ولما كان من رأي بعض الناس أن الأمير الذي يشتهر أمره بالتبصر والحكمة لا تعزى شهرته إلى طبيعته، بل إلى خبرة المستشارين الذين يلتفون حوله، فإنني أقول أن الرأي خاطئ تماما. فالقاعدة العامة، التي لا شواذ لها، أن الأمير الذي لا يتصف بالحكمة لا يمكن أن يشار عليه بطريقة صالحة، إلا إذا ترك نفسه عرضا، وبصورة كلية، بين يدي شخص واحد يتحكم فيه تحكما كليا، وكان هذا الشخص عاقلا متبصرا. وفي هذه الحالة قد يحكم الأمير حكما صالحا، ولكن هذا الأمر لن يدوم طويلا إذ أن الحاكم بأمره سرعان ما ينتزع منه سلطانه ودولته. أما إذا استشار هذا الأمير البعيد عن الحكمة الكثيرين، فلن تتوفر له المشورة الجماعية المتحدة، ولن يكون في مكنته أن يوحد بين الآراء التي تُشار عليه، لتكتسب صفة الإجماع. وسيلجأ المستشارون إلى التفكير بمصالحهم، بينما يعجز هو عن ردهم إلى السبيل السوي، أو حتى عن فهمهم. وليس هناك من مناص مما ذكرت، إذ أن من شيمة الناس أن يخادعوك، إلا إذا أُرغموا بطريق الحاجة الماسة على أن يكونوا صادقين. ولهذا فإن النتيجة التي أصل إليها هي أن المشورة الحكيمة، حيثما جاءت، يجب أن تكون خاضعة لحكمة الأمير وتبصره، وأن لا يخضع تبصر الأمير للمشورات التي تقدم إليه، مهما كانت صادقة.


25: أثر القدر في الشؤون الإنسانية وطرق مقاومته

لا أجهل أن كثيرين كانوا، ومازالوا، يعتقدون بأن الأحداث الدنيوية يسيطر عليها القضاء والقدر، ويتحكم فيها الله، وأن ليس في وسع البشر عن طريق الحكمة والتبصر تغييرها أو تبديلها، وأن لا علاج لذلك مطلقا. ولذا فإن من الجهد غير المجدي أن يعمل الإنسان شيئاً لرد ما حكم به القضاء، وأن عليه أن يدع الأمور تجري في أعنّتها وفقا لمشيئة الحظ. وقد كثر القائلون بهذا الرأي في أيامنا بسبب التبدلات العظيمة التي رأيناها، والتي ما زلنا نراها في كل يوم والتي تفوق كل تصور بشري. وعندما أفكر في هذه التبديلات أميل أحيانا إلى مشاركة أولئك الناس رأيهم، ولكني مع ذلك أعتقد أن ليس في وسعنا تجاهل إرادتنا تمام التجاهل. وفي رأيي، أن من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف أعمالنا، وأنه ترك النصف الآخر، أو ما يقرب منه، لنا لنتحكم فيه بأنفسنا. وأود أن أشبه القدر بالنهر العنيف المندفع الذي يغرق، عند هيجانه واضطرابه، السهول ويقتلع الأشجار والأبنية، ويجتث الأرض من هذه الناحية ليقذف بها إلى تلك، فيفر الناس من أمامه ويذعن كل شيء لثورته العارمة دون أن يتمكن أحد من مقاومته. ولكنه على الرغم من هذه الطبيعة تكون له طبيعة أخرى يعود فيها إلى الهدوء. وفي وسع الناس آنذاك أن يتخذوا الاحتياطات اللازمة بإقامة السدود والحواجز والأرصفة، حتى إذا ما ارتفع ثانية انسابت مياهه إلى أحد الأقنية، أو كان اندفاعه لا ينطوي على تلك الخطورة وذلك الجنون. وهذه هي الحالة مع القدر الذي يبسط قوته عندما تنعدم الإجراءات لمقاومته، ويوجه ثورته إلى حيث لا توجد حواجز ولا سدود أقيمت في طريقه لكبح جماحه. وإذا ما تطلعتَ إلى إيطاليا التي كانت مسرحا لهذه التبدلات العظيمة، والتي دفعت الناس إلى الإيمان بذلك الرأي، وجدت أنها بلاد لا تضم شيئا من الحواجز والسدود مهما كان نوعها. ولو قدرت لها الحماية بالوسائل الصحيحة كألمانيا وأسبانيا وفرنسا، فإن هذا الفيضان ما كان ليُحدِث تلك التبدلات العظيمة التي أحدثها، أو لما وقع الفيضان على الإطلاق.

وأعتقد أن في ما قلته الكفاية عن طُرق مقاومة القدر بصورة عامة، أما إذا أردتُ تقييد نفسي في قضايا معينة ففي وسعي أن أشير إلى أننا نرى اليوم أميرا معينا يكلل السعد هامته، ثم نراه غدا وقد تحطم دون أن نرى فيه تبدلا في طبيعته أو في أي شيء آخر. إنني لأعتقد جازما أن هذا التبدل نجم من الناحية الأولى من الأسباب التي سبق لي شرحها بإسهاب وتفصيل، أو بكلمة أخرى، لأن هذا الأمير قد أركن كلية إلى القدر، فحطمه القدر عندما دارت عجلته. وإني لأعتقد أيضا بسعادة ذلك الإنسان الذي تتفق طريقة إجراءاته مع مقتضيات الزمن، وبتعاسة مَن يعارض في إجراءاته تلك المقتضيات. وإننا لنرى الناس يختلفون في الطرق التي يتبعونها للوصول إلى ما يستهدفونه دائما من مجد وثراء. فمنهم من يلجأ إلى الحذر ومنهم من يختار التهور ومنهم من يتبع العنف، وآخرون يتبعون الحيلة والمكر ومنهم من يصبر ويصابر، وآخرون يتسرعون، ولكنهم جميعا قد يصلون إلى أهدافهم. وقد نرى شخصين حذرين ينجح أحدهما في مشاريعه، بينما يفشل الآخر. وقد نجد من ناحية أخرى شخصين يصلان إلى هدف واحد، بطريقين مختلفين، أحدهما ينطوي على الحذر والأناة، والآخر على التسرع والمجازفة. وكل هذا ينجم عن اختلاف طبيعة الزمن التي قد تتفق أو لا تتفق مع طريقة الإجراء. وينتج عن هذا، كما قلت، أن رجلين يعملان بطريقتين متباينتين،يصلان إلى نفس النتيجة، بينما هناك رجلان آخران، يعملان بنفس الأسلوب فينجح الأول من حيث يفشل الثاني. وعلى هذا تتوقف أيضا التبدلات في النجاح والازدهار، فقد يحدث أن تكون عوامل الزمن والظروف ملائمة لرجل يعمل بحذر وحسن تبصر، فيلقى النجاح، ثم لا تلبث أن تختلف عوامل الزمن والظروف، فيتحطم لأنه لم يغير طريقته في العمل. ولم يحدث قط أن وجد إنسان على هذا القدر من التعقل والروية، بحيث يكيف نفسه لجميع هذه العوامل، إما لأنه لا يستطيع الانصراف عما تميل إليه طبيعته، أو لأنه، وقد ألف النجاح في السير على طريق واحدة، لا يستطيع إقناع نفسه، بأن من الخير له أن يتركها. ولذا فإن الرجل المتعود على الأناة يرى نفسه عاجزا عن تكييف أعمال عندما تقتضي الضرورة السرعة، فيلحق به الخراب والدمار. وإذا كان باستطاعة الإنسان أن يغير طبيعته وفقا لتغير الأزمنة والظروف، فإن القدر لا يتغير أبدا.

وكان البابا يوليوس الثاني متهوراً في كل ما عمله، وقد رأى الأوقات والأوضاع متفقة مع طريقته في العمل، بحيث تمكن دائما من الحصول على نتائج مثمرة.

ولندرس الآن الحرب الأولى التي شنـها على بولونا عندما كان السيد جيوفاني بنتفوغلي لا يزال على قيد الحياة، ولم يكن البنادقة راضين عن هذه الحرب، وكذلك ملك أسبانيا. وكانت فرنسا لا تزال تتشاور معه حول هذا المشروع، ومع ذلك، فنتيجة لميوله العنيفة والمتهورة، أقدم شخصيا على حملته. وقد أدت حركته إلى أن يقف البنادقة وأسبانيا موقف المتردد، وذلك بسبب خوف البنادقة من ناحية، ورغبة أسبانيا في استعادة مملكة نابولي بكاملها. وتمكن من الناحية الثانية من أن يجر إلى جانبه ملك فرنسا، إذ أن هذا، وقد رآه يقدم على حركته، ورغبة منه في صداقته ليخضع عن طريقها البنادقة، قرر أن ليس باستطاعته أن يضن عليه بإرسال قوات لمساعدته دون أن يسبب له رفضه إساءة بالغة. وهكذا تمكن يوليوس، عن طريق تهوره، من تحقيق ما عجز غيره من الباباوات عن تحقيقه عن طريق التحكم والعقل، ولو تمهل حتى يتم اتخاذ الترتيبات، وتمهيد كل شيء قبل أن يغادر روما في طريقه لتحقيق مشروعه، وهو ما كان يعمله حتما أي بابا آخر، لما نجح في الحصول على هدفه. إذ أن ملك فرنسا، كان سيجد حتما ألف مبرر لإقناعه بالتريث، وكان الآخرون سيوحون إليه بألوف المخاوف التي تساورهم. ولن أتحدث عن أعماله الأخرى، التي كانت جميعا من هذا النوع، والتي انتهت كلها إلى النجاح. ولا ريب في أن قصر حياته هو الذي وفر عليه تجربة الفشل، إذ لو طالت حياته وجاءت الأوقات التي تتطلب منه أن يعمل بحذر وتعقل، فإن مصيره كان الدمار حتماً، إذ أنه أعجز من أن يتحول عن تلك الأساليب التي تميل إليها طبيعته.

وإني لأختتم حديثي قائلا بإن الحظ يتبدل، أما الناس فيبقون ثابتين على أساليبهم، وهم ينجحون طالما أن أساليبهم تتوافق مع الظروف، أما عندما تتعارض فإن الفشل سيكون من نصيبهم. وإنني لأعتقد أن التهور خير من الحذر، ذلك لأن الحظ كالمرأة، فإن أردت السيطرة عليها، فعليك بالقوة ان تفوز بها. وسترى حينها انها بدورها تسمح بامتلاكها للرجل الشجاع، لا لذلك الذي يسير ببرود. والحظ، شأنه في ذلك شأن المرأة، يميل دائما إلى الشباب، لأنهم أقل حذرا وأكثر ضراوة، ويقبلون عليها بقحة وجرأة.



ترجمة: خيري حماد






--------------------------------------------------------------------------------

[1] جيرولامو سافونارولا (1452-1498): مصلح إيطالي وواعظ، اتهم بالهرطقة وحرمه البابا. أصبح حاكما في فلورنسا، ثم أودع السجن وشنق وأُحرق. يعتبر من أوائل دعاة الإصلاح الديني.

[2] بورجيا (Borgia): أمير ورجل دين إيطالي، من ابرز شخصيات عصر النهضة الإيطالية دخل سلك الكهنوت رغم كرهه للحياة الكنسية. عُرف بالمغامرة والذكاء الخارق، وبأنه الجندي الأقوى والدبلوماسي الماهر، إلى جانب استخفافه بالقيم الخلقية وكثرة رذائله مما دفع بمكيافيلي ان يتخذه نموذجا لكتابه "الأمير".

[3] تيتوس ليفي (أو ليفيوس) (Titus Levy) (59 ق.م.-17م.): مؤرخ روماني مشهور. عُرف بميوله الجمهورية أثناء الحرب الأهلية.

[4] ليكرجوس (Lukourgos): من مشرعي إسبارطة الأسطوريين، وقد وضع نظم الدولة بعد قيامه بعدة رحلات للاستطلاع.

[5] صولون (Solon): مشرع أثينا العظيم، انتخب في عام 594 ق.م. قاضيا لقضاة أثينا لوضع حد للخلافات بين أحزابها الثلاثة وهي النبلاء والتجار والفقراء، فوضع شرائعه التي تضمنت التنظيم الدستوري والقضائي والسياسي والاقتصادي وقد افلح في وضع عدد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية في المدينة.

[6] بيزيستراتوس (Pisistratus): سياسي أثيني بارز (612-527 ق.م.). حكم أثينا حكما طغيانيا ثلاث مرات. كان صديقا لصولون.

[7] روملوس (Rumulus): مؤسس روما الأسطوري وأول ملوكها (753-715 ق.م.)، غذته ذئبة بحليبها وهو طفل مع أخيه التوأم واحتضنه أحد الرعاة، ونشأ بطلا. استعان بصعاليك القوم في القبض على زمام الأمور.

[8] الغراتشيين (Grachi): اسم يطلق على أخوين أولهما تايبيريوس سمبرونيوس غراشيوس (167-133 ق.م.)، والثاني غايوس سمبرونيوس (158-121 ق.م.). وقد أصبح الأول حاميا للشعب عام 133، ووضع قانون الإصلاح الزراعي، بينما غدا الثاني حاميا عام 124 ق.م.، وقد لعبا دورا في إضعاف مجلس الشيوخ.

[9] غايوس كوريولانوس هو بطل أسطورة رومانية قديمة, فقد نفاه العامة من روما في عام 491 ق. م. وفر إلى بلاد الفولسكي، حيث عينه ملكها قائدا لجيشه. وسرعان ما زحف على روما، ولم يثنه عن عزمه على احتلالها إلا مجيء أمه وزوجته وأطفاله. وتقول الأسطورة ان أهل الفولسكي قتلوه عند عودته دون احتلال روما. وقد جعل شيكسبير من أسطورته موضوعا لإحدى مسرحياته.

[10] الشخص الذي تولى رئاسة الحكم الجمهوري في فلورنسا بعد طرد آل مديتشي، ولكنه أُخرج منها عام 1512 وكان مكيافيلي من رجاله ووزرائه

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:48 PM

- فرنسيس بيكون - رائد الفلسفة التجريبية الحديثة


انحدر فرنسيس بيكون (Francis Bacon) من عائلة رفيعة عملت في قصور ملوك إنجلترا وشغلت مناصب مختلفة. درس في جامعة كمبردج منذ سن مبكر (13 سنة)، وتقلب بعد ذلك في مناصب عديدة في الدولة. وكان القانون أهم مجال عمل به طيلة سنين عديدة. حصل بيكون على أحد ألقاب النبالة (Viscount) وأتهم بالرشوة وجُرد من ألقابه وحقوقه بعد إثبات صحتها وسجن لبضع سنوات، وأصدر الملك عفواً عاما، ولكنً حقوقه لم تعد إليه سوى في أيام شارل الأول.

كان بيكون مفكراً متعدد المواهب. فقد خلف آثاراً في مجالات متنوعة: القانون والتاريخ والفلسفة. لكن أهم آثاره الفكرية كانت في حقل الفلسفة وتركت أثراً عميقاً في الفكر اللاحق، خاصة في فكر العديد من المفكرين في إنجلترا وفرنسا. ونخص بالذكر جون لوك ورجال الإنسكلوبيديا (دار المعارف) فيما بعد.

يعتبر مشروع بيكون لكتابة "التأسيس[1] العظيم للعلوم" (The Great Instauration of Sciences) أهم مشروع علمي في حياته. ويعكس المشروع تصور بيكون لما أطلق عليه مفهوم "العلم". رأى بيكون أن "العلم" ينقسم إلى ثلاثة مجالات رئيسية: الفلسفة، والشعر، والتاريخ. وهذه يمكن بدورها تجزئتها إلى ستة حقول. واستطاع بيكون كتابة جزء فقط من هذا المشروع الكبير، وعلل هذا الشكل من التصنيف إلى صلته بالطبيعة الإنسانية: فالفلسفة تعبر عن العقل، الشعر عن قوة التخيل، والتاريخ عن ملكة التذكر (الذاكرة).

ورأى بيكون أن الفلسفة تتألف من ثلاثة مجالات رئيسية منفصلة: معرفة الله والطبيعة والإنسان. وذهب بيكون إلى أن البحث في الطبيعة يتفرع إلى نوعين: المعرفة النظرية والمعرفة العملية. وتشمل المعرفة النظرية للطبيعة معرفة أصل الأشياء والحركات والخواص والأنواع؛ أما المعرفة العملية فتشمل الميكانيكا وأسرارها. وتحتم المعرفة النظرية دراسة الرياضيات، إذ بدون ذلك يستحيل فهم الطبيعة.

ويشير بيكون إلى إحدى غايات معرفة الطبيعة الجوهرية: استخدامها للمنفعة الإنسانية، أو السيطرة على الطبيعة.

وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يحتاج الدارس إلى منهج علمي واضح. وفي هذا المجال وجه بيكون نقداً شديداً لفلسفة العصور الوسطى ولأتباع منهج أرسطو في دراسة الطبيعة. ولم يسلم بعض الاستقرائيين من نقده، رغم أن بيكون دعا إلى منهج استقرائي في البحث، لكنه منهج استقرائي مغاير. ورأى أن عمل الباحث يجب أن يتركز على مراقبة عملية سلسلة الإستقراءات المتواصلة خطوة خطوة.

وللتدليل على ذلك أشار، مثلا، أن (جـ - د) في سلسلة (أ - ب - ج - د) لا يعود سببها بالضرورة إلى (أ - ب) رغم التسلسل الظاهري إلاً بعد سوق جميع الحالات والأمثلة التي تؤكد عدم وجود استثناء، ولو لواحد. كما ويمكن التأكد وإثبات (جـ - د) في (أ - ب) في حال اختفائها عند اختفاء (جـ - د) فقط.

وأرجع بيكون الأخطاء الشائعة في العلوم إلى ما اعتبره ونعته بالأصنام (Idols)، أو الأشباح. كما شك في قدرة البديهة (intuition) على الوصول إلى معارف يقينية. بذلك أرسى بيكون قواعد الاستقراء كمنهج في الوصول إلى المعرفة اليقينية. وترك هذا المنهج أثراً عميقاً في الفلسفة بشكل عام وفي الفلسفة الإنجليزية بشكل خاص.



مختارات من كتاب "التأسيس العظيم"


لو تصفح المرء بعناية كافة أنواع الكتب في الآداب والعلوم، لوجد تكراراً لا نهائَيٍ لنفس الشيء. هناك اختلاف في طريقة المعالجة، لكن لا جديد في المضمون، إلى درجة أن هذا المخزون من الكتب، على كثرته لأول وهلة، تتبين شحته بعد الفحص. أما من حيث قيمته وفائدته، فيجب الإقرار بصراحة بأن الحكمة المستمَدة أساساً من الإغريق هي بمثابة صبا المعرفة ليس إلا، وأنها تتسم بالصفة الرئيسية للصبية: تستطيع الكلام، لكنها عاجزة عن الخلق، وذلك لأنها مثمرة في مجال الخلاف، لكنها عقيمة في مجال الإنتاج. وحالة المعرفة كما هي عليه الآن يمكن أن نرمز لها بالأسطورة القديمة عن سيلا (Seylla) التي لها وجه ورأس عذراء بينما رحمها محاط بالوحوش النابحة التي يتعذر الإفلات منها. وبالمقارنة، فإن العلوم التي تعودناها مواقف عامة تتحلى بحسن المظهر والمداهنة، ولكنها حين تعرض للجزئيات، حيث يتوجب عليها أن تنتج الثمر والأعمال، تَبرز الخلافات والمناظرات الصاخبة، والتي هي نهاية الأمر، وكل القضية الناتجة [عن هذه المواقف العامة].

نصيحتي الأولى (وهي أيضاً دعائي) أن يحصر الناس الحاسة[2] في حدود الواجب فيما يتعلق بالأمور الدينية. فالحاسة مثل الشمس التي تكشف وجه الأرض وتحجب وجه السماء. ونصيحتي الثانية، أن يحرص الناس، إذا تجنبوا هذا الشر، على عدم الوقوع في الشر المضاد، وهم بالتأكيد واقعون فيه إذا ظنوا أن بحث الطبيعة ممنوع أو حرام. لم تكن معرفةُ الطبيعة الخالصة وغير الفاسدة والتي مكنت آدم من منح الأسماء للمخلوقات وفق سلوكها القويم، سببَ السقوط. إن الرغبة الطموحة والمغرورة في الحصول على المعرفة الأخلاقية للحكم في مجال الخير والشر، والتي قد تؤدي بالإنسان إلى معصية الرب وأخذ القوانين بيده، هي التي اتخذت شكل وطريقة الإغواء. أما بصدد علوم الطبيعة فقد أعلن الفيلسوف المقدس أنه "من عظمة الله أن يخفي شيئاً ولكن من عظمة الملك أن يكتشف شيئاً". وكأن الذات الإلهية قد استمتعت برياضة الأطفال، على براءتها ولطفها، وهم يلعبون "الإستغماية"، فتكرمت بالسماح للروح الإنسانية أن تكون شريكتها في هذه اللعبة. وأخيراً، أود أن أوجه نصيحة عامة إلى الجميع: فكروا بالأهداف الحقيقية للمعرفة، اسعوا نحوها ليس من أجل متعة الذهن، أو الخصام، أو التفوق على الآخرين أو الربح، أو الشهرة، أو السلطة، أو أيٍ من هذه الأشياء الدنيئة، وإنما من أجل المنفعة والاستعمال في الحياة، واسعوا إلى إتمامها والسيطرة عليها بالبر والإحسان. لقد سقطت الملائكة من شهوة السلطة، ومن شهوة المعرفة سقط الإنسان. أما في مجال البر فلا مكان للإفراط، وما تعرض ملاك أو إنسان للخطر.



ترجمة: د. سعيد زيداني



بيكون: مختارات من الأورغانون الجديد "أقوال حول تفسير الطبيعة وملكوت الإنسان"
1
يستطيع الإنسان، وهو خادم الطبيعة ومفسرها[3]، أن يعمل وأن يفهم، فــقط بقدر ما لاحظه في الواقع (in fact) أو فــــي التفكــــير (in thought) عن مسار الطبيعة. أما خارج حدود ذلك فهو لا يعرف شيئاً ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.

2
لا تستطيع اليد المجردة ولا يستطيع الفهم المجرد [لوحده] إنجاز الكثير. فبواسطة الأدوات يتم إنجاز العمل. تلك الأدوات التي يحتاجها الفهم بنفس القدر الذي تحتاجها به اليد. وكما أن أدوات اليد إما تمنحها الحركة أو توجهها، فإن أدوات العقل تزود الفهم بالاقتراحات أو بالمحاذير.

3
المعرفة البشرية والقوة البشرية تلتقيان، فإذا ظل السبب مجهولاً تعذر الإتيان بالنتيجة. لكي تُؤمَر الطبيعة يجب أن تُطاع، وذلك الذي بمثابة السبب في التأمل هو بمثابة القاعدة في مجال العمل.



4
في سعيه لإنجاز الأعمال، كل ما يستطيع الإنسان عمله هو الجمع بين الأجسام الطبيعية أو فصلها عن بعضها البعض. وما تبقى تقوم به الطبيعة الفاعلة من الداخل.

6
إنه لَضَربٌ من ضروب الخيال السقيم والتناقض أن يتوقع أحد أنه يمكن إنجاز الأشياء التي لم يتم إنجازها بعد، إلا بوسائلَ لم يتم اختبارها بعد.

8
فضلاً عن ذلك، إن ما نعرفه الآن قد جاء بفضل الصدفة والتجربة المخبرية وليس بفضل العلوم. فالعلوم التي بحوزتنا هي أنساق لترتيب الأشياء التي تم اكتشافها، وليست مناهج للابتكار أو الإرشاد لأعمال جديدة.

11
وكما أن العلوم التي بحوزتنا الآن لا تساعدنا في اكتشاف أعمال جديدة، كذلك فإن علم المنطق الذي بحوزتنا لا يساعدنا في اكتشاف علوم جديدة.

12
إن علم المنطق المستخدم الآن يعمل على تثبيت وترسيخ الأخطاء، التي تجد أساسها في الأفكار الشائعة، بدلاً من أن يساعد في البحث عن الحقيقة، ولهذا فإن الضرر منه أكثر من خيره.

18
إن الاكتشافات التي تم تحقيقها في العلوم حتى الآن ليست أعمق بكثير من الأفكار المبتذَلة، بالكاد تحت السطح. ولكي نسبر غَور الطبيعة وننفذ إلى أعماقها، من الضروري أن نستخلص (نستمد) الأفكار والبديهيات[4] (axioms) من الأشياء بطريقة أكثر وثوقاً واحتراساً، ومن الضروري أيضا إدخال منهج عمل فكري أفضل وأكثر دقة.

19
هناك طريقتان فقط للبحث عن الحقيقة واكتشافها: الأولى، تفر هاربة من الحواس والجزئيات إلى أكثر البديهيات عمومية ومن هذه المبادئ، التي تُعتبر حقيقتها ثابتة وراسخة، يتم الانتقال إلى الحكم وإلى اكتشاف المبادئ الوسطية. هذه الطريقة هي الدارجة حالياً. أما الطريقة الأخرى، فتستمد البديهيات من الحواس والجزئيات، مرتفعة في صعود متصل وتدريجي حتى تنتهي بأكثر البديهيات عمومية. هذه هي الطريقة الصحيحة، إلا أنها لم تُجرب بَعد.

22
كِلتا الطريقتين تنطلقان من الحواس والجزئيات وتنتهيان بأعلى درجة تعميم، لكن الفرق بينهما هائل جداً. الأولى تلقي نظرة عابرة على التجربة المخبرية والجزئيات، أما الثانية فتقيم بينهم بصورة منتظمة كما يستوجب الأمر. الأولى تبدأ حالاً بإثبات صحة عموميات مجردة وغير مجدية، الأخرى تصعد بخطوات تدريجية نحو الأسبق والذي نعرفه اكثر من غيره في نظام الطبيعة.

23
هناك فرق كبير بين أصنام[5] العقل البشري وبين الأفكار عن المقدس. بكلمات أخرى، بين عقائد فارغة وبين البصمات الحقيقية التي وُضعت على أعمال الخلق، والتي نعثر عليها في الطبيعة.

31
من العبث أن نتوقع تقدماً هائلاً في العلم عن طريق الإضافة وتطعيم الأشياء القديمة بأشياء جديدة. علينا ان نبدأ من جديد ومن الأسس، هذا إلا إذا أردنا أن ندور في حلقة من التقدم الوضيع والمزري.

36
هناك منهج وحيد للخلاص ظل أمامنا، وهو ببساطة التالي: علينا ان نقود الناس إلى الجزئيات نفسها، إلى تسلسلها وترتيبها، وعلى الناس أن يطرحوا أفكارهم جانباً وأن يبدأوا بالتعرف على الوقائع (facts).

39
هناك أربعة أصناف من الأصنام التي تؤرق عقول الناس. وقد سميتها بهدف التمييز بينها: فسميت الصنف الأول أصنام القبيلة (idols of the tribe)، الثاني أصنام الكهف (idols of the cave)، الثالث أصنام السوق (idols of the market)، والرابع أصنام المسرح (idols of the theater).



40
إن تكوين الأفكار والبديهيات بواسطة الاستقراء الصحيح هو دون شك العلاج المناسب للابتعاد عن، والتخلص من الأصنام. إن الإشارة إليهم ذات فائدة كبيرة وذلك لأن نظرية الأصنام بالنسبة لتفسير الطبيعة هي كنظرية تفنيد المغالطات بالنسبة للمنطق العام.

41
تجد أصنام القبيلة أساساً لها في الطبيعة البشرية ذاتها أو في قبيلة أو في عنصر البشر. يُخطئ من يقول جازماً بأن حاسة الإنسان هي مقياس الأشياء. على العكس تماما، فإن جميع الإدراكات، الحسية منها والعقلية، هي وِفق مقياس الفرد وليس وِفق مقياس الكون. والفهم البشري مثل مرآة كاذبة، والتي باستقبالها الأشعة بصورة غير عادية تشوه وتحول لون الأشياء، تخلط طبيعتها هي بطبيعة تلك الأشياء.

42
أصنام الكهف هي أصنام الإنسان الفرد. لكل فرد (بالإضافة إلى الأخطاء المشتركة للطبيعة البشرية بعامة) كهفه أو جحره الخاص به، والذي يحول لون الضوء الطبيعي، ويعدو ذلك إما لطبيعة الفرد الخاصة أو لتعليمه ومخالطته الآخرين، أو لقراءة الكتب وسلطة أولئك الذين ينظر إليهم بالإجلال والإعجاب، أو لتباين الانطباعات، وفقاً لوجودها في عقل مستحَوذ وذي ميول مسبقة أو في عقل محايد ومستقر، وما شابه ذلك. وإذن فإن روح الإنسان (كما هي موزعة على الأفراد المختلفين) قابلة للتغير ومليئة بالاضطراب، وكأن الصدفة تتحكم بها. فقد صدق هرقليطس[6] (Heraclitus) حين لاحظ أن الناس يبحثون عن العلوم في عوالمهم الخاصة الضيقة، وليس في العالم الكبير أو المشترك.

43
هناك أيضا أصنام تتكون خلال التعامل والمخالطة بين الناس، وهذه الأصنام أدعوها أصنام السوق، وذلك نظراً لعلاقات التبادل والمشاركة بين الناس هناك [أي، في السوق]. بواسطة الكلام يتفاعل الناس مع بعضهم البعض، ويتم فرض الكلمات حسب فهم العامة لها. ونتيجة لذلك فإن سوء اختيار الكلمات يشكل حجر عثرة في طريق الفهم. ولا تساعد التعريفات والتفسيرات التي دأب المتعلمون على الدفاع عن أنفسهم بها في بعض الأمور، في أي حال من الأحوال، على تقويم ما اعوجّ من الأمور. ومن الواضح أن الكلمات تكره الفهم وتتغلب عليه، وتخلق البلبلة لدى الجميع، وتؤدي بالناس إلى جدالات عقيمة لا حصر لها وإلى خيالات عابثة.

44
وأخيراً، هنالك أصنام هاجرت إلى عقول الناس من العقائد المختلفة في الفلسفة، ومن قوانين البراهين الخاطئة. هذه الأصنام أدعوها أصنام المسرح، فكل النظريات الشائعة ليست، في رأي، إلا مسرحيات تمثل عوالم خلقتها هي بصورة غير واقعية وشكلية. لا أتحدث هنا فقط عن النظريات الدارجة الآن، أو عن الفَرق والفلسفات القديمة: فقد تؤلف الكثير من المسرحيات من هذا النوع ويتم إخراجها بنفس الطريقة الاصطناعية [التي أُلفت بها]. لقد رأيتُ أن للأخطاء، مهما كان الاختلاف بينها كبيراً، أسبابا متشابهة في معظم الأحيان. مرة أخرى، لا أعني ذلك فقط بالنسبة لنظريات بكاملها، وإنما أيضا بالنسبة لمبادئ وبديهيات عامة في العلم، والتي تم تَقبلها عن طريق التقاليد أو بسبب الإهمال وسرعة الإيقان.

سوف أتحدث عن هذه الأنواع العديدة من الأصنام بمزيد من الإسهاب والدقة، عسى أن يأخذ الفهم ما يلزم من الحذر منها.

45
ينزع الفهم البشري بطبيعته إلى افتراض وجود قدر أكبر من الترتيب والنظام في الكون مما هو قائم بالفعل. وبالرغم من وجود العديد من الأشياء الفريدة في نوعها في الطبيعة، إلا أن الفهم يختلق لها النظائر والقرائن والأقارب. ومن هنا جاءت البدعة بأن جميع الأجرام السماوية تدور في دوائر تامة، كما وتم رفض وجود... اللوالب (إلا بالاسم فقط). ولهذا السبب أيضا أضيف عنصر النار ودائرتها إلى العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس (للحصول على المربع). ولهذا أيضا تمددت بصورة عشوائية نسبة كثافة ما يسمى بالعناصر بنسبة عشرة إلى واحد. وهكذا بالنسبة لبقية الأحلام الأخرى. إن هذه الأوهام لا تمس العقائد فقط وإنما الأفكار البسيطة أيضاً.

46
عندما يتبنى الفهم البشري رأياً (لكونه شائعاً أو لأنه يروق للفهم نفسه)، فإنه يجر جميع الأشياء الأخرى لدعم هذا الرأي والاتفاق معه. وبالرغم من وجود أمثلة أكثر عدداً ووزناً في الجانب الآخر، إلا أنه يهملها ويزدريها أو يقوم برفضها وطرحها جانباً باللجوء إلى تمييز معين. وبواسطة هذا التحديد المسَبق والمدمر قد تظل سلطة الاستنتاجات السابقة غير قابلة للانتهاك... هذا هو سبيل المعتقدات الخرافية في التنجيم، الأحلام، الفأل، الأحكام السماوية، أو ما شابه ذلك، حيث يقوم الناس (فرحين بغرورهم) بتسجيل الأحداث إذا تحققت، وإذا لم تتحقق (وهذا ما يحصل في أغلب الحالات) يهملونها ويمرون مر الكرام عليها. وبقدر أكبر من الدهاء اندسّ هذا الشر في العلوم والفلسفة، حيث تَصبغ الاستنتاجات الأولى تلك التي تليها بطابعها الخاص وتجعلها متفقة معها، هذا بالرغم من أن الاستنتاجات التالية أكثر صحة. علاوة على ذلك، وبشكل مستقل عن الفرح والغرور الذي وصفته، فإنه من الأخطاء الدائمة والمميّزة للعقل البشري أنه أكثر تأثراً بحالات الإثبات منه بحالات النفي، مع أن عليه اتخاذ موقف غير منحاز في كلتا الحالتين. فإنه في عملية إثبات صحة أي بديهية فإن المثل النافي[7] (negative instance) هو أكثرهما تأثيراً.

47
يتأثر الفهم البشري، أكثر ما يتأثر، بتلك الأشياء التي تدخل العقل معا وبصورة فجائية، فتملأ الخيال. ثم يَفترض أن جميع الأشياء الأخرى (مع أنه لا يعرف كيف) تشبه تلك الأشياء القليلة المحيطة به. أما فيما يتعلق بالسعي المضني وراء الأمثلة البعيدة وغير المتجانسة، تلك التي تُفحص بواسطتها صحة البديهيات، فإن العقل بطيء وغير مؤهل؛ هذا إلا إذا لم ترغمه قوانين صارمة وسلطة غلابة.

49
الفهم البشري ليس ضوءا جافاً، فهو يستقبل الإشراب (infusion) من الإرادة والعواطف، حيث تنتج علوم يمكن تسميتها "علوم كما تهوى". فالإنسان متهيئ لتصديق ما يُفضل أن يكون صحيحاً. ونتيجة لذلك فهو يرفض الأشياء الصعبة نظراً لفراغ صبره من البحث، يرفض الأشياء الجدية لأنها تضيق فسحة الأمل، يرفض الأشياء الأكثر عمقاً في الطبيعة بسبب معتقداته الخرافية ويرفض الأشياء غير الشائع تصديقها مراعاة لرأي العامة. وباختصار، لا حصر للطرق، وأحيانا عسير إدراكها، التي بها تُلون العواطفُ الفهمَ وتلوثه.

50
غير أن أكبر عائق أمام العقل البشري هو عدم حدّة وعدم أهلية وخداع الحواس. فكفّة الأشياء التي تؤثر على الحواس ترجع كفة الأشياء التي لا تؤثر على الحواس بصورة مباشرة (وإن كانت أكثر أهمية). ولهذا السبب يتوقف التأمل عادة عند الحدود التي يتوقف عندها البصر، وإلى درجة انعدام ملاحظة الأشياء التي لا يمكن رؤيتها. وهكذا يظل عمل قوة الحياة داخل الأجسام المحسوسة خافياً ولا يلاحظه الناس. وينطبق هذا على التغيرات الدقيقة التي تطرأ على شكل أجزاء الأشياء المادية (والتي يسمونها عادة "التغيرات" مع أنها في حقيقة الأمر حركة موضعية في فراغات صغيرة جداً) والتي لا تلاحظ أيضا. وإذا لم تتم الدراسة الوافية لهاتين القضيتين المذكورتين، فلن يتم إنجاز شيء عظيم في الطبيعة من حيث إنتاج الأعمال. كما أن الطبيعة الجوهرية للهواء الذي نتنفسه جميعاً، وجميع الأجسام الأقل كثافة (وهي كثيرة) ما زالت مجهولة. الحاسَة لوحدها شيء ضعيف وقابل الخطأ، ولا تساعد كثيراً الأدوات التي تشحذ الحواس وتكبرها: إن نوع التفسير الأصح للطبيعة يمكن إنجازه بالأمثلة والتجارب المخبرية الملائمة، حيث تقرر الحاسة بشأن التجربة المخبرية فقط، والتجربة المخبرية تقرر بشأن الأمر في الطبيعة وبشأن الشيء ذاته.

51
ينزع الفهم البشري في طبيعته إلى المجردات ويعطي محتوى ووجودًا للأشياء الزائلة. ولكن أن نحلل الطبيعة إلى مجردات هو أقل خدمة لهدفنا من تشريح الطبقة إلى أجزاء، كما فعلت مدرسة ديموقريطس[8] الذي تعمق في أمور الطبيعة أكثر من غيره. المادة وليس الشكل (form) يجب ان تكون موضوع اهتمامنا، المادة وتشكلاتها وتغير تشكلها، والفعل البسيط، وقانون الفعل أو الحركة. فالأشكال هي من اختلاق العقل البشري، هذا إذا لم تسمى قوانين الفعل أشكالاً.


52
هذه هي إذا الأصنام التي أدعوها أصنام القبيلة، والتي تنشأ من تجانس مادة الروح البشرية، أو من انهماكها، أو من ضيق أفقها، أو من حركتها الدائمة، أو من إشراب العواطف، أو من عدم أهلية الحواس، أو من طريقة التأثر.

53
تنشأ أصنام الكهف من التكوين المتميز، البدني والذهني، لكل فرد، وتنشأ أيضاً عن التربية، العادة، والصدفة. هناك عدد كبير من هذا النوع، ولكنني سأسوق تلك الأمثلة التي تتضمن الإشارة إليها التحذير الأكثر أهمية، والتي لها التأثير الأكبر في تعكير نقاء الفهم.

54
يتعلق الناس بعلوم وبمواضيع نظرية معينة إما لأنهم يتخيلون أنفسهم مؤلفيها أو مخترعيها، أو لأنهم تحملوا المشاق في سبيلها وتعودوا عليها كثيراً. إن أناساً من هذا النوع، إذا انكبوا على الفلسفة والتأملات العامة، يشوهونها ويصبغونها بلون خيالاتهم السابقة. ويُلاحَظ هذا بشكل خاص عند أرسطو[9] (Aristotle)، الذي جعل من فلسفة الطبيعة عنده مجرد عبد لعلم المنطق، وبذلك أصبحت خلافية وعديمة الجدوى. كما وأنشأت طائفة الكيماويين، بناء على تجارب قليلة في الِمصهر، فلسفة خيالية تم تفصيلها بالإشارة إلى أشياء قليلة. ونفس الشيء ينطبق على جلبرت[10] (Gilbert) الذي، بعد أن أجهد نفسه في دراسة وملاحظة المغناطيس، انتقل على الفور إلى إنشاء نظرية كاملة وِفقَ موضوعه المفضل.

56
هناك بعض العقول المكرسة للإعجاب الشديد بالقديم، وعقول أخرى مكرسة لحب الجديد والرغبة الجامحة فيه. قليلة هي العقول التي تشق طريقها في الوسط، بحيث لا تطعن في الجيد مما قدمه القدماء، ولا تزدري الجيد الذي يقدمه المحدثون. وهذا يَلحق ضرراً كبيراً بالفلسفة والعلوم، لأن هذه المودة للقديم والحديث هي أهواء المتحزبين وليست أحكاماً. ثم إنه يتوجب البحث عن الحقيقة ليس من أجل سعادة هذا العصر أو ذاك (وهذا شيء غير ثابت)، وإنما في ضوء الطبيعة والتجربة (وهذا شيء أبدي). ولذلك يجب نبذ الفئات الشقاقية، والاحتراس من عدم تسرع العقل في الموافقة تحت تأثيرها.

58
ليكن ما يلي حيلتنا وحكمتنا التأملية لإبعاد وإزالة أصنام الكهف، والتي تنشأ في الغالب عن هيمنة موضوع مفضل، أو عن نزعة مفرطة للمقارنة والتمييز، أو عن التحيز لعصور معينة، أو عن كِبر أو صغر الأشياء التي يتم تأملها. وليأخذ كل دارس للطبيعة ما يلي كقاعدة: أن ما يستولي على عقلك وتعكف عليه برضى خاص، عليك أن تكون كثير الظن به، وأن عليك أن تحرص كثيراً في معالجة تلك المسائل على إبقاء الفهم نقياً وسوياً.

59
ولكن أصنام السوق هي الأكثر إثارة للمتاعب: وهي الأصنام التي زحفت إلى الفهم من تحالف الكلمات، الأسماء. يظن الناس أن العقل يسيطر على الكلمات، إلا أنه صحيح أيضا أن الكلمات تقاوم الفهم، وهذا ما أفقد الفلسفة والعلوم الفاعلية وجعلها ذات طابع سفسطائي. الكلمات، التي تصاغ وتستعمل وفق القدرة العقلية للعامة، تتّبع خطوط التقسيم الأكثر وضوحا لفهم العامة. وعندما يحاول الفهم الأكثر حدة وأكثر دأبا على الملاحظة تغيير هذه الخطوط لتلائم التقسيم في الطبيعة، تقف الكلمات حجر عثرة في الطريق وتقاوم التغيير. ومن هذا يحدث أن النقاشات الرسمية وذات المستوى الرفيع لأهل العلم كثيرا ما تنتهي بخلافات حول الكلمات والأسماء التي بها (حسب استعمال وحيطة الرياضيين) من الأجدر أن نبدأ، وأن ننظمها بواسطة التعريفات. ولكن التعريفات لا تستطيع الشفاء من هذا الشر أثناء التعامل مع الأشياء المادية والطبيعية، فالتعريفات نفسها تتكون من كلمات، كلمات تولد بدورها كلمات أخرى. ولذا من الضروري الرجوع إلى الحالات الفردية، وتلك التي يسودها التسلسل والترتيب، وهذا ما سوف أتحدث عنه الآن عندما أتطرق لمنهج وخطة تكوين الأفكار والبديهيات.

61
غير أن أصنام المسرح ليست فطرية، ولا تتسلل إلى الفهم خلسة، ولكنها تنطبع في الذهن عن طريق الكتب المسرحية لنظريات الفلسفة وقواعد البراهين الخاطئة. إن محاولة التفنيد في هذه الحالة قد يناقض ما قلته سابقا: فطالما أننا لا نتفق على المبادئ أو البراهين فلا مجال للنقاش. هذا جيد طالما أنه لا يمس شرف القدماء. فليس من الحكمة أن نقدح فيهم، فالخلاف بيني وبينهم هو حول الطريقة فقط. وكما يقول المثل: إن الأعرج الذي يسلك الطريق الصحيح أسبق من العداء الذي يسلك الطريق الخطأ. وأكثر من ذلك، من الواضح أنه عندما يسلك المرء الطريق الخطأ، فكلما كان أنشط وأسرع كلما حاد عن الطريق الصحيح أكثر.

بيد أن المسار الذي أقترحه لاكتشاف العلوم يترك مجالاً ضيقا لحدة وشدة الذكاء (أو الفطنة)، لأنه يضع العقول والفطن كلها في نفس المستوى تقريبا. فكما في رسم خط مستقيم أو دائرة، فإن الكثير يعتمد على مراس اليد إذا تم عمل ذلك باليد المجردة. أما إذا تم عمل ذلك بمساعدة المسطرة والفرجار، فالقليل يعتمد على مراس اليد. وهكذا بالنسبة لخطتي. فبالرغم من عدم جدوى التنفيذات المحددة، فإنني سوف أقول شيئا عن التقسيمات العامة لهذه النظريات، وشيئا آخر عن العلامات الخارجية التي تُظهر عدم صحتها، وفي النهاية سأقول شيئا عن أسباب هذا البؤس الكبير وهذا الاتفاق العام والدائم على الخطأ، عسى أن يصبح الوصول إلى الحقيقة أقل صعوبة، وعسى أن يصبح الفهم أكثر رغبة في تطهير نفسه وطرد أصنامه.

62
إن أصنام المسرح، أو أصنام النظريات، كثيرة وقد يزيد عددها. فلولا انشغال عقول الناس على مدى عصور بالدين واللاهوت، ولولا نفور الحكومات المدنية، وخاصة الملكيات منها، من مثل هذه الأشياء الجديدة، حتى وان كانت في المجال النظري، مما كان يعرض أملاك العاملين فيها للخطر والضرر، ليس فقط بدون مردود وإنما أيضا عرضة للسخرية والحسد، لولا كل ذلك، لنشأت فِرَق فلسفية أخرى كثيرة، مثل تلك الأنواع التي ازدهرت عند الإغريق، وكما يمكن وضع الفرضيات الكثيرة عن ظواهر السماء، يمكن أيضا، وبقدر أكبر، وضع العقائد العديدة عن ظواهر الفلسفة. وفي تمثيليات هذا المسرح الفلسفي يمكنك أن تلاحظ نفس الشيء الذي تجده في مسرح الشعراء: قصص تُخَتَرعُ لخشبة المسرح، قصص مكثفة وظريفة (أكثر مما يود المرء أن تكون)، ولكنها غير حقيقية وليست مستمدة من التاريخ.

وعلى العموم، فإن ما يعتبر مادة الفلسفة هو إما الكثير من أشياء قليلة، أو القليل من أشياء كثيرة. وفي الحالتين فإن الفلسفة مبنية على قاعدة صغيرة جدا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتُصدر أحكامها بناء على حالات قليلة جدا. فمدرسة الفلاسفة العقليين تختطف عددا من الأمثلة الشائعة من التجربة دون أن تتثبت من صحتها، ودون أن تخضعها للفحص والقياس الدقيق، وتترك الباقي للتأمل وتقلبات العقل.

وهناك طائفة أخرى من الفلاسفة، الذين بَعدَ بذلهم جهدا كبيرا على تجارب قليلة، يُقِدمون على استنباط وبناء النظريات، ومن ثم يصارعون بقية الوقائع (وبطريقة غريبة) كي تلائم نظرياتهم.

وهناك أيضا طائفة ثالثة تتألف من الفلاسفة الذين بدافع الإيمان خلطوا فلسفتهم باللاهوت والتقاليد، وقد وصل الغرور بالبعض منهم إلى حد البحث عن أصل العلم بين الجن والأرواح. وعليه فإن هذا المخزون من الأخطاء (هذه الفلسفة الزائفة) هو من ثلاثة أنواع: الفلسفة السفسطائية، التجريبية، والخرافية.

[وفي الفقرات الثلاث التالية، 63 - 65، يحاول بيكون تبيان مثالب كل من هذه الفلسفات]

68
إلى هنا عن الأنواع العديدة من الأصنام وعن عدتها، تلك الأصنام التي يجب نبذها بتصميم ثابت، وتحرير الفهم وتطهيره كليا منها، فالدخول إلى مملكة الإنسان، مبنيٌ على العلوم، ليس مثل الدخول إلى مملكة السماء، التي لا يدخلها أحدا إلا إذا كان ولدا صغيرا.

95
أولئك الذين انشغلوا بالعلوم كانوا إما رجال تجارب أو رجال مذاهب، رجال التجارب يشبهون النملة، يجمعون ويستهلكون فقط. أما رجال العقل فيشبهون العناكب التي تنسج بيوتها من خيوطها. ولكن النحلة تأخذ طريقا وسطا: تجمع موادها من زهور الحديقة والحقل ثم تحولها وتهضمها بقواها الذاتية. لا يختلف العمل الفلسفي الحقيقي كثيرا عن ذلك: فهو لا يعتمد بصورة رئيسية أو كلية على قوة العقل، ولا يأخذ المادة التي يجمعها من التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية ويخزنها في الذاكرة كما هي، وإنما يخزنها في الفهم بعد تحويلها وهضمها. ولذلك ينعقد الكثير من الأمل على تحالف وثيق ونقي بين هاتين المقدرتين (ومثل هذا التحالف لم يحصل حتى الآن).

126
وقد يُظن أيضا أنني، بمنع الناس من وضع المبادئ إلا إذا توصلوا إلى أعلى درجة العموميات من خلال المرور بالخطوات الوسطية، أدعو إلى إرجاء الحكم، وإلى ما يسميه الإغريق "إنكار قدرة العقل على فهم الحقيقةــــ،" غير أن ما أطرحه، في الواقع، ليس إنكار القدرة على الفهم، وإنما وضع الشروط للفهم بصورة صحيحة. ذلك أنني لا أنتزع السلطة من الحواس، وإنما أزودها بالمساعدة، لا أستخف بالفهم، وإنما أسيطر عليه. وبالتأكيد، فإنه من الأفضل أن نعرف كل ما نحتاج معرفته، مع العلم بأن معرفتنا غير كاملة، من أن نظن ان معرفتنا كاملة، ومع ذلك لا نعرف شيئا مما نحتاج معرفته.

129
... ليس خطأ أن نميز بين الأنواع الثلاثة (وهي بمثابة درجات) من الطموح البشري. النوع الأول هو طموح أولئك الذين يرغبون في بسط نفوذهم في وطنهم، هذا النوع مبتذل ومنحط. النوع الثاني هو طموح أولئك الذين يعملون على بسط نفوذ بلادهم وهيمنتها على الناس. لهذا النوع، بالتأكيد، قدر أكبر من الوقار، إلا أنه ليس أقل جشعا. ولكن إذا حاول المرء بسط نفوذ وهيمنة الجنس البشري على الكون. فإن طموحه (إذا جازت تسميته بالطموح)، دون شك، أنبل وصحي أكثر من النوعين الآخرين. إن مملكة الإنسان على الأشياء تعتمد كلياً على العلوم والفنون (arts). لأننا لا نستطيع أن نحكم الطبيعة إلا بإطاعتها.

وإذا ثمن الناس اكتشافا واحدا معينا إلى درجة اعتبار مكتشفه أكثر من مجرد إنسان استطاع أن يجعل الجنس البشري كله مدينا له، فما أنبل اكتشاف ذلك الشيء الذي بواسطته يتم اكتشاف جميع الأشياء الأخرى بسهولة! وكما أن استعمالات الضوء غير محدودة، فهو يمكننا من السير، من مزاولة الِحَرف، من القراءة، ومن التعرف على بعضنا البعض، ومع ذلك فإن مجرد مشاهدة الضوء نفسه هي شيء أكثر روعة وجمالا من جميع استعمالاته، كذلك فمن المؤكد أن مجرد تأمل الأشياء كما هي، بدون أفكار مسبقة، أو تدجيل، أو خطأ، أو التباس، هو نفسه أكثر قيمة من كل ثمار الاختراعات.

وأخيرا، إذا كان الحط من قدر العلوم وتسخيرها لأغراض الفسق والترف وما شابه ذلك أساسا للاعتراض، فلا داع للانفعال، لأن نفس الشيء يمكن أن يقال عن جميع خيرات الأرض من فطنة، وشجاعة، وقوة، وجمال، وغنى، وضوء، وغيرها. ليستعيد الجنس البشري حقه على الطبيعة، ذلك الحق الذي ملكه بالوصية الإلهية، وليُعطَ السلطة، والتي تكون ممارستها محكومة بالعقل السليم وبالدين الحنيف.


ترجمة: د. سعيد زيداني




--------------------------------------------------------------------------------

[1] مصطلح (instauration) يترجم بـ "التأسيس" أو "الترميم" أو "إعادة إحياء".

[2] الحاسة أو الحس (sense) يشير بها بيكون إلى البصر والسمع ..الخ.

[3] يقوم بيكون في الفقرة (26) بشرح مفهوم "تفسير الطبيعة" على أنه التفسير المستنبط من الحقائق بطريقة مضبوطة ومنهجية.

[4] البديهيات (axioms) مصطلح يستخدمه بيكون هنا بمعنى المبادئ العامة المستخدمة كأساسات في النظريات العلمية.

[5] الأصنام (أو الأشباح) -Idols- مصطلح استخدمه بيكون للدلالة على أوهام ليست مرتبطة بالعبادة (الدينية) وهو استخدام دارج لهذا المصطلح منذ عهد اليونانيين القدامى.

[6] فيلسوف يوناني (أواخر القرن السادس - أوائل القرن الخامس ق.م.).

[7] المثل النافي هو الحالة التي تثبت عدم صحة القاعدة.

[8] ديموقريطس -Democritus- (640-370 ق.م.): فيلسوف يوناني اعتبر ان الطبيعة تتألف من فراغ ومن جزيئات مادية في حكة دائمة. وتنصهر هذه الجزيئات لتنتج أجسام متنوعة. واشتهر الفيلسوف بمقولته "لا شيء يولد من لا شيء".

[9] أرسطو (384-322 ق.م.): فيلسوف يوناني. تتلمذ على أفلاطون، له مؤلفات عديدة في الطبيعة وفي الأحياء والأخلاق والسياسة. اشتهر بنزعته الواقعية، وسمي بـ "المعلم الأول".

[10] وليم جلبرت (1544-1603): طبيب إنجليزي يعرف بأبي المغناطيسية. كان من أتباع كوبيرنيكوس. اكتشف القواني البسيطة للتجاذب والتنافر، وألف أول كتاب في المغناطيسية.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:49 PM

3- ديكارت - أبو الفلسفة الحديثة

ولد ديكارت (René Descartes) سنة 1596 في بلدة "لاهى" من بلدان مقاطعة "الثورين" قرب نهر "الكروز" بفرنسا. وينتسب ديكارت إلى أسرة من صغار الأشراف الفرنسيين، كان أبوه مستشارا ببرلمان "بريتاني"، أما أمه فماتت بعد مولده بثلاثة عشر شهرا.

تلقى ديكارت علومه الأولى في مدرسة "لافليش" إحدى مدارس اليسوعيين، فبقي يتعلم بها ثماني سنوات، تعلم فيها العلوم والفلسفة، وقضى السنوات الخمس الأولى في دراسة اللغات القديمة، والثلاثة الأخيرة في دراسة المنطق والأخلاق والرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقيا.

قصد ديكارت هولندا ليتعلم صنعة الحرب على يد اشهر جندي في أوروبا موريس دوناسو وكان قد سبق ديكارت إلى البلاد الهولندية كثيرون من أشراف الفرنسيين، أرادوا مثله ان يخدموا تحت إمرة ذلك الجندي العظيم الذي حقق الكثير من الانتصارات. توجه ديكارت بعد ذلك إلى "بريدا" في هولندا فلقي هناك طبيبا مثقفا ذا علم واسع بالرياضة والطبيعة اسمه اسحق بيكمان فصادقه.

وفي ليلة 10 نوفمبر سنة 1619 تم الاكتشاف الديكارتي العظيم والذي يذهب الفيلسوف فيه إلى ان مجموع العلوم واحدة مؤتلفة في الحكمة، أي في المعرفة التي نستقيها من أنفسنا.

غادر ديكارت بلدة نويبرج على نهر الدانوب حيث تم هذا الاكتشاف وقضى السنوات التسع التالية متنقلا في البلاد، متفرجا على مسرح الدنيا. وفي سنة 1628/ 1629 كتب رسالة صغيرة في الميتافيزيقيا موضوعها "وجود الله ووجود الروح" والقصد منها ان تبسط شيئا من قواعد الطبيعيات الديكارتية. وهذا يدلنا على ان ديكارت كان يشتغل منذ سنة 1629 بتحرير كتاب "التأملات الفلسفية" الذي لم يظهر إلا في عام 1641. نشر في عام 1637 ثلاث رسائل هي "البصريات" "والآثار العلوية" و"الهندسة" وصدرها جميعها بمقدمة هي "المقال في المنهج"، حاول ان يبين فيه انه استعمل منهجا آخر غير المنهج الشائع وان هذا المنهج ليس أسوأها ولا أقبحها. ونشر ديكارت في سنة 1641 كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى" باللغة اللاتينية وفيه يبرهن على وجود الله وخلود الروح. ولقد كانت آخر مؤلفات الفيلسوف "رسالة في أهواء النفس" نشرت عام 1649.

سافر إلى السويد بدعوة من الملكة كرستين ليلقنها بنفسه فلسفته ولم يكن الجو هناك يلائم صحته. وكانت الملكة هناك قد حددت الساعة الخامسة صباحا وقتا للتحدث معه في الفلسفة وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جدا على الفيلسوف، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11 شباط من عام 1650.


مختارات من مقالة في المنهج

القسم الأول: ملاحظات متعلقة بالعلوم
العقل[1] أعدل الأشياء توزعاً بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه الكفاية، ولأن الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر ليس من عادتهم ان يرغبوا في أكثر مما أصابوا منه[2]. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، وإنما الراجح ان يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس. وهكذا، فان اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا اعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا نطالع الأشياء ذاتها. إذ لا يكفي ان يكون الفكر جيداً وإنما المهم ان يطبق تطبيقاً حسناً[3]. ان اكبر النفوس مستعدة لأكبر الرذائل، كما هي مستعدة لأعظم الفضائل. وأولئك الذين لا يسيرون الا ببطء شديد، يستطيعون، إذا سلكوا الطريق المستقيم، أن يحرزوا تقدماً أكثر من الذين يركضون ولكنهم يبتعدون عنه[4].

أما أنا فإني لم أتوهم قطّ أن لي ذهناً أكمل من أذهان عامة الناس، بل كثيراً ما تمنيت ان يكون لي ما لبعض الناس من سرعة الفكر، أو وضوح التخيّل وتميّزه، أو سعة الذاكرة وحضورها. ولست اعرف مزايا غير هذه تعين على كمال النفس، لأني أميل إلى الاعتقاد أن العقل أو الحس، ما دام هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا بشراً، ويميزنا عن الحيوانات[5]، موجود بتمامه في كل واحد منا، متبعاً في ذلك الرأي الذائع بين الفلاسفة[6]، الذين يقولون انه لا زيادة ولا نقصان الا في الأعراض[7]، لا في صور[8] أفراد النوع الواحد، أو طبائعهم...

القسم الثاني: قواعد الطريقة :

... لقد درست قليلاً، وأنا في سني الحداثة[9]، من بين أقسام الفلسفة المنطق، ومن بين أقسام الرياضيات التحليل الهندسي والجبر، وهي ثلاثة فنون أو علوم خيّل إليَّ انها ستمدني بشيء من العون للوصول إلى مطلبي. ولكنني عندما اختبرتها تبيّن لي، فيما يتعلق بالمنطق، أن أقيسته وأكثر تعاليمه[10] الأخرى لا تنفعنا في تعلّم الأمور بقدر ما تعيننا على ان نشرح لغيرنا من الناس ما نعرفه منها، أو هي كصناعة لول[11] تعيننا على الكلام دون تفكير عن الأشياء التي نجهلها. ومع ان هذا العلم يشتمل في الحقيقية على كثير من القواعد الصحيحة والمفيدة[12]، فان فيه أيضاً قواعد أخرى كثيرة ضارة وزائدة. وهي مختلطة بالأولى، بحيث يصعب فصلها عنها، كما يصعب استخراج تمثال ديانا أو مينيرفا من قطعة من المرمر لم تنحت بعد. ثم انه فيما يختص بتحليل بالقدماء[13]، وبعلم الجبر عند المحدثين[14]، ففضلاً عن انهما لا يشتملان الا على أمور مجردة جداً، وليس لها كما يبدو أي استعمال، فان الأول مقصور دائماً على ملاحظة الأشكال، لا يستطيع ان يمرن الذهن دون ان يتعب الخيال. اما الثاني فانه مقيد بقواعد وأرقام جعلت منه فناً مبهماً وغامضاً يشوش العقل، بدلاً من ان يكون علماً يثقفه. هذا ما حملني على التفكير في وجوب البحث عن طريقة أخرى تجمع بين مزايا هذه العلوم الثلاثة، وتكون خالية من عيوبها. وكما ان كثرة القوانين تهيئ في الأغلب سُبُل الرذيلة، بحيث تكون الدولة أحسن نظاماً عندما تكون قوانينها أقلّ عدداً، ويكون الناس أكثر مراعاة لها، فكذلك رأيت أنه، بدلاً من هذا العدد الكبير من القواعد التي يتألف منها المنطق، يمكنني أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية، شريطة أن اعزم عزماً صادقاً[15] وثابتاً على ان لا أخل مرةً واحدةً بمراعاتها.


الأولى[16]: ان لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على انه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أُعْنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة[17]، وأن لا ادخل في أحكامي الا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز[18] لا يكون لديّ معهما أي مجال لوضعه موضع الشكّ.

والثانية[19]: أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي ابحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه.

والثالثة[20]: ان أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة[21]، وأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً حتى أصل إلى معرفة اكثر الأمور تركيباً[22]، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع.

والأخيرة: ان أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً[23].

ان هذه السلاسل الطويلة من الحجج البسيطةأفأأأ والسهلة، التي تعود علماء الهندسة استعمالها للوصول إلى أصعب براهينهم، أتاحت لي ان أتخيل ان جميع الأشياء، التي يمكن ان تقع في متناول المعرفة الإنسانية، تتعاقب على صورة واحدة، وانه إذا تحامى المرء ان يتلقى ما ليس منها بحق على أنه حق، وحافظ دائماً على الترتيب اللازم لاستنتاجها بعضها من بعض، فانه لا يجد بين تلك الأشياء بعيداً لا يمكن إدراكه ولا خفياً لا يستطاع كشفه[24]. ولم أجد كبير عناء في البحث عن الأمور التي يجب الابتداء بها، لأنني كنت اعرف من قبل ان الابتداء يكون بأبسط الأمور وأسهلها معرفة[25]. ولما رأيت ان بين الذين بحثوا من قبل عن الحقيقية في العلوم لم يستطيع أحد غير الرياضيين ان يهتدي إلى بعض البراهين، أي إلى بعض الحجج اليقينية والبديهية، لم اشك أبداً في ان ذلك لم يتيسر لهم الا بطريق الأمور التي عالجوها، ولم أؤمل منها أي فائدة أخرى سوى تعويد عقلي مؤالفة الحقائق البديهية[26]، ونبذ الحجج الباطلة. ولكن مطلوبي لم يكن قط من اجل ذلك ان أتعلم جميع العلوم الخاصة التي يطلق عليها عامة اسم الرياضيات[27]. لأني لما رأيت أنها، بالرغم من اختلاف موضوعاتها، متفقة جميعها في الاقتصار على البحث في النسب أو العلاقات الموجودة بينها، أدركت أنه من الخير لي أن اقتصر على النظر في هذه العلاقات[28] عامة، دون افتراض وجودها الا في الموضوعات التي تعين على تسهيل معرفتي بها، ودون تقييدي بها البتة، حتى تزداد قدرتي فيما بعد على تطبيقها في جميع الموضوعات الأخرى التي توافقها. ثم إني لما تنبهت لتلك العلاقات، وتبين لي ان معرفتها تحتاج تارة إلى النظر في كل واحدة منها على حدة[29]، وتحتاج تارة أخرى إلى الجمع بينها[30] أو إلى النظر في كثير منها معاً، رأيت انه لإجادة النظر في كل واحدة منها على حدة يجب فرضها خطوطاً، لأن الخطوط ابسط الأشياء[31]، وليس فيما يتصوره خيالي، وتدركه حواسي ما هو اكثر تميزاً منها، ولكن للجمع بينها أو للنظر في كثير منها معاص يجب التعبير عنها برموز هي في أقصى درجات الإيجاز[32]. وبهذه الوسيلة أمكنني ان اقتبس من الجبر والتحليل الهندسي خير ما فيهما، وان أصحح عيوب كل منهما بالآخر[33].


وإني لأجرؤ في الحقيقة على القول ان المراعاة الدقيقة لهذا العدد القليل من القواعد التي اخترتها سهلت عليَّ كثيراّ حلّ جميع المسائل التي يتناولها هذان العلمان بالبحث. حتى انني خلال شهرين أو ثلاثة[34] قضيتها في امتحانها، مبتدئاَ بأبسط الأمور فأعمها، ومستعيناً بكل حقيقية وجدتها على كشف غيرها من الحقائق، لم انته إلى حلّ كثير من المسائل التي كنت احسبها من قبل صعبة فحسب، بل بدا لي أيضاً في النهاية انني أستطيع ان أعين بأي وسيلة وإلى أي حد يمكنني حلّ المسائل التي كنت أجهلها. وقد يظهر لكم اني غير عابث إذا لاحظتم انه ليس للشيء الواحد الا حقيقة واحدة، وان من يجدها يعلم عنها كل ما يستطاع علمه، وانه إذا تعلم طفل علم الحساب مثلاً وجمع بعض الأعداد بحسب قواعده، فانه يستطيع ان يثق بأنه وجد، فيما يختص بالمجموع الذي هو بصدده، كل ما يستطيع العقل البشري أن يجده. لان الطريقة التي تعلم المرء إتباع الترتيب الصحيح، والإحصاء الدقيق، لجميع ظروف الشيء المبحوث عنه، تشتمل على كل ما يهب اليقين لقواعد علم الحساب.

ولكن اعظم ما أرضاني من هذه الطريقة هو ثقتي معها باستعمال عقلي في كل شيء، ان لم يكن على الوجه الأكمل، فعلى احسن ما في استطاعتي على الأقل[35]. دع انني كنت أشعر وأنا أمارس هذه الطريقة بأن عقلي كان يتعود شيئاً فشيئاً تصور موضوعاته، تصوراً أشدّ وضوحاً، وأقوى تميزاً. ولما كنت لم اقصر هذه الطريقة على مادة خاصة، عللت نفسي بتطبيقها تطبيقاً مفيداً أيضاً في معضلات العلوم الأخرى[36]، كما طبقتها في مسائل الجبر. ولست اعني بذلك انني أقدمت أولاً على امتحان كل ما يعرض لي من مسائل العلوم، لأن هذا نفسه مخالف للنظام الذي توجبه الطريقة[37]، ولكنني لما لاحظت ان مبادئ هذه العلوم يجب ان تكون كلها مستمدة من الفلسفة التي لم اهتد فيها بعد إلى أي مبدأ يقيني، رأيت أنه يجب علي أولاً ان أحاول تقرير أصول يقينية في الفلسفة. ولما كان هذا الأمر أهم شيء في العالم، وكان التعجل والتشبث بالأحكام السابقة اعظم ما يجب ان يخشاه المرء، رأيت انه يجب علي ان لا أمضي فيه إلى نهايته ما لم أبلغ من العمر سناً انضج من الثالثة والعشرين التي بلغتها وقتئذ[38]، وما لم أنفق أولاً كثيراً من الوقت في إعداد نفسي له، سواء أكان ذلك بأن أنزع من عقلي جميع الآراء الفاسدة التي تلقيتها من قبل، أم بأن أجمع تجارب كثيرة اجعلها فيما بعد مادة استدلالاتي، وأن أتمرن دائماً على الطريقة التي رسمتها لنفسي لها[39]، حتى يزداد رسوخي فيها.


القسم الرابع: أسس علم ما بعد الطبيعة :

لست أدري هل يجب علي ان أحدثكم عن التأملات الأولى التي تيسرت لي هناك[40]، لأن في هذه التأملات من كثرة التجريد[41] والبعد عن المألوف ما يجعلها غير موافقة لذوق جميع الناس. ومع ذلك فإني أجد نفسي بوجه ما مضطراً إلى التحدث عنها، حتى يُستطاع الحكم على الأسس التي اخترتها. هل هي ذات متانة كافية؟ لقد لاحظت منذ زمن ان المرء محتاج في بعض الأحيان، فيما يختص بالأخلاق، إلى الأخذ بآراء يعلم انها غير يقينية، ولكنه يتبعها مع ذلك كما لو كانت يقينية، وقد سبق القول في ذلك. ولكن لما كنت إذ ذاك راغباً في التفرغ للبحث عن الحقيقة، رأيت أنه يجب علي ان افعل ضد ذلك تماماً، وان اعتبر كل ما أستطيع ان أتوهم فيه اقل شك باطلاً على الإطلاق، وذلك لأرى ان كان يبقى لديَّ بعد ذلك شيء خالص من الشك تماماً. وهكذا فإني، لما رأيت ان حواسنا تخدعنا أحياناً، فرضت ان لا شيء هو في الواقع على الوجه الذي تُصورّه لنا الحواسّ. وكذلك لما وجدت أنَّ هناك رجالاً يخطئون في استدلالاتهم، حتى في أبسط مسائل الهندسة، ويأتون فيها بالمغالطات، واني كنت عرضة للزلل في ذلك كغيري من الناس، اعتبرت باطلاً كل استدلال كنت احسبه من قبل برهاناً صادقاً. وأخيراً، لما لاحظت ان جميع الأفكار، التي تعرض لنا في اليقظة، قد تتردد علينا في النوم، من دون ان يكون واحد منها صحيحاً، عزمت على ان أتظاهر[42] بأن جميع الأمور التي دخلت عقلي لم تكن اصدق من ضلالات أحلامي. ولكني سرعان ما لاحظت، وأنا أحاول على هذا المنوال ان اعتقد بطلان كل شيء، انه يلزمني ضرورةً، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء. ولما رأيت ان هذه الحقيقة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين[43]، مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنني أستطيع مطمئناً ان اتخذها مبدأ أولاً[44] للفلسفة التي كنت أبحث عنها.

ثم اني أنعمت النظر بانتباه في ما كنت عليه[45]، فرأيت أنني أستطيع ان أفرض انه ليس لي أي جسم، وأنه ليس هناك أي عالم، ولا أي حيز أشغله، ولكنني لا أستطيع من اجل ذلك ان افرض انني غير موجود، لأن شكي في حقيقة الأشياء الأخرى يلزم عنه بضد ذلك، لزوماً بالغ البداهة واليقين، ان أكون موجودا، في حين أنني، لو وقفت عن التفكير، وكانت جيمع متخيلاتي الباقية حقاً، لما كان لي أي مسوغ للاعتقاد انني موجود[46]. فعرفت من ذلك انني جوهر[47] كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم الا على الفكر، ولا يحتاج في وجوده إلى أي مكان، ولا يتعلق بأي شيء مادي، بمعنى ان "الأنا" أي النفس التي أنا بها ما أنا، متميزة تمام التميز عن الجسم[48]، لا بل ان معرفتنا بها أسهل، ولو بطل وجود الجسم على الإطلاق لظلت النفس موجودةً بتمامها.

ثم إني نظرت بعد ذلك بوجه عام فيما تطلبه القضية من شروط لتكون صحيحة ويقينية. ولما كنت قد وجدت قضية علمت انها موصوفة بهذه الصفة، رأيت انه يجب علي أيضاً أن أعلم على أي شيء يقوم هذا اليقين. فلاحظت انه لا شيء في قولي: أنا أفكر، إذن أنا موجود، يضمن لي انني أقول الحقيقة، الا كوني أرى بكثير من الوضوح ان الوجود واجب للتفكير. فحكمت بأنني أستطيع أن اتخذ لنفسي قاعدةً عامة، وهي ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميَّز هي كلّها صحيحة، إلا ان هناك صعوبة في بيان ما هي الأشياء التي نتصورها متميزة.

ثم اني فكرت بعد ذلك في شكوكي، فتبين لي منها ان وجودي ليس تام الكمال، لأنني كنت اعلم بوضوح أن المعرفة أكثر كمالاً من الشك، فلاح لي ان ابحث من أين تأتى لي أن أفكر في شيء اكمل مني، فعرفت بالبداهة ان ذلك يرجع إلى وجود طبيعة هي في الحقيقة أكمل[49]. أما أفكاري الدالة على الأشياء الخارجية، مثل السماء، الأرض، والضوء، والحرارة، وألف شيء آخر، فاني لم أجد كبير عناء في معرفة من أين كانت تجيئني؛ لأني، لما لاحظت ان لا شيء فيها يجعلها أسمى مرتبة مني، استطعت ان اعتقد أنها إذا كانت حقيقية، فهي من لواحق طبيعتي، من حيث أن هذه الطبيعة تشتمل على شيء من الكمال[50]، وأنها إن لم تكن حقيقية، كانت مستمدة من العدم، أي حاصلة لي من جهة ما في طبيعتي من نقص[51]. ولكن الأمر لا يمكن ان يكون على هذا النحو فيما يختص بفكرة موجود أكمل من وجودي، لأن استمداد هذه الفكرة من العدم أمر ظاهر الاستحالة، ولأن قولنا: ان الأكمل لاحق وتابع لما هو أدنى كمالاً، ليس اقل شناعة[52] من قولنا: ان الشيء يحدث من لا شيء. وإذن أنا لا أستطيع أبدا أن أستمد هذه الفكرة من نفسي[53]، فبقي أنها ألقيت إلي من طبيعة هي في الحقيقة أكمل مني، لا بل من طبيعة لها بذاتها جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصورها. وإذا أردت الإبانة عن رأيي بكلمة واحدة قلت: إن المراد بهذه الطبيعة هو الله. ثم أضفت إلى ذلك: لما رأيت ان هناك كمالات ليس لي منها شيء عَلِمْتُ انني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود (واسمحوا لي هنا ان استعمل ألفاظ الفلسفة المدرسية[54])، وإنما يجب بالضرورة ان يكون هناك موجود أكثر مني كمالاً، أنا تابع له، وجميع الكمالات التي فيّ مستمدة منه، لأنني لو كنت وحيداً ومستقلاً عن كل كائن آخر، وكان هذا القليل من الكمال الذي أشارك فيه الموجود الكامل مستمداً من نفسي وحدها، لكنت أستطيع ان أحصل من نفسي، وللسبب ذاته، على جميع الكمالات التي أعرف انها تنقصني، ولكنت اجعل نفسي كذلك لا متناهياً، أزلياً، أبدياً، ثابتاً، عالماً بكل شيء، حاصلاً في النهاية على جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصور وجودها في الله[55]. وينتج من هذه الاستدلالات التي أوردتها انه، لمعرفة طبيعة الله على قدر ما تستطيعه طبيعتي، لم يكن علي الا ان أتأمل جميع الأشياء التي وجدت صورها في نفسي، هل في امتلاكها كمال أم لا. ولقد كنت متيقناً ان أية فكرة من الفكر المشتملة على النقص لا وجود لها في الله، ولكن جميع الفكر الأخرى ثابتة له[56]. وكذلك رأيت أن الشك، والتقلب، والحزن، وما شابه ذلك من الأمور لا يمكن ان تنسب إليه، لأنني كنت أنا نفسي أرتاح إلى سلامتي منها. ثم انه كان في نفسي، عدا ذلك، صور لكثير من الأشياء الحسية والجسمية. لأنني، وان فرضت انني كنت حالماً، وان ما أراه أتخيله كان باطلاً، إلا انني لا أستطيع ان أنكر مع ذلك ان صور ما أراه وأتخيله موجود في ذهني. ولكن لما كنت قد عرفت سابقاً معرفة واضحة ان الطبيعة العاقلة فيّ متميزة عن الطبيعة الجسمية، وان كل تركيب يدل على تعلق الشيء بالشيء، وان التعلق[57] نفسه نقص ظاهر، استنتجت من ذلك انه ليس من الكمال ان يكون الله مؤلفاً من هاتين الطبيعتين، وأنه لا يمكن بالتالي ان يكون الله مركباً. وإذا كان في العالم أجسام[58]، أو عقول[59]، أو طبائع أخرى[60] غير تامة الكمال، فان وجودها يجب ان يكون متعلقاً بقدرته، بحيث لا تستطيع البقاء دونه لحظة واحدة[61].

ثم اني أردت بعد ذلك[62] ان ابحث عن حقائق أخرى، فاخترت الموضوع الذي يبحث فيه علماء الهندسة. وهو، كما أتصوره، جسم متصل، أو مكان لا حدّ[63] لامتداده في الطول، والعرض، والارتفاع، أو العمق يقبل الانقسام إلى أجزاء مختلفة، ذات أشكال وحجوم مختلفة، وتُحرَّك أو تُبَّدل[64]على جميع الوجوه، (لأن علماء الهندسة يفرضون ذلك كله في موضوع علمهم). وتصفحت بعض براهينهم البسيطة، ففطنت إلى ان هذا اليقين العظيم الذي يعزوه الناس إليها إنما هو مبني على كون تصورها بديهياً تبعاً للقاعدة التي ذكرتها سابقاً، ثم فطنتُ أيضاً إلى انه لا شيء في هذه البراهين يجعلني على يقين بوجود موضوعاتها خارج الذهن[65]. مثال ذلك: كنت أرى جيدا انني إذا فرضت مثلثاً لزم من ذلك أن تكون زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، ولكني لم أجد في ذلك ما يجعلني على يقين بأن في العالم مثلثاً ما؛ في حين انني إذا رجعت إلى امتحان معنى الموجود الكامل الذي أتصوره، وجدت انه يتضمن الوجود على نحو ما يتضمن معنى المثلث ان زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، أو كما يدخل في معنى الكرة ان جميع أقسام سطحها متساوية البعد عن مركزها، بل هو أكثر من هذين الأمرين بداهة[66]. ويلزم عن ذلك ان وجود الله، الذي هو ذلك الكائن الكامل، لا يقل يقيناً عن أي برهان من براهين الهندسة.

ولكن السبب في اعتقاد الكثيرين أن هناك صعوبة في معرفة الله بل في معرفة ما هي النفس أيضاً، يرجع إلى انهم لا يرفعون عقولهم أبدا إلى ما وراء الأشياء الحسية، وانهم تعودوا الا يفكروا في شيء الا إذا تخيلوه (وهذه طريقة تفكير خاصة بالأشياء المادية) حتى ان كل ما لا يمكن تخيله يبدو لهم غير معقول[67] . وهذا ظاهر في اتخاذ الفلاسفة قاعدة لهم في المدارس: ان لا شيء في العقل لم يكن أولاً في الحس[68]. وانه لمن المتيقن مع ذلك ان معنى الإله ومعنى النفس لم يكونا قط في الحس. ويبدو لي ان الذين يريدون ان يستعينوا بخيالهم على تفهّم هذين المعنيين[69] يفعلون كما لو أنهم أرادوا الاستعانة بعيونهم على سماع الأصوات، أو شم الروائح. الا ان هناك فرقاً بين الأمرين، وهو ان توكيد حاسة البصر لحقيقة مدركاتها لا يقل عن فعل حاسة الشم أو السمع، في حين ان قوتنا المتخيلة وحواسنا لا تستطيع أن تؤكد لنا شيئاً الا إذا تدخل عقلنا فيه.

وأخيراً، إذا كان هناك أناس لم يقتنعوا بعد اقتناعاً كافياً بوجود الله، ووجود النفس، بالحجج التي أوردتها، فاني أريد ان يعلموا جيداً ان جميع الأشياء، التي يظنون انهم اكثر وثوقاً بها، مثل ان لهم جسماً، وان هناك كواكباً وأرضاً، وما شابه ذلك، إنما هي اقل ثبوتاً. ومع انه قد يكون للمرء ثقة عملية[70] بهذه الأشياء يبدو معها انه لا يمكنه الشك فيها الا إذا شطّ في حكمه، وابتعد عن المألوف، فانه، فيما يتعلق باليقين الفلسفي[71]، لا يستطيع، اللهم الا إذا حرم العقل، ان ينكر انه يكفي لنفي اليقين التام ان يلاحظ الإنسان انه يستطيع بالطريقة نفسها أن يتخيل، وهو نائم، ان له جسماً آخر، وانه يبصر كواكباً وأرضاً أخرى، دون وجود شيء من ذلك هناك. لأنه من أين للمرء ان يعلم ان الأفكار التي ترد عليه في النوم اقرب إلى الكذب من غيرها، ما دامت لا تقل عن غيرها قوة ووضوحاً[72]. ولو ان أفضل العقول بحثت في ذلك ما شاءت، لما استطاعت، فيما اعتقد، ان تأتي بأية حجة لرفع هذا الشك، ما لم تقدم على ذلك فرض وجود الله. أولاً، لأن الأمر الذي اتخذته من قبل قاعدة، وهو ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميز صحيحة كلها، لم أتيقنه هذا اليقين[73] إلا لأن الله كائن أو موجود، وانه موجود كامل، وان كل ما فينا يصدر عنه[74]. ينتج من ذلك أن أفكارنا وتصوراتنا، لما كانت أشياء حقيقية صادرة عن الله، فهي، بما هي واضحة ومميزة، لا يمكن أن تكون صحيحة، بحيث انه إذا كان لدينا في الغالب أفكار كاذبة، فان هذا الكذب لا يكون الا فيما كان منها محتوياً على غموض والتباس، لأنها في ذلك تشارك العدم، أعني انها ليست على هذا النحو من الغموض الا لأن كمالنا ليس تماماً. وبديهي ان الشناعة[75] في قولنا ان الباطل أو الناقص من حيث هو كذلك يصدر عن الله، ليس اقل من الشناعة في قولنا: ان الحق أو الكمال يصدر عن العدم، ولكننا إذا كنا لا نعلم أبداً ان كل ما فينا من وجود وحق إنما يأتي من موجود كامل وغير متناه، فمهما تكن أفكارنا واضحة ومميزة فانه لا يمكن ان يكون لدينا أي دليل يثبت لنا انها يمكن ان تتصف بكمال الحقيقة.

وعلى ذلك فانه من السهل علينا جداً، بعد ان جعلتنا معرفة الله والنفس على يقين من هذه القاعدة، ان نعرف ان الأحلام التي نتخيلها في النوم لا تحملنا أبدا على الشك في صدق الأفكار التي تحصل لنا في اليقظة. لأنه إذا اتفق للمرء، حتى في النوم، ان يتصور فكرة جد متميزة، كأن يكشف أحد علماء الهندسة برهاناً جديداً، فان نومه لا يمنع هذا البرهان من ان يكون صحيحاً. اما الخطأ العادي في أحلامنا، وهو يقوم على ان الأحلام تصور لنا أموراً مختلفة على النحو الذي تفعله حواسنا الظاهرة، فليس مهماً ان يكون هذا الخطأ باعثاً على الارتياب في صدق مثل هذه الأفكار، لأنها تستطيع أيضاً ان تخدعنا في كثير من الأحيان من دون ان نكون نياماً، كمثل المصابين بمرض اليرقان، فهم يرون كل شيء أصفر اللون، أو كمثل الكواكب والأجسام البعيدة جداً، فهي تظهر لنا أصغر بكثير مما هي عليه[76]. وأخيراً سواء أكنا أيقاظاً أم نياماً، فانه ينبغي لنا أن لا نقتنع الا ببداهة عقولنا. وليلاحظ انني أقول هنا عقولنا لا خيالنا وحواسنا. ومن قبيل هذا أيضا يجب علينا، إذا رأينا الشمس في وضوح تام، ان لا نحكم من اجل ذلك بأن حجمها ليس الا بالمقدار الذي نراها فيه. ويمكننا ان نتخيل في تميز تام رأس أسد مركباً على جسم عنزة من دون ان يلزمنا ان نستنتج من اجل ذلك ان في العالم وحشاً وهمياً كهذا. لأن العقل لا يملي علينا ان يكون ما نراه أو نتخيله على هذا الوجه حقيقياً، ولكنه يملي علينا أن أفكارنا وتصوراتنا يجب ان يكون لها أساس من الحقيقة، ولولا ذلك لما كان من الممكن أن يضع الله فينا هذه الأفكار والتصورات، وهو كمال كله، حق كله، ولما كانت استدلالاتنا في النوم ليست بديهية وتامة كما هي عليه في اليقظة، وكان لتخيلاتنا من القوة أو الوضوح في النوم ما لها في اليقظة أو اكثر، فان العقل ليملي علينا أيضا ان أفكارنا ما دامت لا تستطيع ان تكون كلها صحيحة، لعدم اتصافنا بالكمال، فان ما فيها من حق يجب ان يوجد حتماً في التي تحصل لنا في اليقظة لا في الأحلام[77].

- يتبع -



جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:50 PM

ديكارت: مختارات من "تأملات في الفلسفة الاولى"

التأمل الأول: في الأشياء التي يمكن ان توضع موضع الشك :

1. ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، ان نرفض كل آرائنا القديمة، مرة في حياتنا.
تبين لي، منذ حين، انني تلقيت، إذ كنت ناعم الأظفار، طائفة من الآراء الخاطئة ظننتها صحيحة. ثم وضح لي ان ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها من الاضطراب، لا يمكن ان يكون الا أمراً يشك فيه، كثيراً ويرتاب منه. لهذا قررت ان أحرر نفسي، جدياً، مرة في حياتي، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلاً، وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة، إذا كنت أريد ان أقيم في العلوم قواعد وطيدة، ثابتة مستقرة. غير ان المشروع بدا لي ضخماً للغاية، فتريثت حتى أدرك سناً لا سن أخرى، بعدها، آمل ان أكون فيها اصلح نضجاً لتنفيذه. من اجل هذا أرجأته مدة طويلة. اما اليوم فقد غدوت اعتقد انني أخطئ إذا ترددت أيضاً، دون ان اعمل في ما بقي لي من العمل.

2. لا داعي لامتحان كل الآراء القديمة بالتفصيل. يكفي ان نعالج أهمها.
الآن، وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فانني أجدني حراً في تقويض جميع آرائي القديمة، وليس بواجب، كي أدرك هذه الغاية، ان أبين زيفها كلها فقد لا انتهي منه أبداً. وإنما يكفي، لرفضها كلها، ان أجد لها سبباً للشك فيها. إذ ان العقل يريني انه ينبغي لي الا أكون اقل رفضاً للأمور التي لم تبلغ مرتبة اليقين التام، مني للأمور الفاسدة حقاً.

3. في ان هذه المبادئ هي الحواس، التي لا يمكن ان يوثق بها، لأنها خدّاعة.
كل ما تلقيته، حتى الآن، على انه اصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس، أو عن طريق الحواس. غير اني وجدت الحواس خدّاعة في بعض الأوقات، ومن الحكمة الا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة.

4. يبدو لنا انه يستحيل على حواسنا ان تخدعنا في بعض الأمور.
ولئن كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جداً وبعيدة عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل ان نشك فيها، وان كنا نعرفها بطريق الحواس. مثال ذلك، ان ألبس عباءة المنزل، فاجلس هنا قرب النار، وقد مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. كيف أستطيع ان أنكر هاتين اليدين وهما يداي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم الا إذا أصبحت كبعض المخبولين، الذين اختلت أذهانهم، وغُشى عليها بالأبخرة السود الصاعدة من الصفراء. هؤلاء لا ينفكون يؤكدون انهم ملوك، في حين انهم فقراء جداً. ولا ينفكون يؤكدون انهم يلبسون ثياباً موشاة بالذهب والأرجوان، في حين انهم عراة جداً. ولا ينفكون يتخيلون انهم جرار، أو ان لهم أجساماً من زجاج. هؤلاء مجانين. ولن أكون اقل شططاً منهم إذا نسجت على منوالهم.

5. الا اننا قليلو الثقة بها، مما يجعلنا غير قادرين على التمييز، حتى بين اليقظة والحلم.
لكن يترتب علي، في هذا المكان، ان آخذ بعين الاعتبار انني إنسان، من عادتي ان أنام، وان أرى في أحلامي الأشياء ذاتها، التي يراها هؤلاء المخبولون في يقظتهم، أو أشياء هي ابعد منها عن الواقع. فكم مرة حلمت اني جالس قرب النار ههنا، وقد لبست ثيابي، مع اني في سريري متجرد من كل ثوب. وهكذا لا يبدو لي، في الحلم، اني لا انظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين، ولا ان هذا الرأس الذي أهز هو رأس ناعس. بالعكس، يبدو لي انني ابسط يدي واشعر بها عن قصد وتصميم. ان ما يقع في الحلم هو أيضاً ليس بالواضح المتميز. إذ كثيراً ما أتذكر، وقد أطلت النظر في الأمر، اني انخدعت في الحلم بمثل هذه الرؤى. لذا أرى بغاية الجلاء، حين أقف عند هذه الفكرة، انه لا يوجد علامات قاطعة، ولا إمارات يقينية كفاية، نستطيع بها ان نميز بين اليقظة والحلم، تمييزاً دقيقاً. وعليه فذهولي عظيم حتى يكاد يقنعني باني نائم.

6. ان الأمور التي نتمثلها في الحلم ليست متخيلة كل التخيل.
لنفرض الآن، إذن، اننا نائمون، وأن جميع هذه الخصائص، من فتح العينين، وهز الرأس، وبسط اليدين، وما شابه، ان هي الا رؤى كاذبة. ولنفرض ان أيدينا، وجسمنا كله، قد لا يكون على نحو ما نراه. ولكن ينبغي التسليم، على الأقل، بان الأشياء التي نتمثلها في الحلم هي بمثابة لوحات وصور، لا يُستطاع تكوينها الا على غرار شيء واقعي حقيقي. وهكذا، على الأقل، لا تكون هذه الأشياء العامة (كالعينين، والرأس، واليدين، وكل باقي الجسم) أشياء متخيلة، لكنها أشياء واقعية موجودة. إذ المصورون، وان بذلوا ما أوتوا من قدرة على تمثيل بنات البحر والتيوس الآدمية في أشكال غريبة جداً، وبعيدة عن المألوف، لا يستطيعون رغم ذلك ان يضفوا عليها أشكالاً وطبائع جديدة كل الجدة. وإنما الذي يصنعونه هو مزيج وتأليف من أعضاء مختلف الحيوانات. وإذا جمح الخيال عندهم، فابتدعوا شيئاً يبلغ مرتبة من الجدة، لا يرى أحد قط له مثيلاً، فان عملهم يكون شيئاً مختلقاً بالأساس، وزائفاً كل الزيف. يبقى، على الأقل، ان الألوان التي يؤلفونها منها، لا بد لها من ان تكون حقيقية.

7. يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى ابسط، هي موجودة حقاً.
ومع ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها، على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية. من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.

8. ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن الشك فيها.
لعلنا غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني، لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة، وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.

9. في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.
مع ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟ لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟ لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟ فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً، فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين ان هذا لا يقع بإذنه.

10. إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.
قد نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين. لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً، أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.

11. في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.
ذلك لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.

ولكن لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي، لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم، الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.

12. ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.
سأفترض إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي. وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان ينيخني[78] لشيء أبداً.

13. في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.
لكن هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني، في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة. وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه، فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة، ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة، اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.

التأمل الثاني: في عناصر الأشياء المادية

1. يجب أن نعيد فحص الأشياء التي يخامرنا أدنى شك فيها، إلى ان نعثر على شيء ثابت.
غمرني تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي ان أمحوها من نفسي، ولا ان أجد مع ذلك سبيلاً إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية، فهالني الأمر هولاً شديداً، حتى أنني لم اقدر على تثبيت قدمي في القاع، ولا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي أيضاً في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعداً عن كل ما قد يكون لدي أدنى شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جداً. سأتابع السير في هذه الطريق حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك، علمت علماً أكيداً، على الأقل، انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

2. وانه لفوز كبير إذا استطعنا ان نعثر على شيء واحد.
وهل كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من مكانها إلى مكان آخر؟ كذلك أنا فانه يحق لي ان أعلل النفس بأكثر الآمال، إذا أسعدني الحظ وعثرت على شيء ثابت، لا شك فيه.

3. إذن ينبغي لنا ان نعتبر باطلاً كل ما عرفناه عن طريق الحواس.
سأفترض، إذن، ان جميع الأشياء التي أرى، باطلة. وسأميل إلى الاعتقاد ان شيئاً لم يكن، قط، من كل ما تمثله لي ذاكرتي، المليئة بالأغاليط. سأحسب اني خلو من الحواس. سأحسب ان الجسم، والشكل، والامتداد، والحركة، والمكان، ان هي الا أوهام نفسي. إذن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً؟ لعل شيئاً واحداً، لا غير، هو انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

4. لا نستطيع، ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون. ان هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبراً.
لكن، ما يدريني، لعل هناك شيئاً آخر لا نستطيع الشك فيه، وهو يختلف عن الأشياء، التي حكمت منذ قليل أنها غير ثابتة؟ الا يوجد إله ما، أو قوة أخرى توحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ هذا الاعتقاد ليس واجباً. فقد أحدثت تلك الخواطر من تلقاء نفسي. إذن ألست أنا شيئاً على الأقل؟ لكنني أنكرت، فيما تقدم، ان يكون لي حس... ان يكون لي جسم. مع ذلك أنا متردد. إذ ماذا ينتج عن كل هذا؟ هل يبلغ ارتباطي بالجسم، والحواس، مبلغاً لم يعد بإمكاني ان أكون موجوداً، الا بالجسم والحواس؟ الا انني كنت قد اقتنعت، قبلاً، انه لا يوجد في العالم شيء، على الإطلاق، لا سماء، ولا أرض، ولا نفس، ولا أجسام، وبالتالي قد اقتنعت انني لست موجوداً كذلك؟ كلا. أنا موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء، ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مُضِلٌّ شديد القوة، والمكر، يبذل كل مهاراته لتضليلي دائماً. إذن، ليس من شك في اني موجود، إذا أضلني. فليضلني ما يشاء. أنه عاجز، أبداً، عن ان يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر انني شيء. من هنا ينبغي لي ان اخلص، وقد رويّت الفكر، وأمعنت النظر في جميع الأشياء، إلى ان هذه القضية "أنا كائن، أنا موجود" هي قضية صحيحة جبراً، في كل مرة انطق بها، أو وأتذهنها.

5. ما دمنا واثقين اننا موجودون، يترتب علينا ان نبحث أي شيء نحن.
الا انني لا أعرف، بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي اني كائن. من اجل هذا يجب، منذ الآن، ان انتبه جيداً كي لا يشتبه الأمر علي، فآخذ شيئاً على انه أنا، وأضِلُ هكذا عن الصواب، حتى في تلك المعرفة التي أرى انها اكثر يقيناً، وبداهة، من كل معارفي السابقة.

6. لذلك يحسن بنا ان نعيد النظر في ما كنا نعتقد به سابقاً.
لذلك سأعيد النظر الآن، من جديد، في ما كنت اعتقد به، قبل ان تخالجني هذه الخواطر الأخيرة. سأستبعد من آرائي القديمة، كل ما يمكن ان تزعزعه أسباب الشك، التي ذكرتها آنفاً، كي لا يبقى الا ما يقينه تام. فماذا كنت اعتقد؟ كنت اعتقد، صراحة، انني إنسان. ولكن ما هو الإنسان؟ هل أقول انه حيوان عاقل؟ كلا. إذ يضطرني هذا إلى ان ابحث، بعد ذلك، في ما هو الحيوان وما هو العاقل، فأنزلق هكذا من سؤال واحد إلى الخوض، بلا وعي، في أسئلة أخرى اشد صعوبة وتعقيداً. وأنا غير قادر على مضيعة ما لي من وقت وفراغ في محاولة الكشف عن مثل هذه الصعوبات. أؤثر ان انظر ههنا في الخواطر، التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها، حين عكفت على البحث في كياني. حسبت، أولاً، ان لي وجهاً، ويدين، وذراعين، وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم، وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان، وهو الذي كنت أدل عليه باسم البدن. حسبت أيضاً انني أتغذى، وامشي، وأحس، وأفكر، ناسباً للنفس جميع هذه الأفعال.

وسواء بحثت مطولاً في ماهية النفس، أو لم ابحث، فقد كنت أتصورها شيئاً نادراً، ولطيفاً جداً، كريح، أو شعلة، أو نسيم رقيق للغاية، وقد اندس، وانتشر في اخشن أعضائي. أما الجسم فما شككت يوماً في طبيعته، بل كنت أظن اني اعرفه معرفة متميزة. ولو أردت شرحه، وفق المعاني التي كانت في ذهني، لشرحته على النحو التالي: الجسم هو كل ما يمكن ان يحده شكل. هو كل ما يمكن ان يتحيز فيحتويه مكان، مقصياً هكذا عنه مطلق جسم آخر. هو كل ما يمكن ان يحس، اما باللمس، أو البصر، أو السمع، أو الذوق. هو كل ما يحركه، في اتجاهات عديدة، شيء خارجي، يمسه، ثم يترك أثراً فيه. ذلك لأنني لن اعتقد يوما، ان القدرة على التحرك من الذات، وعلى الإحساس والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني ان أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام.

7. في اننا لسنا، من كل ما اعتقدناه قبلاً، سوى بالضبط شيء يفكر.
لكن أنا من أكون أنا، وقد افترضت الآن وجود من يبذل كل ما أوتي من قوة، ومهارة في سبيل تضليلي، وهو شديد السطوة، والمكر، والدهاء؟ هل أستطيع التأكيد انني أملك صفة واحدة، من جميع الصفات، التي نسبتها قبلاً لطبيعة الجسم؟ لقد فكرت ملياً في الأمر، أجلت ذهني حول هذه الصفات، مثنى، وثلاث، فلم أجد منها شيئاً، يصح القول بأنه من خصائص نفسي. إذن لا حاجة إلى تعدادها. ولننتقل إلى صفات النفس. ولنتساءل عما إذا كنت املك إحداها. أول ما أوردنا من هذه الصفات، هو التغذي والمشي. لكن، إذا صح ان لا جسم لي، صح ان لا تغذِ لي ولا مشي. ثم أوردنا صفة ثانية من صفات النفس، هي الإحساس. لكن، لا إحساس بدون جسم، وان اعتقدت فيما سلف انني أحسست، نائماً، بأشياء كثيرة. ألم يتبين لي، بعد اليقظة، انني لم أحس بها؟ ثم أوردنا صفة ثالثة، من صفات النفس، هي الفكر. هنا أجد ان الفكر صفة تخصني. هي وحدها لصيقة بي. أنا موجود. هذا أمر ثابت. لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت ربما عن الوجود، انقطاعاً خالصاً. اسلم الآن جبراً بشيء صحيح. أنا شيء يفكر... أي أنا روح، أو إدراك، أو عقل. وهي ألفاظ كنت اجهل معناها من قبل. فأنا، والحالة هذه، شيء صحيح وموجود حقاً. لكن أي شيء أنا هو؟ لقد قلته. انني شيء يفكر. وماذا بعد؟ هنا استحث خيالي، أيضاً، علني اعثر على ما هو اكثر من كائن يفكر. جلي اني لست تلك المجموعة من الأعضاء، التي سميت بدنا. ولست هواء رقيقاً، لطيفاً، منتشراً في جميع تلك الأعضاء. ولست ريحاً، ولا نسمة، ولا بخاراً ولا شيئاً من كل ما أستطيع ان أتخيل، وأتصور. ألم افترض أن كل ذلك ليس موجوداً؟ رغم صحة هذا الافتراض، ما زلت موقناً انني موجود.

8. في ان كل ما ندركه بواسطة الخيال لا يخص تلك المعرفة التي لدينا عن ذاتنا.
لكن، ما يدريني، فقد تكون هذه الأشياء عينها (وأنا افترض انها غير موجودة لأنني أجهلها) غير مختلفة حقاً عن نفسي التي اعرف. لست ادري. ولا أجادل الآن في هذا. حسبي ان لا احكم الا على الأشياء التي اعرف. ولقد عرفت اني موجود. يبقى ان ابحث في الوجود، الذي هو وجودي، أنا العارف اني موجود. ومن الثابت ان معرفتي لذاتي، بمعناها ذلك، لا تعتمد على الأشياء التي لم أعرف وجودها بعد، ولا على أي شيء من الأشياء التي أستطيع ان تصورها بالمخيلة. ان في لفظتي التصور والتخيل، ما ينبهني إلى خطأي، لأنني أتوهم بالواقع حين أتخيل اني شيء، إذ التخيل تأمل في صورة، وان تلك الصور (وكل ما يتعلق عموماً بطبيعة الجسم) قد يكون أحلاماً وتخيلات. وهكذا يتبين لي، عندما أقول " سأستحث خيالي لأعرف ماهيّتي معرفة أوضح" انني لست اكثر صواباً مني عندما أقول "أنا الآن مستيقظ. واني أدرك بالبصر شيئاً واقعياً حقيقياً. ولما كنت لا أراه بعد، بوضوح كاف، فسأنام قصداً لتمثله لي أحلامي بمزيد من الوضوح والبداهة". إذن لا شيء من كل ما تستطيع مخيلتي ان تحيطني به، اعرفه كتلك المعرفة التي لدي عن نفسي. علينا، والحالة هذه، ان ننشط الذهن بصرفه عن هذا التصور، ليتمكن من ان يعرف طبيعته معرفة متميزة كل التميز.

9. في ما هو الشيء الذي يفكر.
إذن أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويتذهن، ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضاً، ويحس. حقاً ليس بالأمر القليل ان تكون كل هذه الأشياء من خصائص طبيعتي. ولكن لم لا تكون من خصائصها؟ الست أنا ذلك الشخص عينه، الذي يشك الآن في كل شيء، على وجه التقريب؟ وهو، مع هذا، يدرك بعض الأشياء، ويتذهنها، ويؤكد انها الصحيحة وحدها، وينكر سائر ما عداها، ويريد، ويرغب في ان يعرف غيرها، ويأبى ان يخدع، ويتخيل أشياء وأشياء، رغم إرادته أحياناً، ويتحسس الكثير منها أيضاً، بواسطة أعضاء الجسم؟ هل يوجد بين كل هذا ما يعادل في صحته اليقين بأني كائن موجود، على الدوام، حتى وان كنت نائماً، وكان الذي منحني الوجود يبذل وسع مهارته في سبيل تضليلي؟ وهل توجد صفة، من هذه الصفات، يمكن تمييزها من فكري، أو القول انها منفصلة عني؟ بديهي انني أنا هو الكائن الذي يشك وأنا هو الكائن الذي يدرك. وأنا هو الكائن الذي يرغب. لا حاجة إلى شيء آخر من اجل إيضاحه. لدي قدرة أيضاً على التخيل. هذه القدرة (وان كنت قد افترضت، سابقاً، ان كل الأشياء التي أتخيلها ليست حقيقية) لا تعرى عن الوجود في، كجزء دائم من فكري. وأخيراً، أنا هو الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس، ما دمت بالواقع أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. إذا قيل ان هذه المظاهر زائفة، وانني أنام، أجبت بأنه ثابت (على الأقل عندي) اني أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. هذا لا يمكن ان يخرج عن كونه تفكيراً. من هنا بدأت اعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح والتمييز، يزيد قليلاُ عما كنت اعرف من قبل.

10. ما الذي يحدونا على الاعتقاد اننا نعرف الأشياء الجسمية اكثر مما نعرف هذا الشيء المفكر.
لكن لا بد لي أيضاَ من القول انني اعرف، معرفة متميزة، الأشياء الجسمية التي تتكون صورها بالفكر، وتقع تحت الحواس، اكثر مما اعرف ذلك الجزء من نفسي، الذي ادري ما هو، والذي لا يقع تحت الخيال. اجل، من الغرابة جداً ان اشك في وجود أشياء، هي ليست واضحة عندي ولا مختصة بي، ثم أقول اني اعرفها وافهمها، بشكل أوضح واسهل، مما أعرف وافهم الأشياء الحقيقية الثابتة، التي هي معروفة لدي ومختصة بي. الا ان الأمر قد انجلى في نظري. النفس يحلو لها ان تضل السبيل، لأنها تنفر من الانضباط في حدود الحقيقة. لنطلق لها العنان، إذن، مرة أخرى. ولنترك لها كل الحرية. ولنفسح لها مجال الإمعان في الأشياء الخارجية.

11. لننظر في معرفتنا الأشياء الحسية على ضوء مثل قطعة من الشمع.
لنبدأ الآن بالنظر في الأشياء العادية، التي تتراءى لنا معرفتها انها ايسر من غيرها، اعني الأجسام الملموسة المنظورة. ولا اقصد كل الأجسام. هذه المفاهيم العامة كثيراً ما تستبهم علينا. لنقتصر منها على جسم معين ننظر فيه. لنأخذ، مثلاً، هذه القطعة من الشمع، ولم يمض على استخراجها من القفير غير زمن قصير. هذه القطعة لم تفقد بعد حلاوة العسل الذي تحتويه. ولم تفقد كل أريج الزهور التي اقتطفت منها. فلونها، وحجمها، وشكلها، أشياء ظاهرة للعين. هي جامدة، باردة تتناول باليد. إذا نقرت عليها خرج منها صوت. وهكذا نجد فيها، جملة، جميع الأشياء التي تجعلنا نعرف بها الجسم معرفة متميزة.

12. في ان كل ما نعتقد اننا نعرفه بتمييز في هذه القطعة من الشمع لا يقع تحت الحواس.
لكن، بينما أنا أتكلم، إذا بها توضع قرب النار، فيتطاير ما بقي من طمعها، وتتلاشى رائحتها، ويتغير لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها، إذ تصير من السوائل، وتسخن حتى يكاد لمسها يصعب، فلا ينبعث منها صوت، مهما تنقر عليها. أتزال الشمعة هي ذاتها بعد هذا التغيير؟ الحق انها باقية. ولا أحد يستطيع ان ينكر ذلك أو يحكم حكماً مخالفاً. إذن ما هو الشيء، الذي كنا نعرفه، في قطعة الشمع، معرفة متميزة؟ لا شيء، يقيناً، من كل ما لاحظته فيها، عن طريق الحواس، ما دام الذي وقع منها تحت حواس الذوق، أو الشم، أو البصر، أو اللمس، أو السمع، قد تغير كله، في حين ان الشمعة ذاتها باقية. قد يكون الأمر كما أراها الآن. اعني ان هذه الشمعة ليست تلك الحلاوة التي في العسل، ولا ذلك الأريج الزكي الذي يفوح من الأزهار، ولا ذلك البياض، ولا ذلك الشكل، ولا ذلك الصوت. وإنما هي جسم كان يلوح لي، منذ قليل، محسوساً به في هذه الصور، وهو الآن محسوس به في صور أخرى. ولكن ما هو، بالتدقيق، الشيء الذي أتخيله، حين اتذهن الشمعة على هذا النحو؟ فلننظر في الأمر بإمعان، ولنستبعد كل ما ليس من خواص الشمعة، كي نرى ما يتبقى بعد ذلك. الذي يتبقى منها حقاً هو شيء ممتد لين متحرك. ولكن ما معنى اللين والمتحرك؟ أليس معناه انني أتخيل قطعة الشمع المستديرة، قابلة لأن تصير مربعة أو مثلثة؟ الأمر ليس كذلك بته: لأن الشمعة قابلة لعدد لا يحصى من هذه التغييرات، التي لن أدركها بخيالي. وهو دليل إلى ان تذهني لها ليس ثمرة المخيلة.

13. في اننا نعرف، بالإدراك وحده إذن، ما هي هذه القطعة من الشمع.
فما هو ذلك الامتداد إذن؟ ألا أجهله أيضاً؟ انه يزيد فاكثر عندما ترتفع حرارتها. فأنا لا اتذهن، تذهناً واضحاً ومطابقاَ للحقيقة، ماهية الشمعة، إذا كنت لا افترض انها تأخذ، وفقاً للامتداد، أنحاء شتى لم تخطر قط بخيالي. إذن لا بد من القول بان خيالي عاجز عن ان يعرف ماهية هذه القطعة من الشمع. الذي يعرفها هو إدراكي وحده. أتحدث خاصة عن هذه القطعة من الشمع، إذ ان أمر الشمع بصورة عامة هو أيضاً اكثر بداهة. ولكن ما هي قطعة الشمع تلك، التي لا يمكن تذهنها الا بالإدراك أو بالروح؟ يقيناً انها ذاتها التي أراها، وألمسها، وأتخيلها، هي ذاتها التي عرفتها منذ البداية. غير ان ما يجب إيضاحه هو ان إدراكي إياها لم يعد إبصاراً، أو تلمساً، أو تخيلاً. هو ليس شيئاً من ذلك، مطلقاً، وان كان قد بدا انه كذلك من قبل. وإنما هو لمعة من لمعات الروح، قد تكون ناقصة ومبهمة كما بدت سابقاً، أو واضحة متميزة كما هي الآن، وفقاً لدرجة انتباهي إلى العناصر، التي تشتمل عليها الشمعة والتي تتألف منها.

14. لِمَ يصعب الإجماع على هذه الحقيقة؟
لا اعجب كثيراً حين ألاحظ ما في إدراكي من ضعف، وميل، يجعلانه عرضاً للخطأ، عن غير وعي. ذلك لأن الألفاظ تصدني، وان كنت أجيل هذا كله في ذهني، دون ان أتكلم. العبارات الجارية تكاد تخدعني. فنحن نقول بأننا "نرى" الشمعة ذاتها حين تكون أمامنا، ولا نقول بأن "نحكم" عليها هي عينها، لأن لها لون الشمعة ذاته وشكلها ذاته. لذا نكاد نستنتج اننا نعرف الشمعة بالعينين، لا بمعرفة الروح وحدها. لو نظرت مصادفة من النافذة، وشاهدت رجالاً يسيرون في الشارع، لقلت عند رؤيتي لهم اني أرى رجالاً بعينهم، كما أقول اني أرى شمعة بعينها. ولكن هل أرى بالواقع من النافذة قبعات، ومعاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب؟ مع ذلك احكم انهم ناس. إذن أنا أدرك، بمحض ما في ذهني من قوة الحكم، ما كنت احسب اني أراه بعيني.

15. ... التي تثبت ان لنا روحاً؟
ينبغي لمن يحاول الارتفاع إلى معرفة، تجاوز مرتبة العامة، ان لا يلتمس في صيغ الكلام، التي ابتدعتها تلك العامة، الا مواطن شك. ولكن أؤثر ان اضرب صفحاً عن ذلك. الأفضل ان انظر هل كان تذهني لماهية الشمعة (حين أدركتها بالحس، وظننت اني اعرفها بطريق الحواس الخارجية، أو على الأقل بالحس المشترك، كما يقولون، أي بالمخيلة) هل كان تذهني اكثر بداهة وكمالاً من تذهني لها، الآن، بعد ان بذلت عناية اشد في البحث عن ماهيتها، وعن السبيل إلى معرفتها؟ من السخف،حقاً ان نضع هذا الأمر موضع الشك. إذ ماذا كان في إحساسي الأول من تمييز؟ ماذا كان فيه ما لا نستطيع ان نجده في حس اقل الحيوانات؟ لكن حين أميز الشمعة من صورها الخارجية، وأتأملها عارية، كما لو كنت قد جردت عنها ثيابها، فمن المحقق اني لا أتمكن، وان وقع بعض الخطأ في حكمي، ان اتذهنها على هذا النحو دون الاستناد إلى روح إنسانية.

16. في اننا نعرف هذه الروح اكثر مما نعرف أي شيء آخر.
لكن ما عساي أقول أخيراً عن هذا الذهن، أي عن ذاتي، ما دمت لا اسلم حتى الآن ان فيها شيئاً آخر غير الروح؟ اجل، ماذا تكون الأنا، التي تتذهن قطعة الشمع، بمثل هذا الوضوح والتمييز؟ إذا كنت احكم بأن الشمعة كائنة أو موجودة، لأنني أراها؟ قد لا يكون شمعاً هذا الذي أراه. وقد لا يكون بي عينان ابصر بهما شيئاً. لكن لا يمكنني، أنا الذي أفكر، ان لا أكون شيئاً، حين أرى أو أظن اني أرى (لا فرق). كذلك إذا حكمت بوجودها، عن طريق خيالي، أو أية علة أخرى، كائنة ما كانت، فأنا استنتج دائماً انني موجود. والذي أقوله عن الشمعة، الآن، يجري حكمه على كل الأشياء الخارجية، الواقعة خارج نفسي.

17. في ان الأشياء التي تتعلق بالجسم، أي الحسية جداً، لا تستحق ان يقام لها وزن.
فإذا كان مفهوم الشمعة، أو إحساسي بها، قد وضح اكثر من قبل، وانجلى، ليس فقط بفضل النظر، واللمس، وإنما بفضل أسباب عديدة أخرى، نقحت هذا المفهوم لدي، فكم ينبغي القول بالأحرى، انني اعرف ذاتي الآن معرفة اشد بداهة، ووضوحاً، وتميزاً، ما دامت كل الأسباب (التي تساعد على ان نعرف، ونتذهن، طبيعة الشمعة أو مطلق جسم آخر) تثبت لي اكثر أيضاً طبيعة روحي. وفي الذهن أشياء عديدة أخرى تسهم في إيضاح طبيعة الروح، عدا الأسباب المتعلقة بالجسم، كتلك التي أشرت إليها، والتي لا تستحق الذكر حتى.

18. إذن ليس أهون من ان نعرف ذواتنا.
وأخيراً هاأنذا أعود، من حيث لا اشعر، إلى ما كنت أريد. لقد تبين لي، الآن، ان الأجسام ذاتها لا تُعرف حقاً بالحواس، أو بالقوة المخيلة، وإنما بالإدراك وحده. هي لا تُعرف لأنها تُرى، وتُلمس، بل لأنها تُفهم، أو تُدرك بالذهن. وهكذا اتضح لي انه ما من شيء هو عندي أيسر وأجلى معرفة من نفسي. لكن ليس هيناً ان نتخلص، بمثل هذه السرعة، من رأي ألفناه طويلاً. لذا يجدر بي ان اقف وقفة قصيرة حول ذلك الموضوع، حتى أتمكن بالتأمل الممعن ان ارسخ، في ذاكرتي، هذه المعرفة الجديدة.

من التأمل الثالث: في العالم المرئي
17. في ان الفكر، الذي هو جوهر الذهن، يتميز حقاً من الجسم.
أولاً، لما كنت اعرف ان جميع الأشياء، التي اتذهنها بوضوح، وتمييز، يمكن لله ان يوجدها على نحو ما اتذهنها، فيكفي ان اتذهن شيئاً بدون شيء آخر، حتى أتأكد أن الشيئين متميزان أو متغايران. إذ من الممكن ان يوجدا منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة. ولا أهمية لمعرفتي بأية قوة يحصل هذا الانفصال كي اضطر إلى الحكم عليهما بانهما متغايران. وإذا انطلقت من تأكيد معرفتي اني موجود، وان شيئاً آخر لا يخص طبيعتي، أو جوهري، سوى اني شيء يفكر، جبراً، استطعت القول بان جوهري محصور في اني شيء يفكر، أو اني جوهر كل ماهيته أو طبيعته ان يفكر، ليس إلا. وعلى الرغم من انه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، ان يكون لي جسم اتصلت به اتصالاً وثيقاً، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار اني لست إلا شيئاً مفكراً لا شيئا ممتداً، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم، باعتبار انه ليس الا شيئا ممتدا لا شيئاً مفكراً. لذا ثبت عندي ان هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا من أنا، تتميز عن جسمي تمييزاً تاماً حقيقياً. هي قادرة على ان تكون أو ان توجد بدونه.

18. كيف ان ملكتي الحس والتخيل تخصان الذهن.
فضلاً عن ذلك، أجد فيّ ملكتين من ملكات الفكر، خاصتين جداً، متميزتين عني، هما ملكة التخيل والحس، اللتان أستطيع بدونهما ان اتذهن نفسي، بتمامها، تذهناً واضحاً متميزاً، ولكني لا أستطيع ان اتذهنهما موجودتين بدوني، أي بدون جوهر عاقل يرتبطان به. لان المعنى، الذي لدينا عن هاتين الملكتين، أو (إذا جاز التعبير كما اصطلح المدرسيون) لأن مفهومهما الصوري يحتوي على شيء من التعقل. لذا اتذهنهما متميزتين عني، على غرار الأشكال، والحركات، وباقي الأحوال، والأعراض في الأجسام، متميزتين عن الأجسام ذاتها، والتي هي سند لها.

19. ان ملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع متنوعة، وملكات أخرى، تخص الجسم لا الذهن. وانه يوجد، خارج أنفسنا جوهر قادر على ان يولد فينا الأفكار عن الأشياء الحسية.
واجد فيّ أيضاً ملكات أخرى، كملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع كثيرة، وما شابه ذلك من ملكات لا يمكن تذهنها، ولا تذهن الملكتين السابقتين، بدون جوهر ترتبطان به، أو تتواجدان بمعزل عنه. الا ان هذه الملكات، إذا صح كونها موجودة، ينبغي ارتباطها بجوهر جسماني، أو ممتد، لا بجوهر متذهَّن. لأن مفهومها الواضح المتميز ينطوي على نوع من الامتداد لا على تذهن. يضاف إلى ذلك ما في من ملكة حس منفعلة، أي من ملكة وظيفتها ان تتلقى، وتعي الأفكار عن الأشياء الحسية.





ترجمة: د. كمال الحاج

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:51 PM

هوامش ديكارت :
الهوامش :

[1] في الأصل: (Le bon sens)، أو العقل، وهو القوة اللازمة لإجادة الحكم، أي لتمييز الحق من الباطل.

[2] الإنسان يشتكي من ضعف ذاكرته ولا يشتكي من ضعف عقله، لأن كل إنسان بعقله معجب.

[3] إن عنوان مقالة الطريقة يشير إلى ذلك، لأن الغرض منها حسن قيادة العقل، فإذا سلك الناس جميعاً هذه الطريقة، وأحكم كل إنسان توجيه عقله، تناقص الفرق بين الأذهان.

[4] وهم كلما طالعوا كتب أرسطو، وتوهموا أنهم علماء، ازدادوا بعداً عن العلم الحقيقي.

[5] العقل هو الفصل الذي يميز نوع الإنسان من الأنواع الأخرى المندرجة تحت جنس الحيوان، والإنسان هو الحيوان الناطق، فالحيوان جنسه والناطق فصله.

[6] يعني فلاسفة القرون الوسطى.

[7] الأعراض (accidents): جمع عرض، وهو ما لا يقوم بذاته، أي ما يعرض في الجوهر من الصفات، مثال ذلك أن الكتابة عرض لأن الإنسان يبقى إنساناً بعد ارتفاع هذه الصفة عنه.

[8] الجوهر مؤلف من صورة ومادة، وصورة الإنسان هي نفسه، ومادته جسده.

[9] أي في مدرسة لافليش.

[10] مثال ذلك: قواعد الجدل، وقواعد الخطابة، وغيرها.

[11]ريمون لول (Raymond Lulle) راهب فرنسيسكاني (1235-1315)، وهو مؤلف كتاب "الصناعة" المشتمل على حقيقة المسيحية، والرد على منكريها، وقد بالغ تلاميذ لول في هذه الصناعة حتى قلبوها إلى آلة يبرهنون بها على كل شيء. ومما هو جدير بالذكر ان ديكارت اجتمع بأحد هؤلاء التلاميذ عام 1619 في نزل ب‍ "دوريخت" (Dordecht) فوجد لسانه أعلم من دماغه، لأنه كان يفتخر بأنه يستطيع أن يتكلم ساعة كاملة في كل موضوع، وانه يستطيع أن يجيئك في الساعة الثانية بكلام مضاد للأول في الموضوع نفسه، وهكذا دواليك.

[12] من هذه القواعد: قواعد القياس، وقاعدة الانتقال من المعلوم إلى المجهول، وقاعدة تقسيم المعضلات الخ..

[13] المقصود بتحليل القدماء الطريقة التي سلكها علماء اليونان لحل المسائل الهندسية، وهي مذكورة في الترجمة اللاتينية للمجموعات الرياضية التي ألفها بابوس. تقوم هذه الطريقة على فرض المسألة محلولة، وعلى البحث عن الشروط السابقة التي تجعل هذا الحل ممكناً، ولا تزال تنتقل من شرط سابق إلى شرط اسبق، حتى تنتهي إلى حقيقية برهانية، أو إلى مبدأ أول، فهي إذن ضد طريقة التركيب التي تنقل الفكر من المبادئ إلى النتائج.

[14] هو جبر كلافيوس (Clavius) الذي درسه ديكارت في مدرسة لافليش.

[15] الحكم تابع للإرادة، وما أوهامنا إلا عادات سيئة متأصلة في إرادتنا، فإذا أردنا أن نتحرر منها وجب علينا أن نريد ذلك، ونعزم عليه عزماً صادقاً، لا أن نتعلم قواعد الطريقة لا غير، لأن معرفة تطبيق الطريق لا تعصم من الإخلال بقواعدها الا إذا انضمت إليها الإرادة.

[16] تسمى القاعدة الأولى بقاعدة البداهة، والبديهي هو الأمر الذي تظهر حقيقته للعقل مباشرة، وهو مضاد: 1) للباطل، 2) للمحتمل القريب من الحقيقة. فقاعدة البداهة تخرج إذن من ميدان الفلسفة كل ما هو باطل ومحتمل. وتقتصر على الحقائق الضرورية.

[17] التعجل (precipitation): هو الحكم على الشيء قبل ان يصل العقل فيه إلى البداهة واليقين. والتشبث بالأحكام السابقة (prevention) هو أن يكون للمرء في بعض المسائل أحكام يتشبث بها قبل النظر فيها. وهذه الأحكام اما ان ترجع إلى زمن الطفولة، واما ان نأخذها عن غيرنا بالتقليد. ويسمى الرأي المبني على التشبث وهماً.

[18] وضوح الفكرة (clarity): هو الأثر الذي يحدثه إدراك تلك الفكرة إدراكاً مباشراً عندما تكون حاضرة في الذهن، وضده الغموض. وهو تذكر إدراكنا السابق لمضمون الفكرة، وكلما كان التذكر اكذب كان الغموض اشد.

اما تميز الفكرة distinction) ) فهو اشتمالها على جميع العناصر الخاصة بها، وعدم اشتمالها على أي عنصر لا يخصها. يقول ديكارت: "أعني بالمتميزة (distinct) الفكرة التي بلغ وضوحها واختلافها عن كل ما عداها انها لا تحوي في ذاتها الا ما يبدو بجلاء لمن ينظر فيها كما ينبغي" (مبادئ الفلسفة). وضد التميز الالتباس(confusion)، ويكون في الفكرة التباس بقدر ما يكون الإدراك الواضح لمضمونها مختلطاً بأفكار أخرى لم تدرك الا بغموض، وإذن لا يمكن ان تكون الفكرة متميزة من دون ان تكون واضحة، بل الفكرة التي لا تشتمل الا على عناصر واضحة لا تكون الا متميزة. ولكن الفكرة الواضحة قد تختلط بعناصر غير واضحة فتكون إذن واضحة من دون ان تكون متميزة.

[19] تسمى هذه القاعدة بفاعل التحليل (analysis).

[20] تسمى هذه القاعدة بقاعدة التركيب (synthesis).

[21] تكون الفكرة ايسر معرفة من غيرها عندما تكون متقدمة على غيرها في سلسلة الاستدلال. والفكرة الأيسر معرفة تكون في الوقت نفسه اكثر بداهة، فإذا كانت الفكرة (ب) متقدمة على الفكرة (ج) في سلسلة الاستدلال، كانت الأولى ايسر معرفة من الثانية، وأكثر منها بداهة ويقيناً، وأقرب منها إلى المبادئ الأولى.

[22] للفكر في سلاسل الاستنتاج مراتب، فالفكرة المتقدمة ابسط من المتأخرة، والمتأخرة أكثر تركيباً من المتقدمة، وبعض الفكر كفكرة الإله، والنفس، والجسم، التي لا يمكن إرجاعها إلى فكر أبسط منها تسمى بالطبائع البسيطة (natures simples). والقاعدة الثالثة من قواعد ديكارت توجب الابتداء بالطبائع البسيطة، والتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً إلى الطبائع المركبة.

[23] تسمى هذه القاعدة بقاعدة الاستقراء أو الإحصاء، وهي تدعونا إلى ان نستوثق من اننا لم نغفل أي جزء من أجزاء المشكلة التي نريد حلها، وأن نستعرض جميع استدلالاتنا بحركة متصلة. يقول ديكارت: إذا كان لدي سلسلة من الروابط، فأنا لا أتستطيع ان أحيط بها كلها الا إذا تصفحتها مرات بحركة متصلة من حركات الفكر، بحيث إذا تصورت واحدة منها بالحدس انتقلت إلى أخرى، وإذا كان الانتقال سريعاً انقلب الاستنتاج إلى حدس.

[24] المعرفة الرياضية هي المثل الأعلى للمعرفة، ووحدة العلوم عند ديكارت لا تنفصل زمانياً ولا منطقياً عن شمول الطريقة الرياضية لجميع المعارف البشرية.

[25] عملاً بأحكام القاعدة الثالثة.

[26] ان المسائل الرياضية البسيطة تكفي لتعويد العقل مؤالفة الحقائق البديهية، شريطة ان يتمرن الذهن على حلها.

[27] كانوا يقسمون الرياضيات إلى رياضيات محضة (كعلم الحساب، والهندسة)، ورياضيات مختلطة (كعلم الفلك والموسيقى، والضوء الهندسي، والميكانيك)، ولكن ديكارت يرى ان هذه العلوم واحدة في نظر العقل وان اختلفت بحسب موضوعاتها.

[28] تقع النسبة بين الحدين عندما تستطيع ان تقول ان أحدهما مساوٍ للآخر أو أعظم منه أو أصغر.

[29] يتم هذا النظر بإدراك العلاقات البسيطة إدراكاً حدسياً مباشراً.

[30] يتم هذا الجمع بواسطة الذاكرة كما في حالة الإحصاء أو الاستقصاء.

[31] الخطوط ابسط من الأعداد، لأنك تستطيع ان تعبر بها عن جميع المقادير، اما الأعداد فانك لا تستطيع ان تعبر بها الا عن المقادير المشتركة للقياس، أضف إلى ذلك ان العلاقة الموجودة بين خطين لا تنحصر في هذين الخطين وحدهما، لأنها قد توجد بين سطحين، أو بين حجمين أيضاً.

[32] يعني برموز جبرية موجزة. وقد استعمل ديكارت حروف الهجاء للدلالة على الكميات المعلومة، واستعمل الحرفين (y,x) للدلالة على الكميات المجهولة، اما الإشارات الجذرية أو الشيئية التي كانوا يستعملونها إلى ذلك العهد للدلالة على القوة فقد استبدل بها ديكارت أرقاما كتبها فوق الحدود.

[33] ان الهندسة التحليلية التي اخترعها ديكارت بفضل طريقته تجمع بين مزايا الهندسة ومزايا الجبر.

[34] خلال شهر كانون الأول عام 1619، وشهري كانون الثاني وشباط عام 1620.

[35] يرى ديكارت، مع الرواقيين، ان السعادة تقوم على إرضاء الرغبات، وعلى الاعتقاد ان رغباتنا التي لا سبيل إلى إرضائها مخالفة للعقل. ومن المزايا التي انفرد بها قوله ان السلوك العملي، والمنهج العقلي، شيء واحد، وان اكتساب الحقيقة شرط أساسي للسعادة، ويكفي ان يفرق المرء بين ما يستطيع إدراكه وما لا يستطيع إدراكه من الحقائق، وان يسعى لامتلاك ما هو داخل منها في نطاق إدراكه، حتى يدرك الخير الحقيقي.

[36] وخصوصاً علم الطبيعيات.

[37] يعني البدء بأبسط الأمور، وترتيب الأفكار.

[38] ولد ديكارت في 31 آذار عام 1596 وكان عمره يوم أنهى تأملاته في الغرفة الدافئة بألمانيا (أي قبل نهاية شتاء 1619 -1620) أربعة وعشرين عاماً.

[39] هذا التمرين ضروري، لان الطريقة إنما تكتسب بالعمل لا بالنظر.

[40]يشتمل هذا القسم على خلاصة التأملات الفلسفية، التي بدأ ديكارت بوضع أصولها خلال الأشهر التسعة التي أعقبت عودته إلى هولندا (تشرين الثاني 1628 - تموز 1629).

[41] اقتبس ديكارت هذه الحجج من الريبيين، واتخذها أساساً لهدم كل معرفة حسية. اما المعرفة العقلية، كمعرفتنا بذاتنا المفكرة، فان هذه الحجج لا تنال منها شيئاً.

[42]يعني بذلك: أفرض. وهذا التعبير يدل على ان شك ديكارت إنما هو شك مقصود اصطنعه لنفسه بحرية في سبيل الوصول إلى اليقين.

[43]قال ديكارت في مبادئ الفلسفة: "من التناقض ان نفرض ان المفكر لا يوجد في الوقت الذي هو فيه يفكر"، وقال أيضاً: "اننا لا نستطيع ان نفترض اننا غير موجودين حين نشك في جميع الأشياء". وتسمى قاعدة ديكارت هذه "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (cogito ergo sum) بالكوجيتو، وهي في نظره حقيقة بديهية. ولكي تكون الحقيقة بديهية، يجب ان تكون في معزل عن الشك، والكوجيتو هو، على حد تعبير ديكارت، "أوثق الحقائق والمبادئ التي تعرض لمن يقود أفكاره بترتيب" (مبادئ الفلسفة)، بل الشك فيه برهان عليه، لأن الشك يستلزم التفكير، والتفكير يقتضي الوجود. وهذا الكوجيتو الديكارتي لا يخلو من موافقة لبعض أقوال القديس اوغسطين الذي قال في رده على الريبيين: إذا أراد المرتاب أن يفكر، فيلزمه، وإن اخطأ، أن يكون موجوداً، ان يعرف انه موجود: "إذا أخطأت فأنا موجود" (اوغسطين، مدينة الله). ولكن ديكارت استخدم الكوجيتو في غير ما استخدمه فيه القديس اوغسطين. ان بداهة الكوجيتو عنده ترجع إلى القول ان تجمع أسباب الشك لدي لا تزيدني الا وثوقاً بصحة وجودي، لأنني لا أستطيع ان اشك الا إذا كنت موجوداً: إذا شككت فأنا موجود.

[44] ان الكوجيتو مبدأ أول، لأن التصديق به لا يحتاج إلى أي مبدأ آخر، في حين ان التصديق بجميع المبادئ الأخرى يستلزم أولاً التصديق بالكوجيتو. ولقد أخطأ غسندي في زعمه ان الكوجيتو قياس منطقي حذفت مقدمته الكبرى، وهي "كل من فكر فهو موجود"، فكان الكوجيتو قياس على الوجه الآتي: كل من فكر فهو موجود، وأنا أفكر، إذن أنا موجود، وهذا خطأ، لأن لفظ "إذن" لا يقتصر في الكوجيتو على ربط النتيجة بالمقدمة، بل يشير هنا إلى ما بين الفكر والوجود من صلة وثيقة، ونحن ندرك هذه الصلة بالحدس لا بالقياس. فالأصل في الكوجيتو ليس إذن هذه القضية العامة: "كل من فكر فهو موجود"، وانما هو الإدراك المباشر للصلة الوثيقة التي بين الفكر والوجود.

[45] ان اليقين الأول الذي استخرجه ديكارت من الكوجيتو هو وجود النفس، واستقلالها عن البدن.

[46]وبعبارة أخرى: إذا كنت أفكر فأنا موجود، حتى لو كان العالم الخارجي غير موجود. ... إن الذي يقود فكره بترتيب يعلم إذن ان وجود الفكر مستقل عن وجود الجسم.

[47] ان في نفوسنا ظواهر نفسية كثيرة، فنحن نشك، وننفي، ونريد، ونحس، ونتخيل، وجميع هذه الظواهر نشترك جميعاً في نسبتها إلى الجوهر المفكر. والجوهر المفكر هو النفس، أما الجوهر الممتد فهو الجسم.

[48]ان القاعدة الأولى من قواعد ديكارت توجب علينا ان لا نصف الأشياء الا بما نجده فيها واضحاً ومتميزاً، ونحن نعلم ان الجوهر الذي ندركه بقولنا: نحن نفكر، لا يحتاج في تحديده إلى الجسم، فالفكر متميز إذن عن الجسم تماماً. وهكذا كان تطبيق الطريقة الرياضية في علم ما بعد الطبيعة مؤدياً إلى القول بالمطابقة بين الماهية والوجود.

[49] ان النفس التي تشك تدرك ذاتها بطريق الشك، وهذا الشك يشعرها بأنها ناقصة، ولكن فكرة النقص هذه تفرض فكرة الكمال الذي يعوز النفس، فإدراك النفس لذاتها بالحدس يتضمن إذن فكرة الكمال، وهي الأصل الذي يستند إليه ديكارت في برهانه الأول على وجود الله.

[50] ليست الأشياء الخارجية الا جواهر ممتدة ذات أشكال وأوضاع وحركات، وإذا كنت أنا نفسي جوهراً، فان لدي إذن ما أستطيع ان أؤلف منه معنى الجوهر وأحواله (modes) وبذلك تكون الأجسام الخارجية من لواحق طبيعتي.

[51] هذا مبدأ ديكارتي: الحق هو الوجود، والباطل هو العدم، وكل موجود فله علة، وعلى ذلك فإذا كانت الفكرة حقاً فلها بالضرورة علة.

[52] أي ليس اقل تناقضاً.

[53] إذا قلت: ان في المعلول شيئاً اكثر مما في العلة، كان هذا الشيء الزائد لا علة له، وإذا قلت أن الأكمل يحدث عن الأقل كمالاً، رجع قولك هذا إلى ان الشيء يحدث من لا شيء، وهذا خلف.

[54] أي اصطلاحات فلاسفة القرون الوسطى.

[55] هذا القسم من قوله: "لما رأيت ان هناك كمالات"، إلى قوله: "أتصور وجودها في الله" هو شرح ثان للدليل على وجود الله. وخلاصة هذا الدليل ان الإرادة تنزع حتماً إلى ما تظنه خيراً أعظم. انني ارغب في الكمال لأن لدي فكرة واضحة عن الكائن الكامل. ولكن لماذا لا أستطيع الحصول على جميع الكمالات التي أتصورها؟ ذلك لأنني لست خالقاً لوجودي، بل أنا أتابع لعلة هي اكمل مني، مشتملة على جميع الكمالات التي أتصورها، وهذه العلة هي الله.

[56] ان البرهان على وجود الله بالاستناد إلى فكرة الموجود الكامل ليس برهاناً على وجود الله فحسب، وانما هو الوسيلة الوحيدة التي تعين لنا في الوقت نفسه صفاته. فالله هو الموجود الكامل، الواحد، الأزلي، الدائم، المستقل بذاته، المحيط علمه بالأشياء، والمتصف بجميع الكمالات. وفكرة "الكامل" هي المعيار الذي تتوازن به سائر الصفات الأخرى.

[57] ذلك لان أجزاء المركب تابعة بعضها لبعض بالضرورة، ولأن الكل نفسه تابع بدوره للأجزاء التي يتألف منها.

[58] ان وجود الله هو الذي يضمن وجود العالم الخارجي، والله صادق لا يكذب، ولا يضلل، وصدقه هو العماد الوحيد لوجود الأشياء الخارجية.

[59] أي الملائكة بالمعنى المدرسي (أو السكولائي).

[60]كطبيعة الإنسان المؤلفة من اتحاد النفس بالجسم.

[61] يشير هنا إلى مبدأ الخلق المستمر (continuous creation).

[62] أي انه بعد أن برهن على وجود الله، وجود النفس وتميزها عن الجسم، سبر نمو فكره فاختار من محتوياته فكرة الامتداد الهندسي، وتناولها بالبحث.

[63] لانك لا تستطيع ان تتصور المكان الا محدوداً بمكان آخر.

[64] أي يوضع بعضها في محل بعض.

[65] لقد خلق الماهيات الهندسية كغيرها من الماهيات، وهو قادر على ان يبطلها ويخلق غيرها، اما طبيعته الكاملة فهي أثبت من جميع الحقائق، ويستحيل عليه ان ينفي عن نفسه الوجود، أو أن يجعل الخليقة مستقلة عنه.

[66] يقارن ديكارت هنا بين المفاهيم الهندسية ومفهوم الكائن الكامل، فيجد في هذه المقارنة دليلاً على وجود الله، وهو اننا نستطيع ان نتصور شكلاً هندسياً من دون أن نتصور وجود موضوعه خارج الذهن، في حين اننا لا نستطيع ان نتصور الكائن الكامل، أي الإله، من دون ان نتصوره موجوداً، لان الوجود كمال من الكمالات، ومن التناقض ان نفرض ان الكائن الكامل ينقصه كمال ما كالوجود. وقد سمي هذا الدليل بالدليل الانطولوجي (ontological argument)، أو الوجودي، لانه يستنتج الوجود من فكرة الكمال.

[67] ان الذين يألفون الإدراك الحسي يعجزون عن تمييز النفس من الجسد، وعن إدراك ضرورة وجود الله، فيبدو لهم أن النفس جسم دقيق، وأن وجود الله شبيه بوجود الأشياء المادية، مع أن الله انفرد بميزة لا يشاركه فيها شيء، وهي ان وجوده لازم عن ذاته. لا بل ان فكرته تجعلنا على يقين بوجود موضوعها خارج الذهن.

[68] هذه حكمة سكولائية: Nihil est in intellectu, quod non prius fuerit in sensu

[69] هذا نقد لفلسفة القديس توما الاكويبي الذي كان يقول ان عقولنا لا تدرك من حقيقة الإله والنفس اكثر مما تستطيع ان تصل إليه بطريق المعرفة الحسية.

[70] في الأصل (morale) أي ثقة خلقية، وأدبية، وهي الثقة الضرورية للنهوض بحاجات الحياة العملية، كثقتنا مثلاً بقواعد الأخلاق المؤقتة.

[71] في الأصل (metaphysique) نسبة إلى علم ما بعد الطبيعة، وهو اليقين الذي لا يقارنه إمكان الشك.

[72] قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: اما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع تخيلاتك ومعتقداتك اصل وطائل... الخ"

[73] يفرق ديكارت بين نوعين من اليقين: الأول يسمى أدبياً، أي كافياً لتدبير أخلاقنا. وهو مساو في القوة ليقيننا بالأشياء التي ليس من عادتنا ان نشك فيها لتعلقها بسلوكنا في الحياة، مع اننا نعرف انها يمكن ان تكون باطلة: إن الذين لم يذهبوا البتة إلى روما لا يشكون في انها مدينة في إيطاليا... اما اليقين الثاني فهو اليقين الذي ندركه عندما نرى ان الشيء لا يمكن ان يكون على غير ما نحكم به عليه، وهذا اليقين يشمل جميع الحقائق المبرهن عليها في الرياضيات.

[74] ان هذا الكلام أثار المشكلة المشهورة في تاريخ الفلسفة باسم الدور الديكارتي ويلخص هذا الدور كما يلي: اننا أقمنا الدليل على وجود الله بالاعتماد على مبدأ البداهة، وهو أن كل ما نتصوره بوضوح وتميز حق. بعد ان تم لنا ذلك الدليل، عدنا إلى تصوراتنا، وقلنا ان ما نتصوره بوضوح وتميز لا يكون حقاً الا لأن الله موجود. فنحن قد استندنا إذن إلى سلطان البداهة في إثبات وجود الله، ثم استندنا إلى وجود الله في تأييد سلطان البداهة، وهذا دور.

[75] في الأصل (repugnance)، أي الاشمئزاز أو النفور.

[76] قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على انه اكبر من الأرض في المقدار".

[77] ان هذا الاستدلال ليس منتجاً لانه قد يتأتى للمرء ان يكشف بعض الحقائق العلمية في النوم، وقد اعترف ديكارت نفسه بذلك.

[78] أي يفرض عليّ

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:52 PM

4- جون لوك - رائد الليبرالية الحديثة

جون لوك (John Lock) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون (Wringiton) في إقليم (Somerset) وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في اكسفورد، حيث انتخب طالبا مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

وفي عام 1667 اصبح طبيباً خاصاً لأسرة انتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين ســنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في عام 1667 مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.

اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب اشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان "مقالتان عن الحكومة" (Two Treatises on Government) تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر (Filmer) وليس ضد هوبس كما كان يفكر البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة البوليس له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها:

مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704.



لوك: مختارات من "مطارحتان في الحكم المدني"


من "المطارحة الثانية"
الفصل الأول
لا أظنني أحيد عن التسلسل الصحيح إذا تناولت بالبحث موضوع السلطة السياسية، عسى أن يتم تمييز سلطة الحاكم المدني على الرعية عن سلطة الأب على أبنائه، السيد على خدامه، الزوج على زوجته، والمالك على عبده. جميع هذه السلطات المميزة قد تلتقي في نفس الشخص أحيانا، هذا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر هذه العلاقات المتباينة. قد يساعدنا أن نميز هذه السلطات عن بعضها البعض، وأن نبين الفرق بين حاكم الدولة، رب العائلة، وربان السفينة.

السلطة السياسية، في نظري، هي حق سن القوانين بشأن عقوبة الموت، وبالتالي، جميع العقوبات الأدنى منها، وذلك من أجل تنظيم وحماية الملكية، وهي أيضا حق استعمال قوة المجتمع في تنفيذ مثل هذه القوانين، وفي الدفاع عن الدولة من العدوان الخارجي. كل هذا سبيل الخير العام فقط.


الفصل الثاني
عن الحالة الطبيعية
لكي نفهم السلطة السياسية على الوجه الصحيح، ولكي نستمدها من مصادرها، لا بد من النظر إلى الحالة التي يعيشها الناس طبيعيا، وهي حالة من الحرية التامة في اختيار أعمالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم كما يرتأون، ضمن حدود قانون الطبيعة، وذلك دون استئذان، ودون الاعتماد على مشيئة أي شخص آخر.

وهي أيضا حالة تسودها المساواة، حيث تكون جميع السلطة والولاية متبادلة، ليس لأحد أكثر من الآخر. انه لغاية في الوضوح والجلاء ان نفس الجنس والمرتبة، والذين ولدوا دون تمييز للتمتع بخيرات الطبيعة ولاستعمال نفس الملكات، يجب أن يكونوا متساوين ودونما تبعية أو إخضاع. هذا الا إذا ولى رب العالمين (وبإعلان واضح عن مشيئته) أحدهم على الآخر، ومنحه (وبتعيين واضح وجلي) حقا غير مشكوك فيه للسيطرة والسيادة...

ومع أنها حالة من الحرية الا انها ليست حالة من الإباحية. فمع أن للإنسان في هذه الحالة حرية للتصرف بشخصه وممتلكاته، غير أنه ليس حرا في تدمير نفسه أو تدمير أي مخلوق بحوزته، الا إذا تطلب ذلك هدفا (أو استعمالا) أسمى من مجرد البقاء. ويحكم الحالة الطبيعية قانون طبيعي يلزم كل فرد. والعقل، وهو ذلك القانون، يعلّم البشر إذا أصغوا إليه، انه لكونهم جميعا متساوين ومستقلين، فلا يجوز لأحدهم أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته أو ممتلكاته: بما ان الناس جميعا من صنع خالق قدير وحكيم، وبما أنهم جميعا خدام سيد حاكم واحد، أرسلوا إلى الدنيا بأمر منه، فهم لذلك ملكه الخاص، وما صنعه من المفروض أن يدوم وفقا لمشيئته، وليس وفقا لمشيئة أي إنسان آخر. وبما أنهم مزودون بنفس المكان والقدرات ويتقاسمون كل شيء في مجتمع طبيعي واحد، فلا يمكن افتراض أية تبعية بينهم تجيز لهم تدمير بعضهم البعض، كما خلقت مخلوقات المرتبات الدنيا لاستعمالهم. وكما أن على الواحد أن يحافظ على نفسه، والا يتنازل طواعية عن موقعه، كذلك عليه قدر المستطاع (وعندما لا يتعارض ذلك مع بقائه) ان يحافظ على بقية الناس. كما وعليه ان يمتنع، الا إذا كان ذلك من أجل معاقبة الجاني، عن القضاء على أو تشويه حياة الآخرين، حريتهم، صحتهم، أعضاءهم أو أملاكهم الخاصة.

وعلى الناس جميعا أن يمتنعوا عن الاعتداء على حقوق الآخرين، وعن إلحاق الضرر بهم، وأن يعملوا على مراعاة قانون الطبيعة الذي يأمر بالسلام وبالحفاظ على الجنس البشري. وتنفيذ قانون الطبيعة، في هذا الوضع، هو من مهمة كل فرد، حيث لكل واحد الحق في معاقبة من يخرق هذا القانون والى الحد الذي يمنع من انتهاكه. فقانون الطبيعة، كباقي القوانين التي تعنى بشؤون الناس في هذه الدنيا، يكون غير مُجدً إذا لم تتوفر لأحد في الحالة الطبيعية سلطة تنفيذ القانون، لحماية البريء وردع المذنب. وإذا جاز للواحد في الحالة الطبيعية معاقبة الآخر على أي ذنب مقتَرف، فلكل واحد الحق في عمل ذلك. ففي هذا الوضع من المساواة التامة، حيث لا سلطة أو أفضلية لأحد على الآخر، ما يجوز للواحد فعله لتطبيق هذا القانون، يحق لكل واحد أن يقوم بذلك.

وهكذا، فإنه في حالة الطبيعة يحصل الواحد على سلطة على الآخرين، ولكنها ليست سلطة اعتباطية أو مطلقة، في التصرف بالمجرم، إذا تم القبض عليه، حسب العواطف الشديدة أو الرغبات الجامحة، وإنما فقط من أجل العقاب والى الحد الذي يمليه الضمير والعقل المتزن والى الحد الذي يتناسب مع الجرم المرتكب ويفي بغرضي الإصلاح والردع. هذان هما المبرران لإلحاق الضرر قانونيا، وهو ما نسميه عقابا. وبانتهاكه قانون الطبيعة، يكون الجاني قد أعلن انه يعيش حسب قانون غير قانون العقل والإنصاف، وهو المعيار الذي وضعه الله لأعمال الناس من أجل أمنهم المتبادل، وبهذا يصبح خطرا على الناس لأنه يسخف بالعلاقة التي تحميهم من الأذى والعنف. ولكون ذلك عدوانا على جميع أفراد الجنس البشري، سلامتهم، وأمنهم الذي وفره قانون الطبيعة، فلكل إنسان، بناء على ذلك، وبناء على حقه في الحفاظ على البشرية بعامة، أن يمنع، وان كان ضروريا ان يقضي على الأشياء الضارة بهم، وأن يلحق الأذى بمن يخالف القانون والى الحد الذي يجعله يتوب عن فعلته، وبهذا يردعه ويردع الآخرين من خلاله. وفي هذه الحالة، وعلى هذا الأساس، فإن "لكل إنسان الحق في عقاب الجاني وفي تنفيذ قانون الطبيعة".



الفصل الثالث
عن حالة الحرب
حالة الحرب هي حالة من العداء والدمار: فإذا أعلن أحد، قولا أو فعلا، عن تصميم راسخ ومتأن، وليس بانفعال أو تسرع، في القضاء على حياة شخص آخر، فإن هذا يجعله في حالة حرب مع من أعلن أنه ينوي القضاء عليه. وبذلك يعّرض (الأول) نفسه لسلطة الآخر، أو سلطة من ينضم إليه للدفاع عنه ومساعدته في صراعه. من المعقول ومن العدل، ان يكون لي الحق في تدمير من يهددني بالدمار. فحسب القانون الأساسي للطبيعة، يتوجب علي ان أحافظ، ما استطعت، على بقاء الإنسان. ولكن عندما يتعذر الحفاظ على بقاء الجميع، يجب أن تفضل سلامة الأبرياء ويجوز للواحد تدمير من يقوم بالحرب أو يناصب العداء، تماما كما يجوز له أن يقتل الذئب أو الأسد. مثل هؤلاء لا يربطهم قانون العقل، ولا يحكمهم مبدأ سوى مبدأ القوة والعنف، وتجوز معاملتهم كما تعامل الحيوانات المفترسة، تلك المخلوقات الخطرة والقاتلة التي تدمر من يكون في قبضتها.

ومن هنا فإن من يحاول أن يضع شخصا آخر تحت سلطته المطلقة يجعل نفسه بذلك في حالة حرب معه، ويجوز فهم عمله كإعلان عن قصده في الاعتداء على حياة الآخر. وهنالك ما يبرز الاعتقاد بأن من يحاول التسلط علي دون موافقتي فإنه يتصرف تجاهي كما يشاء، وقد يدمرني عندما يروق له ذلك. فلا يرغب أحد أن أكون تحت سلطته المطلقة الا إذا كان يود أن يرغمني بالعنف على قبول ما يتناقض مع حقي في الحرية، أي تحويلي إلى عبد. ان التحرر من هذه القوة هو الضمان الوحيد لبقائي، والعقل يبين لي أن عدو بقائي هو كل من يحاول ان يسلبني حربي، والتي هي سياج هذا البقاء. ان من يحاول أن يستعبدني يجعل نفسه نتيجة لذلك في حالة حرب معي. ففي الحالة الطبيعية، من يريد أن يسلب حرية إنسان آخر في هذه الحالة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر. فالحرية هي أساس كل شيء آخر. تماما كما في المجتمع المدني، فإن من يحاول سلب حرية أولئك الذين ينتمون إلى هذا المجتمع أو الدولة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر يخصهم، ولذلك يجب اعتباره في حالة حرب معهم.

وهذا ما يجعل قتل اللص عملا قانونيا، ذلك اللص الذي لم يؤذ الرجل الذي سرق منه، ولم يعتد على حياته، وإنما فقط استعمل العنف للتسلط عليه من أجل أخذ نقوده أو ما يريده منه. فإذا استعمل العنف بدون حق، فلا أساس للاعتقاد بأن من يحاول أن يسلبني حريتي لا يسلبني، عندما يتسلط علي، كل شيء آخر. ولذا، فقانوني ان اعتبره في حالة حرب معي، أي ان اقتله إذا استطعت. فمن يبدأ حالة الحرب ويكون طرفا معتديا بها، يعرض نفسه وبحق لذاك الخطر.

وهنا يكمن الفرق الواضح بين حالة الطبيعة وحالة الحرب، وهما، وان خلط الناس بينهما، حالتان متباينتان تباين حالة السلم، حسن النية، التعايش والدعم المتبادل، عن حالة العداء، الحقد، العنف والدمار المتبادل. أناس يعيشون معا وفق العقل دون أن يكون لهم رئيس مشترك في الدنيا له سلطة القضاء بينهم، هذه هي حالة الطبيعة حقا. لكن العنف، أو النية المعلنة في استعمال العنف، ضد شخص آخر، دون وجود رئيس مشترك في الدنيا يلجأون إليه من أجل العون، هذه هي حالة الحرب. وعدم إمكانية اللجوء إلى القضاء هو الذي يعطي الفرد حق الحرب ضد المعتدي، حتى وان كان (أي المعتدي) مثله مواطنا أو من أفراد المجتمع.


الفصل الرابع

عن العبودية :

الحرية الطبيعية هي أن يكون الفرد حرا من أية سلطة عليا على وجه الأرض، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لسلطته الشرعية، وإنما يكون محكوما بقانون الطبيعة فقط. اما الحرية في المجتمع فهي الا يكون الفرد خاضعا لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي نشأت بالاتفاق، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لتقييد أي قانون سوى الصادر عن تلك السلطة التشريعية، وحسب الثقة التي منحتها. الحرية إذن ليست ما يقول روبرت فيلمر" انها وضع يكون الإنسان فيه حر التصرف كما يشاء، والعيش كما يرغب، غير خاضع لأي قانون". حرية الناس في ظل الحكم هي أن يعيشوا وفق قانون ثابت ومشترك لجميع أفراد المجتمع، قانون من صنع السلطة التشريعية التي تأسست فيه. وهي الحرية في أن أفعل ما أشاء في شتى الأمور التي لا ينص عليها القانون، والا أكون خاضعا للإرادة الاعتباطية، المتقلبة، غير المعروفة وغير الثابتة، لأي إنسان آخر. تماما مثل حرية الطبيعة التي لا تخضع لأي قيد سوى قانون الطبيعية.

هذه الحرية من السلطة المطلقة والاعتباطية ضرورية ووثيقة الصلة ببقاء الفرد، والى درجة أنه لا يستطيع التخلي عنها دون أن يسقط حقه في البقاء والحياة معا.


الفصل الخامس

عن الملكية:

ان الله الذي أعطى العالم للبشر بصورة مشتركة، أعطى الناس أيضا العقل كي يستخدمونه من أجل منفعة الحياة ورفاهها. ان الأرض، وما عليها، أعطيت للناس من اجل العيش وراحة الوجود. ومع ان كل الثمار التي تنتجها الأرض، والحيوانات التي تغذيها، مشتركة لأبناء البشر، طالما تنتجها يد الطبيعة بصورة عفوية وليس لأحد في الأصل سيطرة تستثني باقي البشر، على أي جزء منها وهي في حالتها الطبيعية، ولكن بما أنها أعطيت لاستعمال الناس، من الضروري أن تكون هناك وسيلة لتحويلها إلى ملكية وذلك قبل أن يتمكن الفرد من استخدامها والاستفادة منها. ان الثمر أو لحم الغزال الذي يتغذى به الهندي (الغربي) المتوحش، الذي لا يعرف أن يسيّج الأرض بعد ... يجب أن يكون ملكا له، وجزءاً منه بحيث لا يستطيع إنسان آخر ان يحصل على حق ملكيته، قبل أن يكون له عونا في معيشته.

ومع أن الأرض، وجميع المخلوقات الدنيا، مشتركة لجميع الناس، الا أن لكل واحد الملكية على شخصه، وله وحده الحق على شخصه. ان عمل جسده وعمل يديه هو ملكه حقا. وكل ما يخرجه من الحالة التي وفرتها عليه الطبيعة، فانه بذلك يمزج عمله به ويضيف إليه شيئا من ذاته، وبهذه الطريقة يجعله ملكا له. فبواسطته تم إخراج هذا الجزء من حالة المشاع التي وضعته بها الطبيعة. فقد أضيف إليه شيء بهذا العمل، شيء يلغي الحق المشترك للناس الآخرين. فبما أن هذا العمل دون شك ملك العامل، فهو وحده صاحب الحق على كل ما أضاف من عمله إليه، على الأقل حين يترك مشاعا للآخرين قدرا كافيا ومماثلا من حيث الجودة.

ومن يجد غذاءه من البلوط الذي يلتقطه من تحت شجرة البلوط أو التفاح الذي يجمعه من أشجار الغابة فقد حصل بالتأكيد على ملكيته. لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذا الغذاء ملك له. وهنا أسأل: متى يصبح له؟ عندما يهضمه؟ عندما يأكله؟ عندما يطبخه؟ عندما يحضره إلى البيت؟ عندما يجمعه؟ من الواضح أنه إذا لم يعطه الجني الأول الملكية، فإن شيء آخر يعطيه إياها. ان العمل هو الذي يفصل بين ما له وبين المشاع: انه أضاف إلى الأشياء شيئا فوق ما سبق وصنعت الطبيعة، أم الجميع. وبهذا تصبح الأشياء حقه الخاص. وهل يستطيع أحد ان يدعي انه لا يملك حقا على هذا البلوط أو التفاح الذي يجمعه بهذه الطريقة لأنه لم يحصل على موافقة كل البشر؟ وهل قام بنهب ما أخذه لنفسه من الملك المشترك للجميع؟ إذا كانت مثل هذه الموافقة ضرورية لمات الإنسان جوعا على الرغم من الوفرة التي أنعم الله عليه بها. وفيما يختص بالمشاعات التي ظلت هكذا بالموافقة، فاننا نرى ان الملكية تبدأ بأخذ جزء منها وإخراجه من الحالة التي وضعته الطبيعة بها. وبدون ذلك فلا فائدة ترجى من هذا المشاع. وأخذ هذا الجزء أو ذاك لا يعتمد على الموافقة الصريحة لأصحاب الحيازة المشتركة. ولذا فان العشب الذي أكله حصاني أو الذي قصه خادمي، والتراب الذي حفرته (حيث لي حق مشترك في هذه الأشياء) يصبح ملكي الخاص دون مصادقة أو موافقة أي إنسان آخر. عملي هو الذي اخرج هذا الجزء من الوضع المشترك وثبت ملكيتي عليه.

وقد يعترض أحد قائلا: إذا كان جمع البلوط أو الثمار الأخرى هو الذي يعطي الحق عليها، إذن يستطيع كل فرد أن يستحوذ على ما يشاء. والرد على هذا الاعتراض هو: إن قانون الطبيعية الذي يعطينا الملكية بهذه الطريقة هو نفسه الذي يحدد هذه الملكية. "أعطانا الله جميع الأشياء بوفرة". هو صوت العقل والذي أكد عليه الوحي. ولكن إلى أي حد أعطيت لنا الأشياء للتمتع بها؟ إلى الحد الذي يستطيع الفرد أن يستعملها من أجل منفعة حياته قبل أن يفسد، يستطيع بعمله أن يثبت حيازته له. ما يتجاوز ذلك هو أكثر من حصته، وهو ملك الآخرين. لم يخلق الله شيئا كي يفسده الإنسان أو يدمره. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الوفرة الطبيعية الموجودة منذ زمن بعيد، وقلة عدد المستهلكين، وصغر ذلك الجزء الذي يستطيع اجتهاد الإنسان ان يمتد إليه، وان يستحوذه ملحقا بذلك ضررا بالآخرين، وخاصة إذا راعى الحدود التي وضعها العقل بالنسبة لما يخدم استعماله، عندها يبقى مكان ضيق للشجار والنزاع على الملكية التي تم الحصول عليها بهذه الطريقة.

ولكن القضية الرئيسية هذه الأيام ليست ملكية ثمار الأرض، والحيوانات التي تعيش عليها، بقدر ما هي ملكية الأرض نفسها، وذلك لارتباط بقية الأشياء بها. وأعتقد أنه واضح أن الحصول على ملكية الأرض يتم بنفس الطريقة السالفة الذكر. ان هذا القدر من الأرض التي يحرثها الفرد، يزرعها، يحسنها ويفلحها ويستطيع استعمال ثمارها هو ملكيته. وكأنه بعمله يسيّجها ويخرجها من المشاع. ولا يبطل حقه الزعم بأن لكل فرد آخر حقا متساويا في حيازتها، ولذا فانه لا يستطيع أن يسيّج دون موافقة جميع شركائه، جميع أبناء البشر. عندما أعطى الله العالم للبشر بصورة مشتركة، فإنه أمر الإنسان أيضا بالعمل، كما وأرغمت الفاقة الإنسان على العمل. لقد أمر الله والعقل الإنسان بأن يخضع الأرض، أي أن يحسنها من أجل منفعة الحياة، وبهذا يكون قد وضع فيها شيئا كان ملكه هو، وهو عمله. فمن أطاع أمر الله وأخضع، حرث وزرع قطعة من الأرض يكون بذلك قد أضاف إليها شيئا كان ملكه، شيئا ليس للآخر حق فيه ولا يستطيع أن يأخذه منه دون أن يؤذيه.

وليس غريبا، كما يبدو الأمر لأول وهلة، أن ملكية العمل ترجح في وزنها المشاركة في ملكية الأرض. ان العمل هو الذي يحدد الفارق في القيمة بالنسبة لكل شيء. ان من ينظر إلى الفارق في القيمة بين فدان من الأرض المزروعة بالتبغ أو قصب السكر، بالقمح أو الشعير، وبين فدان من نفس الأرض المشتركة ترك بورا، يجد القسط الأكبر من القيمة راجعا إلى تحسين العمل. انه من قبيل التقدير المتواضع أن أقول ان تسعة أعشار منتجات الأرض المفيدة لحياة الإنسان هي من نتاج العمل. ولو أصبنا في تقدير الأشياء التي نستعملها، وحسبنا المصاريف المختلفة المتعلقة بها، ذلك الجزء الذي أعطته الطبيعة وذلك الجزء الناتج عن العمل، لوجدنا أنه بالنسبة لمعظم الأشياء فإن تسعة وتسعين في المائة يجيء بفضل العمل.

وهكذا فقد أعطى العمل في البدء حقا في الملكية أينما أراد الفرد أن يبذله في الأرض المشتركة، والتي بقيت لمدة طويلة الجزء الأكبر، وما زالت حتى الآن أكبر من الجزء الذي يستعمله الإنسان. في البداية رضي الناس، على الغالب، بما قدمته الطبيعة ذاتها لسد حاجاته، وبعد ذلك، وفي بعض أجزاء العالم (حيث زاد عدد الناس وزادت مواردهم، وبدءوا في استعمال المال، فأصبحت الأرض نادرة وذات قيمة) حددت المجتمعات المختلفة حدود أراضيها المميزة، وسنت القوانين لتنظيم الملكيات الخاصة لأفراد المجتمع. وهكذا بالاتفاقات والمعاهدات تم البت في أمر الملكية التي بدأت بالعمل والاجتهاد. والمعاهدات التي وقعت بين الدول والمملكات المختلفة شملت تنازلات، ضمنية أو صريحة، عن الحق في الأرض التي وقعت في حيازة دولة أخرى. بالاتفاق المتبادل تم التنازل عن الحق الطبيعي المشترك (الذي كان لهم أصلا بالنسبة لتلك الدولة). وهكذا، بالاتفاق الوضعي قرروا بشأن الملكية في مناطق العالم المختلفة. ومع هذا ما زالت توجد مساحات شاسعة من الأرض التي ظلت بوراً لأن القاطنين فيها لم ينضموا إلى الاتفاق مع باقي أبناء البشر بالنسبة لاستعمال النقود. وهذه المساحات تفوق ما يستعمله أو يستطيع استعماله أولئك المقيمون عليها، ولذلك ظلت مشتركة. ولكن قلما يحدث هذا عند ذلك الجزء من البشر الذي وافق على استعمال المال.

ان القسط الكبير من الأشياء المفيدة لحياة الإنسان الأشياء التي حرص أوائل أصحاب الملكية المشتركة في العالم على الحصول عليها نظرا لحاجتهم لها من أجل البقاء، كما يفعل الأمريكيون الآن، هي على العموم أشياء تدوم لوقت قصير، بحيث أن لم تستهلك تتعفن وتتلف من ذاتها. أما الذهب والفضة والماس فهي أشياء وضع فيها الخيال والاتفاق قيمة تفوق الاستعمال الحقيقي وحاجة الحياة لها. أما بالنسبة للأشياء المفيدة التي وفرتها الطبيعة بصورة مشتركة. فلكل واحد (كما قلت) الحق في الحيازة إلى الحد الذي يستطيع أن يستعمل، وله الحق في ملكية كل ما يستطيع أن ينجز بعمله. وكل ما يستطيع بجهده أن يخرج الشيء من الحالة التي أوجدته بها الطبيعة. فمَنْ جَمَعَ مائة صاع من البلوط أو التفاح أصبحت ملكا له، أصبحت بضاعته حالما لمها. وعليه ان يحرص فقط على استعمالها قبل أن تفسد، والا يكون قد حصل على أكثر من حصته ونهب بذلك الآخرين. انه من قبيل الغباء والغش حقا ان يكدس الفرد أكثر مما يقدر على استهلاكه. فإذا أعطى جزءا منها إلى شخص آخر بحيث لا تتلف وهي في حوزته يكون بذلك قد استفاد منها. وإذا قايض خوخا فقد يتعفن خلال أسبوع بجوز يمكنه استعماله في الطعام خلال سنة كاملة، فلا يكون قد الحق ضررا. ولا يكون قد بذر المخزون المشترك، أو دمر جزءا من حصة الغير طالما ان شيئا لم يتلف بين يديه. وإذا قايض جوزة بقطعة معدنية أعجب بلونها، أو أغنامه بصدف، أو صوفه بحجر لامع أو ماس، وحافظ على جميع هذه الأشياء طيلة حياته، لا يكون بذلك قد اعتدى على حقوق الآخرين. يمكنه تكديس ما شاء من هذه الأشياء التي تدوم. ان تجاوز حد ملكيته لا يكمن في كبر حيازته، وإنما بتلف أي جزء منها دون استعمال.

في البداية كان كل العالم أمريكا، وأكثر مما هي عليه أمريكا هذه الأيام. فالمال لم يكن معروفا للناس. فإذا اكتشف الإنسان شيئا له استعمال وقيمة المال بين جيرانه، فانه يبدأ حالا في توسيع رقعة حيازته.

وبما أن للذهب والفضة فائدة قليلة لحياة الإنسان بالمقارنة مع الطعام، الملبس، ووسائل النقل، وان قيمتها مستمدة من اتفاق الناس (حيث لا يزال العمل فيه يشكل المقياس الرئيسي)، فمن الواضح أن التفاوت وعدم التساوي في حيازة الأرض ناشئ عن الاتفاق. والقوانين في الحكومات تنظّم ذلك. فقد وجد الناس، بالاتفاق، طريقة تتيح لكل منهم ان يملك، بحق وبدون إلحاق الضرر بالآخرين، حيازة تفوق قدرته على الاستهلاك وذلك بقبول الذهب والفضة، اللذين يدومان طويلا دون تلف، مقابل الفائض، واتفقوا على أن تكون لهذه المعادن قيمة.


الفصل السادس :

عن المجتمع المدني أو السياسي :
حين يتحد عدد من الناس في مجتمع واحد بحيث يتنازل كل واحد عن سلطته في تنفيذ قانون الطبيعة ويسلمها للجمهور، عندها فقط ينشأ مجتمع سياسي أو مدني. ويحصل هذا عندما يدخل عدد من الناس في الحالة الطبيعية إلى المجتمع لإنشاء شعب واحد أو جسم سياسي واحد يكون خاضعا لحكومة عليا واحدة، وأيضا عندما ينضم الفرد إلى حكومة سبق وتم إنشاؤها. فهو بهذا يخول المجتمع، أو السلطة التشريعية فيه، بسن القوانين التي تتطلبها المصلحة العامة للمجتمع، والتي عليه أن يعمل ويساعد على تنفيذها وكأنها قوانين سنها لنفسه. وبهذه الطريقة ينتقل الناس من حالة الطبيعة إلى حالة الدولة، وذلك عندما يتم تعيين حاكم (قاضي) له سلطة البت في جميع الخلاقات وإصلاح أي ضرر سببه أي فرد في الدولة. وهذا القاضي هو السلطة التشريعية أو الضباط المعنيين من قبلها. وحين لا يكون لعدد من الناس، وان اتحدوا، سلطة حاسمة يستطيعون اللجوء إليها، فهم لا يزالون في حالة الطبيعة.

ومن هنا فان من الواضح أن الملكية المطلقة، والتي يعتبرها البعض نظام الحكم الوحيد في العالم، لا تنسجم في حقيقة الأمر مع المجتمع المدني، ولا يمكنها أن تكون شكلا من أشكال الحكم المدني بتاتا. وذلك لان هدف المجتمع المدني هو تجنب وإصلاح متاعب الحالة الطبيعية والناشئة بالضرورة من كون كل فرد حاكم نفسه وذلك بواسطة تأسيس سلطة معروفة يستطيع كل فرد اللجوء إليها إذا حصل له ضرر، أو إذا نشب خلاف، وعلى كل فرد واجب طاعتها. وبناء على ذلك، ففي غياب مثل هذه السلطة التي تبت في الخلافات بين الناس، فان هؤلاء الناس لا يزالون في حالة الطبيعة. وهكذا بالنسبة للأمير ذي السلطة المطلقة في علاقته مع الخاضعين لحكمه.

فبما أنه (أي الأمير) من المفروض أن يجمع كل السلطة بيديه، التنفيذية منها والتشريعية، فلا مكان لوجود قاض، ولا مكان لوجود ملجأ يتوجه إليه الناس لكي يحكم بينهم بنزاهة ودون تحيز، وتكون له سلطة اتخاذ القرار، ويتوقع من قراره أن يساعد وان يصلح الضرر الذي يلحقه الأمير أو ينتج عن أوامره: ان شخصا كهذا، كان لقبه قيصرا أو سلطانا أو ما شئتم، ما زال في حالة الطبيعة في علاقته مع الذين يحكمهم، تماما كما هو كذلك مع بقية البشر.

ومن يعتقد بأن السلطة المطلقة تطهر دماء الناس، وتصلح دناءة الطبيعة البشرية، فما عليه الا أن يقرأ تاريخ هذا العصر، أو أي عصر آخر، كي يقتنع بعكس ذلك.


الفصل السابع :
عن بداية المجتمعات السياسية :

جميع الناس، كما ذكرنا، أحرار، متساوون ومستقلون بطبيعتهم، ولا يجوز إخراج أي منهم من هذه الحالة وإخضاعه للسلطة السياسية للآخرين دون الحصول على موافقته. ان الطريقة الوحيدة التي يجرد الفرد بها نفسه من حريته الطبيعية، ويقبل بقيود المجتمع المدني هي باتفاقه مع الآخرين على الاتحاد في مجتمع واحد من أجل العيش المشترك، المريح والآمن، ومن أجل التمتع الآمن بالممتلكات وبالأمن الأكبر من الغرباء. يستطيع أي عدد من الناس أن يقوموا بذلك، لأنه لا يلحق الضرر بالآخرين الذين يُترَكون كما هم، يتمتعون بحريتهم الطبيعية. حين يكوّن عدد من الناس، وباتفاق كل فرد منهم، مجتمعا، فانهم بذلك المجتمع جسم واحد، له سلطة العمل كجسم واحد بإرادة وقرار الأغلبية ... وبما أن أي جسم واحد يجب أن يتحرك باتجاه واحد، فمن الضروري أن يتحرك ذلك الجسم بالاتجاه الذي تدفعه إليه القوة الأكبر، وهي موافقة الأغلبية. وبدون ذلك لا يستطيع ان يعمل أو ان يبقى جسما واحدا، مجتمعا واحدا. لقد وافق جميع المتحدين به على ان يكون كذلك، ذلك الاتفاق الذي يلزم كلا منهم بقبول قرار الأغلبية. ونتيجة لذلك فاننا نرى انه في حالة الجمعيات (البرلمانات) المخولة بالعمل حسب قوانين وضعية، حيث لا ذكر في تلك القوانين للعدد، فإن قرار الأغلبية يعتبر قرار الجمعية كلها، وهو بالطبع ملزم. وكأن لها، حسب قانون الطبيعة والعقل، سلطة الكل.

وهكذا، فمن يتفق مع الآخرين على تكوين جسم سياسي واحد، له حكومة واحدة، يأخذ على عاتقه تجاه كل فرد من أفراد هذا المجتمع أن يلتزم بقرار الأغلبية، وان يعتبر نفسه مشمولا به. وبدون هذا فإن الاتفاق الأصلي، والذي بموجبه اتحد مع الآخرين في مجتمع واحد، يكون عديم المعنى، وهو يفقد صيغة الاتفاق إذا ترك الفرد حرا، غير خاضع لقيود سوى قيود حالة الطبيعة.



الفصل الثامن
عن أهداف المجتمع السياسي وأهداف الحكم :

إذا كان الإنسان في الحالة الطبيعية حرا، كما أوردنا، وإذا كان سيدا مطلقا على نفسه وعلى ممتلكاته، مساويا لأعظم الناس وغير خاضع لأحد، فلماذا يتنازل عن حريته؟ ولماذا يتنازل عن ملكوته، ويخضع نفسه لهيمنة وسيطرة سلطة أخرى؟ والإجابة على هذا واضحة: مع أن له مثل هذا الحق في حالة الطبيعة، الا ان ممارسته لهذا الحق غير مضمونة، ومعرضة دائما لاعتداء الآخرين. لأن كل فرد سيد مثله، ولأن الجميع متساوون، وبما أن معظم الناس لا يراعون متطلبات الإنصاف والعدالة، فإن التمتع بالملكية في هذه الحالة غير مأمون وغير مؤكد. وهذا ما يبرر رغبة الفرد في الانضمام إلى مجتمع مع آخرين سبق واتحدوا أو فكروا بالاتحاد من أجل الحفاظ على حياتهم، حرياتهم وممتلكاتهم، والتي أطلق عليها الاسم العام "ملكية".

ان الهدف الرئيسي من اتحاد الناس في دول، ووضع أنفسهم تحت سلطة حكومات، هو الحفاظ على الملكية. في حالة الطبيعة هناك نقص لأشياء كثيرة في هذا المجال.

أولا ينقصها قانون دائم ومعروف للجميع، مقبول ومعترف به بالاتفاق العام، كمقياس للحق والباطل، وكمعيار مشترك للبت في الخلافات بين الناس. فمع أن قانون الطبيعة واضح ومفهوم لجميع المخلوقات العاقلة، فلكون الناس منحازين إلى مصالحهم وجاهلين لعدم دأبهم على دراسته فانهم غير مستعدين لقبوله قانونا ملزما في انطباقه على حالاتهم الخاصة.

ثانيا، لا يوجد في الحالة الطبيعية قاض معروف ومحايد، له سلطة البت في الخلافات حسب القانون الدائم. فبما أن كل فرد في هذه الحالة هو القاضي وهو المنفذ لقانون الطبيعة، وبما أن الناس ينحازون إلى أنفسهم، فإن العاطفة وحب الانتقام قد يؤديان بهم إلى تجاوز الحدود في الحالات التي تخصهم، بينما قد يدفعهم الإهمال وعدم الاكتراث إلى التهاون في الحالات التي تخص غيرهم من الناس.

وثالثا، تفتقر حالة الطبيعة أحيانا إلى القوة اللازمة لمساندة الحكم العادل وتنفيذه بشكل سليم. فالذين يقترفون الجنايات يحاولون دائما، وقدر المستطاع، الدفاع بالقوة عن ظلمهم. وهذه المقاومة كثيرا ما تجعل فرض العقاب شيئا خطرا، وأحيانا مدمرا على الذين يحاولون فرضه.

وهكذا فإن البشر، وبالرغم من جميع امتيازات حالة الطبيعة (وهم في وضع سقيم طالما انها فيها )، يسرعون إلى حياة المجتمع. وقلما نجد عددا من الناس يعيشون معا في هذه الحالة.

ان المتاعب التي يتعرضون لها هناك، نظرا للاستعمال غير المنظم وغير المأمون لكل فرد لسلطته لمعاقبة المعتدين، تدفعهم إلى اللجوء إلى قوانين الحكم الدائمة، وذلك بغية الحفاظ على ملكيتهم. ان هذا هو الذي يجعل كلا منهم راغبا في التنازل عن سلطته المنفردة في فرض العقاب، وأن تستعمل هذه السلطة فقط من قبل أولئك الذين تم تعيينهم لهذا الغرض، وحسب القواعد التي يتفق عليها أفراد المجتمع أو المفوضون من قبلهم. وهنا يكمن الحق الأصلي للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وللحكومات والمجتمعات ذاتها.


الفصل العاشر
عن مرتبات سلطات الدولة :
في المجتمع القائم، والذي يرتكز على قاعدته الخاصة، ويعمل حسب طبيعته الخاصة، أي يعمل من أجل الحفاظ على بقاء أبناء المجتمع، لا يمكن أن تكون أكثر من سلطة عليا واحدة، هي السلطة التشريعية، والتي تخضع ويجب أن تخضع، لها باقي السلطات. ومع هذا، ولكون السلطة التشريعية سلطة ائتمانية مرهونة بالعمل لتحقيق أهداف معينة، تبقى لدى الناس سلطة عليا لعزل أو تغيير السلطة التشريعية إذا وجدوا أنها تتصرف بشكل يناقض الثقة التي وضعت بها. كل سلطة معطاة كأمانة من أجل تحقيق هدف معين، ومحدودة بهذا الهدف. وعندما يهمل هذا الهدف أو يعارض بصورة جلية، تسحب الأمانة وتنتقل السلطة إلى أيدي اللذين أعطوها، والذين لهم حق وضعها مجددا في الموضع الذي يعتقدون انه الأفضل من أجل سلامتهم وأمنهم. وهكذا يحتفظ أبناء المجتمع دائما بالسلطة العليا في إنقاذ أنفسهم من نوايا أي شخص، وحتى المشرعين، عندما يكونون على قدر من الغباء والشر بحيث يحبكون المؤامرات ضد حريات وممتلكات الرعية. فلا يملك أحد، أو مجتمع من الناس، السلطة في تسليم الحفاظ على هذا الوضع العبودي، فان لهم دائما الحق في الحفاظ على ما ليس لهم السلطة في التنازل عنه، وان يتخلصوا من أولئك الذين يعتدون على هذا القانون للحفاظ على النفس، هذا القانون الأساسي، المقدس وغير القابل للتغيير، والذي من أجله أقاموا المجتمع. ولهذا يمكن القول أن أبناء المجتمع فيما يتعلق بذلك هم دائما السلطة العليا.


الفصل الحادي عشر
عن حل الحكم :
ان سبب دخول الناس في المجتمع هو الحفاظ على ملكيتهم. والهدف الذي من أجله اختاروا وفرضوا السلطة التشريعية هو لسن القوانين ووضع المبادئ لحراسة وحماية ملكية جميع أفراد المجتمع، والحد من سلطة أو نفوذ أي فرد من أفراده. وبما أنه لا يحق الافتراض بأن إرادة المجتمع تسمح بقيام سلطة تشريعية لها السلطة في تدمير ما يهدف الفرد إلى حمايته عن طريق إقامة المجتمع (والذي من أجله خضع الناس لمشرعين قاموا هم باختيارهم)، فإذا حاول المشرعون القضاء على ملكية الناس، أو استعبادهم، أو فرض سلطة اعتباطية عليهم، فانهم بذلك يجعلون أنفسهم في حالة حرب مع الناس، الذين يتحررون عندها من واجب الطاعة، ويلجأون إلى الملاذ المشترك الذي زودهم الله به ضد العنف والقوة. حين يعتدي المشرعون على هذا المبدأ الأساسي للمجتمع، ويحاولون (بدافع الطموح، الخوف، الغباء، أو الفساد) تركيز سلطة مطلقة في أيديهم (أو وضعها في أيدي أي شخص آخر) على حياة، حريات وممتلكات الناس، فانهم بهذا الخرق يفقدون حقهم في السلطة التي وضعت في أيديهم من أجل أهداف مناقضة لذلك، وتنتقل [السلطة] إلى الناس الذين لهم الحق في استعادة حريتهم الأصلية، وإقامة سلطة تشريعية جديدة (وكما يرون مناسبا) لتأمين سلامتهم، وهي الهدف الذي من أجله أقاموا المجتمع. ما أقوله هنا عن السلطة التشريعية بعامة ينطبق أيضا على المنفّذ الأعلى، والذي وضعت في عنقه أمانة مضاعفة، وهي أن يكون جزءا من السلطة التشريعية والمنفذ الأعلى للقانون. وهو يعمل ضد اثنتيهما إذا حاول فرض إرادته الاعتباطية كقانون للمجتمع. وهو يتصرف بصورة تناقض الثقة أيضا، إذا استخدم قوة المجتمع، ثروته وخدماته من أجل إفساد الممثلين وشرائعهم لخدمة أهدافه، أو عندما يحاول صراحة رشوة الناخبين والإيعاز إليهم باختيار أولئك المرشحين الذين، بالإغراء والتهديد والوعود والطرق الأخرى، كسبهم إلى جانبه، والذين يستخدمهم من اجل اختيار أولئك الذين وعدوا مسبقا كيف يقترعون وما هي القوانين التي يسنونها. ان من ينظم المجتمع بهذه الصورة يقطع الحكم من جذوره ويسمم منابع الأمن العام.

وقد يقال بأن هذه الفرضية تعمل على التحريض على العصيان لأوقات متقاربة. وعلى هذا الزعم أجيب:

أولا: ليس أكثر من أية فرضية أخرى: حين يشعر الناس بالبؤس ويجدون أنفسهم عرضة لسوء استخدام السلطة الاعتباطية، فلو أعلنت صارخا بأن حكامهم من أبناء الآلهة، أو قديسون، أو نازلون أو مفوضون من السماء، أو أغدقت عليهم ما شئت من الأوصاف، فان نفس الشيء سوف يحدث. عندما تُساء معاملة الناس، ويعاملون بما يناقض حقوقهم، فانهم على استعداد، وحين تسنح الفرصة، لإزالة عبء يثقل كاهلهم. سوف ينتظرون ويبحثون عن الفرصة التي قلما تتأخر بسبب التغيير، الضعف وعوارض الأمور الإنسانية. قصير العمر مَن لم ير أمثلة على ذلك في عصره، وقليل القراءة من لا يستطيع ان يسوق أمثلة على ذلك من مختلف الحكومات في العالم.

ثانيا: أجيب بأن مثل هذه الثورات لا تحدث نتيجة للأخطاء الطفيفة والقليلة في إدارة الشؤون العامة. يتحمل الناس دون تأفف أو تمرد أخطاء كبيرة قد ترتكبها الفئة الحاكمة، وكثيرا من القوانين المتعبة والجائرة، وكل زلات الضعف الإنساني. ولكن سلسلة طويلة من الفساد، المراوغة والمكائد، كلها تصب في نفس الاتجاه، وتبرز المؤامرة للناس الذين لا يسعهم الا ان يدركوا ما ينتظرهم وان يروا إلى أين هم سائرون، فلا داع للغرابة إذا استيقظوا عندها وحاولوا وضع الحكم في أيدي من يؤّمن لهم الأهداف التي من أجل تحقيقها أقيم الحكم أصلا، والتي بدونها لا تكون الأسماء القديمة والصور الخادعة أفضل، بل أسوأ من حالة الطبيعة، أو الفوضى التامة. فالمصائب كبيرة وقريبة بينما العلاج أبعد وأكثر صعوبة.

ثالثا: أجيب بأن هذه النظرية عن سلطة الناس في توفير الأمن لأنفسهم مجددا، وإقامة سلطة تشريعية جديدة، إذا تصرف المشرعون بصورة مناقضة للثقة التي وضعت بهم، وذلك إذا اعتدوا على ملكية الناس، هي السياج الأفضل ضد العصيان وأكثر الوسائل الناجحة لمنعه. وبما أن التمرد ليس معارضة للأشخاص، بل للسلطة المبنية على قوانين ودساتير الحكم فقط، فان من يخرقها، أو يبرر خرقها بالعنف فهو المتمرد بكل معنى الكلمة. حين أقام الناس المجتمع والحكم المدني فقد استثنوا العنف، ووضعوا القوانين من أجل الحفاظ على الملكية، على السلام وعلى الوحدة بينهم. ومن يقاوم القوانين بالعنف يقوم بما يمكن تسميته (rebellare)، أي إعادة حالة الحرب، وهو حقا المتمرد، وأولئك الذين في السلطة (وبسبب الحق المزعوم بالحكم، وإغراء القوة التي في متناول اليد، وتملق الذين من حولهم) هم الأكثر عرضة لعمل ذلك. ان الطريق الصحيح لمنع هذا الشر هو تبيان الخطر والظلم في ذلك لكل من هو عرضة للوقوع تحت إغرائه الكبير.

في كلتا الحالتين المذكورتين أعلاه، أي عند تغيّر السلطة التشريعية أو حين يتصرف المشرعون بشكل يناقض الهدف الذي من أجله عُيّنوا، فان الجرم هو العصيان. فمن يقضي بالعنف على السلطة التشريعية القائمة في أي مجتمع، وعلى القوانين التي سنتها تلك السلطة بموجب الثقة التي وضعت بها، فإنه بذلك يلغي سلطة المحكم الذي وافق عليها الجميع للبت سلميا في الخلافات، وكحاجز في وجه حالة الحرب، بينهم. فمن يغير أو يعزل المشرعين يكون قد سلبهم سلطة البت، والتي لا يستطيع أحد الحصول عليها الا بتعيين من الناس وبموافقتهم. فمن يدمر السلطة التي أقامها الناس، ولا يستطيع إقامتها سوى الناس، ويجيء بسلطة غير مفوضة من قبل الناس، فهو بهذا يبدأ فعلا حالة الحرب، وهي العنف بدون سلطة الحكم. وهكذا فمن يعزل السلطة التشريعية التي أقامها المجتمع (والتي قبل الناس بكل قراراتها وكأنما قرارات صادرة عن إرادتهم الخاصة)، فإنه يحل الروابط ويعرض الناس مجددا لحالة الحرب تلك. وبما أن الذي يلغي بالعنف السلطة التشريعية هو المتمرد، فإن المشرعين أنفسهم، كما بيّنا، يجب اعتبارهم متمردين إذا اعتدوا على، وحاولوا سلب، حريات الناس وممتلكاتهم، والتي من أجل حمايتها والحفاظ عليها تم تعيينهم. فعندما يجعلون أنفسهم في حالة حرب مع الذين جعلوهم حماة وحراس سلامتهم يصبحون حقا، وبأكبر قدر من الضرر، متمردين (rebellantes).

إذا كان على الرجل الأمين والبريء، ومن أجل السلام، أن يتنازل بهدوء عما يملك لمن يستعمل العنف للاغتصاب، فعلينا أن نتساءل أي نوع من السلام سيكون في العالم، إذا كان يقوم على العنف والألم، والذي يصان فقط من اجل منفعة اللصوص والطغاة. كل من يستعمل العنف بدون حق، مثله مثل الذي يستعمل العنف بدون قانون في حال المجتمع، يجعل نفسه في حالة حرب مع الذين استعمله ضدهم. وفي هذه الحالة، تكون كافة الروابط السابقة لاغية، وتكون لاغية أيضا كافة الحقوق الأخرى، ولكل فرد الحق في الدفاع عن نفسه، وفي مقاومة المعتدي.


ترجمة د. سعيد زيداني

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:56 PM

- توماس هوبس ( هوبز ) :

كان للعوامل والظروف السياسية والدينية التي رافقت حياة توماس هوبس (Thomas Hobes) منذ ولادته حتى أواخر أيامه، أثر كبير في تحديد طبيعته وتكوينه الفكري. فالقرن السابع عشر الذي عايشه توماس هوبس كان يتميّز بعصر الثورات والحروب. فبعد حرب الثلاثين سنة (1618 - 1648) نشبت الحرب الفرنسية الأسبانية والتي استمرت حتى عام 1659. في هذا الوقت بالذات كانت بريطانيا تشهد حروبها وثوراتها الأهلية الخاصة بين الفئات الدينية والسياسية المختلفة. وفي ظلّ هذه الأحوال والظروف التي عاشتها أوروبا بشكل عام وبريطانيا بشكل خاص، عاش هوبس ليستوحي أفكاره حول الإنسان والمجتمع والسلطة.

ولد هوبس عام 1588 وقبل موعده. وسبب ذلك الخوف الذي أثارته استعدادات ملك أسبانيا الكاثوليكي لإرسال أسطوله إلى الشواطئ الإنجليزية لإخضاع ملكتها اليزابيث الأولى البروتستانتية. وبالرغم من أنّ إنجلترا استطاعت أن تردّ الأسبان وأسطولهم على أعقابهم فإنّ الجو الحربي المرعب أثار الخوف في قلب والدة هوبس فوضعته قبل أوانه. ولهذا نراه يقول في وصف نفسه "أنا والخوف توأمان".

إضافة إلى ظروف ولادته وإلى الأجواء السياسية السائدة كان هوبس خلال متابعته الدراسة في جامعة أكسفورد يستمع بامتعاض وبكراهية للمناقشات السياسية والدينية حول السلطة الملكية وحول قضية تفسير الكتاب المقدس والحقوق الفردية. لقد كان يرى أنّ هذه المناقشات لا يمكن أن تساهم إلا بتوسيع الهوّة بين المواطنين، وزعزعة أركان السلطة، والتمهيد للحروب الأهلية في إنجلترا.

وبعد أن نشر كتابه الأول "الهيئة السياسية" الذي وضعه أثناء انعقاد البرلمان الإنجليزي ليبرهن ضرورة الحاجة إلى السيادة غير المنقسمة، تبيّن له في عام 1640 أنّ الحرب الأهلية أصبحت وشيكة الوقوع في إنجلترا فتملّكه الخوف من عواقب كتابه، وهرب إلى فرنسا حيث بقي فيها أحد عشر عاما، التقى خلالها ديكارت، كما أعطى دروسا في الرياضيات لشارلز الثاني الذي كان منفيّا في فرنسا. وفي باريس نشر أعظم أعماله الفلسفية "اللفياثان" -Leviathan- (1651) والذي أثارت الآراء الواردة فيه انتقادات شديدة من جانب الملك شارلز الثاني والكنيسة الكاثوليكية. أمضى هوبس بقية حياته في لندن بعد أن تعّهد بعدم الاشتغال بالسياسة وتوفي في عام 1679.



هوبس: مختارات من كتاب "التنين"


مــــن المقدمة :

يحاكي فن الإنسان الطبيعة، وهي ذلك الفن الذي بموجبه خلق الله الكون ولا يزال يحكمه، في أمور كثيرة من ضمنها أنه قادر على صنع حيوان اصطناعي. فبما أن الحياة ليست الا حركة الأعضاء، حيث تكون بدايتها في عضو داخلي رئيسي، ألا يجوز القول إن لجميع الماكينات (تلك المحركات التي تحرك نفسها بمساعدة النوابض والعجلات، كما هي الحال في ساعة اليد) حياة اصطناعية؟ فما هو القلب ان لم يكن نابضا، والأعصاب ان لم تكن أوتارا، والمفاصل ان لم تكن عجلات تعطي الحركة للجسم كله حسب قصد الفنان (أو الصانع)؟ ولكن الفن يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يحاكي ذلك الكائن العاقل والرائع الذي صنعته الطبيعة، ألا وهو الإنسان. فبالفن يتم خلق ذلك "التنين" الذي يسمى "الدولة" أو "المجتمع" (وباللاتينية civitas). والذي لا يعدو كونه إنسانا اصطناعيا، وان كان أكبر قوة وأعظم شأنا من الإنسان الطبيعي، الذي يهدف إلى حمايته والدفاع عنه. في هذا الكائن، السلطة السيادية هي الروح الاصطناعية التي تعطي الحياة والحركة لكل الجسم، الحكام وبقية موظفي القضاء والتنفيذ هم المفاصل الاصطناعية، العقاب والثواب (اللذان يربطان كل مفصل وعضو بمقعد السلطة السيادية ويحركانه لأداء مهمته) هما الأعصاب، التي تقوم بنفس المهمة في الجسد الطبيعي، الثروة والغنى لجميع الأعضاء هما قوته، أمن الناس هو عمله، المستشارون الذين يزودونه بكل ما يحتاج معرفته هم الذاكرة، العدل والقانون هما العقل والإرادة الاصطناعيان، الوئام هو الصحة، الفتنة هي المرض، والحرب الأهلية هي الموت. وأخيرا، فان العهود والمواثيق، والتي بواسطتها تم في البدء صنع أجزاء هذا الجسم السياسي فانها مجتمعة تشبه ذلك الأمر الإلهي "ليكن هناك إنسان" الذي صدر عن الله عند خلق الكون.

ولوصف طبيعة هذا الإنسان الاصطناعي، يتوجب النظر إلى:

أولا، مادته وصانعه، وكلاهما الإنسان.

ثانيا، كيف، وحسب أي مواثيق، يصنع، وما هي الحقوق وما هي السلطة أو الصلاحية العادلة التي يتمتع بها صاحب السيادة، وما الذي يحافظ عليه أو يؤدي إلى انحلاله.

ثالثا، ما هو المجتمع المسيحي.

وأخيرا، ما هي مملكة الظلام.

الجزء الأول: عن الإنسان
ما يشتهيه الناس نقول أيضا إنهم يحبونه، وما ينفر منه الناس، نقول أيضا انهم يكرهونه، ولذا فإن الشهوة (desire) والحب هما شيء واحد، سوى أن الشهوة تدل على غياب الموضوع، بينما يدل الحب عادة على وجوده، وكذا بالنسبة للنفور (aversion) الذي يدل على غياب الموضوع خلافا للكراهية التي تدل على حضوره.

...

ولأن جسم الإنسان في تغير دائم، فمن المحال أن تثير نفس الأشياء دائما نفس مشاعر الشهوة والنفور في الإنسان. ومن المحال أيضا أن يتفق جميع الناس على شهوة نفس الموضوع.

...

ولكن مهما يكن موضوع الشهوة أو الرغبة عند الإنسان، فان هذا الشيء المشتهى يسمى "الخير" بينما يسمى موضوع النفور أو الكراهية "الشر"، وموضوع الاحتقار يسمى "الحقير" أو " التافه". وهذه الكلمات (الخير، الشر، الحقير) تكون دائما نسبية إلى الشخص الذي يستعملها، إذ لا يوجد شيء كهذا ببساطة وبصورة مطلقة. كما لا يوجد مقياس مشترك للخير والشر يمكن أن يستمد من طبيعة الأشياء ذاتها. مثل هذا المقياس يمكن أن يستمد فقط من شخص الإنسان (في حالة غياب المجتمع أو الدولة)، أو من الشخص الذي يمثل المجتمع أو الدولة، أو من المحكم أو القاضي الذي يتفق الناس على تعيينه، والذين يحصلون من حكمه قاعدة ومقياسا.

( من الفصل 6)
لا أعني بعبارة "الآداب العامة" (manners) هنا آداب السلوك مثل كيف يتوجب على المرء أن يحيِّي الآخر، أو كيف يتوجب عليه أن يغسل فمه أو ينقب أسنانه أمام الجماعة، أو غيرها من صغائر التصرف اللائق. ولكنني أعني تلك الصفات الإنسانية التي تعنى بعيش الناس سوية في وحدة وسلام. ولهذا الغرض، علينا أن نلفت النظر إلى أن السعادة في هذه الحياة لا تكمن في راحة النفس التي ارتوت. فليس هنالك هدف نهائي (finis ultimus) أو خير أعلى (summum bonum) كما جاء في كتب فلاسفة الأخلاق القدماء، فلا حياة لمن أتت شهواته إلى نهايتها، مثلما لا حياة لمن توقفت حواسه وخياله عن العمل. السعادة هي التقدم الدائم للشهوة من موضوع إلى آخر، حيث يكون الحصول على الأول محطة للوصول إلى التالي. والسبب في ذلك هو أن هدف الشهوة عند الإنسان ليس التمتع مرة واحدة وللحظة واحدة فقط، وإنما التأمين الدائم لطريق الشهوة المستقبلية. ومن هنا فان الميول والأعمال الإدارية لجميع الناس لا تهدف فقط إلى الحصول على، وإنما أيضا إلى تأمين حياة راضية. السبل فقط تختلف، وذلك مرده، جزئيا، إلى اختلاف عواطف الناس، وجزئيا إلى التفاوت في المعرفة وفي الآراء حول السبب الذي يؤدي إلى النتيجة المرغوبة.

وبادئ ذي بدء، فإنني أعتقد بوجود نزعة عامة لدى جميع الناس: شهوة مستمرة لا تهدأ من أجل الحصول على القوة والمزيد من القوة، شهوة لا تتوقف الا في حالة الموت. والسبب في ذلك ليس دائما لأن الإنسان يطمع في لذة أشد قوة مما حصل عليه من قبل، أو لأنه لا يكتفي بالقوة التي في حوزته، ولكن لأنه لا يستطيع تأمين القوة والوسيلة المتوفرتين للعيش الكريم بدون الحصول على قوة إضافية. ولهذا السبب، فإن أكثر الملوك قوة لا يكفون عن بذل الجهود الكبيرة من أجل تأمين القوة داخليا بواسطة القوانين، وخارجيا بواسطة الحروب، ومتى أنجزوا ذلك، تثور شهوة جديدة لديهم، لدى البعض من أجل الشهرة الناجمة عن انتصار (أو احتلال) جديد، أو من أجل الراحة والملذات الحسية، ولدى البعض الآخر، من أجل الحصول على الإعجاب والإطراء وعلى التميز في أحد الفنون أو إحدى القدرات الذهنية.

التنافس على الثروة، الشرف، السيطرة، أو على قوة أخرى، يثير النزعة نحو الخصام والعداء والحرب، وذلك لأن الواحد يحصل على مبتغاه عن طريق قتل أو إخضاع أو قمع أو صد الآخر. وعلى وجه الخصوص، فان التنافس على المديح يثير النزعة نحو احترام القدماء. وذلك لأن الناس يتخاصمون مع الأحياء، وليس مع الأموات الذين يغدق عليهم أكثر مما يستحقون مما يمكن من التعتيم على مجد الأحياء.

الرغبة في الراحة وفي ملذات الحواس تثير في الناس النزعة للانصياع إلى قوة (سلطة) مشتركة. وبسبب هذه الرغبات يتنازل الإنسان عن الحماية التي يأمل في الحصول عليها بجهده وسعيه الذاتيين. الخوف من الموت ومن الإصابات يثير نفس النزعة، وللسبب ذاته. وعلى نقيض ذلك، فان المحتاجين الجسورين الذين لا يقبلون بوضعهم الحالي، وكذلك جميع الناس الذين يطمحون إلى السيطرة العسكرية، ينزعون إلى استدامة أسباب الحرب وإثارة المتاعب والفتن. وذلك لأن الإنسان لا يحصل على الشرف العسكري الا بالحرب ولا أمل له في تحسين حظه في اللعبة الا إذا أعاد خلط الأوراق وتوزيعها.

الرغبة في المعرفة وفي فنون أيام السلم تثير في الناس نزعة الانصياع إلى سلطة مشتركة. وذلك لأن مثل هذه الرغبة تنطوي على رغبة في وقت الفراغ، وتبعا لذلك، على رغبة في الحماية من قِبل قوة غير القوة الذاتية.



(من الفصل 11)
لقد جعلت الطبيعة الناس متساوين في قدراتهم الجسدية والعقلية. وإذا ظهر واضحا للعيان أحيانا أن فلانا أقوى جسدا أو أسرع خاطرا من علان، فإننا إذا عملنا الحساب الإجمالي، نجد أن ليس هناك فرق كبير بين الإنسان والإنسان، فرق كبير يبرر للواحد المطالبة لنفسه بمنافع لا يمكن للآخر أن يطالب بها. وفيما يتعلق بقوة الجسد، فلأضعف الناس قوة تكفي لقتل أقواهم، إما بالحيلة والمكيدة، واما بالتحالف مع الآخرين الواقعين تحت نفس المخاطر.

وأما بشأن القدرات العقلية... فإنني أجد قدرا أكبر من المساواة بين الناس من المساواة في قوة الجسد. فما التعقل (prudence) سوى التجربة التي يكسبها الوقت المتساوي المعطى لجميع الناس بالتساوي في تلك الأمور التي يعطيها الناس قدرا متساويا من الجهد. ان ما قد يجعل مثل هذه المساواة غير قابلة للتصديق هو أن كل واحد تقريبا يميل إلى الغرور الفارغ بحكمته، معتقدا أنها تفوق حكمة الناس العاديين، أي جميع الناس باستثنائه هو وباستثناء القلة التي حظيت بالشهرة أو أولئك الذين تلاقت آراؤهم مع آرائه. فهذه هي طبيعة الإنسان: فكلما اعترف أن الكثيرين يفوقونه من حيث الفصاحة أو التعلم أو البراعة اللفظية، كلما وجد صعوبة في الاعتراف بأن الكثيرين ذوو حكمة مثله. وذلك لأنه يلاحظ عقله عن قرب، بينما عقول الناس الآخرين يلاحظها عن بعد. ولكن هذا يدل على أن الناس متساوون في هذه النقطة، أكثر مما يدل على عدم المساواة، وليست هناك عادة علامة أبرز على التوزيع المتساوي لأي شيء من كون كل شخص راضيا بنصيبه.

من هذه المساواة في القدرة تنشأ مساواة في الأمل في تحقيق الأهداف. ونتيجة لذلك، فإذا رغب شخصان بنفس الشيء ولم يكن بالإمكان أن يتمتع كلاهما به، فانهما يصبحان عدوين. وفي سعيهما من أجل الهدف، والذي هو أساساً الحفاظ على البقاء، وأحيانا البهجة فقط، فان الواحد منهما يحاول تدمير أو إخضاع الآخر. ومن هنا فإذا لم يخشَ الغازي سوى القوة الفردية للآخر، وإذا كان هذا الآخر يزرع ويغرس ويبني ويملك بيتا مناسبا، فمن المتوقع أن يجيء الآخرون موحدي القوة لتجريده من أملاكه وحرمانه ليس فقط من ثمار عمله، وإنما من حياته أو حريته أيضا. وللغازي يكمن خطر مماثل من قبل الآخرين.

...

وفي طبيعة الإنسان نجد ثلاثة أسباب رئيسية للخصام. الأول: التنافس؛ الثاني: عدم الثقة بالنفس؛ الثالث: المجد.

السبب الأول يجعل الناس يغزون من أجل الكسب؛ الثاني من أجل الأمن؛ والثالث من أجل السمعة الحسنة. في الحالة الأولى يلجأون إلى العنف كي يصبحوا أسيادا على أشخاص الآخرين، زوجاتهم، أولادهم، وقطعانهم. في الحالة الثانية، لكي يدافعوا عنهم. وفي الحالة الثالثة من أجل أمور تافهة مثل كلمة أو ابتسامة أو رأي مختلف أو أي علامة تقليل من قيمة، مباشرة تجاه أشخاصهم أو غير مباشرة تجاه أقربائهم، أصدقائهم، شعوبهم، مهنهم، أو أسمائهم.

ومن هنا يظهر جليا ان طالما يعيش الناس بدون قوة مشتركة ترهبهم جميعا، فانهم يظلون في حالة تسمى حالة الحرب. ومثل هذه الحرب هي حرب كل شخص ضد كل شخص. فالحرب ليست أساسا معركة أو قتالا فقط، وإنما في فترة زمنية تكون خلالها إرادة الناس للقتال معروفة بما فيه الكفاية. ولذلك فان مفهوم الزمن يجب النظر إليه على أنه غير منفصل عن جوهر الحرب، تماما كما أنه غير منفصل عن جوهر الطقس. فكما أن الطقس العاصف لا يكمن في وابل واحد أو وابلين من المطر، وإنما في الميل لهذا لعدة أيام متتالية، كذلك فان حالة الحرب لا تكمن في القتال الفعلي، وإنما في النزعة المعروفة لذلك خلال الوقت الذي لا يوجد فيه ضمان لعكس ذلك، وكل وقت آخر هو سلام.

ونتيجة لذلك، فان كل ما ينتج عن زمن الحرب، حيث يكون كل شخص عدوا لكل شخص، ينتج أيضا عن الزمن الذي يعيش خلاله الناس بدون أمن سوى ذلك الذي تؤمنه وتزوده قواهم ومكائدهــم. وفي وضــع كهــذا، لا مكان للكـــد والاجتهاد لأن ثــــماره غير أكيدة: ونتيجة لذلك، لا فلاحة ولا ملاحة ولا استعمالا للبضائع التي تجلب عن طريق البحر، ولا بنايات مريحة، ولا وسائط لنقل تلك الأشياء التي تحتاج إلى قوة كبيرة، ولا معرفة بسطح الأرض، ولا حساب للزمن، ولا فنون، ولا آداب، ولا مجتمع، والأسوأ من كل هذا، خوف دائم وخطر من الموت العنيف، وحياة الإنسان: وحيدة، فقيرة، قذرة، حيوانية، وقصيرة.

... وقد يظن أنه لم يكن هنالك وقت كهذا أو حالة حرب كهذه، وأنا بدوري اعتقد أنه لم يكن على العموم وضع كهذا في العالم بأسره. ولكن هناك أماكن كثيرة حيث يعيش الناس هكذا هذه الأيام. فلا توجد حكومة على الإطلاق لأولئك المتوحشين في أماكن كثيرة في أمريكا (سوى حكم العائلات الصغيرة حيث يعتمد الوئام على الشهوة الطبيعية). وهم يعيشون الآن حسب الطريقة الحيوانية التي تحدثت عنها سابقا. وبالرغم عن ذلك، يمكن ان يتصور المرء كيف يمكن أن يكون شكل الحياة في غياب قوة مشتركة يهابها الناس، إذا نظرنا إلى شكل الحياة التي ينحدر إليها الناس في حالة الحرب الأهلية وذلك بعد أن عاشوا سابقا في ظل حكومة سلمية.

...وهناك نتيجة أخرى لهذه الحرب، حرب الكل ضد الكل: لا شيء يمكن أن يكون جائرا. ومفاهيم الصواب والخطأ، العدل والجور، ليس لها مكان هنا. فحيث لا توجد قوة مشتركة لا يوجد قانون، وحيث لا يوجد قانون لا يوجد جور (أو ظلم). العنف والاحتيال في الحرب هما الفضيلتان الرئيسيتان. العدل والجور ليسا من ملكات الجسد أو ملكات الروح. ولو كانا كذلك، لوجدا في الإنسان الواحد والوحيد في العالم، تماما كحواسه وعواطفه. انهما صفتان للإنسان داخل المجتمع، وليس للإنسان المنعزل. ومن نتائج هذا الوضع أيضا عدم وجود ملكية أو تمييز بين ما هو لي وما هو لك، وإنما لكل إنسان ما يستطيع الحصول عليه، وللمدة التي يستطيع المحافظة عليه. إلى هذا الحد من الوضع البائس للإنسان، ذلك الوضع التي أوجدته فيه الطبيعة فعلا، رغم إمكانية الخروج منه، إمكانية تكمن جزئيا بعواطفه، وجزئيا بعقله.

ان العواطف التي تجعل الناس يجنحون نحو السلم هي الخوف من الموت، الرغبة في تلك الأشياء الضرورية للعيش المريح، والأمل في الحصول عليها بالكد والاجتهاد. والعقل يقترح أسسا مناسبة للسلام يمكن ان يتفق الناس عليها. من هذه الأسس، والتي تسمى أيضا قوانين الطبيعة، سوف أتحدث بمزيد من التفصيل في الفصلين التاليين.


(من الفصل 13)
الحق الطبيعي، والذي يسميه الكتّاب باللاتينية (Jus Naturale)، هو حرية كل شخص في استعمال قوته حسب ما يريد لحماية طبيعته، أي حياته الخاصة، وتبعا لذلك، في عمل أي شيء يكون حسب حكمه وتفكيره وسيلة مناسبة لذلك.

الحرية، حسب الدلالة الصحيحة لهذه الكلمة، هي غياب العوائق الخارجية: تلك العوائق التي تعطل أحيانا جزءا من قوة الإنسان لعمل ما يريد، ولكنها لا تستطيع منعه من استعمال القوة المتبقية في حوزته حسب ما يمليه عليه حكمه وعقله.

قانون الطبيعة (Lex Naturalis) هو أمر، قاعدة سلوك عامة، أوجدها العقل لمنع الإنسان من عمل أي شيء يدمر حياته أو يجرده من الوسائل لحمايتها أو يحذف ما يعتقد أنه الأفضل لحمايتها. ولأن المهتمين بالموضوع خلطوا ما بين Jus و Lex، بين الحق والقانون، فمن الضروري التمييز بينهما. الحق هو الحرية في العمل أو الإحجام عن العمل، بينما القانون يلزم الإنسان بواحد منهما. ولهذا فان الحق والقانون يختلفان تماما كاختلاف الواجب والحرية، ويتعارضان في علاقتهما بنفس القضية.

وبما أن حالة الإنسان (كما أعلنا في الفصل السابق) هي حالة حرب الكل ضد الكل، وبما أن كل شخص يتصرف وفق إملاء عقله ويمكنه اللجوء لأي شيء يساعده في الحفاظ على حياته ضد أعدائه، ينتج عن ذلك أن لكل شخص في هذا الوضع حقا في كل شيء، فلا ضمان لأحد (مهما كان قويا أو حكيما) في استنفاذ ذلك القسط من الحياة التي تسمح به الطبيعة عادة لبني البشر. ولذلك، فمن أوامر العقل أو قواعده العامة: "أن على كل شخص أن يسعى نحو السلم طالما ان هناك أملا في ذلك، وإذا تعسر الحصول عليه، يجوز له أن يبحث عن وان يستغل جميع منافع الحرب". الجزء الأول من هذه القاعدة يشتمل على قانون الطبيعة الأول والأساسي وهو: إسْعَ نحو السلم وابحث عنه. أما الجزء الثاني، وهو اختصار الحق الطبيعي، فهو: الدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة.

من هذا القانون الطبيعي الأساسي، والذي يأمر الناس بالسعي نحو السلم، يستمد القانون الثاني: "إن على الإنسان أن يكون مستعدا، إذا كان الآخرون كذلك، والى الحد الذي يعتقد أنه ضروري من أجل السلام ومن أجل الدفاع عن النفس، للتنازل عن هذا الحق في كل شيء، وان يرضى بذلك القدر من الحرية تجاه الآخرين الذي يسمح لهم به تجاهه". إذ طالما يتمتع كل شخص بهذا الحق في عمل أي شيء يريد، يبقى جميع الناس في حالة حرب. وإذا لم يتنازل الناس الآخرون عن حقهم، كما يتنازل هو، فلا مبرر لأحد بأن يجرد نفسه من حقه، لأنه بهذا يجعل نفسه فريسة (وهو ما لا يجب عمله) بدلا من أن يعد نفسه للسلام. وهذا القانون هو نفسه قانون العهد الجديد: "ما تطلب ان يعمله الناس لك، عليك أن تعمله لهم".

...عندما يتنازل المرء عن حقه أو يتخلى عنه، يكون ذلك إما بسبب حق عكسي تم التنازل عنه لصالحه، أو بسبب نفع يأمل تحقيقه بواسطة ذلك. لأن ذلك (أي التنازل) عمل إرادي. والأفعال الإرادية للإنسان تهدف إلى تحقيق النفع له. ومن هنا فان هناك حقوقا لا يجوز فهم الإنسان سواء بالكلام أو بالعلامات الأخرى، على أنه تنازل عنها أو تجرد منها. أولا، لا يستطيع المرء أن يتخلى عن حقه في مقاومة من يعتدي عليه بالعنف كي يسلبه حياته، إذ لا يعقل أن يرجو المرء بهذا نفعا لنفسه. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الجروح والقيود والسجن. ليس فقط لأن تحملا كهذا ليس مفيدا له (كالصبر على الألم إذا أصيب أو إذا سجن له صديق) وإنما أيضا لأنه لا يستطيع أن يعرف إذا كان المعتدون يقصدون موته أم لا. وأخيرا، فإن الدافع أو الهدف الذي من أجله تم التنازل أو التخلي عن هذا الحق ليس سوى الأمن على شخص الإنسان في حياته، وفي الوسائل للحفاظ عليها لئلا يضجر منها. ولذلك إذا تظاهر المرء، بالكلمات أو العلامات الأخرى، أنه يسلب نفسه ذلك الهدف الذي من أجله وجدت هذه العلامات، يجب أن يفهم لا على أنه يقصد أو يريد ذلك، وإنما على انه يجهل كيف يمكن أن تفسر تلك الكلمات والأعمال.

والتنازل المتبادل عن الحق هو الذي يسميه الناس "تعاقدا".


(من الفصل 14)
...من ذلك القانون الطبيعي الذي يوجب علينا التنازل عن الحقوق للآخرين، والتي لو تمسكنا بها لوقفنا في طريق سلام الجنس البشري، يتبع قانون طبيعي ثالث هو: "من يوقع عقدا وجب عليه أن يحافظ عليه". وبدون ذلك تكون العقود عبثا وكلاما فارغا ولأن حق كل شخص في كل شيء يبقى قائما، فاننا لا نزال في حالة حرب.

وقانون الطبيعة هذا هو منبع وأصل كل عدل. فحيث لا توجد اتفاقيات سابقة لا يتم التنازل عن أي حق ولكل إنسان الحق في كل شيء، ولا يعتبر أي عمل عندها جائرا أو ظالما. ولكن إذا عقد اتفاق، فان خرقه يعتبر عملا جائرا. وتعريف الجور (injustice) هو عدم المحافظة على العهود. وكل ما ليس جورا هو عدل.

... وقوانين الطبيعة ثابتة وأبدية. وذلك لأن الظلم، نكران الجميل، الغرور، الكبرياء، الإثم، والإيثار، الخ لا يمكنها أن تكون قانونية. لأن الحرب لا تحافظ على الحياة إطلاقا، ولأن السلام لا يكون مدمرها.

ولان هذه القوانين تستلزم الرغبة والجهد فقط، أقصد الجهد الصادق، فمن المتيسر مراعاتها. ولأنها لا تتطلب سوى الجهد، فمن يحاول جادا المحافظة عليها يمكنه القيام بذلك. ومن يحافظ على القانون يكون عادلا.


(من: الفصل 15)
يصبح جمهور من الناس شخصا واحدا (One Person) حين يمثلهم فرد واحد أو شخصية واحدة، بالموافقة الفردية لكل واحد منهم. وذلك لأن وحدة الممثِّل وليس وحدة الممثَّل هي التي تجعل الشخصية واحدة. والممثِّل هو الذي يحمل شخصية، الشخصية الواحدة فقط. ولا معنى للوحدة بالنسبة للجمهور دون ذلك. ولأن الجمهور ليس بطبيعته فردا واحدا وإنما كثرة من الناس، فمن المحال اعتبارهم أصحاب عمل واحد، وإنما هم أصحاب أفعال كثيرة، فيما يتعلق بكل شيء يقوله أو يعمله الممثل بالنيابة عنهم. فكل واحد يمنح الممثل المشترك تخويلا فرديا عن نفسه فقط، وهو نفسه صاحب كل الأفعال التي يقوم بها الممثل، هذا إذا أعطي تخويلا غير مقيد.

[ملاحظة: يعدد هوبس 19 قانونا طبيعيا في هذا الفصل.]

... أما إذا حددوا بأي الأمور والى أي حد يمثلهم، فلا يعتبر أحدهم صاحب عمل أكثر مما فوض على عمله.

وإذا كان الممثل يتألف من عدد من الناس، فان صوت العدد الأكبر يجب اعتباره صوتهم جميعا. فإذا صوت العدد الصغير، مثلا، بالإيجاب، بينما صوت العدد الأكبر بالنفي، فهناك عدد كاف من أصوات النفي لنقض عدد أصوات الإيجاب. ولذا فان فائض أصوات النفي التي لا تناقض، هي الصوت الوحيد الذي يملكه الممثل.



(من: الفصل 16)
الجزء الثاني: عن المجتمع (Common - Wealth)
إذا كان الناس بطبيعتهم يحبون الحرية والسيطرة على الآخرين، فما هو السبب النهائي أو الغاية أو الهدف من وراء إدخال تلك القيود على أنفسهم (تلك القيود التي يعيشون وفقها في المجتمع أو الدولة)؟ الهدف هو الحفاظ على البقاء وعلى حياة أكثر رضى. هذا يعني إخراج أنفسهم من وضع الحر البائس ذاك، والذي هو النتيجة الضرورية (كما ذكرنا) للعواطف الطبيعية، في غياب قوة مرئية ترهبهم وتفرض عليهم بالخوف من العقاب، المحافظة على العقود ومراعاة تلك القوانين الطبيعية التي تحدثنا عنها في الفصلين الـ 14 و الــ 15.

ولأن قوانين الطبيعة (مثل العدل، الإنصاف، التواضع، الرحمة، وباختصار ان نعمل للناس ما نحب ان يعملوه لنا) بحد ذاتها، وبدون الخوف من قوة تفرض مراعاتها، مناقضة لعواطفنا الطبيعية التي تحملنا على التحيز، الكبرياء، الانتقام، وهكذا. والعقود بدون السيف مجرد كلام فارغ. وليس بمقدورها توفير الأمن للإنسان بتاتا. وبغض النظر عن القوانين الطبيعية (والتي يحافظ عليها من يريد المحافظة عليها فقط إذا تسنى له عمل ذلك في أمان)، فإذا لم تقم قوة كبيرة تكفي من أجل أمننا، فكل شخص يعتمد، وبحق على قوته وحيلته للحذر من كل الناس الآخرين...

... ان الطريقة الوحيدة لإقامة قوة مشتركة كهذه، قوة يمكنها الدفاع عن الناس من الغزو الخارجي ومن الأذى الذي يسببه أحدهم للآخر، وتوفير الأمن الذي يمكنهم من العيش المريح من كدهم ومن ثمار الأرض، الطريقة هي، أن يمنحوا كل قوتهم لشخص واحد أو لمجلس من النواب يكون بإمكانه اختزال إرادتهم، عن طريق التصويت بالأغلبية، إلى إرادة واحدة. هذا يعني، تعيين شخص واحد أو مجلس نواب واحد يحمل شخصيتهم، ويعترف كل منهم انه نفسه صاحب كل تلك الأفعال التي يقوم بها أو يتسبب في عملها حامل الشخصية، في تلك الشؤون ذات العلاقة بالسلام والأمن العامين. وبهذا يلغي جميع الناس إرادتهم أمام إرادته وأحكامهم أمام حكمه. وهذا يعتبر أكثر من الاتفاق والوئام، انه وحدتهم الحقيقية في شخص واحد. وحدة نتجت عن اتفاق كل شخص مع كل شخص آخر، وبالشكل الذي يمكن الواحد أن يقول للآخر: أخول هذا الشخص أو ذاك المجلس، وأتنازل له عن حقي في حكم نفسي، وذلك شريطة أن تتنازل عن حقك له وأن تصادق على أعماله مثلي. عندما يتم ذلك، فان الجمهور الذي اتحد في شخص واحد يسمى المجتمع أو الدولة (باللاتينية Civitas). وهذا يخلق "التنين" (Leviathan) الكبير أو، إذا تحدثنا بمزيد من الاحترام، هذا "الإله الفاني" والذي نحن مدينون له، وأمام الإله الخالد، على سلامنا وأمننا. وبناء على هذا التفويض الذي يعطى له من قبل كل شخص في المجتمع، فان عليه استعمال تلك القوة الكبيرة التي منح إياها، والتي يمكنه التلويح بها من صياغة إرادتهم جميعا من اجل السلام في الداخل ومن أجل الدعم المتبادل ضد الأعداء من الخارج. وبه يكمن جوهر الدولة، والتي يمكن تعريفها كالتالي: شخصية واحدة، والتي بناء على الاتفاقيات المتبادلة صادق كل فرد من الجمهور على أعمالها، لكي يتسنى لها استخدام قوتهم ووسائلهم جميعا، وكما تجد ذلك مناسبا من اجل السلام والأمن العامين.

حامل تلك الشخصية يسمى "العاهل" (Sovereign) وهو صاحب السلطة السيادة (Sovereign Power)، وكل فرد آخر غيره "رعية" (Subject).

الحصول على السلطة السيادية يتم بإحدى طريقتين: الأولى، بالقوة الطبيعية، وهذا يحصل عندما يضع شخص أولاده وأحفاده تحت سلطته، وفي حالة رفضهم ذلك يدمرهم، أو عندما يستعبد أعداءه في الحرب مقابل ان يبقي عليهم أحياء. أما الطريقة الثانية: عندما يتفق الناس فيما بينهم، وبإرادتهم الحرة، على الخضوع. الثاني يمكن تسميته المجتمع السياسي أو "المجتمع بالتأسيس"، بينما يسمى الأول مجتمع بالاكتساب (Common-Wealth by Aquisition). سوف أتحدث، في البدء، عن المجتمع بالتأسيس (Common-Wealth by Institution).

(من: الفصل 17)
يقال عن مجتمع أنه تأسس عندما يتفق جمهور من الناس ويتعاهدون، كل واحد مع كل واحد آخر، على التالي: بغض النظر عن الشخص أو المجلس الذي يمنح من قبل الجزء الأكبر من الناس حق تمثيل شخصيتهم جميعا (أي أن يكون مثلهم)، فعلى كل واحد منهم، سواء صوت مع أو ضد ذلك، أن يصادق على جميع أفعال وأحكام هذا الشخص أو المجلس، وكأنها أعماله وأحكامه وذلك لكي يعيش المتعاقدون بسلام فيما بينهم وفي حماية من الناس الآخرين.

من هذا التأسيس للمجتمع تستمد جميع الحقوق والصلاحيات الممنوحة لصاحب أو أصحاب السيادة حسب الاتفاق بين المجتمعين.

أولا، بما أنهم يوقعون عقدا، فمن الواجب أن يكون واضحا أنهم غير ملزمين بأي عقد سابق يناقضه. ونتيجة لذلك، إذا أسسوا مجتمعا والتزموا تعاقديا أن يعتبروا أنفسهم أصحاب تلك الأعمال والأحكام التي تصدر عن شخص واحد. فلا يستطيعون قانونيا أن يوقعوا عقدا جديدا فيما بينهم على إطاعة شخص آخر دون إذن منه. ومن هنا، فان رعايا الملك (أو الحاكم الفرد) لا يستطيعون، دون الحصول على إذنه، إلغاء الملكية والعودة إلى فوضى الجمهور الممزق، كما لا يستطيعون تحويل شخصيتهم من ذلك الذي يحملها إلى شخص أو مجلس آخر، وذلك لأنهم ملزمون كل تجاه الآخر، أن يكونوا أصحاب تلك الأعمال التي يقوم بها، أو يرى عملها مناسبا، صاحب السيادة. فإذا عارض أحد، يتوجب على جميع الباقين خرق العقد الذي وقعوه معه، وهذا ظلم (injustice). وبما أن كل واحد قد أعطى السيادة لذلك الفرد الذي يحمل شخصيتهم، فإذا عزلوه، فانهم بهذا يأخذون منه ما هو له، وهذا ظلم أيضا. إضافة إلى ذلك، من يحاول عزل العاهل، وقُتِلَ أو عوقب من قبله على تلك المحاولة، يكون نفسه صاحب ذلك العقاب، لأنه، وبناء على تأسيس المجتمع، يكون صاحب كل ما يعمله العاهل. وبما أنه من الظلم أن يقوم إنسان بأي عمل يعرضه للعقاب بتفويض من نفسه فإنه من هذه الناحية ظالم (unjust). وإذا علل بعض الناس عصيانهم للعاهل بذريعة عقد جديد وقعوه مع الله، وليس مع الناس الآخرين، فان هذا ظلم أيضا، فلا عقد مع الله الا بواسطة إنسان يمثل شخص الله. ولا ممثل لله سوى من يقوم مقامه وله السيادة في الأرض. وهذا الزعم بالتعاقد مع الله هو كذبة مكشوفة (حتى في ضمائر الزاعمين أنفسهم)، وهو ليس عملا ظالما فقط، وإنما أيضا عملا جبانا وحقيرا.

ثانيا، بما أن حق حمل شخصيتهم جميعا قد أعطي لمن جعلوه عاهلا بموجب عقد متبادل بين الناس، وليس بموجب عقد بين العاهل وبين أي منهم، فلا مجال لخرق العقد من جانب العاهل. ولذا فلا يستطيع أحد من رعاياه، وبحجة فقدان السيادة، أن يحرر نفسه من الخضوع. من نصب عاهلا لا يوقع عقدا مسبقا مع رعاياه - وهذا أمر غاية في الوضوح، لأن عليه عندها اما أن يوقع عقدا مع كل الجمهور كطرف واحد أو أن يوقع عقدا منفصلا مع كل شخص. عقد مع الجميع كطرف واحد هو أمر مستحيل، وذلك لأن الناس ليسوا شخصا واحدا بعد، وإذا وقع عقودا منفصلة مع كل واحد من الناس، تكون هذه العقود لاغية بعد أن يصبح عاهلا. وذلك لأن أي عمل يزعم أحدهم أن فيه خرقا، هو عمله وعمل البقية، نظرا لصدوره عن شخص، وبناء على حق كل منهم... إن الرأي القائل بأن أي ملك (أو حاكم فرد) يحصل على سلطته بواسطة العقد، أي بناء على شروط، مصدره سوء فهم لحقيقة بسيطة وهي: ان العقود مجرد كلمات ليست لها قوة إلزام أو كبح أو تقييد أو حماية أي إنسان، سوى تلك القوة المستمدة من السياق العام، أي من الأيدي غير المقيدة لذلك الشخص أو المجلس الذي له السيادة والمعترف بأفعاله من قبل الجميع، تلك الأفعال التي تنفذ بقوة الجميع متحدة بشخصه...

ثالثا: بما أن الأغلبية، بأصواتها الموافقة، أعلنت عن قيام العاهل، فعلى من كان معارضا من قبل أن يوافق الآن مع البقية، أي أن يعترف بجميع أعمال العاهل، والا استحق التدمير من قبل الآخرين. فإذا انضم شخص إلى جمع محتشد من الناس، فانه بهذا يعلن بما فيه الكفاية عن رغبته، وكأنه عقد اتفاقا ضمنيا، في الموافقة على ما تقرره الأغلبية. وإذا رفض الموافقة على ذلك أو احتج على أحد قرارات الأغلبية، فإن عمله هذا يكون مناقضا للعقد الذي وقعه، ويكون بالتالي عملا ظالما. سواء كان حاضرا في الحشد المجتمع أم لم يكن، وسواء طلبت موافقته أم لم تطلب، فان عليه الخضوع لقراراتهم، والا بقي في حالة الحرب التي كان فيها سابقا، حيث يجوز لأي شخص القضاء عليه دون أن يكون ظالما بحقه.

رابعا، بما أن كل رعية حسب هذا التأسيس (للمجتمع) يُعْتَبَرُ صاحب كل أعمال وأحكام العاهل، ينتج عن هذا أن أيا من أعمال العاهل لا ينطوي على إلحاق أي ضرر بأي من رعاياه، ولا يجوز لأي منهم اتهامه بالظلم. وذلك لأن من يقوم بعمل شيء بناء على تفويض من الآخر لا يلحق الضرر بمن عمل حسب تفويض منه. وبناء على هذا التأسيس للمجتمع، فان كل فرد يصادق على كل أفعال العاهل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن من يتذمر من أي ضرر يسببه العاهل هو كمن يتذمر من عمل هو بمثابة صاحبه. ولكن لا يجوز أن يتهم نفسه بالضرر، لأنه من غير الممكن أن يضر الواحد نفسه. صحيح أن من يملك السلطة السيادية قد يرتكب بعض الشرور، ولكنه لا يسبب ظلما أو ضررا بالمعنى الدقيق.

خامسا، وبناء على ما قيل أخيرا، فلا يمكن عدلا إعدام صاحب السلطة السيادية على يد أي من رعاياه أو معاقبته بأي شكل من الأشكال. فبما أن كل رعية هو صاحب كل أعمال العاهل، فان من يعاقبه هو كمن يعاقب غيره على أعمال قام بها هو نفسه.

وبما أن الغاية من هذا التأسيس (للمجتمع) هو السلام والأمن للناس جميعا، وبما أن من له الحق في الغاية له أيضا الحق في الوسائل لتحقيقها، فمن حق صاحب السيادة، فردا كان أم مجلسا، أن يحكم بشأن الوسائل اللازمة للسلام والأمن وكذلك بشأن العوائق والعراقيل في وجههما، وان يعمل ما يعتقده ضروريا من أجل الحفاظ على السلام والأمن بواسطة منع الصراعات الداخلية والاعتداءات الخارجية، وكذلك من أجل إعادة السلام والأمن عند فقدانهما.

سادسا، فمن الصلاحيات الملحقة بالعاهل أن يكون قاضيا بشأن الآراء والمذاهب المعادية للسلم وتلك التي تؤدي إليه، وتبعا لذلك، بشأن مَن من الناس يمكن الوثوق به للتحدث إلى الجماهير، وفي أي المناسبات والى أي حد، وكذلك بشأن من يقوم بفحص المذاهب (والنظريات) في جميع الكتب قبل نشرها. وذلك لأن أعمال الناس تصدر عن أفكارهم، وفي حسن حكم الأفكار يكمن حسن حكم أعمال الناس من أجل السلام والوئام. ومع انه فيما يختص بالأفكار والعقائد يجب مراعاة الحقيقة فقط، الا أن ذلك لا يتعارض مع كون الحقيقة موجهة نحو السلام. فالنظرية المعارضة للسلام لا يمكنها أن تكون صحيحة، تماما كما لا يمكن للسلام والوئام ان يتعارضا مع قانون الطبيعة... ومن هنا فمن مصلحة العاهل أن يكون قاضيا، أو ان يعين القضاة، للبت في الأفكار والعقائد، لضرورة ذلك من أجل السلام ومنع الخصام والحرب الأهلية.

سابعا، ومن الصلاحيات الملازمة للسيادة الصلاحية الكاملة في تحديد الأحكام التي على أساسها يستطيع كل فرد أن يعرف ما هي الأشياء التي يمكنه التمتع بها وما هي الأعمال التي يمكنه القيام بها دون مضايقة من قبل بقية الرعايا. وهذا ما يسميه الناس "ملكية". فقبل تأسيس السلطة السيادية (وكما بينا سابقا) كان لجميع الناس الحق في كل شيء، مما يؤدي ضرورة إلى الحرب. وبما أن هذه الملكية ضرورية للسلام، وبما أنها تعتمد على سلطة سيادية، فإنها من أعمال تلك السلطة السيادية من أجل السلام العام...

ثامنا، ومن الحقوق الملازمة للسيادة الحق في القضاء، هذا يعني في الاستماع إلى والبت في الخلافات التي قد تنشأ حول القانون، المدني منه أو الطبيعي، أو حول الوقائع فبدون البت في الخلافات لا حماية للناس من الضرر الذي يلحقه الواحد بالآخر، وتكون القوانين المتعلقة بما هو لي وما هو لك فارغة...

تاسعا، ومن الحقوق الملازمة للسيادة الحق في صنع السلام أو الحرب مع الأمم والمجتمعات الأخرى. هذا يعني، الحكم متى يكون الأمر في مصلحة الجمهور، وما هو حجم القوة اللازم تجميعها وتسليحها ودفع أجرها من أجل ذاك الهدف، وفرض الضرائب على الرعايا لتغطية النفقات التي يتطلبها ذلك...

عاشرا، ومن الصلاحيات الملازمة للسيادة اختيار المستشارين، الوزراء، القضاة والضباط، في زمن الحرب كما في زمن السلم. فبما أن من مهمة العاهل الحرص على الهدف، وهو السلام والأمن العامين، فمن الواضح أن له صلاحية استخدام تلك الوسائل التي يعتقد أنها مناسبة للقيام بواجبه.

...وقد يقول قائل هنا بإن حالة الناس بائسة جدا لأنها عرضة للشهوات والانفعالات الاعتباطية لذلك الشخص أو أولئك الأشخاص الذين بأيديهم سلطة غير محدودة بهذا الشكل. وعلى العموم، فمن يعيش تحت حكم ملكي يظن أن هذا من نقائض الملكية (أو حكم الفرد)، ومن يخضع لنظام حكم ديمقراطي، أو لمجلس نواب سيادي، ينسب جميع المتاعب إلى هذا الشكل من المجتمع. ولكن الحكم، على جميع أشكاله، إذا كانت بدرجة من الكمال تكفي لحماية الناس، هو نفس الشيء. ويجب ألا ننسى أن حالة الناس لا يمكنها أن تكون بدون إزعاج من هذا النوع أو ذاك، وان أكبر المضايقات التي تحدث للناس عموما تحت أي من أشكال الحكم تكاد تكون غير محسوسة بالمقارنة مع الآلام والكوارث الهائلة التي ترافق الحرب الأهلية، أو حتى بالمقارنة مع الوضع الفاجر بدون حاكم، بدون الخضوع للقوانين وبدون سلطة الإرغام التي تقيد الناس وتمنعهم من السلب والانتقام. وكذلك يجب ألا ننسى أن معظم الضغط الذي يمارس على الناس من قبل حكامهم السياديين لا ينبع عن لذة أو منفعة يتوقعها الحكام من إلحاق الضرر بالرعايا أو إضعافهم (فقوة الناس هي أساس قوة ومجد الحكام)، وإنما من تهاون الناس في الإسهام في الدفاع عن أنفسهم، مما يضطر الحكام أن يأخذوا منهم ما أمكن في أيام السلم لتوفير الوسائل لمقاومة الأعداء وإخضاعهم في الحالات الاستثنائية ووقت الحاجة الطارئة.

(من الفصل 18)
المجتمع بالاكتساب (Common-Wealth by Aquisition) هو ذلك المجتمع الذي يتم فيه الحصول على السلطة في حالة بالعنف. ويتم الحصول عليها بالعنف حين يصادق الناس، فرادى أو جماعات، بأغلبية الأصوات، وبسبب الخوف من الموت أو الأغلال، على جميع أفعال ذلك الشخص أو المجلس الذي بين يديه حياتهم وحرياتهم.

السيطرة أو السيادة من هذا النوع تختلف عن السيادة بالتأسيس (Sovereignty by institution) في شيء واحد فقط: الناس الذين يختارون عاهلهم، يفعلون ذلك لأنهم يخافون من بعضهم البعض، وليس لأنهم يخافون من ذلك الشخص الذي ينصبونه عاهلا. ولكن في هذه الحالة فانهم يخضعون أنفسهم لذلك الشخص الذي يخافونه. وفي كلتا الحالتين، يفعل الناس ذلك بسبب الخوف، ولهذا الأمر يجب أن ينتبه أولئك الذين يعتقدون أن عقدا مصدره الخوف من الموت أو العنف يعتبر باطلا، فلو كان هذا صحيحا، لما أمكن إلزام أي شخص، في أي نوع من المجتمعات، بالطاعة...

ولكن الحقوق ونتائج السيادة هي ذاتها في الحالتين: بدون موافقة العاهل، لا يجوز نقل سلطته إلى غيره، ولا يمكنه فقدانها. ولا يستطيع أي من رعاياه أن يتهمه بإلحاق الضرر. ولا تجوز معاقبته من قبل الناس. وهو الحاكم بشأن ما هو ضروري من أجل السلام. وهو الذي يحكم بشأن العقائد والنظريات. وهو المشرع الوحيد، وهو القضاة، المستشارون، القادة العسكريون، الوزراء، وبقية الضباط والموظفون، وله الحق في تحديد العقاب والثواب وكل المراتب ودرجات الشرف. الأسباب لهذا هي نفسها المذكورة في الفصل السابق بشأن حقوق ونتائج السيادة بالتأسيس.

يبدو واضحا إذن، بموجب العقل أو الكتاب المقدس، ان السلطة السيادية، سواء كانت في يد شخص واحد كما في الملكية، أو في يد مجلس واحد كما في المجتمع الشعبي أو الأرستقراطي، هي من العظمة بقدر ما يستطيع المرء ان يتصور. وإذا كان يتهيأ للناس أن سلطة غير محدودة بهذا الشكل تؤدي إلى نتائج شريرة، الا ان نتائج غياب سلطة كهذه، والذي يعني حربا دائمة بين الإنسان وجاره، أسوأ من ذلك بكثير. ان حالة الناس في هذه الدنيا لن تكون بدون متاعب، ولكن أكبر المتاعب في أي مجتمع تنشأ عن عصيان الرعايا وخرقهم لتلك العقود التي تكمن في صميم المجتمع. وكل من يظن أن السلطة السيادية أوسع مما يجب، ويسعى إلى الحد منها، يكون عليه الخضوع لسلطة تستطيع تقييدها، أي لسلطة أوسع منها.

(من: الفصل 20)
القوانين المدنية (Civil Laws) هي تلك القوانين التي يتوجب على الناس مراعاتها لأنهم أعضاء، ليس بهذا المجتمع أو ذاك، وإنما في أي مجتمع كان. وذلك لأن معرفة القوانين الخاصة هي من اختصاص أولئك المنهمكين في دراسة قوانين بلادهم المختلفة. ولكن معرفة القانون المدني بشكل عام هي من شأن كل إنسان. القانون الروماني القديم يسمى "القانون المدني" (Lex Civilis)، مشتق من كلمة (Civilas) والتي تعني المجتمع. وتلك البلدان التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية والتي كانت تحكم حسب ذلك القانون، ما زالت تحتفظ بذلك الجزء منه الذي تعتبره مناسبا. تلك البلدان تسمي ذلك الجزء "القانون المدني" للتمييز بينه وبين بقية القوانين المدنية الأخرى...

ومن الواضح أولا ان القانون عموما ليس مشورة وإنما أمر، ليس أمرا يصدره أي شخص لأي شخص آخر، وإنما أمر يصدر عن الشخص الذي يوجهه إلى شخص آخر سبق والتزم بإطاعته اما حسب القانون المدني فيضاف اسم الآمر فقط والذي هو (persona civitatis) شخصية المجتمع.

وبناء على ما قيل أعلاه، فإنني أعرّف القانون المدني على النحو التالي: بالنسبة للرعية هو تلك القواعد والأحكام (Rules) التي يأمره المجتمع، شفاهة أو كتابة أو بأية علامة أخرى تدل على الإدارة، باستعمالها للتمييز بين ما هو مناف وغير مناف للقاعدة أو الحكم.

لا شيء في هذا التعريف يشوبه أي غموض. فكل شخص يعرف أن بعض القوانين موجهة إلى جميع الرعايا بعامة، بعضها الآخر إلى أقاليم معينة، بعضها إلى مهن معينة، وبعضها إلى جماعات معينة من الناس. ولذا فهي قوانين لمن هي موجهة إليهم، وليس لأي شخص آخر. وأيضا: القوانين هي الأحكام التي تحدد العادل والظالم. فلا شيء يعتبر ظالما إذا لم يكن منافيا لقانون معين.

ولا أحد يستطيع سَن القوانين غير المجتمع، وذلك لأننا خاضعون كرعايا للمجتمع فقط. كما أنه يجب الإعلان عن الأوامر بعلامات كافية والا فلا يعرف المرء كيف يطيعها. وتبعا لذلك، فان كل ما يمكن استنتاجه بالضرورة من هذا التعريف يجب الإقرار على أنه حقيقة. والآن استنتج منه ما يلي:

أ) ان المشرع في أي مجتمع هو العاهل فقط، سواء كان شخصا واحدا كما في الملكية أو مجلسا كما في الديمقراطية والأرستقراطية. المشرع هو الذي يسن القانون، والمجتمع هو الذي يأمر بمراعاة تلك الأحكام التي نسميها قانونا. ومن هنا فإن المجتمع هو المشرع. ولكن المجتمع ليس شخصا وليس في وسعه عمل أي شيء الا من خلال ممثله (أي العاهل). ولذلك فالعاهل هو المشرع الوحيد. وللسبب ذاته، فلا يستطيع أحد إلغاء قانون سوى العاهل. فلا يلغي القانون الا قانون آخر يحرم تنفيذه.

ب) العاهل في المجتمع، شخصا واحدا كان أم مجلسا، غير خاضع للقوانين المدنية، فبما أن لديه صلاحية سن القوانين وإلغائها، فانه يستطيع إذا أراد التحرر من الخضوع بواسطة إلغاء تلك القوانين التي تزعجه وسن قوانين جديدة. ولذلك، فهو متحرر من قبل. والحر هو من يستطيع أن يكون حرا متى شاء. كما أنه من المحال أن يكون الشخص ملزما تجاه نفسه، لأن ذلك الذي يلزم يمكنه أن يحرر من الالتزام. ولذا فان الملتزم تجاه نفسه فقط، لا يعتبر ملزما على الإطلاق.

ج) القانون الطبيعي والقانون المدني يشمل أحدهما على الآخر، ولهما نطاق متساو. فقوانين الطبيعة، والتي هي في أساسها الإنصاف والعدل والعرفان بالجميل وبقـــية الفضائل الأخلاقية التي تعتمد عـــليها في الحالة الطبيعية (كما قـــــلت في نهاية الفصل 15) ليست قوانين بالمعنى الدقيق، وإنما صفات تهيئ الناس للسلام والطاعة. حين يتأسس المجتمع فقط، وليس قبل ذلك، تصبح قوانين فعلية، حيث تصبح عندها أوامر المجتمع، وتبعا لذلك قوانين مدنية أيضا. وذلك لأن السلطة السيادية هي التي تلزم الناس بإطاعتها... القانون المدني والقانون الطبيعي ليسا نوعين مختلفين وإنما جزءان مختلفان للقانون: جزء مكتوب يسمى "مدني" وجزء غير مكتوب يسمى "طبيعي". ولكن الحق الطبيعي، أي الحرية الطبيعية للإنسان، قد تكون مقيدة ومختصرة من قبل القانون المدني. ان الهدف من سن القوانين ليس سوى تلك القيود التي بدونها لا يمكن للسلام أن يسود. ولم يجلب القانون إلى العالم الا لتقييد الحرية الطبيعية للأفراد، وبالشكل الذي يضمن عدم إيذاء بعضهم البعض، والمساعدة المتبادلة والاتحاد ضد عدو مشترك.

(من الفصل 26)
رأي رابع مناقض لطبيعة المجتمع يقول: "صاحب السلطة السيادية خاضع للقوانين المدنية". صحيح أن كل عاهل خاضع لقوانين الطبيعة لكون تلك القوانين مقدسة (إلهية) ولا يجوز إلغاؤها من قبل أي شخص أو أي مجتمع. ولكن القوانين التي يسنها العاهل نفسه، أي تلك التي يسنها المجتمع، فهو غير خاضع لها. فالخضوع للقوانين معناه الخضوع للمجتمع، أي لممثله السيادي، أي لذاته. وهذا ليس خضوعا وإنما حرية من القوانين. ان هذا الخطأ، ولأنه يصنع القوانين فوق العاهل، يصنع قاضيا فوقه أيضا، وسلطة لمعاقبته، وهذا يعني عاهلا جديدا، ولنفس السبب، عاهلا ثالثا لمعاقبة الثاني، وهكذا إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى والى انحلال المجتمع.


ترجمة د. سعيد زيداني

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:59 PM

6- جان جاك روسو

ولد جان جاك روسو (Jean Jacques Rousseau) من عائلة فرنسية الأصل في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712. تميزت حياة روسو ومنذ ولادته بالشقاء والتشرد والتعاسة، فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين. وفي وصف شخصيته التعسة نراه يتذكر في كتاب "الاعترافات": "لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي، هذه الولادة التي كانت أول مصائبي".

لم يبلغ السادسة من عمره الا وكان أبوه يحمله على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية مثل خطاب عن التاريخ العام من تأليف بوسويه (Bossuet) ومحاورات الموتى لفونتينيل (Fontenelle) وبعض مؤلفات فولتير (Voltaire) وبلوتارك (Ploutarkhos).

بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة واعتدائه بالضرب على الغير واضطراره للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، بدأت حياة الشقاء والتشرد تلاحق روسو لتبني شخصيته المعقدة. فقد أدخل في مدرسة بقي فيها سنتين اضطر لتركها بعد ان أخضع ظلماً لعقاب صارم. وبعد المدرسة وضع ليتعلم على أيدي أحد النقاشين حرفة النقش ولكن ظلم معلمه وجوره اضطراه للهرب من جنيف ليقيم عند سيدة محسنة في مدينة آنسي الفرنسية، والتي بدورها دفعته للتخلي عن المذهب البروتستانتي واعتناق المذهب الكاثوليكي وهو في السادسة عشرة من عمره. وبعد ذلك وبسبب حاجته للمال أخذ روسو ينتقل من عمل لآخر دون ان يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار، فمن سكرتير عند سيدة عجوز وحاجب عند آخر إلى مؤلف ومدرس موسيقى ومن ثم إلى منصب سكرتير لسفير فرنسا في البندقية والذي سرعان ما قدم استقالته منه ليعود إلى باريس ليعمل سكرتيراً ومن ثم في التنقيح الموسيقي.

خلال إقامته في باريس وبعد ان وثق علاقته بنخبة المجتمع الباريسي اشترك روسو بمسابقة علمية أقامتها أكاديمية ديجو (Dijon) حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها. فما كان من مقالته التي اشترك فيها في المسابقة وهي "خطاب في العلوم والفنون" إلا ان نالت الجائزة لعام 1750 وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة علمية حول أصل التفاوت بين الناس، فوضع مقالة بعنوان "خطاب في التفاوت بين الناس" عام 1755. وفي عام 1756 بدأ إكمال مؤلفه هيلويز (Heloiise) وبدأ بكتابة مؤلفيه الشهيرين "العقد الاجتماعي" و "إميل" اللذين نشرهما عام 1762، ثم نشر قاموس الموسيقى في عام 1767.

بالرغم من ان مؤلفات روسو لاقت الشهرة الواسعة والإقبال الشديد على قراءتها عبر الأرجاء الأوروبية، فإن كتابيه "العقد الاجتماعي" و"إميل" قد جلبا له الانتقاد والسخط وغضب المؤمنين والملحدين، المسيحيين والفلاسفة. فقد حكم برلمان باريس، وبعد عشرين يوماً فقط، بحرق الكتابين وسجن مؤلفهما مما اضطره إلى الهرب إلى سويسرا والتي بدورها كانت قد أصدرت حكماً مماثلاً على الكتابين. فلجأ روسو إلى إنجلترا حيث تعرف هناك على دافيد هيوم ونزل ضيفاً عليه ولكنه ما لبث ان تخاصم مع هيوم وعاد إلى فرنسا ليعمل كناسخ نوتات حتى وفاته في عام 1778.




روسو: مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"

الكتاب الأول

الفصل الأول: موضوع هذا الكتاب الأول
ولد الإنسان حرا إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما الذي يمكنه ان يجعله شرعيا؟ أعتقد أنني أستطيع حل هذه المسألة.

ولو كنت لا أولي اعتباراً إلا للقوة لقلت: ما دام أي شعب يُكرَه على الطاعة وأنه يطيع، فانه يحسن صنعا، وما ان يستطيع خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فانه يحسن صنعا أكثر: إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به، أو أنه يكون موطد العزم على استردادها، أو أنه لم يكن ثمة من يستطيع ان ينتزعها منه. على النظام الاجتماعي حق مقدس، بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فان هذا الحق لا يصدر قط عن الطبيعة، انه إذن مبني على تعاقدات. إلا انني قبل الاستطراد بالبحث إلى ذلك يجب علي ان أثبت ما قدمت.

الفصل الثالث: في حق الأقوى
إن الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد ان لم يحول قوته إلى حق، والطاعة إلى واجب. وما كان حق الأقوى، وهو حق أُخذ على محمل السخرية في الظاهر وفي حقيقة الأمر، أُقر كمبدأ. ولكن أفلا ينبغي ان يفسر لنا أحدهم هذه الكلمة. ان القوة هي قدرة مادية لست أرى أية أخلاقية يمكن ان تنتج عن آثارها. فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة، إنه على الأكثر فعل يمليه الحرص. فبأي معنى يمكنه ان يكون واجبا؟

لنفترض لحظة وجود هذا الحق المزعوم. فانني أقول بأنه لا ينجم عن هذا الافتراض الا هراء لا يمكن تفسيره. إذ ما ان تكون القوة هي التي تصنع الحق حتى يتغير المعلول مع تغير العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها. وما ان نتمكن من خلع الطاعة بلا عقاب حتى يصبح في مكنتنا فعل ذلك شرعيا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية المرء ان يعمل بحيث يكون هو الأقوى. فما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يقسر المرء على الطاعة فانه لا يكون ملتزما بها. وهكذا نرى إذن ان كلمة حق هذه لا تضيف شيئا إلى القوة، فهي هنا لا تعني شيئا البتة.

أطيعوا السلطات. فإذا كان هذا يعني الخضوع للقوة يكن التعليم جيدا، إلا أنه لا حاجة له وجوابي أنه سوف لا تنتهك حرمته أبدا. وأنا أعترف بأن كل قوة تأتي من الله، لكن كل مرض يأتي منه كذلك. فهل يعني ذلك ان يكون ممنوعا اللجوء إلى الطبيب؟ لئن فاجأني قاطع طريق في ركن من غابة: فلا يجب إعطاؤه نقودي بالقوة فحسب، ولكن هل أكون مجبرا، بصراحة، عندما يمكنني إخفاؤها عنه، على تسليمها إليه؟ ذلك ان المسدس الذي يمسك به هو بالتالي قوة كذلك.

لنعترف إذن بأن القوة لا تصنع حقا وإننا لسنا ملزمين بالطاعة إلا للسلطات الشرعية. وهكذا نعود دائما إلى طرح سؤالي الأولي.

الفصل الرابع: في العبودية
حيث إنه ليس لإنسان سلطة طبيعية على أقرانه وان القوة لا تنتج أي حق، فإن الاتفاقات تبقى إذن هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر.

...

هكذا فان حق الاستعباد، من أية زاوية نظرنا إلى الأمور، حق باطل، ليس فحسب لأنه غير شرعي وإنما لأنه محال ولا يعني شيئا. ان هذين اللفظين: "استعباد" و "حق" لفظان متناقضان، أحدهما ينفي الآخر. وسواء أكان الأمر من إنسان لإنسان أم من فرد لشعب، فانه لمن البلاهة دائما ان نقول: "انني اعقد معك اتفاقا كله على حسابك وكله في صالحي وسأنفذه طالما يروق لي وانك ستنفذه طالما يروق لي".

الفصل الخامس: في أنه يجب الرجوع دائما إلى اتفاق أول
حتى لو أنني سلمت بكل ما فندته حتى الآن لما كان أنصار الحكم الاستبدادي في مركز أفضل. فسيكون ثمة فارق كبير دائما بين إخضاع جمهور غفير وإدارة مجتمع. ولئن أُخضع أشخاص مشتتون، تباعا لسيطرة فرد واحد، أيا كان عددهم فإنني لا أرى في ذلك قط إلا سيدا وعبيدا، لا أرى قط شعبا وزعيمه، انها جمهرة، إذا شئنا لا اتحاد. إذ ليس في ذلك لا خيرا عاما ولا هيئة سياسية. فهذا الرجل، حتى وإن استعبد نصف العالم لا يكون أبدا إلا فردا، ولا تكون مصلحته، المنفصلة عن مصلحة الآخرين إلا مصلحة خاصة على الدوام. وإذا حدث ان هلك هذا الرجل نفسه لظلت مملكته من بعده مبعثرة وبلا رابطة كما تسقط سنديانة كبيرة في كتلة من الرماد بعد ان تستهلكها النيران.

يقول غروتيوس[1]: "قد يهب شعب نفسه إلى ملك". فالشعب يكون شعبا إذن في رأي غروتيوس قبل ان يهب نفسه إلى ملك. إلا ان هذه الهبة نفسها هي فعل مدني يستلزم مداولة عامة. فقبل ان نتناول إذن بالبحث الفعل الذي ينتخب به شعب ملكا له يكون من المستحسن ان نبحث بالفعل الذي يكون به الشعب شعبا. ذلك ان هذا الفعل، نظرا لأنه سابق بالضرورة للفعل الآخر، هو الأساس الحقيقي للمجتمع.

وبالفعل، إذا لم يكن هناك اتفاق سابق قط فأين يكون، ان لم يكن الانتخاب بالإجماع، الإلزام بالنسبة للعدد الصغير على الخضوع لاختيار العدد الأكبر، ومن أين مصدر الحق لمائة شخص يريدون سيدا، في التصويت نيابة عن عشرة لا يريدون سيدا قط؟ فهل يكون قانون أغلبية الأصوات هو نفسه إنشاء للتعاقد ويفترض الاجتماع مرة على الأقل؟

الفصل السادس: في الميثاق الاجتماعي
إنني أفترض ان الناس وقد وصلوا إلى ذلك الحد الذي تغلبت فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعة، بمقاومتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من اجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لم يعد في مكنة تلك الحالة البدائية ان تدوم، وكان الجنس البشري سيهلك لو لم يغير طريقة وجوده.

ولما كان البشر لا يستطيعون خلق قوى جديدة وإنما توحيد وتوجيه قواهم الموجودة فحسب، فانه لم يبق لديهم من وسيلة أخرى للبقاء إلا تشكيل جملة من القوى بالدمج، يمكنها التغلب على المقاومة وحشدها للعمل بدافع واحد وجعلها تتصرف بتناسق.

هذا المجموع من القوى لا يمكن ان ينشأ إلا بمؤازرة عديدين: ولكن بالنظر إلى ان الأدوات الأولى في المحافظة على بقاء كل إنسان هي قوته وحريته فكيف يقيدهما دون الإضرار بنفسه ودون التهاون في أمر العنايات الواجبة عليه نحو نفسه؟ هذه الصعوبة يمكن وضعها، في حدود اتصالها بموضوعي، في العبارات التالية:

"إيجاد شكل من الاتحاد يدافع ويحمي كل القوة المشتركة، شخصُ كل مشارك وأمواله، ومع ان كل فرد يتحد مع الجميع إلا أنه لا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا كما كان من قبل." هذه هي المشكلة الأساسية التي يقدم العقد الاجتماعي حلا لها.

ان شروط هذا العقد محددة بطبيعة الفعل إلى درجة ان أدنى تعديل يجعلها باطلة ولا أثر لها، بحيث انها، وان كانت ربما لم تذكر صراحة أبدا، تكون هي نفسها في كل مكان، وهي في كل مكان مقَرة ضمنا ومعترف بها، إلى ان يعود كل فرد، بعد ان تنتهك حرمة الميثاق الاجتماعي، إلى حقوقه الأولى عندئذ ويسترد حريته الطبيعية بفقده الحرية التعاقدية التي تخلى لأجلها عن حريته الأولى.

هذه الشروط يمكن اختصارها جميعها بالطبع في شرط واحد، ألا وهو التنازل الكامل من جانب كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها. إذ بما ان كل شخص، بدءا، قد قدم نفسه بأكملها، وان الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع، فلا مصلحة لأحد بأن يجعلها مكلفة للآخرين.

أما وقد تم التنازل بلا تحفظ فان الاتحاد فضلا عن ذلك، يكون أكمل ما يمكن ان يكون ولا يبقى لأحد شيء يطالب به. إذ لو بقيت للأفراد بعض الحقوق، ولعدم كون أي مرجع أعلى مشتركا يمكن الفصل بينهم وبين الجمهور، وبالنظر إلى ان كل واحد في أية نقطة سرعان ما قد يدعي أنه الحكم الخاص لنفسه في جميع المسائل، إذن لكانت حالة الطبيعة قد دامت ولأصبح الاتحاد بالضرورة استبداديا أو عقيما.

وأخيرا فان كل واحد إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد. ولما لم يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من أنفسنا، فإننا نكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة للمحافظة على ما لدينا.

إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره سنجد أنه يتقلص إلى العبارات التالية: "يسهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل."

...

الفصل السابع: في العاهل صاحب السيادة
يتضح لنا من صيغة هذا العقد الاتحادي أنها تنطوي على التزام متبادل من الشعب والأفراد، وان كل فرد، وكأنه يتعاقد مع نفسه إذا صح القول، يجد نفسه مرتبطا بالتزام مزدوج: وذلك كعضو لدى العاهل تجاه الأفراد وبوصفه عضوا في الدولة قبل العاهل. لكننا هنا لا نستطيع تطبيق القانون الأساسي في الحق المدني الذي لا يترتب بمقتضاه على أي كان الوفاء بالتزام التعاقد مع نفسه، ذلك ان ثمة فارق واضح بين ان يكون المرء ملزما نحو ذاته أو قبل مجموع، هو جزء منه.

ولا بد من الإشارة أيضا إلى ان المداولة العامة التي يكون في وسعها إلزام جميع الرعايا نحو صاحب السيادة، بسبب العلاقتين المختلفتين اللتين ينظر لكل فرد منهم من زاويتيهما، لا يمكنها، بالحجة المضادة، إلزام صاحب السيادة تجاه نفسه. وانه لما يترتب عليه، بالنتيجة، ان يكون فرض صاحب السيادة لقانون لا يستطيع خرقه، ضد طبيعة الهيئة السياسية. إذ لما كان لا يستطيع اعتبار نفسه إلا من وجهة واحدة فقط فانه عندئذ يكون في حالة فرد يتعاقد مع نفسه: من حيث نرى أنه لا يوجد ولا يمكن ان يوجد أي نوع من القانون الأساسي يعتبر ملزما لهيئة الشعب حتى ولا العقد الاجتماعي. وهذا لا يعني ان هذه الهيئة لا يكون في مقدورها تماما الالتزام تجاه الغير فيما لا ينقض هذا العقد قط، إذ أنه قبل الأجنبي يصبح كائنا بسيطا، فردا.

ولكن لما كانت الهيئة السياسية أو صاحب السيادة لا يستمد كيانه إلا من قدسية العقد فانه لا يمكنه إلزام نفسه، حتى قبل الغير، بشيء يخل بهذا العقد الأصلي، كأن يتنازل عن جزء من نفسه أو ان يخضع لصاحب سيادة آخر. ذلك ان انتهاكه لحرمة العقد الذي يوجد بمقتضاه يعني تدمير نفسه، ومن لا يكون شيئا لا ينتج شيئا.

وما دامت هذه الجماعة قد اتحدت على هذا النحو فإنه لا تمكن الإساءة إلى أحد أعضائها دون الهجوم على الهيئة، بل وأقل من هذا لا يمكن المساس بالهيئة دون ان يشعر جميع الأعضاء بذلك. وهكذا يلزم الواجب والمصلحة على حد سواء الطرفين المتعاقدين على تبادل المساعدة باتفاقهما، وينبغي على الناس أنفسهم السعي إلى توحيد جميع المزايا المتعلقة بهذه العلاقة المزدوجة.

وبالنظر إلى ان صاحب السيادة لا يتكون إلا من أفراد يؤلفونه، فليس له ولا يمكن ان تكون له مصلحة معاكسة لمصلحتهم، وبالتالي فان القوة صاحبة السيادة لا حاجة لها البتة إلى ضمان تجاه رعاياها، حيث أنه من المستحيل ان تبتغي الهيئة الإضرار بجميع أعضائها. وسنرى فيما بعد من هذا البحث أنها لا تستطيع الإضرار بأي واحد بمفرده. فصاحب السيادة بما هو كائن به وحده، يكون دائما كل ما يجب ان يكون.

لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالرعايا تجاه صاحب السيادة الذي ليس هناك ما يكفل الوفاء بالتزاماتهم قبله، على الرغم من المصلحة المشتركة، إذا لم يكن يجد وسائل لتأمين إخلاصهم.

وبالفعل يمكن ان تكون لكل فرد، كإنسان، إرادة خاصة مخالفة للإرادة العامة التي له كمواطن أو متناقضة معها. فمصلحته الخاصة يمكن ان تملي عليه من التصرف ما يخالف المصلحة المشتركة تمام المخالفة، ووجوده المطلق والمستقل بصورة طبيعية يمكن ان يسول له النظر إلى ما يجب ان يؤديه للقضية المشتركة على انه مساهمة بلا مقابل، يكون فقدانها أقل ضررا بالآخرين من كلفة الدفع بالنسبة له. وإذ ينظر إلى الشخص المعنوي الذي يكون الدولة ككائن عاقل لأنه ليس إنسانا، فانه قد يتمتع بحقوق المواطن دون الرغبة في القيام بواجبات كرعية، وهذا ظلم قد يسبب تزايده خراب الهيئة السياسية.

ولكي لا يصبح الميثاق الاجتماعي إذن صيغة باطلة، فإنه يشتمل، ضمنيا، على هذا الالتزام الذي يستطيع وحده إعطاء القوة للآخرين: ألا وهو ان كل من يرفض إطاعة الإرادة العامة سوف يرغم عليها من قبل الهيئة بأكملها. وهذا لا يعني شيئا آخر غير أنه يجبر على ان يكون حرا؛ حيث ان ذلك هو الشرط الذي، وهو يقوّم كل مواطن للوطن، يحميه من أي خضوع شخصي؛ هو الشرط الذي يصنع براعة ولعبة الآلة السياسية والتي وحدها تجعل الالتزامات المدنية شرعية، والتي بدورها قد تكون، لولا ذلك، محالا واستبدادية وعرضة لأعظم إساءات الاستعمال.

الفصل الثامن: في الحالة المدنية
هذا الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يُحدث في الإنسان تغييرا بارزا جدا باستبداله الغريزة في مسلكه بالعدالة، وبإضفائه على أفعاله الأخلاقية التي كانت تنقصها فيما مضى. فان الإنسان، الذي لم يكن حتى ذلك الحين يراعي إلا نفسه، قد وجد أنه، بعد ان خلف فيه صوت الواجب النزوة البدنية وحل الحق محل الجشع، مجبر على العمل بمبادئ أخرى وعلى ان يستهدي بعقله قبل الانصياع لنوازعه...

ان ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقا لا محدودا في كل ما يغريه وما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية كل ما هو في حيازته. وحتى لا نخطئ في هذه التعويضات يجب ان نميز الحرية الطبيعية التي ليس لها من حدود سوى قوى الفرد، عن الحرية المدنية التي تكون محدودة بالإرادة العامة، وأن نفرق بين الحيازة التي ليست سوى نتيجة للقوة أو حق المستولي الأول وبين الملكية التي لا يمكن ان تبنى إلا على سند إيجابي.

يمكننا ان نضيف إلى ما تقدم، على المكتسب في الحالة المدنية، الحرية المعنوية التي وحدها تجعل من الإنسان سيد نفسه حقيقة، إذ ان ثروة الشهوة وحدها هي عبودية وإطاعة القانون الذي نسنه لأنفسنا هي حرية. لكنني قد أفضت كثيرا في الكلام عن هذا الأمر مع ان المعنى الفلسفي لكلمة حرية ليس هنا مما يدخل في موضوعي.

الفصل التاسع: في الملكية الواقعية
كل عضو من المجتمع يهب نفسه له بمجرد ان يتشكل، بالحال التي يوجد عليها عندئذ، هو وجميع قواه التي تعتبر الأموال التي في حيازته جزءاً منها. ولا ينبغي بمقتضى هذا التصرف ان تتغير طبيعة الحيازة بتغير المالكين وتصبح ملكية من ممتلكات صاحب السيادة. ولكن، لما كانت قوى المدينة السياسية مما لا يقارن من حيث العظم بقوى الفرد فان الحيازة العامة تكون كذلك في الواقع، أقوى وأكثر أحكاماً، دون ان تكون أكثر شرعية، على الأقل بالنسبة للأجانب. إذ ان الدولة، في مواجهة أعضائها، هي سيدة جميع ممتلكاتهم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي يستخدم أساساً لجميع الحقوق، إلا أنها ليست كذلك في مواجهة الدول الأخرى إلا بمقتضى حق المحتل الأول الذي يعود إليها من الأفراد.

ان حق الاستيلاء الأول، وإن كان أكثر واقعية من حق الأقوى، لا يصير حقاً حقيقياً إلا بعد تقرير حق الملكية. ولكل إنسان بصورة طبيعية حق بكل ما يكون ضرورياً له؛ لكن العقد الإيجابي الذي يجعله مالكاً لشيء ما، يستبعده من كل الباقي. إذا ما دام قد حدد نصيبه فيجب ان يقتصر عليه ولا يبقى له حق قبل المجتمع. هذا هو السبب الذي يجعل حق الاستيلاء الأول، رغم ضعفه الشديد في حالة الطبيعة، موضع احترام كل إنسان مدني. وبمقتضى هذا الحق يحترم المرء ما يكون للغير أقل من احترامه لما له.

وعلى وجه العموم، لجواز حق الأسبقية في الاستيلاء على قطعة أرض، يجب ان تتوفر الشروط التالية: أولاً ان تكون هذه الأرض مما لم يشغلها إنسان بعد؛ وان لا يشغل منها المستولي، بالدرجة الثانية، إلا الجزء الذي يكون بحاجة إليه لبقائه، ثالثاً وأن لا تدخل في حيازته، بالشكليات الجوفاء، وإنما بالعمل فيها وبالزراعة، الدلالة الوحيدة على الملكية التي يجب على الغير احترامها بدلاً من السندات القانونية.

ألا نكون، بالفعل، ونحن نقصر حق الأسبقية في الاستيلاء على الحاجة والعمل، قد وسعناه إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه؟ هل يمكننا ان نضع حدوداً لهذا الحق؟ أيكفي ان يضع المرء قدمه في قطعة من الأرض مشتركة ليزعم انه صاحبها في الحال؟ وهل يكفي ان تكون له القوى في إبعاد الآخرين عنها فترة ما لينتزع منهم الحق في ان لا يعودوا إليها أبداً؟ فكيف يستطيع إنسان أو شعب، الاستيلاء على مساحة شاسعة من الأرض ويحرم منها الجنس البشري كله، ان لم يكن بالاغتصاب المعاقب عليه، بما ان هذا الاغتصاب ينزع من سائر البشر السكن والغذاء اللذين منحتهما لهم الطبيعة مشتركين؟ فهل كان عمل نونيز بالباو (Nunez Balbao) وهو يستولي على الساحل، ويعلن باسم تاج قشتالة حيازته على بحر الجنوب وعلى أمريكا الجنوبية كلها، كافياً لينزع ملكيتها من جميع السكان وليبتعد عنها جميع أمراء الأرض؟ لقد كانت هذه الشكليات تتضاعف، على هذا المستوى بما يكفي من عدم الجدوى، ولم يكن للملك الكاثوليكي إلا ان يعلن حيازته، من مقره، للعالم كله؛ مع الاستثناء بعدئذ لما كان مملوكاً من قبل الأمراء الآخرين فيما مضى.

نستطيع ان نتصور كيف أصبحت أراضي الأفراد وقد جمعت وباتت متجاورة، إقليماً عاماً، وكيف صار حق السيادة وقد امتد من الرعايا إلى الأرض التي يشغلونها، حقاً عينياً وشخصياً في ان واحد؛ وهو ما يضع المالكين في حالة من التبعية أكبر ويصنع من قواهم نفسها الضمانات لإخلاصهم. وهي ميزة لا يبدو ان الملوك القدامى قد فطنوا لها، إذ كانوا، وقد سموا أنفسهم ملوكاً للفرس والسكيتين والمقدونيين، ينظرون إلى أنفسهم كزعماء للناس أكثر من أنهم سادة على البلاد. أما ملوك اليوم فانهم يسمون أنفسهم ببراعة أكثر ملوك فرنسا وأسبانيا وإنجلترا، الخ.. وهكذا فانهم بامتلاكهم الأرض يكونون أكثر اطمئناناً للإمساك بالسكان.

والفريد في أمر هذا التنازل هو ان المجتمع، بدلاً من قبوله بممتلكات الأفراد يجردهم منها، لا يفعل إلا ان يؤمن لهم حيازتها الشرعية إذ يبدل الاغتصاب بحق حقيقي والانتفاع بالملكية. عندئذ بالنظر إلى اعتبار الحائزين مؤتمنين على الثروة العامة، وبالنظر إلى ان حقوقهم تكون محترمة من جميع أعضاء الدولة ومصانة من جميع قواها ضد الأجنبي، وبتنازل مفيد للشعب بل وأكثر من ذلك أيضاً لأنفسهم، يكونون قد اكتسبوا تقريباً، كل ما أعطوه.

وهو تناقض يفسر بسهولة بالتفريق بين ما يملكه صاحب السيادة والمالك من حقوق، على نفس العين، كما سنرى فيما بعد.

قد يحدث كذلك ان يبدأ الناس بالاتحاد قبل حيازتهم لأي شيء، وانهم حين يستولون بعد ذلك، على أرض تكفيهم جميعاً، ينتفعون بها بصورة مشتركة أو يقتسمونها فيما بينهم، إما بالتساوي أو وفقاً لنسب يحددها صاحب السيادة. وأياً ما كانت الطريقة التي يتم بها هذا الاكتساب، فان الحق الذي يكون لكل فرد على العين الخاصة به، يكون دائماً تابعاً للحق الذي للمجتمع على جميع الأرض. وبغير ذلك لا يكون هناك رسوخ في الرابطة الاجتماعية ولا قوة واقعية في ممارسة السيادة.

سأنهي هذا الفصل وهذا الكتاب بملاحظة يجب ان تفيد أساساً للنظام الاجتماعي كله؛ ذلك ان الميثاق الأساسي، بدلاً من هدم المساواة الطبيعية، يقيم مكانها، على العكس، مساواة معنوية، وأن البشر إذ يمكنهم ان يكونوا غير متساوين في القوة أو في العبقرية يصبحون جميعاً متساوين بالتعاقد وبالحق[2].


الكتاب الثاني
الفصل الأول: في ان السيادة غير قابلة للتنازل
إن أول وأهم نتيجة للمبادئ المقررة آنفا هي ان الإرادة العامة تستطيع وحدها توجيه قوى الدولة وفق غاية إنشائها وهي الخير المشترك: لأنه إذا كان تعارض المصالح الفردية قد جعل من الضروري إنشاء المجتمعات فإن اتفاق هذه المصالح نفسها هو الذي جعلها ممكنة. إذ ان ما في هذه المصالح المختلفة من عنصر مشترك هو الذي شكل الرابطة الاجتماعية ولو لم يكن هناك بعض النقاط التي تتفق عليها جميع المصالح لما أمكن وجود أي مجتمع. فعلى أساس هذه المصلحة المشتركة وحدها إذن يجب ان يحكم المجتمع.

وبناء عليه أقول: بالنظر إلى ان السيادة ليست سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها لا تستطيع أبدا التنازل عن ذاتها، وأن صاحب السيادة، الذي ليس سوى كائن جماعي، لا يمكن ان يكون ممثلا إلا بنفسه. ان السلطة يمكن ان تُنقل، أما الإرادة فلا.

بالفعل، إذا لم يكن من المتعذر ان تتفق إرادة خاصة مع الإرادة العامة على نقطة ما فمن المستحيل على الأقل ان يكون هذا الاتفاق دائما وثابتا، إذ ان الإرادة الخاصة تجنح بطبيعتها إلى الإيثار بينما تجنح الإرادة العامة إلى المساواة. وإنه لأكثر استحالة أيضا ان يكون لدينا ضمان لهذا الاتفاق مع أنه لا بد من وجوده دائما، فقد لا يكون نتيجة للمهارة وإنما للصدفة. ولعل صاحب السيادة يقول: أريد حالياً ما يريده فلان من الناس أو على الأقل ما يقول انه يريد، لكنه لا يستطيع القول: ما سيريده هذا الإنسان غدا سوف أريده أنا أيضا، بحيث أنه من السخف ان تقيد الإرادة نفسها بالمستقبل، وبما أنه ليس من شأن أي إرادة ان ترضى بشيء يعاكس صالح الكائن الذي يريد. إذا وعد الشعب إذن، ببساطة، ان يطيع، فإنه ينحل بمقتضى هذا العقد، ويفقد صفته كشعب. وفي اللحظة التي يوجد فيها سيدا لا يبقى هناك صاحب سيادة ومنذئذ تكون الهيئة السياسية قد انهارت.

لا يعني هذا قط ان أوامر الرؤساء لا يمكن اعتبارها إرادات عامة، طالما يكون صاحب السيادة حرا في معارضتها ولا يعارضها. ففي مثل هذه الحالة يجب ان نخمن من السكوت العام بأن الشعب راض. وسوف يتضح هذا الأمر أكثر على مدى البحث.


الفصل الثاني: في ان السيادة لا تتجزأ
إن السيادة لا تتجزأ لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل. إذ ان الإرادة تكون عامة[3]، أو أنها لا تكون كذلك، فهي إرادة هيئة الشعب كله أو إرادة جزء منه فحسب. وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عملا من أعمال السيادة وتكون قانونا. أما في الثانية فليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال القضاء، انها مرسوم على أكثر تقدير.

لكن سياسيينا إذ لم يستطيعوا تجزئة السيادة في مبدئها، جزءوها في موضوعها، فهم يقسمونها إلى قوة وإلى إرادة، إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية، إلى حقوق فرض ضرائب وإقامة عدالة وإعلان حرب وإلى إدارة داخلية وسلطة في التعامل مع الأجنبي: تارة يخلطون هذه الأجزاء جميعها وتارة يفصلون بينها، يجعلون من صاحب السيادة كائنا وهميا ومكونا من قطع مجلوبة، ذلك كأنهم كانوا يؤلفون الإنسان من أجساد عديدة يكون لأحدهما عينان وللآخر ذراعان ولغيرهما رجلان ولا شيء أكثر من ذلك. فإن مشعوذي اليابان، على ما يقال، يقطعون الولد أمام أعين النظارة إربا، ويقذفونها في الهواء ويعملون على سقوط الولد إلى الأرض حيا وقد ردت جميع أعضائه إليه. وهذا ما تفعله حيل سياسيينا تقريبا، فبعد ان يقطعوا أوصال الهيئة الاجتماعية بسحر يليق بالسوق يجمعون الأجزاء بطريقة لا يعلمها أحد.

يرجع هذا الخطأ إلى عدم تكوين أفكار مضبوطة عن السلطة السيادية وإلى اعتبار أجزاء من هذه السلطة ما لم يكن إلا تعبيرا عنها. وهكذا مثلا قد نظر إلى عمل إعلان الحرب وإلى عقد السلم كأنهما من أعمال السيادة، وهما ليسا كذلك، بما ان كلا من هذين العملين ليس قانونا قط، لكنه تطبيق للقانون فحسب، تصرف فردي يحدد حالة القانون، كما سنرى ذلك بوضوح عندما نحدد الفكرة المتصلة بلفظ قانون.

وإذا ما تتبعنا على نفس المنوال التقسيمات الأخرى سنجد أننا نخطئ في كل مرة نظن فيها بأن السيادة مجزأة، وأن الحقوق التي تؤخذ على أنها أجزاء من هذه السيادة تكون جميعها تابعة لها ويفترض فيها دائما إرادات سامية ليست هذه الحقوق إلا تنفيذا لها.

...

الفصل الثالث: إذا كانت الإرادة العامة يمكن ان تخطئ
ينتج مما تقدم ان الإرادة العامة تكون دائما عادلة وتميل دائما إلى النفع العام: ولكن لا ينجم عن ذلك ان تتسم مداولات الشعب دائما بنفس السداد. يراد دائما له الخير، لكن هذا الخير لا يرى دائما. ان الشعب لا يفسد أبدا، لكنه كثيرا ما يخدع، وعندئذ يبدو انه أراد ما هو شر.

كثيرا ما يكون هناك من الفارق بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فهذه لا تراعي سوى المصلحة المشتركة، أما الأخرى فتراعي المصلحة الخاصة وليست سوى مجموع الإرادات الخاصة: ولكن جردوا هذه الإرادات نفسها من الزيادات ومن النقصان التي يهدم بعضها بعضا[4] تبقى لدينا كحاصل للخلافات الإرادة العامة.

إذا لم تكن للمواطنين، عندما يتداول الشعب وهو على دراية كافية، أية وسيلة للاتصال فيما بينهم فإن الإرادة العامة قد تنتج دائما عن العدد الكبير من الفوارق الصغيرة وتكون المداولة دائما حسنة. ولكن عندما تحدث تحايلات واتحادات جزئية على حساب الاتحاد الكبير، تصبح إرادة كل اتحاد من تلك الاتحادات عامة بالنسبة لأعضائه وخاصة بالنسبة للدولة، ويمكن القول عندئذ انه لم يبق هناك من المقترعين بقدر ما هناك من الناس، بل بقدر ما هناك من الاتحادات فحسب. عندئذ يصبح عدد الفوارق أقل وتعطي هذه الفوارق نتيجة أقل عمومية. وأخيرا عندما يغدو أحد هذه الاتحادات على جانب من الضخامة بحيث يتغلب على جميع الاتحادات الأخرى، فان النتيجة لا تكون حاصل الخلافات الصغيرة وإنما نتيجة خلاف وحيد، عندئذ لا تبقى هناك إرادة عامة، ولا يكون الرأي الذي يتغلب عليها سوى رأي خاص.

المهم إذن للحصول على التعبير عن الإرادة العامة ان لا يكون هناك جماعة جزئية في الدولة وأن لا يبدي كل مواطن رأيه إلا تعبيرا عنه[5] نفسه. فهذا ما كانت عليه المؤسسة الوحيدة والرفيعة التي أقامها ليكورغوس[6] العظيم. ولئن وجدت الجماعات الجزئية فيجب الإكثار من عددها وتلافي التفاوت فيما بينها كما فعل سولون ونيوما وسرفيوس. ان هذه الاحتياطات تكون وحدها الجيدة لجعل الإرادة العامة متنورة دائما ولكي لا يخطئ الشعب أبدا.


الفصل الرابع : في حدود السلطة السيادية
إذا كانت الدولة أو المدينة السياسية ليست سوى شخص معنوي تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وإذا كان أهم غاياتها هي صيانة بقائها الخاص، فلا بد لها من قوة إكراه شاملة من أجل تحريك وتهيئة كل جزء على النحو الملائم للكل. وكما تمنح الطبيعة كل إنسان سلطة مطلقة على جميع أعضائه فان الميثاق الاجتماعي يمنح الهيئة السياسية سلطة تحمل، إذ توجهها الإرادة العامة، اسم السيادة كما قلت من قبل.

لكن علينا فضلا عن الشخص العام ان ننظر في الأشخاص الخاصين الذين يتكون منهم هذا الشخص العام، والذين تكون حياتهم وحريتهم مستقلة عنه بصورة طبيعية. فالمقصود إذن ان نحسن التمييز بين حقوق كل من المواطنين وصاحب السيادة[7] وبين الواجبات التي يجب ان يؤديها أولئك المواطنون بوصفهم رعايا والحق الطبيعي الذي يجب ان يتمتعوا به باعتبارهم بشرا.

ومن المسلم به ان كل ما يتنازل عنه كل فرد، بالميثاق الاجتماعي، من سلطته وممتلكاته وحريته، هو الجزء من كل ذلك فحسب الذي يقتضيه انتفاع المجتمع، ولكن يجب التسليم كذلك بأن صاحب السيادة وحده هو الذي يفصل في تلك الأهمية.

أن جميع الخدمات التي يستطيع أحد المواطنين تأديتها للدولة، عليه ان يؤديها لصاحب السيادة حالما يطلبها منه، لكن صاحب السيادة من جهته لا يستطيع تكبيل رعاياه بأي قيد غير مفيد للمجتمع، بل ليس في وسعه ان يريد ذلك: إذ لا يجري أي شيء في شريعة العقل بلا سبب ولا كذلك في ظل قانون الطبيعة.

فالالتزامات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية ليست إجبارية إلا لأنها متبادلة ومن طبيعتها أننا ونحن نؤديها لا يمكننا العمل من اجل الغير دون العمل كذلك من أجل أنفسنا. فلماذا تكون الإرادة العامة دائما عادلة ولماذا يريد الجميع على الدوام السعادة لكل واحد منهم ان لم يكن ذلك لأنه ليس هناك من شخص لا يحتاز على هذه الكلمة "كل واحد" ولا يفكر بنفسه وهو يقترع من أجل الجميع؟ وهذا ما يقيم الدليل على ان المساواة في الحق ومعنى العدالة الذي ينجم عنها، يشتقان من الأفضلية التي يعطيها كل واحد لنفسه وبالتالي من طبيعة الإنسان، وان الإرادة العامة من أجل ان تكون حقيقية يجب ان تكون كذلك في هدفها مثلما تكون في جوهرها، وانها يجب ان تنطلق من الجميع لكي تطبق على الجميع، وانها تفقد سدادها الطبيعي عندما تجنح إلى أي هدف فردي ومحدد، لأنه لا يكون لنا عندئذ، إذ نفضل فيما يكون غريبا عنا، أي مبدأ حقيقي يرشدنا من مبادئ العدالة.

بالفعل، ما ان يكون المقصود فعلا أو حقا فرديا، في نقطة لم تكن قد سويت باتفاق عام وسابق، حتى تصبح المسألة موضع تنازع. انها قضية يكون فيها الأفراد المعنيون طرفا ويكون الجمهور طرفا آخر، لكنني لا أرى فيها لا القانون الواجب إتباعه ولا القاضي الذي يجب ان يفصل فيها. وقد يكون من السخف ان نبتغي عندئذ الاستناد في ذلك إلى قرار صريح للإرادة العامة التي لا يمكن ان تكون سوى رأي أحد الطرفين، والذي لا يكون بالتالي، بالنسبة للطرف الآخر إلا إرادة أجنبية، خاصة، جانحة في هذه المناسبة إلى الظلم وعرضة للخطأ. وعليه فكما ان إرادة خاصة لا يمكن ان تمثل الإرادة العامة، تتغير طبيعتها عندما تطبق على موضوع خاص، ولا يمكنها كإرادة عامة ان تحكم لا على إنسان بمفرده ولا على واقعه. فعندما كان شعب أثينا، مثلا يسمي أو يعزل قادته، يمنح الواحد أكاليل المجد، ويوقع بالآخر ألوان العقاب... وبعديد من المراسيم الخاصة يمارس بلا تمييز جميع أعمال الحكم، فإن الشعب عندئذ لم تعد له إرادة عامة بمعنى الكلمة، إذ لم يعد يتصرف كسيد وإنما كقاضي. ولسوف يبدو هذا مناقضا للأفكار المألوفة ولكن يجب ان يترك لي المجال لعرض أفكاري.

يجب ان نتبين من ذلك ان ما يجعل الإرادة عامة، ليس عدد الأصوات بقدر ما هي المصلحة المشتركة التي توحدها، إذ ان كل واحد في هذه المؤسسة يخضع نفسه بالضرورة للشروط التي يفرضها على الآخرين، ومن هنا هذا الاتفاق الرائع بين المصلحة والعدالة الذي يضفي على المداولات المشتركة طابع الإنصاف الذي نراه يتلاشى في مناقشة كل مسألة خاصة، خالية من مصلحة مشتركة توحد وتماثل قانون القاضي مع شريعة الوطن.

وأيا ما كانت الجهة التي نرجع منها إلى الأصل فإننا نصل دائما إلى نفس النتيجة، وهي ان الميثاق الاجتماعي يقر بين المواطنين نوعا من المساواة بحيث يلتزمون جميعا بنفس الشروط، ويجب ان يتمتعوا جميعا بنفس الحقوق. وهكذا فان كل عمل من أعمال السيادة أي كل عمل صحيح من أعمال الإرادة العامة يوجب على جميع المواطنين أو يساعدهم كذلك، بطبيعة الميثاق، بحيث ان صاحب السيادة يعرف فحسب هيئة الأمة ولا يميز واحدا من أولئك الذين كونوها. فما هو إذن العمل السيادي بمعناه الحقيقي؟ انه ليس اتفاقا بين رئيس ومرؤوس وإنما اتفاق الهيئة السياسية مع كل واحد من أعضائها: وهو اتفاق شرعي لأن أساسه العقد الاجتماعي، وهو عادل لأنه مشترك بين الجميع. مفيد لأنه لا يمكن ان يكون له من هدف إلا الخير العام. وهو راسخ الأركان لأن القوة العامة والسلطة العليا تضمنانه. وبقدر ما يكون الرعايا غير خاضعين إلا لمثل هذه الاتفاقات فانهم لا يمتثلون لأمر شخص وإنما لإرادتهم الخاصة فحسب، والسؤال: إلى أي مدى تمتد حقوق كل من صاحب السيادة والمواطنين: هو السؤال إلى أي حد يكون في وسع هؤلاء المواطنين ان يلتزموا مع أنفسهم، كل واحد تجاه الجميع والجميع تجاه كل واحد منهم.

نتبين من ذلك ان السلطة السيادية مهما كانت مطلقة، مقدسة، لا يمكن المساس بها أبدا، لا تتجاوز ولا يمكن ان تتجاوز حدود الاتفاقات العامة، وان كل إنسان يستطيع التصرف تمام التصرف بما تتركه له هذه الاتفاقات من أمواله ومن حريته بحيث لا يحق لصاحب السيادة أبدا تكليف أحد الرعايا أكثر من آخر، لأن المسألة إذ تصبح عندئذ خاصة لا تعود من اختصاص سلطته.

انه لخطأ فادح، إذا ما أقرت هذه الفروقات، ان يقال بوجود أي تنازل حقيقي من جانب الأفراد في العقد الاجتماعي، وان وضعهم، بفعل هذا العقد، يصبح أفضل حقيقة مما كان عليه من قبل، وانهم بدلا من ان يتنازلوا يقومون بمبادلة مفيدة إذ يستبدلون وجودا قلقا وغير مستقر بوجود أفضل وأكثر أمنا ويحصلون على الحرية بدلا عن استقلالهم الطبيعي وعلى أمنهم الخاص بدلا من قدرة الإضرار بالغير، وعلى حق يجعله الاتحاد الاجتماعي لا يقهر بدلا من قوتهم التي كان في وسع آخرين التغلب عليها...

الفصل السادس: في القانون
لقد منحنا بالميثاق الاجتماعي للهيئة السياسية كيانها وحياتها. والمقصود الآن ان نعطيها الحركة والإرادة بالتشريع. وذلك ان العمل الأصلي الذي تشكلت بمقتضاه هذه الهيئة واتحدت لم يحدد بعد شيئا مما يجب عليها عمله من أجل بقائها.

ان ما يكون حسنا للنظام ويلائمه يكون كذلك بطبيعة الأشياء وبصورة مستقلة عن الاتفاقات البشرية. حقا ان كل عدالة تأتي من الله، وهو وحده منبعها، لكننا لو كنا نعرف ان نتلقاها من الخالق لما كانت بنا حاجة لا لحكومة ولا لقوانين. فلا ريب في ان هناك عدالة شاملة منبثقة من العقل وحده، إلا ان هذه العدالة يجب ان تكون متبادلة لإقرارها بيننا. فإذا نظرنا بشريا إلى الأشياء فان قوانين العدالة، في حالة انعدام الجزاء الطبيعي تكون باطلة بين البشر، فهي لا تصنع الا الخير للشرير والشر للعادل عندما يراعيها هذا العادل تجاه جميع الناس ولا يتقيد بها أحد تجاهه. لا بد إذن من اتفاقات ومن قوانين لربط الحقوق بالواجبات ورد العدالة للانطباق مع هدفها. ففي حالة الطبيعة، حيث يكون كل شيء مشتركا لا أكون مدينا بشيء لأولئك الذين لم أتعهد لهم بشيء ولا أعترف بما يكون للغير إلا بما يعود علي بالنفع. لكن الأمر ليس كذلك في الحالة المدنية حيث تكون جميع الحقوق محددة بالقانون.

ولكن ما هو القانون إذن في النهاية؟ طالما أننا سنكتفي بأن لا نضفي على هذه الكلمة إلى المعاني الميتافيزيقية فسنستمر في المحاججة دون تفاهم، وعندما نكون قد حددنا ما هي ماهية قانون الطبيعة لا نكون قد حصلنا على فهم أفضل لماهية قانون الدولة.

لقد سبق لي ان قلت انه ليس هناك إرادة عامة في موضوع خاص. والواقع ان هذا الموضع الخاص يكون في الدولة أو خارج الدولة. فإذا كان خارج الدولة، فإن الإرادة التي تكون أجنبية عنه لا تكون عامة قط بالنسبة له. وإذا كان هذا الموضوع في الدولة فانه يشكل جزءا منها. عندئذ يتكون بين الكل وجزئه علاقة تجعل منهما كائنين منفصلين، يكون الجزء أحد الطرفين، والكل ناقصا هذا الجزء نفسه هو الطرف الآخر. لكن الكل ناقصا جزءا ليس الكل قط، وما دامت هذه العلاقة تبقى قائمة لا يعود ثمة من كل وإنما جزءان غير متساويين، وينتج عن ذلك ان إرادة أحد الطرفين لا تكون عامة كذلك قط بالنسبة للطرف الآخر.

أما عندما يضع كل الشعب قواعد لكل الشعب فانه لا ينظر إلا إلى نفسه، وإذا ما كون لنفسه عندئذ علاقة فإنها تكون علاقة الموضوع بأكمله من وجهة نظر إلى الموضوع بأكمله من وجهة نظر أخرى دون أية تجزئة الكل. حينئذ تكون المادة التي توضع لها القواعد عامة كالإرادة التي تسن القواعد. ان هذا العمل هو الذي أدعوه قانونا.

عندما أقول ان هدف القوانين يكون عاما دائما فإنني أعني ان القانون ينظر إلى الرعايا كهيئة وإلى الأفعال على أنها مجردة ولا ينظر أبدا إلى إنسان بوصفه فردا ولا إلى عمل خاص. هكذا فالقانون هو: يستطيع القانون ان يقرر وجود امتيازات لكنه لا يستطيع منحها بالاسم إلى شخص. وفي وسع القانون ان ينشئ طبقات عديدة بين المواطنين، بل ويحدد الصفات التي تخول الأفراد الانتماء لهذه الطبقات- لكنه لا يستطيع تسمية هذا أو ذاك للدخول فيها، ويمكنه إقامة حكومة ملكية وراثية لكنه لا يستطيع انتخاب ملك ولا تسمية أسرة ملكية، وبكلمة ان كل وظيفة تتعلق بغرض فردي ليست من شأن السلطة التشريعية قط.

يتضح لنا في الحال، على ضوء هذه الفكرة، أنه لم يعد من الواجب ان نسأل عمن يحق له سن القوانين ما دام انها أفعال صادرة عن الإرادة العامة، ولا إذا كان الأمير فوق القوانين ما دام أنه عضو من الدولة، ولا عما إذا كان في وسع القانون ان يكون ظالما ما دام أنه ما من إنسان يكون ظالما لنفسه، ولا كيف نكون أحرارا وخاضعين للقوانين ما دام أنها ليست سوى سجلات لإرادتنا.

كذلك يتضح أنه لما كان القانون يجمع عمومية الإرادة وعمومية الموضوع فإن ما يأمر به إنسان من تلقاء نفسه، أيا كان، لا يكون قانونا قط، فحتى ما يأمر به صاحب السيادة في موضوع خاص ليس كذلك قانونا وإنما يكون مرسوما، ولا هو عمل من أعمال السيادة بل عمل من أعمال القضاء.

إنني اسمي إذن جمهورية كل دولة تحكمها القوانين، أيا كان شكل الإدارة فيها. لأنه عندئذ فحسب تكون المصلحة العامة هي التي تحكم، ويكون الشأن العام ذا شأن حقيقة. فكل حكومة شرعية تكون جمهورية[8]. ولسوف أشرح فيما بعد ما هي ماهية كلمة حكومة.

ليست القوانين بمعناها المحدد سوى الشروط للاتحاد المدني. والشعب الخاضع لهذه القوانين يجب ان يكون واضعها، إذا ان تنظيم شروط المجتمع لا يعني إلا أولئك الذين يتحدون، ولكن كيف ينظمونها؟ هل يتم ذلك باتفاق مشترك، بإلهام مفاجئ؟ وهل للهيئة السياسية جهاز لإعلان تلك الإرادات؟ فمن الذي سيعطيها البصيرة الثاقبة الضرورية لتكوين ما يصدر عنها من أحكام ونشرها مقدما، أو كيف لها ان تصدرها عند الاقتضاء؟ وكيف يتسنى لجمهور أعمى، لا يعرف ما يريد في كثير من الأحيان لأنه نادرا ما يعرف ما يكون خيرا له، ان يقوم من نفسه بتنفيذ مشروع عظيم إلى هذا الحد وصعب كالنظام التشريعي؟ ان الشعب يريد الخير دائما من تلقاء نفسه ولكنه لا يعرف الخير دائما من تلقاء نفسه. والإرادة العامة تكون دائما سديدة ولكن الحكم الذي يوجهها لا يكون دائما مستنيرا. لذلك يجب العمل دائما على ان ترى الأمور على حقيقتها، وأحيانا كما يجب ان تبدو لها وإرشادها إلى السبيل السوي الذي تسعى إليه وحمايتها من إغراء الإرادات الخاصة وتقريب الأمكنة والأزمنة إلى ذهنها والتخلص من إغراء المزايا الحاضرة والمحسوسة بخطر الشرور البعيدة والخفية. ان الأفراد يرون الخير الذي ينبذونه، ولكن الشعب يريد الخير الذي لا يراه. فالجميع، على حد سواء، بحاجة إلى من يرشدهم. يجب إلزام الأولين على مواءمة إرادتهم مع عقولهم، ويجب تعليم الشعب على ان يعرف ما يريد. وعندئذ ينشأ من الاستنارات العامة اتحاد الإدراك والإرادة في الهيئة الاجتماعية، حيث ينبثق التعاون الصحيح بين جميع الأطراف، وبالتالي أعظم قوة للكل. وها هنا منشأ الضرورة للمشرع.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:02 PM

تابع تابع جان جاك روسو :

الفصل السابع: في المشرّع :

لاكتشاف أفضل قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم لابد من توفر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني منها أي هوى، ولا تكون له أية علاقة مع طبيعتنا لكنه يدركها حتى أعماقها، وتكون سعادته مستقلة عنا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيرا ان يستطيع هذا العقل، وهو يراعي مجدا بعيدا لنفسه في تقدم العصور، العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر[9]. وبعبارة أخرى لا بد من آلهة لتمنح القوانين للبشر.

إن المحاججة نفسها التي كان يجريها كاليجو لا فيما يتعلق بالفعل، كان يجريها أفلاطون فيما يتعلق بالحق لتعريف الإنسان المدني أو الملكي الذي كان يبحث عنه في كتابه الحكم، أما إذا كان صحيحا ان الأمير العظيم يكون نادر الوجود فماذا يكون من أمر المشرع العظيم؟ فليس على الأول إلا ان يسير على خطى المثل الذي يجب ان يرسمه المشرع له. أما هذا فانه الميكانيكي الذي يخترع الآلة في حين لا يكون ذاك إلا العمل الذي يركبها ويجعلها تسير. ان زعماء الجمهوريات، في ميلاد المجتمعات هم الذين، كما يقول مونتسيكو، يقيمون المؤسسة وإن المؤسسة بدورها هي التي تشكل رؤساء الجمهوريات.

إن من يجرؤ على مباشرة تنظيم شعب يجب ان يشعر أنه في ذلك بصدد تغيير الطبيعة البشرية، بصدد تحويل كل فرد، من شخص يكون، بذاته، كلا كاملا ومنعزلا، إلى جزء من كل أكبر منه يتلقى منه هذا الفرد، على هذا النحو، حياته وكيانه، وتبديل تكوين الإنسان من أجل تقويته، وإحلال وجود جزئي ومعنوي مكان وجود مادي ومستقل تلقيناه جميعنا من الطبيعة. ويجب باختصار، ان ينزع من الإنسان قواه الخاصة ليمنحه قوى غريبة عنه لا يستطيع استخدامها بلا مساعدة الآخرين. وكلما كانت قواه الطبيعية ميتة ومتلاشية، كانت القوى المكتسبة أعظم وأرسخ، وكانت المؤسسة أمتن وأكمل. بحيث إذا لم يكن كل مواطن شيئا، لا يستطيع شيئا إلا بجميع الآخرين وان القوة المكتسبة من الكل تكون مساوية أو أكثر من مجموع القوى الطبيعية لجميع الأفراد، فيكون في وسعنا القول: ان التشريع قد بلغ منتهى الكمال الذي يستطيع الوصول إليه.

فالمشرع من أية ناحية نظرنا إليه، شخص ممتاز في الدولة. وإذا كان كذلك بعبقريته فهو لا يقل عنه في وظيفته. وهي ليست منصب قضاء ولا سيادة قط. فإن هذه الوظيفة التي تكون الجمهورية لا تدخل قط في تكوينها. فهي وظيفة خاصة وسامية، لا شيء مشترك بينها وبين السلطة البشرية، إذ ان من يوجه البشر ليس عليه ان يوجه القوانين ومن يوجه القوانين ليس عليه كذلك ان يوجه البشر، وإلا لما فعلت قوانينه الخادمة لأهوائه، إلا إدامة مظالمه في أكثر الأحيان، ولن يستطيع أبدا تجنب ان تفسد وجهات نظر خاصة قداسة عمله.

عندما منح ليكورغوس قوانين لوطنه بدأها بالتنحي عن الملك. فقد كان العرف السائد في معظم المدن الإغريقية ان تعهد إلى أجانب بوضع قوانينها.

وغالبا ما اتبعت الجمهوريات الحديثة في إيطاليا هذا التقليد. كما لجأت جمهورية جنيف إلى مثل ذلك فتحسنت به حالها[10]. ولقد شهدت روما في أزهى عصورها نشوء جميع جرائم الطغيان في ظهرانيها ووجدت نفسها على وشك الهلاك لانها جمعت في نفس الأيدي السلطتين التشريعية والسيادية.

في حين ان الحكام العشرة (Decemvirs) أنفسهم لم يستأثروا أبدا بحق العمل على تقديم أي قانون بمحض سلطتهم. كانوا يقولون للشعب: ما من شيء مما نقترحه يصبح بحكم القانون دون موافقتكم. أيها الرومان، كونوا أنتم أنفسكم واضعي القوانين التي تصنع سعادتكم.

ليس لمن يكتب القوانين إذن أو لا ينبغي ان يكون له، أي حق تشريعي. ولا يستطيع الشعب نفسه، عندما يريده، ان يتنازل عن هذا الحق الذي لا يمكن انتقاله، لأنه بمقتضى الميثاق الأساسي ليس هناك إلا الإرادة العامة التي تلزم الأفراد، وإننا لا نستطيع أبدا التأكد من ان إرادة خاصة هي مطابقة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لاقتراع الشعب عليها، ولقد سبق لي ان قلت ذلك إلا ان تكراره لا يخلو من فائدة.

هكذا نجد معا في تأليف التشريع أمرين يبدو أنهما غير متفقين: عملية فوق القدرة البشرية ومن أجل تنفيذها؛ سلطة ليست شيئا مذكورا.

وثمة صعوبة أخرى تستحق الاهتمام. وهي ان الحكماء الذين يريدون التحدث إلى العامة بلغتهم بدلا من لغتها لا يمكن ان تفهمهم. إذ ان هناك ألف نوع من الأفكار التي يستحيل ترجمتها إلى لغة الشعب. كما ان النظرات المبالغة في تعميمها والأهداف البعيدة جدا تتجاوز إدراكه، إذ ان كل فرد لا يتذوق نظاما للحكم غير ما يتفق مع مصلحته الخاصة، يتبين بصعوبة المزايا التي تعود عليه نتيجة الحرمان المستمر الذي تفرضه القوانين الجيدة. ولكي يتمكن شعب ناشئ من تذوق المبادئ الأساسية الصحيحة في السياسة ويتبع القواعد الأساسية في قيام الدولة، فلا بد من ان يمكن للمعلول ان يصير علة وأن تتصدر الروح الاجتماعية، التي يجب ان تكون من صنع النظام، النظام نفسه، وأن يكون البشر أمام القوانين ما يجب ان يكونوا بها. هكذا إذن تكون ثمة ضرورة: فيما ان المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاججة، فعليه ان يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها ان تقود دون عنف وأن تقنع دون إفحام.

هذا هو ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعانة بتدخل السماء وأن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب، الخاضعة لقوانين الدولة كخضوعها لقوانين الطبيعة ومعترفة بالسلطة نفسها في تكوين الإنسان وفي تكوين المدينة السياسية، بحرية، وتحمل نير الهناء العام المشترك بكل انقياد.

هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية، أولئك الذين لا يمكن ان تزحزحهم الحكمة البشرية[11]. ولكن لا يحق لكل إنسان ان يجعل الآلهة تتكلم ولا ان يكون مصدقا عندما ينبئ الناس أنه ترجمانها. فإن روح المشرع العظيمة هي المعجزة التي يجب ان تثبت رسالته. ففي وسع كل إنسان ان ينقش ألواحا من حجر، أو ان يشتري وسيطا للوحي (Oracle)، أو يزعم اتصالا سريا بـأحد الآلهة، أو يدرب طيرا ليتعلم الهمس في أذنه أو العثور على وسائل أخرى فظة لخداع الشعب. ان من لا يستطيع غير ذلك يكون في وسعه حتى ان يجمع حوله، صدفة، جماعة من الحمقى، لكنه سوف لا يؤسس حكما أبدا وسرعان ما يتلاشى عمله مع هلاكه. ذلك ان المجد الباطل يشكل علاقة عابرة. فليس ثمة ما يجعله دائما سوى الحكمة. ان الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون، ما برحت تنبئ حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فان السياسة الحقيقية تعجب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تشرف على منشآتهم الدائمة.

ينبغي ان لا نخلص من كل هذا إلى القول مع واربورتن (Warburton) بأن للسياسة والدين بيننا هدفا مشتركا وإنما، في أصل الأمم، يفيد أحدهما أداة للآخر.


الفصل التاسع: في الشعب (تابع)
كما أعطت الطبيعة حدودا لقوام الرجل حسن التكوين فإذا ما زاد عنها أو قل يكون إما عملاقا وإما قزما، كذلك راعت التكوين الأفضل للدولة بالحدود التي يمكنها ان تمتد إليها لكي لا تكون كبيرة جدا يتعذر حكمها على وجه حسن ولا صغيرة جدا لكي تستطيع المحافظة على نفسها بنفسها. ففي كل هيئة سياسية حد أعلى من القوة لا يكون في وسعها تجاوزه، غالبا ما تبتعد عنه من فرط تعاظمها. وكلما اتسعت الرابطة الاجتماعية كلما تراخت وبصفة عامة تكون الدولة الصغيرة، نسبيا، أقوى من الكبيرة.

هناك ألف دليل للبرهان على صحة هذه الحقيقة العامة. أولا: ان الإدارة تصبح أشق في المسافات البعيدة، كما يصبح الوزن أثقل على طرف رافعة أطول. كما تصبح أكثر كلفة كلما تضاعفت الأطراف، ذلك ان لكل مدينة هيئتها الإدارية، قبل كل شيء، التي يتحمل الشعب نفقاتها، ولكل منطقة إدارتها التي يدفع الشعب نفقاتها أيضا، ثم لكل ولاية. وأخيرا الحكومات الكبيرة والمرازبة ونواب الملكية الذين يجب ان ندفع لهم بسخاء كلما ارتفعت درجاتهم. ويكون ذلك دائما على حساب الشعب البائس. وفوق ذلك كله تأتي الإدارة العليا التي تسحق الجميع. فإن أعباء كثيرة كهذه الأعباء تستنزف قوى الرعايا باستمرار، وبدلا من ان تحكمهم مختلف هذه الأنظمة حكما أفضل تصبح حالتهم أسوأ مما لو كانوا خاضعين لنظام واحد. ويكاد لا يبقى والحالة هذه من الموارد ما يغنى بمواجهة الطوارئ وعندما تعمد الدولة إلى الحصول على موارد لها تكون دائما على وشك الوقوع في خراب شامل.

وهذا ليس كل شيء، إذ لا يقتصر الأمر على ان تكون الحكومة أقل حيوية وسرعة في فرض مراعاة القوانين ومنع الإساءات وتقويم التعسفات والحيلولة دون المشاريع التمردية التي يمكن وقوعها في الأماكن البعيدة، بل يكون الشعب أقل حبا لزعمائه الذين لا يراهم أبدا، ولوطنه الذي يتساوى في نظره مع الدنيا كلها، ولمواطنيه الذين يكون معظمهم غرباء بالنسبة له. حتى القوانين نفسها لا يمكنها ان تلائم ذلك العدد الكبير من الولايات المتباينة التي تكون لكل منها طباعها المختلفة وتعيش في ظل ظروف مناخية متعارضة وبالتالي لا تستطيع تحمل شكل الحكومة نفسه. وعلى هذا فإن قوانين مختلفة لا تولد إلا الاضطراب والارتباك بين شعوب، إذ تعيش تحت راية الزعماء أنفسهم وعلى اتصال مستمر، ينتقل بعضهم إلى جوار بعض أو يتزاوجون، وإذ يخضعون لعادات أخرى، لا تعرف أبدا إذا كان تراثهم هو ملكهم حقا. فتدفن المواهب وتغفل الفضائل وتظل الرذائل بلا عقاب في ذلك الجمع من الناس الذي يجهل بعضهم بعضا، والذين تضمهم سلطة إدارية عليا في مكان واحد. وحيث لا يتمكن الزعماء المثقلون بالأعباء من مباشرة الأمور بأنفسهم، فإن الموظفين هم الذين يحكمون الدولة. وأخيرا تمتص الإجراءات التي يجب اتخاذها للمحافظة على السلطة العامة التي يرغب ضباط بعيدون كثيرون في التملص منها أو فرض أنفسهم عليها، جميع الاهتمامات العامة فلا يبقى منها شيء لسعادة الشعب، وبالكاد يبقى ما يفي بالدفاع عنه عند الحاجة، وهكذا تخور عزائم هيئة مفرطة في ضخامتها بالنسبة لدستورها فتنهار مسحوقة تحت ثقل أعبائها نفسها.

ولا بد للدولة من ناحية أخرى، من ان توفر لنفسها أساسا معينا لضمان صلابتها وصمودها في وجه الهزات التي ستتعرض لها ولما ستضطر إلى بذله من جهود في سبيل تدعيم نفسها. إذ ان لجميع الشعوب قوة نابذة تدفعها على الدوام إلى ان يتصرف بعضها ضد البعض الآخر فتنجح إلى التوسع على حساب جيرانها، كدوامات "ديكارت". وهكذا سرعان ما تتعرض الضعيفة منها للابتلاع، وقلما يستطيع أحد منها ان يحافظ على بقائه إلا بأن يضع نفسه، مع الجميع، في نوع من التوازي يجعل الضغط في كل مكان متساويا تقريبا.

نتبين من ذلك ان ثمة أسباب تدعو إلى التوسع وأسباب تدعو إلى الانكماش، وإيجاد أنسب حجم للمحافظة على الدولة، بين هذه وتلك من الدول، ليس أقل مواهب السياسة. ويمكن القول بصفة عامة أنه وجب ان تكون الاعتبارات الأولى، إذ أنها ليست سوى خارجية ونسبية، خاضعة للاعتبارات الأخرى التي هي داخلية ومطلقة، وأول ما يجب العمل على تحقيقه هو دستور صحيح وقوي، إذ يجب الاعتماد على الحيوية التي تنشأ عن حكومة جيدة أكثر من الاعتماد على موارد توفرها مملكة واسعة الأطراف.

ومع ذلك رأينا دولا متكونة على نحو كانت ضرورة الفتوح تدخل في دستورها نفسه وانها كانت للإبقاء على نفسها مجبرة على التوسع بلا انقطاع. ولعلها كانت تهنئ نفسها كثيرا على هذه الضرورة السعيدة التي كانت تشير لها، ومع ذلك، إلى لحظة انهيارها المحتوم في نهاية توسعها.


الكتاب الثالث
الفصل الأول: في الحكومة بصفة عامة
أوجه نظر القارئ إلى أنه يجب قراءة هذا الفصل بعناية وإلى انني لا أعرف كيف أكون واضحا لمن لا يريد ان يكون متنبها.

لكل عمل حر سببان يساعدان في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل، والآخر مادي وهو القوة التي تنفذه. فعندما أسير إلى هدف يجب أولا ان أريد الذهاب إليه، وأن تأخذني قدماي إليه، ثانيا. ولئن أراد مشلول الركض وكان رجل رشيق لا يريد ذلك، فكلاهما يبقى في الحالتين مكانه. وللهيئة السياسية البواعث نفسها، كذلك يمكننا التمييز بين القوة والإرادة، حيث تكون هذه باسم السلطة التشريعية والأخرى باسم السلطة التنفيذية. فما من شيء يجري فيها أو لا يجب ان يجري فيها دون مساعدة هاتين السلطتين.

رأينا ان السلطة التشريعية تخص الشعب ولا يمكن ان تخص إلا الشعب. ومن السهل ان نرى على العكس، من المبادئ المقرة فيما تقدم، ان السلطة التنفيذية لا يمكن ان تخص مجموع الناس بوصف هذا المجموع مشرعا أو صاحب سيادة، لأن هذه السلطة لا تتكون إلا من أفعال خاصة، لا تكون قط من اختصاص القانون ولا هي بالتالي من شأن صاحب السيادة الذي لا يمكن لأفعاله إلا ان تكون قوانين.

يجب إذن ان يتوفر للقوة العامة عامل خاص يوحدها ويحركها وفقا لاتجاهات الإرادة العامة، يخدم اتصال الدولة بصاحب السيادة، يعمل تقريبا في الشخصية العامة ما يفعله في الإنسان اتحاد الروح بالجسد. هذا هو، في الدولة، سبب وجود الحكومة، الذي يخلط بلا مبرر بينه وبين صاحب السيادة في حين انه ليس إلا خادمها.

فما هي الحكومة إذن؟ إنها هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء.

...

انني، إذن، أطلق اسم حكومة أو إرادة عليا على الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية، واسم أمير أو وال أو حاكم على الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة.

ذلك ان القوة الوسيطة التي تؤلف علاقاتها علاقة الكل بالكل أو علاقة صاحب السيادة بالدولة، توجد في الحكومة. ويمكن تمثيل تلك الرابطة الأخيرة بالرابطة بين أطراف تكافؤ مستمر، متوسطُهُ المناسب هو الحكومة. فالحكومة تتلقى من صاحب السيادة الأوامر التي يصدرها إلى الشعب ولكي تكون الدولة في توازن سليم يجب، مع توازن الكل، ان توجد هناك مساواة بين النتيجة أو سلطة الحكومة في حد ذاتها والنتيجة أو سلطة المواطنين الذين هم أصحاب سيادة من جهة ورعايا من جهة أخرى.

ليس في وسعنا، بالإضافة إلى ذلك، تعديل أي من هذه الحدود الثلاثة دون الإخلال بالنسبة في الحال. فإذا كان صاحب السيادة يريد ان يحكم أو إذا كان الوالي يريد إصدار القوانين أو إذا كان الرعايا يرفضون الطاعة، فإن الاضطراب يحل محل النظام ولا تعود القوة والإرادة تعملان بانسجام، فتسقط الدولة المنحلة على هذا النحو في مهاوي الاستبداد أو في الفوضى. ولما كان لا يوجد، أخيرا، سوى متوسط نسبي واحد بين كل علاقة فإنه لا يوجد كذلك إلا حكومة واحدة صالحة ممكنة في دولة واحدة. ولكن كما ان ألف حادث يستطيع تغيير علاقات شعب فلا يكون في وسع حكومات مختلفة ان تكون صالحة لشعوب متنوعة فحسب بل وتكون كذلك لشعب واحد في أزمنة مختلفة.

...

إلا ان هناك هذا الفارق الأساسي بين هاتين الهيئتين، وهو ان الدولة توجد بذاتها وان الحكومة لا توجد إلا بصاحب السيادة. وعلى هذا فإرادة الأمير السائدة ليست أو لا يجب ان تكون إلا الإرادة العامة أو القانون، وقوته ليست إلا القوة العامة مركزة فيه، وما ان يريد إتيان عمل مطلق ومستقل من تلقاء نفسه حتى تأخذ رابطة الكل بالتراخي. وإذا حدث أخيرا ان صارت للأمير إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة صاحب السيادة فاستعمل، لفرض الطاعة لهذه الإرادة الخاصة، ما يكون في يديه من القوة العامة، بحيث يصبح هناك تقريبا صاحبا سيادة، أحدهما بالحق والآخر بالفعل، انهار الاتحاد الاجتماعي في الحال وانحلت الهيئة السياسية.

ولكي يكون لهيئة الحكومة وجود، مع ذلك، حياة حقيقية تميزها عن هيئة الدولة، وليستطيع جميع أعضائها العمل في تناسق واتفاق مع الغاية التي أنشئت من أجلها، يجب ان يكون لها أنا خاصة، هي وعي مشترك بين أعضائها، قوة، إرادة خاصة بها تميل إلى المحافظة عليها. هذا الوجود الخاص يفترض وجود اجتماعات ومجالس وسلطة للمداولة وللحل وحقوق وألقاب وامتيازات يختص بها الأمير وحده وتجعل منصب الحاكم أكثر احتراما بنسبة ما يكون شاقا. وتكون الصعوبات في طريقة تنظيم هذا الكل التابع في الكل بحيث لا يبدل قط التكوين العام بتأكيد تكوينه هو، وأن يميز دائما قوته الخاصة المعينة للمحافظة عليه ذاته من القوة العامة المخصصة للمحافظة على الدولة، وأن يكون باختصار دائما مستعدا للتضحية بالحكومة من أجل الشعب لا بالشعب من اجل الحكومة.

...

الكتاب الرابع
الفصل الثاني: في التصويت
نرى من الفصل السابق ان الأسلوب الذي تعالج به الشؤون العامة يمكن ان يعطينا مؤشرا أكيدا إلى حد ما عن حالة الأخلاق الحاضرة وعن سلامة الهيئة السياسية. فكلما كان الانسجام سائدا في الاجتماعات، أي كلما كانت الآراء تقترب من الإجماع، كلما كانت كذلك الإرادة العامة مسيطرة، لكن المناقشات الطويلة والانشقاقات والصخب، تنبئ عن تصاعد المصالح الخاصة وعلى انحدار الدولة.

يبدو هذا أقل وضوحا عندما تدخل في تكوينها طبقتان أو أكثر، كالأشراف والعامة في روما اللتين كثيرا ما أقلقت منازعاتهما الجمعيات الشعبية، حتى في أزهى أيام الجمهورية. لكن هذا الاستثناء ظاهري أكثر منه حقيقي، ذلك أنه بسبب من الآفة الملازمة للهيئة السياسية نجد، إذا صح القول، دولتين في واحدة، وكل ما لا يكون صحيحا عن الاثنتين معا يكون صحيحا عن كل واحدة منهما على حدة. وفي الواقع، إنه حتى في أشد الأوقات الصاخبة كانت استفتاءات الشعب العامة عندما لم يكن يتدخل فيها مجلس الشيوخ، تجري دائما بهدوء وبأكثرية الأصوات الساحقة. ولما كان المواطنون ليسوا إلا أصحاب مصلحة واحدة فإن الشعب لم يكن له إلا إرادة واحدة.

في النهاية الأخرى من الدائرة يتم الإجماع، وذلك عندما لا يعود للمواطنين وقد سقطوا في العبودية لا حرية ولا إرادة. عندئذ يبدل الخوف والتملق التصويت بهتافات، فيبطل التداول ولا يبقى إلا العبادة أو اللعن. وقد كانت هذه هي الطريقة الخسيسة التي يبدي بها مجلس الشيوخ رأيه تحت حكم الأباطرة. وأحيانا كان هذا يتم في ظل احتياطات مضحكة: فقد لاحظ تاسيت، أثناء حكم أوثون (Othon) ان أعضاء مجلس الشيوخ، إذا انهالوا على فيتيلليوس باللعنات، كانوا يتصنعون في الوقت نفسه بإثارة ضجة مخيفة، حتى إذا ما حدث وأصبح سيدا، لا يتمكن من معرفة ماذا قال كل منهم.

من هذه الاعتبارات المختلفة تنشأ المبادئ الأساسية التي يجب ان تنظم وفقها طريقة حساب الأصوات ومقارنة الآراء بحسب ما يكون من السهل أو الصعب معرفة الإرادة العامة ومدى زيادة أو قلة انحدار الدولة.

وليس هناك سوى قانون واحد يتطلب بطبيعته موافقة إجماعية. ذلك هو العقد الاجتماعي. إذ ان الاتحاد المدني هو أكثر عقود الدنيا اختيارا، فكل إنسان نظرا لأنه يولد حرا وسيدا لنفسه، لا يستطيع أحد، بأية حجة كانت، إخضاعه دون إقراره. فالقضاء بأن ابن العبد يولد عبدا هو القضاء بأنه لا يولد إنسانا.

إذا كان قد وجد إذا حين العقد الاجتماعي معارضون فيه، فإن معارضتهم لا تبطل العقد، انها تحول فحسب دون ان يدخلوا فيه، فهم أغراب بين المواطنين. وعندما تكون الدولة قد أسست، فإن الإقامة فيها علامة الرضا، إذ تصبح سكنة الإقليم خضوعا للسيادة[12].

وما خلا هذا العقد الأولي يكون صوت العدد الأكبر ملزما للآخرين جميعهم. انها تتمة للعقد نفسه. ولكن رب سائل يسأل: كيف يمكن لإنسان ان يكون حرا ومرغما على الخضوع لإرادة ليست إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارا وخاضعين لقوانين لم يوافقوا عليها؟

أجيب على ذلك بأن السؤال لم يطرح كما ينبغي. فالمواطن يوافق على جميع القوانين حتى على تلك التي تجاز رغما عنه، بل وعلى تلك التي تعاقبه عندما يجرؤ على انتهاك حرمة واحد منها. ان الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة، فبمقتضاها هم مواطنون وأحرار[13]. وعندما يقترح قانون في مجلس الشعب، فما يطلب منهم ليس بالضبط إبداء موافقتهم عليه أو رفضه، وإنما إذا كان يطابق أولا للإرادة العامة التي هي إرادتهم، وكل واحد وهو يدلي بصوته يقول رأيه في ذلك... وبحساب الأصوات يصدر إعلان الإرادة العامة. وعندما يتغلب إذا الرأي المعارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على شيء سوى أنني كنت مخطئا وان ما كنت أقدر أنه الإرادة العامة لم يكنها. ولو ان رأيي الخاص هو الذي تغلب لكنت فعلت غير ما كنت قد أردت، وعندئذ ما كنت لأكون حرا.

حقيقة ان ذلك يفترض ان تكون جميع خصائص الإرادة العامة ما زالت بعد في حالة الأكثرية، وعندما تكف عن ان تكون كذلك فلا تبقى هناك حرية أيا كان الفريق المنتمي إليه.

إنني إذ أوضحت فيما تقدم كيف تحل الإرادة محل الإرادة العامة في المداولات العامة، قد بينت بيانا كافيا الوسائل العملية لتجنب هذا التعدي وسأتكلم في ذلك أيضا فيما بعد. أما فيما يتعلق بالعدد النسبي للأصوات اللازمة لإعلان هذه الإرادة فقد أعطيت كذلك التي يمكن تحديده بها. ان فرقا من صوت واحد يقضي على التساوي في الأصوات، ويقضي معارض واحد على الإجماع، ولكن بين الإجماع والتساوي توجد عدة تقسيمات غير متساوية يمكن ان نحدد هذا العدد لكل منها بحسب حالة الهيئة السياسية وحاجاتها.

ثمة مبدآن أساسيان عامان يفيدان في تنظيم هذه العلاقات: أحدهما هو أنه كلما كانت المداولات هامة وخطيرة، كلما وجب ان يكون الرأي الذي يتغلب مقتربا من الإجماع. والآخر هو أنه كلما كانت المسألة المثارة تتطلب سرعة أكثر كلما كان يجب تضييق الفارق المعين في تقسيم الآراء، أما في المداولات التي يجب إتمامها في الحال فإن زيادة صوت يجب ان تكفي. ويلوح لي ان المبدأ الأول أكثر ملاءمة للقوانين، وأن الثاني أكثر ملاءمة لتصريف الأمور. ومهما يكن من الأمر فإن على المزج بينهما تبنى أفضل النسب التي يمكن منحها للأكثرية من أجل إصدار القرارات.


الفصل الثامن: في الدين المدني...
قد ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين، وهما دين الإنسان ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن ان نسميه القانون الإلهي الطبيعي. الثاني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحُماته: ان له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن ان نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.

ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من ان يكونوا في ان واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن. وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقا.

وإذا ما نظرنا سياسيا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها جميعها تنطوي على أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك. إذ ان كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.

والثاني جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم ان خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني حيث لا ينبغي ان يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوانين إلحادا وإخضاع الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacer estod).

لكنه سيئ في أنه يخدع البشر، نظرا لأنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء، متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفان من الطقوس الجوفاء. وهو سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا القتل والمذابح ويعتقد أنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كان لا يؤمن بآلهته. وهو ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا بأمنه الخاص.

يبقى إذن دين الإنسان أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، أنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى الموت.

لكن هذا الدين، لما كان لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوانين القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون ان يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من ان يربط قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.

يقال لنا ان شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء ان يتخيله. وأنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي ان مجتمعا مكونا من مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.

بل انني أقول بأن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله نفسه.

كل إنسان سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.

ان المسيحية هي دين روحاني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس في هذا العالم. صحيح أنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء عاقبة مساعيه. وشريطة ان لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه ان تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كانت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى ان يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.

ولكي يكون المجتمع هادئا ويبقى الانسجام فيه، لا بد من ان يكون المواطنون جميعهم بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد، مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار. وما ان يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في ان يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له ان يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجان الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف، وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم ان يكون الإنسان حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.

وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على باله الفرار، انهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كانوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس، ان يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض للمجد وللوطن، ولنقدر ان هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل ان يمكنهم الوقت من التعارف، أو أنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كانت عظة جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو النصر، وإنما أقسموا على ان يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كان للمسيحيين أبدا ان يفعلوا مثل ذلك، كانوا يعتقدون أنهم يمتحنون الله.

لكنني أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك ان المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيان، ولو أنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.

كان الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب المسيحيين على ما أظن، فتلك كانت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ ان أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت البسالة الرومانية كلها.

ولكن لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جانبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة الهامة. ان الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط، كما سبق ان قلت، حدود المنفعة العامة[14]، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة ان يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين. وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد ان يعتنق من الآراء ما يطيب له دون ان يكون من حق صاحب السيادة معرفتها. إذ بما أنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كان مصير رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شأنه بشرط ان يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.

...

يجب ان تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. ان الإيمان بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوانين، هي العقائد الإيجابية. أما فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: انها تدخل في العبادات التي استبعدناها.

...

والآن، إذ لم يبق ولا يمكن ان يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن. ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب ان يطرد من الدولة، ما لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم. فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...



ترجمة: ذوقان قرقوط


--------------------------------------------------------------------------------

[1] غروتيوس: فقيه هولندي من أصل فرنسي. يعتبر أول من حاول وضع قانون دولي عام يحكم العلاقات بين الأمم الأوروبية بما يضمن سلطة قوية ويضمن السلام وازدهار التجارة.

[2] ليست هذه المساواة في ظل الحكومات السيئة إلا ظاهرية ووهمية. لا تفيد إلا في إبقاء الفقير في بؤسه والغني على اغتصابه. وفي الواقع تكون القوانين مفيدة لأولئك الذين يملكون وضارة بأولئك الذين لا يملكون شيئاً. ويترتب على ذلك ان الحالة الاجتماعية لا تكون نافعة للبشر إلا بمقدار ما يملكون جميعهم شيئاً ما ولا يملك أحدهم شيئاً فائضاً.

[3] لكي تكون إرادة ما عامة ليس من الضروري دائما ان تكون جماعية ولكن من الضروري إحصاء جميع الأصوات، فأي استثناء مقصود يبطل العمومية.

[4] "لكل مصلحة"، كما يقول الماركيز دارجنستون "مبادئ مختلفة. واتفاق مصلحتين خاصتين يتكون بالتعارض مع مصلحة فرد ثالث". وكان يمكنه ان يضيف بأن اتفاق جميع المصالح يتكون بالتعارض مع مصلحة كل واحد. ولو لم تكن هناك مصالح مختلفة قط لما كنا نحس بالمصلحة المشتركة التي لم تكن لتجد عقبة في وجهها أبدا، كان كل شيء سيسير في مجراه ولانتهت السياسة بأن تكون فنا.

[5] حقا ان بعض الانقسامات تضر بالجمهورية وبعضها يكون مفيدا لها كما يقول مكيافيلي. فالتي تضر تكون ناشئة عن شيع متحزبة. والمفيدة هي التي تبقى دون تشيع ودون تحزب. وإذا لم يكن ممكنا وجود مؤسس للجمهورية يجب ان لا يكون في الجمهورية عداوات. وعلى الأقل يجب ان لا يوجد بها شيع. (تاريخ فلورنسا: الكتاب السابع)

[6] ورد ذكره في هوامش نص مكيافيلي في هذا الكتاب.

[7] أرجو القارئ النبيه ان لا يتعجل باتهامي بالتناقض هنا. فلم يكن في مقدوري ان أتجنب ذلك في المصطلحات نظرا لفقر اللغة. ولكن تريثوا قليلا.

[8] لا أقصد بهذه الكلمة أرستقراطية أو ديمقراطية فحسب وإنما بصورة عامة تقودها الإرادة العامة، التي هي القانون. ولكي تكون الحكومة شرعية لا ينبغي ان تختلط مع صاحب السيادة بل يجب ان تكون وزيرا له، عندئذ تكون الملكية نفسها جمهورية. ولسوف يتضح ذلك في الكتاب التالي.

[9] لا يصبح الشعب شهيرا إلا عندما يأخذ نجم مشرعه بالأفول. ونحن نجهل طيلة كم من القرون وفر نظام ليكورغوس السعادة للإسبارطيين قبل ان يصبحوا محل تنازع في سائر بلاد اليونان.

[10] الذين لا يعترفون لكالفن إلا بأنه عالم لاهوتي يجهلون صدى عبقريته. ان تآليف حكمائنا المنشورة التي شارك فيها بنصيب وافر، تضفي عليه من المجد ما يضفيه نظامه. وأيا ما كانت الثورة التي يأتي بها الزمن في عقيدتنا، طالما حب الوطن والحرية لا ينطفئ فينا، فإن ذكرى هذا الرجل العظيم لن تكف أبدا عن ان تكون نعمة فيه.

[11] قال مكيافيلي: "حقا انه لم يكن ثمة من مشروع لقوانين لم يلجأ فيها الشعب إلى الله. لأن القوانين لم تكن لتقبل بلا ذلك. إذ هناك قوانين كثيرة يعرفها الحكماء وليست لها بذاتها أسباب يمكن ان تقنع الآخرين. (رسالة تيتوس ليفوس: الكتاب الأول، الفصل الحادي عشر).

[12] يجب ان يفهم هذا دائما من دولة حرة، إذ ان الأسرة و الأملاك وعدم وجود ملجأ والضرورة والعنف يمكنها جميعها من جانب آخر القعود بالإنسان في بلد رغما عنه، وعندئذ فان إقامته وحدها لا تعود تفترض موافقته على العقد أو نقضا له.

[13] في جنوا نقرأ على واجهات السجون وعلى أغلال المحكوم عليهم هذه الكلمة (Libertas) حرية. ان تطبيق هذا الشعار جميل وعادل. إذ لا يوجد في الحقيقة سوى الأشرار في جميع الدول هم الذين يمنعون المواطن من ان يكون حرا. ولو أمكن وضع هؤلاء جميعهم في سجون الأشغال الشاقة لتمتع الناس بأكمل حرية.

[14] يقول الماركيز دار جنستو: "كل إنسان في الجمهورية يكون حرا تماما في كل ما لا يضر بالآخرين"، وهذا المعيار الثابت الذي لا يتغير، ولا يمكن صياغته بصورة أدق، ولم أستطع مقاومة إغراء الاستشهاد أحيانا بهذا المخطوط رغم انه غير معروف لدى الجمهور، تكريما لذكرى رجل مشهور ومحترم، حافظ حتى وهو وزير على قلب مواطن حقيقي، و‎آراء مستقيمة وصالحة في حكومة بلاده.


الساعة الآن 03:31 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى