منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   العقد الفريد - أبو عمر أحمد بن محمد بن حبيب ابن عبد ربه (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=11116)

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:13 AM

العقد الفريد - أبو عمر أحمد بن محمد بن حبيب ابن عبد ربه
 
العقد الفريد - أبو عمر أحمد بن محمد بن حبيب ابن عبد ربه

الموضوعات

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:16 AM

كتاب اللؤلؤة في السلطان
السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده به يمتنع حريمهم وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم‏.‏
قالت الحكماء‏:‏ إمام عادل خير من مطر وابل وإمام غشوم خير من فتنة تدوم ولما يزع الله بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن‏.‏
وقال وهب بن منبه‏:‏ فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام‏:‏ إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة‏.‏
فحق على من قلده الله أزمة حكمه وملكه أمور خلقه واختصه بإحسانه ومكن له في سلطانه أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته والاعتناء بمرافق أهل طاعته بحيث وضعه الله عز وجل من الكرامة وأجرى له من أسباب السعادة‏.‏
قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ الذين إن مكناهم في وقال حذيفة بن اليمان‏:‏ ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل وقال عبد الله بن عمر‏:‏ إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر وإذا كان الإمام جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر‏.‏
وقال كعب الأحبار‏:‏ مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد فالفسطاط الإسلام والعمود السلطان والأطناب والأوتاد الناس‏.‏
ولا يصلح بعضها إلا ببعض‏.‏
وقال الأفوه الأودي‏:‏ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إلا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا نصيحة السلطان ولزوم طاعته قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏"‏‏.‏
وقال أبو هريرة‏:‏ لما نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة‏.‏
وطاعتهم من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من فارق الجماعة أو خلع يداً من طاعة مات ميتة وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة‏.‏
قالوا لمن يا رسول الله قال‏:‏ لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم‏.‏
فنصح الإمام ولزوم طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب وأمر لازم ولا يتم إيمان إلا به ولا يثبت إسلام إلا عليه‏.‏
الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لي أبي‏:‏ أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإني موصيك بخلال أربع‏:‏ لا تفشين له سراً ولا يجربن عليك كذباً ولا تطو عنه نصيحة ولا تغتابن عنده أحداً‏.‏
قال الشعبي‏:‏ فقلت لابن عباس‏:‏ كل واحد خير من ألف‏.‏
قال‏:‏ إي والله ومن عشرة آلاف‏.‏
وفي كتاب للهند‏:‏ أن رجلاً دخل على بعض ملوكهم فقال أيها الملك إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير والكبير الخطير‏.‏
ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة لكان خرقاً مني أن أقول‏.‏
ولكنا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك وأنفسنا متعلقة بنفسك لم نجد بداً من أداء الحق إليك وإن أنت لم تسلني ذلك فإنه يقال‏:‏ من كتم السلطان نصيحته والأطباء مرضه والإخوان بثه فقد أخل بنفسه‏.‏
وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك‏.‏
فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل‏.‏
وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي وتصرف في العلم ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك وإيثاري إياك على نفسي‏.‏
وقال عمرو بن عتبة للوليد حين تغير الناس عليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ينطقني الأنس بك وتسكتني الهيبة لك وأراك تأمن أشياء أخافها عليك أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً قال‏:‏ كل مقبول منك والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه‏.‏
فقتل بعد ذلك بأيام‏.‏
وقال خالد بن صفوان‏:‏ من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد فصديق السلطان ينافسه في مرتبته وعدوه يبغضه لنصيحته‏.‏
ما يصحب به السلطان قال ابن المقفع‏:‏ ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي ولا يتغير له إذا سخط ولا يستقل ما حمله ولا يلحف في مسألته‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم فإن كنت حافظاً إذا أولوك حذراً إذا قربوك أميناً إذا ائتمنوك ذليلاً إذا صرموك راضياً إذا أسخطوك تعلمهم وكأنك تتعلم منهم وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر وإلا فالبعد منهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر‏.‏
وقال المأمون‏:‏ الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء‏:‏ القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرم‏.‏
وقال ابن المقفع‏:‏ إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض‏.‏
وقال الأصمعي‏:‏ توصلت بالملح وأدركت بالغريب‏.‏
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك‏:‏ إنما السلطان سوق فما نفق عند حمل إليه‏.‏
ولما قدم معاوية من الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند فقالت له‏:‏ يا بني إنه قلما ولدت حرة مثلك وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه أحببت ذلك أم كرهته‏.‏
ثم دخل على أبيه أبي سفيان فقال له‏:‏ يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا‏.‏
فصرنا أتباعاً وصاروا قادة‏.‏
وقد قلدوك جسيماً من أمرهم فلا تخالفن أمرهم فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد بلغته لنوفست فيه‏.‏
وقال أبرويز لصاحب بيت المال‏:‏ إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف‏:‏ لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك فإن خنت قليلاً خنت كثيراً‏.‏
واحترس من خصلتين‏:‏ النقصان فيما تأخذ والزيادة فيما تعطى‏.‏
واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه وخواتمه التي هي عليه فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي‏:‏ ولا تتعوض بخير شراً ولا برفعة ضعة ولا بسلامة ندامة ولا بأمانة خيانة‏.‏
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له‏:‏ إن أباك كفى أخاه عظيماً وقد استكفيتك صغيراً فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك‏.‏
وإياك مني قبل أن أقول إياي منك فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في‏.‏
وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك‏.‏
وقال يزيد‏:‏ حدثني أبي‏:‏ أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به فرجع إليه‏.‏
فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً فقال له عبد الرحمن بن عوف‏:‏ أتعبت الرجل‏.‏
فأقبل عليه عمر فقال‏:‏ يا معاوية أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ ولم ذاك قال‏:‏ لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت‏.‏
فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب وما آمرك به ولا أنهاك عنه‏.‏
فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه‏!‏ فقال‏:‏ لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه‏.‏
وقال الربيع بن زياد الحارثي‏:‏ كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا‏.‏
فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت‏:‏ يا يرفأ أني سائل مسترشد أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلى الخشونة‏.‏
فاتخذت خفين مطارقين ولبست جبة صوف ولثت رأسي بعمامة دكناء‏.‏
ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب فلم تأخذ عينه أحداً غيري فدعاني فقال‏:‏ من أنت قلت‏:‏ الربيع بن زياد الحارثي‏.‏
قال‏:‏ وما تتولى من أعمالنا قلت‏:‏ البحرين‏.‏
قال‏:‏ فكم ترزق قلت‏:‏ خمسة دراهم في كل يوم قال كثير فما تصنع بها قلت‏:‏ أتقوت منها شيئاً وأعود بباقيها على أقارب لي فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين‏.‏
فقال‏:‏ لا بأس ارجع إلى موضعك‏.‏
فرجعت إلى موضعي من الصف‏.‏
ثم صعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال‏:‏ كم سنوك فقلت‏:‏ ثلاث وأربعون سنة‏.‏
قال‏:‏ الآن حين استحكمت‏.‏
ثم دعا بالطعام وأصحابي حديثو عهد بلين العين وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وأكسار بعير‏.‏
فجعل أصحابي يعافون ذلك وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم‏.‏
ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا فزجرني وقال‏:‏ كيف قلت قلت‏:‏ أقول‏:‏ لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لكم اللحم كذلك فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً‏.‏
فسكن عن غربه وقال‏:‏ هذا قصدت قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال‏:‏ ‏"‏ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ‏"‏ ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي‏.‏
قوله‏:‏ لثتها على رأسي يقال‏:‏ رجل ألوث إذا كان شديداً وذلك من اللوث ورجل ألوث إذا كان أهوج وهو مأخوذ من اللوثة يقال‏:‏ لثت عمامة على رأسي يقول‏:‏ أدرتها بعضها على بعض على غير استواء‏.‏
وقول‏:‏ صلائق هو شيء يعمل من اللحم فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى‏.‏
يقال‏:‏ صلقت اللحم إذا طبخته وصلقته إذا شويته‏.‏
وقوله‏:‏ غريضاً يقول‏:‏ طرياً يقال‏:‏ لحم غريض تراد به‏:‏ الطراءة‏.‏
قال العتابي‏:‏ إذا ما فاتني لحم غريض ضربت ذراع بكري فاشتويت وقوله‏:‏ سبائك يريد الحوارى من الخبز وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه والعرب تسمي الرقاق‏:‏ السبائك‏.‏
الصناب‏:‏ صباغ يتخذ من الزبيب والخردل ومنها قيل للفرس‏:‏ صنابي إذا كان ذلك اللون‏.‏
قال جرير‏:‏ تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والصناب وقوله‏:‏ أكسار بعير فالكسر والعصل والجزل‏:‏ العظم يفصل ما عليه من اللحم‏.‏
وقول‏:‏ نعى على قوم شهواتهم أي عابهم بها ووبخهم‏.‏
ومما يصحب به السلطان‏:‏ أن لا يسلم على قادم بين يديه وإنما استن ذلك زياد وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس ولم يكلمه زياد شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال‏:‏ ما حالك أبا المغيرة كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجراً‏!‏ قال‏:‏ لا ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين فقال له ابن عباس‏:‏ ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم‏.‏
فقال له معاوية‏:‏ كف عنه يا بن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت‏.‏
دخل أبو سلم على أبي العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس فقال له‏:‏ يا أبا مسلم هذا أبو جعفر‏!‏ فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك‏.‏
أبو حاتم عن العتبي قال‏:‏ قدم معاوية من الشام وعمرو بن العاص من مصر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقعدهما بين يديه وجعل يسائلهما عن أعمالهما إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية فقال له معاوية‏:‏ أعملي تعيب وإلي تقصد هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك‏.‏
قال عمرو‏:‏ فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك فرفعت يدي فلطمت معاوية‏.‏
فقال عمر‏:‏ تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك قم يا معاوية فاقتص منه‏.‏
قال معاوية‏:‏ إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه‏.‏
فأرسل عمر إلى أبي سفيان فلما أتاه ألقى له وسادة وقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏
ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية‏.‏
فقال‏:‏ لهذا بعثت إلي‏!‏ أخوه وابنه عمه وقد أتى غير كبير وقد وقالوا‏:‏ ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك ولكن يضرب له الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه‏.‏
وقالوا‏:‏ من تعرض للسلطان أرداه ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر وما استهدف لها قصمته‏.‏
قال الشاعر‏:‏ إن الرياح إذا ما عصفت قصفت عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم وقالوا‏:‏ إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما وإذا جعلك عبد فاجعله ربا‏.‏
وقال شبيب بن شيبة‏:‏ ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس‏.‏
وقرأت في كتاب للهند‏:‏ أنه أهدى لملك ثياب وحلى فدعا بامرأتين له وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى وكان وزيره حاضرا فنظرت المرأة إليه كالمستشير له‏.‏
فغمزها باللباس تغضينا بعينه فلحظه الملك فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة وصار اللباس للأخرى‏.‏
فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك وليظن أنها عادة وخلقة‏.‏
اختيار السلطان لأهل عمله لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان قال له‏:‏ أوصيك بثلاثة‏:‏ حاجبك فإنه وجهك الذي به تلقى الناس إن أحسن فأنت المحسن وإن أساء فأنت المسيء وصاحب شرطتك فإنه سوطك وسيفك حيث وضعتهما فقدر ضعتهما‏.‏
عمال القدر‏.‏
قال‏:‏ وما عمال القدر قال أن نختار من كل كورة رجالا لعملك فإن أصابوا فهو الذي أردت وإن أخطأوا فهم المخطئون وأنت المصيب‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطأة‏:‏ أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجوشني فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما فقال له إياس‏:‏ أيها الرجل سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة‏:‏ الحسن البصري وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين وكان إياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به‏.‏
فقال القاسم‏:‏ لا تسأل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي فقال له إياس‏:‏ إنك جئت برجل فوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف‏.‏
قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية دلني على قوم من القراء أولهم فقال له‏:‏ القراء ضربان‏:‏ ضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك وضرب يعملون للدنيا فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم‏.‏
أيوب السختياني قال‏:‏ طلب أبو قلابة لقضاء البصرة فهرب إلى الشام فأقام حينا ثم رجع‏.‏
قال أيوب‏:‏ فقلت له‏:‏ لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران‏.‏
قال‏:‏ يا أيوب إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح‏!‏ وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه‏:‏ دلوني على رجل أستعمله‏.‏
فقال له روح بن زنباع‏:‏ أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم وإن تركتموه لم يأتكم ليس بالملحف طلبا ولا بالممعن هربا‏:‏ عامر الشعبي‏.‏
فولاه قضاء البصرة‏.‏
وسأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أبا مجلز عن رجل يوليه خراسان‏.‏
فقال له‏:‏ ما تقول في فلان قال‏:‏ مصنوع له وليس بصاحبها‏.‏
قال‏:‏ ففلان قال‏:‏ سريع الغضب بعيد الرضا يسأل الكثير ويمنع القليل و يحسد أمه وينافس أباه ويحقر مولاه‏.‏
قال‏:‏ ففلان قال‏:‏ يكافئ الأكفاء ويعادي الأعداء ويفعل ما يشاء‏.‏
قال‏:‏ ما في واحد من هؤلاء خير‏.‏
وأراد عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه أن يستعمل رجلا‏.‏
فبدر الرجل فطلب منه وطلب رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله فقال له‏:‏ إنا لا نستعمل على عملنا من يريده‏.‏
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي ولاية‏.‏
فقال‏:‏ يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها‏.‏
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخالد بن الوليد‏:‏ فر من الشرف يتبعك الشرف واحرص على الموت توهب لك الحياة‏.‏
وتقول النصارى‏:‏ لا يختار للجثلقة إلا زاهد غير طالب لها‏.‏
وقال إياس بن معاوية‏:‏ أرسل إلى إلي عمر بن هبيرة فأتيته فساكتني فسكت فلما أطلت قال‏:‏ هيه‏.‏
قلت‏:‏ سل ما بدا لك‏.‏
قال‏:‏ أتقرأ القرآن قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال أتقرض الفرائض قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أتعرف من أيام العرب شيئاً قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أتعرف من أيام العجم شيئاً قلت‏:‏ أنا بها أعرف‏.‏
قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك على عملي‏.‏
قلت إن خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها لليل‏.‏
قال‏:‏ و ما هي قلت‏:‏ دميم كما ترى وأنا حديد وأنا عي‏.‏
قال‏:‏ أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك وأما الحدة فإن السوط يقومك‏.‏
قم قد وليتك‏.‏
قال‏:‏ فولاني وأعطاني مائة درهم‏.‏
فهي أول مال تمولته‏.‏
وقال الأصمعي‏:‏ ولي سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز رحمه الله ويزيد وهشام‏.‏
وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء فأبى عليه‏.‏
قال له‏:‏ وما يمنعك قال مكحول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه وأنا مولى‏.‏
ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ من يعذرني من أهل الكوفة إن وليت عليهم التقي ضعفوه وإن وليت عليهم القوي فجروه‏.‏
فقال له المغيرة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه‏.‏
والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره‏.‏
قال‏:‏ صدقت فأنت القوي الفاجر فاخرج إليهم‏.‏
فخرج إليهم فلم يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة‏.‏
حسن السياسة وإقامة المملكة كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إني أيقظت رأيي وأنمت هواي فأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره وقلدت الخراج الموفر لأمانته‏.‏
وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً أعطيه حظاً من لطيف عنايتي ونظري‏.‏
وصرفت السيف إلى النطف المسيء والثواب إلى المحسن البريء فخاف المريب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب‏.‏
وقال أردشير لابنه‏:‏ يا بني‏:‏ إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر فالملك أس والعدل حارس‏.‏
والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم والملك ما لم يكن له حارس فضائع‏.‏
يا بني اجعل حديثك مع أهل المراتب وعطيتك لأهل الجهاد وبشرك لأهل الدين وسرك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ مما يجب على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه وفي ضميره لإقامة أمر دينه‏.‏
فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما ولا يدور إلا عليهما مع ترتيب الأمور مراتبها وإنزالها منازلها‏.‏
وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة الرعية ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان‏.‏
وليكن حكمه على غيره مثل حكمه على نفسه‏.‏
وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها‏.‏
ولا يكون أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان لبنيه‏:‏ كلكم يترشح لهذا الأمر ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول ومال مبذول وعدل تطمئن إليه القلوب‏.‏
ووصف بعض الملوك سياسته فقال‏:‏ لم أهزل في وعد ولا وعيد ولا أمر ولا نهي ولا عاقبت للغضب واستكفيت وأثبت على الغناء لا للهوى وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت ووداً لم تشبه جرأة وعممت بالقوت ومنعت الفضول‏.‏
وذكر أعرابي أمير فقال‏:‏ كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه وأرسل العيون على عيونه فهو غائب عنهم شاهد معهم فالمحسن راج والمسيء خائف‏.‏
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف‏.‏
وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه‏:‏ يا أبت ما السياسة قال‏:‏ هيبة الخاصة مع صدق مودتها وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر‏:‏ أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك‏.‏
وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل‏.‏
وقال أردشير لأصحابه‏:‏ إني إنما أملك الأجساد لا النيات وأحكم بالعدل لا بالرضا وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر‏.‏
وكان عمرو بن العاص يقول في معاوية‏:‏ اتقوا أكرم قريش وابن كريمها من يضحك في الغضب ولا ينام إلا على الرضا ويتناول ما فوقه من تحته‏.‏
وقال معاوية‏:‏ إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً‏.‏
فقيل له‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها‏.‏
وقال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها فوقف في قلب عسكره فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل فيبدر إليه من يسده ثم يفعل ذلك بميسرته فتغنيه اللحظة على الإشارة‏.‏
فدخله زهو مما رأى فقال‏:‏ يا ابن العاص كيف ترى هؤلاء وما هم عليه فقلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء‏.‏
فقال‏:‏ أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ في يوم واحد‏.‏
قال‏:‏ فأكثرت التعجب‏.‏
قال‏:‏ إي والله وفي بعض يوم قلت‏:‏ وكيف ذلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ إذا كذبوا في الوعد والوعيد وأعطوا على الهوى لا على الغناء فسد جميع ما ترى‏.‏
وكتب عبد الله بن عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه‏:‏ أن شمر للحرب وجاهد عدوك واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها وخواطرها بأسبابها من الرغبة والرهبة‏.‏
وقال أبرويز لابنه شيرويه‏:‏ لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به منه ولكن أعطهم عطاء قصداً وامنعهم منعاً جميلاً وابسط لهم في الرجاء ولا تبسط لهم في العطاء‏.‏
ونحو هذا قول المنصور لبعض قواده‏:‏ صدق الذي قال‏:‏ أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك‏.‏
فقال له أبو العباس الطوسي‏:‏ أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه وكتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس‏:‏ اعلم أن كلمة منك تسفك دما وأخرى منك تحقن دماً وأن سخطك سيف مسلول على من سخطت عليه وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه وأن نفاذ أمرك مع ظهور كلامك‏.‏
فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ ومن لونك أن يتغير ومن جسدك أن يخف فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً‏.‏
واعلم أنك تجل من الغضب وأن ملكك يصغر عن رضاك فقدر لسخطك من العقاب كما تقدر لرضاك من الثواب‏.‏
وخطب سعيد بن سويد بحمص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً فحائط الإسلام الحق وبابه العدل‏.‏
ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان‏.‏
وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل‏.‏
وقال عبد الله بن الحكم‏:‏ إنه قد يضطغن على السلطان رجلان‏:‏ رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم‏.‏
فينبغي للسلطان أن يحترس منهما‏.‏
وفي كتاب التاج‏:‏ أن أبرويز كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية‏:‏ و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة فرفعته أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته‏.‏
ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب إليه من ثبوته‏.‏
وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه قليلاً تجربته في غيره ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه‏.‏
بسط المعدلة ورد المظالم الشيباني قال‏:‏ حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال‏:‏ إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم فكان آخر من تقدم إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏
فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم‏.‏
فقال لها يحيى‏:‏ وعليك السلام يا أمة الله تكلمي بحاجتك‏.‏
فقالت‏:‏ يا خير منتصف يهدى له الرشد ويا إماماً به قد أشرق البلد تشكو إليك - عميد القوم - أرملة عدى عليها فلم يترك لها سبد وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما وفرق مني الأهل والولد فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول‏:‏ في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني وأقرح مني القلب والكبد هذا أذان صلاة العصر فانصرفي وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد فالمجلس السبت - إن يقض الجلوس لنا ننصفك منه - وإلا المجلس الأحد قال‏:‏ فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏
فقال‏:‏ وعليك السلام ثم قال‏:‏ أين الخصم فقالت‏:‏ الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى العباس ابنه - فقال‏:‏ يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم‏.‏
فجعل كلامها يعلو كلام العباس‏.‏
فقال لها أحمد بن أبي خالد‏:‏ يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك‏.‏
فقال المأمون‏:‏ دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه‏.‏
ثم قضى لها برد ضيعتها إليها وظلم العباس بظلمه لها وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن معاونتها وأمر لها بنفقة‏.‏
العتبي قال‏:‏ إني لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى قعدا بين يديه فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم‏.‏
فقال القاضي شاهديك على الجراية‏.‏
فقال‏:‏ أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه السترة‏!‏ قال‏:‏ لا ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة‏.‏
قال‏:‏ فقام الحرسي فدخل على هشام فأخبره‏.‏
فلم نلبث أن تقعقعت الأبواب وخرج الحرسي وقال‏:‏ هذا أمير المؤمنين‏.‏
وخرج هشام فلما نظر إليه القاضي قام فأشار إليه وبسط له مصلى فقعد عليه وإبراهيم بين يديه‏.‏
وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنا بعضه قال‏:‏ فتكلما وأحضرا البينة فقضى القاضي على هشام بن عبد الملك‏.‏
فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك‏.‏
فقال له هشام‏:‏ هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها لحمك عن عظمك‏.‏
قال‏:‏ أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب الحق‏.‏
فقال هشام‏:‏ يا إبراهيم استرها علي‏.‏
قال‏:‏ لا ستر الله علي إذا ذنبي يوم القيامة إن سترتها‏.‏
قال‏:‏ فإني معطيك عليها مائة ألف‏.‏
قال إبراهيم‏:‏ فسترتها عليه أيام حياته ثمناً لما أخذت منه وأذعتها بعد مماته تزيينا له‏.‏
قال‏:‏ وورد على الحجاج بن يوسف سليك بن سلكة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أرعني سمعك واغضض عني بصرك واكفف عني غربك‏.‏
فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة‏.‏
قال‏:‏ قل‏.‏
فقال‏:‏ عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي وهدم منزلي وحرمت عطائي‏.‏
قال‏:‏ هيهات‏!‏ أو ما سمعت قول الشاعر‏:‏ جانيك من يجني عليك وقد تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا‏.‏
قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين‏.‏
قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ‏"‏‏.‏
قال الحجاج‏:‏ علي بيزيد بن أبي مسلم‏.‏
فمثل بين يديه‏.‏
فقال‏:‏ افكك لهذا عن اسمه واصكك له بعطائه وابن له منزل ومر مناديا ينادي‏:‏ صدق الله وكذب الشاعر‏.‏
وقال معاوية‏:‏ إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله‏.‏
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته‏.‏
فكتب إليه‏:‏ حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم‏.‏
وقال المهدي للربيع بن أبي الجهم وهو والي أرض فارس‏:‏ يا ربيع آثر الحق والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعية واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه وأظلمهم من ظلم الناس لغيره‏.‏
وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال‏:‏ استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز فلما عزله قال له‏:‏ ما جئت به قال له‏:‏ ما معي إلا مائة درهم وأثواب‏.‏
قال‏:‏ كيف ذلك قال‏:‏ أرسلتني إلى بلد أهله رجلان‏:‏ رجل مسلم له ما لي وعليه ما علي ورجل له ذمة الله ورسوله فوالله ما دريت أين أضع يدي‏.‏
قال‏:‏ فأعطاه عشرين ألفاً‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الظلم ظلمات يوم القيامة‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صلاح الرعية بصلاح الإمام
قالت الحكماء‏:‏ الناس تبع لإمامهم في الخير والشر‏.‏
وقال أبو حازم الأعرج‏:‏ الإمام سوق فما نفق عنده جلب إليه‏.‏
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال‏:‏ إن الذي أدى هذا لأمين‏!‏ قال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى فإذا رتعت رتعوا‏.‏
ومن أمثالهم في هذا قولهم‏:‏ إذا صلحت العين صلحت سواقيها‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كان يقال‏:‏ صنفان إذا صلحا صلح الناس‏:‏ الأمراء والفقهاء‏.‏
واطلع مروان بن الحكم على ضيعة له بالغوطة فأنكر شيئاً فقال لوكيله‏:‏ ويحك‏!‏ إن لأظنك تخونني‏.‏
قال‏:‏ أفتظن ذلك ولا تستيقنه قال‏:‏ وتفعله قال‏:‏ نعم والله إني لأخونك وإنك لتخون أمير المؤمنين وإن أمير المؤمنين ليخون الله فلعن الله شر الثلاثة‏.‏
قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه قالت الحكماء لا ينفع الملك إلا بوزرائه وأعوانه ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة ولا تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف‏.‏
ثم على الملوك بعد ذلك ألا يتركوا محسناً ولا مسيئاً ما دون جزاء فإنهم إذا تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وبطل العمل‏.‏
وقال الأحنف بن قيس‏.‏
من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء ومن غص بالماء فلا مساغ له ومن خانه ثقاته فقد أتي من مأمنه‏.‏
وقال العباس بن الأحنف‏:‏ قلبي إلى ما ضرني داعي يكثر أحزاني وأوجاعي كيف احتراسي من عدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي وقال آخر‏:‏ كنت من كربتي أفر إليهم فهم كربتي فأين الفرار وأول من سبق إلى هذا المعنى عدي بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر‏:‏ وقال آخر‏:‏ إلى الماء يسعى من يغص بريقه فقل أين يسعى من يغص بماء وقال عمرو بن العاص‏:‏ لا سلطان إلا بالرجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل‏.‏
وقالوا‏:‏ إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه‏.‏
وقالوا‏:‏ ليس شيء أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن الفعل‏.‏
و لا خير في القول إلا مع الفعل ولا في المال إلا مع الجود ولا في الصدق إلا مع الوفاء ولا في الفقه إلا مع الورع ولا في الصدقة إلا مع حسن النية ولا في الحياة إلا مع الصحة‏.‏
وقالوا‏:‏ إن السلطان إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سواء امتنع خيره من الناس ولم ينتفع منه بمنفعة وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح فلا يستطيع أحد أن يدخله وإن كان محتاجا إليه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صفة الإمام العادل
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن رحمه الله‏:‏ اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع ويكنها من أذى الحر والقر‏.‏
والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته‏.‏
والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلاً تسهر بسهره وتسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته‏.‏
والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم‏.‏
والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم‏.‏
فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله عز وجل كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله‏.‏
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها‏!‏ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم‏!‏ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر‏.‏
واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك يسلمونك في قعره فريداً وحيداً‏.‏
فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه‏.‏
وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين ‏"‏ إذا بعثر ما في القبور‏.‏
وحصل ما في الصدور ‏"‏ فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها‏.‏
فالآن يا أمير المؤمنين وأنت مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل‏.‏
لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فتبوء بأوزارك مع أوزارك وتحمل أثقالك مع أثقالك‏.‏
ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك‏.‏
و لا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم‏.‏
إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي من قبلي فلم آلك شفقة ونصحاً فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة‏.‏
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏
هيبة الإمام في تواضعه قال ابن السماك لعيسى بن موسى‏:‏ تواضعك في شرفك أكبر من شرفك‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان‏:‏ إن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة وزهد عن قدرة وأنصف عن قوة‏.‏
و ذكر عن النجاشي أمير الحبشة‏:‏ أنه أصبح يوما جالساً على الأرض والتاج على رأسه فأعظم ذلك أساقفته فقال لهم‏:‏ إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام يقول له‏:‏ ‏"‏ إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لها أتممتها عليه ‏"‏‏.‏
وإنى ولد لي الليلة غلام فتواضعت لذلك شكراً لله تعالى‏.‏
وقال ابن قتيبة‏:‏ لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قوال الشاعر في بعض خلفاء بني أمية‏:‏ يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم وأحسن منه عندي قول الآخر‏.‏
وقال أبو العتاهية‏:‏ يا من تشرف بالدنيا وطينتها ليس التشرف رفع الطين بالطين إذا أردت شريف الناس كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي عظمت في الله نعمته وذاك يصلح للدنيا وللدين وقال الحسن بن هانئ في هيبة السلطان مع محبة الرعية‏:‏ إمام عليه هيبة ومحبة ألا حبذا ذاك المهيب المحبب وقال آخر في الهيبة وإن لم تكن في طريق السلطان‏:‏ بنفس من لو مر برد بنانه على كبدي كانت شفاء أنامله ومن هابني في كل شيء وهبته فلا هو يعطيني ولا أنا سائله ولابن هرمة في المنصور‏:‏ له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل كريم له وجهان وجه لدى الرضا أسيل ووجه في الكريهة باسل فأم الذي آمنت آمنة الردى وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل وليس بمعطى العفو من غير قدرة ويعفو إذا ما مكنته المقاتل أهاشم يا فتى دين ودنيا ومن هوى في اللباب من اللباب أهابك أن أبوح بذات نفسي وتركي للعتاب من العتاب وقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان‏:‏ منعت مهابتك النفوس حديثها بالشيء تكرهه وإن لم تعلم ومن الولاة مفخم لا يتقى والسيف تقطر شفرتاه من الدم وقال أيضا لهارون الرشيد‏:‏ وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلام فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلام وقال الحسن بن هانئ في الهيبة فأفرط‏:‏ ملك تصور في القلوب مثاله فكأنه لم يخل منه مكان ما تنطوي عنه القلوب بفجرة إلا يكلمه بها اللحظان حتى الذي في الرحم لم يك صورة لفؤاده من خوفه خفقان فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئاً وأحبه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه فالنطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة‏.‏
قال ألا ترثي لمكتئب يحبك لحمه ودمه ألا ترثي لمكتئب يحبك لحمه ودمه وقال المكفوف في آل محمد عليه السلام‏:‏ أحبكم حباً على الله أجره تضمنه الأحشاء واللحم والدم وفي مثل هذا قول الحسن بن هانئ‏:‏ وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق فإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم على المجاز الذي ذكرناه‏.‏
ومجاز آخر‏:‏ أن النطف التي أخذ الله عليها ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله كما جاء في الأثر‏:‏ إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته فقال‏:‏ هؤلاء أهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون وهؤلاء أهل النار وبعمل أهل النار يعملون‏.‏
ومن قولنا في الهيبة‏:‏ يا من يجرد من بصيرته تحت الحوادث صارم العزم رعت العدو فما مثلت له إلا تفزع منك في الحلم أضحى لك التدبير مطرداً مثل اطراد الفعل للاسم رفع الحسود إليك ناظره فرآك مطلعاً مع النجم تسمو العيون إلى إمام عادل معطى المهابة نافع ضرار ونرى عليه إذا العيون لمحنه سيما الحليم وهيبة الجبار حسن السيرة والرفق بالرعية قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أوصاه به من الرفق بالرعية‏:‏ ‏"‏ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ‏"‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير كله ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير كله‏.‏
ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما‏:‏ أشيرا علي‏.‏
فقال له سالم‏:‏ اجعل الناس أباً وأخاً وابناً فبر أباك واحفظ أخاك وارحم ابنك‏.‏
وقال له محمد بن كعب‏:‏ أحبب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك واعلم أنك لست أول خليفة‏.‏
وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر‏:‏ يا أبت ما لك لا تنفذ في الأمور فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور‏.‏
فقال له عمر‏:‏ لا تعجل يا بني فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه وتكون فتنة‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أما بعد فإن أمكنتك القدرة على المخلوق وقال المنصور لولده عبد الله المهدي‏:‏ لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآة تريه حسناته وسيآته‏.‏
واعلم أن الخليفة لا تصلحه إلا التقوى والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل‏.‏
وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وانقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه‏.‏
وقال خالد بن عبد الله القسري لبلال بن أبي بردة‏:‏ لا يحملنك فضل المقدرة على شدة السطوة ولا تطلب من رعيتك إلا ما تبذله لها فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏.‏
وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي‏:‏ ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى دين يحجزه وحياء يكفه وعقل يعقله وإلى تجربة طويلة وعين حفيظة وأعراق تسري إليه وأخلاق تسهل الأمور عليه وإلى جليس شفيق وصاحب رفيق وإلى عين تبصر العواقب وقلب يخاف الغير‏.‏
ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان ولم يتعاظم ذنباً وإن عظم ولا ثناء وإن سمح‏.‏
وكتب أردشير إلى رعيته‏:‏ من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين والأساورة الذين هم حفظة البيضة والكتاب الذين هم زينة المملكة وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد‏:‏ السلام عليكم فإنا بحمد الله إليكم سالمون‏.‏
فقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها ونحن مع ذلك كاتبون بوصية فاحفظوها‏:‏ لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو ولا تحتكروا فيشملكم القحط وتزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تبقي على أحد ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها‏.‏
ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر وقال له حين ودعه‏:‏ أرسل حكيماً ولا توصه‏.‏
أي بني انظر إلى عمالك فإن كان لهم عندكم حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم‏.‏
وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق‏.‏
واستشير جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى‏.‏
وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة‏.‏
ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك ثم اعرف منازلهم منك على غير استرسال ولا انقباض‏.‏
أقول هذا واستخلف الله عليك‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي قال‏:‏ قال زياد‏:‏ ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة استعملت رجلاً فكسر خراجه فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه‏.‏
فكتبت إليه‏:‏ إن هذا أدب سوأ من قبلي‏.‏
فكتب إلي‏:‏ إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية ولا نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك ولكن تكون أنت للشدة والغلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة‏.‏
ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم قالت الحكماء‏:‏ أحزم الملوك من قهر جده هزله وغلب رأيه هواه وجعل له الفكر صاحباً يحسن له العواقب وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه ولا غضبه عن كيده‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد وكان ولي عهده‏:‏ يا بني اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان‏.‏
وقالوا‏:‏ لا ينبغي للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع الكبير فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء اليسير ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار‏.‏
وقالوا‏:‏ لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث‏:‏ كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً أو لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا تفريطا‏.‏
ومن كتاب للهند‏:‏ خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف لا من أشبه الجيف حولها النسور‏.‏
وقيل لملك سلب ملكه‏:‏ ما الذي سلبك ملكك فقال‏:‏ دفع شغل اليوم إلى غد والتماس عدة بتضييع عدد واستكفاء كل مخدوع عن عقله‏.‏
والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه أو أثيب ثواباً لا يستوجبه‏.‏
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين‏.‏
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء‏.‏
كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت‏:‏ كان والله أحوزياً نسيج وحده وقد أعد للأمور أقرانها‏.‏
وقال المغيرة بن شعبة‏:‏ ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر كان والله له فضل يمنعه أن يخدع وعقل يمنعه أن يخدع‏.‏
وقال عمر‏:‏ لست بخب والخب لا يخدعني‏.‏
ومر عمر رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وجص فقال‏:‏ لمن هذا قيل‏:‏ لعاملك على البحرين‏.‏
فقال‏:‏ أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها‏.‏
فأرسل فشاطره ماله‏.‏
وكان سعد بن أبي وقاص يقال له‏:‏ المستجاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اتقوا دعوة سعد‏.‏
فلما شاطره عمر ماله قال له سعد‏:‏ لقد هممت‏.‏
قال له عمر‏:‏ بأن تدعو علي قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا‏.‏
وهجا رجل الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية فقال‏:‏ ألم تر أن الله اظهر دينه وسعد بباب القادسية معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم فقال سعد‏:‏ اللهم اكفني يده ولسانه فقطعت يده وبكم لسانه‏.‏
ولما عزل عمر أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله دعا أبا موسى فقال له‏:‏ ما جاريتان بلغني أنهما عندك إحداهما عقيلة والأخرى من بنات الملوك قال‏:‏ أما عقيلة فإنها جارية بيني وبين الناس وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء‏.‏
قال‏:‏ فما جفنتان تعملان عندك قال‏:‏ رزقتني شاة في كل يوم فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية‏.‏
قال‏:‏ فما مكيالان بلغني أنهما عندك قال‏:‏ أما أحدهما فأوفي به أهلي وديني‏.‏
وأما الآخر فيتعامل الناس به‏.‏
فقال‏:‏ ادفع إلينا عقيلة والله إنك لمؤمن لا تغل أو فاجر مبل أرجع إلى عملك عاقصاً بقرنك مكتسعاً بذنبك‏.‏
والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك‏.‏
ثم دعا أبا هريرة فقال له‏:‏ هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار قال‏:‏ كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت‏.‏
قال‏:‏ قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده‏.‏
قال‏:‏ ليس لك ذلك‏.‏
قال بلى والله وأوجع ظهرك‏.‏
ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه ثم قال‏:‏ إيت بها‏.‏
قال‏:‏ احتسبتها عند الله‏.‏
قال‏:‏ ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً‏.‏
أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين‏!‏ ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر‏.‏
وأميمة أم أبي هريرة‏.‏
وفي حديث أبي هريرة قال‏:‏ لما عزلني عمر عن البحرين قال لي‏:‏ يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله قال‏:‏ فقلت‏:‏ ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو من عاداهما ما سرقت مال الله‏.‏
قال‏:‏ فمن أين لك عشرة آلاف قلت‏:‏ خيل تناتجت وعطايا تلاحقت وسهام تتابعت‏.‏
قال‏:‏ فقبضها مني‏.‏
فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين‏.‏
فقال لي بعد ذلك‏:‏ ألا تعمل قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه‏.‏
قلت‏:‏ قال‏:‏ ثم دعا الحارث بن كعب بن وهب فقال‏:‏ ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار قال‏:‏ خرجت بنفقة معي فتجرت فيها‏.‏
فقال‏:‏ أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين‏!‏ أدها‏.‏
فقال‏:‏ أما والله لا عملت عملاً بعدها أبداً‏.‏
قال‏:‏ انتظر حتى استعملك‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وكان عامله على مصر‏:‏ من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد‏.‏
وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه‏.‏
فكتب إليه‏:‏ من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين‏.‏
سلام عليك‏.‏
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد‏.‏
فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي‏.‏
وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله وليس في رزق أمير المؤمنين سعة‏.‏
وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك فأقصر أيها الرجل فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك إن رجعنا إليها عشنا بها‏.‏
ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له‏.‏
وذكرت أن عنك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك ولم نشركك في عملك‏.‏
فكتب إليه عمر‏:‏ أما بعد فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك الكلام في غير مرجع‏!‏ وما يغني عنك أن تزكي نفسك وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك‏.‏
فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر تجمعون لأبنائكم وتمهدون لأنفسكم‏.‏
أما تجمعون العار وتورثون النار والسلام‏.‏
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً‏.‏
فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً‏.‏
فقال له عمر‏:‏ أتحرمون طعامنا فقال‏:‏ لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر‏.‏
والله لا أشرب عندك الماء فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه‏.‏
فشاطره ماله بأجمعه حتى بقيت نعلاه‏.‏
فأخذ إحداهما وترك الأخرى‏.‏
فغضب عمرو بن العاص فقال‏:‏ يا محمد بن مسلمة قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل‏.‏
والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوراً بالذهب والفضة‏.‏
قال له محمد ابن مسلمة‏:‏ اسكت والله عمر خير منك وأما أبوك وأبوه ففي النار‏.‏
والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها‏.‏
فقال عمرو‏:‏ هي عندك بأمانة الله‏.‏
فلم يخبر بها عمر‏.‏
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على الشام بمال وأدهم وكتب إلى أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر - يعني بالأدهم القيد - وكتب إلى عمر يقول‏:‏ إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى المسلمين مقيدين بقيود حديد أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين - وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ أو لجدل الأداهم - فخرج الرسول حتى قدم على سفيان بالمال والأدهم قال‏:‏ فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه‏.‏
فلما قرأ عمر الكتاب قال له‏:‏ فأين المال يا أبا سفيان قال‏:‏ كان علينا دين ومعونة ولنا في بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئاً قاصصتنا به‏.‏
فقال عمر‏:‏ اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال‏.‏
قال‏:‏ فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال‏.‏
فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم‏.‏
فلما قدم الرسول على معاوية قال له‏:‏ رأيت أمير المؤمنين اعجب بالأدهم قال‏:‏ نعم وطرح فيه أباك‏.‏
قال‏:‏ ولم قال جاءه بالأدهم وحبس المال قال‏:‏ إي والله والخطاب لو كان لطرحه فيه‏.‏
زار أبو سفيان معاوية بالشام فلما رجع من عنده دخل على عمر‏.‏
فقال‏:‏ أجزنا أبا سفيان‏.‏
قال‏:‏ ما أصبنا شيئاً فنجيزك منه‏.‏
فأخذ عمر خاتمه فبعث به إلى هند وقال للرسول‏:‏ قل لها‏:‏ يقول لك أبو سفيان‏:‏ انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما‏.‏
فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم‏.‏
فطرحهما عمر في بيت المال‏.‏
فلما ولي عثمان ردهماً عليه‏.‏
فقال أبو سفيان‏:‏ ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر‏.‏
ولما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله تلقاه في بعض الطريق فوجد معه ثلاثين ألفاً فقال‏:‏ أنى لك هذا قال‏:‏ والله ما هو لك ولا للمسلمين ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها‏.‏
فقال عمر‏:‏ عاملنا وجدنا معه مالاً ما سبيله إلا بيت المال ورفعه‏.‏
فلما ولى عثمان قال لعتبة‏:‏ هل لك في هذا المال فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجهاً قال‏:‏ والله إن بنا إليه لحاجة ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك‏.‏
القحذمي قال‏:‏ ضرب عمر رجلاً بالدرة فنادى‏:‏ يا لقصي‏.‏
فقال أبو سفيان‏:‏ يا بن أخي لو قبل اليوم تنادي قصياً لأتتك منها الغطاريف‏.‏
فقال له عمر‏:‏ اسكت لا أبالك‏.‏
قال أبو سفيان‏:‏ ها ووضع سبابته على فيه‏.‏
خليفة بن خياط قال‏:‏ كتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص - وإنما قيل له الناقص لفرط كماله - إلى مروان بن محمد - وبلغه عنه تلكؤ في بيعته -‏:‏ أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام‏.‏
فأتته بيعته‏.‏
ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزجته إلى الصحارى كتب إليهم أبو غسان‏:‏ إلى بني الأستاه من أهل مرو ليمسيني الماء أو لتصبحنكم الخيل‏.‏
فما أمسى حتى أتاه الماء‏.‏
فقال‏:‏ الصدق ينبئ عنك لا الوعيد‏.‏
وكتب عبد الله بن طاهر الخراساني إلى الحسن بن عمر التغلبي‏:‏ أما بعد فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ فلا الطريق تحمي ولا اللصوص تكفي ولا الرعية ترضي وتطمع بعد هذا في الزيادة‏!‏ إنك لمنفسح الأمل‏!‏ وأيم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجهن إليك رجالا لا تعرف مرة من جهم ولا عدي من رهم ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم واليه بخراسان‏:‏ أما بعد فإن وكيع بن حسان كان بالبصرة منه ما كان ثم صار لصاً بسجستان ثم صار إلى خراسان فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه‏.‏
وكان على شرطة قتيبة فعزله وولى الضبي عم مسعود بن الخطاب‏.‏
وبلغ الحجاج أن قوماً من الأعراب يفسدون الطريق فكتب إليهم‏:‏ أما بعد فإنكم قد استخفتكم الفتنة فلا عن حق تقاتلون ولا عن منكر تنهون وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد وتدع النساء أيامى والأبناء يتامى والديار خراباً‏.‏
فلما أتاهم كتابه كفوا عن الطريق‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:21 AM

التعرض للسلطان والرد عليه
قالت الحكماء‏:‏ من تعرض للسلطان أرداه ومن تطامن له تخطاه وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان له من الشجر ومال معها من الحشيش وما استهدف لها من الدواح العظام قصفته‏.‏
قال الشاعر‏:‏ إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم وقال حبيب بن أوس - وهو أحسن مل قيل في السلطان -‏:‏ هو السيل إن واجهته انقدت طوعه وتقتاده من جانبيه فيتبع وقال آخر‏:‏ هو السيف إن لاينته لان متنه وحداه إن خاشنته خشنان وقال معاوية لأبي الجهم العدوي‏:‏ أنا أكبر أم أنت فقال‏:‏ لقد أكلت في عرس أمك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ عند أي أزواجها قال‏:‏ عند حفص ابن المغيرة‏.‏
قال‏:‏ يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب العصبي ويأخذ أخذ الأسد‏.‏
وأبو الجهم هذا هو القائل في معاوية بن أبي سفيان‏:‏ نميل على جوانبه كأنا نميل إذا نميل على أبينا وقدم عقيبة الأسدي على معاوية ورفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد أكلتم أرضنا فجردتمونا فهل من قائم أو من حصيد أتطمع بالخلود إذا هلكنا وليس لنا ولا لك من خلود فهبنا أمة هلكت ضياعا يزيد أميرها وأبو يزيد فدعا به معاوية فقال‏:‏ ما جرأك علي قال‏:‏ نصحتك إذ غشوك وصدقتك إذ كذبوك‏.‏
فقال‏:‏ ما أظنك إلا صادقاً وقضى حوائجه‏.‏
ومن حديث زياد عن مالك بن أنس قال‏:‏ خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس اتقوا الله‏.‏
فقام إليه رجل من عرض الناس فقال‏:‏ أذكرك الله الذي ذكرتنا به يا أمير المؤمنين‏.‏
فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا روية‏:‏ سمعاً وطاعة لمن ذكر بالله وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأما أنت فوالله ما الله أردت بها ولكن ليقال‏:‏ قال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت وأنا أحذركم أيها الناس أختها فإن الموعظة علينا نزلت ومنا أخذت‏.‏
ثم رجع إلى موضعه من وقام رجل إلى هارون الرشيد وهو يخطب بمكة فقال‏:‏ ‏"‏ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏"‏‏.‏
فأمر به فضرب مائة سوط‏.‏
فكان يئن الليل كله ويقول‏:‏ الموت‏!‏ الموت‏!‏ فأخبر هارون الرشيد أنه رجل صالح فأرسل إليه فاستحله فأحله‏.‏
المدائني قال‏:‏ جلس الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرت الشمس فقام إليه رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الوقت لا ينتظرك وإن الرب لا يعذرك‏.‏
قال صدقت‏:‏ ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك‏.‏
من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ خاطر رجل رجلاً أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع يده على كفله ويقول‏:‏ سبحان الله يا أمير المؤمنين‏!‏ ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمك هند‏!‏ ففعل ذلك‏.‏
فلما انفتل معاوية عن صلاته قال‏:‏ لا يا بن أخي إن أبا سفيان كان إلى ذلك منها أميل فخذ ما جعلوا لك فأخذه‏.‏
ثم خاطر أيضاً أن يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له‏:‏ أيها أمير من أبوك ففعل‏.‏
فقال له زياد‏:‏ هذا يخبرك وأشار إلى صاحب الشرطة فقدمه فضرب عنقه‏.‏
فلما بلغ معاوية قال‏:‏ ما قتله غيري ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية‏.‏
وخاطر رجل إلى أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول‏:‏ أيها الأمير من أمك ففعل‏.‏
فقال له‏:‏ النابغة بنت عبد الله أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كانوا جعلوا شيئاً فخذه‏.‏
دخل خريم الناعم على معاوية بن أبي سفيان فنظر معاوية إلى ساقيه فقال‏:‏ أي ساقين لو أنهما على جارية‏!‏ فقال له خريم‏:‏ في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ واحدة بأخرى والبادئ أظلم‏.‏

تحلم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه
زياد عن مالك بن أنس قال‏:‏ بعث أبو جعفر المنصور إلي وإلى ابن طاوس فأتيناه فدخلنا عليه فإذا هو جالس على فرش قد نضدت وبين يديه أنطاع قد بسطت وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق‏.‏
فأموا إلينا‏:‏ أن اجلسا‏.‏
فجلسنا‏.‏
فأطرق عنا طويلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له‏:‏ حدثني عن أبيك‏.‏
قال‏:‏ نعم سمعت أبي يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله‏.‏
فأمسك ساعة‏.‏
قال مالك‏:‏ فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه‏.‏
ثم التفت إليه أبو جعفر فقال‏:‏ عظني يا ابن طاوس‏.‏
قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏.‏
إرم ذات العماد‏.‏
التي لم يخلق مثلها في البلاد‏.‏
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد‏.‏
وفرعون ذي الأوتاد‏.‏
الذين طغوا في البلاد‏.‏
فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ‏"‏‏.‏
قال مالك‏:‏ فضممت ثيابي مخافة أن يملأ ثيابي من دمه‏.‏
فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه‏.‏
ثم قال‏:‏ يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة‏.‏
فأمسك عنه ثم قال‏:‏ ناولني هذه الدواة‏:‏ فأمسك عنه‏.‏
فأمسك عنه‏.‏
فقال‏:‏ ما يمنعك أن تناولنيها قال‏:‏ أخشى أن تكتب بها معصية الله فأكون شريكك فيها‏.‏
فلما سمع ذلك قال‏:‏ قوماً عني قال ابن طاوس‏:‏ ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم‏.‏
قال مالك‏:‏ فما زلت أعرف لا بن طاوس فضله‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة فقال له‏:‏ أتظل عن ابنة فلان تروحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر‏!‏ لقد هممت أن أفعل وأفعل ثم قال‏:‏ اسمعوا من أميركم‏.‏
فرج بن سلام بن أبي حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ حدثني رجل من أهل المدينة كان ينزل بشق سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو بنظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من قريش فقالوا لأبي جعفر‏:‏ اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب‏.‏
فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب‏:‏ ما تقول في بني فلان قال أشرار من أهل بيت أشرار‏.‏
قالوا‏:‏ اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد وكان عامله على المدينة - قال‏:‏ ما تقول في الحسن بن زيد قال‏:‏ يأخذ بالإحنة ويقضي بالهوى‏.‏
فقال الحسن‏:‏ يا أمير المؤمنين والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر‏.‏
قال‏:‏ ما تقول في قال‏:‏ اعفني‏.‏
قال‏:‏ لا بد أن تقول‏.‏
قال‏:‏ لا تعدل في الرعية ولا تقسم بالسوية‏.‏
قال‏:‏ فتغير وجه أي جعفر‏.‏
فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل‏:‏ طهرني بدمه يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ اقعد يا بني فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور‏.‏
قال‏:‏ ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعنا مما نحن فيه بلغني أن لك ابنا صالحاً بالعراق يعني المهدي‏.‏
قال‏:‏ أما إنك قلت ذلك إنه الصوام القوام البعيد ما بين الطرفين‏.‏
قال ثم قام ابن أبي ذئب فخرج‏.‏
فقال أبو جعفر‏:‏ أما والله ما هو بمستوثق العقل ولقد قال بذات نفسه‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ ابن أبي ذئب من بني عامر بن لؤي من أنفسهم‏.‏
قال‏:‏ ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال‏:‏ أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد - وذكر قوله فلم يعجب المأمون - فقال‏:‏ لقد تيست فيها وتيس مالك‏.‏
قال الحارث بن مسكين‏:‏ فالسامع يا أمير المؤمنين من التيسين أتيس‏.‏
فتغير وجه المأمون‏.‏
وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندم على ما كان من قوله‏.‏
فلم يستقر منزله حتى أتاه رسول المأمون فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه ثم أقبل حتى دخل عليه فقربه المأمون من نفسه ثم أقبل عليه بوجهه فقال له‏:‏ يا هذا إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني فقال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم إذ أرسله إلى فرعون‏:‏ ‏"‏ فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى ‏"‏‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أبوء بالذنب وأستغفر الرب‏.‏
قال‏:‏ عفا الله عنك انصرف إذا شئت‏.‏
وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثوري فلما دخل عليه قال‏:‏ عظني أبا عبد الله قال‏:‏ وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت فأعظك فيما جهلت فما وجد له المنصور جواباً‏.‏
ودخل أبو النضر سالم مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له‏:‏ أبا النضر إنا تأتين كتب من عند الخليفة فيها وفيها ولا نجد بداً من إنفاذها فما ترى قال له أبو النضر‏:‏ قد أتاك كتاب الله تعالى قبل كتاب الخليفة فأيهما اتبعت كنت من أهله‏.‏
ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي‏:‏ أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري وكان على الصائفة‏:‏ إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة واقسم ما سوى ذلك‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً‏.‏
ثم نادى في الناس فقسم فيهم ما اجتمع له من الفيء‏.‏
ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له‏:‏ ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها فإن أنفذتها وافقت سخط الله وإن لم أنفذها خشيت على دمي فقال له الحسن‏:‏ هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز‏.‏
فرقق له الشعبي وقال له‏:‏ قارب وسدد فإنما أنت عبد مأمور‏.‏
ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال‏:‏ ما تقول يا أبا سعيد فقال الحسن‏:‏ يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله‏.‏
يا ابن هبيرة إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله‏.‏
يا ابن هبيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه وما خالف كتاب الله فلا تنفذه فإن الله أولى بك من يزيد وكتاب الله أولى بك من كتابه‏.‏
فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال‏:‏ هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة‏.‏
وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم وأمر للشعبي بألفين‏.‏
فقال الشعبي‏:‏ رققنا فرفق لنا‏.‏
ونظير هذا قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد فسكت عنه‏.‏
فقال‏:‏ ما لك لا تقول فقال‏:‏ إن صدقناك أسخطناك وإن كذبناك أسخطنا الله فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله‏.‏
فقال له‏:‏ صدقت‏.‏
وكتب أبو الدرداء إلى معاوية أما بعد‏:‏ فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس‏.‏
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية‏:‏ أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذاماً له والسلام‏.‏
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ خرج الزهري يوماً من عند هشام فقال‏:‏ ما رأيت مثل أربع كلمات تكلم به اليوم إنسان عند هشام‏.‏
قيل له‏:‏ و ما هن قال‏:‏ دخل رجل على هشام فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك فقال هاتهن‏.‏
فقال‏:‏ لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها‏.‏
قال‏:‏ هذه واحدة فهات الثانية‏.‏
قال‏:‏ لا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً‏.‏
قال‏:‏ هات الثالثة‏.‏
قال‏:‏ إن للأعمال جزاء فاتق العواقب‏.‏
قال هات الرابعة‏.‏
قال‏:‏ واعلم أن للأمور بغتات فكن على حذر‏.‏
قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم فالتفت إلى المغيرة فقال له‏:‏ هذا رجل فاستوص به خيراً‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بي أبي ربيعة‏:‏ ما كان يقول الكذاب في كذا وكذا - يعني ابن الزبير - فقال‏:‏ ما كان كذاباً‏.‏
فقال له يحيى بن الحكم‏:‏ من أمك يا حار قال‏:‏ هي التي تعلم‏.‏
قال له عبد الملك‏:‏ اسكت فهي أنجب من أمك‏.‏
دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال له‏:‏ ما حديث يحدثنا به أهل الشام قال‏:‏ يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات‏.‏
قال‏:‏ باطل يا أمير المؤمنين أنبي خليفة أكرم على الله أم خليعة غير نبي قل‏:‏ بل نبي خليفة‏.‏
قال‏:‏ فإن الله تعالى يقول لنبيه داور عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله‏.‏
إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ‏"‏‏.‏
فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي قال‏:‏ إن الناس ليغووننا عن ديننا‏.‏
الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال‏:‏ قلت للوليد بن عبد الملك‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي‏.‏
فقال‏:‏ كذبت‏.‏
فقلت‏:‏ أو المشورة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ندم من استشار ولا خاب من استخار‏.‏
وقدر أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي والحزم فقال‏:‏ ‏"‏ وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ‏"‏‏.‏
ولما هممت ثقيف بالارتداد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا عثمان بن أبي العاص وكان مطاعاً فيهم فقال لهم‏:‏ لا تكونوا آخر العرب إسلاماً وأولهم ارتداداً‏.‏
فنفعهم الله برأيه‏.‏
وسئل بعض الحكماء‏:‏ أي الأمور أشد تأييداً للفتى وأيتها أشد إضراراً به فقال‏:‏ أشدها تأييداً له ثلاثة‏:‏ مشاورة العلماء وتجربة الأمور وحسن التثبت‏.‏
وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء‏:‏ الاستبداد والتهاون والعجلة‏.‏
وأشار حكيم على حكيم برأي فقبله منه‏.‏
فقال له‏:‏ لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمره وسهله بوعره ويحرك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره‏.‏
وقد وعيت النصح وقبلته إذ كان مصدره من عند من لا يشك في مودته وصفاء غيبه ونصح جيبه وما وكان عبد الله بن وهب الراسي يقول‏:‏ إياكم والرأي الفطير‏.‏
وكان يستعيذ بالله من الرأي الدبري‏.‏
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول‏:‏ رأي الشيخ خير من مشهد الغلام‏.‏
وأوصى ابن هبيرة ولده فقال‏:‏ لا تكن أول مشير وإياك والهوى والرأي الفطير ولا تشيرن على مستبد ولا على وغد ولا على متلون ولا لجوج وخف الله في موافقة هوى المستشير‏.‏
فإن النماس موافقته لؤم وسوء الاستماع منه خيانة‏.‏
وكان عامر بن الظرب حاكم العرب يقول‏:‏ دعوا الرأي يغب حتى يختمر وإياكم والرأي الفطير‏.‏
يريد الأناة في الرأي والتثبت فيه‏.‏
ومن أمثالهم في هذا قولهم‏:‏ لا رأي لمن لا يطاع‏.‏
وكان المهلب يقول‏:‏ إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره‏.‏
العتبي‏:‏ قال‏:‏ قيل لرجل من عبس‏:‏ ما أكثر صوابكم‏!‏ قال نحن ألف رجل وفينا حازم واحد فنحن نشاوره فكأنا ألف حازم‏.‏
قال الشاعر‏:‏ الرأي كالليل مسود جوانبه والليل لا ينجلي إلا بإصباح فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح العتبي قال‏:‏ أخبرني من رأى عبد الله بن عبد الأعلى وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده‏.‏
قال‏:‏ ثم رأيته وإنه ليتقى كما يتقى البعير الأجرب فقال لي‏:‏ يا أخا العراق اتهمنا القوم في سريرتنا ولم يقبلوا منا علانيتنا ومن ورائهم وورائنا حكم عدل‏.‏
ومن أحسن ما قيل فيمن أشير عليه فلم يقبل قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بهم‏:‏ يا بني حنيفة بعدا لكم كما بعدت عاد وثمود‏.‏
أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه كأني أسمع جرسه وأبصر غيبه ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة وإني لما رأيتكم تتهمون النصيح وتسفهون الحليم استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء‏.‏
والله ما منعكم الله التوبة ولا أخذكم على غرة ولقد أمهلكم حتى مل الواعظ ووهن الموعوظ‏.‏
وكنتم كأنما يعنى بما أتم فيه غيركم فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق‏.‏
ومن نصيحتي الندامة وأصبح في يدي من هلاككم البكاء ومن ذلكم الجزع وأصبح ما فات غير مردود وما بقي غير مأمون‏.‏
وقال القطامي في هذا المعنى‏:‏ ومعصية الشفيق عليك مما تزيدك مرة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا كذاك وما رأيت الناس إلا إلى ما جر غاويهم سراعا وكان يقال‏:‏ لا تستشر معلماً ولا حائكاً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء‏.‏
وأنشد في المعلمين‏:‏ وكيف يرجى العقل والرأي عند من يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل وكان يقال‏:‏ لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها‏.‏
وكان يقال‏:‏ لا رأي لحاقن ولا حازق وهو الذي ضغطه الخف ولا لحاقب وهو الذي يحد رزا في بطنه‏.‏
وينشد في الرأي بعد فوته‏:‏ وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ فلئن سمعت نصيحتي وعصيتها ما كنت أول ناصح معصي وقال حبيب في بني تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم‏:‏ لم يألكم مالك صفحاً ومغفرةً ولو ينفخ قين الحي في فحم

حفظ الأسرار
وقالوا‏:‏ سرك من دمك فانظر أين تريقه‏.‏
يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك‏.‏
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ ولا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجا ل لا يتركون أديماً صحيحا وقالت الحكماء‏:‏ ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه حتى أفشاه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق قيل لأعرابي‏:‏ كيف كتمانك للسر أجحد المخبر وأحلف للمستخبر‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ كيف كتمانك للسر قال‏:‏ ما قلبي له إلا قبر‏.‏
وقال المأمون‏:‏ الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء‏:‏ القدح في الملوك وإفشاء السر والتعرض للحرم‏.‏
وقال الوليد بن عتبة لأبيه‏:‏ إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك أفلا أحدثك به قال‏:‏ لا يا بني إنه من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه فلا تكن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً‏.‏
وفي كتاب التاج‏.‏
أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما‏:‏ لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحد إلا خالياً به فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض‏.‏
فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشائه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة لأن الواحد رهن بما أفشي والثاني مطلق عنه بذلك الرهن والثالث علاوة فيه فإذا كان السر عند واجد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة وإن كان اثنين دخلت على الملك الشبهة‏.‏
واتسعت على الرجلين المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه‏.‏
ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏ فقالت وأرخت جانب الستر إنما معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها ما بي لهم من ترقب ولكن سرى ليس يحمله مثلي وقال أبو محجن الثقفي‏:‏ قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق وقال الحطيئة يهجو‏:‏ أغربالاً إذا استودعت سراً وكانونا على المتحدثينا الإذن قال زياد لحاجبه عجلان‏:‏ كيف تأذن للناس قال‏:‏ على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الآداب‏.‏
قال فمن تؤخر قال‏:‏ من لا يعبأ الله بهم‏.‏
قال‏:‏ ومن هم قال‏:‏ الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء‏.‏
وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً فقيل له‏:‏ إنك لتباعد من الآذن جهدك‏.‏
قال‏:‏ لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب ثم قال‏:‏ وإن مسيري في البلاد ومنزلي هو المنزل الأقصى إذا لم أقرب ولست وإن أدنيت يوماً ببائع خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب وقد عده قوم تجارة رابح ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي وقال آخر‏:‏ ونحن جلوس ساكنون رزانة وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية فأذن للأحنف ثم أذن لابن الأشعث فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله‏.‏
فلما رآه معاوية غمه ذلك وأحنقه فالتفت إليه فقال‏:‏ والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله‏.‏
وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه‏.‏
وقال هشام الرقاشي‏:‏ أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام قدمت قبلي رجالاً ما يكون لهم في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى لو عد قوم وقوم كنت أقربهم قربى وأبعدهم من منزل الذام حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب قصرك أدلوها بأقوام قيل لمعاوية‏:‏ إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس‏.‏
قال‏:‏ وما عليه إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والسبع الهصور والجمل الصؤول فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين وقالت الحكماء‏:‏ لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحمل الأذى ويكظم وقالوا‏:‏ من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ كم من فتىً قصرت في الرزق خطوته أصبته بسهام الرزق قد فلجا إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن - وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر - أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور فقال له‏:‏ قد طال وقوفك في الشمس فقال‏:‏ ليطول وقوفي في الظل‏.‏
ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال له‏:‏ أمثلك يرضى بهذا فقال‏:‏ أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولا يكرم النفس الذي لا يهينها وفي كتاب للهند‏:‏ إن السلطان لا يقرب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم فيقرب البعيد لنفعه ويبعد القريب لضره وشبهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور فمن أجل ضره نفي والبازي الذي هو وحشي فمن أجعل نفعه اقتني‏.‏
استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال‏:‏ أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان وقل له يقول‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع‏.‏
وقال النبي عليه السلام الأولى أذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة إما أن يأذنوا وإما أن يرجع‏.‏
الحجاب قال زياد لحاجبه‏:‏ يا عجلان إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع‏:‏ هذا المنادى إلى الله في الصلاة والفلاح لا تحجبه عني فلا سلطان لك عليه وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد‏.‏
ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه‏.‏
فقال له رجل وأراد أن يغريه‏:‏ يا أبا سفيان ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك‏.‏
فقال أبو سفيان‏:‏ لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني‏.‏
استأذن أبو الدرداء على معاوية فحجبه فقال‏:‏ من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد ومن يجد وقال محمود الوراق‏:‏ شاد الملوك قصورهم فتحصنوا من كل طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزها وتنوقوا في قبح وجه الحاجب فإذا تلطف للدخول عليهم راج تلقوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن بادي الضراعة طالباً من طالب سعيد بن مسلم قال‏:‏ كنت واليا بإرمينية فغبر أبو هفان أياما ببابي ولا أعلم به فلما وصل إلي مثل قائماً بين السماطين وقال‏:‏ والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عيش رقيق الحواشي‏.‏
أما والله إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة‏.‏
إن الله ما يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني ولأن أكون مقلاً مقرباً أحب إلي من أكون مكثراً مبعداً‏.‏
والله ما نسأل عملاً لا نضبطه ولا مالاً ونحن أكثر منه‏.‏
وهذت الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك كان في يد غيرك قبلك فأمسوا والله حديثاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏
فتجنب إلى عباد الله وبغضهم موصول ببغضه لأنهم شهداء الله على خلقه ورقباؤه على من اعوج عن سبيله‏.‏
أبو مسهر قال‏:‏ أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبت فكتبت إليه‏:‏ وقد علمت بأني لم أرد و - لا والله - ما رد إلا العلم والأدب فأجابني محمد بن عبد الله بن عبد كان فقال‏:‏ لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما قال ابن أوس وفيما قاله أدب‏:‏ ليس الحجاب بمقص عنك أي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجب وقف بباب محمد بن منصور رجل من خاصته فحجب عنه فكتب إليه‏:‏ علي أي باب أطلب الإذن بعد ما حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشميين فطلب الإذن فقيل له‏:‏ تكون لك عودة فقال‏:‏ لئن عدت بعد اليوم إني لظالم سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم متى يظفر الغادي إليك بحاجة ونصفك محجوب ونصفك نائم ونظير هذا المعنى للعتابي حيث يقول‏:‏ قد أتيناك للسلام مراراً غير من منا بذاك المزار فإذا أنت في استتارك باللي - ل على مثل حالنا بالنهار وقف رجل بباب أبي دلف فأقام حيناً لا يصل إليه فتلطف برقعة أوصلها إليه وكتب فيها‏:‏ إذا كان الكريم له حجاب فما فضل الكريم على الليئم إذا كان الكريم قليل مال ولم يعذر تعلل بالحجاب وأبواب الملوك محجبات فلا تستعظمن حجاب بابي وقال حبيب الطائي في الحجاب‏:‏ سأترك هذا الباب ما دام إذنه على ما أرى حتى يلين قليلا فما خاب من لم يأته متعمداً ولا فاز من قد نال منه وصولا ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا وأنشد أبو بكر بن العطار‏:‏ مالك قد حلت عن وفائك واس - تبدلت يا عمرو شيمة كدره لستم ترجون للحساب ولا يوم تكون السماء منفطره قد كان وجهي لديك معرفة فاليوم أضحى بابا من النكرة وقال غيره‏:‏ أتيتك للتسليم لا أنني امرؤ أردت بإتيانيك أسباب نائلك وقال أبو نواس الحسن بن هانئ‏:‏ أيها الراكب المغذ إلى الفض - ل ترفق فدون فضل حجاب ونعم هبك قد وصلت إلى الفض - ل فهل في يديك إلا التراب وقال آخر وهو محمد البغدادي‏:‏ حجابك من مهابته عسير وخيرك في تزيده يسير خرجت كما دخلت إليك إلا غبار طار في خفي كثير وقال آخر وهو العتابي‏:‏ حجابك ليس يشبهه حجاب وخيرك دون مطلبه السحاب ونومك نوم من ورد المنايا فليس له إلى الدنيا إياب وقال غيره‏:‏ أنا بالباب واقف منذ أصبح - ت على السرج ممسكاً بعناني وبعين البواب كل الذي بي ويراني كأنه لا يراني وقال غيره‏:‏ إذا ما أتيناه في حاجة رفعنا الرقاع له بالقصب وقال أبو بشير‏:‏ حجبني بعض كتاب العسكر فكتبت إليه‏:‏ إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب‏.‏
وأنا أرفعك عن هذه المنزلة وأرغب بقدرك عن هذه الخليفة وكل من قام منزلك عظم قدره أو صغر وحاول حجاب الخليفة أمكنه‏.‏
فتأمل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح صورة وأدنى منزلة‏.‏
وقد قلت في ذلك‏:‏ إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه ويجهل منك الحق فالهجر أوسع وفي الناس أبدال وفي الهجر راحة وفي الناس عمن لا يواتيك مقنع وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه حري بجدع الأنف والأنف أسنع وقال آخر‏:‏ يا أبا موسى وأنت فتى ماجد حلو ضرائبه كن على منهاج معرفة إن وجه المرء حاجبه فيه تبدو محاسنه وبه تبدو معايبه وأنشد حسين الجمل - وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه - قال‏:‏ لا ولا عن طعامه التافه النز - ر الذي حوله لطام بنيه بل حجبنا به عن الخسف والمس - خ وذاك التبريق والتمويه فجزى الله حاجباً لك فظاً كل خير عنا إذا يجزيه فلقد سرني دخول أبي سع - وة دوني وبعده حمدويه إن ذبحي نذالة قد تأتى من صباحي بقبح تلك الوجوه وقال أحمد بن محمد البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب‏:‏ ومستنب عن الحسن بن وهب وعما فيه من كرم وخير أتاني كي أخبره بعلمي فقلت له سقطت على الخبير هو الرجل المهذب غير أني أراه كثير إرخاء الستور وأكثر ما يغنيه فتاه حسين حين يخلو للسرور‏:‏ ولولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ ما بال بابك محروساً ببواب يحميه من طارق يأتي ومنتاب ووقف حبيب بن أوس الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه‏.‏
فكتب إليه يقول‏:‏ قل لا بن طوق رحى سعد إذ طحنت نوائب الدهر أعلاها وأسفلها‏:‏ أصبحت حاتمها جوداً وأحنفها حلماً وكيسها علماً ودغفلها ما لي أرى القتبة البيضاء مقفلة دوني وقد طالما استفحت مقفلها أظنها جنة الفردوس معرضة وليس لي عمل زاك فأدخلها

باب من الوفاء والغدر
قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه‏:‏ قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن نفع حرمي بعد موتي‏.‏
فقال عبد الحميد‏:‏ إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي وما عندي غير الصبر معك حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك‏.‏
وأنشأ يقول‏:‏ أسر وفاء ثم أظهر غدرة فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب إليه أماناً وأشهد شهوداً قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر‏:‏ ما رأيك في الذي كان مني قال‏:‏ أمر قد فات دركه‏.‏
قال‏:‏ لتقولن‏.‏
قال‏:‏ حزم لو قتلته وحييت‏.‏
قال‏:‏ أو لست بحي فقال‏:‏ ليس بحي من أوقف نفسه موقفاً لا يوثق له بعهد ولا بعقد‏.‏
قال عبد الملك‏:‏ كلام لو سبق سماعه فعلى لأمسكت‏.‏
المدائني قال‏:‏ لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوماً ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم وما زلت منتظراً لهذه الدعوة‏.‏
فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه‏.‏
فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه‏.‏
عجبا لمن يأمرني بقتل مثل هذا‏!‏ ثم قتله بعد ذلك غدراً‏.‏
وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة‏:‏ ما ترى في قتل أبي مسلم قال سلم‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏ قال حسبك الله أبا أمية‏.‏
قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ كان بنو سعد بن تميم أغدر العرب وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية‏:‏ كيسان فقال فيهم الشاعر‏:‏ إذا كنت في سعد وخالك منهم غريباً فلا يغررك خالك من سعد إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد الولاية والعزل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة فنعمت وقال المغيرة بن شعبة‏:‏ أحب الإمارة لثلاث وأكرهها لثلاث أحبها لرفع الأولياء ووضع الأعداء واسترخاص الأشياء‏.‏
وأكرهها لروعة البريد وموت العزل وشماتة الأعداء‏.‏
وقال ولد ابن شبرمة القاضي‏:‏ كنت جالساً مع أبي قبل أن يلي القضاء فمر به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل وهو وإلى البصرة فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال‏:‏ أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قريب تقشع ثم قال‏:‏ اللهم لي ديني ولهم دنياهم‏.‏
فلما ابتلى بالقضاء قلت له يا أبت أتذكر يوم طارق قال‏:‏ يا بني إنهم يجدون خلفاً من أبيك وإن أباك حط في أهوائهم وأكل من حلوائهم‏.‏
قيل لعبد الله بن الحسن‏:‏ إن فلاناً غيرته الولاية قال‏:‏ من ولي ولاية يراها أكبر منه تغير لها ومن ولى ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغير لها‏.‏
ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى قال له‏:‏ أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة‏.‏
وكتب زياد إلى معاوية‏:‏ قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز - فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فرفع يده إلى السماء وقال‏:‏ اللهم اكفنا شمال زياد‏.‏
فخرجت في ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة فقال له‏:‏ ألا تعمل قال‏:‏ لا أريد العمل‏.‏
قال‏:‏ قد طلب العمل من هو خير منك يوسف عليه الصلاة والسلام‏.‏
قال‏:‏ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏.‏
المدائني قال‏:‏ كان بلال بن أبي بردة ملازماً لباب خالد بن عبد الله القسري فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه فبرم به فقال لرجل من الشرط‏:‏ إئت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له‏:‏ يقول لك الأمير‏:‏ ما لزومك بابي وموكبي‏!‏ إني لا أوليك ولاية أبداً‏.‏
فأتاه الرسول فأبلغه‏.‏
فقال له بلال‏:‏ هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ قل له‏:‏ والله لئن وليتني لا عزلتني‏.‏
فأبلغه ذلك‏.‏
فقال خالد‏:‏ قاتله الله‏!‏ إنه ليعد من نفسه بكفاية‏.‏
فدعاه فولاه‏.‏
وأراد عمر ابن الخطاب أن يستعمل رجلاً فبادر الرجل فطلب منه العمل‏.‏
فقال له عمر‏:‏ والله لقد كنت أردتك لذلك ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه‏.‏
وطلب العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم من النبي ولاية فقال له‏:‏ يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها‏.‏
وطلب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده‏.‏
وقال زياد لأصحابه‏:‏ من أغبط الناس عيشا قالوا‏:‏ الأمير وأصحابه‏.‏
قال‏:‏ كلا إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لفزعة‏.‏
ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه لا يعرفنا ولا نعرفه فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه‏.‏
وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف أن يستبدل به‏:‏ أما بعد فقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق‏.‏
فكتب إليه معاوية‏:‏ أما ما ذكرت من كبر سنك فأنت أكلت شبابك وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان وأما ما ذكرت من سفهاء قريش فحلماؤها أحلوك ذاك المحل وأما ما ذكرت من أمر العمل فضح رويداً يدرك الهيجا حمل وهذا مثل للعرب وقد وقع تفسيره في كتاب الأمثال‏.‏
فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له فخرج وخرجنا معه‏.‏
فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا مغيرة كبرت سنك ورق عظمك ولم يبق منك شيء ولا أراني إلا مستبدلاً بك‏.‏
قال المحدث عنه‏:‏ فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه فأخبرنا بما كان من أمره قلنا له‏:‏ فما تريد أن تصنع قال‏:‏ ستعلمون ذلك‏.‏
فأتى معاوية فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الأنفس ليغدى عليها ويراح ولست في زمن أبي بكر ولا عمر فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد‏.‏
فقال‏:‏ يا أبا محمد انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك‏.‏
فأقبلنا تركض على النجب فالتفت فقال‏:‏ والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل ألقى عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب من أحكام القضاء
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ إذا كان في القضاء خمس خصال فقد كمل‏:‏ علم بما كان قبله ونزاهة عن الطمع وحلم على الخصم واقتداء بالأئمة ومشاورة أهل العلم والرأي‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعاً‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً في القضاء يقول فيه‏:‏ إذ تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وإدناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه‏.‏
وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيع حقه من لم يرفق به‏.‏
وآس بين الناس في لحظك وطرفك وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء‏.‏
العتبي قال‏:‏ تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داود القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي داود‏.‏
فأحفظه ذلك فقال‏:‏ بإبراهيم إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً ولا أشرت إليه بيد وليكن قصدك أمماً وطريقك نهجاً وريحك ساكنة‏.‏
ووف مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والتوجه إلى الواجب فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في محتدك وعظم خاطرك‏.‏
ولا تعجل فرب عجلة تهب ريثاً والله يعصمك من الزلل وخطل القول والعمل ويتم نعمته عليك ما أتمها على أبوك من قبل إن ربك حكيم عليم‏.‏
قال إبراهيم‏:‏ أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد ولست بعائد إلى ما يلثم مروءتي عندك ويسقطني من عينك ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار فها أنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه باخع بجرمه فإن الغضب لا يزال يستفز بمودة فيردني مثلك بحلمه وقد رهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع فليت ذلك يقوم بأرش الجناية ولن يتلف مال أفاد موعظة‏.‏
وبالله التوفيق‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري - رواها ابن عيينة -‏:‏ أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك الخصم فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له‏.‏
آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً‏.‏
ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه فإن الحق قديم والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل‏.‏
الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر‏.‏
والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة أو نسب فإن الله عز وجل ولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان‏.‏
ثم إياك والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله عز وجل بها الأجر ويحسن بها الذخر فإنه من تخلص نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فاحذر أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة‏.‏
أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار وأخف الفساق واجعلهم يداً يداً ورجلاً رجلاً وإذا كانت بين القبائل ثائرة فنادوا‏:‏ يا لفلان فإنما تلك نجوى من الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام‏.‏
واستدم النعمة بالشكر والطاعة بالتألف والمقدرة بالعفو والنصرة بالتواضع والمحبة للناس وبلغني أن ضبة تنادي‏:‏ يا لضبة‏.‏
وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط ولا صرف بها شراً‏.‏
فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم‏.‏
وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وباشر أمورهم بنفسك وافتح لهم بابك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً‏.‏
وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة همها في السمن والسمن حتفها‏.‏
واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته وأشقى الناس من يشقى به الناس والسلام‏.‏
أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يغزو قوماً في البحر فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر‏:‏ يا أمير المؤمنين إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير دود على عود‏.‏
فقال الشعبي قال‏:‏ كنت جالساً عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديداً‏.‏
فقلت‏:‏ أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة‏.‏
قال‏:‏ وما علمك قلت‏:‏ لبكائها‏.‏
قال‏:‏ لا تفعل فإن أخوة يوسف جاءوا آباءهم عشاء يبكون وهم له ظالمون‏.‏
وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يحرجه المشهود عليه‏.‏
فأقبل إليه رجل فقال‏:‏ يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي‏.‏
فقام معه الحسن إليه فقال‏:‏ يا أبا وائلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا فقال‏:‏ يا أبا سعيد إن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏"‏ ممن ترضون من الشهداء ‏"‏ وهذا ممن لا يرضى‏.‏
ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا وأجلسه معه‏.‏
فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث فقال له شريح‏:‏ قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك‏.‏
قال‏:‏ بل أكلمه من مجلسي‏.‏
فقال له‏:‏ لتقومن أو لآمرن من يقيمك‏.‏
فقال له الأشعث‏:‏ لشد ما ارتفعت‏!‏ قال‏:‏ فهل رأيت ذلك ضرك قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك‏.‏
وأقبل وكيع بن أبي سعود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه ثم قال له‏:‏ ما جاء بك قال‏:‏ لأشهد لفلان‏.‏
فقال‏:‏ مالك وللشهادة إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة‏.‏
قال‏:‏ صدقت وانصرف من عنده‏.‏
فقيل له‏:‏ خدعك إنه لا يقبل شهادتك‏.‏
قال‏:‏ لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب‏.‏
دخل عدي بن أرطأة على شريح فقال‏:‏ أين أنت أصلحك الله قال‏:‏ بينك وبين الحائط‏.‏
قال‏:‏ إني رجل من أهل الشام‏.‏
قال‏:‏ نائي الدار سحيق المزار‏.‏
قال‏:‏ قد تزوجت عندكم‏.‏
قال‏:‏ بالرفاء والبنين قال‏:‏ وولد لي غلام‏.‏
قال‏:‏ ليهنئك الفارس‏.‏
قال‏:‏ وأردت أن أرحلها‏.‏
قال‏:‏ الرجل أحق بأهله قال‏:‏ وشرطت لها دارها قال‏:‏ الشرط أملك‏.‏
قال فاحكم الآن بيننا‏.‏
قال‏:‏ قد فعلت قال‏:‏ على من قضيت قال‏:‏ على ابن أمك‏.‏
قال‏:‏ بشهادة من قال‏:‏ بشهادة ابن أخت خالتك‏.‏
يريد إقراره على نفسه‏.‏
سفيان الثوري قال‏:‏ جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنور قال‏:‏ بينتك‏.‏
قال‏:‏ ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا‏.‏
قال شريح‏:‏ فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها فإن استقرت واستمرت ودرت فهي سنورك وإن هي اقشعرت وازبأرت وهرت فليست بسنورك‏.‏
سفيان الثوري قال‏:‏ جاء رجل إلى شريح فقال‏:‏ ما تقول في شاة تأكل الدبى قال‏:‏ لبن طيب وعلف مجان‏.‏
ودخل رجل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته وهي من أجمل النساء فاختصما إليه فأدلت المرأة بحجتها وقربت بينتها‏.‏
فقال الشعبي للزوج‏:‏ هل عندك من مدفع فأنشأ يقول‏:‏ فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها فتنته بدلال وبخطي حاجبيها قال للجلواز قرب - ها وأحضر شاهديها فقضى جوراً على الخص - م ولم يقض عليها قال الشعبي‏:‏ فدخلت على عبد الملك بن مروان فلما نظر إلي تبسم وقال‏:‏ فتن الشعبي لم رفع الطرف إليها ثم قال‏:‏ ما فعلت بقائل هذه الأبيات قلت‏:‏ أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة وبما افترى به علي‏.‏
قال‏:‏ أحسنت‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:36 AM

كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه وما على الرعية من لزوم طاعته وإدامة نصيحته وما على السلطان من العدل في رعيته والرفق بأهل مملكته‏.‏
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها وقود الجيوش وتدبيرها وما على المدبر لها من إعمال الخدعة وانتهاز الفرصة والتماس الغرة وإذكاء العيون وإفشاء الطلائع واجتناب المضايق وطول تجربته لها و لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش وعلمه أن لا درع كالصبر ولا حصن كاليقين‏.‏
ثم نذكر كرم الإقدام ومحمود عاقبته ولؤم الفرار ومذموم مغبته‏.‏
والله المعين‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صفة الحرب
الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر ولكل شيء من هذه ثمرة فثمرة الصبر التأييد وثمرة المكر الظفر وثمرة الاجتهاد والتوفيق وثمرة الأناة اليمن وثمرة الحذر السلامة‏.‏
ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها أبلغ من القتال‏.‏
قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب‏:‏ صف لنا الحرب قال‏:‏ مرة المذاق إذا كشفت عن ساق من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول‏:‏ الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزاً ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهة للثم والتقبيل وقيل لعنترة الفوارس‏:‏ صف لنا الحرب‏.‏
فقال‏:‏ أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى‏.‏
وقال الكميت‏:‏ والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ويستوون إذا ما أدبر القبل كل بأمسيها طب مولية والعاملون بذي غدويها قلل وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها‏:‏ أرى خلل الرماد جمر فيوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام‏:‏ الشر حلو أوله‏:‏ مر آخره‏.‏
والعرب تقول‏:‏ الحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب‏:‏ والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقماناً بها وهو الحكيم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب‏:‏ لا حلم لمن لا سفيه له‏.‏
ونحو هذا قول الأحنف بن قيس‏:‏ ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا‏.‏
وقال‏:‏ لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم‏.‏
وقال‏:‏ أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار‏.‏
وقال النابغة الجعدي‏:‏ ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وأنشد هذا الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى هذا البيت قال له النبي صلى وقال النابغة الذبياني يصف الحرب‏:‏ تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله‏:‏ ‏"‏ تبدو كواكبه والشمس طالعة ‏"‏ شدة الهول والكرب كما تقول العامة‏:‏ أريته النجوم وسط النهار‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ ‏"‏ أريك نجوم الليل والشمس حية ‏"‏ وقال طرفة بن العبد‏:‏ ‏"‏ وتريك النجم يجري بالظهر ‏"‏ وإليه ذهب جرير في قوله‏:‏ والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول‏:‏ الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس‏.‏
ومن قولنا في صفة الحرب‏:‏ ومغبر السماء إذا تجلى يغادر أرضه كالأرجوان وكل مشطب المتنين صاف كلون الملح منصلت يماني كأن نهاره ظلماء ليل كواكبه من السمر اللذان وفي صفة المعترك‏:‏ ومعترك تهز به المنايا ذكور الهند في أيدي ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ويعمي دونها طرف البصير وخافقة الذرائب قد أنافت على حمراء ذات شباً طرير تحوم حولها عقبان موت تخطفت القلوب من الصدور بيوم راح في سربال ليل فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام رنو البكر من بين الستور فكم قصرت من عمر طويل به وأطلت من عمر قصير العمل في الحرب قيل لأكثم بن صيفي‏:‏ صف لنا العمل في الحرب‏.‏
قال‏:‏ أقلوا الخلاف على أمرائكم فلا جماعة لمن اختلف عليه‏.‏
واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب وقال شبيب الحروري‏:‏ الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع‏.‏
وكان إذا أمسى يقول لأصحابه‏:‏ أتاكم المدد يعني الليل‏.‏
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم‏:‏ المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل وما برأيي خرجت مع هؤلاء‏.‏
وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الحيات‏.‏
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ من أكثر النظر في العواقب لم يشجع‏.‏
وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو‏:‏ إني هاز لكم الراية فليصلح كل رجل منكم من شأنه وليشد على نفسه وفرسه ثم إني هازها لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوه ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل فاحملوا على اسم الله‏.‏
وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها -‏:‏ لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها‏.‏
فقلدها النعمان بن مقرن‏.‏
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ انتهزوا الفرصة فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين‏.‏
وقال بعض الحكماء‏:‏ انتهز الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه‏.‏
وإياك والعجز فإنه أذل مركب والشفيع المهين فإنه والله أضعف وسيلة‏.‏
وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل له‏:‏ ما يهمك منهم‏!‏ وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم‏.‏
فقال‏:‏ لا إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم فيجد عدوه غرة منه‏.‏
وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال‏:‏ مخاتلة العدو عن الريف وإعداد العيون على الرصد وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة‏.‏
وفي بعض كتب العجم‏:‏ أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها فقال‏:‏ تعود القتال وكثرته وأن يكون لها مواد من ورائها‏.‏
وقال عمرو بن العاص لمعاوية‏:‏ والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان فقال معاوية‏:‏ شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان قال هدبة العذري‏:‏ ولا أتمنى الشر والشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب الصبر والإقدام في الحرب جمعت الله تبارك وتعالى تدبير الحرب كلها في آيتين من كتابه فقال‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون‏.‏
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ‏"‏‏.‏
وتقول العرب‏:‏ إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة‏.‏
واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد‏:‏ احرص على الموت توهب لك الحياة‏.‏
والعرب تقول‏:‏ الشجاع موقى والجبان ملقى‏.‏
وقال أعرابي‏:‏ الله نخلف ما أتلف الناس والدهر متلف ما جمعوا وكم من منية علتها طلب الحياة وحياة سببها التعرض للموت‏.‏
وكان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول‏:‏ يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن مع الصبر النصر‏.‏
وكتب أنو شروان إلى مرازبته عليكم بأهل الشجاعة والسخاء فإنهم أهل حسن الظن بالله‏.‏
وقال حسان بن ثابت‏:‏ ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقال العلوي في هذا المعنى‏:‏ محرمة أكفال خيلى على القنا ودامية لباتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر وتغرق منها في الصدور صدورها وكانوا يتمادحون بالموت قعصا ويتهاجون بالموت على الفراش ويقولون فيه‏:‏ مات فلان حتف أنفه وأول من قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
وخطب عبد الله بن الزبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال‏:‏ إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه‏.‏
إنا والله لا نموت حتفاً ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف‏.‏
وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه‏.‏
وقال السموأل بن عادياء‏:‏ ما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير السيوف تسيل وقال آخر‏:‏ وقال الشنفرى‏:‏ فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أبغي حياة تسرني سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر قوله‏:‏ خامري أم عامر هي الضبع‏.‏
يعني بقوله‏:‏ إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها‏:‏ خامري أم عامر وهي الضبع وهذا اللفظ بعيد من المعنى‏.‏
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل له‏:‏ أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء - فقال‏:‏ أبالموت تخوفوني‏!‏ فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي‏.‏
وقال لابنه الحسن عليهما السلام‏:‏ لا تدعون أحداً إلى المبارزة وإن دعيت إليها فأجب فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع‏.‏
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه‏:‏ بقية السيف أنمى عدداً وأطيب ولداً‏.‏
يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى ولدهم‏.‏
ومما يستدل به على صدق قوله‏:‏ ما عمل السيف في آل الزبير وآل أبي طالب وما كثر من وقال أبو دلف العجلي‏:‏ إني امرؤ عودني مهرى ركوب الغلس يحمدني سيفي كما يحمد كري فرسي سيفي بليلي قبسي وفي نهاري أنسى وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان‏:‏ لست لربحان ولا راح ولا على الجار بنباح فإن أردت الآن موقفاً فبين أسياف وأرماح ترى فتى تحت ظلال القنا يقبض أرواحاً بأرواح وقال أشهب بن رميلة‏:‏ أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود وقيل للمهلب بن أبي صفرة‏:‏ ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة قال‏:‏ فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول‏:‏ وسائلة بالغيب عني ولو درت مقارعتي الأبطال طال نحيبها إذا ما التقينا كنت أول فارس يجود بنفس أثقلتها ذنوبها وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة‏:‏ يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو قال‏:‏ ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه علي حيلي ولم يغشني ذعر قط سلبني رأيي‏.‏
قال هشام‏:‏ صدقت هذه والله البسالة‏.‏
وقيل لعنترة‏:‏ كم كنتم يوم الفروق قال‏:‏ كنا مائة لم نكثر فنتكل ولم نقل فنذل‏.‏
وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام‏:‏ تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما وقالت الخنساء‏:‏ نهين النفوس وبذل النفو س يوم الكريهة أبقى لها وقيل لعباد بن الحصين - وكان من أشد أهل البصرة -‏:‏ في أي عدة كنت تريد أن تلقى عدوك قال‏:‏ في أجل مستأخر‏:‏ وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله عنه يوم صفين‏.‏
أبت لي شيمتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة‏:‏ وقولي كلما جشأت لنفسي من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت حياة يوم سوى الأجل الذي لك لم تطاعي وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول‏:‏ أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر ومثله قول جرير‏:‏ قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي وهذا البيت في شعره الذي أوله‏:‏ ‏"‏ هاج الهوى لفؤادك المهتاج ‏"‏ ومدح فيه الحجاج فلما أنشده‏:‏ ‏"‏ قل للجبان إذا تأخر سرجه ‏"‏ قال‏:‏ جرأت علي الناس يا بن اللخناء‏.‏
قال‏:‏ والله ما ألقيت لها بالاً أيها الأمير إلا وقتي هذا‏.‏
وكان عاصم بن الحدثان عالماً ذكياً وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه الرسول منهم من وهم إذا كسروا الجفون أكارم صبر وحين تحلل الأزرار يغشون حومات المنون وإنها في الله عند نفوسهم لصغار يمشون بالخطي لا يثنيهم والقوم إذ ركبوا الرماح تجار فقال له الفرزدق‏:‏ ويحك‏!‏ اكتم هذا لا يسمعه النساخون فيخرجوا علينا بحقوقهم‏.‏
فقال أبوه‏:‏ يا فرزدق هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين‏.‏
ونظير هذا مما يشجع الجبان قول عنترة الفوارس‏:‏ بكرت تخوفني الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبالك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل ومن أحسن ما قالوه في الصبر قول نهشل بن حري بن ضمرة النهشلي‏:‏ ويوم كأن المصطلين بحره وإن لم تكن نار وقوف على جمر صبرنا له حتى يبوخ وإنما تفرج أيام الكريهة بالصبر وأحسن من هذا عندي قول حبيب‏:‏ فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت إخمصيك الحشر وأحسن من هذا القول‏:‏ يستعذبون مناياهم كأنهم لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا وقوله في هذا المعنى‏:‏ قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم لم يحسبوا أن المنية تخلق انظر فحيث ترى السيوف لوامعاً أبدا ففوق رؤوسهم تتألق وقال الحجاج بن حكيم‏:‏ شهدن مع النبي مسومات حنيناً وهي دامية الحوامي ووقعة راهط شهدت وحلت سنابكهن بالبلد الحرام تعرض للطعان إذا التقينا خدوداً لا تعرض للطام أخذه من قولهم‏:‏ ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل‏.‏
ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر‏:‏ رويداً بني شيبان بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفوان تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتداني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكان قوم إذا نزل الغريب بدارهم تركوه رب صواهل وقيان وإذا دعوتهم ليوم كريهة سدوا شعاع الشمس بالفرسان لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لتطلب العلات بالعيدان بل يسفرون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان ومن أحسن المحدثين تشبيها في الحرب مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد‏:‏ تلقى المنية في أمثال عدتها كالسيل يقذف جلموداً بجلمود بجود بالنفس إذ ظن الجواد بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وقوله أيضاً‏:‏ موف على مهج في يوم ذي رهج كأنه أجل يسعى إلى أمل ينال بالرفق ما تعيا الرجال به كالموت مستعجلاً يأتي على مهل وقال أبو العتاهية‏:‏ كأنك عند الكر في الحرب إنما تفر عن السلم الذي من ورائكا كأن المنايا ليس تجري لدى الوغى إذا التقت الأبطال إلا برائكا وقد علمت سلامة أن سيفي كريه كلما دعيت نزال أحادثه بصقل كل يوم وأعجمه بهامات الرجال وقال أبو محلم السعدي‏:‏ تقول وصكت وجهها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المتقاعس فقلت لها لا تعجلي وتبيني بلائي إذا التفت علي الفوارس ألست أرد القرن يركب ردعه وفيهن سنان ذو غرارين نائس إذا هاب أقوام تقحمت غمرة يهاب حمياها الألد المداعس لعمر أبيك الخير إني لخادم لضيفي وإني إن ركبت لفارس وقال آخر يمدح المهلب بالصبر‏:‏ وإذا جددت فكل شيء نافع وإذا حددت فكل شيء ضائر وإذا أتاك مهلبي في الوغى في كفه سيف فنعم الناصر ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب‏:‏ نفسي فداؤك والأبطال واقفة والموت يقسم في أرواحها النقما ومن قولنا في وصف الحرب‏:‏ سيوف يقيل الموت تحت ظباتها لها في الكلى طعم وبين الكلى شرب إذا اصطفت الرايات حمراً متونها ذرائبها تهفو فيهفو لها القلب ولم تنطق الأبطال إلا بفعلها فألسنها عجم وأفعالها عرب إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا فلقياهم طعن وتقبيلهم ضرب ومن قولنا في رجال الحرب وأن الوغى قد أخذت من أجسامهم فهي مثل السيوف في رقتها وصلابتها‏:‏ سيف تقلد مثله عطف القضيب على القضيب هذا تجز به الرقا ب وذا تجز به الخطوب ومن قولنا أيضا‏:‏ تراه في الوغى سيفاً صقيلا يقلب صفحتي سيف صقيل ومن قولنا أيضاً‏:‏ سيف عليه نجاد سيف مثله في حده للمفسدين صلاح ومن قولنا أيضاً في الحرب وذكر القائد‏:‏ تبختر في قميص من دلاص وترفل في رداء من نجاد كأنك للحرب رضيع ثدى غذتك بكل داهية نآد فكم هذا التمني للمنايا وكم هذا التجلد للجلاد لئن عرف الجهاد بكل عام فإنك طول دهرك في جهاد وإنك حين أبت بكل سعد كمثل الروح آب إلى الفوائد رأينا السيف مرتدياً بسيف وعاينا الجواد على الجواد وقد وصفن الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدم إليه ومعنى بديع لا نظير له وذلك قولنا‏:‏ وجيش كظهر اليم تنفحه الصبا يعب عبوباً من قنا وقنابل فتنزل أولاه وليس بنازل وترحل أخراه وليس براحل ومعترك ضنك تعاطت كماته كؤوس دماء من كلى ومفاصل يديرونها راحاً مني الروح بينهم ببيض رقاق أو بسمر ذوابل وتسمعهم أم المنية وسطها غناء صليل البيض تحت المناصل وصل يحن الإلف من بغضه شوقاً إلى الهجران والصرم حتى إذا نادمهم سيفه بكل كأس مرة الطعم ترى حمياها بهاماتهم تغور بين الجلد والعظم على أهازيج ظبا بينها ما شئت من حذف ومن خرم طاعوا له من بعد عصيانهم وطاعة الأعداء عن رغم وكم أعدوا واستعدوا له هيهات ليس الخضم كالقضم ومن قولنا في شبهه‏:‏ كم ألحم في أبناء ملحمة ما منهم فوق متن الأرض ديار وأورد النار من أرواح مارقة كادت تميز من غيظ لها النار كأنما صال في ثنيى مفاضته مستأسد حنق الأحشاء هدار لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت منها على الناس آفاق وأقطار وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ما يستضاء بها نور ولا نار تفوت بالثأر أقواماً وتدركه من آخرين إذ لم يدرك الثار فانساب ناصر دين الله يقدمهم وحوله من جنود الله أنصار كتائب تتبارى حول رايته وجحفل كسواد الليل جرار قوم لهم في مكر الليل غمغمة تحت العجاج وإقبال وإدبار يستقدمون كراديساً مكردسة كما تدفع بالتيار تيار من كل أروع لا يرعى لها جسة كأنه مخدر في الغيل هصار في قسطل من عجاج الحرب مد له بين السماء وبين الأرض أستار فكم بساحتهم من شلو مصرح كأنه فوق ظهر الأرض إجار كأنما رأسه أفلاق حنظلة وساعداه إلى الزندين جمار وكم على النهر أوصالاً مقسمة تقسمتها المنايا فهي أشطار قد فلقت بصفيح الهند هامهم فهن حوامى الخيل أعشار ومن قولنا في الحروب‏:‏ كأنما باضت نعام الفلا منهم بهام فوق أدراع تراهم عند احتماس الوغى كأنهم جن بأجراع بكل مأثور على متنه مثل مدب النمل في القاع يرتد طرف العين من حده عن عكوكب للموت لماع ومن قولنا في الحرب‏:‏ ورب ملتفة العوالي يلتمع الموت في ذراها إذا توطت حزون أرض طحطحت الشم من رباها يقودها منه ليث غاب إذا رأى فرصة قضاها تمضي بآرائه سيوف يستبق الموت في ظباها بيض تحل القلوب سوداً إذا انتضى عزمه انتضاها تتبعه الطير في الأعادي تجنى كلا العشب من كلاها أقدم إذ كاع كل ليث عن حومة الموت إذ رآها فرسان العرب في الجاهلية والإسلام كان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم ابن مالك بن كنانة وكان يعقر على قبره في الجاهلية ولم يعقر على قبر أحد غيره‏.‏
وقال حسان بن ثابت وقد مر على قبره‏:‏ نفرت قلوصي من حجارة حرة بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لولا السفار وطول قفر مهمه لتركتها تحبو على العرقوب وكان بنو فراس بن غنم بن كنانة أنجد العرب كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم‏.‏
وفيهم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة‏:‏ من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب‏.‏
أبدلكم الله بي من هو شر لكم وأبدلني بكم من هو خير منكم‏.‏
وددت والله أن لي بجميعكم - وأنتم مائة ألف - ثلثمائة من بني فراس بن غنم‏.‏
ومن فرسان العرب في الجاهلية‏:‏ عنترة الفوارس وعتيبة بن الحارث ابن شهاب وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة وزيد الخيل وبسطام بن قيس والأحيمر السعدي وعامر بن الطفيل وفي الإسلام‏:‏ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والزبير وطلحة ورجال الأنصار وعبد الله بن خازم السلمى وعباد بن الحصين وعمير بن الحباب وقطري بن الفجاءة والحريش بن هلال السعدي وشبيب الحروري‏.‏
وقالوا‏:‏ ما استحيا شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم وقطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة‏.‏
وقالوا‏:‏ ذهب حاتم بالسخاء والأحنف بن قيس بالحلم وخريم بالنعمة وعمير بن الحباب بالشدة‏.‏
وبينما عبد الله بن خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض‏.‏
فعجب منه عبيد الله وقال‏:‏ هل رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا ونظر إليه‏.‏
فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه فرخ واصفر كأنه جرادة ذكر‏.‏
فقال عبيد الله‏:‏ أبو صالح يعصى الرحمن ويتهاون بالسلطان ويقبض على الثعبان ويمشي على الليث الورد و يلقى الرماح بنحره وقد اعتراه من جرذ ما ترون أشهد أن الله على كل شيء قدير‏.‏
وكان شبيب الحروري يصيح في جنبات الجيش فلا يلوي أحد على أحد‏.‏
وفيه يقول الشاعر‏:‏ إن صاح يوماً حسبت الصخر منحدراً والريح عاصفة والموج يلتطم ولما قتل أمر الحجاج بشق صدره فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل‏.‏
فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المنوخة‏.‏
ورجال الأنصار أشجع الناس‏.‏
قال عبد الله بن عباس‏:‏ ما استلت السيوف ولا زحفت الزحوف ولا أقيمت الصفوف حتى أسلم ابنا قيلة‏.‏
يعني الأوس والخزرج‏.‏
وهما الأنصار من بني عمرو بن عامر من الأزد‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما أسن أبو براء عامر بن مالك وضعفه بنو أخيه وخرفوه ولم يكن له ولد يحميه أنشأ يقول‏:‏ دفعتكم عني وما دفع راحة بشيء إذا لم تستعن بالأنامل يضعفني حلمي وكثرة جهلكم علي وأني لا أصول بجاهل وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين‏:‏ ناديت همدان والأبواب مغلقة ومثل همدان سنى فتحة الباب كالهندواني لم تفلل مضاربه وجه جميل وقلب غير وجاب وقال ابن براقة الهمداني‏:‏ كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم وقال تأبط شراً‏:‏ قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك يبيت بموماة ويضحي بغيرها جحيشا ويعروري ظهور المهالك إذا حاص عينيه كعرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك ويجعل عينيه ربيئة قلبه إلى سلة من حد أخلق باتك إذا هزه في عظم قرن تهللت نواجذ أفواه المنايا الضواحك وقال أبو سعيد المخزومي وكان شجاعاً‏:‏ وما يرى بنو الأغبار من رحل بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل لا يشرب الماء إلا من قليب دم ولا يبيت له جار على وجل ونظير هذا قول بشار العقيلي‏:‏ فتى لا يبيت على دمنة ولا يشرب الماء إلا بدم وقال عبد الله بن الزبير‏:‏ التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل فيما ضربته ضربة حتى ضربني وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بحياة ابن الزبير إذ التقى مع الأشتر عشرة آلاف درهم‏.‏
وذكر متمم بن نويرة أخاه مالكاً وجلده فقال‏:‏ كان يخرج في الليلة الصنبر عليه الشملة الفلوت بين المزادتين على الجمل الثفال‏.‏
معتقل الرمح الخطي‏.‏
قالوا‏:‏ وأبيك إن هذا لهو اجلد‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن وهو على الصائفة‏:‏ أن استعن في حربك بعمرو بن معد يكرب وطليحة الأزدي ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بصناعته‏.‏
وقال عمر بن معد يكرب يصف صبره وجلده في الحرب‏:‏ أعاذل عدني بزي ورمحي وكل مقلص سلس القياد أعاذل إنما أفنى شبابي إجابتي الصريخ إلى المنادي مع الأبطال حتى سل جسمي وأفرح عاتقي حمل النجاد ويبقى بعد حلم القوم حلمي ويفنى قبل زاد القوم زادي ومن عجب عجبت له حديث بديع ليس من بدع السداد تمنى أن يلاقيني أبي وددت وأينما مني ودادي تمناني وسابغتي قميصي كأن قتيرها حدق الجراد فلو لاقيتني للقيت ليثاً هصوراً ذا ظباً وشباً حداد ولاستيقنت أن الموت حق وصرح شحم قلبك عن سواد أريد حياته ويريد قتلى عذيرك من خليلك من مراد ومن قوله في قيس بن مكشوح المرادي‏:‏ تمناني على فرس عليه جالساً أسده علي مفاضة كالنه ي أخلص ماءه جدده فلو لاقيتني للقي ت ليثاً فوقه لبده سبنتي ضيغماً هصراً صلخداً ناشزاً كتده يسامي القرن إن قرن تيممه فيعتضده فيأخذه فيرديه فيخفضه فيقتصده فيدمغه فيحطمه فيخضمه فيزدرده المكيدة في الحرب قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحرب خدعة‏.‏
وقال المهلب لبنيه‏:‏ عليكم بالمكيدة في الحرب فإنها خير من النجاة‏.‏
وكان المهلب يقول‏:‏ أناة في عواقبها فوت خير من عجلة في عواقبها درك‏.‏
وقال مسلمة بن عبد الملك‏:‏ ما أخذت أمراً قط بحزم قط فظلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة علي ولا أخذت أمراً قط وضيعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت العاقبة لي‏.‏
وسئل بعض أهل التمرس بالحرب‏:‏ أي المكايد فيها أحزم قال‏:‏ إذكاء العيون وإفشاء الغلبة واستطلاع الأخبار وإظهار السرور وإماتة الفرق والاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن يستنصح ولا استنصاح لمن يستغش واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره‏.‏
وفي كتاب للهند‏:‏ الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر المواثبة إن قرب والغارة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولى‏.‏
وقال المأمون للفضل بن سهل‏.‏
قد كان لأخي رأى لو عمل به لظفر‏.‏
فقال له الفضل‏:‏ ما هو يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة لم نخل نحن من إحدى خصلتين إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه فعصانا أهل هذه البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطى منه من معنا وتفرق جندنا ووهي أمرنا‏.‏
فقال الفضل‏:‏ الحمد الذي ستر هذا الرأي عنه وعن أصحابه‏.‏
وكتب الحجاج إلى المهلب يستعجله في حرب الأزارقة فكتب إليه‏:‏ إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون أن يبصره‏.‏
وكان بعض أهل التمرس يقول لأصحابه‏:‏ شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم والجبناء من أولي الحزم فإن الجبان لا يألوا برأيه ما يقي مهجكم والشجاع لا يعدو ما يشد بصيرتكم‏.‏
ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان وتهور الشجعان فتكون أنفذ من السهم الزالج والحسام الوالج‏.‏
وكان الإسكندر لا يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها‏.‏
فخرج إليه فألطفه الإسكندر وأعظمه‏.‏
فقال له‏:‏ أصلح الله الملك إن أحق من زين لك أمرك وأعانك على كل ما هويت لأنا‏.‏
وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك فأحب أن تشفعني فيهم وأن لا تخالفني في كل ما سألتك لهم‏.‏
فأعطاه من العهود والمواثيق على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه‏.‏
فلما توثق منه قال‏:‏ فإن حاجتي إليك أن تهدمها وتقتل أهلها‏.‏
قال‏:‏ وقيل‏:‏ صالح سعيد بن العاص حصناً من حصون فارس على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً فقتلهم كلهم إلا رجلاً واحداً‏.‏
ابن الكلبي قال‏:‏ لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة فبعث إليه علجها‏:‏ أن أبعث إلي رجلاً من أصحابك أكلمه‏.‏
ففكر عمرو وقال‏:‏ ما لهذا أحد غيري‏.‏
قال‏:‏ فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله‏.‏
فقال العلج‏:‏ حدثني‏:‏ هل في أصحابك أحد مثلك قال‏:‏ لا تسأل عن هذا إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي قال‏:‏ فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب‏:‏ إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه‏.‏
فخرج من عنده فمر من رجل من نصارى غسان فعرفه فقال‏:‏ يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج‏.‏
ففطن عمرو لما أراده فرجع‏.‏
فقال له الملك‏:‏ ما ردك إلينا قال‏:‏ نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد‏.‏
فقال‏:‏ صدقت أعجل بهم‏.‏
وبعث إلى البواب أن خل سبيله‏.‏
فخرج عمرو وهو يلتفت حتى إذا أمن قال‏:‏ لا عدت لمثلها أبداً‏.‏
فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج قال له‏:‏ أنت هو‏!‏ قال‏:‏ نعم على ما كان من غدرك‏.‏
وقال‏:‏ ولما أتي بالهرمزان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا زعيم العجم وصاحب رستم‏.‏
فقال له عمر‏:‏ أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلك وآجلك‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة‏.‏
فدعا له عمر بالسيف‏.‏
فلما هم بقتله قال‏:‏ يا أمير المؤمنين شربة ماء أفضل من قتلى على ظمأ‏.‏
فأمر له عمر بشربة ماء‏.‏
فلما أخذها قال له‏:‏ أنا آمن حتى أشربها قال‏:‏ نعم‏.‏
فرمى بها وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج‏.‏
قال‏:‏ صدقت لك التوقف عنك وأنظر في أمرك ارفعوا عنه السيف‏.‏
فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده‏.‏
قال عمر‏:‏ أسلمت خير إسلام فما أخرك قال‏:‏ كرهت أن يظن أني إنما أسلمت جزعاً من السيف وإيثاراً لدينه بالرهبة‏.‏
فقال عمر‏:‏ إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك ثم أمر به أن يبر ويكرم‏.‏
فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس‏.‏
وهذا نظير فعل الأسير الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى فأمر بقتلهم فقال له أتقتل الأسرى عطاشاً يا معن فأمر بهم فسقوا‏.‏
فلما شربوا قال‏:‏ أتقتل أضيافك يا معن فخلى سبيلهم‏.‏
وذكروا أن ملك من ملوك العجم كان معروفاً ببعد الغور ويقظة الفطنة وحسن السياسة وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر إلى محاربته فيكشف عن ثلاث خصال من حاله فكان يقول لعيونه‏:‏ انظروا هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه وانظروا إلى الغنى في أي صنف هو من رعيته أفيمن اشتد أنفه وقل شرهه أم فيمن قل أنفه واشتد شرهه وانظروا في أي صنفي رعيته القوام بأمره أفيمن نظر ليومه وغده أم من شغله يومه عن غده فإن قيل له لا يخدع عن أخبار رعيته والغنى فيمن قل شرهه واشتد أنفه والقوام بأمره من نظر ليومه وغده قال‏:‏ اشتغلوا عنه بغيره‏.‏
وإن قيل له ضد ذلك قال‏:‏ نار كامنة تنتظر موقد وأضغان مزملة تنتظر مخرجاً اقصدوا له فلا حين أحين من سلامة مع تضييع ولا عدو أعدى من أمن أدى إلى اغترار‏.‏
وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ ثم نزلت بابل ثم نزل أردشير بن بابك فارس فصارت دار مملكتهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بههرام ملك الفرس وكان غزاهم‏.‏
فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكابدة وحسن الإدارة فأظهر السخط عليه ووقع به على أعين الناس توقيعاً قبيحاً ونكل به تنكيلاً شديداً ثم أرسله وقد واطأه على أمر أبطنه معه وظاهره عليه‏.‏
فخرج حتى أتى فيروز في طريقه فأظهر له النزوع إليه والاستنصار به من عظيم ما يناله‏.‏
فلما رأى فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه وثق به واستنام إليه‏.‏
فقال له‏:‏ أنا أدلك أيها الملك على غرة القوم وعورتهم وأعلمك مكان غفلتهم‏.‏
فسلك به سبيل مهلكة معطشة‏.‏
ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه‏.‏
فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه وأعطاهم موثقاً لا يغزوهم أبداً ونصب لهم حجراً جعله حداً بينه وبينهم وحلف لهم أن لا يجاوزه هو ولا جنوده وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته‏.‏
فمنوا عليه وأطلقوه ومن معه‏.‏
فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه فعاد إلى غزوهم ناكثاً لعهده غادراً بذمته إلا أنه لطف في ذلك بحيلة ظنها مجزية في أيمانه فجعل الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدمة عسكره وتأول في ذلك أنه لا يجاوزه‏.‏
فلما صار إليهم ناشدوه الله وذكروه الأيمان به وما جعل على نفسه من عهده وذمته‏.‏
فأبى إلا لجاجاً ونكثاً‏.‏
فواقعوه فضفروا به فقتلوه وقتلوا حماته واستباحوا عسكره‏.‏
أسامة بن زيد الليثي‏:‏ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقاً وهو يريد أخرى ويقول‏:‏ الحرب خدعة‏.‏
زياد عن مالك بن أنس‏:‏ كان مالك عبد الله الخثعمي وهو على الصائفة يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل فيحمد الله تعالى ويثني عليه ثم يقول‏:‏ إني دارب بالغداة إن شاء الله تعالى درب كذا‏.‏
فتتفرق الجواسيس عنه بذلك‏.‏
فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقاً أخرى‏.‏
فكانت الروم تسميه الثعلب‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif وصايا أمراء الجيوش
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الجراح‏:‏ إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال‏:‏ اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً‏.‏
فإذا بعثت جيشاً أو سرية فمرهم بذلك‏.‏
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية‏:‏ بسم الله وبالله وعلى عون الله امضوا بتأييد الله والنصر ولزوم الحق والصبر فقاتلوا في سبيل الله لا من كفر بالله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ولا تجبنوا عند اللقاء ولا تمثلوا عند القدرة ولا تسرفوا عند الظهور ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند حمة النهضات وفي شن الغارات ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً‏.‏
فقال له يزيد‏:‏ إما أن تركب وإما أن أنزل‏.‏
فقال‏:‏ ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال‏:‏ إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له - يعني الرهبان - وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤسهم الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف‏.‏
ثم قال له‏:‏ إني موصيك بعشر‏:‏ لا تغدر ولا تمثل ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً ولا تقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم ولا تحرقن نخلاً ولا تخربن عامر ولا تغل ولا تبخس‏.‏
وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة‏:‏ سر على بركة الله فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة‏.‏
واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه واحترس من البيات فإن في العرب غرة‏:‏ وأقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك‏.‏
واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سرائرهم وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه‏.‏
كتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني‏:‏ الحمد لله الذي فض حرمتكم وفرق جمعكم وأوهن بأسكم وسلب ملككم وأذل عزكم‏.‏
فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن واعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد‏:‏ أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب‏.‏
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم‏.‏
وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا‏.‏
واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً‏.‏
واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم‏.‏
أسأل الله ذلك لنا ولكم‏.‏
وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم على منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع‏.‏
وأقم ومن معك في كل جمعة يوم وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ أحداً أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم فتولوهم خيراً‏.‏
ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح‏.‏
وإذا وطئت لأرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخف عليك أمرهم‏.‏
وليكن عندك العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خيره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عينا لك‏.‏
وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم وموافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم‏.‏
وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل‏.‏
فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد لا تخص بها أحداً يهوى فيضيع من أمرك ورأيك اكثر مما حابيت به أهل خاصتك‏.‏
ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف عليها فيه غلبة أو ضيعة ونكاية‏.‏
فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك واجمع إليك مكيدتك وقوتك ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومقالته وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها فتصنع بعدوك كصنعه بك‏.‏
ثم أذك أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك‏.‏
ولا تؤتي بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك‏.‏
والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان‏.‏
وأوصى عبد الملك بن مروان أميراً سيره إلى أرض الروم فقال‏:‏ أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تجر وإلا تحفظ برأس المال‏.‏
ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك‏.‏
وكان زياد يقول لقواده‏:‏ تجنبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو‏:‏ الشتاء وبطون الأودية‏.‏
وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشاً في الشتاء فغنموا وسلموا فقال لعباد‏:‏ يا أبا حرب أين رأى زياد من رأينا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أخطأت وليس كل عورة تصاب‏.‏
العتبي قال‏:‏ جاشت الروم وغزوا المسلمين براً وبحراً فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فلما كتب له عهده قال‏:‏ ما أنت صانع بعهدي قال‏:‏ أتخذه إماماً لا أعصيه‏.‏
قال‏:‏ اردد علي عهدي‏.‏
ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فكتب له عهده ثم قال له‏:‏ ما أنت صانع بعهدي قال‏:‏ أتخذه إماماً أمام الحزم فإن خالفه خالفته‏.‏
فقال معاوية‏:‏ هذا الذي لا يكفكف من عجلة ولا يدفع في ظهره من خور ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال‏.‏
وقال دريد الصمة لمالك بن عوف النصري قائد هوازن يوم حنين‏:‏ يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام‏.‏
مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء قال‏:‏ سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم‏.‏
قال‏:‏ ولم ذاك قال‏:‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم‏.‏
فأنقض به وقال‏:‏ راعى ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك‏.‏
ويحك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل‏.‏
فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك‏.‏
قال‏:‏ لا والله لا أفعل ذلك إنك قد كبرت وذهل عقلك‏.‏
قال‏:‏ دريد‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يفتني ثم أنشأ يقول‏:‏ يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع وكان قتيبة بن مسلم يقول لأصحابه‏:‏ إذ غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصروا الشعور والحظوا الناس شزراً وكلموهم رمزاً واطعنوهم وخزاً‏.‏
وكان أبو مسلم يقول لقواده‏:‏ أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر وأكثروا ذكر الضغائن وكان سعيد بن زيد يقول لبنيه‏:‏ قصروا الأعنة واشحذوا الأسنة تأكلوا القريب ويرهبكم البعيد‏.‏
وقال عيسى بن موسى‏:‏ لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة ابني عبد الله بن الحسن وجعل يوصيني ويكثر قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إلى متى توصيني‏:‏ إني أنا ذاك الحسام الهندي أكلت جفني وفريت غمدي فكل ما تطلب عندي عندي المحاماة عن العشيرة ومنع المستجير قال عبد الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي‏:‏ ما مبلغ عزكم قال‏:‏ لم يطمع فينا ولم يؤمن منا‏.‏
قال‏:‏ فما مبلغ حفظكم قال‏:‏ يدفع الرجل منا عمن استجار به من غير قومه كدفاعه عن نفسه‏.‏
قال عبد الملك‏:‏ مثلك من يصف قومه‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان لابن مطاع الغنزي‏:‏ أخبرني عن مالك بن مسمع‏.‏
قال له‏:‏ لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب‏.‏
قال عبد الملك‏:‏ هذا والله السؤدد‏.‏
قال‏:‏ ولم يل قط مالك بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئاً للسلطان‏.‏
وكانت العرب تمتدح بالذب عن الجار فيقولون‏:‏ فلان منيع الجار حامي الذمار‏.‏
نعم حتى كان فيهم من يحمي الجراد إذا نزل في جواره فسمي مجير الجراد‏.‏
وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم‏:‏ هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل وقال آخر‏:‏ هم يمنعون الجار حتى كأنه كثيبة زور بين خافيتي نسر وذكر أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانئ بن عروة المرادي‏:‏ فبلغ ذلك معاوية فهدر دم هانئ‏.‏
فخرج إلى معاوية فكان في جواره ثم حضر مجلسه وهو لا يعرفه فلما نهض الناس ثبت مكانه‏.‏
فسأله معاوية عن أمره فقال‏:‏ أنا هانئ بن عروة‏.‏
فقال‏:‏ إن هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك‏:‏ أرجل جمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت وأمشي في سراة بني غطيف إذا ما ساءني أمر أبيت قال‏:‏ أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعز مني ذلك اليوم‏.‏
فقال‏:‏ بم ذلك قال‏:‏ بالإسلام‏.‏
قال‏:‏ أين كثير بن شهاب قال‏:‏ عندي وعندك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضاً وسوغه بعضاً وقد أمناه ووهبناه لك‏.‏
الشيباني قال‏:‏ لما نزل محمد بن أبي بكر مصر وصير إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي تفرق عن محمد من كان معه فتغيب‏.‏
فدل عليه فأخذه وضرب عنقه وبعث برأسه إلى وكان محمد بن جعفر بن أبي طالب معه فاستجار بأخواله من خثعم فغيبوه‏.‏
وكان سيد خثعم يومئذ رجلاً في ظهره بزخ من كسر أصابه فكان إذا مشى ظن الجاهل أنه يتبختر في مشيته فذكر لمعاوية أنه عنده فقال له‏:‏ أسلم إلينا هذا الرجل‏:‏ فقال‏:‏ ابن اختنا لجأ إلينا لنحقن دمه عنك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ والله لا أدعه حتى تأتيني به‏.‏
قال لا والله لا أتيك به‏.‏
قال‏:‏ كذبت‏.‏
والله لتأتيني به إنك ما علمت لأوره‏.‏
قال‏:‏ أجل إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لأحقن دمه وأقدم ابن عمي دونه تسفك دمه‏.‏
فسكت عنه معاوية وخلى بينه وبينه‏.‏
الشيباني قال‏:‏ قال سعيد بن سلم‏:‏ أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن دله عليه أو جاءه به مائة ألف درهم‏.‏
قال‏:‏ فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم إنه ظهر بمدينة السلام فكان ظاهراً كغائب خائفاً مترقباً‏.‏
فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأهوى إلى مجامع ثوبه وقال‏:‏ هذا بغية أمير المؤمنين فأمكن الرجل من قياده ونظر إلى الموت أمامه‏.‏
فبينما هو على الحالة إذ سمع وقع الحوافر من وراء ظهره فالتفت فإذا معن بن زائدة فقال‏:‏ يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به‏:‏ ما شأنك قال‏:‏ بغية أمير المؤمنين الذي أهدر دمه وأعطى لمن دل عليه مائة ألف‏.‏
فقال‏:‏ يا غلام انزل عن دابتك واحمل أخانا‏.‏
فصاح الرجل‏:‏ يا معشر الناس يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين‏!‏ قال له معن‏:‏ اذهب فأخبره أنه عندي‏.‏
فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره فأمر بحبس الرجل ووجه إلى معن من يحضر به‏.‏
فأتته رسل أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه وقربت إليه دابته فدعا أهل بيته ومواليه فقال‏:‏ لا يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف‏.‏
ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي فلم يرد عليه‏.‏
فقال‏:‏ يا معن أتجير علي قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ ونعم أيضاً‏!‏ واشتد غضبه‏.‏
فقال معن‏:‏ يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي وحسن غنائي فما رأيتموني أهلاً أن تهبوا لي رجلاً واحداً استجار بي فأطرق المهدي طويلاً ثم رفع رأسه وقد سري عنه فقال‏:‏ قد أجرنا من أجرت‏.‏
قال معن‏:‏ فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه فعل‏.‏
قال‏:‏ قد أمرنا له بخمسين ألف‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فأجزل له الصلة‏.‏
قال‏:‏ قد أمرنا له بمائة ألف‏.‏
قال‏:‏ فتعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله‏.‏
فأمر بتعجيلها‏.‏
فدعا لأمير المؤمنين بأفضل دعاء ثم انصرف ولحقه المال‏.‏
فدعا الرجل فقال له‏:‏ خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى‏.‏
قال عمرو بن معد يكرب‏:‏ الفزعات ثلاث‏:‏ فمن فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقله رجلاه ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفر عن أبويه ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل‏.‏
وقال الأحنف بن قيس‏:‏ أسرع إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار‏.‏
وقامت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء‏!‏ أف للجبناء‏!‏ وقال الشاعر‏:‏ يفر الجبان عن أبيه وأمه ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه ويرزق معروف الجواد عدوه ويحرم معروف البخيل أقاربه وقال خالد بن الوليد عند موته‏.‏
لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية ثم هأنذا أموت حتف أنفى كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء‏.‏
ومن أشعار الفرارين الذين حسنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن قول الفرار السلمي‏:‏ وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي هل ينفعنى أن تقول نساؤهم وقتلت دون رجالها‏:‏ لا تبعد وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول‏:‏ الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا مهري بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فصدفت عنهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد وهذا الذي سمعه رتبيل فقال‏:‏ يا معشر العرب حسنتم كل شيء فحسن حتى الفرار‏.‏
وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك‏.‏
وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله مجاهداً فأتبعه أهل مكة يبكون فرق وبكى وقال‏:‏ أما لو كنا نستبدل داراً بدارنا أو جاراً بجارنا ما رأينا بكم بدلا ولكنها النقلة إلى الله‏.‏
فلم يزل هنالك مجاهداً حتى مات‏.‏
وقال آخر‏:‏ قامت تشجعني هند وقد علمت أن الشجاعة مقرون بها العطب لا والذي منع الأبصار رؤيته ما يشتهي الموت عندي من له أدب ولست منهم ولا أبغي فعالهم لا القتل يعجبني منهم ولا السلب وقال محمود الوراق‏:‏ أيها الفارس المشيح المغير إن قلبي من السلاح يطير ليس لي قوة على رهج الخيل إذا ثور الغبار مثير واستدارت رحى الحروب بقوم فقتيل وهارب وأسير حيث لا ينطق الجبان من الذعر ويعلو الصياح والتكبير أنا في مثل ذا وهذا بليد ولبيب في غيره بحرير وقال أيمن بن خريم‏:‏ إن للفتنة ميطاً بيناً فرويد الميط منها يعتدل فإذا كان عطاء فأتهم وإذا كان قتال فاعتزل إنما يوقدها جهالها حطب النار فدعها تشتعل ومما يحتج به الفرارون ما قاله صاحب كليلة ودمنة‏:‏ إن الحازم يكره القتال ما وجد بداً منه لأن النفقة فيه من النفس والنفقة في غيره من المال‏.‏
ومن الفرارين‏:‏ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فر من الأزارقة وكان في عشرة آلاف وكان قد بعث إليه المهلب‏:‏ يا بن أخي خندق على نفسك وعلى أصحابك فإني عالم بأمر الخوارج ولا تغتر‏.‏
فبعث إليه‏:‏ أنا أعلم بهم منك وهم أهون علي من ضربة الجمل‏.‏
فبيته قطري صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة وفر لا يلو على أحد‏.‏
فقال فيه الشاعر‏:‏ تركت ولداننا تدمى نحورهم وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل ومن الفرارين‏:‏ أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد‏.‏
فر يوم مرداء هجر من أبي فديك‏.‏
فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فجلس يوماً بالبصرة فقال‏:‏ سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام‏.‏
فقال له بعض جلسائه‏:‏ أصلح الله الأمير فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد‏.‏
فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول أيهنئونه أم يعزونه حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا‏:‏ ما عسى أن يقال للمنهزم فسلم ثم قال‏:‏ مرحباً بالصابر المخذول الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرضت للشهادة جهدك ولكن علم الله تعالى حاجة أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك‏.‏
فقال أمية بن عبد الله‏:‏ ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك‏.‏
إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد أتي الحجاج بدواب أمية قد وسم على أفخاذها عدة فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك‏:‏ للفرار‏.‏
وقال أبو دلامة‏:‏ كنت مع مروان أيام الضحاك الحروري فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم ثان فقتله ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم‏.‏
فقال مروان‏:‏ من يخرج إليه وله عشرة آلاف قال‏:‏ فلما سمعت عشرة آلاف هانت علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه فإذا عليه فرو قد أصابه المطر فارمعل ثم أصابته الشمس فاقفعل وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان‏.‏
فلما رآني فهم الذي أخرجني فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول‏:‏ وخارج أخرجه حب الطمع فر من الموت وفي الموت وقع ‏"‏ من كان ينوي أهله فلا رجع ‏"‏ فلما رأيته قنعت رأسي ووليت هارباً ومروان يقول‏:‏ من هذا الفاضح لا يفتكم فدخلت في غمار الناس‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ ألا تغزو العدو قال‏:‏ وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني وقيل لآخر‏:‏ ألا تغزو العدو قال‏:‏ والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أخب إليه راكضاً‏.‏
ومما قيل في الفرارين والجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره يوم بدر وقد تقدم ذكر ذلك‏:‏ إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث هشام ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام ملأت به الفرجين فارمدت به وثوى أحبته بشر مقام وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان‏:‏ إذا صوت العصفور طار فؤاده وليث حديد الناب عند الثرائد وقال فيه‏:‏ ضعيف القلب رعديد عظيم الخلق والمنظر رأى في النوم عصفوراً فوارى نفسه أشهر وقال آخر‏:‏ لو جرت خيل نكوصاً لجرت خيل ذفافه وقال آخر‏:‏ خرجنا نريد مغاراً لنا وفينا زياد أبو صعصعة فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرماح في بني تميم‏:‏ تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت ولو أن برغوثاً على ظهر قملة رأته تميم يوم زحف لولت ولو جمعت يوماً تميم جموعها على ذرة معقولة لاشمعلت وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة وقليلة لا عادة كما قال زفر بن الحارث وفر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال‏:‏ أيذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيامي وحسن بلائيا ولم تر مني زلة قبل هذه فراري وتركي صاحبي ورائيا وفر عمر بن معد يكرب من عباس بن مرداس السلمي وأسر أخته ريحانة‏.‏
وفيها يقول عمرو‏:‏ أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع وفر عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير أجاعلة أم الثوير خزاية علي فراري إذ لقيت بني عبس لقيت أبا شأس وشأساً ومالكاً وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي لقونا فضموا جانبينا بصادق من الطعن مثل النار في الحطب اليبس ولما دخلنا تحت فيء رماحهم خبطت بكفي أطلب الأرض باللمس وليس يعاب المرء من جبن يومه إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقال أيضاً‏:‏ ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهة حين للنفس من الموت هرير كل ما ذلك مني خلق وبكل أنا في الروع جدير وابن صبح سادراً يوعدني ما له في الناس ما عشت مجير وقال الحارث لامرأته وذلك أنها نظرت إليه وهو يحد حربة يوم فتح مكة فقالت له‏:‏ ما تصنع بهذه قال‏:‏ أعددتها لمحمد وأصحابه‏.‏
فقالت‏:‏ ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء‏!‏ قال‏:‏ والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم قم أنشأ يقول‏:‏ فلما لقيهم خالد بن الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل فلامته امرأته فقال‏:‏ إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالموتمة ولحقتنا بالسيوف المسلمة يفلقن كل ساعد وجمجمة ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وكان أسلم بن زرعة وجهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين وأبو بلال في أربعين رجلاً فشدوا عليه شدة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه فما دخل على ابن زياد عنفه في ذلك وقال‏:‏ أتمضي في ألفين وتنهزم‏.‏
عن أربعين‏!‏ فخرج عنه وهو يقول لأن يذمني ابن زياد حياً خير من أن يمدحني ميتاً‏.‏
وفي رواية أخرى‏:‏ أن يشتمني الأمير وأنا حي أحب إلي من أن يدعو لي وأنا ميت‏.‏
فقال شاعر الخوارج‏:‏ أألفا مؤمن لستم كذاكم ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة ينصرونا ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي وكان فر يوم الحرة من جيش مسلم بن أنا الذي فررت يوم الحرة والشيخ لا يفر إلا مرة فاليوم أجزى فرة بكره لا بأس بالكرة بعد الفره فلم يزل يقاتل حتى قتل‏.‏
وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قال قيس بن الخطيم‏:‏ إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود وازورار المناكب أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعب وقر عتيبة بن الحارث بن شهاب يوم ثبرة عن ابنه حزوة وقال‏:‏ يا حسرتا لقد لقيت حسرة يالتميم غشيتني غمره نعم الفتى غادرته بثبرة نجيت نفسي وتركت حزرة هل يترك الحر الكريم بكره وفر أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات فقال‏:‏ رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت - وأنكرت الوجوه - هم هم وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم وفر خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك فقال‏:‏ بذلت لهم يا قوم حولي وقوتي ونصحي وما ضمت يداي من التبر فلما تناهى الأمر بي من عدوكم إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحفل ملامة عاجز يقيم لأطراف الردينية السمر فلو كان لي روحان عرضت واحداً لكل رديني وأبيض ذي أثر رجع بنا القول إلى الفرارين والجبناء وما قيل فيهم‏.‏
فر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة فقال فيه الفرزدق‏:‏ وكل بني السوداء قد فر فرة فلم يبق إلا فرة في است خالد فضحتم أمير المؤمنين وأنتم تمرون سودانا غلاظ السواعد وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع‏:‏ تقدم‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ وقالوا تقدم قلت لست بفاعل أخاف على فخارتي أن تحطما فلو كان لي رأسان أتلفت واحداً ولكنه رأس إذا راح أعقما ولو كان مبتاعاً لدى السوق مثله فعلت ولم أحفل بأن أتقدما وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع الجذامي‏:‏ عجباً منك‏!‏ كيف سودك قومك وأنت جبان غيور قال‏:‏ أما الجبن فإن لي نفساً واحدة فأنا أحوطها وأما الغيرة فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره‏.‏
وقال كعب بن زهير‏:‏ بخلاً علينا وجبناً من عدوكم لبئست الخلتان‏:‏ البخل والجبن فضائل الخيل قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخيل‏:‏ أعرفها أدفاؤها وأذنابها مذابها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عليكم بإناث الخيل فإن بطونها كنز وظهورها حرز وأصحابها معانون عليها‏.‏
وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أريد أن اشتري فرساً أعده في سبيل الله‏.‏
فقال له‏:‏ اشتره أدهم أو كميتاً أقرح أرثم أو محجلاً مطلق اليمين فإنها ميامن الخيل‏.‏
وقيل لبعض الحكماء‏:‏ أي الأموال أشرف قال فرس يتبعها فرس في بطنها فرس‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:40 AM

صفة جياد الخيل
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب من الخيل الشقر‏.‏
وقال‏:‏ لو جمعت خيل العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر‏.‏
وسأله رجل‏:‏ أي المال خير قال‏:‏ سكة مأبورة ومهرة مأمورة‏.‏
وكان عليه الصلاة والسلام يكره الشكال في الخيل‏.‏
ووصف أعرابي فرساً فقال‏:‏ إذا تركته نعس وإذا حركته طار‏.‏
وأرسل مسلم بن عمرو لابن عم له بالشام يشتري له خيلاً‏.‏
فقال له‏:‏ لا علم لي بالخيل‏.‏
فقال‏:‏ ألست صاحب قنص قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ انظر كل شيء تستحسنه في الكلب في الفرس‏.‏
فأتى بخيل لم يكن في العرب مثلها‏.‏
وقال بعض الضبيين في وصف فرس‏:‏ متقاذف عبل الشوى شنج النسا سباق أندية الجياد عميثل وإذا تعلل بالسياط جيادها أعطاك نائله ولم يتعلل سأل المهدي مطر بن دراج عن أي الخيل أفضل قال‏:‏ الذي إذا استقبلته قلت نافر وإذا استدبرته قلت زاخر وإذا استعرضته قلت زافر‏.‏
قال‏:‏ فأي هذه أفضل قال‏:‏ الذي طرفه إمامه وسوطه عنانه‏.‏
وقال آخر‏:‏ الذي إذا مشى ردى وإذا عدا دحا وإذا استقبل أقعى وإذا استدبر جبى وإذا استعر استوى‏.‏
وسأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان‏:‏ أي الخيل أفضل‏!‏ قال‏:‏ الطويل الثلاث القصير الثلاث العريض الثلاث الصافي الثلاث‏.‏
قال‏:‏ فسر لنا‏.‏
قال‏:‏ أما الطويل الثلاث فالأذن والعنق والحزام‏.‏
وأما القصر الثلاث فالصلب والعسيب والقضيب‏.‏
وأما العريض الثلاث فالجبهة والمنخر والورك وأما الصافي الثلاث فالأديم والعين والحافر‏.‏
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب‏:‏ كيف معرفتك بعراب الخيل قال‏:‏ معرفة الإنسان بنفسه وأهله وولده‏.‏
فأمر بأفراس فعرضت عليه‏.‏
فقال‏:‏ قدموا إليها الماء في التراس فما شرب ولم يكتف فهو من العراب وما ثنى سنبكه فليس منها‏.‏
قلت‏:‏ إنما المحفوظ أن عمر شك في العتاق والهجن فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره‏.‏
فأمر سلمان بطست من ماء فوضع بالأرض ثم قدم إليه الخيل فرساً فرساً فما ثنى سنبكه وشرب هجنه وما شرب ولم يثن سنبكه عربه‏.‏
وقال حسان بن ثابت يصف طول عنق الفرس‏:‏ بكل كميت جوزه نصف خلقه أقب طوال مشرف في الحوارك وقال زهير‏:‏ وملجمنا ما أن ينال قذاله ولا قدماه الأرض إلا أنامله وقال آخر‏:‏ له ساقا ظليم خا ضب فوجئ بالرعب وقال آخر‏:‏ هريت قصير عذاب اللجام أسيل طويل عذار الرسن لم يرد بقوله‏.‏
قصير عذار اللجام قصر خده وإنما أراد طول شق الفم‏.‏
وأراد بطول عذار الرسن‏:‏ طول الخد‏.‏
وقال آخر‏:‏ بكل هريت نقي الأديم طويل الحزام قصير اللبب وقال أبو عبيدة يستدل على عنق الفرس برقة جحافله وأرنبته وسعة منخريه وعري نواهقه ودقة حقويه وما ظهر من أعالي أذنيه ورقة سالفتيه وأديمه ولين شعره‏.‏
وأبين من ذلك كله لين شكير ناصيته وعرفه‏.‏
وكانوا يقولون‏.‏
إذا اشتد نفه ورحب متنفسه وطال عنقه واشتد حقوه وانهرت شدقه وعظمت فخذاه وانشبخت أنساؤه وعظمت فصوصه وصلبت حوافره ووقحت ألحق بجياد الخيل‏.‏
قيل لرجل من بني أسد‏:‏ أتعرف الفرس الكريم من المقرف قال‏:‏ نعم أما الكريم فالجواد الجيد الذي نهز نهز العير وأنف تأنيف السير الذي إذا عدا اسلهب وإذا أقبل أجلعب وإذا انتصب اتلأب‏.‏
وأما المقرف‏:‏ فإنه الذلول الحجبة الضخم الأرنبة الغليظ الرقبة الكثير الجلبة الذي إذا أرسلته قال‏:‏ أمسكني وإذا أمسكته قال‏:‏ أرسلني‏.‏
وكان محمد بن السائب الكلبي يحدث‏:‏ أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان بن داود عليهما السلام كانت ألف فرس ورثها عن أبيه فلما عرضت ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب فعرقبها إلا أفراساً لم تعرض عليه‏.‏
فوفد عليه أقوام من الأزد وكانوا أصهاره فلما فرغوا من حوائجهم قالوا‏:‏ يا نبي الله إن أرضنا شاسعة فزودنا زاداً يبلغنا‏.‏
فأعطاهم فرساً من تلك الخيل وقال‏:‏ إذا نزلتم منزلاً فاحملوا عليه غلاماً واحتطبوا فإنكم لا تورون ناركم حتى يأتيكم بطعامكم فساروا بالفرس فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا ركبه أحدهم للقنص فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار إلى أن قدموا إلى بلادهم فقالوا‏.‏
ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب‏.‏
فسموه زاد الراكب‏.‏
فأصل فحول العرب من نتاجه‏.‏
ويقال إن أعوج كان منها وكان فحلاً لهلال بن عامر أنتجته أمه ببعض بيوت الحي فنظروا إلى طرف يضع جحفلته على كاذتها على الفخذ مما يلي الحياء فقالوا‏:‏ أدركوا ذلك الفرس لا ينزو على فرسكم لعظم أعوج وطول قوائمه‏.‏
فقاموا إليه فوجدوا المهر فسموه أعوج‏.‏
وأخبرنا فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ أغير على أهل النسار وأعوج موثق بثمامة فجال صاحبه في متنه ثم زجره فاقتلع الثمامة فخرجت تحف في متنه كالخذروف وراءه‏.‏
فغدا بياض يومه وأمسى يتعشى من جميم قباء‏.‏
وقال الشاعر في وصف فرس‏:‏ وأحمر كالديباج أما سماؤه فريا وأما أرضه فمحول قوله سماؤه‏:‏ أعلاه وأرضه‏:‏ أسفله‏.‏
يريد قوائمه‏.‏
وللطائي نظير هذا حيث يقول‏:‏ مبتل متن وصهوتين إلى حوافر صلبة له ملس فهو لدى الروع والحلائب ذو أعلى مندى وأسفل يبس أو أدهم فيه كمتة أمم كأنه قطعة من الغلس صهصلق في الصهيل تحسبه أشرج حلقومه على جرس وقال حبيب أيضاً يصف فرساً أهداه إليه الحسن بن وهب الكاتب‏:‏ ما مقرب يختال في أشطانه ملآن من صلف به وتلهوق بحوافر حفر وصلب صلب وأشاعر شعر وحلق أحلق ذو ألق تحت العجاج وإنما من صحة إفراط ذاك الأولق تغرى العيون به ويفلق شاعر في نعته عفواً وليس بمفلق بمصعد من حسنه ومصوب ومجمع في خلقه ومفرق قد سالت الأوضاح سيل قرارة فيه فمفترق عليه وملتقى صافي الأديم كأنما ألبسته من سندس ثوباً ومن إستبرق مسود شطر مثل ما اسود الدجى مبيض شطر كابيضاض المهرق فكأن فارسه يصرف إذ بدا في متنه ابنا للصباح الأبلق إملسه إمليده لو علقت في صهوتيه الصين لم تتعلق يرقى وما هو بالسليم ويغتدي دون السلاح سلاح أروع مملق وقال أبو سويد‏:‏ شهد أبو دلف وقعة البذ وتحته فرس أدهم وعليه نضح الدم‏.‏
فاستوقفه رجل من الشعراء وأنشد‏:‏ كم ذا تجرعه المنون ويسلم لو يستطيع شكا إليك الأدهم في كل منبت شعرة من جلده نمق ينمقه الحسام المخذم ما تدرك الأرواح أدنى سيره لا بل يفوت الريح فهو مقدم رجعته أطراف الأسنة أشقراً واللون أدهم حين ضرجه الدم قال‏:‏ فأمر له بعشرة آلف درهم‏.‏
ومن قولنا في وصف الفرس‏:‏ ومقربة يشقر في النقع كمتها ويخضر حيناً كلما بلها الرشح تطير بلا ريش إلى كل صيحة وتسبح في البر الذي ما به سبح وقال عدى بن الرقاع‏:‏ يخرجن من فرجات النقع دامية كأن آذانها أطراف أقلام وطلب البحتري الشاعر من محمد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب فرساً ووصف له أنواعاً من الخيل في شعره فقال‏:‏ لآكلفن العيس أبعد همة يجري إليها خائف أو مرتجى وإلى سراة بني حميد إنهم أمسوا كواكب أشرقت في مذحج والبيت لولا أن فيه فضيلة تعلو البيوت بفضلها لم يحجج فأعن على غزو العدو بمنطو أحشاؤه طي الرداء المدرج متسربل شية طلت أعطافه بدم فما تلقاه غير مضرج أو أدهم صافي الأديم كأنه تحت الكمى مظهر بيرندج ضرم يهيج السوط من شؤبوبه هيج الجنائب من حريق العرفج خفت مواقع وطئه فلو أنه يجري برملة عالج لم يرهج أو أشهب يقق يضئ وراءه متن كمتن اللجة المترجرج تخفى الحجول ولو بلغن لبانه في أبيض متألق كالدملج أوفى بعرف أسود متفرد فيما يليه وحافر فيروزجي أو أبلق ملأ العيون إذا بدا من كل لون معجب بنموذج جذلان تحسده الجياد إذا مشى عنقاً بأحسن حلة لم تنسج وعريض أعلى المتن لو عليته بالزئبق المنهال لم يترجرج خاضت قوائمه الوثيق بناؤها أمواج تحنيب بهن مدرج ولأنت أبعد في السماحة همة من أن تضن بموكف أو مسرج كأن على المتنين منه إذا انتحى مداك عروس أو صلاية حنظل مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل درير كخذروف الوليد أمره تتابع كفيه بخيط موصل كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل فأخذت الشعراء هذا التشبيه من امرئ القيس فحذوا عليه فقال طفيل الخيل‏:‏ إني وإن قل مالي لا يفارقني مثل النعامة في أوصالها طول تقريبها المرطى والجوز معتدل كأنه سبد بالماء مغسول أو ساهم الوجه لم تقطع أباجله يصان وهو ليوم الروع مبذول وقال عبد الملك بن مروان لأصحابه‏:‏ أي المناديل أفضل فقال‏:‏ بعضهم‏:‏ مناديل مصر التي كأنها غرقئ البيض وقال بعضهم‏:‏ مناديل اليمن التي كأنها أنوار الربيع‏.‏
فقال‏:‏ ما صنعتم شيئاً أفضل المناديل مناديل عبدة ابن الطبيب حيث يقول‏:‏ لما نزلنا ضربنا ظل أخبية وفار باللحم للقوم المراجيل ورداً وأشقر لم ينهئه طابخه ما قارب النضج منها فهو مأكول وقال الأصمعي‏:‏ ما سبق في الرهان فرس أهضم قط‏.‏
وأنشد لأبي النجم‏:‏ منتفج الجوف عريض كلكله قال‏:‏ وكان هشام بن عبد الملك رجلاً مسبقاً لا يكاد يسبق فسبقت له فرس أنثى وصلت أختها ففرح لذلك فرحاً شديداً وقال‏:‏ علي بالشعراء‏.‏
قال أبو النجم‏:‏ فدعينا فقيل لنا‏:‏ قولوا في هذه الفرس وأختها‏.‏
فسأل أصحاب النشيد النظرة حتى يقولوا فقلت له‏:‏ هل لك في رجل ينقذك إذا استنسئوك قال‏:‏ هات‏.‏
فقلت من ساعتي‏:‏ أشاع للغراء فينا ذكرها قوائم عوج أطعن أمرها وما نسينا بالطريق مهرها حين نقيس قدره وقدرها وصبره إذا عدا وصبرها والماء يعلو نحره ونحرها ملمومة شد المليك أسرها أسفلها وبطنها وظهرها قد كاد هاديها يكون شطرها قال أبو النجم‏:‏ فأمر لي بجائزة وانصرفت‏.‏
أبو القاسم جعفر بن أحمد بن محمد وأبو الحسن علي بن جعفر البصري قالا‏:‏ حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي‏:‏ أن هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون ولسليمان بن أبي جعفر المنصور ولعيسى بن جعفر‏.‏
فجاء فرس أدهم يقال له الربد لهارون الرشيد سابقاً‏.‏
فابتهج لذلك ابتهاجاً علم ذلك في وجهه وقال‏:‏ علي بالأصمعي‏.‏
فنوديت له من كل جانب‏.‏
فأقبلت سريعاً حتى مثلت بين يديه‏.‏
فقال‏:‏ يا أصمعي خذ بناحية الربد ثم صفه من قونسه إلى سنبكه فإنه يقال‏:‏ إن فيه عشرين اسماً ومن أسماء الطير‏.‏
قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين وأنشدك شعراً جامعاً لها من قول أبي حزرة‏.‏
قال‏:‏ فأنشدنا لله أبوك‏.‏
قال‏:‏ فأنشدته‏:‏ وأقب كالسرحان تم له ما بين هامته إلى النسر الأقب‏:‏ اللاحق المخطف البطن وذلك يكون من خلقة وربما حدث من هزال أو بعد قود والأنثى قباء والجمع‏:‏ قب والمصدر‏:‏ القبب‏.‏
والسرحان‏:‏ الذئب شبهه في ضموره وعدوه به وجمعه سراحين وقد قالوا‏:‏ سراح‏.‏
والهامة‏:‏ أعلى الرأس وهي أم الدماغ وهي من أسماء الطير‏.‏
والنسر‏:‏ هو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه كأنه النوى والحصى وهو من أسماء الطير وجمعه نسور‏.‏
رحبت نعامته ووفر فرخه وتمكن الصردان في النحر رحبت‏:‏ اتسعت‏.‏
ونعامته‏:‏ جلدة رأسه التي تغطى الدماغ وهي من أسماء الطير‏.‏
وقوله‏:‏ ووفرة فرخه‏.‏
الفرخ‏:‏ هو الدماغ وهو من أسماء الطيور‏.‏
ووفر‏:‏ أي تمم يقال‏:‏ وفرت الشيء ووفرته بالتخفيف فهو موفور‏.‏
والصردانن‏:‏ عرقان في أصل اللسان يجري منهما الريق ونفس الرئة وهما من أسماء الطير‏.‏
وفي الظهر صرد أيضاً وهو بياض يكون في موضع السرج من أثر الدبر يقال‏:‏ فرس صرد إذا كان ذلك به والنحر‏:‏ موضع القلادة من الصدر وهو البرك‏.‏
وأناف بالعصفور من سعف هام أشم موثق الجذر أناف‏:‏ أشرف‏.‏
والعصفور‏:‏ أصل منبت الناصية والعصفور أيضاً‏:‏ عظم ناتئ في كل جبين والعصفور‏:‏ من الغرر أيضاً وهي التي سالت ودقت ولم تتجاوز إلى العينين ولم تستدر كالقرحة وهو من أسماء الطير والسعف يقال‏:‏ فرس بين السعف وهو الذي سالت ناصيته‏.‏
وهام أي سائل منتشر‏.‏
وأشم‏:‏ مرتفع‏.‏
والشمم في الأنف‏:‏ ارتفاع قصبته‏.‏
ويروى‏:‏ هاد أشم يريد عنقاً مرتفعاً وجمعه‏:‏ هواد وقوله‏:‏ موثق أي شديد قوي‏.‏
والجذر‏:‏ الأصل من كل شيء‏.‏
قال الأصمعي وغيره‏:‏ هو بالفتح وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ هو بالكسر‏.‏
وازدان بالديكين صلصله ونبت دجاجته عن الصدر ازدان‏:‏ افتعل من قولك زان يزين وكان الأصل ازتان فقلبت التاء دالا لقرب نخرجها من مخرج الزاي وكذلك ازداد من زاد يزيد‏.‏
والديكان واحدهما ديك وهو العظم الناتئ خلف الأذن وهو الذي يقال له الخششاء والخشاء‏.‏
والصلصل‏:‏ بياض في طرف الناصية ويقال‏:‏ هو أصل الناصية‏.‏
والدجاجة‏:‏ اللحم الذي على زوره بين يديه‏.‏
والديك والصلصل والدجاجة من أسماء الطير‏.‏
والناهضان أمر جلزهما فكأنما عثما على كسر الناهضان‏:‏ واحدهما ناهض وهو لحم المنكبين ويقال‏:‏ هو اللحم الذي يلي العضدين من أعلاهما والجمع‏:‏ نواهض ويقال في الجمع‏:‏ أنهض على غير قياس‏.‏
والناهض‏:‏ فرخ القطا وهو من أسماء الطير‏.‏
وقوله‏:‏ أمر جلزهما أي فتل وأحكم يقال‏:‏ أمررت الحبل فهو ممر أي فتلته‏.‏
والجلز‏:‏ الشد‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏ فكأنما عثما على كسر ‏"‏ أي كأنهما كسراً ثم جبراً‏.‏
يقال‏:‏ عثمت يده‏.‏
العثم‏:‏ الجبر على عقدة وعوج وعثمان فعلان منه‏.‏
مسحنفر الجنبين ملتئم ما بين شيمته إلى الغر مسحنفر الجنبين‏:‏ أي منتفخهما‏.‏
ملتئم أي معتدل‏.‏
وشيمته‏:‏ نحره‏.‏
والشيمة أيضاً‏:‏ من قولك‏:‏ فرس أشيم بين الشيمة وهي بياض فيه ويقال‏:‏ أن تكون شامة أو شام في جسده‏.‏
والغر في الطير يسمى الرخمة وهي عضلة الساق‏.‏
وصفت سماناه وحافزه وأديمه ومنابت الشعر السمانى‏:‏ طائر وهو موضع من الفرس لا أحفظه إلا أن يكون أراد السمامة وهي دائرة تكون في سالفة الفرس وهي عنقه والسمامة من الطير أيضاً‏.‏
والأديم‏:‏ الجلد‏.‏
وسما الغراب لموقعيه معاً فأبين بينهما على قدر سما الغراب أي ارتفع والغراب‏:‏ رأس الورك‏.‏
ويقال للصلوين‏:‏ الغرابان وهما مكتنفا عجب الذنب‏.‏
ويقال‏:‏ هما ملتقى أعالي الوركين‏.‏
والموقعان منه في أعالي الخاصرتين فأبين أي فرق بينهما على قدر أي على استواء واعتدال‏.‏
واكتن دون قبيحه خطافه ونأت سمامته عن الصقر اكتن‏:‏ أي استتر‏.‏
والقبيح‏:‏ ملتقى الساقين ويقال أنه مركب الذراعين في العضدين‏.‏
والخطاف‏:‏ من أسماء الطير وهو حيث أدركت عقب الفرس إذا حرك رجليه‏.‏
ويقال لهذين الموضعين من الفرس‏:‏ المركلان‏.‏
ونأت أي بعدت‏.‏
والسمامة‏:‏ دائرة تكون في عنق الفرس وقد ذكرناها وهي من أسماء الطير‏.‏
والصقر‏:‏ أحسبها دائرة في الرأس وما وقفت عليها وهي من أسماء الطير‏.‏
القطاة‏:‏ مقعد الردف وهي من أسماء الطير والحر‏:‏ من الطير يقال إنه ذكر الحمام وهو من الفرس سواد يكون في ظاهر أذنيه‏.‏
وسما على نقويه دون حداته خربان بينهما مدى الشبر النقوان‏:‏ واحدهما نقو والجمع‏.‏
أنقاء وهو عظم ذو مخ وإنما عنى هاهنا عظام الوركين لأن الخرب هو الذي تراه مثل المدهن في ورك الفرس‏.‏
وهو من الطير‏:‏ ذكر الحبارى‏.‏
والحدأة‏:‏ من الطير وأصله الهمز ولكنه خفف وهي سالفة الفرس وجمعها حداء على وزن فعال كما تقول‏:‏ عظاءة وعظاء ويقال‏:‏ عظاية‏.‏
وإذا فتحت الفاء قلت‏:‏ حدأة وهي الفأس ذات الرأسين وجمعها‏:‏ حدأ مثل نواة ونوى وقطاة وقطا‏.‏
يدع الرضيم إذا جرى فلقاً بتوائم كمواسم سمر الرضيم‏:‏ الحجارة‏.‏
والفلق‏:‏ المكسورة فلقاً‏.‏
بتوائم‏:‏ جمع توأم وقد قالوا‏.‏
تؤم على وزن فعال جمع توأم وهي على غير قياس‏.‏
يقول‏:‏ هي مثنى مثنى يعني حوافره‏.‏
والمواسم‏:‏ جمع ميسم الحديد من وسمت أي إنها كمواسم الحديد في صلابتها‏.‏
وقوله‏:‏ سمر أي لون الحافر وهو أصلب الحوافر‏.‏
ركبن في محص الشوى سبط كفت الوثوب مشدد الأسر الشوى هاهنا‏:‏ القوائم والواحدة‏:‏ شواة‏.‏
ويقال‏:‏ فرس محص الشوى إذا كانت قوائمه معصوبة‏.‏
سبط‏:‏ سهل‏.‏
كفت الوثوب أي مجتمع من قولك‏:‏ كفت الشيء إذا جمعته وتممته‏.‏
مشدد الأسر أي الخلق‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ فأمر لي بعشرة آلاف درهم‏.‏
وسبق يوماً فرس للرشيد يسمى المشمر وكان أجراه مع أفراس للفضل وجعفر بني يحيى بن خالد البرمكي فقال أبو العتاهية‏:‏ جاء المشمر والأفراس يقدمها هوناً على سرعة منها وما انتهرا وخلق الريح حسرى وهي تتبعه ومر يختطف الأبصار والنظرا وقال أبو النجم في شعر يصف الفرس وهو أجود شعر يصف الحلبة‏:‏ ثم سمعنا برهان نأمله قيد له من كل أفق جحفله فقلت للسائس قده أعجله وأغد لعنا في الرهان نرسله فظل مجنوناً وظل جمله بين شعيبين وزاد يزمله نعلو به الحزن ولا نسهله إذا علا الأخشب صاح جندله ترنم النوح تبكي مثكله كأن في الصوت الذي يفصله طي التجار العصب إذ تنخله وقد رأينا فعلهم فنفعله نطويه والطي الرقيق يجدله نضمر الشحم ولسنا نهزله حتى إذا الليل تولى أثلجه وأتبع الأيدي منه أرجله قمنا على هول شديد وجله نمد حبلاً فوق خط نعدله نقوم قدم ذا وهذا أدخله وقام مشقوق القميص يعجله فوق الخماسي قليلاً يفضله أدرك عقلاً والرهان عمله حتى إذا أدرك خيلاً مرسله ثار عجاج مستطير قسطله تنفش منه الخيل ما لا تغزله مراً يغطيها ومراً تنعله مر القطا انصب عليه أجدله وهو رخي البال ساج وهله قدمه مثلاً لمن يتمثله تطيره الجن وحينا ترجله تسبح أخراه ويطفو أوله ترى الغلام ساجياً ما يركله يعطيه ما شاء وليس يسأله كأنه من زبد يسربله والجن عكاف به تقبله وقال آخر في فرس أبي الأعور السلمي‏:‏ مر كلمع البرق سام ناظره تسبح أولاه ويطفو آخره ‏"‏ فما يمس الأرض منه حافره ‏"‏ وقول هذا أشبه من قول أبي نجم لأنه يقول‏:‏ ‏"‏ تسبح أخراه ويطفو أوله ‏"‏ وقال الأصمعي‏:‏ إذا كان الفرس كما قال أبو النجم فحمار الكساح أسرع منه لأن اضطراب مؤخره قبيح‏.‏
وقال الأصمعي كان أبو النجم وصافاً للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت‏.‏
وقد غلط رؤبة أيضاً في الفرس فقال يصف قوائمه‏:‏ ‏"‏ يهوين شتى ويقعن وفقا ‏"‏ ولما أنشده مسلم بن قتيبة‏.‏
قال له‏:‏ أخطأت في هذا يا أبا الجحاف جعلته مقيداً‏.‏
فقال‏:‏ قربني من ذنب البعير‏.‏
وأنشد الأصمعي‏:‏ لما أتيت الحي في متنه كأن عرجوناً بمثنى يدي أقبل يختال على شأوه يضرب في الأقرب والأبعد كأنه سكران أو عابس أو ابن رب حدث المولد وقال غيره‏:‏ أما إذا استقبلته فكأنه جذع سما فوق النخيل مشذب وإذا اعترضت له استوت أقطاره وكأنه - مستدبراً - متصوب وقال ابن المعتز‏:‏ وقد يحضر الهيجاء بي شنج النسا تكامل في أسنانه فهو قارح له عنق يغتال طول عنانه وصدر إذا أعطيته الجري سابح إذا مال عن أعطافه قلت شارب عناه بتصرف المدامة طافح وقال أيضاً‏:‏ ولقد وطئت الغيث يحملني طرف كلون الصبح حين وقد يمشي فيعرض في العنان كما صدف المعشق ذو الدلال وصد الحلبة والرهان والحلبة‏:‏ مجمع الخيل‏.‏
ويقال‏:‏ مجتمع الخيل‏.‏
ويقال‏:‏ مجتمع الناس للرهان‏.‏
وهو من قولك‏:‏ حلب بنو فلان على بني فلان وأحلبوا إذا اجتمعوا‏.‏
ويقال منه‏:‏ حلب الحالب اللبن في القدح أي جمعه فيه‏.‏
والمقوس‏:‏ الحبل الذي يمد في صدور الخيل عند الإرسال للسباق‏.‏
والمنصبة‏:‏ الخيل حين تنصب للإرسال‏.‏
وأصل الرهان من الرهن لأن الرجل يراهن يصاحبه في المسابقة يضع هذا رهناً وهذا رهناً فأيهما سبق فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه‏.‏
والرهان‏:‏ مصدر راهنته مراهنة ورهاناً كما تقول‏:‏ قاتلته مقاتلة وقتالاً‏.‏
وهذا كان من أمر الجاهلية وهو القمار المنهي عنه فإن كان الرهن من أحدهما بشيء مسمى على أنه إن سبق لم يكن له شيء وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن فهذا حلال لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر‏.‏
وكذلك إن جعل كل واحد منهما رهناً وأدخلا بينهما محللاً وهو فرس ثالث يكون مع الأولين ويسمى أيضاً الدخيل ولا يجعل لصاحب الثالث شيء ثم يرسلون الأفراس الثلاثة فإن سبق أحد الأولين أخذ رهنه ورهن صاحبه فكان له طيباً وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين معاً وإن سبق هو لم يكن عليه شيء‏.‏
ولا يكون الدخيل إلا رائعاً جواداً لا يأمنان أن يسبقهما وإلا فهذا قمار لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محللاً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ السابق من الخيل‏:‏ الأول والمصلي‏:‏ الثاني الذي يتلوه‏.‏
قال‏:‏ وإنما قيل له مصل لأنه يكون عند صلوي السابق وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله‏.‏
ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد منهما إلى العاشر فإنه يسمى سكيتاً‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني والعاشر فإن الثاني اسمه المصلي والعاشر السكيت وما سوى ذينك يقال‏:‏ الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السكيت‏.‏
ويقال السكيت بالتشديد والتخفيف‏.‏
فما جاء بعد ذلك لم يعتد به‏.‏
والفسكل بالكسر‏:‏ الذي يجيء آخر الليل والعامة تسميه الفسكل بالضم‏.‏
وقال أبو عبيدة‏:‏ القاشور‏:‏ الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل وهو الفسكل وإنما قيل للسكيت سكيت لأنه آخر العدد الذي يقف العاد عليه‏.‏
والسكت‏:‏ الوقوف‏.‏
هكذا كانوا يقولون فأما اليوم فقد غيروا‏.‏
وكان من شأنهم أن يمسحوا على وجه السابق قال جرير‏:‏ إذا شئتم أن تمسحوا وجه سابق جواد فمدوا في الرهان عنانيا ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ خلوا عناني في الرهان ومسحوا مني بغرة أبلق مشهور وصف السلاح كانت درع علي صدراً لا ظهر لها‏.‏
فقيل له في ذلك‏.‏
فقال‏:‏ إذا استمكن دعوي من ظهري فلا يبقي‏.‏
ورئي الجراح بن عبد الله قد ظاهر بين درعين‏.‏
فقيل له في ذلك‏.‏
فقال‏:‏ لست أقي بدني وإنما أقي صبري‏.‏
واشترى زيد بن حاتم أدراعاً وقال‏:‏ إني لست أشتري أدراعاً وإنما أشتري أعماراً‏.‏
وقال حبيب بن المهلب لبنيه لا يقعدن أحدكم في السوق فإن كنتم لا بد فاعلين فإلى زراد أو سراج أو وراق‏.‏
العتبي قال‏:‏ بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة‏.‏ فبعث به إليه‏.‏
فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه فكتب إليه في ذلك‏.‏
فرد عليه‏:‏ إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به‏.‏
وسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً عن السلام‏:‏ فقال‏:‏ يسأل أمير المؤمنين عما بدا له قال‏:‏ ما تقول في الترس قال‏:‏ هو المجن الدائر‏.‏ وعليه تدور الدوائر‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في الرمح قال‏:‏ أخوك وربما خانك فانقصف‏.‏
قال‏:‏ فالنبل قال‏:‏ منايا تخطئ وتصيب‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في الدرع قال‏:‏ مثقلة للراجل متعبة للفارس وإنها الحصن الحصين‏.‏
قال فما تقول في السيف قال‏:‏ هناك لا أم لك يا أمير المؤمنين‏.‏ فضربه عمر بالدرة وقال‏:‏ بل لا أم لك‏.‏
قال‏:‏ الحمى أضرعتني لك‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ وصف سيف عمرو بن معد يكرب الذي يقال له الصمصامة لموسى الهادي‏.‏ فدعا به فوضع بين يديه مجرداً ثم قال لحاجبه‏:‏ إيذن للشعراء‏.‏
فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا فيه‏.‏ فبدرهم ابن يامين فقال‏:‏ حاز صمصامة الزبيدي عمرو من جميع الأنام مواسي الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا خبر ما أغمدت عليه الجفون أخضر المتن بين حديه نور من فرند تمتد فيه العيون أوقدت فوقه الصواعق ناراً ثم شابت به الذعاف القيون فإذا ما سللته بهر الشم س فلم تكد تستبين فكائن الفرند والرونق الجا ري في صفحتيه ماء معين نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي جاء يسطو به أم يمين فأمر له ببدرة وخرجوا‏.‏
وضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطه إلى القربوس‏.‏
فقالوا‏:‏ ما أجود سيفك‏!‏ فغضب‏.‏ يريد أن العمل ليده لا لسيفه‏.‏
وقال‏:‏ متى تلقني يعدو ببزي مقلص كميت بهيم أو أغر محجل تلاق أمراً إن تلقه فبسيفه تعلمك الأيام ما كنت تجهل وقال أبو الشيص‏:‏ ختلته المنون بعد اختيال بين صفين من قناً ونصال في رداء من الصفيح صقيل وقميص من الحديد مذال وبلغ أبا الأغر التميمي أن أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر فوجه إليهم ابنه الأغر وقال‏:‏ يا بني كن يداً لأصحابك على من قاتلهم وإياك والسيف فإنه ظل الموت واتق الرمح فإنه رشاء المنية ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها‏.‏
قال‏:‏ فبماذا أقاتل قال‏:‏ بما قال الشاعر‏:‏ جلاميد يملأن الأكف كأنها رءوس رجال حلقت في المواسم أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول فلما تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها‏.‏
وقال آخر يذكر قوماً أسروا‏:‏ استنزلوهم عن الجياد بلينة الخرصان ونزعوهم نزع الدلاء بالاشطان‏.‏
وقال أعرابي في آخرين ابتغوا قوما أغاروا عليهم‏:‏ احتثوا كل جمالية عيرانة كيما يخصفون أخفاف المطي بحوافر الخيل‏.‏
حتى أدركوهم بعد ثالثة فجعلوا المران أرشية المنايا فاستقوا بها أرواحهم‏.‏
ومن أحسن ما قيل في السيف قول حبيب‏:‏ ونبهن مثل السيف لو لم تسله يدان لسلته ظباه من الغمد وقال في صفة الرماح‏:‏ مثقفات سلبن الروم زرقتها والعرب سمرتها والعاشق القضفا ومن الإفراط القبيح قول النابغة في وصف السيف‏:‏ يقد السلوقي المضاعف نسجه ويوقد في الصفاح نار الحباحب فذكر أنه يقد الدرع المضاعف نسجها والفارس والفرس ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة‏.‏
تظل تحفر عنه إن ضرب به بعد الذراعين والساقين والهادي وقد جمع العلوي وصف الخيل والسلاح كله فأحسن وجود حيث يقول‏:‏ بحسبي من مالي من الخيل أعيط سليم الشطي عاري النواهق أمعط وأبيض من ماء الحديد مهند وأسمر عسال الكعوب عنطنط وبيضاء كالضحضاح زعف مفاضة يكفتها عني نجاد مخطط ومعطوفة الأطراف كبداء سمحة منفجة الأعضاد صفراء شوحط فيا ليت مالي غير ما قد جمعته على لجة تيارها يتغطغط ويا ليتني أمسي على الدهر ليلة وليس على نفسي أمير مسلط ومن قولنا في وصف الرمح والسيف‏:‏ بكل رديني كأن سنانه شهاب بدا في ظلمة الليل ساطع تقاصرت الآجال في طول متنه وعادت به الآمال وهي فجائع وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه فهن ظبات للقلوب قوارع وذي شطب تقضي المنايا بحكمه وليس لما تقضي المنية دافع إذا ما التقت أمثاله في وقيعة هنالك ظن النفس بالنفس واقع ومن قولنا في وصف السيف‏:‏ بكل مأثور على متنه مثل مدب النمل بالقاع يرتد طرف العين من حده عن كوكب للموت لماع وقال إسحاق بن خلف البهراني في صفة السيف‏:‏ ألقى بجانب خصره أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذر الهبا ء عليه أنفاس الرياح ومن جيد صفات السيف قول الغنوي‏:‏ حسام غداة الروع ماض كأنه من الله في قبض النفوس رسول كأن على إفرنده موج لجة تقاصر في ضحضاحه وتطول كأن جيوش الذركسرن فوقه قرون جراد بينهن ذحول النزع بالقوس إبراهيم الشيباني قال‏:‏ كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة له بواسط في مغرم لزمه للخليفة فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير وقال له‏:‏ اذهب إلى واسط فاشتر هذه الضيعة المعروضة فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا فاكتب إلي أمدك بالمال‏.‏
فخرج فلما أصحر عن البيوت لحق به أعرابي راكب على حمار معه قوس وكنانة فقال له‏:‏ إلى أين تتوجه فقال‏:‏ إلى واسط‏.‏
قال‏:‏ فهل لك في الصحبة قال‏:‏ نعم‏.‏
فسارا حتى فوزا فعنت لهما ظباء فقال له الأعرابي‏:‏ أي هذه الظباء أحب إليك المتقدم منها أم المتأخر فأزكيه لك قال له‏:‏ المتقدم‏.‏
فرماه فخرمه بالسهم فاقتنصه فاشتويا وأكلا‏.‏
فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي‏.‏
ثم عنت لهما زفة قطا فقال‏:‏ أيها تريد فأصرعها لك فأشار إلى واحدة منها‏.‏
فرماها فأقصدها ثم اشتويا وأكلا‏.‏
فلما انقضى طعامهما فوق له الأعرابي سهماً ثم قال له‏:‏ أين تريد أن أصيبك فقال له‏:‏ اتق الله عز وجل واحفظ زمام الصحبة‏.‏
قال‏:‏ لا بد منه‏.‏
قال‏:‏ اتق الله ربك واستبقني ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالاً‏.‏
قال‏:‏ فاخلع ثيابك‏.‏
فانسلخ من ثيابه ثوباً ثوباً حتى بقي مجرداً‏.‏
قال له‏:‏ اخلع أمواقك وكان لابساً خفين مطابقين‏.‏
فقال له‏:‏ اتق الله في ودع الخفين أتبلغ بهما من الحر فإن الرمضاء تحرق قدمي‏.‏
قال‏:‏ لا بد منه‏.‏
قال‏:‏ فدونك الخف فأخلعه‏.‏
فلما تناول الخف ذكر الرجل خنجراً كان معه في الخف فاستخرجه ثم ضرب به صدره فشقه إلى عانته وقال له‏:‏ الاستقصاء فرقة‏:‏ فذهبت مثلاً‏.‏
وكان هذا الأعرابي من رماة الحدق‏.‏
وحدث العتبي عن بعض أشياخه قال‏:‏ كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة‏.‏
فأتي بأعرابي كان معروفاً بالسرق فقال له‏:‏ أخبرني عن بعض عجائبك‏.‏
قال‏:‏ عجائبي كثيرة‏.‏
ومن أعجبها أنه كان لي بعير لا يسبق وكانت لي خيل لا تلحق فكنت أخرج فلا أرجع خائباً فخرجت يوما فاحترشت ضبا فعلقته على قتبي ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها فقلت‏:‏ يجب أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل‏.‏
فلما أمسيت إذا بإبل وإذا شيخ عظيم البطن شثن الكفين ومعه عبد أسود وغد‏.‏
فلما رآني رحب بي ثم قام إلى ناقة فاحتلبها وناولني العلبة فشربت ما يشرب الرجل فتناول الباقي فضرب بها جبهته ثم احتلب تسع أينق فشرب ألبانهن ثم نحر حواراً فطبخه فأكلت شيئاً وأكل الجميع حتى ألقى عظامه بيضاً‏.‏
وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها ثم غط غطيط البكر‏.‏
فقلت‏:‏ هذه والله الغنيمة ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته ثم قرنته ببعيري وصحت به فاتبعني الفحل واتبعته الإبل إرباباً به في قطار فصارت خلفي كأنها حبل ممدود‏.‏
فمضيت أبادر ثنية بيني وبينها مسيرة ليلة للمسرع ولم أزل أضرب بعيري مرة بيدي ومرة برجلي حتى طلع الفجر فأبصرت الثنية وإذا عليها سواد فلما دنوت منه إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره‏.‏
فقال‏:‏ أضيفنا قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أتسخو نفسك عن هذه الإبل قلت‏:‏ لا‏.‏
فأخرج سهماً كأنه لسان كلب ثم قال‏:‏ انظره بين أذني الضب المعلق في القتب ثم رماه فصدع عظمه عن دماغه فقال لي‏:‏ ما تقول قلت‏:‏ أنا على رأيي الأول قال‏:‏ انظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى ثم رمى به فكأنما قدره بيده ثم وضعه بإصبعه‏.‏
ثم قال‏:‏ رأيك فقلت‏:‏ إني أحب أن أستثبت‏.‏
قال‏:‏ انظر هذا السهم الثالث في عكوة‏.‏
ذنبه والرابع والله في بطنك‏.‏
ثم رماه فلم يخطئ العكوة‏.‏
قلت‏:‏ أنزل آمناً قال‏:‏ نعم‏.‏
فدفعت إليه خطام فحله وقلت‏:‏ هذه إبلك لم يذهب منها وبرة وأنا متى يرميني بسهم يقصد به قلبي‏.‏
فلما تباعدت قال‏:‏ أقبل فأقبلت والله فرقاً من شره لا طمعاً في خيره‏.‏
فقال‏:‏ ما أحسبك تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة‏.‏
قلت نعم‏.‏
قال فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض لطيتك‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك فلا والله ما رأيت أعرابياً قط أشد ضرساً ولا أعدى رجلاً ولا أرمى يداً ولا أكرم عفواً ولا أسخى نفساً منك‏.‏
فصرف وجهه عني حياء وقال‏:‏ خذ الإبل برمتها مباركاً لك وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اركبوا وارموا‏.‏
وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا‏.‏
وقال‏:‏ كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث‏:‏ تأديبه فرسه ورميه عن كبد قوسه وملاعبته امرأته فإنه حق‏.‏
إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد‏:‏ عامله المحتسب والقوي به سبيل الله أي والرامي به في سبيل الله‏.‏
وروي عن عقبة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر‏:‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي‏.‏
وكان أرمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال ‏"‏ اللهم سدد رميته وأجب دعوته ‏"‏ فكان لا يرد له دعاء ولا يخيب له سهم‏.‏
وذكر أسامة بن زيد أن شيوخاً من أسلم حدثوه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم وهم يرمون ببطحان‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارموا يا بني إسماعيل فقد كان أبوكم رامياً وأنا مع ابن الأدرع‏.‏
فتعدى القوم فقالوا‏:‏ يا رسول الله من كنت معه فقد نضل‏.‏
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارموا وأنا معكم كلكم‏.‏
فانتضلوا ذلك اليوم ثم رجعوا بالسواء ليس لأحد على أحد منهم فضل‏.‏
وقال عمر‏:‏ ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألقوا الركب وانزوا على الخيل نزوا وعليكم بالمعدية - أو قال بالعربية - ودعوا التنعم وزي العجم‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ لن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم‏.‏
يعني نزوتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي‏.‏
وجنى قوم من أهل اليمامة جناية فأرسل السلطان إليهم جنداً من محاربة ابن زياد‏.‏
فقام رجل من أهل البادية يذمر أصحابه فقال‏:‏ يا معشر العرب ويا بني المحصنات‏.‏
قاتلوا عن أحسابكم وأنسابكم فوالله إن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء ولا نخلة خضراء إلا وضعوها بالأرض ولاعتراكم من نشاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة ينزعون في قسى كأنها الغبط تئط إحداهن أطيط الزرنوق يمعط أحدهم فيها حتى يتفرق شعر إبطيه ثم يرسل نشابة كأنها رشاء منقطع فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو ينصدع قلبه منزلة‏.‏
فخلع قلوبهم فطاروا رعباً‏.‏
مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا ببيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال والتواوا بما عليهم من الخراج وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعاً بالعفو وأخذا بالحجة ورفقاً بالسياسة‏.‏
ولذلك لم يزل منذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه بصيراً بأهل زمانه باسطاً للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه‏.‏
فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة أثرة للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحرم‏.‏
فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق‏.‏
ثم خلطوا احتجاجاً باعتذار وخصومه بإقرار وتنصلاً باعتلال‏.‏
فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية ثم أمر الموالى بالابتداء وقال للعباس بن محمد أي عم تعقب قولنا وكن حكماً بيننا‏.‏
وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب‏.‏
فقال سلام صاحب دار المظالم‏:‏ أيها المهدي‏:‏ إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم واستغرقت أشغالهم واستنفذت أعمارهم وذهبوا بها معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأبطال الوقائع الذين رشحتهم سحالها وفيأتهم ظلالها وعضتهم شدائدها وقرمتهم نواجذها‏.‏
فلو عجمت ما قبلهم وكشعت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك وتجارب توافق نظرك وأحاديث تقوي قلبك‏.‏
فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك‏.‏
فأجابه المهدي‏:‏ إن في كل قوم حكمة ولكل زمان سياسة وفي كل حال تدبيراً يبطل الآخر الأول ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا‏.‏
قال‏:‏ نعم أيها المهدي أنت متسع الرأي وثيق العقدة قوي المنة بليغ الفطنة معصوم النية محضور الروية مؤيد البديهة موفق العزيمة معان بالظفر مهدي إلى الخير‏.‏
إن هممت ففي عزمك مواقع الظن وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك‏.‏
فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك وقل ينطق الله بالحق لسانك فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة ونفسك سخية وأمرك نافذ‏.‏
فأجابه المهدي‏:‏ إن المشاورة والمناظرة باباً رحمة ومفتاحاً بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتفيل معهما حزم فأشيروا برأيكم وقولوا بما يحضركم فإني من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك‏.‏
قال الربيع‏:‏ أيها المهدي أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة‏.‏
ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة متراخية الشقة متفاوتة السبل‏.‏
فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم التقدير ولباب الصواب رأيا قد احكمه نظرك وقلبه تدبيرك فليس وراءه مذهب الحجة طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب ثم خبت البرد به وانطوت الرسل عليه كان بالحري أن لا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه‏.‏
فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد آثارهم ومصاده أمورهم فتحدث رأياً غيره وتبتدع تدبيراً سواه وقد انفرجت الحلق وتحللت العقد واسترخى الحقاب وامتد الزمان‏.‏
ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى‏.‏
ولكن الرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفطر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل وعقل كامل وورع واسع ليس موصوفاً بهوى في سواك ولا متهماً في أثره عليك ولا ظنيناً على دخلة مكروهة ولا منسوبا إلى بدعة محظورة فيقدح في ملكك ويربض الأمور لغيرك ثم تسند إليه أمورهم وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واستدارة الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة وقويت المكيدة ونفذ العمل وأحد النظر‏.‏
إن شاء الله‏.‏
قال الفضل بن العباس‏:‏ أيها المهدي إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما جند جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديماً منها فاقداً لها لا يثق بقوة ولا يصول بعدة ولا يفزع إلى ثقة‏.‏
فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفى خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والإعطاء لما يسألون فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم‏.‏
ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وأبرق لهم وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثراً فيهم‏.‏
ثم ادسس الرسل وابثث الكتب وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضاً على خوف من وعيدك‏.‏
وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم وأغرض أشجار التنافس بينهم حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغضة ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع من النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستلب العقول ويسترق القلوب ويسبى الآراء ويستميل الأهواء ويستدعي المواتاة أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح‏.‏
كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملاً وألطف نظراً وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال وإتلاف الأموال والتغرير والخطار‏.‏
وليعلم المهدي - وفقه الله - أنه إن وجه لقتالهم رجلاً لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة وتقدم على أسفار صعبة وأموال متفرقة وقواد غششة إن ائتمنهم استنفذوا ماله وإن استنصحهم كانوا عليه لا له‏.‏
قال المهدي‏:‏ هذا رأي قد أسفر نوره وبرق ضوؤه وتمثل صوابه للعيون وتجسد حقه في قال علي‏:‏ أيها المهدي إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يداً ولم ينصبوا من دونك أحداً يكدح في تغيير ملكك ويربض الأمور لفساد دولتك ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر والحال أذل لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه‏.‏
ولكنه قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم والياً وجعل العدل بينك وبينهم حاكماً‏.‏
طلبوا حقاً وسألوا إنصافاً فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حالاً أو يحدث من عندهم فتق أطعت أمر الرب وأطفأت نائرة الحرب ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك وإسجاح خليقتك ومعدلة نظرك‏.‏
فأمنت أن تنسب إلى ضعف‏.‏
وأن يكون ذلك لهم فيما بقى دربة‏.‏
وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال وساويتهم في ميدان الخطاب‏.‏
فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته مقرين بمملكته مذعنين لطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم ويقف على الجدل معهم ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة ومضمار المخاطرة أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعي قبلهم‏.‏
ولو نالها فحملت إليه ووضعت بخرائطها بين يديه ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها لكان ذلك مما إليه ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي‏:‏ هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالاً لغيرهم وعظة لسواهم فيعلم المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد مقرنين في الأصفاد ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولإقامة عثرتهم صفحه واستقبالهم لما هم فيه من حربه أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعاً من رأيه ولا مستنكراً من نظره‏.‏
لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفواً وأشدها وقعاً وأصدقها صولة وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يتكاءده صفح وإن عظم الذنب وجل الخطب‏.‏
فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم براً بهم وتوسعاً لهم فإنهم إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزتهم يصول وبحجتهم يقول‏.‏
إنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه وتعرضوا له من معاصيه وانطووا فيه عن إجابته ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم أو تغير من نعمته عليهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين أصاب أحدهما خبل عارض ولمم حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه فلم يزد ذلك أخاه إلا رقة له ولطفا به واحتيالاً لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفاً عليه وبراً به ومرحمة له‏.‏
فقال المهدي‏:‏ أما علي فقد نوى سمت الليان وفض القلوب عن أهل خراسان ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون‏.‏
ثم قال‏:‏ ما ترى يا أبا محمد يعني موسى ابنه‏.‏
فقال موسى‏:‏ أيها المهدي لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم‏.‏
الحال من القوم تنادى بمضرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليه ستراً واتخذوا العلل من دونها حجاباً رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير والأمور بالتطويل فيكسروا حيل المهدي فيهم ويثنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم‏.‏
والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها‏.‏
ولولا ما اجتمعت به قلوبهم وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أحوال الولاة وغب سكون الأمور‏.‏
فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة لفسادهم وقوة على معصيتهم وداعية إلى عودتهم وسببا لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين أقرهم على تلك العادة وأجراهم على ذلك الأدب لم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا‏.‏
وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة والمؤونة الشديدة‏.‏
والرأي للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم الموت ويحيط بهم البلاء ويطبق عليهم الذل‏.‏
فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم‏.‏
واحتمال المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه مؤونة غزوات كثيرة ونفقات عظيمة‏.‏
قال المهدي‏:‏ قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل‏.‏
فقال العباس بن محمد‏:‏ أيها المهدي أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أموراً قصر نظرهم عنها لأنه لم تأت تجاربهم عليها‏.‏
وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق والجنود أن لا تفرق وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا وجاء بأمر بين ذلك استصغاراً لأمرهم واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها‏.‏
وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق‏.‏
وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسيفه حقه اللين بحتاً والخير محضاً لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحيشهم إلى خيره فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم‏.‏
فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير ما خوف اضطرهم ولا شدة حال أخرجتهم لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم ونزوة في رؤوسهم يستعدون بها البلاء إلى أنفسهم ويصرفون بها رأي المهدي فيهم‏.‏
وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه النفوس ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها‏.‏
فلولا أنه خلق ناراً لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا‏.‏
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها وأن يرموا بشر لا خير معه‏.‏
وإذا أضمر الوالي لما فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفرداً والشر مجرداً ليس معهما طمع يكسرهم ولا لين يثنيهم امتدت الأمور بهم وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين‏:‏ إما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف الاستبسال في القتال والاستسلام للموت وإما أن ينقادوا بالكره ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة وعداوة باقية تورث النفاق وتعقب الشقاق فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابت لهم قدرة وقال‏:‏ في قول الفضل أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان وأبين خبر بان قد اجتمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق وإجابتهم إلى ما سألوا من العدل‏.‏
قال المهدي‏:‏ ذلك رأى‏.‏
قال هارون‏:‏ خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب ولكن أرى غير ذلك‏.‏
قال المهدي‏:‏ لقد قلت قولاً بديعاً خالفت به أهل بيتك جميعاً والمرء متهم بما قال وظنين بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت‏.‏
قال هارون‏:‏ أيها المهدي إن الحرب خدعة والأعاجم قوم مكرة وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترقت الحالان وخالف القلب اللسان فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخوله لا تعلن‏.‏
والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء‏.‏
فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل وموالاة العيون حتى تهتك حجب غيوبهم وتكشف أغطية أمورهم فإن انكشفت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه عصبهم بشدة لا لين فيها ورماهم بعقوبة لا عفو معها‏.‏
وإن انفرجت الغيوب واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيهم مريعة والأمور بهم معتدلة عن أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما فتقوا ويولي عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي الحدب الذي يحتال لمرابض غنمه وضوال رعيته‏.‏
حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الضالة إلى أنس جماعتها‏.‏
ثم إن خراسان بخاصة لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم ولا المؤاخذة لهم ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ أحزم في الرأي‏.‏
وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها قال المهدي‏:‏ ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح مما قال وانسل انسلال السيف فيما ادعى‏.‏
فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي وثنى بعده هارون‏.‏
ولكن من لأعنه الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة قال الصالح‏:‏ لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة‏.‏
وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله منه ما تحب وجمع لك منه ما تريد‏.‏
قال المهدي‏:‏ إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه‏.‏
ولكن أحب الموافقة على الرأي والاعتبار بالمشاورة في الأمر المهم‏.‏
قال محمد بن الليث‏:‏ أهل خراسان أيها المهدي قوم ذو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة وملابس الأنفة عليهم ظاهرة‏.‏
فالروية عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة تسبق سيولهم مطرهم وسيوفهم عذلهم لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بالشدة ولا يفطمون إلا بالقهر‏.‏
وإن ولى المهدي عليهم وضيعاً لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفاً تحامل على الضعفاء‏.‏
وإن أخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحاً يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا عصبية تنفرهم تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد ولا يستصلحه وإن جهد إلا بعد دهر طويل وشر كبير‏.‏
وليس المهدي - وفقه الله - فاطماً عاداتهم ولا قارعاً صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما‏:‏ أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا يثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل تقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضعت الدنيا عن قدره وسما نحو الآخرة بهمته فجعل الغرض الأقصى لعينه نصباً والغرض الأدنى لقدمه موطئاً فليس يغفل عملاً ولا يتعدى أملاً وهو رأس مواليك وأنصح بني أبيك رجل قد غذي بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قويم أدبك‏.‏
فإن قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلاً فتحه أمرك وباباً أغلقه نهيك فجعل العدل عليه وعليهم أميراً والإنصاف بينه وبينهم حاكماً فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم غرس لك في الذي بين صدورهم وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متمثلة في حواشي عوامهم متمكنة من قلوب خواضهم فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه وهذا أحدهم‏.‏
والآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي‏.‏
فسلطه - أعزك الله - عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز ثابتة‏.‏
قال معاوية بن عبد الله‏:‏ أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر وأهل خراسان في حال عز على ما وصف ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان أحدهما‏:‏ أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه‏.‏
والأمر الآخر‏:‏ أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم وربما وقع البوار قبل الاختبار‏.‏
وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساس الحروب وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم‏.‏
قال المهدي‏:‏ جانيت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا‏.‏
ولكن أين تركتم ولي العهد قالوا‏:‏ لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله ولكن وجدنا الله عز وجل قد حجب عن خلفه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجري به المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود وموضع الوجوه ومجمع الأموال التي جعلها الله عز وجل قطباً لمدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء المروق‏.‏
وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه واستدامت الحال بأيامه حتى يقع عرض لا يستغنى فيه أو يحدث أمر لا بد فيه منه صار ما بعده مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً له تبعاً وبه متصلاً‏.‏
قال المهدي‏:‏ الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه‏.‏
نحن - أهل البيت - نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر قد أنبأت به الكتب وتتابعت عليه الرسل وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا فبه ندبر وعلى الله نتوكل‏.‏
إنه لا بد لولي عهدي عقبي من بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود‏.‏
أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيله ثم يخرج نشطاً إليهم حنقاً عليهم يريد أن لا يدع أحد من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال إلا توطأه بحر القتل وألبسه قناع القهر وطوقه طوق الذل ولا أحداً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول بذله‏.‏
فإذا خرج مزمعاً له مجمعاً عليه لم يسر إلا قليلاً حتى يأتيه أن قد عملت حيله‏.‏
وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القلوب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظراً لهم وبراً بهم وتعطفاً عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال‏.‏
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم من يعتقد له الحجة بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسألون فإذا سمت الفرق بقرانها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه فأصغت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبسها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة‏.‏
فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين‏:‏ ناحية يغلب عليهم الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه فيضطمر عليها موجدة ويبتغي لها علة لا يلبث أن يجدها بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر فيهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد ويوتم الأولاد‏.‏
وناحية لا يبسط لهم أماناً ولا يقبل لهم عهداً ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا‏.‏
ولكنه يقتل أعلامهم ويأسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وخمر الأردية وبطون الأرض تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً حتى يدع الديار خراباً والنساء أيامى‏.‏
وهذا أمر لا نعرف في كتبناً وقتاً ولا نصحح منع غير ما قلنا تفسيراً‏.‏
وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذأب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه‏.‏
فمن يصحبه من الوزراء ومن يختار له من الناس قال محمد بن الليث‏:‏ أيها المهدي إن ولى عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علماً قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها‏.‏
وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك‏:‏ عطل الحال غفل الأمر واسع العذر‏.‏
فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره فإن من شأن العامة وأمراء الأمة أن تتفقد مخارج رأيه وتستنصت لمواقع آثاره وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظراً له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعاً في قلوب رعيته وأحمد حالاً في نفوس أهل ملته‏.‏
ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر من أثره ومحبة للخير وأهله‏.‏
وإن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواماً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه‏.‏
قال المهدي‏:‏ صدقت ونصحت‏.‏
ثم بعث في ابنه موسى فقال‏:‏ أي بني إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصباً ولمثنى أعطاف الرعية غاية فحسنتك شاملة وإساءتك نامية وأمرك ظاهر‏.‏
فعليك بتقوى الله عز وجل وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما ولا تطلب رضاهم بخلافهما فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه إيثارك رضاه وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه‏.‏
ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمن عترة من رسله وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذهم لأولياء دينه أنصاراً وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل ويقيمون الميل ويدفعون عن الأرض الفساد‏.‏
وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع ريب الزمان بعزائمهم ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم‏.‏
فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها وحتوف الأعداء إذا برزت صفحتها وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها‏.‏
قد مضت لهم وقائع صادقات ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن وقصمت دواعي البدع وأذلت رقاب الجبارين ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم وجعلهم بها أرباباً في أقطار الأرضين وملوكاً على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومحالفة الأسى وجهد البأس والضر‏.‏
فظاهر عليهم لباس كرامتك وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حتى طاعتهم ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمسيئهم‏.‏
أي بني‏:‏ ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها وتحسن بذلك لربك وتزين به في عين رعيتك واجعل عمال القدر وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك ونصفة منك لرعيتك وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت هؤلاء عمال القدر وولاة الحجج‏.‏
فلا يضيعن عليك ما في ذلك - إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع - من انعقاد ألسنة المرجفين وكبت قلوب الحاسدين وإطفاء نيران الحروب وسلامة عواقب الأمور‏.‏
ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلاً وبعراً حبلك متعلقاً رجلان‏:‏ أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح‏.‏
والآخر له دين غير مغمور وموضع مدخول بصير بتقلب الكلام وتصريف الرأي وإيحاء الأدب ووضع الكتب عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب يضع آداباً نافعة وآثاراً باقية من تجميل محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي ويرعى في خضرة جناني‏:‏ ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواماً يكونون جيرانك وسمارك وأهل مشاورتك فيما تورد وأصحاب مناظرتك فيما تصدر‏.‏
فسر على بركة الله أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلاً يهدي إلى الصواب قلبك وهادياً ينطق بالحق لسانك‏.‏
وكتب في شهر ربيع الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:46 AM

باب في مداراة العدو
في كتاب للهند‏:‏ إن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا ترد بأسه عنك بمثل الخشوع والخضوع له كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها‏.‏
وقالوا‏:‏ أزفن للقرد في دولته‏.‏
أخذه الشاعر فقال‏:‏ لا تعبدن صنماً في فاقة نزلت وازفن بلا حرج للقرد في زمنه وقال أحمد بن يوسف الكاتب‏:‏ إذا لم تقدر أن تعض يد عدوك فقبلها‏.‏
وقال سابق البلوي‏:‏ وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً عليك ولن يحتال من لا يداهن وقالت الحكماء‏:‏ رأس العقل مغافصة الفرصة عند إمكانها والانصراف عما لا سبيل إليه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه ويرتع منك في عرض مصون إن أبدى لك المودة قالت الحكماء‏:‏ احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك‏.‏
فإنما السلامة من العدو بتباعدك منه وانقباضك عنه وعند الأنس إليه والثقة به تمكنه من مقاتلك‏.‏
وقالوا‏:‏ لا تطمئن إلى العدو إن أبدى لك المقاربة وإن بسط لك وجهه وخفض لك جناحه فإنه يتربص بك الدوائر ويضمر لك الغوائل ولا يرتجى صلاحاً إلا في فسادك ولا رفعة إلا بسقوط جاهك‏.‏
كما قال الأخطل‏:‏ بني أمية إني ناصح لكم فلا يبيتن فيكم آمناً زفر واتخذوه عدواً إن شاهده وما تغيب من أخلاقه دعر إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر وفي كتاب الهند‏:‏ الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر المواثبة إن قرب والمعاودة إن بعد والكمين إن انكشف والاستطراد إن ولى والكرة إن فر‏.‏
وأوصى بعض الحكماء ملكاً فقال‏:‏ لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء وقتله الماء الذي هو محيي الأشياء وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه ثم تقتله العبيد التي يملكها‏.‏
ولم يقل أحد في العدو المندمل على العداوة مثل قول الأخطل‏:‏ إن الضغينة تلقاها وإن قدمت كالعرق يكمن حيناً ثم ينتشر وقد أشار الحسن بن هانئ إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول‏:‏ وابن عم لا يكاشفنا قد لبسناه على غمره كمن الشنآن فيه لنا ككمون النار في حجره وشبهوا العدو إذا كان هذا فعله بالحية المطرقة‏.‏
قال ابن أخت تأبط شراً‏:‏ مطرق يرشح موتاً كما أطرق أفعى ينفث السم صل وقال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال‏:‏ بل معاوية قالها لعبد الله بن الزبير -‏:‏ مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر وفي كتاب الهند‏:‏ إذا أحدث لك العدو صداقة لعلة ألجأته إليك فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أمسكت عنه عاد إلى أصله بارداً‏:‏ والشجرة المرة لو طليتها بالعسل وقال دريد بن الصمة‏:‏ وما تخفى الضغينة حيث كانت ولا النظر المريض من الصحيح وقال زهير‏:‏ وما يك في صديق أو عدو تخبرك العيون عن القلوب وقيل لزياد‏:‏ ما السرور قال‏:‏ من طال في العافية والكفاية عمره حتى يرى في عدوه ما يسره‏.‏

باب من أخبار الأزارقة
كان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه‏:‏ حوثرة الأقطع فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج ومعاوية بالكوفة وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة‏.‏
ثم خرج الحسن يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم‏.‏
فقال الحسن عليه السلام‏:‏ والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وما أحسب ذلك يسعني فكيف أن أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم فلما رجع الجواب إليه وجه إليهم جيشاً أكثره من أهل الكوفة ثم قال لأبي حوثرة‏:‏ تقدم فاكفني أمر ابنك‏.‏
فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فداوره فصمم‏.‏
فقال له‏:‏ أي بني أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه فقال له‏:‏ يا أبت أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني‏.‏
فرجع إلى معاوية فأخبره‏.‏
فقال‏:‏ يا أبا حوثرة عتا هذا جداً‏.‏
فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال‏:‏ يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه‏.‏
ثم جعل يشد عليهم ويقول‏:‏ احمل على هذي الجموع حوثرة فعن قريب ستنال المغفره وكان مرداس أبو بلال قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم وشهد النهروان ونجا فيمن نجا فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج فقال لأصحابه‏:‏ إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين تجرى علينا أحكامهم مجانيين للعدل مفارقين للفصل‏.‏
والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لشديد ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏
فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً منهم‏:‏ حريث بن حجل وكهمس ابن طلق الصريمي فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى‏.‏
فولوا أمرهم مرداساً‏.‏
فلما مضى بأصحابه لقيهم عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقاً فقال له‏:‏ يا ابن أخي أين تريد فقال‏:‏ أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة‏.‏
قال‏:‏ له‏:‏ أعلم أحد بكم قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع‏.‏
قال‏:‏ أو تخاف علي مكروها قال‏:‏ نعم وأن يؤتى بك‏.‏
قال‏:‏ فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني‏.‏
ثم مضى حتى نزل آسك‏.‏
فمر به مال يحمل إلى ابن زياد وقد بلغ أصحابه الأربعين‏:‏ فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى وقال‏:‏ قولوا لصاحبكم‏:‏ إنما أخذنا أعطياتنا‏.‏
فقال له أصحابه‏:‏ لماذا تترك الباقي قال‏:‏ إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة‏.‏
فوجه إليهم ابن زياد أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين‏.‏
فلما وصل إليهم قال له مرداس‏:‏ اتق الله يا أسلم فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً وإنما هربنا من الظلم ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا ولا نقاتل إلا من قاتلنا‏.‏
قال‏:‏ لا بد من ردكم إلى ابن زياد‏.‏
قال‏:‏ وإن أراد قتلنا‏.‏
قال‏:‏ وإن أراد قتلكم‏!‏ قال‏:‏ فتشرك في دمائنا‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه‏.‏
ثم وجه إليهم ابن زياد عباداً‏.‏
فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة فناداهم أبو بلال‏:‏ يا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي‏.‏
فوادعوهم فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم فقتلوهم وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد‏.‏
فقال عمران بن حطان يرثي أبا بلال‏:‏ يا عين بكي لمرداس ومصرعه يا رب مرداس اجعلني كمرداس أبقيتني هائماً أبكي لمرزئتي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وليس في الفرق كلها وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً ولا أوطن أنفساً على الموت فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول‏:‏ عجلت إليك رب لترضى‏.‏
ولما مالت الخوارج إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم وكان من عتاب بن ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم‏:‏ يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هريرة الهرار يعروكم بالليل والنهار وهو من الرحمن في جوار فتعاظمهم ذلك‏.‏
فكمن له عبيدة بن هلال فضربه واحتمله أصحابه فظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا ينادونهم‏:‏ ما فعل الهرار فيقولون‏:‏ ما به من بأس‏.‏
حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال‏:‏ يا أعداء الله‏.‏
أترون بي بأساً فصاحوا به‏:‏ قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية‏.‏
فلما طال الحصار على عتاب قال لأصحابه‏:‏ ما تنتظرون‏:‏ إنكم والله ما تؤتون من قلة وإنكم فرسان عشائركم ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه‏.‏
فلما أصبح بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين فقال‏:‏ من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي‏.‏
قال‏:‏ فخرج في ألفين وسبعمائة فارس فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله فقتلوا أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء‏.‏
وخرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي‏.‏
كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد فاعترضا الناس فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه وتنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد بالسيف‏.‏
فناداه الناس من بعض البيوت‏:‏ الحرورية انج بنفسك‏.‏
فنادوه‏:‏ لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه‏.‏
وبلغ أبا بلال خبرهما وكان على دين الخوارج إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس فقال قريب لا قربه الله من الخير وزحاف لا عفا الله عنه فلقد ركباها عشواء مظلمة‏.‏
ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها حتى مرا ببني علي ابن سود من الأزد‏.‏
وكانوا رماة وكان فيهم مائة يجيدون الرمي‏.‏
فرموهم رمياً شديداً فصاحوا‏:‏ يا بني علي البقيا لا لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فهربت عنهم الخوارج‏.‏
فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة‏.‏
واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم‏.‏
ثم عاد الناس إلى زياد فقال‏:‏ ألا ينهى كل قوم سفهاءهم‏.‏
فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه وأتوا به زياداً فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله‏.‏
ولزياد أخرى في الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها ثم عراها فلم تخرج النساء إلا بعد زياد وكن إذا أرغمن على الخروج قلن‏:‏ لولا التعرية لسارعنا‏.‏
ومن مشاهير فرسان الخوارج‏:‏ عمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج وهما اللذان يقول فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب وكان قال له مولاه خلاج‏:‏ وددت أنا فضضنا عسكرهم فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي -‏:‏ أخلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تعانق في الكتيبة معلماً عمرو القنا وعبيدة بن هلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال والمقعطر‏:‏ من مشاهير فرسانهم‏.‏
وقطري‏:‏ أنجدهم قاطبة‏.‏
وصالح بن مخراق‏:‏ من بهمهم وكذلك سعد الطلائع‏.‏
ولما اختلف أمر الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه قال المهلب لأصحابه‏.‏
إن الله قد أراحكم من أقران أربعة‏:‏ قطري بن الفجاءة واصلح بن مخراق‏.‏
وعبيدة بن هلال وسعد الطلائع وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان‏.‏
وكانت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل وذلك مع المغرب والمرادي يرتجز‏:‏ الليل ليل فيه ويل ويل وسال بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول وتعرقت مقالة الخوارج على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس والبراءة من عثمان وعلي وطلحة والزبير واستحلال الأمانة وقتل الأطفال‏.‏
وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي‏:‏ إن أعداءنا كأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المسلمون بين المشركين وأقول‏:‏ إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام وأن حكمهم عند الله حكم المشركين‏.‏
وقال عبد الله بن إباض‏:‏ لا نقول فيمن خالفنا إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول وإنما هم كفار للنعم ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل ودعوة الإسلام تجمعهم‏.‏
وقالت الصفرية بقول عبد الله بن إباض ورأت القعود حتى صارت عامتهم قعداً‏.‏
وإنما سموا صفرية لإصفرار وجوههم وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار‏.‏

كتاب الزبرجدة في الأجواد والأصفاد
قال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه تغمده الله برحمته‏:‏ قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال وتقدم الرجال على منازلهم من الصبر والجلد والعدة والعدد‏.‏
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد إذ كان أشرف ملابس الدنيا وأزين حللها وأجلها لحمد وأدفعها لذم وأسترها لعيب كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري والجواد السخي‏.‏
ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله تعالى تسمى بها فهو الكريم عز وجل‏.‏
ومن كان كريماً من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏
وفي الحديث المأثور‏:‏ الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله‏.‏
وفي الحسن والحسين عليهما السلام لعبد الله بن جعفر‏:‏ إنك قد أسرفت في بذل المال‏.‏
قال‏:‏ بأبي وأمي أنتما إن الله قد عودني أن يتفضل علي وعودته أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني‏.‏
وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي‏:‏ أنت متلاف‏.‏
قال‏:‏ منع الجود سوء ظن بالمعبود‏.‏
يقول الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏.‏

مدح الكرم وذم البخل
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اصطناع المعروف يقي مصارع السوء‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق ويبغض سفسافها‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب‏:‏ من سيدكم قالوا‏:‏ الجد ابن قيس على بخل فيه‏.‏
فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأي داء أدوى من البخل يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
وقال أكثم بن صيفى حكيم العرب‏:‏ ذللوا أخلاقكم للمطالب وقودوها إلى المحامد وعلموها المكارم ولا تقيموا على خلق تذموه من غيركم وصلوا من رغب إليكم وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة ولا تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر‏.‏
أخذه الشاعر فقال‏:‏ أمن خوف فقر تعجلته وأخرت إنفاق ما تجمع فصرت الفقير وأنت الغني وما كنت تعدو الذي تصنع وكتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر‏.‏
فرد عليه‏:‏ ‏"‏ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ‏"‏ وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع‏.‏
وكان خالد بن عبد الله القسري يقول على المنبر‏:‏ أيها الناس عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله جوازيه‏.‏
وما ضعفت الناس عن أدائه قوي الله على جزائه‏.‏
وأخذه من قول الحطيئة‏:‏ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس وأخذه الحطيئة من بعض الكتب القديمة‏.‏
يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام‏:‏ من يفعل الخير يجده عندي لا يذهب العرف بيني وبين عبدي‏.‏
وكان سعيد بن العاص يقول على المنبر‏:‏ من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً حتى يكون أسعد الناس به فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين‏:‏ إما لمصلح فلا يقل عليه شيء وإما لمفسد فلا يبقى له شيء‏.‏
أخذه الشاعر فقال‏:‏ أسعد بمالك في الحياة فإنما يبقى خلافك مصلح أو مفسد وقال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ إن لك في مالك شريكين‏:‏ الحدثان والوارث فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل‏.‏
وقال بزرجمهر الفارسي‏:‏ إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى‏:‏ أخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وكان كسرى يقول‏:‏ عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بخلهم ومذمة الناس لهم وإطباق القلوب على بغضهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عظيماً‏.‏
وأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال‏:‏ من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً والبخل من سوء ظن المرء بالله محمد بن يزيد بن عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان فقال لي‏:‏ إما أن تحملني وإما أن أحملك‏.‏
ففهمت ما أراد فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري‏:‏ وإن قومكم سادوا فلا تحسدوهم وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا وإن أنتم أعوزتم فتعففوا وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا فأمر لي بعشرين ألفاً‏.‏
وقال عبد الله بن عباس‏:‏ سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء‏.‏
وقال أبو مسلم الخولاني‏:‏ ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه‏.‏
وما كل من قدر على المعروف كانت له نية‏.‏
فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة وأنشد‏:‏ إن المكارم كلها حسن والبذل أحسن ذلك الحسن كم عارف بي لست أعرفه ومخبر عني ولم يرني يأتيهم خبري وإن بعدت داري وبوعد عنهم وطني إني لحر المال ممتهن ولحر عرضي غير ممتهن وقال خالد بن عبد الله القسري‏:‏ من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ والله لرجل ذكرني ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى يراني موضعاً لحاجته لأوجب علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له‏.‏
وقال عبد العزيز بن مروان‏:‏ إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده يده عندي إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يكن لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه عن خناقه وزايله الهم الطروق المساور وكان له فضل علي بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر وقيل لأبي عقيل البليغ العراقي‏:‏ كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه قال‏:‏ رأيت رغبته في الشكر وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة‏.‏
أخذه بشار فنظمه فقال‏:‏ مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء وقال زياد‏:‏ كفى بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط‏.‏
وقال آخر‏:‏ لقد علمت وقد قطعتني عذلاً ماذا من الفضل بين البخل والجود إلا يكن ورق يوماً أروح به للخابطين فإني لين العود قوله‏:‏ إلا يكن ورق يريد المال وضربه مثلاً‏.‏
ويقال‏:‏ أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده‏.‏
والاختباط‏:‏ ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة فجعل طالب الرزق مثل الخابط‏.‏
وقال أسماء بن خارجة‏:‏ ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها‏.‏
لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه أو لئيماً فأصون عرضي منه‏.‏
وقال أرسطو طاليس‏:‏ من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك‏.‏
الترغيب في حسن الثناء واصطناع المعروف قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء‏.‏
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك‏.‏
وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما أفادك الدهر قال العلم به‏.‏
قيل‏:‏ فما أحمد الأشياء قال‏:‏ أن تبقى للإنسان أحدوثة حسنة‏.‏
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ‏"‏‏.‏
إنه أراد حسن الثناء من بعده‏.‏
وقال أكثم بن صيفي‏:‏ إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم‏.‏
أخذ هذا المعنى حبيب الطائي فقال‏:‏ وما ابن آدم إلا ذكر صالحة أو ذكر سيئة يسري بها الكلم أما سمعت بدهر باد أمته جاءت بأخبارها من بعدها أمم وقال أبو بكر محمد بن دريد‏:‏ وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى وقالوا‏:‏ الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى وغيره من مكارم الأخلاق‏:‏ يا من تجلد للزما ن أما زمانك منك أجلد سلط نهاك على هوا ك وعد يومك ليس من غد إن الحياة مزارع فازرع بها ما شئت تحصد والناس لا يبقى سوى آثارهم والعين تفقد والمال إن أصلحته يصلح وإن أفسدت يفسد والعلم ما وعت الصدو ر وليس ما في الكتب يخلد وقال الأحنف بن قيس‏:‏ ما أدخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء شيئاً أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الأحساب والآداب‏.‏
وقالوا‏:‏ تربيب المعروف أولى من اصطناعه لأن اصطناعه نافلة وتربيبه فريضة‏.‏
وقالوا‏:‏ أحي معروفك بإماتة ذكره وعظمه بالتصغير له‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ من تمام كرم النعم التغافل عن حجته والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته‏.‏
وقالوا‏:‏ للمعروف خصال ثلاث‏:‏ تعجيله وستره وتيسيره فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه وسقط عنه الشكر‏.‏
وقيل لمعاوية‏:‏ أي الناس أحب إليك فقال‏:‏ من كانت له عندي يد صالحة‏.‏
قيل‏:‏ فإن لم تكن له فقال‏:‏ فمن كانت لي عنده يد صالحة‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه فإن لم يقم بتلك المؤونة عرض النعمة للزاول‏.‏
أبو اليقظان قال‏:‏ أخذ عبيد الله بن زياد عروة بن أدية أخا أبي بلال وقطع يده ورجله وصلبه على باب داره‏.‏
فقال لأهله وهو مصلوب‏:‏ انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم‏.‏
ابن المبارك عن حميد عن الحسن قال‏:‏ لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة‏.‏
وقال إبراهيم بن السندي‏:‏ قلت لرجل من أهل الكوفة من وجوه أهلها كان لا يجف لبده ولا يستريح قلبه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال وإدخال المرافق على الضعفاء وكان رجلاً مفوهاً فقلت له‏:‏ أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب وهونت عليك التعب في القيام بحوائج الناس ما هي قال‏:‏ قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار في فروع الأشجار وسمعت خفق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن ومن شكر حر لمنعم حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر‏.‏
قال إبراهيم‏:‏ فقلت له‏:‏ لله أبوك‏!‏ لقد حشيت كرماً‏.‏
إسماعيل بن مسرور عن جعفر بن محمد عليه السلام قال‏:‏ إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون الحوائج للناس فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif الجود مع الإقلال
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار‏:‏ ‏"‏ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أفضل العطية جهد المقل‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ القليل من القليل أحمد من الكثير من الكثير‏.‏
أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلماً‏:‏ قد بعثنا إليك أكرمك الل ه بشيء فكن له ذا قبول لا تقسه إلى ندى كفك الغم ر ولا نيلك الكثير الجزيل واستجز قلة الهدية مني إن جهد المقل غير قليل وقالوا‏:‏ جهد المقل أفضل من غنى المكثر‏.‏
وقال صريع الغواني‏:‏ وقال أبو هريرة‏:‏ ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب عليه السلام تبعته ذات يوم وأنا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي‏:‏ أدخل فدخلت‏.‏
ففكر حيناً فما وجد في بيته إلا نحيا كان فيه سمن مر فأنزله من رف لهم فشقه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والرب وهو يقول‏:‏ ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد وقيل لبعض الحكماء‏:‏ من أجود الناس قال‏:‏ من جاد من قلة وصان وجه السائل عن المذلة‏.‏
وقال حماد عجرد‏:‏ أروق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود بث النوال ولا نمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وقال حاتم‏:‏ أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بجسمي مس الجوع والجوع جاهد لأني أمرؤ عافي إنائي شركة وأنت أمرؤ عافى أنائك واحد أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء بارد ومن أحسن ما قيل في الجود والإقلال قول أبي تمام حبيب‏:‏ فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله ومن أفرط ما قيل في الجود قول بكر بن النطاح‏:‏ أقول لمرتاد الندى عند مالك تمسك بجدوى مالك وصلاته فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه فأسدى بها المعروف قبل عداته فلو خذلت أمواله جود كفه لقاسم من يرجوه شطر حياته وإن لم يجز في العمر قسم لمالك وجاز له أعطاه من حسناته وجاد بها من غير كفر بربه وأشركه في صومه وصلاته وقال آخر في هذا المعنى وأحسن‏:‏ ملأت يدي من الدنيا مراراً وما طمع العواذل في اقتصادي قال سعيد بن العاصي‏:‏ قبح الله المعروف إن لم يكن ابتدئ من غير مسألة فالمعروف عوض عن مسألة الرجل إذ بذل وجهه فقلبه خائف وفراصه ترتعد وجبينه يرشح لا يدري أيرجع بنجح الطلب أم بسوء المنقلب قد انتفع لونه وذهب دم وجهه‏.‏
اللهم فإن كانت الدنيا لها عندي حظاً فلا تجعل لي حظاً في الآخرة‏.‏
وقال أكثم بن صيفي‏:‏ كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جل‏.‏
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه‏:‏ من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة‏.‏
حبيب قال‏:‏ عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى وتبقى وجوه الراغبين بمائها وقال حبيب أيضاً‏:‏ ذل السؤال شجاً في الحلق معترض من دونه شرق من خلفه جرض ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت من ماء وجهي إذا أفنيته عوض إني بأيسر ما أدنيت منبسط كما بأكثر ما أقصيت منقبض وقالوا‏:‏ من بذل إليك وجهه فقد وفاك حق نعمتك وقالوا‏:‏ السخي من كان مسروراً ببذله متبرعاً بعطائه لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله ولا طلب مكافأة فيسقط شكره ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر لا يريد نفعها ولكن نفع نفسه‏.‏
نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له‏:‏ ما أصبرك على هذا القميص فقال له‏:‏ رب مملوك لا يستطاع فراقه‏.‏
فبعث إليه بتخت من ثياب‏.‏
فقال أبو الأسود‏:‏ كساني ولم أستكسه فحمدته أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإن أحق الناس إن كنت شاكراً بشكرك من أعطاك والعرض وافر وسأل معاوية صعصعة بن صوجان‏:‏ ما الجود فقال‏:‏ التبرع بالمال والعطية قبل السؤال‏:‏ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ كريم على العلات جزل عطاؤه ينيل وإن لم يعتمد لنوال وما الجود من يعطى إذا ما سألته ولكن من يعطى بغير سؤال وقال بشار العقيلي‏:‏ مالكي ينشق عن وجهه الجد ب كما انشقت الدجى عن ضياء ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء لا ولا أن يقال شيمته الجو د ولكن طبائع الآباء وقال آخر‏:‏ إن بين السؤال والإعتذار خطة صعبة على الأحرار وقال حبيب بن أوس لئن جحدتك ما أوليت من نعم إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم أنسى ابتسامك والألوان كاسفة تبسم الصبح في داج من الظلم رددت رونق وجهي في صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم وما أبالي وخير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي استنجاح الحوائج كانوا يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما‏:‏ اللهم بك أستنجح وباسمك أستفتح وبمحمد نبيك إليك أتوجه‏.‏
اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لي حزونته وارزقني من الخير أكثر مما أرجو وأصرف عني من الشر أكثر مما أخاف‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها فإن كل ذي نعمة محسود‏.‏
وقال خالد بن صفوان‏:‏ لا تطلبوا الحوائج في غير حينها ولا تطلبوها من غير أهلها فإن الحوائج تطلب بالرجاء وتدرك بالقضاء‏.‏
وقال‏:‏ مفتاح نجح الحاجة الصبر على طول المدة ومغلاقها اعتراض الكسل دونها‏.‏
قال الشاعر‏:‏ إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في أمر يحاوله فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ومن أمثال العرب في هذا‏:‏ من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له‏.‏
أخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذ تضايق أمر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا وقال خالد بن صفوان‏:‏ فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها وأشد من المصيبة سوء وقالوا‏:‏ صاحب الحاجة مبهوت وطلب الحوائج كلها تعزير‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ لا تطلب حاجتك من كذاب فإنه يقر بها بالقول ويبعدها بالفعل ولا من أحمق فإنه يريد نفعك فيضرك ولا من رجل له آكلة من جهة رجل فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي‏:‏ جئتك مسترفداً بلا سبب إليك إلا بحرمة الأدب فاقض ذمامي فإنني رجل غير ملح عليك في الطلب وقال شبيب بن شيبة‏:‏ إني لأعرف أمراً لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النجح بينهما‏.‏
قيل له‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ العقل فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن ولا يرد عما يمكن‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ أتيتك لا أدلي بقربى ولا يد إليك سوى أني بجودك واثق فإن تولني عرفاً أكن لك شاكراً وإن قلت لي عذراً أقل أنت صادق وقال الحسن بن هانئ‏:‏ فإن تولني منك الجميل فأهله وإلا فإني عاذر وشكور لعمرك ما أخلقت وجهاً بذلته إليك ولا عرضته للمعاير فتى وفرت أيدي المكارم عرضه عليه وخلت ماله غير وافر ودخل محمد بن واسع على بعض الأمراء فقال‏:‏ أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين وإن شئت لم تقضها وكنا لئيمين‏.‏
أراد إن قضيتها كنت أنت كريماً بقضائها وكنت أنا كريما بسؤالك إياها لأني وضعت الطلبة في موضعها‏.‏
فإن لم تقضها كنت أنت لئيماً بمنعك وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك‏.‏
وسرق حبيب هذا المعنى فقال‏:‏ عياش إنك للئيم وإنني إذ صرت موضع طلبي للئيم ودخل سوار القاضي على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فقال‏:‏ أصلح الله الأمير‏:‏ لنا حاجة والعذر فيها مقدم خفيف معناها مضاعفة الأجر فإن تقضها فالحمد لله وحده وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر قال له‏:‏ ما حاجتك أبا عبد الله قال‏:‏ كتاب لي إن رأى الأمير - أكرمه الله - أن ينفذه في خاصته كتبه إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي‏.‏
قال‏:‏ أو غير ذلك أبا عبد الله نعجلها لك من مالنا وإذا وددت كنت مخيراً بين أن تأخذ أو ترد‏.‏
فأنشد سوار يقول‏:‏ وكفك حين ترى المجتدي ن أندى من الليلة الماطرة وكلبك آنس بالمعتفين من الأم بابنتها الزائرة ودخل أبو حازم الأعرج على بعض أهل السلطان فقال‏:‏ أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله فبلك فإن يأذن الله لك في قضائها قضيتها وحمدناك وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك‏.‏
وفي بعض الحديث‏:‏ اطلبوا الحوائج عن حسان الوجوه‏.‏
أخذه الطائي فنظمه في شعره فقال‏:‏ قد تأولت فيك قول رسول ال له إذا قال مفصحاً إفصاحاً إن طلبتم حوائجاً عند قوم فتنقوا لها الوجوه الصباحا فلعمري لقد تنقيت وجهاً ما به خاب من أراد النجاحا قال المنصور لرجل دخل عليه‏:‏ سل حاجتك قال‏:‏ يبقيك الله يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ سل حاجتك فإنك لست تقدر على مثل هذا المقام في كل حين‏.‏
قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤالك لزين وما بامرئ بذل إليك وجهه نقض ولا شين فوصله وأحسن إليه‏.‏
من أمثالهم في هذا‏:‏ أنجز حر ما وعد‏.‏
وقالوا‏:‏ وعد الكريم نقد ووعد اللئيم تسويف‏.‏
وقال الزهري‏:‏ حقيق على من أورق بوعد أن يثمر بفعل‏.‏
وقال المغيرة‏:‏ من أخر حاجة فقد ضمنها‏.‏
وقال الموبذان الفارسي‏:‏ الوعد السحابة والإنجاز المطر‏.‏
وقال غيره‏:‏ المواعيد رؤوس الحوائج والإنجاز أبدانها‏.‏
وقال عبد الله بن عمر رحمه الله‏:‏ خلف الوعد ثلث النفاق وصدق الوعد ثلث الإيمان وما ظنك بشيء جعله الله تعالى مدحة في كتابه وفخراً لأنبيائه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ‏"‏‏.‏
وذكر جبار بن سلمى عامر بن الطفيل فقال‏:‏ كان والله إذا وعد الخير وفى وإذا أوعد بالشر أخلف وهو القائل‏:‏ ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ويأمن مني صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ليكذب إيعادي ويصدق موعدي وقال ابن أبي حازم‏:‏ وإلا فقل لا تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏.‏
كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏"‏ لكفى‏.‏
وقال عمر بن الحارث‏:‏ كانوا يفعلون ولا يقولون ثم صاروا يقولون ويفعلون ثم صاروا يقولون ولا يفعلون ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون‏:‏ فزعم أنهم ضنوا بالكذب فضلاً عن الصدق‏.‏
وفي هذا المعنى يقول الحسن بن هانئ‏:‏ قال لي ترضى بوعد كاذب قلت إن لم يك شحم فنفش ومثله قول عباس بن الأحنف ويقال إنه لمسلم بن الوليد صريع الغواني‏:‏ ما ضر من شغل الفؤاد ببخله لو كان عللني بوعد كاذب صبراً عليك فما أرى لي حيلة إلا التمسك بالرجاء الخائب سأموت من كمد وتبقى حاجتي فيما لديك وما لها من طالب قال عبد الرحمن بن أم الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله بها‏:‏ نحن إلى الفعل أحوج منا إلى القول وأنت بالإنجاز أولى منك بالمطل‏.‏
واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد واستتمامك المعروف‏.‏
القاسم بن معن المسعودي قال‏:‏ قلت لعيسى بن موسى أيها الأمير ما انتفعت بك مذ عرفتك ولا أوصلت لي خيراً مذ صحبتك‏.‏
قال‏:‏ ألم أكلم لك أمير المؤمنين في كذا وسألته لك كذا قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى فهل استنجزت ما وعدت واستتممت ما بدأت قال‏:‏ حال من دون ذلك أمور قاطعة وأحوال عاذرة‏.‏
قلت‏:‏ أيها الأمير فما زدت على أنها نبهت العجز من رقدته وأثرت الحزن من ربضته إن الوعد إذا لم يشفه إنجاز يحققه كان كلفظ لا معنى له وجسم لا روح فيه‏.‏
وقال عبد الصمد بن الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم عامل الري‏.‏
أخالد إن الري قد أجحفت بنا وضاق علينا رحبها ومعاشها وقد أطعمتنا منك يوماً سحابة أضاءت لنا برقاً وأبطأ رشاشها فلا غيمها يصحو فييئس طامعاً ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها وقال سعيد بن سلم‏:‏ وعد أبي بشاراً العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها‏:‏ صدت بخد وجلت عن خد ثم انثنت كالنفس المرتد فكتب إليه بشار بالغد‏:‏ ما زال ما منيتني من همي والوعد غم فأرح من غمي فقال له أبي‏:‏ يا أبا معاذ هلا استنجحت الحاجة بدون الوعيد فإذ لم تفعل فتربص ثلاثاً وثلاثاً فإني والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تصنع إلي معروفاً حتى تعدني فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد وإلا هان علي قدره وقل مني شكره‏.‏
قال له هشام‏:‏ لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم الخولاني‏:‏ إن أوقع المعروف في القلوب وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا يكدره المظل‏.‏
وكان يحيى بن خالد بن برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد ويقول‏:‏ من لم يبت على سرور لم يجد للصنيعة طعماً‏.‏
وقالوا‏:‏ الخلف ألأم من البخل لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذم اللؤم وحده ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمات‏:‏ ذم اللؤم وذم الخلف وذم الكذب‏.‏
قال زياد الأعجم‏:‏ لله درك من فتى ولو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا د وحبذا صدق البخيل استبطأ حبيب الطائي الحسن بن وعيب في عدة وعدها إياه فكتب إليه أبياتاً يستعجله بها‏.‏
فبعث إليه بألف درهم وكتب إليه‏:‏ فخذ القليل وكن كمن لم يسأل ونكون نحن كأننا لم نفعل وقال عبد الله بن مالك الخزاعي‏:‏ دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ‏:‏ وأشعث قد قد السفار قميصه يجر شواء بالعصا غير منضج دعوت إلى ما نابني فأجابني كريم من الفتيان غير مزلج فتى يملأ الشيزي ويروي سنانه ويضرب في رأس الكمي المدجج فتي ليس بالراضي بأدنى معيشة ولا في بيوت الحي بالمتولج فرفع رأس إلي المهدي وقال‏:‏ هذه صفتك أبا العباس فقلت‏:‏ بك نلتها يا أمير المؤمنين‏.‏
فضحك إلي وقال‏:‏ هل تنشد من الشعر شيئاً قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فأنشدني‏.‏
فأنشدته قول السموأل‏:‏ وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل إذا المرء أعيته المروءة يافعاً فمطلبها كهلاً عليه ثقيل تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد السيوف نفوسنا وليست على غير السيوف تسيل وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولا فينا يعد بخيل وأسيافنا في كل شرق ومغرب بها من قراع الدارعين فلول فقال‏:‏ أحسنت‏!‏ اجلس بهذا بلغتم سل حاجتك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين تكتب لي في العطاء ثلاثين رجلاً من أهلي قال‏:‏ نعم فرض علي إذا وعدت‏.‏
فقلت يا أمير المؤمنين إنك متمكن من القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل فما معنى العدة فنظر إلى بن دأب كأنه يريد منه كلاماً في فضل الموعد‏.‏
فقال ابن دأب‏:‏ حلاوة الفعل بوعد ينجز لا خير في العرف كنهب ينهز فضحك المهدي وقال‏:‏ الفعل أحسن ما يكو ن إذا تقدمه ضمان وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه‏:‏ يا بني إذ غدا عليكم الرجل وراح مسلماً فكفى بذلك أروح بتسليمي عليك وأغتدي وحسبك بالتسليم مني تقاضيا وقال آخر‏:‏ كفاك مخبراً وجهي بشأني وحسبك أن أراك وأن تراني وما ظني بمن يعنيه أمري ويعلم حاجتي ويرى مكاني كتب العتابي إلى بعض أهل السلطان‏:‏ أما بعد فإن سحائب وعدك قد أبرقت فليكن وبلها سالماً من علل المطل والسلام‏.‏
وكتب الجاحظ إلى رجل وعده‏:‏ أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن ثمرها سالماً من جوائح المطل والسلام‏.‏
ووعد عبد الله بن طاهر دعبلاً بغلام فلما طال عليه تصدى له يوماً وقد ركب إلى باب الخاصة فلما رآه قال‏:‏ أسأت الافتضاء وجهلت المأخذ ولم تحسن النظر ونحن أولى بالفضل فلك الغلام والدابة لما ننزل إن شاء الله تعالى‏.‏
فأخذ دعبل بعنانه وأنشده‏:‏ يا جواد اللسان من غير فعل ليت في راحتيك جود اللسان عين مهران قد لطمت مراراً فاتقي ذا الجلال في مهران عرت عيناً فدع لمهران عيناً لا تدعه يطوف في العميان وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد جارية فوعده بها وأبطأت عليه فكتب إليه‏:‏ أرى حاجتي عند الأمير كأنها تهم زماناً عنده بمقام وأحصر عن إذكاره إن لقيته وصدق الحياء ملجم بلجام أراها إذا كان النهار نسيئة وبالليل تقضى عند كل منام فيا رب أخرجها فإنك مخرج من الميت حياً مفصحاً بكلام فتعلم ما شكري إذا ما قضيتها وكيف صلاتي عندها وصيامي وكتب أبو العتاهية إلى رجل وعده وعداً وأخلفه‏:‏ أحسبت أرض الله ضيقة عني فأرض الله لم تضيق وجعلتني فقعاً بقرقرة فوطئتني وطئاً على حنق فإذا سألتك حاجة أبداً فاضرب لها قفلاً على غلق وأعد لي غلاً وجامعة فاجمع يدي بها إلى عنقي ما أطول الدنيا وأوسعها وأدلني بمسالك الطرق ومن قولنا في رجل كتب إلى بعدة في صحيفة ومطلني بها‏:‏ من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن بت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم ولا تأتدم على أكله فإنه بالجوع مأدوم وقلت فيه‏:‏ صحيفة كتبت ليت بها وعسى عنوانها راحة الراجي إذا يئسا وعد له هاجس في القلب وقد برمت أحشاء صدري به من طول ما هجسا يراعة غرني منها وميض سنى حتى مددت إليها الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعضا موسى لما انبجسا كأنما صيغ من بخل ومن كذب فكان ذاك له روحاً وذا نفسا وقلت فيه‏:‏ رجاء دون أقربه السحاب ووعد مثل ما لمع السراب وتسويف يكل الصبر عنه ومطل ما يقوم له حساب لطيف الاستمناح قال الحكماء‏:‏ لطيف الاستمناح سبب النجاح والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال وانقبضت وامتنعت بجفاء السائل كما قال الشاعر‏:‏ وجفوتني فقطعت عنك فوائدي كالدر يقطعه جفاء الحالب وقال العتابي‏:‏ إن طلب حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه وإياك والإلحاح علي فإن إلحاحك يكلم عرضك ويريق ماء وجهك فلا تأخذ منه عوضاً لما يأخذ منك ولعل الإلحاح يجمع عليك إخلاق الوجه وحرمان النجاح فإنه ربما مل المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب‏.‏
وقال الحسن بن هانئ‏:‏ تأن مواعيد الكرام فربما حملت من الإلحاح سمحاً على بخل وقال آخر‏:‏ إن كنت طالب حاجة فتجمل فيها بأحسن ما طلب وأجمل إن الكريم أخا المروءة والنهى من ليس في حاجاته بمثقل وقال مروان بن أبي حفصة‏:‏ لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذ بعنان دابته وقلت له‏:‏ إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت منها مائة ألف‏.‏
قال‏:‏ هات لله أبوك‏!‏ فأنشأت أقول‏:‏ يا أكرم الناس من عجم ومن عرب بعد الخليفة يا ضرغامة العرب أفنيت مالك تعطيه وتنهبه يا آفة الفضة البيضاء والذهب إن السنان وحد السيف لو نطقا لا خبراً عنك في الهيجاء بالعجب فأمر لي بها‏.‏
المدائني قال‏:‏ قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين نحن ممن تعرف وحقنا لا ينكر وجئناك من بعيد ونمت بقريب وهما تعطنا فنحن أهله‏.‏
دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال‏:‏ أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة قال‏:‏ بل بالقرابة والخاصة‏.‏
قال‏:‏ يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطلق من لساني بالمسألة‏.‏
فأعطاه وأجزل له‏.‏
ودخل أبو الريان على عبد الملك بن مروان وكان عنده أثيراً فرآه خائراً فقال‏:‏ يا أبا الريان مالك خائراً قال‏:‏ أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر‏.‏
قال عبد الملك‏:‏ ما أحسن ما استمنحت واعتررت يا أبا العتابي قال‏:‏ كتب الشعبي إلى الحجاج يسأله حاجة فاعتل عليه‏.‏
فكتب إليه الشعبي‏:‏ والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين فقضى حاجته‏.‏
وكان جد الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي‏.‏
العتبي قال‏:‏ قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال‏:‏ إني لم أزل أهز ذئاب الرحال إليك فلم أجد معولاً إلا عليك امتطى الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى المجتهد يعذر وإذا بلغتك فقطني‏.‏
فقال‏:‏ احطط عن راحلتك رحلها‏.‏
ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل قال‏:‏ سل حاجتك‏.‏
قال‏:‏ قد حملت عن عشيرتي عشر ديات‏.‏
قال‏:‏ قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها‏.‏
العتبي عن أبيه قال‏:‏ أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال‏:‏ إنها وقعت بيني وبين قومي ديات فاحتملتها في مالي وأملي فعدمت مالي وكنت أملي فإن تحملها عني فرب هم فرجته وغم كفيته ودين قضيته وإن حال دون ذلك حائل لم أذم يومك ولم أيأس من غدك‏.‏
فحملها عنه‏.‏
المدائني قال‏:‏ سأل رجل خالداً القسري حاجة فاعتل عليه‏.‏
فقال له‏:‏ لقد سألت الأمير من غير حاجة‏.‏
قال وما دعاك إلى ذلك قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء فأردت أن أتعلق منك بحبل مودة‏.‏
فوصله وحباه وأدنى مكانه‏.‏
والأصمعي قال‏:‏ دخل أبو بكير الهجري على المنصور فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه‏.‏
قال‏:‏ اختر منها ومن الجائزة‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى حاكة في فمي‏.‏
فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏
وذكروا أن جاراً لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره‏.‏
فساوموه بها فسألهم ألف دينار فقالوا له‏:‏ إن دارك تساوي خمسمائة دينار‏.‏
قال‏:‏ وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة دينار‏.‏
فبلغ أبا دلف فأمر بقضاء دينه وقال له لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا‏.‏
ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت‏:‏ أشكو إليك قلة الجرذان قال‏:‏ ما أحسن هذه الكناية‏!‏ املئوا لها بيتاً خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً‏.‏
إبراهيم بن أحمد عن الشيباني قال‏:‏ كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث‏.‏
فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال له ما حاجتك يا أزهر قال‏:‏ داري متهدمة وعلي أربعة آلاف درهم وأريد أن يبني محمد ابني بعياله فوصله باثني عشر ألفاً وقال‏.‏
قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا طالباً‏:‏ فأخذها وارتحل‏.‏
فلما كان بعد سنة أتاه‏.‏
فلما رآه أبو جعفر قال‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال جئتك مسلماً‏.‏
قال‏:‏ إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً‏.‏
قال‏:‏ ما جئت إلا مسلماً‏.‏
قال‏:‏ قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً‏.‏
فأخذها ومضى‏.‏
فلما كان بعد سنة أتاه فقال‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ أتيت عائداً‏.‏
قال‏:‏ إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً‏.‏
قال‏:‏ ما جئت إلا عائداً قال أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب ولا تأتنا لا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً فأخذها وانصرف‏.‏
فلما مضت السنة أقبل فقال له‏:‏ ما جاء بك يا أزهر قال‏:‏ دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين جئت لأكتبه‏.‏
فضحك أبو جعفر وقال‏:‏ إنه دعاء غير مستجاب وذلك أني قد دعوت الله تعالى به أن لا أراك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب وتعال متى شئت فقد أعيتني فيك الحيلة‏.‏
أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له‏:‏ إني مدحتك فاستمع‏.‏
قال‏:‏ على رسلك ثم دخل بيته وقلد سيفه وخرج فقال‏:‏ فإن أحسنت حكمناك وإن أسأت قتلناك‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ أمنت بداود وجود يمينه من الحدث المخشي والبؤس والفقر فأصبحت لا أخشى بداود نبوة من الحدثان إذ شددت به أزري له حكم لقمان وصورة يوسف وملك سليمان وعدل أبي بكر فتى تفرق الأموال من جود كفه كما يفرق الشيطان من ليلة القدر فقال‏:‏ قد حكمناك فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري‏.‏
قال‏:‏ بل على قدري فأعطاه خمسين ألفاً‏.‏
فقال له جلساؤه‏:‏ هلا احتكمت على قدر الأمير‏!‏ قال‏:‏ لم يك في ماله ما يفي بقدره‏.‏
قال له داود‏:‏ أنت في هذه أشعر منك في شعرك وأمر بمثل ما أعطاه‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده‏:‏ فعالى فعال المكثرين تجملاً ومالي كما قد تعلمين قليل فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ورأي أمير المؤمنين جميل فقال له الرشيد‏:‏ لله در أبيات تأتينا بها‏!‏ ما أحسن أصولها وأبين فصولها وأقل فضولها‏!‏ يا غلام أعطه عشرين ألفاً‏.‏
قال‏:‏ والله لا أخذت منها درهماً واحداً‏.‏
قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري‏.‏
قال‏:‏ أعطوه أربعين ألفاً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني‏.‏
العتبي عن أبيه قال‏:‏ قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكانت ابنة يعلى عند عتيبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏
فلما ولى قال‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏
ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال‏:‏ إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ومن دين لزم‏.‏
بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين‏.‏
فقال عتبة‏:‏ إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا رافع يدي ويدك بيد الله‏.‏
فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏
إبراهيم الشيباني قال‏:‏ قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف‏:‏ أعدم أبي إعدامة شديدة بالبصرة وأنفض فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلاً فبينا هو يشكو تعزر الأشياء عليه إذ عدا غلامه على كسوته وبلغته فذهب بهما‏.‏
فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله‏.‏
فقال له‏:‏ والله يا بن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك ولكن لعلي أحتال لك‏:‏ فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها ثم قال‏.‏
امض بنا‏.‏
فأتى باب والي خراسان فدخل وتركني بالباب فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال‏:‏ أين علي بن سويد فدخلت إلى الوالي فإذا حضين على فراش جانبه‏.‏
فسلمت على الوالي فرد علي ثم أقبل عليه حضين فقال‏:‏ أصلح الله الأمير هذا علي بن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها وأكثر الناس مالاً حاضراً بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالاً وقد تحمل بي إلى الأمير حاجة‏.‏
قال‏:‏ هي مقضية‏.‏
قال‏:‏ يسألك أن تمد يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت‏.‏
قال‏:‏ لا والله لا أفعل ذلك به نحب أولى بزيادته‏.‏
قال‏:‏ فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها فهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة‏.‏
قال‏:‏ إن كانت حاجة فهو فيها ثقة ولكن أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا فإنا نحب أن يرى على مثله من أثرنا‏.‏
فأقبل علي أبو ساسان فقال‏:‏ يا أبا الحسن عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئاً أكرمك به‏.‏
فسكت‏.‏
فدعا لي بمال ودواب وكساو ورقيق‏.‏
فلما خرجت قلت‏:‏ أبا ساسان لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط‏.‏
قال‏:‏ اذهب إليك يا بن أخي فعمك أعلم بالناس منك‏.‏
إن الناس إن علموا لك غرارة من مال حشوا لك أخرى وإن يعلموك فقيراً تعدوا عليك مع فقرك‏.‏
إبراهيم الشيباني قال‏:‏ ولدت لأبي دلامة ابنة ليلاً فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقق‏.‏
فلما اصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه وكان لا يحجب عنه‏.‏
فأنشده‏:‏ لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج إلى السماء فأنتم أكرم الناس قال له المهدي‏:‏ أحسنت والله أبا دلامة‏!‏ فما الذي غدا بك إلينا قال‏:‏ ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فهل قلت فهيا شعراً قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فما ولدتك مريم أم عيسى ولم يكفلك لقمان الحكيم قال‏:‏ فضحك المهدي‏.‏
وقال‏:‏ فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة قال‏:‏ تملأ هذه يا أمير المؤمنين وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه‏.‏
فقال المهدي‏:‏ وما عسى أن تحمل هذه قال‏:‏ من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير‏.‏
فأمر أن تملأ مالاً‏.‏
فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار فدخل فيها أربعة آلاف درهم‏.‏
وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجاً‏.‏
فأخذ به وهو سكران فأتي به إلى المهدي‏.‏
فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدجاج فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج صاح‏:‏ يا صاحب البيت‏.‏
فاستجاب له السجان فقال‏:‏ مالك يا عدو الله قال له‏:‏ ويلك‏!‏ من أدخلني مع الدجاج قال‏:‏ أعمالك الخبيثة أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج‏.‏
قال له‏:‏ ويلك‏!‏ أو تقدر على أن توقد سراجاً وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي هذا‏.‏
فأتاه بدواة وورق‏:‏ فكتب أبو دلامة إلى المهدي‏:‏ أمن صهباء صافية المزاج كأن شعاعها لهب السراج تهش لها النفوس وتشتهيها إذا برزت ترقرق في الزجاج وقد طبخت بنار الله حتى لقد صارت من النطف النضاج أقاد إلى السجون بغير ذنب كأني بعض عمال الخراج ولو معهم حبست لهان وجدي ولكني حبست مع الدجاج دجاجات يطيف بهن ديك يناجي بالصياح إذا يناجي وقد كانت تخبرني ذنوبي بأني من عذابك غير ناجي على أني وإن لاقيت شراً لخيرك بعد ذاك الشر راجي ثم قال‏:‏ أوصلها إلى أمير المؤمنين‏.‏
فأوصلها إليه السجان‏.‏
فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه فقال‏:‏ أين بت الليلة أبا دلامة قال‏:‏ مع الدجاج يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فما كنت تصنع قال‏:‏ كنت أقاقي معهن حتى أصبحت‏.‏
فضحك المهدي وأمر بصلة جزيلة وخلع عليه كسوة شريفة‏.‏
وكتب أبو دلامة إلى عيسى موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ إذا جئت الأمير فقل سلام عليك ورحمة الله الرحيم فأما بعد ذاك فلي غريم من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت لباب داري لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة علي ونصف أخرى ونصف النصف في صك قديم أتوني بالعشيرة يسألوني ولم أك في العشيرة باللئيم قال‏:‏ فبعث إليه بمائة ألف درهم‏.‏
ولقى أبو دلامة أبا دلف في مصاد وهو والي العراق فأخذ بعنان فرسه وأنشد‏:‏ إن حلفت لئن رأيتك سالماً بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على النبي محمد ولتملأن دراهماً حجري فقال‏:‏ أما الصلاة على النبي فنعم صلى الله عليه وسلم وأما الدراهم فلما نرجع إن شاء الله تعالى‏.‏
قال له‏:‏ جعلت فداك لا تفرق بينهما‏.‏
فاستلفها له وصبت في حجره حتى أثقلته‏.‏
ودخل أبو دلامة على المهدي فأنشده أبياتاً أعجب بها فقال له‏:‏ سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كلب اصطاد به قال‏:‏ قد أمرنا لك بكلب وهاهنا بلغت همتك وعلى هاهنا انتهت أمنيتك قال لا تعجل علي يا أمير المؤمنين فإنه بقي علي‏.‏
قال‏:‏ وما بقي عليك قال غلام يقود الكلب‏.‏
قال‏:‏ وغلام يقود الكلب‏.‏
قال‏:‏ وخادم يطبخ لنا الصيد‏.‏
قال‏:‏ وخادم يطبخ الصيد‏.‏
قال ودار نسكنها‏.‏
قال‏:‏ ودار تسكنها‏.‏
قال وجارية نأوي إليه‏.‏
قال‏:‏ وجارية تأوي إليها‏.‏
قال‏:‏ قد بقى الآن المعاش قال‏:‏ قد أقطعناك ألفي جريب عامرة وألفي جريب غامرة‏.‏
قال‏:‏ وما الغامرة يا أمير المؤمنين قال‏:‏ التي لا تعمر‏.‏
قال‏:‏ أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد‏.‏
قال قد جعلتها كلها لك عامرة‏.‏
قال‏:‏ فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده قال‏:‏ أما هذه فدعها‏.‏
قال‏:‏ ما منعتني شيئاً أيسر هي أم ولدي فقداً منه‏.‏
ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوماً وعليه قلنسوة طويلة - وكان قد أخذ أصحابه بلبسها وأخذهم بلبس دراريع عليها مكتوب بين كتفي الرجل‏:‏ ‏"‏ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ‏"‏ وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم - فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزي فقال له‏:‏ كيف أصبت أبا دلامة قال‏:‏ بشر حال يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ كيف ذلك ويلك‏!‏ قال‏:‏ وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه وسيفه في أسته وقد نبذ كتاب الله عز وجل وراء ظهره‏.‏
قال‏:‏ فضحك أبو جعفر وأمر بتغيير ذلك وأمر لأبي دلامة بصلة‏.‏
وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات‏:‏ قف بالديار وأي الدهر لم تقف على منازل بين الظهر والنجف وما وقوفك في أطلال منزلة لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف إن كنت أصبحت مشغوفاً بجارية فلا وربك لا تشفيك من شغف ولا تزيدك إلا العل من أسف فهل لقلبك من صبر على الأسف تخطها من جواري المصر كاتبة قد طالما ضربت في اللام والألف وطالما اختلفت صيفاً وشاتية إلى معلمها باللوح والكتف حتى إذا ما استوى الثديان وامتلأت منها وخيفت على الإسراف والقرف صينت ثلاث سنين ما ترى أحداً كما تصان ببحر درة الصدف بينا الفتى يتمشى نحو مسجده مبادراً لصلاة الصبح بالسدف حانت لن نظرة منها فأبصرها مطلة بين سجفيها من الغرف فخر في الترب ما يدري غداتئذ أخر منكشفاً أم غير منكشف وجاءه القوم أفواجاً بمائهم لينضحوا الرجل المغشى بالنطف فوسوسوا بقران في مسامعه خوفاً من الجن والإنسان لم يخف شيئاً ولكنه من حب جارية أمسى وأصبح من موت على شرف قالوا‏:‏ لك الخير ما أبصرت قلت لهم جنية أقصدتني من بني خلف أبصرت جارية محجوبة لهم تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف فبت ألثمها طوراً وتلثمني طوراً ونفعل بعض الشيء في اللحف بتنا كذلك حتى جاء صاحبها يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف وذاك حق على زند وكيف به والحق في طرف والعين في طرف وبين ذاك شهود لم أبال بهم أكنت معترفاً أم غير معترف فإن تصلني قضيت القوم حقهم وإن تقل لا فحق القوم في تلف فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها وقضى عنه ثمن الجارية‏.‏
واسم أبي دلامة‏:‏ زند‏.‏
إبراهيم بن المهدي قال‏:‏ قال لي جعفر بن يحيى يوماً‏:‏ إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو وأفر من أشغال الناس وأتوحد‏.‏
فهل أنت مساعدي قلت‏:‏ جعلني الله فداك أنا أسعد الناس بمساعدتك وآنس بمخالاتك‏.‏
قال‏:‏ فكر إلي بكور الغراب‏.‏
قال‏:‏ فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد‏.‏
قال‏:‏ فصلينا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة فأتى بحجام وحجمنا في ساعة واحدة ثم قدم إلينا طعام فطعمنا‏.‏
فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق وظللنا بأسر يوم مر بنا‏.‏
ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب فقال‏:‏ إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن له‏.‏
فنسي الحاجب وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنه وقدره وأدبه فإذن له الحاجب‏.‏
فما راعنا إلا طلعة عبد الملك‏.‏
فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغص عليه ما كان فيه‏.‏
فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحال دعا غلامه دفع إليه سيفه وسواده وعمامته ثم جاء ووقف على باب المجلس وقال‏:‏ اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم‏.‏
قال‏:‏ فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة‏.‏
ودعا بالطعام فطعم ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثاً ثم قال‏:‏ ليخفف عني فإن شيء ما شربته قط‏.‏
فتهلل وجه جعفر وفرح به وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك بن صالح ووجد عليه‏.‏
فقال له جعفر بن يحيى‏:‏ جعلني الله فداك قد تفضلت وتطولت وأسعدت فهل من حاجة تبلغها مقدرتي أو تحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت قال‏:‏ بلى إن قلب أمير المؤمنين عاتب علي فسله الرضا عني‏.‏
قال‏:‏ قد رضي عنك أمير المؤمنين‏.‏
ثم قال‏:‏ علي أربعة آلاف دينار‏.‏
قال حاضرة ولكن من مال أمير المؤمنين أحب إليك‏.‏
قال‏:‏ وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بصهر من أولاد أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ قد زوجه أمير المؤمنين ابنته عائشة‏.‏
قال‏:‏ وأحب أن تخفق الألوية على رأسه‏.‏
قال‏:‏ قد ولاه أمير المؤمنين على مصر‏.‏
قال‏:‏ وانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين‏.‏
فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك فعقد النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وكتب سجل إبراهيم على مصر‏.‏
وخرج جعفر فأشار إلينا‏.‏
فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله‏.‏
فالتفت إلينا فقال‏:‏ تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه ابتدأت القصة من أولها كما كانت فجعل يقول‏:‏ أحسن والله‏!‏ أحسن والله‏!‏ فما صنعت فأخبرته بما سأله وبما أجبته به‏.‏
فجعل يقول في ذلك‏:‏ أحسنت أحسنت‏!‏ وخرج إبراهيم والياً على مصر‏.‏
قدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة فمكث ببابه حيناً لا يصل إليه فتلطف في رقعة أوصلها إليه وفيها أربعة أسطر‏:‏ في السطر الأول‏:‏ الضر والأمل أقدماني عليك‏.‏
والسطر الثاني‏:‏ الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة‏.‏
السطر الثالث‏:‏ الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدو‏.‏
والسطر الرابع‏:‏ فإما نعم مثمرة وإما لا مريحة‏.‏
فلما قرأها وقع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها‏.‏
ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده‏:‏ فقلت شراء قال لا بل وراثة توارثني عن والد بعد والد فأمر له بعشر آلاف‏.‏
ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فأنشده‏:‏ أخالد إن لم أزرك لخلة سوى أنني عاف وأنت جواد أخالد بين الحمد والأجر حاجتي فأيهما تأتي فأنت عماد فأمر له بخمسة آلاف درهم‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏.‏
ودخلت على أبي العباس القائد فأنشدته‏:‏ الله جرد للندى والباس سيفاً فقلده أبا العباس ملك إذا استقبلت غرة وجهه قبض الرجاء إليك روح إلياس وجه عليه من الحياء سكينة ومحبة تجري مع الأنفاس وإذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة للناس ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ‏.‏
فتلكأ فيها علي فأخذت سحاية من بين يديه فوقعت فيها على البديهة‏:‏ ما ضر عندك حاجتي ما ضرها عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها حاشى لجودك أن يوعر حاجتي ثقتي سهلت لي وعرها لا يجتني حلو المحامد ماجد حتى يذوق من المطالب مرها فقضى الحاجة وسارع إليها‏.‏
وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه‏:‏ عليل من مكانين من الإفلاس والدين ففي هذين لي شغل وحسبي شغل هذين فبعث إليه بألف دينار‏.‏
عبد الله بن منصور قال‏:‏ كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى‏.‏
فأتاه الحاجب فقال‏:‏ إن بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يداً يمت بها‏.‏
فقال‏:‏ أدخله‏.‏
فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة‏.‏
فسلم فأحسن‏.‏
فأومأ إليه بالجلوس فجلس‏.‏
فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له‏:‏ ما حاجتك قال له‏:‏ قد أعربت بها رثاثة هيئتي وضعف طاقتي‏.‏
قال‏:‏ أجل فما الذي تمت به قال‏:‏ ولادة تقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك‏.‏
قال‏:‏ أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت وقد يوافق الاسم الاسم ولكن ما علمك بالولادة قال‏:‏ أعلمتني أمي أنها لما وضعتني قيل‏:‏ إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل فسمتني فضيلاً إعظاماً لاسمك أن تلحقني به‏.‏
فتبسم الفضل وقال‏:‏ كم أتى عليك من السنين قال‏:‏ خمس وثلاثون سنة‏.‏
قال‏:‏ صدقت هذا المقدار الذي أتيت عليه فما فعلت أمك قال‏:‏ توفيت رحمها الله‏.‏
قال‏:‏ فما منعك من اللحوق بنا فيما مضى قال‏:‏ لم ارض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك‏.‏
قال‏:‏ يا غلام أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له‏.‏
فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله‏.‏
وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي داود‏:‏ اعلم وأنت المرء غير معلم وافهم - جعلت فداك - غير مفهم أن اصطناع العرف ما لم توله مستكملاً كالثوب ما لم يعلم والشكر - ما لم يستثر بصنيعة كالخط تقرؤه وليس بمعجم وتفنني في القول إكثار وقد أسرجت في كرم الفعال فألجم‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان‏:‏ أيا ذا اليمينين والدعوتين ومن عنده العرف والنائل أترضى لمثلى أنى مقيم ببابك مطرح خامل بتسليمة بين خمس وست إذا ضمك المجلس الحافل وما كنت أرضى بذا من هسواك أيرضى بذا رجل عاقل وإن ناب شغل ففي دون ما تدبره شغل شاغل عليك السلام فإني امرؤ إذا ضاق بي بلد راحل الأصمعي قال‏:‏ ونظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً وهو أقبح الناس وجهاً فقال‏:‏ يا أخا ضبة كم عيالك قال‏:‏ سبع بنات أنا أجمل منهن وجهاً وهن آكل مني‏:‏ فضحك زياد وقال‏:‏ لله درك‏!‏ ما ألطف سؤالك‏!‏ افرضوا له و لكل واحدة منهن مائة وخادماً وعجلوا له و لهن أرزاقهم‏.‏
فخرج الصبي وهو يقول‏:‏ إذا كنت مرتاد السماحة والندى فناد زياداً أو أخاً لزياد يجبك امرؤ يعطى على الحمد ما له إذا ضن بالمعروف كل جواد ومالي لا أثنى عليك وإنما طريفي من معروفكم وتلادي ووقف دعبل ببعض أمراء الرقة فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أصلح الله الأمير إني لا أقول كما قال صاحب معن‏:‏ أبالحسنى وليس لها ضياء علي فمن يصدق ما أقول أم الأخرى ولست لها بأهل وأنت لكل مكرمة فعول ولكنني أقول‏:‏ ماذا أقول إذا أتيت معاشري صفراً يداي من الجواد المجزل إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ضن الأمير بماله لم يجمل ولأنت أعلم بالمكارم والعلا من أن أقول فعلت ما لم تفعل فاختر لنفسك ما أقول فإني لا بد مخبرهم وإن لم أسأل قال له‏:‏ قاتلك الله‏!‏ وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏
العتبي قال‏:‏ دخل ابن عبدل على عبد الملك بن بشر بن مروان لما ولي الكوفة فقعد بين السماطين ثم قال‏:‏ أيها الأمير إني رأيت رؤيا فإذن لي في قصصها‏.‏
فقال‏:‏ قل‏.‏
فقال‏:‏ أغفيت قبل الصبح يوم مسهد في ساعة ما كنت قبل أنامها فرأيت أنك رعتني بوليدة مفلوجة حسن علي قيامها وببدرة حملت إلي وبغلة شهباء ناجية يصر لجامها قال له عبد الملك بن بشر بن مروان‏:‏ كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارهة‏.‏
امرأتي طالق ثلاثاً إن كنت رأيتها إلا دهماء‏.‏
إلا أني غلطت‏.‏
الشيباني عن البطين الشاعر قال‏:‏ قدمت على علي بن يحيى الأرميني فكتبت إليه‏:‏ رأيت في النوم أني راكب فرساً ولي وصيف وفي كفي دنانير فقال قوم لهم حذق ومعرفة رأيت خيراً وللأحلام تعبير رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد تعبير ذاك وفي الفال التباشير فجئت مستبشراً مستشعراً فرحاً وعند مثلك لي بالفعل تيسير قال‏:‏ فوقع لي في أسفل كتابي‏:‏ أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏.‏
ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي ورأيته في منامي‏.‏
وقال بشار العقيلي‏:‏ حتى متى ليت شعري يا بن يقطين أثني عليك بما لا منك توليني أما علمت جزاك الله صالحة عني وزادك خيراً يا بن يقطين أني أريدك للدنيا وزينتها ولا أريدك يوم الدين للدين يا بن العلاء ويا بن القرم مرداس إني لأطريك في أهلي وجلاسي أثني عليك ولي حال تكذبني فيما أقول فاستحيي من الناس حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد طأطأت من سوء حالي عندها رأسي الأخذ من الأمراء حدثنا جعفر بن محمد عن يزيد بن سمعان عن عبد الله بن ثور عن عبد الحميد ابن وهب عن أبي الخلال قال‏:‏ سألت عثمان بن عفان عن جائزة السلطان فقال‏:‏ لحم طري زكي‏.‏
جعفر بن محمد بن يحيى بن محمد العامري عن المعتمر عن عمران بن حدير قال‏:‏ انطلقت أنا ورجل إلى عكرمة فرأى الرجل عليه عمامة متخرفة‏.‏
فقال الرجل‏:‏ عندنا عمائم ألا نبعث إليك بعمامة منها قال عكرمة‏:‏ إنا لا نقبل من الناس شيئاً إنما نقبل من الأمراء‏.‏
وقال هشام بن حسان‏:‏ رأيت على الحسن البصري خميصة لها أعلام يصلي فيها أهداها إليه مسلمة بن عبد الملك‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس خفين أسودين أهداهما إليه النجاشي صاحب الحبشة‏.‏
وقال نافع‏:‏ كان عبد الله بن عمر يقبل هدايا أهل الفتنة مثل المختار وغيره‏.‏
ودخل مالك بن أنس على هارون الرشيد فشكا إليه ديناً لزمه فأمر له بألف دينار عين‏.‏
فلما وضع يديه للقيام قال‏:‏ يا أمير المؤمنين وزوجت ابني محمداً فصار علي فيه ألف دينار‏.‏
فلقد مات مالك وتركها زنته في مزوده‏.‏
وقال الأصمعي‏:‏ حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال‏:‏ كان الربيع بن خثيم في ألف ومائة من العطاء فكلم فيه أبي معاوية فألحقه بألفين‏.‏
فلما حضر العطاء نودي الربيع بن خثيم فقيل له‏:‏ في ألفين فقعد‏.‏
فنظروا على اسمه مكتوباً‏:‏ كلم فيه ابن يحيى بن طلحة أمير المؤمنين فألحقه بألفين‏.‏
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ يا أبا إسحاق كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة كسوة‏.‏
قال‏:‏ إن كنت غنياً قبلتها منك وإن كنت فقيراً لم أقبلها منك‏.‏
قال‏:‏ فإن غني‏.‏
قال‏:‏ وكم مالك قال‏:‏ ألفا دينار‏.‏
قال‏:‏ فأنت تود أنها أربعة آلاف‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فأنت فقير لا أقبلها منك‏.‏
وأمر إبراهيم بن الأغلب المعروف بزيادة الله بمال يقسم على الفقهاء فكان منهم من قبل ومنهم من لم يقبل‏.‏
فكان أسد بن الفرات فيمن قبل فجعل زيادة الله يغمص على كل من قبل منهم‏:‏ فبلغ ذلك أسد ابن الفرات فقال‏:‏ لا عليه إنما أخذنا بعض حقوقنا والله سائله عما بقي‏.‏
وقد فخرت العرب بأخذ جوائز الملوك وكان من أشرف ما يتمولونه فقال ذو الرمة‏:‏ وما كان مالي من تراث ورثته ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السرادق خضرم وقال آخر‏:‏ يهجو مروان بن أبي حفصة ويعيبه بأخذه من العامة ويفخر بأنه لا يأخذ إلا من الملوك فقال‏:‏ عطايا أمير المؤمنين ولم تكن مقسمة من هؤلاء وأولئكا وما نلت حتى شبت إلا عطية تقوم بها مصرورة في ردائكا التفضيل في العطاء تفضيل بعض الناس على بعض في العطاء ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال‏:‏ إن سعيد بن حذيم منهم‏.‏
فأعطاه ألف دينار وقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إذا أعطيت فأغن‏.‏
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من العرب فأعطاهم وفضل رجلاً منهم‏.‏
فقيل له في ذلك‏.‏
كل القوم عيال عليه‏.‏
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين المؤلفة قلوبهم فأعطى الأفرع ابن حابس التيمي وعيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل وأعطى العباس ابن مرداس السلمي خمسين فشق ذلك عليه فقال أبياتاً فأتاه بها وأنشده إياها وهي‏:‏ ولا كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت غير امرئ منهم ومن تضع اليوم لم يرفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال‏:‏ اقطع عني لسان العباس‏.‏
فأعطاه حتى أرضاه‏.‏
وقال صفوان بن أمية‏:‏ لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خلق الله خلقاً أبعض إلي منه فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقاً أحب إلي منه‏.‏
وكان صفوان بن أمية من المؤلفة قلوبهم‏.‏
شكر النعمة سليمان التميمي قال‏:‏ إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته‏.‏
وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم‏.‏
وقالوا‏:‏ مكتوب في التوراة‏:‏ اشكر لمن أنعم عليك وأنهم على من شكرك‏.‏
وقالوا‏:‏ كفر النعمة يوجب زوالها وشكرها يوجب المزيد فيها‏.‏
وقالوا‏:‏ من حمدك فقد وفاك حق نعمتك‏.‏
وجاء في الحديث‏:‏ من نشر معروفاً فقد شكره ومن ستره فقد كفره‏.‏
وقال عبد الله بن عباس‏:‏ لو أن فرعون مصر أسدى إلي يداً صالحة لشكرته عليها‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا قصرت يدك عن المكافأة‏.‏
فليطل لسانك بالشكر‏.‏
وقالوا‏:‏ ما نحل الله تعالى عباده شيئاً أقل من الشكر واعتبر ذلك بقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وقليل من عبادي الشكور ‏"‏‏.‏
محمد بن صالح بن الواقدي قال‏:‏ دخلت على يحيى بن خالد البرمكي فقلت‏:‏ إن هاهنا قوماً جاءوا يشكرون لك معروفاً فقال‏:‏ يا محمد هؤلاء يشكرون معروفاً فكيف لنا بشكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب‏:‏ حبيب الله شاكراً لأنعمه وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب‏:‏ بغيض الله كافراً لأنعمه‏.‏
وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز‏:‏ إني بأرض كثرت فيها النعم وقد خفت على من قبلي من المسلمين قلة الشكر والضعف عنه‏.‏
فكتب إليه عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الله تعالى لم ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا‏.‏
واعتبر ذلك لقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا ‏"‏‏.‏
فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان‏.‏
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب‏:‏ ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه يوماً فتدركه عواقب ما جنى يجزيك أو يثني عليك فإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ صدق يا عائشة لا شكر الله من لا يشكر الناس‏.‏
الخشنى قال‏:‏ أنشدني الرياشي‏:‏ إذا أنا لم أشكر على الخير أهله ولم أذمم الجبس اللئيم المذمما وأنشدني في الشكر‏:‏ سأشكر عمراً ما تراخت منبتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقة ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفي مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلت قلة الكرام في كثرة اللئام قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ الكرام في اللئام كالغرة في الفرس‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ تفاخرني بكثرتها قريظ وقبلي والد الحجل الصقور فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور وقال السموأل‏:‏ تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها عن الكرام قليل وقال حبيب‏:‏ ولقد تكون ولا كريم نناله حتى نخوض إليه ألف لئيم قال ابن أبي حازم‏:‏ وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وكيف لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون حولاً حسبك بالمجرب من عليم فلا أحد يعد ليوم خير ولا أحد يعود على عديم وقال دعبل‏:‏ ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم والله يعلم أني لم أقل فندا إن لأغلق عيني ثم أفتحها على كثير ولكن ما أرى أحد وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول حبيب الطائي‏:‏ إن الجياد كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا لا يدهمنك من دهمائهم عجب فإن جلهم أو كلهم بقر وكلما أضحت الأخطار بينهم هلكي تبين من أضحى له خطر قال كسرى‏:‏ أي شيء أضر فأجمعوا على الفقر‏.‏
فقال كسرى‏:‏ الشح أضر منه لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع‏.‏
من جاد أولاً وضن آخراً نزل أعرابي برجل من أهل البصرة فأكرمه وأحسن إليه ثم أمسك‏.‏
فقال الأعرابي‏:‏ تسرى فلما حاسب المرء نفسه رأى أنه لا يستقر له السرو وكان يزيد بن منصور يجري لبشار العقيلي وظيفة في كل شهر ثم قطعها عنه فقال‏:‏ أبا خالد ما زلت سابح غمرة صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ جريت زماناً سابقاً ثم لم تزل تأخر حتى جئت تقطو مع القاطي كسنور عبد الله بيع بدرهم صغيراً فلما شب بيع بقيراط وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد‏:‏ أبا حسن قد كنت قدمت نعمة وألحقت شكراً ثم أمسكت وانيا فلا ضير لم تلحقك مني ملامة أسأت بنا عوداً وأحسنت باديا فأقسم لا أجزيك بالسوء مثله كفى بالذي جازيتني لك جازياً يا سوءة يكبر الشيطان إن ذكرت منها العجائب جاءت من سليمانا لا تعجبن بخير زل عن يده فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا من ضن أولاً ثم جاد آخراً قدم الحارث بن خالد المخزومي على عبد الملك فلم يصله فرجع وقال فيه‏:‏ صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها حبست عليك النفس حتى كأنما بكفيك يجري بؤسها ونعيمها فبلغ قوله عبد الملك فأرسل إليه فرده وقال‏:‏ أرأيت عليك غضاضة من مقامك ببابي قال‏:‏ لا ولكني اشتقت إلى أهلي ووطني ووجدت فضلاً من القول فقلت وعلي دين لزمني‏.‏
قال‏:‏ وكم دينك قال‏:‏ ثلاثون ألفاً‏.‏
قال‏:‏ فقضاء دينك أحب إليك أم ولاية مكة قال‏:‏ بل ولاية مكة‏.‏
فولاه إياها‏.‏
وقدم الحطيئة المدينة فوق إلى عتيبة بن النهاس العجلي فقال‏:‏ أعطني‏.‏
فقال‏:‏ مالك عند فأعطيكه وما في مالي فضل عن عيالي فأعود به عليك‏.‏
فخرج عنه مغضباً‏.‏
وعرفه به جلساؤه فأمر برده ثم قال له‏:‏ يا هذا إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلم وكتمتنا نفسك كأنك الحطيئة قال‏:‏ هو ذلك‏.‏
قال‏:‏ اجلس فلك عندما كل ما تحب‏.‏
فجلس فقال له‏:‏ من أشعر الناس قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ من يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم يعني زهيراً‏:‏ قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ الذي يقول‏:‏ من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب يعني عبيداً‏.‏
قال‏:‏ ثم من قال‏:‏ أنا‏.‏
فقال لوكيله‏:‏ خذ بيد هذا فامض به إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء إلا اشتريته له‏.‏
فمضى معه إلى السوق فعرض عليه الخز والقز فلم يتلفت إلى شيء منه وأشار إلى الأكسية والكرابيس الغلاظ والأقبية‏.‏
فاشترى له منها حاجته ثم قال‏:‏ أمسك‏.‏
قال‏:‏ فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة قال‏:‏ لا حاجة في أن يكون له على قومي يد أعظم من هذه ثم أنشأ يقول‏:‏ سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلاً فسيان لا ذم عليك ولا حمد وأنت امرؤ لا الجود منك سجية فتعطى وقد يعدى على النائل الوجد من مدح أميراً فخيبه ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة سعيد بن سلم نور كل بلاد لنا سيد أربى على كل سيد جواد حثا في وجه كل جواد قال‏:‏ فتأخرت عنه قليلاً‏.‏
فهجاني فأبلغ فقال‏:‏ لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب مدحت سعيداً والمديح مهزة فكان كصفوان عليه تراب ومدح الحسن بن رجاء أبا دلف فلم يعطه شيئاً فقال‏:‏ أبا دلف ما أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب وقال آخر في مثل هذا المعنى‏:‏ إني مدحتك كاذباً فأثبتني لما مدحتك ما يثاب الكاذب وقال آخر في مثل هذا المعنى‏:‏ لئن أخطأت في مدحي ك ما أخطأت في منعي لقد أحللت حاجاتي بواد غير ذي زرع ومدح حبيب الطائي عياش بن لهيعة وقدم عليه بمصر واستسلفه مائتي مثقال‏.‏
فشاور فيها زوجته فقالت له‏:‏ هو شاعر يمدحك اليوم ويهجوك غداً فاعتل عليه واعتذر إليه ولم يقض عياش إنك للئيم وإنني مذ صرت موضع مطلبي للئيم ثم هجاه حتى مات‏.‏
وهجاه بعد موته فقال فيه‏:‏ لا سقيت أطلالك الدائرة ولا انقضت عثرتك العاثرة يا أسد الموت تخلصته من بين فكي أسد القاصرة ما حفرة واراك ملحودها ببرة الرمس ولا طاهره ومن قولنا في هذا المعنى وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه فقلت‏:‏ حاشا لمثلك أن يفك أسيرا أو أن يكون من الزمان مجيرا لبست قوافي الشعر فيك مدارعاً سوداً وصكت أوجهاً وصدورا علا عطفت برحمة لما دعت ويلاً عليك مدائحي وثبورا لو أن لؤمك عاد جوداً عشره ما كان عندك حاتم مذكورا قال‏:‏ ومدح ربعة الرقي يزيد بن حاتم الأزدي وهو والي مصر فاستبطأه ربيعة‏.‏
فشخص عنه من مصر وقال‏:‏ أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل قلت غير هذا قال‏:‏ لا والله قال‏:‏ لترجعن بخفي حنين مملوءة مالاً‏.‏
فأمر بخلع نعليه وملئت له مالاً‏.‏
فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السلمي مكانه‏:‏ بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول‏:‏ لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر بن حاتم فهم الفتى الأزدي إنفاق ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم أجود أهل الجاهلية الذين انتهي إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر‏:‏ حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي وهرم بن سنان المري وكعب بن مامة الإيادي‏.‏
ولكن المضروب به المثل‏:‏ حاتم وحده وهو القائل لغلامه يسار وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيصمد نحوه فقال في ذلك‏:‏ أوقد فإن الليل ليل قر والريح ما موقد ريح صر عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر ومر حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير‏.‏
فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه فاشتراه من العنزيين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه‏.‏
وقالوا‏:‏ لم يكن حاتم ممسكاً شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإن كان لا يجود بهما‏.‏
وقالت نوار امرأة حاتم‏:‏ أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير وضنت المراضع على أولادها فما تبض بقطرة وحلقت ألسنة المال وأيقنا بالهلاك‏.‏
فوالله إنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذا تضاغى صبيتنا جوعاً عبد الله وعدي وسفانة فقام حاتم إلى الصبيين وقمت أنا إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت فلما تهورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد فقال‏:‏ من هذا قالت‏:‏ إلا عليك يا أبا عدي‏.‏
فقال‏.‏
أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم‏.‏
فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها‏.‏
فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر ثم كشطه عن جلده ودفع المدية إلى المرأة فقال لها‏:‏ شأنك‏.‏
فاجتمعنا على اللحم نشوي بالنار ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول‏:‏ هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا فلا والله إن ذاق منه مزعه وإنه لأحوج إليه منا فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر فأنشأ حاتم يقول‏:‏ مهلاً نوار أقل اللوم والعذلا ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه مهلاً وإن كنت أعطى الإنس والخبلا يرى البخيل سبيل المال واحدة إن الجواد يرى في ماله سبلا ورئي حاتم يوماً يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول‏:‏ أقول لابني وقد سطت يديه بكلبة لا يزال يلدها تدل ضيفي علي في غلس ال ليل إذا النار نام موقدها ذكرت طبئ عند عدي بن حاتم‏:‏ أن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي‏:‏ أبا عدي أقر أضيافك‏.‏
قال‏:‏ فيقال له‏:‏ مهلاً ما تكلم من رمة بالية فقال‏:‏ إن طيئاً يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه كالمستهزئ‏.‏
فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح‏:‏ وا راحلتاه‏!‏ فقال له أصحابه‏:‏ ما شأنك قال‏:‏ خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها‏.‏
فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث فقالوا‏:‏ قد والله أقراك‏.‏
فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا‏.‏
فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عدي بن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره فقال‏:‏ إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك وقال لي أبياتاً رددها علي حتى حفظتها وهي‏:‏ أبا الخيبري وأنت امرؤ حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة بداوية صخب هامها أتبغي أذاها وإعسارها وحولك غوث وأنعامها وإنا لنطعم أضيافنا من الكوم بالسيف نعتامها وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك فخذها فأخذها أماوي قد طال التجنب والهجر وقد عذرتنا عن طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة من الأرض لا ماء لدي ولا خمر تري أن ما أنفقت لم يك ضرني وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين يلونني بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعاً ينفضون أكفهم يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته فأوله سكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتماً أراد ثراء المال كان له وفر فإن وجدي رب واحد أمه أجرت فلا قتل عليه ولا أسر وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه‏:‏ متى تلاق على علاته هرماً تلق السماحة في خلق وفي خلق وكان سنان أبو هرم سيد غطفان وماتت أمه وهي حامل به وقالت‏:‏ إذا أنا مت فشقوا بطني فإن سيد غطفان فيه‏.‏
فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سناناً‏.‏
وفي بني سنان يقول زهير‏:‏ قوم أبوهم سنان حين تنبسهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا جن إذا فزعوا إنس إذا أمنوا مرزءون بهاليل إذا قصدوا محسدون على كان من نعم لا ينزع الله منهم ما له حسدوا وقال زهير في هرم بن سنان‏:‏ وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب نوائله تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخور ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يتلف المال نائله أخذ الحسن بن هانئ هذا المعنى فقال‏:‏ وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته‏:‏ إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجهض من أرحامها العلق حتى دفعن إلى حلو شمائله كالغيث ينبت في آثاره الورق من أهل بيت برى ذو العرش فضلهم يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق المطعمون إذا ما أزمة أزمت والطيبون ثياباً كلما عرقوا كأن آخرهم في الجود أولهم إن الشمائل والأخلاق تتفق إن قامروا أو فاخروا فخروا أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا كما تنوفس عند الباعة الورق وقال فيهم أيضاً‏:‏ وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل على مكثريهم حق من يعتفيهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير ألوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطى إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل وله يقول حبيب‏:‏ يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقص غاية الجود وله ولحاتم الطائي يقول‏:‏ كعب وحاتم اللدان تقسما خطط العلا من طارف وتليد هذا الذي خلف السجاب ومات ذا في المجد ميتة خضرم صنديد إلا يكن فيها الشهيد فقومه لا يسمحون به بألف شهيد أجواد أهل الإسلام وأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلاً في عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم‏.‏
فأجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد‏:‏ عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص‏.‏
وأجواد البصرة خمسة في عصر واحد وهم‏:‏ عبد الله بن عامر بن كريز وعبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسلم بن زيادة وعبيد الله بن معمر القرشي ثم التمي وطلحة الطلحات وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وله يقول الشاعر يرثيه ومات بسجستان وهو وال عليها‏:‏ نضر الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات وأجواد أهل الكوفة ثلاثة في عصر واحد وهم‏:‏ عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة الفزاري وعكرمة بن ربعي الفياض‏.‏
جود عبيد الله بن عباس أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا على طعامه وأول وفي السنة الشهباء أطعمت حامضاً وحلواً ولحماً تامكا وممزعا وأنت ربيع لليتامى وعصمة إذ المحل من جو السماء تطلعا أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة وغوثاً ونوراً للخلائق أجمعا ومن جوده‏:‏ أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال‏:‏ يا بن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها‏.‏
فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال له‏:‏ ما يدك عندنا قال رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت قال‏:‏ إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري ثم قال لقيمه‏:‏ ما عندك قال‏:‏ مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال فادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا‏.‏
فقال له الرجل‏:‏ والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفعه بك وبأبيك‏.‏
ومن جوده أيضاً‏:‏ أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله‏.‏
فقيل له‏:‏ لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإن قد قدم بنحو من ألف ألف درهم‏.‏
فقال الحسين‏:‏ وأين تقع ألف ألف من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر‏.‏
ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم‏.‏
فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثم قال‏:‏ ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم أصبحت حين لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال ثم قال لقهرمانه‏:‏ احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فض وذهب وثوب ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر فقال له القيم‏:‏ فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال‏:‏ إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك‏.‏
فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال‏:‏ إنا الله حملت والله على ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله فأخذ الشطر من ماله‏.‏
وهو أول من فعل ذلك في الإسلام‏.‏
ومن جوده‏:‏ أن معاوية بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال‏:‏ هل في نفسك منها شيء قال‏:‏ نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال‏:‏ فشأنك بها فهي لك‏.‏
قال‏:‏ جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي‏.‏
قال‏:‏ فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً‏.‏
فقال الحاجب‏:‏ والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه - يعني معاوية - فظن عبيد الله أنها مكيدة منه قال‏:‏ دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا‏.‏
ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له‏:‏ تصدق فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال له‏:‏ وأين أنا من عبيد الله قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال‏:‏ فيهما قال‏:‏ أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال فقال له السائل‏:‏ إن لم تكن عبد الله بن عباس فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى‏.‏
فقال السائل‏:‏ هذه هزة كريم حسيب والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي‏.‏
ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه جاءه رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا بن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت‏.‏
فقال عبيد الله‏:‏ بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة ثم دعا بوكيله فقال‏:‏ انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته ثم قال للأنصاري‏:‏ عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة‏.‏
قال الأنصاري‏:‏ لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وكل كرمك أكثر من وابله‏.‏
جود عبد الله بن جعفر ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمار دخل على نخاس يعرض قياناً له فعلق واحدة منهن فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه أن قال‏:‏ يلومني فيك أقوام أجالسهم فما أبالي أطار اللوم أم وقعا فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فلم يكن له هم غيره فحج فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت‏.‏
وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه فقال‏:‏ مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا‏!‏ فأخبر الشيخ فأتاه مسلماً‏.‏
فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال‏:‏ ما فعل حب فلانة قال‏:‏ في اللحم والدم والمخ والعصب‏.‏
قال‏:‏ أتعرفها لو رأيتها قال‏:‏ لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه وقال له‏:‏ إنما اشتريتها لك ووالله ما دنوت منها فشأنك بها مباركاً لك فيها‏.‏
فلما ولى قال يا غلام احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها‏.‏
قال‏:‏ فبكى عبد الرحمن فرحاً وقال‏:‏ يا أهل البيت لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحداً قبلكم من صلب آدم فتهنئكم هذه النعمة وبورك لكم فيها‏.‏
ومن جوده أيضاً‏:‏ أنه أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً‏.‏
فقيل له‏:‏ إنها لا تعرفك‏.‏
وكان يرضيها اليسير‏.‏
قال‏:‏ إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى بالكثير وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي‏.‏
جود سعيد بن العاص ومن جود سعيد بن العاص‏:‏ أنه مرض وهو بالشام فعاده معاوية ومعه شرحبيل بن السمط ومسلم بن عقبة المري ويزيد بن شجرة الرهاوي فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاماً لمعاوية فقال له معاوية‏:‏ أقسمت عليك أبا عثمان أن لا تتحرك فقد ضعفت بالعلة‏.‏
فسقط فتبادر معاوية نحوه حتى حنا عليه وأخذه بيده فأقعده على فراشه وقعد معه وجعل يسائله عن علته ومنامه وغذائه ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه وأطال القعود معه‏.‏
فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السمط ويزيد بن شجرة فقال‏:‏ هل رأيتما خللا في مال أبي عثمان فقالا‏:‏ ما رأينا شيئاً ننكره‏.‏
فقال لمسلم بن عقبة‏:‏ ما تقول قال‏:‏ رأيت‏.‏
قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة ورأيت صحن داره غير مكنوس ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه‏.‏
قال‏:‏ صدقت كل ذلك قد رأيته فوجه إليه مع مسلم بثلاثمائة ألف‏.‏
فسبق رسول يبشره بها ويخبره بما كان فغضب سعيد وقال للرسول‏:‏ إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء وتأول فأخطأ‏.‏
فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته اتسخ ثوبه وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته وتزينه لبسه ومعروفه عطره ثم لا يبال بمن مات هزلاً من ذي لحمة أو حرمة‏.‏
وأما منازعة التجارة قهرماني فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه لم يجد بداً من أن يكون ظالماً أو مظلوماً وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين فوصلته كل ذي رحم قاطعة وهنأته كرامته المنعم بها عليه وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف ولشرحبيل بن السمط بمثلها وليزيد بن شجرة بمثلها وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معولنا‏.‏
فركب مسلم بن عقبة إلى معاوية فأعلمه‏.‏
فقال‏:‏ صدق ابن عمي فيما قال وأخطأت فيما انتهيت إليه فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها كما أنه فعل خيراً كوفئ عليه‏.‏
ومن جوده أيضاً‏:‏ أن معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة فكان مروان يقارضه‏.‏
فلما دخل على معاوية قال له‏:‏ كيف تركت أبا عبد الملك - يعني مروان - قال‏:‏ تركته منفذاً لأمرك مصلحاً لعملك‏.‏
قال معاوية‏:‏ إنه كصاحب الخبزة كفى إنضاجها فأكلها‏.‏
قال‏:‏ كلا يا أمير المؤمنين إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا‏.‏
ولا يحصدون إلى ما زرعوا‏.‏
قال‏:‏ فما الذي باعد بينك وبينه قال‏:‏ خفته على شرفي وخافني على مثله‏.‏
قال‏:‏ فأي شيء كان له عندك قال‏:‏ أسوءه حاراً وأسره غائباً‏.‏
قال‏:‏ يا أبا عثمان تركتنا في هذه الحروب‏.‏
قال‏:‏ حملت الثقل وكفيت الحزم‏.‏
قال‏:‏ فما أبطأ بك قال‏:‏ غناك عني أبطأني عنك‏.‏
وكنت قريباً لو دعوت لأجبناك ولو أمرت لأطعناك‏.‏
قال‏:‏ ذلك ظننا بك‏.‏
فأقبل معاوية على أهل الشام فقال يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم‏.‏
ثم قال‏:‏ أخبرني عن مالك فقد نبئت أنك تتجر فيه‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لنا مال يخرج لنا منه فضل فإذا كان ما خرج قليلاً أنفقناه على قلته وإن كان كثيراً فكذلك غير أنا لا ندخر منه شيئاً عن معسر ولا طالب ولا مستحمل ولا نستأثر منه بفلذة لحم ولا مزعة شحم‏.‏
قال‏:‏ فكم يدوم لك هذا قال‏:‏ من السنة نصفها‏.‏
قال‏:‏ فما تصنع باقيها قال‏:‏ نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا‏.‏
قال‏:‏ ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك‏.‏
قال‏:‏ إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه الحال‏.‏
فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم وقال‏:‏ اشتر بها ضيعة تعينك على مروءتك‏.‏
فقال سعيد‏:‏ بل أشتري بها حمداً وذكراً باقياً أطعم بها الجائع وأزوج بها الأيم وأنك بها العاني وأواسي بها الصديق وأصلح بها حال الجار‏.‏
فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم‏.‏
فقال معاوية‏:‏ ما فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف من الجود وحسبك أن الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته‏.‏
ومن جوده أيضاً ما حكاه الأصمعي قال‏:‏ كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم‏.‏
فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال‏:‏ حاجتك يا فتى فذكر أن عليه ديناً أربعة آلاف درهم فأمر له بها‏.‏
وكان إطفاؤه للشمعة أكثر من عطائه‏.‏
جود عبيد الله بن أبي بكرة ومن جود عبيد الله بن أبي بكرة‏:‏ أنه أدلى إليه رجل بحرمة فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏
فقال‏:‏ أصلحك الله ما وصلني أحد بمثلها قط‏.‏
ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت ولا نور إلا جود عبيد الله بن معمر القرشي التيمي ومن جود عبيد الله بن معمر القرشي‏:‏ أن رجلاً أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد أدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال عليه‏.‏
وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه فقالت لسيدها‏:‏ إني أريد أن أذكر لك شيئاً أستحي منه إذ فيه جفاء مني غير أن يسهل ذلك علي ما أرى من ضيق حالك وقلة مالك وزوال نعمتك وما أخافه عليك من الاحتياج وضيق الحال وهذا عبيد الله بن معمر قدم البصرة وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفه وجود نفسه فلو أذنت لي فأصلحت من شأني ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك الله به وينهضك إن شاء الله‏.‏
قال فبكى وجداً عليها وجزعاً لفراقها منه ثم قال لها‏:‏ لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبداً‏.‏
ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد الله فقال‏:‏ أعزك الله هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية‏.‏
فقال‏:‏ مثلي لا يستهدي من ملك فهل لك في بيعها فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى قال‏:‏ الذي تراه‏.‏
قال‏:‏ يقنعك مني عشرة بدر في كل بدرة عشرة آلاف درهم قال‏:‏ والله يا سيدي ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت ولكن هذا فضلك المعروف وجودك المشهور‏.‏
فأمر عبيد الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه وقال للجارية‏:‏ ادخلي الحجاب‏.‏
فقال سيدها‏:‏ أعزك الله لو أذنت لي في وداعها قال‏:‏ نعم‏.‏
فوقفت وقام وقال لها وعيناه تدمعان‏:‏ أبوح بحزن من فراقك موجع أقاسي به ليلاً يطيل تفكري ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري عليك سلام لا زيادة بيننا ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر قال عبيد الله بن معمر‏:‏ قد شئت ذلك فخذ جاريتك وبارك الله لك في المال‏.‏
فذهب بجاريته وماله فعاد غنياً‏.‏
فهؤلاء أجواد الإسلام المشهورون في الجود المنسوبون إليه وهم أحد عشر رجلاً كما ذكرنا وسمينا وبعدهم طبقة أخرى من الأجواد قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم وحمدت أفعالهم‏.‏
وسنذكر ما أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى‏.‏
الطبقة الثانية من الأجواد الحكم بن حنطب قيل لنصيب بن رباح‏:‏ خرف شعرك أبا محجن قال‏:‏ لا ولكن خرف الكرم لقد رأيتني ومدحت بن حنطب فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة‏.‏
وسأل أعرابي الحكم بن حنطب فأعطاه خمسمائة دينار فبكى الأعرابي فقال‏:‏ ما يبكيك يا أعرابي لعلك استقللت ما أعطيناك قال‏:‏ لا والله ولكني أبكي لما تأمل الأرض منك ثم أنشأ يقول‏:‏ وكأن آدم حين حان وفاته أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم وكفيت آدم عيلة الأبناء العتبي قال‏:‏ أخبرني رجل من أهل منبج قال‏:‏ قدم علينا الحكم بن حنطب وهو مملق فأغنانا‏.‏
قال‏:‏ كيف أغناكم وهو مملق قال‏:‏ علمنا المكارم فعاد غنينا على فقيرنا‏.‏
معن بن زائدة وكان يقال فيه‏:‏ حدث عن البحر ولا حرج وحدث عن معن ولا حرج‏.‏
وأتاه رجل يسأله أن يحمله فقال‏:‏ يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية وقال‏:‏ لو عرفت مركوباً غير هؤلاء لأعطيتك‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما قدم معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس أتاه مروان بن أبي حفصة أخذ بعضادتي الباب فأنشده شعره الذي قال فيه‏:‏ فما أحجم الأعداء عنك بقية عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا له راحتان الحتف والجود فيهما أبى الله إلا أن يضر وينفعا يزيد بن المهلب وكان هشام بن حسان إذ ذكره قال‏:‏ والله إن كانت السفن لتجري في جوده‏.‏
وقيل ليزيد بن المهلب‏:‏ مالك لا تبني داراً قال‏:‏ منزلي دار الإمارة أو الحبس‏.‏
ولما أتى يزيد بن عبد الملك برأس يزيد بن المهلب نال منه بعض جلسائه فقال له‏:‏ مه‏!‏ إن يزيد بن المهلب طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريماً‏.‏
ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلب في الحبس فأنشده‏:‏ صح في قيدك السماحة والجو د وفك العناة والإفضال وقال سليمان بن عبد الملك لموسى بن نصير‏:‏ اغرم ديتك خمسين مرة‏.‏
قال‏:‏ ليس عندي ما أغرم‏.‏
قال‏:‏ والله لتغر من ديتك مائة مرة‏.‏
قال يزيد بن المهلب‏:‏ أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ اغرم فغرمها عنه مائة ألف‏.‏
العتبي قال‏:‏ أخبرني عوانة قال‏:‏ استعمل الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظنة فلما استخلف سليمان أخذه بألفي ألف درهم‏.‏
فاجتمعت القيسية في ذلك فتحملوا شطرها وضاقوا ذرعاً بالشطر الثاني ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق‏.‏
فقال عمر بن هبيرة‏:‏ عليكم بيزيد بن المهلب فما لها أحد غيره‏.‏
فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن هبيرة والقعقاع بن حبيب والهذيل بن زفر بن الحارث وانتهوا إلى رواق يزيد‏.‏
قال يحيى بن أقتل - وكان حاجباً ليزيد بن المهلب وكان رجلاً من الأزد -‏:‏ فاستأذنت لهم فخرج يزيد إلى الرواق فقرب ورحب ثم دعاء بالغداء فأتوا بطعام ما أنكروا منه أكثر مما عرفوا‏.‏
فلما تغدوا تكلم عثمان بن حيان وكان لساناً مفوهاً وقال‏:‏ زادك الله في توفيقك أيها الأمير إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملاً عليها وأمرني بالغلظة على أهل الظنة وصخذ عليهم وإن سليمان أغرمني غرماً والله ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خف عليك وما بقي والله ثقيل علي‏.‏
ثم تكلم كل منهم بما حضره وقد اختصرنا كلامهم فقال يزيد بن المهلب‏:‏ مرحباً بكم وأهلاً إن خير المال ما قضيت فيه الحقوق وحملت به المغارم‏.‏
وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني وأيم الله لو علمت أن أحداً أملأ بحاجتكم مني لهديتكم إليه فاحتكموا وأكثروا‏.‏
فقال عثمان بن حيان‏:‏ النصف أصلح الله الأمير‏.‏
قال‏:‏ نعم وكرامة اغدوا على مالكم فخذوه‏.‏
فشكروا له وقاموا فخرجوا‏.‏
فلما صاروا على باب السرادق قال عمر بن هبيرة‏:‏ قبح الله رأيكم والله ما يبالي يزيد أنصفها تحمل أم كلها فمن لكم بالنصف الباقي قال القوم‏:‏ هذا والله لرأي‏.‏
وسمع يزيد مناجاتهم فقال لحاجبه‏:‏ انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا‏.‏
فرجعوا إليه‏.‏
وقالوا‏:‏ أقلنا‏.‏
قال‏:‏ قد فعلت‏.‏
قالوا‏:‏ فإن رأيت أن تحملها كلها فأنت أهلها وإن أبيت فما لها أحد غيرك‏.‏
قال‏:‏ قد فعلت‏.‏
وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أتاني عثمان بن حيان وأصحابه قال‏:‏ أمسك في المال قال‏:‏ نعم‏.‏
قال سليمان‏:‏ والله لآخذنه منهم‏.‏
قال يزيد‏:‏ إني قد حملته‏.‏
قال‏:‏ فأده‏.‏
قال يزيد‏:‏ والله ما حملته إلا لأؤديه ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها فحمدها والله أعظم منها ويدي مبسوطة بيدك‏.‏
فابسطها لسؤالها‏.‏
ثم غدا يزيد بالمال على الخزان فدفعه إليهم‏.‏
فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال‏.‏
فقال‏:‏ وفت يمين سليمان احملوا والله علينا من رأى كحمالة تحملها كبش العراق يزيد الأصمعي قال‏:‏ قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة من بني ضنة فقال رجل منهم‏:‏ والله ما ندري إذا ما فاتنا طلب إليك من الذي نتطلب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عودتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فأمر له بألف دينار‏.‏
فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال‏:‏ مالي أرى أبوابهم مهجروة وكأن بابك مجمع الأسواق حابوك أما هابوك أم شاموا الندى بيديك فاجتمعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقاً والمكرمات قليلة العشاق فأمر له بعشر آلاف درهم‏.‏
ومر يزيد بن المهلب في طريق البصرة بأعرابية فأهدت إليه عنزاً فقبلها وقال لابنه معاوية‏:‏ معاوية‏:‏ ما عندك من نفقة قال‏:‏ ثمانمائة درهم‏.‏
قال‏:‏ ادفعها إليها‏.‏
قال‏:‏ إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير‏.‏
قال‏:‏ إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير‏.‏
وكتب إليه رجل يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه‏:‏ أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاء والسلام‏.‏
وكان ربيعة الرقى قد قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الأزدي فلم يعطه شيئاً فخرج وهو يقول‏:‏ أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم فسأل عنه يزيد فأخبر أنه قد خرج وقال كذا وأنشد البيت فأرسل في طلبه فأتي به فقال‏:‏ كيف قلت فأنشده البيت‏.‏
فقال‏:‏ شغلنا عنك‏.‏
ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالاً وقال‏:‏ ارجع بها بدلاً من خفي حنين‏.‏
فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد‏.‏
بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول‏:‏ لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه فلما بلغ مصر وجده قد مات فقال فيه‏:‏ فما كل ما يخشى الفتى بمصيبه ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل وما كان بيني لو لقيتك سالماً وبين الغنى إلا ليال قلائل أبو دلف واسمه القاسم بن إسماعيل وفيه يقول علي بن جبلة‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره وقال فيه رجل من شعراء الكوفة‏:‏ الله أجرى من الأرزاق أكثرها على العباد على كفى أبي دلف بارى الرياح فأعطى وهي جارية حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف ما خط لا كاتباه في صحيفته يوماً كما خط لا في سائر الصحف فأعطاه ثلاثين ألفاً‏.‏
ومدحه آخر فقال له‏:‏ يشبهه الرعد إذا الرعد رجف كأنه البرق إذا البرق خطل إن سار سار المجد أو حل وقف انظر بعينيك إلى أسنى الشرف هل ناله بقدرة أو بكلف خلق من الناس سوى أبي دلف فأعطاه خمسين ألفاً‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:55 AM

أخبار معن بن زائدة
قال شراحيل بن معن بن زائدة‏:‏ حج هارون الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره إذ عرض له أعرابي من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وأفرط فقال له هارون‏:‏ ألم أنهك عن مثل هذا في مدحك يا أخا بني أسد إذا قلت فينا فقل كقول القائل في أب هذا‏:‏ بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لها في غيل خفان أشبل هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم في الجاهلية أول وما يستطيع الفاعلون فعالهم وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا إن أعطوا أطابوا وأجزلوا هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وأن أعطوا أطابوا وأجزلوا خالد بن عبد الله القسري وهو الذي يقول فيه الشاعر‏:‏ بينما خالد بن عبد الله القسري جالس في مظلة له إذ نظر إلى أعرابي يخب به بعيره مقبلاً نحوه فقال لحاجبه‏:‏ إذا قدم فلا تحجبه‏.‏
فلما قدم أدخله عليه فلم وقال‏:‏ أصلحك الله قل ما بيدي فما أطيق العيال إذ كثروا أناخ دهر ألقى بكلكله فأرسلوني إليك وانتظروا فقال خالد‏:‏ أرسلوك وانتظروا والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة‏.‏
عدي بن حاتم دخل عليه ابن دارة فقال‏:‏ إني مدحتك قال‏:‏ أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه فإني أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول لي ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حبس في سبيل الله فامدحني على حسب ما أخبرتك‏.‏
فقال‏:‏ تحن قلوصى في معد وإنما تلاقي الربيع في ديار بني ثعل وأبقى الليالي من عدي بن حاتم حساماً كنصل السيف سل من الخلل أبوك جواد لا يشق غباره وأنت جواد ما تعذر بالعلل قال له عدي‏:‏ أمسك لا يبلغ مالي أكثر من هذا‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif أصفاد الملوك على المدح
سعيد بن مسلم الباهلي قال‏:‏ قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة ورداء يمان قد شده على وسطه ثم ثناه على عاتقه قد عصها على فوديه وأرخى لها عذبة من خلفه‏.‏
فمثل بين يدي الرشيد‏.‏
فقال سعيد‏:‏ يا أعرابي‏.‏
خذ في شرف أمير المؤمنين‏.‏
فاندفع في شعره‏.‏
فقال الرشيد‏:‏ يا أعرابي أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً فقل لنا بيتين في هذين - يعني محمداً الأمين وعبد الله المأمون ابنيه وهما عن حفافيه - فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين حملتني على الوعر القردد ورجعتني عن السهل الجدد روعة الخلافة وبهر الدرجة ونفور القوافي على البديهة فأرودني تتألف لي نوافرها ويسكن روعي‏.‏
قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ وجعلت اعتذارك بدلاً من امتحانك‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين نفست الخناق وسهلت ميدان السباق فأنشأ يقول‏:‏ بنيت لعبد الله ثم محمد ذرى قبة لإسلام فاخضر عودها هما طنباها بارك الله فيهما وأنت أمير المؤمنين عمودها فقال الرشيد‏:‏ وأنت يا أعرابي بارك الله فيك فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك‏.‏
قال‏:‏ الهنيدة يا أمير المؤمنين‏.‏
فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع‏.‏
وقال مروان بن أبي حفصة‏:‏ دخلت على المهدي فاستنشدني فأنشدته الشعر الذي أقول فيه‏:‏ طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالحياء دلالها قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها حتى انتهيت إلى قولي‏:‏ شهدت من الأنفال آخر آية بتراثهم فأردتم إبطالها أوتجحدون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها قال‏:‏ وأنشدته أيضاً شعري الذي أقول فيه‏:‏ يا بن الذي ورث النبي محمداً دون الأقارب من ذوي الأرحام الوحي بين بنى البنات وبينكم قطع الخصام فلات حين خصام ما للنساء مع الرجال فرضية نزلت بذلك سورة الأنعام إني يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام ظفرت بنو ساقي الحجيج بحقهم وغررتم بتوهم الأحلام قال مروان بن أبي حفصة‏:‏ فلما أنشدت المهدي الشعرين قال‏:‏ وجب حقك على هؤلاء - وعنده جماعة من أهل البيت - قد أمرت لك بثلاثين ألفاً وفرضت على موسى خمسة آلاف وعلى هارون مثلها وعلى علي أربعة آلاف وعلى العباس كذا وعلى فلان كذا‏.‏
فحسبت سبعين ألفاً‏.‏
قال‏:‏ فأمر بالثلاثين ألفاً فأتي بها ثم قال‏:‏ اغد على هؤلاء وخذ ما فرضت لك فأتيت موسى فأمر لي بخمسة آلاف وأتيت هارون فأمر لي بمثلها وأتيت علياً قال‏:‏ قصر بي دون إخوتي فلن أقصر بنفسي فأمر لي بخمسة آلاف فأخذت من الباقين سبعين ألفاً‏.‏
ودخل أعشى ربيعة على عبد الملك بن مروان وعن يمينه الوليد وعن يساره سليمان‏.‏
فقال له عبد الملك‏:‏ ماذا بقي يا أبا المغيرة قال‏:‏ مضى ما مضى وبقي ما بقي وأنشأ يقول‏:‏ وما أنا في حقي ولا في خصومتي بمهتضم حقي ولا قارع سني ولا مسلم مولاي من سوء ما جنى ولا خائف مولاي من سوء ما أجني وفضلى في الأقوال والشعر أنني أقول الذي أعني وأعرف ما أعني وأن فؤادي بين جنبي عالم بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وإني وإن فضلت مروان وابنه على الناس قد فضلت خير أب وابن العتبي قال‏:‏ دخل الفرزدق على عبد الرحمن الثقفي بن أم الحكم فقال له عبد الرحمن‏:‏ أبا فراس دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسى أوله وقل في بيتين يعلقان أفواه الرواة وأعطيكها عطية لم يعطكها أحد قبلي‏.‏
فغدا عليه وهو يقول‏:‏ وأنت ابن بطحاوي قريش فإن تشأ تكن في ثقيف سيل ذي حذب غمر وأنت ابن فرع ماجد لعقيلة تلقت له الشمس المضيئة بالبدر قال‏:‏ أحسنت‏.‏
وأمر له بعشرة آلاف‏.‏
أبو سويد قال‏:‏ أخبرني الكوفي قال‏:‏ اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة فقطع به وأخذ جميع ما كان معه فأخذ بعنان دابة الفضل وقال‏:‏ سأرسل بيتاً ليس في الشعر مثله يقطع أعناق البيوت الشوارد أقام الندى والبأس في كل منزل أقام به الفضل بن يحيى بن خالد قال فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏
العتبي‏:‏ قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتاً ورفعها إلى زبيدة بنت جفعر يمتدح ابنها لله درك يا عقيلة جعفر ماذا ولدت من العلا والسودد إن الخلافة قد تبين نورها للناظرين على جبين محمد فأمرت أن يملأ فمه دراً‏.‏
وقال الحسن بن رجاء الكاتب‏:‏ قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن ابن سهل والمأمون هناك بانياً على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف فلاح وكان الحسن بن سهل مع المأمون يتصبح فكان الحسن يجلس للناس إلى وقت انتباهه‏.‏
فلما قدم علي ابن جبلة نزل بي فقلت له قد قوي شغل الأمير‏.‏
قال‏:‏ إذاً لا أضيع معك‏.‏
قلت‏:‏ أجل‏.‏
فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه‏.‏
فقال‏:‏ ألا ترى ما نحن فيه فقلت‏:‏ لست بمشغول عن الأمر له‏.‏
فقال‏:‏ يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرغ له‏.‏
فأعلمت علي بن جبلة‏.‏
فقال في كلمة له‏:‏ أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً عطية كافأت حمدي ولم ترني ما شمت برقك حتى نلت ريقه كأنما كنت بالجدوى تبادرني عرض رجل لابن طوق وقد خرج متنزهاً في الرحبة فناوله رقعة فيها جميع حاجته فأخذها فإذا فيها‏:‏ فقال‏:‏ والله لأصدقن ظنك‏.‏
فأعطاه حتى أغناه‏.‏
عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكب في حراقة له في دجلة فأشار إليه برقعة فأمر بأخذها فإذا فيها‏:‏ عجبت لحراقة بن الحسين كيف تسير ولا تغرق وبحران‏:‏ من تحتها واحد وآخر من فوقها مطبق وأعجب من ذاك عيدانها إذا مسها كيف لا تورق فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس‏.‏
وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها‏:‏ طلعت قناتك بالسعادة فوقها معقودة بلواء ملك مقبل تهتز فوق طريدتين كأنما تهفو يقص لها جناحاً أجدل ربح البخيل على احتيال عرضه بندى يديك ووجهك المتهلل لو كان يعلم أن نيلك عاجل ما فاض منه جدول في جدول فأمر له بخمسة آلاف‏.‏
ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر فأنشده‏:‏ وأضرب للهام يوم الوغى وأطعم في الزمن الماحل أشار إليك جميع الأنام إشارة غرقى إلى ساحل فأمر له بخمسين ألف درهم‏.‏
أحمد بن مطير قال‏:‏ أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً كنت مدحت بها بعض الولاة وهي‏:‏ له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيقطر يوم الجود من كفه الندى ويقطر يوم البؤس من كفه الدم فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه عن الناس لم يصبح على الأرض محرم ولو أن يوم الجود فرغ كفه لبذل الندى ما كان بالأرض معدم فقال لي عبد الله‏:‏ كم أعطاك قلت خمسة آلاف قال‏:‏ فقبلتها قلت‏:‏ نعم قال لي‏:‏ أخطأت ما ثمن هذه إلا مائة ألف‏.‏
ودخل حماد عجرد على أبي جعفر بعد موت أبي العباس أخيه فأنشده‏:‏ أتوك بعد أبي العباس إذ بانا يا أكرم الناس أعراقاً وعيدانا لو مج عود على قوم عصارته لمج عودك فينا الشهد والبانا فأمر له بخمسة آلاف درهم‏.‏
جاء موسى شهوات إلى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان فقال‏:‏ إن هنا جارية تعشقتها وأبوا أن ينقصوني عن مائتى دينار‏.‏
فقال‏:‏ بورك فيه‏.‏
فذهب إلى سعيد بن خالد بن أسيد وأمه عائشة بنت طلحة الطلحات فدعا بمطرف خز فبسطه وعقد في كل ركن من أركانه مائة دينار وقال لموسى‏:‏ خذ المطرف بما فيه فأخذه ثم غدا عليه فأنشده‏:‏ أبا خالد أعني سعيد بن خالد أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد عميد الندى ما عاش يرضى به الندى فإن مات لم يرض الندى بعميد دعوه دعوه إنكم قد رقدتم وما هو عن أحسابكم برقود العتبي‏:‏ سمعت عمي ينشد لأبي العباس الزبيري‏:‏ وكل خليفة وولي عهد لكم يا آل مروان الفداء إمارتكم شفاء حيث كانت وبعض إمارة الأقوام داء فأنتم تحسنون إذا ملكتم وبعض القوم إن ملكوا أساءوا أأجعلكم وغيركم سواء وبينكم وبينهم الهواء هم أرض لأرجلكم وأنتم لأيديهم وأرجلهم سماء فقلت له‏:‏ كم أعطي عليها قال‏:‏ عشرين ألفاً‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ حدثني رؤبة قال‏:‏ دخلت على أبي مسلم صاحب الدعوة فلما أبصرني نادى‏:‏ يا رؤبة فأجبته‏:‏ لبيك إذ دعوتني لبيكا أحمد رباً ساقني إليكا الحمد والنعمة في يديكا قال‏:‏ بل في يدي الله تعالى‏.‏
قلت له‏:‏ وأنت إذا أنعمت أجدت‏.‏
ثم قلت‏:‏ يأذن لي الأمير في الإنشاد قال‏:‏ نعم فأنشدته‏:‏ ما زال يأتي الملك من أقطاره وعن يمينه وعن يساره مشمراً لا يصطلى بناره حتى أقر الملك في قراره فقال‏:‏ يا رؤية إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفده الإنفاق وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة ومنك العود وعلينا المعول والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة‏.‏
قال رؤبة‏:‏ فقلت‏:‏ الذي أفادني الأمير من كلامه أكثر من الذي أفادني من ماله‏.‏
ودخل نصيب بن رباح على هشام فأنشده‏:‏ إذا استبق العلا سبقتهم يمينك عفواً ثم صلت شمالك فقال هشام‏:‏ بلغت غاية المدح فسلني‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة قال‏:‏ لا بد أن تفعل قال‏:‏ لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسدها فلو أنفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها قال‏:‏ فأقطعها أرضاً وأمر لها بحلي وكسوة فنفقت السوداء‏.‏
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ مدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة ورواحل موقرة براً وتمراً‏.‏
فقيل له‏:‏ أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود قال‏:‏ أما لئن كان عبداً إن شعره في لحر ولئن كان أسود إن ثناءه لأبيض وإنما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى ورواحل تنضى وأعطى مديحاً يروى وثناء يبقى‏.‏
وذكروا عن أبي النجم العجلي أنه أنشد هشاماً شعره الذي يقول فيه‏:‏ الحمد لله الوهوب المجزل وهو من أجود شعره حتى انتهى إلى قوله‏:‏ والشمس في الجو كعين الأحول وكان هشام أحول فأغضبه ذلك فأمر به فطرد‏.‏
فأمل أبو النجم رجعته فكان يأوي إلى المسجد‏.‏
فأرق هشام ذات ليلة فقال لحاجبه‏:‏ ابغنى رجلاً عربياً فصيحاً يحدثني وينشدني‏.‏
فطلب له ما سأل فوجد أبا النجم فأتى به‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ أين تكون منذ أقصيناك قال‏:‏ حيث ألفاني رسولك‏.‏
قال‏:‏ فمن كان أب النجم أبا مثواك قال‏:‏ رجلين أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر‏.‏
قال‏:‏ فما لك من الولد قال‏:‏ ابنتان‏.‏
قال‏:‏ أزوجتهما قال‏:‏ زوجت إحداهما‏.‏
قال‏:‏ فبم أوصيتها ليلة أهديتها قال‏:‏ قلت لها‏:‏ سبي الحماة وابهتي عليها وإن أبت فازدلفي إليها ثم اقرعي بالعود مرفقيها وجددي الخلف به عليها قال‏:‏ هل أوصيتها بعد هذا قال‏:‏ نعم‏:‏ أوصيت من برة قلباً برا بالكلب خيراً والحماة شرا لا تسأمي خنقاً لها وجرا والحي عميهم بشر طرا وإن كسوك ذهباً ودرا حتى يروا حلو الحياة مرا قال هشام‏:‏ ما هكذا أوصى يعقوب ولده‏.‏
قال أبو النجم‏:‏ ولا أنا كيعقوب ولا ولدي كولده‏.‏
قال‏:‏ فما حال الأخرى قال‏:‏ هي ظلامة التي أقول فيها‏:‏ كان ظلامة أخت شيبان يتيمة ووالداها حيان الرأس قمل كله وصئبان وليس في الرجلين إلا خطيان فهي التي يذعر منها الشيطان قال هشام لحاجبة‏:‏ ما فعلت بالدنانير التي أمرتك بقبضها قال‏:‏ هي عندي وهمس خمسمائة أبو عبيدة قال‏:‏ حدثني يونس بن حبيب قال‏:‏ لما استخلف مروان بن محمد دخل الشعراء يهنئونه بالخلافة فتقدم إليه طريح بن إسماعيل الثقفي خال الوليد بن يزيد فقال‏:‏ الحمد الله الذي أنعم بك على الإسلام إماماً وجعلك لأحكام دينه قوماً ولأمة محمد المصطفى جنة ونظاماً ثم أنشده شعره الذي يقول فيه‏:‏ تسوء عداك في سداد ونعمة خلافتنا تسعين عاماً وأشهرا فقال مروان‏:‏ كم الأشهر قال‏:‏ وفاء المائة يا أمير المؤمنين تبلغ فيها أعلى درجة وأسعد عاقبة في النصرة والتمكين‏.‏
فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏
ثم تقدم إليه ذو الرمة متحانياً كبرة قد انحلت عمامته منحدرة على وجهه فوقف يسويها‏.‏
فقيل له‏:‏ تقدم‏.‏
قال‏:‏ إني أجل أمير المؤمنين أن أخطب بشرفه مادحاً بلوثة عمامتي فقال مروان‏:‏ ما أملت أنه قد أبقت لنا منك مي ولا صيدح في كلامك إمتاعاً‏.‏
قال‏:‏ بلى والله يا أمير المؤمنين أرد منه قراحاً والأحسن امتداحاً‏.‏
ثم تقدم فأنشد شعراً يقول فيه‏:‏ فقلت لها سيري أمامك سيد تفرع من مروان أو من محمد فقال له‏:‏ ما فعلت مي فقال‏:‏ طويت غدائرها ببرد بلى ومحا الترب محاسن الخد فالتفت مروان إلى العباس بن الوليد فقال‏:‏ أما ترى القوافي تنثال انثيالاً يعطى بكل من سمى من آبائي الربيع حاجب المنصور قال‏:‏ قلت يوماً للمنصور‏:‏ إن الشعراء ببابك وهم كثيرون طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم‏.‏
قال‏:‏ أخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام وقل لهم‏:‏ من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة منتنة تأكل التراب ولا بالجبل فإنما هو حجر أصم ولا بالبحر فإنما هو غطامط لجب ومن ليس في شعره هذا فليدخل ومن كان في شعره هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فإنه قال له‏:‏ أنا له يا ربيع فأدخلني‏.‏
فأدخله فلما مثل بين يديه قال المنصور يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا بن هرمة‏.‏
فأنشده قصيدته التي يقول فيها‏:‏ له لحظات عن حفافى سريره إذا كرها فيها عذاب ونائل لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا أسود من كوم التراب القبائل إذا ما أبي شيئاً مضى كالذي أبى وإذا قال إني فاعل فهو فاعل فقال‏:‏ حسبك هاهنا بلغت هذا عين الشعر قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم‏.‏
فقمت إليه وقبلت رأسه وأطرافه ثم خرجت فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول‏:‏ يا إبراهيم‏.‏
فأقبلت إليه فزعاً فقلت‏:‏ لبيك فداك أبي وأمي‏.‏
قال‏:‏ احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها‏.‏
فقلت‏:‏ بأبي وأمي أنت أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ‏.‏
هي النفس ما حملتها تتحمل وكان في يد المتوكل جوهرتان‏.‏
فأعطاه التي في يمينه فأطرق متفكراً في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره‏.‏
فقال‏:‏ مالك مفكراً إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى خذها لا بورك لك فيها‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ بسر من رى إمام عدل تغرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكل أمر كأنه جنة ونار الملك فيه وفي بنيه ما اختلف الليل والنهار يداه في الجود ضرتان عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئاً إلا أتت مثله اليسار وقال آخر في الهول‏:‏ إذا سألت الندى عن كل مكرمة لم تلف نسبتها إلا إلى الهول لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل أمضى من الدهر إن نابته نائبة وعند أعدائه أمضى من السيل فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن فأمر له بعشر آلاف درهم‏.‏
ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فأنشدته‏:‏ إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فقال لها‏:‏ لا تقولي غلام ولكن قولي‏:‏ همام‏.‏
ثم قال‏:‏ أي النساء أحب إليك أنزلك عندها قال‏:‏ ومن نساؤك أيها الأمير قال أم الجلاس بنت المهلب بنت سعيد بن العاص الأموية وهند بنت أسماء من خارجة الفزارية وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكية‏.‏
قالت‏:‏ القيسية أحب إلي‏.‏
فلما كان من الغد دخلت عليه‏.‏
قال‏:‏ يا غلام أعطها خمسمائة‏.‏
قالت‏:‏ أيها الأمير أحسبها أدما‏.‏
قال قائل‏:‏ إنما أمر لك بشاء قالت‏:‏ الأمير أكرم من ذلك‏.‏
فجعلها إبلاً إناثا على استحياء وإنما كان أمر لها بشاء أولاً‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب الجمانة في الوفود
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد على مراتبهم ومنازلهم وما جروا عليه وما ندبوا إليه من الأخلاق الجميلة والأفعال الجزيلة ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء والملوك فإنها مقامات فضل ومشاهد حفل يتخير لها الكلام وتستهذب الألفاظ وتستجزل المعاني‏.‏
ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته ينزعون وعن رأيه يصدرون فهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن ألسنة‏.‏
وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو خليفته أو بين يدي ملك جبار في رغبة أو رهبة فهو يوطد لقومه مرة ويتحفظ ممن أمامه أخرى أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة أو مستبقياً غريبة من غرائب الفطنة أم تظن القوم قدموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة واللسن ومجمع الشعر والخطابة‏.‏
ألا ترى أن قيس بن عاصم المنقري لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم بسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر‏.‏
ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر‏:‏ تحية من ألبسته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما وفود العرب على كسرى ابن القطامي عن الكلبي قال‏:‏ قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثنى فارس ولا غيرها‏.‏
فقال كسرى - وأخذته عزة الملك - يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم علي من وفود الأمم فوجدت الروم لها حظ في اجتمع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها وأن لها ديناً يبين حلالها وحرامها ويرد سفيهها ويقيم جاهلها ورأيت الهند نحواً من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعاتها وطيب أشجارها ودقيق حسابها وكثرة عددها وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد وفروسيتها وهمتها وأن لها ملكاً يجمعها والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة مع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطيرة الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها وإن قرى أحدهم ضيفاً عدها مكرمة وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا وإن لها مع ذلك آثاراً ولبوساً وقرى وحصوناً وأموراً تشبه بعض أمور الناس - يعني اليمن‏.‏
ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس‏.‏
قال النعمان‏:‏ أصلح الله الملك حق لأمة منها أن يسموا فضلها ويعظم خطبها وتعلو درجتها إلا أن عندي جواباً في كل ما نطق به الملك وفي غير رد عليه ولا تكذيب له فإن أمنني من غضبه نطقت به‏.‏
قال كسرى‏:‏ قل فأنت آمن‏.‏
قال النعمان‏:‏ أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك‏.‏
وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها‏.‏
قال كسرى‏:‏ بماذا قال النعمان‏:‏ بعزها ومنعتها وحسن رجوا وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائه‏.‏
فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيلهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجبنتهم السيوف وعدتهم الصبر إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور‏.‏
وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والترك المشوهة والروم المقشرة‏.‏
وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنياً فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً فأباً حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعى إلى غير أبيه‏.‏
وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر‏.‏
وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس‏.‏
ثم خيلهم أفضل الخيل ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة وحجارة جبلهم الجزع ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر‏.‏
وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً محرماً وبيتاً محجوجاً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى‏.‏
وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة فهي ولث وعقدة لا يحلها إلى خروج نفسه‏.‏
وإن أحدهم ليرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما خفر من جواره وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله‏.‏
وأما قولك أيها الملك‏:‏ يئدون أولادهم فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج‏.‏
أما قولك‏:‏ إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها فما تركوا ما دونها إلا احتقاراً له فعمدوا إلى أجلها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوماً وأطيبها لحوماً وأرقها ألباناً وأقلها غائلة وأحلاها مضغة وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه‏.‏
وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعه فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفاً وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمتهم وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف بالعسف‏.‏
وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جد الملك الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متسق وأمر مجتمع فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً‏.‏
قد تقاصر عن إيوائه وصغر في عينه ما شيد من بناءه ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار‏.‏
قال‏:‏ فعجب كسرى لما أجابه النعمان به وقال‏:‏ إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل‏.‏
ثم كساه كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة‏.‏
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيهم مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو ابن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري‏.‏
فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم‏:‏ قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولاً كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله فاقتص مقالات كسرى وما رد عليه‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك وفقك الله ما أحسن ما رددت وأبلغ ما حججته به‏!‏ فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت‏.‏
قال‏:‏ إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم وليس شيء أحب إلي مما سدد الله أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظمة أخطاركم وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسني محله ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها وإنما دعاني إلى التقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه فلا يكونن ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعناً فإنه ملك مترف وقادر مسلط‏.‏
ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك كل رجل منهم حلة وعممه عمامة وختمه بياقوته وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة وكتب معهم كتاباً‏:‏ أما بعد فإن الملك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم وأجبته بما قد فهم بما أحببت أن يكون منه على علم ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة وقد أوفدت أيها الملك رهطاً من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم فليسمع الملك وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم‏.‏
فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلساً يسمع منهم‏.‏
فلما أن كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم ثم أذن لهم في الكلام‏.‏
فقام أكثم بن صيفي فقال‏:‏ إن أفضل الأشياء أعاليها وأعلى الرجال ملوكها وأفضل الملوك أعمها نفعاً وخير الأزمنة أخصبها وأفضل الخطباء أصدقها‏.‏
الصدق منجاة والكذب مهواة والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء آفة الرأي الهوى والعجز مفتاح الفقر وخير الأمور الصبر‏.‏
حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة‏.‏
إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي‏.‏
من فسدت بطانته كان الغاص بالماء‏.‏
شر البلاد بلاد لا أمير بها‏.‏
شر الملوك من خافه البريء‏.‏
المرء يعجز لا المحالة‏.‏
أفضل الأولاد البررة‏.‏
خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة‏.‏
أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته‏.‏
يكفيك من الزاد ما بلغك المحل‏.‏
حسبك من شر سماعه‏.‏
الصمت حكم وقليل فاعله‏.‏
البلاغة الإيجاز‏.‏
من شدد نفر ومن تراخى تألف‏.‏
فتعجب كسرى من أكثم ثم قال‏:‏ ويحك يا أكثم‏!‏ ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه‏!‏ قال أكثم‏:‏ الصدق ينبئ عند لا الوعيد قال كسرى‏:‏ لو لم يكن للعرب غيرك لكفى قال أكثم‏:‏ رب قول أنفذ من صول‏.‏
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال‏:‏ ورى زندك وعلت يدك وهيب سلطانك إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مرتها ومنعت درتها وهي لك وامقة ما تألفتها مسترسلة ما لا ينتها سامعة ما سامحتها وهي العلقم مرارة والصاب غضاضة والعسل حلاوة والماء الزلال سلاسة نحن وفودها إليك وألسنتها لديك ذمتنا محفوظة وأحسابنا ممنوعة وعشائرنا فينا سامعة مطيعة وإن نؤب لك حامدين خيراً فلك بذلك عموم محمدتنا وإن نذم لم نختص بالذم دونها‏.‏
قال كسرى‏:‏ يا حاجب ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها قال حاجب‏:‏ بل زئير الأسد بصولتها قال كسرى‏:‏ وذلك‏.‏
ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال‏:‏ دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها‏.‏
من طال رشاؤه كثر متحه ومن ذهب ماله قل منحه‏.‏
تناقل الأقاويل يعرف به اللب وهذا مقام سيوجف بما ينطق فيه الركب وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب ونحن جيرانك الأدنون وأعوانك المعينون خيولنا جمة وجيوشنا فخمة إن استنجدتنا فغير ربض وإن استطرقتنا فغير جهض وإن طلبتنا فغير غمض لا ننثني لذعر ولا نتنكر لدهر رمحنا طوال وأعمارنا قصار‏.‏
قال كسرى‏:‏ أنفس عزيزة وأمة والله ضعيفة‏.‏
قال الحارث‏:‏ أيها الملك وأنى يكون لضعيف عزة أو لصغير مرة‏.‏
قال كسرى‏:‏ لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك‏.‏
قال الحارث‏:‏ أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرراً بنفسه على الموت فهي منية استقبلها وحياة استدبرها والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأحسبها وهي تصرف بهم حتى إذا جاشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري ولم أقصر عن خوض خضاخضها حتى انغمس في غمرات لججها وأكون فلكاً لفرساني إلى بحبوحة كبشها فأستمطرها دماً وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم‏.‏
ثم قال كسرى لمن حضره من العرب‏:‏ أكذلك هو قالوا‏:‏ فعاله أنطق من لسانه‏.‏
قال كسرى‏:‏ ما رأيت كاليوم وفداً أحشد ولا شهوداً أوفد‏.‏
ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال‏:‏ أيها الملك نعم بالك ودام في السرور حالك إن عاقبة الكلام متدبرة وأشكال الأمور معتبرة وفي كثير ثقلة وفي قليل بلغة وفي الملك سورة العز‏.‏
وهذا موطن له ما بعده شرف فيه من شرف وخمل فيه من خمل‏.‏
لم نأت لضيمك ولم نفد لسخطك ولم نتعرض لرفدك إن في أموالنا مرتقداً وعلى عزنا معتمداً إن أورينا ناراً أثقبنا وإن أود دهر بنا اعتدلنا إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون ولمن رامك مكافحون حتى يحمد الصدر ويستطاب الخبر‏.‏
قال كسرى‏:‏ ما يقوم قصد منطقك بإفراطك ولا مدحك بذمك‏.‏
قال عمرو‏:‏ كفى بقليل قصدي هادياً وبأيسر إفراطي مخبراً‏.‏
ولم يلم من عزفت نفسه عما يعلم ورضي من القصد بما بلغ‏.‏
قال كسرى‏:‏ ما كل ما يعرف المرء ينطق به اجلس‏.‏
ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال‏:‏ أحضر الله الملك إسعاداً وأرشده إرشاداً إن لكل منطق فرصة ولكل جابة غصة وعي المنطق أشد عي السكوت وعثار القول أنكى من عثار الوعث وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوي وغصة المنطق بما لا نهوي غير مستساغة وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان وهو لك من خير الأعوان ونعم حامل المعروف والإحسان أنفسنا بالطاقة لك باخعة ورقابنا بالنصيحة خاضعة وأيدينا لك بالوفاء رهينة‏.‏
قال له كسرى‏:‏ نطقت بعقل وسموت بفضل وعلوت بنبل‏.‏
ثم قام علقمة بن علانة العامري فقال‏:‏ أنهجت لك سبل الرشاد وخضعت لك رقاب العباد إن للأقاويل مناهج وللآراء موالج وللعويص مخارج وخير القول أصدقه وأفضل الطلب أنجحه إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك بل لو قست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه دنياً أنداداً وأكفاء كلهم إلى الفضل منسوب وبالشرف والسودد موصوف وبالرأي الفاضل والأدب النافد معروف يحمي حماه ويروي نداماه ويذود أعده لا تخمد ناره ولا يحترز منه جاره‏.‏
أيها الملك من يبل العرب يعرف فضلهم فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزاً والبحور طمياً والنجوم الزواهر شرفاً والحصى عدداً فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك وإن تستصرخهم لا يخذلوك‏.‏
قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه -‏:‏ حسبك أبلغت ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال‏:‏ أطاب الله بك المراشد وجنبك المصائب ووقاك مكروه الشصائب ما أحقنا إذا أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك ولا يزرع لنا حقداً في قلبك‏.‏
لم نقدم أيها الملك لمساماة ولم ننتسب لمعاداة ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين وفي البأس غير مقصرين إن جورينا فغير مسبوقين وإن سومينا فغير مغلوبين‏.‏
قال كسرى‏:‏ غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد‏.‏
قال قيس‏:‏ أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به أو كخافر أخفر بذمته‏.‏
قال كسرى‏:‏ ما يكون لضعيف ضمان ولا لذليل خفارة‏.‏
قال قيس‏:‏ أيها الملك ما أنا فيها خفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك‏.‏
قال كسرى‏:‏ ذلك لأن من ائتمن الخانة واستنجد الأثمة ناله من الخطأ ما نالني وليس كل الناس سواء كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم ويعهد فيوفي ويعد فينجز قال‏:‏ وما أحقه بذلك وما رأيته إلا لي‏.‏
قال كسرى‏:‏ القوم بزل فأفضلها أشدها‏.‏
ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال‏:‏ كثر فنون المنطق ولبس القول أعمى من حندس الظلماء وإنما الفخر في الفعال والعز في النجدة والسودد مطاوعة القدرة وما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا وبالحري إن أدالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث لنا أموراً لها أعلام‏.‏
قال كسرى‏:‏ وما تلك الأعلام قال‏:‏ مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر‏.‏
قال كسرى‏:‏ وما الأمر الذي يذكر قال‏:‏ ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر‏.‏
قال كسرى‏:‏ متى تكاهنت يا بن الطفيل قال‏:‏ لست بكاهن ولكني الرمح طاعن‏.‏
قال كسرى‏:‏ فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع قال ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي وما أذهب عيني عيث ولكن مطاوعة العبث‏.‏
ثم قام عمرو بن معد يكرب الزبيدي فقال‏:‏ إنما المرء بأصغريه‏:‏ قلبه ولسانه فبلاغ المنطق الصواب وملاك النجعة الارتياد وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة وتوقف الخبرة خير من اعتساف الحيرة فاجتبذ طاعتنا بلفظك واكتظم بادرتنا بحلمك وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضماً ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضماً‏.‏
ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال‏:‏ إن من آفة المنطق الكذب ومن لؤم الأخلاق الملق وانقيادنا لك عن تصاف فما أنت لقبول ذلك منا بخليق ولا للاعتماد عليه بحقيق ولكن الوفاء بالعهود وإحكام ولث العقود والأمر بيننا وبينك معتدل ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل‏.‏
قال كسرى‏:‏ من أنت قال‏:‏ الحارث بن ظالم قال‏:‏ إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر وأقرب من الوزر‏.‏
قال الحارث‏:‏ إن في الحق مغضبة والسرو التغافل ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة فلتشبه أفعالك مجلسك‏.‏
قال كسرى‏:‏ هذا فتى قوم‏.‏
ثم قال كسرى‏:‏ قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم وتفنن فيه متكلموكم ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف فيه أودكم ولم يحكم أمركم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طباعكم لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أخنق صدورهم والذي أحب هو إصلاح مداركم وتألف شواذكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم وقد قبلت ما كان في منطقهم من صواب وصفحت عما كان فيه من خلل فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا موازرته والتزموا طاعته واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم وأحسنوا أدبهم فإن في ذلك صلاح العامة‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 12:56 AM

وفود حاجب بن زرارة على كسرى
العتبي عن أبيه‏:‏ إن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميماً من ريف العراق فاستأذن عليه فأوصل إليه‏:‏ أسيد العرب أنت قال‏:‏ لا قال‏:‏ فسيد مضر قال‏:‏ لا قال‏:‏ فسيد بني أبيك أنت قال‏:‏ لا‏.‏
ثم أذن له فلما دخل عليه قال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ سيد العرب قال‏:‏ أليس قد أوصلت إليك أسيد العرب فقلت لا حتى اقتصرت بك على بني أبيك فقلت لا قال له‏:‏ أيها الملك لم أكن كذلك حتى دخلت عليك فلما دخلت عليك صرت سيد العرب قال كسرى‏:‏ آه املئوا فاه دراً‏.‏
ثم قال‏:‏ إنكم معشر العرب غدر فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد وأغرتم على العباد وآذيتموني‏.‏
قال حاجب‏:‏ فإني ضامن للملك أن لا يفعلوا قال‏:‏ فمن لي بأن تفي أنت قال أرهنك قوسي‏.‏
فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا‏:‏ لهذه العصا يفي‏!‏ قال كسرى‏:‏ ما كان ليسلمها لي لشيء أبداً فقبضها منه وأذن لهم أن يدخلوا الريف‏.‏
ومات حاجب بن زرارة فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه فقال له‏:‏ فلما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم عطارد بن حاجب وهو رئيس تميم وأسلم على يديه أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فقالوا‏:‏ يا رسول الله هلك قومك وأكلتهم الضبع يريدون الجوع - والعرب يسمون السنة الضبع والذئب‏.‏
قال جرير‏:‏ من ساقه السنة الحصاء والذيب - فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحيوا وقد كان دعا عليهم فقال‏:‏ اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف‏.‏

وفود أبي سفيان إلى كسرى
الأصمعي قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المري قال‏:‏ قال أبو سفيان‏:‏ أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم وأدخلت عليه فكان وجهه وجهين من عظمه فألقى إلي مخدة كانت عنده فقلت‏:‏ وا جوعاه‏!‏ أهذه حظي من كسرى بن هرمز قال‏:‏ فخرجت من عنده فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها حتى دفعت إلى خازن له فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي فقال‏:‏ كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين‏.‏

وفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر
قال‏:‏ وفد حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر قال‏:‏ فلقيت رجلاً ببعض الطريق فقال لي‏:‏ أين تريد قلت‏:‏ هذا الملك قال‏:‏ فإنك إذا جئته متروك شهراً ثم تترك شهراً آخراً ثم عسى أن يأذن لك فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيراً وإن رأيت أبا أمامة النابغة فاظغن فإنه لا شيء لك‏.‏
قال‏:‏ فقدمت عليه ففعل بي ما قال‏:‏ ثم خلوت به وأصبت مالاً كثيراً ونادمته‏.‏
فبينما أنا معه إذا رجل يرتجز حول القبة ويقول‏:‏ أنام أم يسمح رب القبة يا أوهب الناس لعنس صلبه ضرابة بالمشفر الأذبة ذات نجاء في يديها جذبه فقال النعمان‏:‏ أبو أمامة‏!‏ ائذنوا له‏.‏
فدخل فحياه وشرب معه ووردت النعم السود ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود غيره ولا يفتحل أحد فحلاً أسود‏.‏
فاستأذنه النابغة في الإنشاد فأذن له فأنشده قصيدته التي يقول فيها‏:‏ فأمر له بمائة ناقة من الإبل السود برعاتها‏.‏
فما حسدت أحداً قط حسدي له في شعره وجزيل عطائه‏.‏

وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد قتله الحبشة
نعيم بن حماد قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه‏.‏
فأتاه وفد قريش فيهم‏:‏ عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر له يقال غمدان - وله يقول أبو الصلت والد أمية بن أبي الصلت‏:‏ ليطلب الثأر أمثال ابن ذي يزن لجج في البحر للأعداء أحوالا أني هرقل وقد شالت نعامته فلم يجد عنده القول الذي قالا ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة من السنين لقد أبعدت إيغالا من مثل كسرى وبهرام الجنود له ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا لله درهم من عصبة خرجوا ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا صيداً جحاجحة بيضاً خضارمة أسداً تربب في الغابات أشبالا أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد غادرت أوجههم في الأرض أفلالا اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً في رأس غمدان داراً منك محلالا ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فطلبوا الإذن عليه فإذن لهم فدخلوا فوجدوه متضمخاً بالعنبر يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر وسيفه بين يديه والملوك عن يمينه وشماله وأبناء الملوك والمقاول‏.‏
فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام فقال له‏:‏ قل فقال إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً باذجاً شامخاً وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزت جرثومته ونبل أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب وربيعها الذي به تخصب وملكها الذي له تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد سلفك خير سلف وأنت لنا بعدهم خير خلف ولن يهلك من أنت خلفه ولن يخمل من أنت سلفه‏.‏
نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشفك الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة‏.‏
قال‏:‏ من أنت أيها المتكلم قال‏:‏ أنا عبد المطلب بن هاشم قال‏:‏ ابن أختنا قال‏:‏ نعم‏.‏
فأدناه وقربه ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال‏:‏ مرحباً وأهلا وناقة ورحلا ومستناخاً سهلا وملكاً ربحلا يعطى عطاء جزلا فذهبت مثلا‏.‏
وكان أول ما تكلم به‏:‏ قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم ولكم القربى ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم‏.‏
قال‏:‏ ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجريت عليهم الأنزال فأقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف‏.‏
ثم انتبه إليهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه وقال‏:‏ يا عبد المطلب إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره‏:‏ إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة‏.‏
قال عبد المطلب‏:‏ مثلك يا أيها الملك من بر وسر وبشر ما هو فداك أهل الوبر زمراً بعد قال ابن ذي يزن‏:‏ إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة‏.‏
قال عبد المطلب‏:‏ أبيت اللعن‏.‏
لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سروراً‏.‏
قال ابن ذي يزن‏:‏ هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له منا أنصاراً يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويفتتح كرائم الأرض ويضرب بهم الناس عن عرض يخمد الأديان ويدحر الشيطان ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن قوله حكم وفصل وأمره حزم وعدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله‏.‏
فقال عبد المطلب‏:‏ طال عمرك ودام جدك وعز فخرك فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح فقال ابن ذي يزن‏:‏ والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب‏.‏
فخر عبد المطلب ساجداً‏.‏
قال ابن ذي يزن‏:‏ ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك قال عبد المطلب‏:‏ أيها الملك كان لي ابن كنت له محباً وعليه حدباً مشفقاً فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه‏.‏
قال ابن ذي يزن‏:‏ إن الذي قلت لك كما قلت فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً اطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم‏.‏
ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجر‏.‏
فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته وبيت نصرته ولولا أني أتوقى عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنة أمره وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك‏.‏
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبراً‏.‏
وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال‏:‏ إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره‏.‏
فما حول الحول حتى مات ابن ذي يزن فكان عبد المطلب بن هاشم يقول‏:‏ يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي فإذا قالوا له‏:‏ وما ذاك قال سيظهر بعد حين‏.‏

وفود عبد المسيح على سطيح جرير بن حازم
عن عكرمة ابن عباس قال‏:‏ لما كان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة فعظم ذلك على أهل مملكته فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة‏.‏
فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخبر فقال الموبذان‏:‏ أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني قال له‏:‏ وما رأيت قال‏:‏ رأيت إبلاً صعاباً تقوم خيلاً عراباً قد اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا قال‏:‏ رأيت عظيماً فما عهدك في تأويلها قال‏:‏ ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلاً من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان فبعث إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر فقال له‏:‏ أيها الملك والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ولكن جهز إلى خال لي بالشام يقال له سطيح قال‏:‏ جهزوه فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر فناداه فلم يجبه وكلمه فلم يرد عليه فقال عبد المسيح‏:‏ أصم أم يسمع غطريف اليمن يا فاصل الخطة أعيت من ومن أتاك شيخ الحي من آل سنن أبيض فضفاض الرداء والبدن رسول قيل العجم يهوي للوثن لا يرعب الوعد ولا ريب الزمن فرفع إليه رأسه وقال‏:‏ عبد المسيح على جمل مشيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاج الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد اقتحمت في الواد وانتشرت في البلاد‏.‏
يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وظهر صاحب الهراوة وخمدت نار فارس فليست بابل للفرس مقاماً ولا الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات عدد سقوط الشرفات وكل ما هو آت آت‏.‏
ثم قال‏:‏ إن كان ملك بني ساسان أفرطهم فإن ذا الدهر أطوار دهارير منهم بنوا الصرح بهرام وإخوته والهرمزان وسابور وسابور فربما أصبحوا منهم بمنزلة يهاب صولهم الأسد المهاصير والناس أولاد علات فمن علموا أن قد أقل فمحقور ومهجور والخير والشر مقرونان في قرن فالخير متبع والشر محذور ثم أتى كسرى فأخبره فغمه ذلك‏.‏
ثم تعزى فقال‏:‏ إلى من يملك منا أربعة عشر ملكاً يدور الزمان‏.‏
فهلكوا كلهم في أربعين سنة‏.‏

الوفود على رسول الله
وفود همدان على النبي صلى الله عليه وسلم قدم مالك بن نمط في وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه مقبلاً من تبوك فقال مالك بن نمط‏:‏ يا رسول الله نصية من همدان من كل حاضر وباد أتوك على قلض نواج متصلة بحبائل الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف ويام وشاكر‏.‏ عهدهم لا ينقض‏.‏ عن سنة ما حل ولا سوداء عنقفير ما أقام لعلع وما جرى اليعفور بصلع‏.‏
فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا كتاب من محمد رسول الله إلى مخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها ويرعون عفاها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري وعليهم الصالغ والقارح‏.‏

وفود النخع على النبي
قدم أبو عمرو النخعي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني رأيت في طريقي هذه رؤيا رأيت أتاناً تركتها في الحي ولدت جدياً أسفع أحوى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لك من أمة تركتها مصرة حملاً قال‏:‏ نعم تركت أمة لي أظنها قد حملت قال‏:‏ فقد ولدت غلاماً وهو ابنك قال‏:‏ فما له أسفع أحوى قال‏:‏ ادن مني فدنا منه‏.‏
فقال‏:‏ هل بك برص تكتمه قال‏:‏ نعم والذي بعثك بالحق نبياً ما رآه مخلوق ولا علم به قال‏:‏ فهو ذلك‏.‏
قال‏:‏ ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان قال‏:‏ ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيه وبهجته‏.‏
قال‏:‏ ورأيت عجوزاً شمطاء تخرج من الأرض قال‏:‏ تلك بقية الدنيا‏.‏
قال‏:‏ ورأيت ناراً خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو ورأيتها تقول‏:‏ لظى لظى بصير وأعمى أطعموني آكلكم آكلكم أهلككم وما لكم‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلك فتنة في آخر الزمان‏:‏ قال‏:‏ وما الفتنة يا رسول الله قال‏:‏ يقتل الناس إمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس - وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه - يحسب المسيء أنه محسن ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif وفود كلب على النبي صلى الله عليه وسلم
قدم قطن بن حارثة العليمي في وفد كلب على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كلاماً فكتب هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر طلب وأحلافها ومن ظأره الإسلام من غيرها مع قطن بن حارثة العليمي فإقامة الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة لحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها بمحضر شهود من المسلمين‏:‏ سعد بن عبادة وعبد الله بن أنيس ودحية بن خليفة الكلبي‏.‏
عليهم في الحمولة الراعية البساط الظؤار في كل خمسين ناقة غير ذات عوار والحمولة المائرة لهم لاغية وفي الشوي الوري مسنة حامل أو حائل وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر من ثمرها مما أخرجت أرضها وفي العذي شطره بقيمة الأمين فلا تزاد عليهم وظيفة ولا يفرق يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله‏.‏
وكتب ثابت بن قيس بن شماس‏.‏

وفود ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم
وفدت ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهم كتاباً حين أسلموا‏:‏ إن لهم ذمة الله وإن واديهم حرام عضاهه وصيده وظلم فيه وإن ما كان لهم من دين إلى أجل فبلغ أجله فإنه لياط مبرأ من الله ورسوله وإن ما كان لهم من دين في رهن وراء عكاظ فإنه يقضى إلى رأسه ويلاط بعكاظ ولا يؤخر‏.‏
صلى الله عليه وسلم وفد ظبيان بن حداد في سراة مذحج على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء على الله عز وجل بما هو أهله‏:‏ الحمد لله الذي صدع الأرض بالنبات وفتق السماء بالرجع‏.‏
ثم قال‏:‏ نحن قوم من سراة مذحج من يحابر بن مالك‏.‏
ثم قال‏:‏ فتوقلت بنا القلاص من أعالي الحوف ورؤوس الهضاب ترفعها عرر الربا وتخفضها بطنان الرفاق وتلحفها دياحي الدجى‏.‏
ثم قال‏:‏ وسروات الطائف كانت لبني مهلائيل بن قينان غرسوا وديانه وذللوا خشانه ورعوا قريانه‏.‏
ثم ذكر نوحاً حين خرج من السفينة بمن معه قال‏:‏ فكان أكثر بنيه بناتا وأسرعهم نباتا عاد وثمود فرماهم الله بالدمالق وهم الذي خطوا مشاربها وأتوا جداولها وأحيوا غراسها ورفعوا عريشها‏.‏
ثم قال‏:‏ وإن حمير ملكوا معاقل الأرض وقرارها وكهول الناس وأغمارها ورؤوس الملوك وغرارها فكان لهم البيضاء والسوداء وفارس الحمراء والجزية الصفراء فبطروا النعم واستحقوا النقم فضرب الله بعضهم ببعض‏.‏
ثم قال‏:‏ وإن قبائل من الأزد نزلوا على عهد عمرو بن عامر ففتحوا فيها الشرائع وبنوا فيها المصانع واتخذوا الدسائع ثم ترامت مذحج بأسنتها وتنزت بأعنتها فغلب العزيز أذلها وقتل الكثير أقلها‏.‏
ثم قال‏:‏ وكان بنو عمرو بن جذيمة يخبطون عضيدها ويأكلون حصيدها ويرشحون خضيدها‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن نعيم الدنيا أفل وأصغر عند الله من خرء بعيضة ولو عدلت عند الله جناح ذباب لم يكن لكافر منها خلاق ولا لمسلم منها لحاق‏.‏

وفود لقيط بن عامر بن المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم
وفد لقيط بن المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق‏.‏
قال لقيط‏:‏ فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا لانسلاخ رجب فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الناس خطيباً فقال‏:‏ أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي من أربعة أيام لتسمعوا الآن ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه - فقالوا‏:‏ اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - ألا ثم لعله أن يلهبه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال ألا وإني مسئول هل بلغت ألا اسمعوا ألا اجلسوا‏.‏
فجلس الناس‏:‏ وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت‏:‏ يا رسول الله ما عندك من علم الغيب فضحك لعمر الله وهز رأسه وعلم أني أبتغه سقطه فقال‏:‏ ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله‏.‏
وأشار بيده‏.‏
قلت‏:‏ وما هي قال‏:‏ علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه وعلم ما في غد وما أنت طاعم غداً ولا تعلمه وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه وعلم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين فيظل يضحك قد علم أن عونكم قريب - قال لقيط‏:‏ قلت‏:‏ لن نعدم من رب يضحك خيراً - وعلم يوم الساعة قلت‏:‏ يا رسول الله إني أسألك عن حاجتي فلا تعجلني قال‏:‏ سل عما شئت قال قلت‏:‏ يا رسول الله علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحداً من مذحج التي تدنو إليها وخشعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها‏.‏
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تلبثون ما لبثتم ثم توفى نبيكم ثم تلبثون حتى تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين عند ربك فيصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد فيرسل ربك السماء بهضب من عند العرش فلعمر ألهك ما تدع ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه يستوي اليوم‏!‏‏.‏
ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله‏.‏
فقلت‏:‏ يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما قد تفرقنا الرياح والبلى والسباع قال‏:‏ أنبئك بمثل ذلك في إل الله أشرفت على الأرض وهي مدبرة يابسة فقلت‏:‏ لا تحيا هذه أبداً ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث إلا أياماً حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة‏.‏
ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء‏.‏
- قال ابن إسحاق‏:‏ الأصواء‏:‏ أعلام القبور‏.‏
ومن مصارعكم فتنظرون إليه ساعة وينظر إليكم‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه قال‏:‏ أنبئك بمثل ذلك في إل الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة‏.‏
ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال‏:‏ تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قلبكم فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء وأما الكافر بتخطمه بمثل الحمم الأسود ثم ينصرف نبيكم ويتفرق على أثره الصالحون قال‏:‏ فتسلكون جسراً من النار فيطأ أحدكم الجمر فيقول‏:‏ حس فيقول ربك عز وجل‏:‏ أو إنه فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يظهره من الطوف والبول والأذى وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما أحداً‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فبم نبصر يومئذ قال‏:‏ بمثل بصر ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فبم نجزى من سيآتنا وحسناتنا قال‏:‏ الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها أو يعفو‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فما الجنة وما النار قال‏:‏ لعمر إلهك إن للنار سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً وإن للجنة لثمانية أبواب ما منهما بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال‏:‏ على أنها من عسل مصفى وأنها من كأس ما بها من صداع ولا ندامة وأنها من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن صالحات قال‏:‏ الصالحات للصالحين تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد‏.‏
قال لقيط‏:‏ قلت‏:‏ أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه‏.‏
فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله علام أبايعاك قال‏:‏ فبسط إلي يده وقال‏:‏ على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال الشرك فلا تشرك بالله إلهاً غيره‏.‏
قال‏:‏ فقلت‏:‏ وإن لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظن أن أشترط عليه شيئاً لا يعطينيه قال‏:‏ قلت نحل منها حيث شئنا ولا يجزى عن امرئ إلا نفسه فبسط إلي يده وفود قيلة على النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قيلة بنة مخرمة التميمية تبغي الصحبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عم بناتها وهو أثوب بن أزهر قد انتزع منها بناتها فبكت جويرية منهن حديباء قد أخذتها الفرصة عليها سبيج من صوف فرحمتها فذهبت بها‏.‏
فبينما هما ترتكان الجمل إذا انتفجت منه الأرنب‏.‏
فقال الحديباء‏:‏ الفصية والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب ثم سنح الثعب فسمته اسماً غير الثعلب نسيه ناقل الحديث‏.‏
ثم قالت فيه مثل ما قالت في الأرنب فبينما هما ترتكان الجمل إذ برك الجمل وأخذته رعدة‏.‏
فقالت الحديباء‏:‏ أخذتك - والأمانة إخذة أثوب‏.‏
قالت قيلة‏:‏ فقلت لها‏:‏ فما أصنع ويحك‏!‏ قالت‏:‏ قلبي ثيابك ظهورها لبطونها وادحرجي ظهرك لبطنك واقلبي أحلاس جملك ثم خلعت سبيجها فقلبته ثم ادحرجت ظهرها لبطنها فلما فعلت ما أمرتني به انتفض الجمل ثم قام فنأج وبال‏.‏
فقالت‏:‏ أعيدي عليه أداتك‏.‏
ففعلت ثم خرجنا نرتك فإذا أثوب يسعى وراءنا بالسيف صلتا فوألنا إلى حواء ضخم فداراه حتى ألقه الجمل إلى رواقه الأوسط وكان جملاً ذلولاً واقتحمت داخله وأدركني بالسيف فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه ثم قال‏:‏ ألق إلي ابنة أخي يا دفار‏.‏
فألقيتها إليه فجعلها على منكبيه وذهب بها وكنت أعلم به من أهل البيت‏.‏
وخرجت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما أنا عندها تحسب أني نائمة إذ جاء زوجها من السامر فقال لها‏:‏ وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحب صدق‏.‏
قالت أختي‏:‏ من هو قال‏:‏ حريث بن حسان الشيباني وافد بكر بن وائل عاوياً ذا صياح‏.‏
فقالت أختي‏:‏ الويل لي‏!‏ لا تخبرها فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها ليس معها أحد من قومها قال‏:‏ لا ذكرته‏.‏
قالت‏:‏ وسمعت ما قالا فغدوت إلى جملي فشددت عليه ثم نشدت عنه فوجدته غير بعيد فسألته الصحبة فقال‏:‏ نعم وكرامة وركابه مناخ عنده‏.‏
قالت‏:‏ فسرت معه صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة قد أقيمت حين شق الفجر والنجوم شابكة في السماء والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل فصففت مع الرجال وأنا امرأة قريبة عهد بجاهلية‏.‏
فقال الرجل الذي يليني من الصف‏:‏ امرأة أنت أم رجل فقلت‏:‏ لا بل امرأة فقال‏:‏ أنك كدت تفتنيني فصلي في النساء وراءك‏.‏
فإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته إذا دخلت فكنت فيهن حتى إذا طلعت الشمس دنوت لجعلت إذا رأيت رجلاً ذا رواء وقشر طمح إليه بصري لأرى رسول الله فوق الناس حتى جاء رجل فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله فقال‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وعليه - تعني النبي صلى الله عليه وسلم أسمال مليتين كانتا بزعفران قد نفضتا ومعه عسيب نخلة مقشو غير خوصتين من أعلاه وهو قاعد القرفصاء فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متخشعاً في الجلسة أرعدت من الفرق فقال جليسه‏:‏ يا رسول الله أرعدت المسكينة‏.‏
فقال رسول الله ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره‏:‏ يا مسكينة عليك السكينة‏.‏
قالت‏:‏ فلما قالها صلى الله عليه وسلم أذهب الله ما كان دخل في قلبي من الرعب وتقدم صاحب أول رجل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه ثم قال‏:‏ يا رسول الله اكتب بيننا وبين تميم كتاباً بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز‏.‏
قال‏:‏ يا غلام اكتب له بالدهناء‏.‏
قالت‏:‏ فلما رأيته أمر أن يكتب له شخص بي وهي وطني وداري فقلت‏:‏ يا رسول الله إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك إنما هذه الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك فقال‏:‏ أمسك يا غلام صدقت المسكينة‏:‏ المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان‏.‏
فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه قال‏:‏ كنت أنا وأنت كما قال في المثل‏:‏ حتفها تحمل ضأن بأظلافها فقلت‏:‏ أما والله ما علمت إن كنت لدليلاً في الظلماء جواداً لدى الرحل عفيفاً عن الرفيقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا تلمني أن أسأل حظي إذ سألت حظك قال‏:‏ وأي حظ لك في الدهناء لا أبالك قلت‏:‏ مقيد جملي تريده لجمل امرأتك فقال‏:‏ لا جرم إني أشهد رسول الله أني لك أخ ما حييت إذ أثنيت علي عنده فقلت‏:‏ إذ بدأتها فلن أضيعها‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيلام ابن هذه أن يفضل الخطة وينتصر من وراء الحجزة فبكيت ثم قلت‏:‏ فقد والله ولدته يا رسول الله حراماً فقاتل معك يوم الربذة ثم ذهب يمتري خيبر فأصابته حماها ومات فقال‏:‏ لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك‏.‏
أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً فإذا حال بينة وبينه من هو أولى بن استرجع ثم قال‏:‏ رب آسني لما أمضيت وأعني على ما أبقيت‏.‏
فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعير له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم‏.‏
ثم كتب لها في قطعة أدم أحمر‏:‏ لقيلة والنسوة من بنات قيلة أن لا يظلمن حقاً ولا يكرهن على منكح وكل مؤمن ومسلم لهن نصير أحسن ولا تسئن‏.‏
كتاب رسول الله لأكيدر دومة صلى الله عليه وسلم لأكيدر دومة من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها‏:‏ إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور ولا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها عليكم بذلك عهد الله والميثاق ولكم به الصدق والوفاء شهد الله ومن حضر من المسلمين‏.‏
كتابه لوائل بن حجر الحضرمي صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر الحضرمي من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة والتيمة لصاحبها وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار ومن أجبى فقد أربى وكل حديث جرير بن عبد الله البجلي قدم جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن منزله ببيشة فقال‏:‏ سهل ودكداك وسلم وأراك وحمض وعلاك إلى نخلة ونخلة ماؤها ينبوع وجنابها مريع وشتاؤها ربيع‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن خير الماء الشبم وخير المال الغنم وخير المرعى الأراك والسلم إذا أخلف كان لجينا وإذا سقط كان درينا وإذا أكل كان لبينا‏.‏
وفي كلامه عليه السلام‏:‏ إن الله خلق الأرض السفلى من الزبد الجفاء والماء الكباء‏.‏
حديث عياش بن أبي ربيعة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عياش بن أبي ربيعة إلى بني عبد كلال وقال له‏:‏ خذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم فهم قائلون لك اقرأ فاقرأ‏:‏ ‏"‏ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ‏"‏ فإذا فرغت منها فقل‏:‏ آمن محمد وأنا أول المؤمنين فلن تأتيك حجة إلا وقد دحضت ولا كتاب زخرف إلا وذهب نوره ومح لونه وهم قارئون فإذا رطنوا فقد ترجموا فقل‏:‏ حسن آمنت بالله وبما أنزل من كتاب الله فإذا أسلموا فسلهم قضبهم الثلاثة التي إذا تخصروا بها سجد لهم‏:‏ وهي الأثل قضيب ملمع ببياض وقضيب ذو عجر كأنه من حديث راشد بن عبد ربه السلمي عبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ أهل الشام قال قال‏:‏ استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب ووجه راشد بن عبد ربه أميراً على القضاء والمظالم‏.‏
فقال راشد بن عبد ربه‏:‏ صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه وردت عليه ما نفته تماضر وحكمه شيب القذال عن الصبا وللشيب عن بعض الغواية زاجر فأقصر جهلي اليوم وارتد باطلي عن الجهل لما آبيض مني الغدائر على أنه قد هاجه بعد صحوة بمعرض ذي الآجام عيس بواكر ولما دنت من جانب الغوط أخصبت وحلت ولاقاها سليم وعامر وخبرها الركبان أن ليس بينها وبين قرى بصرى ونجران كافر فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر وفود نابغة بني جعدة على النبي صلى الله عليه وسلم وفد أبو ليلى نابغة بني جعدة على النبي صلى الله عليه وسلم فأنشده شعره الذي يقول فيه‏:‏ بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إلى أين أبا ليلى قال‏:‏ إلى الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شاء الله‏.‏
فلما انتهى إلى قوله‏:‏ ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يفضض الله فاك فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفض له سن‏.‏
وبقي حتى وفد على عبد الله بن الزبير في أيامه بمكة وامتدحه فقال له‏:‏ يا أبا ليلى أن أدنى وسائلك عندنا الشعر لك في مال الله حقان‏:‏ حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أحسن صلته وأجازه‏.‏

وفود طهفة بن أبي زهير على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير فقال‏:‏ يا رسول الله أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس ترمي بنا العيس نستحلب الصبير ونستخلب الخبير ونستعضد البرير ونستخيل الرهام ونستجيل الجهام من أرض غائلة النطاء غليظة الوطاء قد نشف المدهن ويبس الجعئن ومات العسلوج وسقط الأملوج وهلك الهدي ومات الودي‏.‏
برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن وما يحدث الزمن لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام ما طمى البحر وقام تعار ولنا نعم همل أغفال ما تبص ببلال ووقير كثير الرسل قليل الرسل أصابتها سنية حمراء مؤزلة ليس بها علل ولا نهل‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم بارك لهم في محضها ومحضها ومذقها وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر وافجر له الثمد وبارك له في المال والولد من أقام الصلاة كان مسلماً ومن أتى الزكاة كان محسناً ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً‏.‏
لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ولا تثاقل عن الصلاة‏.‏
وكتب معه كتاباً على بني نهد‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد‏:‏ السلام على من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة ولكم الفارض والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإمآق وتأكلوا الرباق من أقر بما في هذه الكتاب فله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاء بالعهد والذمة ومن أبى عليه فعليه الربوة‏.‏

الوفود على عمر بن الخطاب
وفود جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العجلى قال‏:‏ حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن الأجدع الكوفي بهيت قال‏:‏ حدثني إبراهيم بن علي مولى بني هاشم قال‏:‏ حدثنا ثقات شيوخنا‏:‏ أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك يستأذنه في القدوم عليه فسر بذلك عمر والمسلمون فكتب إليه أن أقدم ولك ما لنا وعليك ما علينا‏:‏ فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عك وجفنة فما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر بن الخطاب فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحله فالتفت إليه جبلة مغضباً فلطمه فهشم أنفه فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب فبعث إليه فقال‏:‏ ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه فقال‏:‏ إنه وطئ أزاري فحله ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي في عيناه فقال له عمر‏:‏ أما أنت فقد أقررت إما أن ترضيه وإلا أقدته منك قال‏:‏ أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة قال‏:‏ يا جبلة إنه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضله بشيء إلا بالعافية قال‏:‏ والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية قال عمر‏:‏ دع عنك ذلك قال‏:‏ إذن أتنصر قال‏:‏ إن تنصرت ضربت عنقك‏.‏
قال‏:‏ واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة فقال جبلة‏:‏ أخرني إلى غد يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ذلك لك‏.‏
فلما كان جنح الليل خرج هو وأصحابه فلم يئن حتى دخل القسطنطينية على هرقل فتنصر وأقام عنده وأعظم هرقل قدوم جبلة وسر بذلك وأقطعه الأموال والأرضي والرباع‏.‏
فلما بعث عمر بن الخطاب رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام أجابه إلى المصالحة على غير الإسلام فلما أراد أن يكتب جواب عمر قال للرسول‏:‏ ألقيت ابن عمك هذا الذي ببلدنا - يعني جبلة - الذي أتانا راغباً في ديننا قال‏:‏ ما لقيته قال‏:‏ آلقه ثم ائتني أعطك جواب كتابك‏.‏
وذهب الرسول إلى باب جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثر الجمع مثل ما على باب هرقل‏.‏
قال الرسول‏:‏ فلم أزل أتلطف في الإذن حتى أذن لي فدخلت عليه فرأيت رجلاً أصهب اللحية ذا سبال وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس فنظرت إليه فأنكرته فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب فذرها في لحيته حتى عاد أصهب وهو قاعد على سرير من قوارير قوائمه أربعة أسود من ذهب فلما عرفني رفعني معه في السرير فجعل يسائلني عن المسلمين فذكرت خيراً وقلت‏:‏ قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف فقال‏:‏ كيف تركت عمر ابن الخطاب قلت‏:‏ بخير فرأيت الغم قد تبين فيه لما ذكرت له من سلامة عمر قال‏:‏ فانحدرت عن السرير فقال‏:‏ لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها قلت‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا قال‏:‏ نعم صلى الله عليه وسلم ولكن نق قلبك من الدنس ولا تبال علام قعدت‏.‏
لما سمعته يقول‏:‏ صلى الله عليه وسلم طمعت فيه فقلت له‏:‏ ويحك يا جبلة‏!‏ ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضلة قال‏:‏ أبعدها ما كان مني قلت‏:‏ نعم قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف ثم رجع إلى الإسلام وقبل ذلك منه وخلفه بالمدينة مسلماً قال‏:‏ ذرني من هذا إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام قال‏:‏ ضمنت لك التزوج ولم أضمن لك الإمرة قال‏:‏ فأومأ إلى خادم بين يديه فذهب مسرعاً فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة وقال لي‏:‏ كل فقبضت يدي وقلت‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة فقال نعم صلى الله عليه وسلم ولك نق قلبك وكل فيما أحببت قال‏:‏ فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج فلما رفع الطعام جيء بطساس الفضة وأباريق الذهب وأومأ إلى خادم بين يديه فمر مسرعاً فسمعت حساً فالتفت فإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجواهر فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره ثم سمعت حساً فإذا عشر جوار قد أقبلن مطمومات الشعر متكسرات في الحلي عليهن ثياب الديباج فلم أر وجوها قط أحسن منهن فأقعدهن على الكراسي عن يمينه ثم سمعت حساً فإذا عشر جوار أخرى فأجلسهن على الكراسي عن يساره ثم سمعت حساً فإذا جارية كأنها الشمس حسناً وعلى رأسها تاج وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد فأومأت إلى الطائر أو قال فصفرت بالطائر فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه ثم أومأت إليه أو قال فصفرت به فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة فلم يزل يرفرف حتى نفض ما ريشه عليه وضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه فقال‏:‏ بالله أطربنني‏.‏
فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن‏:‏ لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأول يسقون من وريد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول قال‏:‏ فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال‏:‏ أتدري من قائل هذا قلت‏:‏ لا قال‏:‏ قائله حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره فقال‏:‏ بالله أبكيننا فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن‏:‏ لمن الدار أقفرت بمعان بين أعلى اليرموك فالخمان ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر محلاً لحادث الأزمان قد أراني هناك دهراً مكيناً عند ذلك التاج مقعدي ومكاني ودنا الفصح فالولائد ينظمن سراعاً أكلة المرجان لم يعللن بالمغافير والصمغ ولا نقف حنظل الشريان قال‏:‏ فبكى حتى جعلت الدموع تسيل على لحيته ثم قال‏:‏ أتدري من قائل هذا قلت لا أدري قال‏:‏ حسان بن ثابت‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر ثم سألني عن حسان‏:‏ أحي هو قلت‏:‏ نعم تركته حياً‏.‏
فأمر لي بكسوة ومال ونوق موقرة برا ثم قال لي‏:‏ إن وجدته حياً فادفع إليه الهدية وأقرئه سلامي وإن وجدته ميتاً فادفعها إلى أهله وانحر الجمال على قبره‏.‏
فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام والشرط الذي شرطه وأني ضمنت له التزوج ولم أضمن له الإمرة‏.‏
فقال‏:‏ هلا ضمنت له الإمرة فإذا أفاء الله به الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجل‏.‏
ثم ذكرت له الهدية التي أهداها إلى حسان بن ثابت‏.‏
فبعث إليه وقد كف بصره فأتي به وقائد يقوده فلما دخل قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني لأجد رياح آل جفنة عندك قال‏:‏ نعم هذا رجل أقبل من عنده قال‏:‏ هات يا بن أخي إنه كريم من كرام مدحتهم في الجاهلية فحلف أن لا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي معه شيئاً‏.‏
فدفعت إليه الهدية‏:‏ المال والثياب وأخبرته بما كان أمر به في الإبل إن وجد ميتاً فقال‏:‏ وددت أني كنت ميتاً فنحرت على قبري‏.‏
قال الزبير‏:‏ وانصرف حسان وهو يقول‏:‏ إن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللوم يعطى الجزيل ولا يراه عنده إلا كبعض عطية المذموم فقال له رجل كان في مجلس عمر‏:‏ أتذكر ملوكاً كفرة أبادهم الله وأفناهم قال‏:‏ ممن الرجل قال‏:‏ مزني قال‏:‏ أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقت طوق الحمامة‏.‏
قال‏:‏ ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط به فلما قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته فعملت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:01 AM

وفود الأحنف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدائني
قال‏:‏ قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم وتكلم الأحنف فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله وقد أتتك وفود أهل العراق وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية والملوك الجبابرة ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السلى وحدقة البعير تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير وإنا نزلنا أرضاً نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج جانب منها منابت القصب وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز تخاف عليه العدو والسبع فإلا ترفع خسيستنا وتنعش ركيستنا وتجبر فاقتنا وتزيد في عيالنا عيالاً وفي رجالنا رجالاً وتصفر درهمنا وتكبر قفيزنا وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا‏.‏
قال عمر‏:‏ هذا والله السيد‏!‏ هذا والله السيد‏!‏ قال الأحنف‏:‏ فما زلت أسمعها بعدها‏.‏
فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ليس هناك وأمه باهلية‏.‏
قال عمر‏:‏ هو خير منك إن كان صادقاً‏.‏
يريد إن كانت له نية‏.‏
فقال الأحنف‏:‏ أنا ابن الباهلية أرضعتني بثدي لا أجد ولا وخيم أغض على القذى أجفان عيني إذا شر السفيه إلى الحليم قال‏:‏ فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولاً وأشهراً ثم قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرنا كل منافق صنع اللسان وإني خفتك فاحتبستك فلم يبلغني عنك إلا خير رأيت لك جولاً ومعقولاً فارجع إلى منزلك واتق الله ربك‏.‏
وكتب إلى أبي موسى الأشعري‏:‏ أن يحتفر لهم نهراً‏.‏
على عمر بن الخطاب رضي الله عنه العتبي عن أبيه قال‏:‏ وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة فلما اجتمعت بنو تميم قال الأحنف‏:‏ ثوى قدح عن قومه طالما ثوى فلما أتاهم قال قوموا تناجزوا فقال عمرو بن الأهتم‏:‏ إنا كنا وأنتم في دار جاهلية فكان الفضل فيها لمن جهل فسفكنا دماءكم وسبينا نساءكم وإنا اليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم فغفر الله لنا ولك‏.‏
قال‏:‏ فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم‏.‏
فقال عمرو بن الأهتم‏:‏ لما دعتني للرياسة منقر لدى مجلس أضحى به النجم باديا شددت لها أزري وقد كنت قبلها لأمثالها مما أشد إزاريا وعمرو بن الأهتم‏:‏ هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الزبرقان فقال عمرو‏:‏ مطاع في أدنيه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره‏.‏
فقال الزبرقان‏:‏ والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر مما قال ولكن حسدني قال‏:‏ أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الولد لئيم الخال والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى رضيت عن ابن عمي فقلت أحسن ما علمت ولم أكذب وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت ولم أكذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من البيان لسحراً‏.‏

وفود عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إذ أوفده سعد لما فتحت القادسية على يدي سعد بن أبي وقاص أبلى فيها عمرو بن معد يكرب بلاء حسناً فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو‏.‏
فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عنه سعد فقال‏:‏ أعرابي في نمرته أسد في تأمورته نبطي في جبايته يقسم بالسوية ويعدل في القضية وينفر في السرية وينقل إلينا حقنا نقل الذرة‏.‏
فقال عمر‏:‏ لشد ما تقارضتما الثناء‏.‏
وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسية أن يعطى الناس على قدر ما معهم من القرآن‏.‏
فقال سعد لعمرو بن معد يكرب‏:‏ ما معك من القرآن قال‏:‏ ما معي شيء قال‏:‏ إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن فقال عمرو‏:‏ إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد قالت قريش ألا تلك المقادير نعطى السوية من طعن له نفذ ولا سوية إذ نعطى الدنانير وفود أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفد أهل اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد إيقاع خالد بهم وقتله مسيلمة الكذاب فقال لهم أبو بكر‏:‏ ما كان يقول صاحبكم قالوا‏:‏ أعفنا يا خليفة رسول الله قال‏:‏ لا بد أن تقولوا قالوا‏:‏ كان يقول‏:‏ يا ضفدع كم تنقين لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريش قوم لا يعدلون‏.‏
فقال لهم أبو بكر‏:‏ وحيكم‏!‏ ما خرج هذا من إل ولا بر فأين ذهب بكم قال أبو عبيد‏:‏ الإل‏:‏ الله تعالى‏.‏
والبر‏:‏ الرجل الصالح‏.‏

وفود عمرو بن معد يكرب على مجاشع بن مسعود
وفد عمرو بن معد يكرب الزبيدي على مجاشع بن مسعود السلمي - وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية - فقدم عليه البصرة يسأله الصلة فقال‏:‏ اذكر حاجتك فقال له‏:‏ حاجتي صلة مثلي‏.‏
فأعطاه عشرة آلاف درهم وفرساً من بنات الغبراء وسيفاً جرازاً ودرعاً حصينة وغلاماً خبازاً‏.‏
فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس‏:‏ كيف وجدت صاحبك قال‏:‏ لله در بني سليم ما أشد في الهيجاء لقاءها وأكرم في اللأواء عطاءها وأثبت في المكرمات بناءها والله يا بني سليم لقد قاتلناكم في الجاهلية فما أجبناكم ولقد هاجيناكم فما أقحمناكم وقد سألناكم فما أبخلناكم‏.‏
فلله مسؤولاً نوالاً ونائلاً وصاحب هيج يوم هيج مجاشع الوفود على معاوية وفود الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية بعد عام الجماعة فقال له معاوية والله لأحبونك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر بمائة ألف‏.‏
وفي بعض الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلاً يلعب بين يديها فقال لها‏:‏ إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏.‏
على معاوية رحمه الله العتبي قال‏:‏ قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج يعلى بن منية - فلما دخل على معاوية شكا إليه ديناً لزمه فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً فلما ولى قال‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏:‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر فقال‏:‏ إن سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقراً من حسن الظن بك وهارباً من دهر قطم ودين لزم بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولاً فقال عتبة‏:‏ مرحباً بك وأهلاً إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه وأنا واضع يدي ويدك بيد الله‏.‏
فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية رحمه الله‏.‏

وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية رحمه الله
وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيد أهل الكوفة فلما أذن له وقف بين يديه وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولاً إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقطني‏.‏
فقال معاوية‏:‏ احطط عن راحتك رحلها‏.‏
وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب به يزيد بن معاوية إلى معاوية فقال لزرارة‏:‏ أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة‏:‏ يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال‏:‏ بل ابنك قال‏:‏ للموت ما تلد الوالدة‏.‏
أخذ سابق البريري فقال‏:‏ وللموت تغدو الوالدات سخالها كما لخراب الدار تبنى المساكن وقال آخر‏:‏ للموت يولد منا كل مولود لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود وفود عبد الله جعفر على يزيد بن معاوية المدائني قال‏:‏ قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية‏.‏
فقال له‏:‏ كم كان عطاؤك فقال له‏:‏ ألف ألف قال‏:‏ قد أضعفاناها لك قال‏:‏ فداك أبي وأمي وما قلتها لأحد قبلك قال‏:‏ أضعفناها لك ثانية‏.‏
فقيل ليزيد‏:‏ أتعطي رجلاً واحداً أربعة آلاف ألف‏!‏ فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين فما يده فيها إلا عارية‏.‏
فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر وقدم مولى له يقال له نافع كانت له منزلة من يزيد بن معاوية‏.‏
قال نافع‏:‏ فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله بن جعفر بألف ألف وقضى عنه ألف ألف ثم نظر إلي فتبسم فقلت‏:‏ هذه لتلك الليلة‏.‏
وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها فذكرته بها‏.‏
وقدمت عليه هدايا من مصر كثيرة فأمر بها لعبد الله بن جعفر وكان له مائة ناقة فقلت لابن جعفر‏:‏ لو سألته منها شيئاً نحتلبه في طريقنا ففعل فأمر بصرفها كلها إليه‏.‏
فلما أراد الوداع أرسل إلي فدخلت عليه فقال‏:‏ ويلك‏!‏ إنما أخترك لأتفرغ إليك هات قول جميل‏:‏ خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي قال‏:‏ فأسمعته‏!‏ فقال‏:‏ أحسنت والله هات حاجتك‏.‏
فما سألته شيئاً إلا أعطانيه فقال‏:‏ إن يصلح الله هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة فإن هذا لا يحسن إلا هناك‏.‏
فمنع والله من ذلك شؤم ابن الزبير‏.‏

الوفود على عبد الملك بن مروان
وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان قال بديح‏:‏ وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وكان زوج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة في العلانية وحملها إليه إلى العراق فمكثت عنده ثمانية أشهر‏.‏
قال بديح‏:‏ فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان خرجنا معه حتى دخلنا دمشق فإنا لنحط رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس فقلنا‏:‏ جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله‏.‏
فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له‏:‏ لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً مهلاً يا بن أخي فلست أهلاً لهذه المقالة منك قال‏:‏ بلى ولشر منها قال‏:‏ وفيم ذلك قال‏:‏ إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة بني عبد مناف ففرشتها عبد ثقيف يتفخذها قال‏:‏ وفي هذا عتب علي يا بن أخي قال‏:‏ وما أكثر من هذا قال‏:‏ والله إن أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك إن كان من قبلكم من الولاة ليصلون رحمي ويعرفون حقي وإنك وأباك منعتماني ما عندكما حتى ركبني من الدين ما والله لو أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها فإنما فديت بها رقبتي من النار‏.‏
قال‏:‏ فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك - وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه - فلما رآه عبد الملك قال‏:‏ مالك أبا العباس قال‏:‏ إنك سلطت عبد ثقيف وملكته ورفعته حتى تفخذ نساء عبد مناف وأدركته الغير‏.‏
فكتب عبد الملك إلى الحجاج يعزم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها‏.‏
فما قطع الحجاج عنها رزقاً ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا‏.‏
قال‏:‏ وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتى هلك‏.‏
قال بديح‏:‏ فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا عير مقبلة من الحجاج عليها لطف وكسوة وميرة حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله‏.‏
ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره ثم سأله فألطف المسألة حتى سأله عن مظعمه ومشربه فلما انقضت مسألته قال له يحيى بن الحكم‏:‏ أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر قال‏:‏ وما خبيثة قال‏:‏ أرضك التي جئت منها قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها طيبة وتسميها خبيثة‏!‏ لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين‏.‏
فلما خرج من عنده هيأ له ابن جعفر هدايا وألطافاً‏.‏
فقلت لبديح‏:‏ ما قيمة ذلك قال‏:‏ قيمته مائة ألف من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز‏.‏
قال‏:‏ فبعثني بها فدخلت عليه وليس عنده أحد فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً‏.‏
قال‏:‏ فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك وجعل يقول كلما أريته شيئاً‏:‏ عافى الله أبا جعفر ما رأيت كاليوم وما كنا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من هذا وإن كنا لمتذممين محتشمين‏.‏
قال‏:‏ فخرجت من عنده وإذن لأصحابه فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى إليه إذا بفارس قد أقبل علينا فقال‏:‏ أبا جعفر إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك ويقول لك‏:‏ جمعت لنا وخش رقيق الحجاز أباقهم وحبست عنا فلانة فابعث بها إلينا - وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم فقال له يحيى بن الحكم‏:‏ وماذا أهدى إليك ابن جعفر جمع لك وخش رقيق الحجاز وأباقهم وحبس عنك فلانة قال‏:‏ ويلك‏!‏ وما فلانة هذه قال‏:‏ ما لم يسمع والله أحد بمثلها قط جمالاً وكمالاً وخلقاً وأدباً لو أراد كرامتك بعث بها إليك قال‏:‏ وأين تراها وأين تكون قال‏:‏ هي والله معه وهي نفسه التي بين جنبيه - فلما قال الرسول ما قال وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر إذا سمع ما يكره تصام فأقبل علي فقال‏:‏ ما يقول بديح قال‏:‏ قلت‏:‏ فإن أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول‏:‏ إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول‏:‏ إن الله نصر المسلمين وأعزهم قال‏:‏ اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل له‏:‏ أعز الله نصرك وكبت عدوك فقال الرسول‏:‏ يا أبا جعفر إني لست أقول هذا وأعاد مقالته الأولى‏.‏
فسألني فصرفته إلى وجه آخر فأقبل علي الرسول فقال‏:‏ يا ماص أبرسل أمير المؤمنين تهكم وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب قال‏:‏ والله لأطلن دمك فانصرف‏.‏
وأقبل علي ابن جعفر فقال‏:‏ من ترى صاحبنا قال‏:‏ صاحبك بالأمس قال‏:‏ أظنه فما الرأي عندك قلت‏:‏ يا أبا جعفر قد تكلفت له ما تكلفت فإن منعتها إياه جعلتها سبباً لمنعك ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه قال‏:‏ ادعها لي‏.‏
فلما أقبلت رحب بها ثم أجلسها إلى جنبه ثم قال‏:‏ أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت قالت‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ إنه حدث أمر وليس والله كائناً فيه إلا ما أحببت جاء الدهر فيه بما جاء قالت‏:‏ وما هو قال‏:‏ إن أمير المؤمنين بعث يطلبك فإن تهوين فذاك وإلا والله لا يكون أبداً قالت‏:‏ ما شيء لك فيه هوى ولا أظن فيه فرجاً عنك إلا فديته بنفسي وأرسلت عينيها بالبكاء فقال لها‏:‏ أما إذا فعلت فلا ترين مكروهاً فمسحت عينيها وأشار إلي فقال‏:‏ ويحك يا بديح‏!‏ استحثها قبل أن تتقدم إلي من القوم بادرة‏.‏
قال‏:‏ ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار ودعا مولاة له كانت تلي طيبه فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيباً ثم قال‏:‏ عجلها ويلك‏!‏ فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب وإذا الفارس قد بلغ عني فما تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظى فقال لي‏:‏ يا ماص‏!‏ وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ائذن لي أتكلم قال‏:‏ وما تقول يا كذا وكذا قلت‏:‏ ائذن لي يجعلني الله فداك أتكلم قال‏:‏ تكلم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا أصغر شأناً وأقل خطراً من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين نعم قد قلت ما بلغك وقد يعلم أمير المؤمنين أنا إنما نعيش في كنف هذا الشيخ وأن الله لم يزل إليه محسناً فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قط مثله إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه وها هي ذه قد جئتك بها قال‏:‏ أدخلها ويلك‏!‏ قال‏:‏ فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه فلما جلست وكلها أعجب بكلامها فقال‏:‏ لله أبوك‏!‏ أمسكك لنفسي أحب إليك أم أهبك لهذا الغلام فإنه ابن أمير المؤمنين قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين لست لك بحقيقة وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً قال‏:‏ فقام من مكانه ما راجعها فدخل وأقبل عليها مسلمة يالكاع أعلى أمير المؤمنين تختارين قالت‏:‏ يا عدو نفسه إنما تلومني أن اخترتك‏!‏ لعمر الله لقد قال‏:‏ رأي من اختارتك‏.‏
قال‏:‏ فضيقت والله مجلسه واطلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب بيده مخصرة يخطر بها فجلس مجلسه على سريره ثم قال‏:‏ إيها‏!‏ لله أبوك‏!‏ أمسكك لنفسي أحب لك أم أهبك لهذا الغلام قالت‏:‏ ومن أنت أصلحك الله قال لها الخصي‏:‏ هذا أمير المؤمنين قالت‏:‏ لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً قال‏:‏ فأين قولك آنفاً قالت‏:‏ رأيت شيخاً كبيراً وأرى أمير المؤمنين أشب الناس وأجملهم ولست مختارة عليه أحداً قال‏:‏ دونكها يا مسلمة‏.‏
قال بديح‏:‏ فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي وأريته الجواري والطيب قال‏:‏ عافى الله ابن جعفر أخشي أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة فقلت‏:‏ بلى ولكن أحب أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس‏.‏
قال‏:‏ فقبضها مسلمة‏.‏
فلم تلبث عنده إلا يسيراً حتى هلكت‏.‏
قال بديح‏:‏ فوالله الذي ذهب بنفس مسلمة ما جلست معه مجلساً ولا وقفت موقفاً أنازعه فيه الحديث إلا قال‏:‏ أبغني مثل فلانة فأقول‏:‏ أبغني مثل ابن جعفر‏.‏
قال‏:‏ فقلت لبديح‏:‏ ويلك‏!‏ فما أجازه به قال‏:‏ قال‏:‏ حين دفع إليه حاجته ودينه لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها فأمر له بمائة ألف وأيم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف‏.‏
على عبد الملك بن مروان كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ أن ابعث رجلاً يصلح للدين وللدنيا أتخذه سميراً وجليساً وخلياً فقال الحجاج‏:‏ ما له إلا عامر الشعبي وبعث به إليه‏.‏
فلما دخل عليه وجده قد كبامهتماً فقال‏:‏ ما بال أمير المؤمنين قال‏:‏ ذكرت قول زهير‏:‏ كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عذار لجامي رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برامي فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ولكنني أرمى بغير سهام على الراحتين تارة وعلى العصا أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي قال له الشعبي‏:‏ ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كما قال لبيد بن ربيعة وقد بلغ سبعين حجة‏:‏ كأني وقد جاوزت سبعين حجة خلصت بها عن منكبي ردائياً ولما بلغ سبعاً وسبعين سنة قال‏:‏ بانت تشكي إلى النفس موهنة وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً وفي الثلاث وفاء للثمانيناً وقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد ولما بلغ عشراً ومائة قال‏:‏ أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي خلت أنوء كأني كلما قمت راكع ولما بلغ ثلاثين ومائة وحضرته الوفاة قال‏:‏ تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما فقولا بالذي تعلمانه ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الخليل ولا غدر إلى سنة ثم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر قال الشعبي‏:‏ فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها‏.‏

وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان
عمران بن عبد العزيز قال‏:‏ لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقربه وعظم منزلته فلم تزل حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان فخرج معه معادلاً لا يقصر له في بر ولا إعظام حتى حضر به عبد الملك فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له‏:‏ قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له بها نظيراً في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قد الأبوة وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتعرف له ما عرفتك فقال‏:‏ أذكرتنا رحماً قريبة وحقاً واجباً يا غلام ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه ثم قال له‏:‏ يا بن طلحة إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الوازرة فلا تدعن حاجة عن خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين يدي الأمور ما كان لله فيه رضا ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة وعندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي قال‏:‏ دون أبي محمد قال‏:‏ نعم دون أبي محمد‏.‏
قال عبد الملك للحجاج‏:‏ قم‏.‏
فلما خطرف الستر أقبل علي فقال‏:‏ يا بن طلحة قل نصيحتك فقال‏:‏ تالله يا أمير المؤمنين لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل فوليته الحرمين وهما ما هما وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل ويسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة بعد الذي كان من سفك دمائهم وما انتهك من حرمهم ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق وفيما بينك وبين نبيك غداً إذا جاثاك للخصومة بين يدي الله في أمته أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة فاربع على نفسك أودع‏.‏
فقال له عبد الملك‏:‏ كذبت ومنت وظن بك الحجاج ما لم يجده فيك وقد يظن الخير بغير أهله قم فأنت الكاذب المائن‏.‏
قال‏:‏ فقمت وما أعرف طريقاً فلما خطرف الستر لحقني لاحق فقال‏:‏ احبسوا هذا وقال للحجاج‏:‏ ادخل فدخل فمكث ملياً من النهار لا أشك أنهما في أمري ثم خرج الآذن فقال‏:‏ ادخل يا بن طلحة فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج وهو خارج وأنا داخل فاعتنقني وقبل ما بين عيني وقال‏:‏ أما إذا جزى الله المتواخيين خيراً تواصلهم فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك قال‏:‏ قلت‏:‏ يهزأ بي وحق الكعبة‏.‏
فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول ثم قال‏:‏ يا بن طلحة لعل أحداً شاركك في نصيحتك هذه قلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً أنصع عندي يداً ولا أعظم معروفاً من الحجاج ولو كنت محابياً أحداً لغرض دنيا لحابيته ولكني آثرت الله ورسوله وآثرتك والمؤمنين عليه قال‏:‏ قد علمت أنك لم ترد الدنيا ولو أردتها لكانت لك في الحجاج ولكن أردت الله والدار الآخرة وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالاً لهما ووليته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له لألزمه بذلك من حقك ما يؤدي إليك عني أجر نصيحتك فاخرج معه فإنك غير ذام لصحبته‏.‏
فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه‏.‏

وفود رسول المهلب على الحجاج
بقتل الأزارقة أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة بعث إلى مالك بن بشير فقال له‏:‏ إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثل وبعث إليه بجائزة فردها وقال‏:‏ إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه‏.‏
فلما دخل إلى الحجاج قال له ما اسمك قال‏:‏ مالك بن بشير قال‏:‏ ملك وبشارة كيف تركت المهلب قال‏:‏ أدرك ما أمل وأمن من خاف قال‏:‏ كيف هو بجنده قال‏:‏ والد رءوف قال‏:‏ فكيف جنده له قال أولاد بررة قال‏:‏ كيف رضاهم عنه قال‏:‏ وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل قال‏:‏ فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم قال‏:‏ نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم ويلقوننا بحدهم فيطعمون فينا قال‏:‏ كذلك الحد إذا لقي الحد قال‏:‏ فما حال قطري قال‏:‏ كادنا ببعض ما كدناه قال‏:‏ فما منعكم من إتباعه قال‏:‏ رأينا المقام من ورائه خيراً من إتباعه قال‏:‏ فأخبرني عن ولد المهل قال‏:‏ أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار قال‏:‏ أيهما أفضل قال‏:‏ ذلك إلى أبيهم قال‏:‏ لتقولن قال‏:‏ هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها قال‏:‏ أقسمت عليك هل روأت في هذا الكلام قال‏:‏ ما أطلع الله على غيبة أحداً فقال الحجاج لجلسائه‏:‏ هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع‏.‏

وفود جرير على عبد الملك بن مروان
لما مدح جرير بن الخطفي الحجاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه‏:‏ أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج وقوله‏:‏ دعا الحجاج مثل دعاء نوح فأسمع ذا المعارج فاستجابا قال له الحجاج‏:‏ إن الطاقة تعجز عن المكافأة ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فسر إليه بكتابي هذا‏.‏
فسار إليه ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فقال‏:‏ أتصحو بل فؤادك غير صاحي قال له عبد الملك‏:‏ بل فؤادك‏.‏
فلما انتهى إلى قوله‏:‏ تعزت أم حزرة ثم قالت رأيت الواردين ذوي امتياح ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح سأشكر إن رددت إلي ريشي وأثبت القوادم في جناحي ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ارتاح عبد الملك وكان متكئاً فاستوى جالساً ثم قال‏:‏ من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ثم قال له‏:‏ يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب قال‏:‏ إذا لم تروها يا أمير المؤمنين فلا أرواها الله‏.‏
فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب كلها سود الحدقة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها أباق ونحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته فلو أمرت بالرعاء فأمر له بثمانية من الرعاء‏.‏
وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة يقرعها بقضيب في يده فقال له جرير‏:‏ والمحلب يا أمير المؤمنين وأشار إلى صحفة منها فنبذها إليه بالقضيب وقال‏:‏ خذها لا نفعتك‏.‏
ففي ذلك يقول جرير‏:‏ أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا شرف الوفود على عمر بن عبد العزيز وفود جرير عن أهل الحجاز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم جرير بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن أهل الحجاز فاستأذنه في الشعر فقال‏:‏ ما لي وللشعر يا جرير إني لفي شغل عنه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنها رسالة عن أهل الحجاز قال‏:‏ فهاتها إذاً فقال‏:‏ كم من ضرير أمير المؤمنين لدى أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر أصابت السنة الشهباء ما ملكت يمينه فحناه الجهد والكبر ومن قطيع الحشا عاشت مخبأة ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر لما اجتلتها صروف الدهر كارهة قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر وفود دكين الراجز على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال دكين بن رجاء الفقيمي الراجز‏:‏ مدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاباً فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنشر علي ولم تطب نفسي ببيعها فقدمت علينا رفقة من مضر فسألتهم الصحبة فقالوا‏:‏ إن خرجت الليلة فقلت‏:‏ إني لم أودع الأمير ولا بد من وداعه قالوا‏:‏ فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل فاستأذنت عليه فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما فقال لي‏:‏ يا دكين إن لي نفساً تواقة فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا في فبعين ما أرينك قلت‏:‏ أشهد لي بذلك أيها الأمير قال‏:‏ إني أشهد الله قلت‏:‏ ومن خلقه قال‏:‏ هذين الشيخين قلت لأحدهما‏:‏ من أنت يرحمك الله أعرفك قال‏:‏ سالم بن عبد الله فقلت‏:‏ لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر‏:‏ من أنت يرحمك الله قال‏:‏ أبو يحيى مولى الأمير وكان مزاحم يكنى أبا يحيى‏.‏
قال دكين‏:‏ فخرجت بهن إلى بلدي فرمى الله في أذنابهن بالبركة حتى اتخذت منهن الضياع والربع والغلمان فإني لبصحراء فلج إذا بريد يركض إلى الشام فقلت له‏:‏ هل من مغربة خبر قال‏:‏ مات سليمان بن عبد الملك قلت‏:‏ فمن القائم بعده قال‏:‏ عمر بن عبد العزيز‏.‏
قال‏:‏ فأنخت قلوصي فألقيت عليها أداتي وتوجهت عنده فلقيت جريراً في الطريق جائياً من عنده فقلت‏:‏ من أيا أبا حزرة قال‏:‏ من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء قلت‏:‏ فما ترى فإني خرجت إليه قال‏:‏ عول عليه في مال ابن السبيل كما فعلت‏.‏
فانطلقت فوجدته قاعداً على كرسي في عرصة داره قد أحاط الناس به لم أجد إليه يا عمر الخيرات والمكارم وعمر الدسائع العظائم إني امرؤ من قطن بن دارم أطلب حاجي من أخي مكارم إذ ننتجي والله غير نائم في ظلمة الليل وليلي عاتم عند أبي يحيى وعند سالم فقام أبو يحيى ففرج لي وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن لهذا البدوي عندي شهادة عليك قال‏:‏ أعرفها ادن مني يا دكين أنا كما ذكرت لك أن لي نفساً تواقة وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة والله ما رزأت من أمور الناس شيئاً فأعطيك منه وما عندي إلا ألفا درهم أعطيك أحدهما فأمر لي بألف درهم‏.‏
فوالله ما رأيت ألفاً كانت أعظم بركة منها‏.‏

وفود كثير والأحوص على عمر بن العزيز رضي الله عنه
حماد الراوية قال‏:‏ قال لي كثير عزة‏:‏ ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ونحن لا نشك أنه سيشر كنا في خلافته فلما رفعت لنا أعلام خناصرة لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب فسلمنا فرد ثم قال‏:‏ أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر قلنا ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا فقال‏:‏ إن يك ذو دين بنى مروان قد ولي وخشيتم حرمانه فإن ذا دنياها قد بقي ولكم عندي ما تحبون وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله‏.‏
فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل وأكرم منزول عليه فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع‏:‏ لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك رأيا ففعلت‏.‏
فكان مما حفظت من كلامه‏:‏ لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم في كلام كثير لا أحفظه‏.‏
ثم قال‏:‏ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق‏.‏
ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه وارتج المسجد وما حوله بالبكاء فانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما‏:‏ خذا في شرج من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإن الرجل آخري وليس بدنيوي‏.‏
إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة ما أذن للعامة فلما دخلت سلمت ثم قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب قال يا كثير ‏"‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ‏"‏ أفي واحد من هؤلاء أنت قلت‏:‏ بلى ابن سبيل منقطع به وأنا ضاحك قال‏:‏ ألست ضيف أبي سعيد قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعاً به قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاء قال‏:‏ نعم ولا تقل إلا حقاً فقلت‏:‏ وليت فلم تشتم عليا ولم تخف بريا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي أتيت فأمسى راضياً كل مسلم ألا إنما الفتى بعد زيغة من الأود البادي ثقاف المقوم وقد لبست لبس الهلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحياناً بعين مريضة وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزاً كأنما سقتك مدوفاً من سمام وعلقم وقد كنت من أجبالها في ممنع ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقاً إلى كل غاية بلغت بها أعلى البناء المقوم تركت الذي يفنى وإن كان مونقا وآثرت ما يبقى برأي مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الهول مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع سوى الله من مال رغيب ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الأرض والغرب كلها مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول‏:‏ أمير المؤمنين ظلمتني بأخذ للدينار ولا أخذ درهم ولا بسط كف لامرئ غير مجرم ولا السفك منه ظالماً ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير ندم فأربح بها من صفقة لمبايع وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال‏:‏ فأقبل علي وقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏
ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد فقال‏:‏ قل ولا تقل إلا حقاً فقال‏:‏ وما الشعر إلا حكمة من مؤلف بمنطق حق أو بمنطق باطل فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا ولا ترجعنا كالنساء الأرامل فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ومن ذا يرد الحق من قول قائل ومن ذا يرد السهم بعد مضائه على فوقه إذ عار من نزع نابل ولولا قد عودتنا خلائف غطاريف كانوا كالليوث البواسل لما وخدت شهراً برحلى شملة تقدمتون البيد بين الرواحل ولكن رجونا منك مثل الذي به حبينا زماناً من ذويك الأوائل فإن لم يكن للشعر عندك موضع وإن كان مثل الدر من نظم قائل وكان مصيباً صادقاً لا يعيبه سوى أنه يبنى بناء المنازل فإن لنا قربى ومحض مودة وميراث آباء مشوا بالمناصل فذادوا عدو السلم عن عقر دارهم وأرسوا عمود الدين بعد التمايل وقبلك ما أعطى الهنيدة جلة على الشعر كعباً من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره عليه سلام الضحى والأصائل فقال‏:‏ إنك مسؤول عما قلت‏.‏
قم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ابن الكبى‏:‏ لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز وعليه عمامة قد أرخى طرفيها وكانت له منه مكانة فصاح به جرير‏:‏ يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن وحش المكانة من أهلي ومن لدى نائي المحلة عن داري وعن وطني قال‏:‏ نعم أبا حزرة ونعمى عين‏.‏
فلما دخل على عمر قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة قال‏:‏ يا عون‏:‏ مالي وللشعراء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم قال‏:‏ ومن مدحه قلت‏:‏ عباس بن مرداس فكساه حلة قطع بها لسانه قال‏:‏ وتروي قول قلت‏:‏ نعم‏:‏ ونورت بالبرهان أمراً مدمساً وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما فمن مبلغ عني النبي محمداً وكل امرئ يجزى بما قد تكلما تعالى علواً فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما قال‏:‏ صدقت فم بالباب منهم قلت‏:‏ ابن عمك عمر بن أبي ربيعة قال‏:‏ لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه أليس هو القائل‏:‏ ألا ليت أني يوم حانت منيتي شممت الذي ما بين عينيك والفم وليت طهوري كان ريقك كله وليت حنوطي من مشاشك والدم ويا ليت سلمى في القبو ضجيعتي هنالك أو في جنة أو جهنم فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا ويعمل عملاً صالحاً والله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جميل بن معمر العذري قال‏:‏ هو الذي يقول‏:‏ ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها فما أنا في طول الحياة براغب إذا قيل قد سوي عليها صفيحها أظل نهاري لا أراها ويلتقي مع الليل روحي في المنام وروحها لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة راكعين سجودا اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأحوص الأنصاري قال‏:‏ أبعد الله ومحقه أليس هو القائل وقد أفسد على أهل المدينة جارية عرب بها منه‏:‏ الله بيني وبين سيدها يفر عني بها وأتبع اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ همام بن غالب الفرزدق قال‏:‏ أليس هو القائل يفخر بالزنى‏:‏ هما دلتاني من ثمانين قامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا أحي يرجى أم قتيل نحاذره وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت مغلقة دوني عليها دساكره فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا ووليت في أعقاب ليل أبادره اعزب به فوالله لا دخل علي أبداً فمن بالباب غير من ذكرت قلت‏:‏ الأخطل التغلبي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ فلست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لهم الأضاحي ولست بزاجر عنسا بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح اعزب به فوالله لا وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر فمن الباب غير من ذكرت قلت‏:‏ جرير بن الخطفي قال‏:‏ أليس هو القائل‏:‏ لولا مراقبة العيون أريتنا مقل المها وسوالف الآرام هل ينهينك أن قتلن مرقشا أو ما فعلن بعروة بن حزام ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام طرقتك صائدة القول وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهذا فأذن له فخرجت إليه فقلت‏:‏ ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول‏:‏ إن الذي بعث النبي محمداً جعل الخلافة في إمام عادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى وأقام ميل المائل والله أنزل في القرآن فريضة لابن السبيل وللفقير العائل إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل فلما مثل بين يديه قال‏:‏ اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً فأنشأ يقول‏:‏ يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلا من الجن أو مسا من البشر خليفة الله ماذا تأمرن بنا لنا إليكم ولا في دار منتظر ما زلت بعدك في هم يؤرقني قد طال في الحي إصعادي ومنحدري لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ولا يعود لنا باد على حضر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر فقال‏:‏ يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وأملك إلا ثلثمائة فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقية فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته ثم خرج فقالوا له‏:‏ ما وراءك قال‏:‏ ما يسوؤكم خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض ثم أنشأ يقول‏:‏ رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقياً‏.‏


الوفود على ابن الزبير
وفود نابغة بني جعدة على ابن الزبير رحمه الله تعالى‏:‏ الزبير بن بكار قاضي الحرمين قال‏:‏ أقحمت السنة نابغة بني جعدة فوفد إلى ابن الزبير فدخل عليه في المسجد الحرام ثم أنشده‏:‏ حكيت لنا الصديق لما وليتنا وعثمان والفاروق فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق فاستووا فعاد صباحاً حالك اللون مظلم أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى دجى الليل جواب الفلاة عثمثم لتجبر منه جانباً زعزعت به صروف الليالي والزمان المصمم فقال له ابن الزبير‏:‏ هو عليك أبا ليلى فالشعر أدنى وسائل عندنا أما صفوة أموالنا فلآل الزبير وأما عفوته فإن بني أسد وتيماً تشغلها عنك ولكن لك في مال الله سهمان سهم برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أخذ بيده ودخل به دار النعم فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً‏.‏
فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفاً فقال ابن الزبير‏:‏ ويح أبي ليلى‏!‏ لقد بلغ به الجهد قال النابغة‏:‏ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت ووعدت خيراً فأنجزت فأنا والنبيون فراط القاصفين‏.‏
قال الزبير بن بكار‏:‏ الفارط‏:‏ الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرشاء والدلاء‏.‏
والقاصف‏:‏ الذي يتقدم لشراء الطعام‏.‏

وفود أهل الكوفة على ابن الزبير رحمة الله تعالى
قال‏:‏ لما قتل صعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد خرج حاجاً فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير بمكة ومعه وجوه أهل العراق فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين جئتك بوجوه أهل العراق لم أدع لهم بها نظيراً لتعطيهم من هذا المال قال‏:‏ جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله‏!‏ والله لا فعلت‏.‏
فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم قال لهم‏:‏ يا أهل الكوفة وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم بل لكل عشرة رجلاً‏.‏
قال عبيد الله بن ظبيان‏:‏ أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت قال‏:‏ وما ذلك قال‏:‏ فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل علقتها عرضاً وعقلت رجلاً غيري وعلق أخرى غيرها الرجل أحببناك نحن وأحببت أنت أهل الشام وأحب أهل الشام عبد الملك‏.‏
ثم انصرف القوم من عنده خائبين فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير‏.‏

وفود رؤبة على أبي مسلم
الأصمعي قال‏:‏ حدثنا رؤبة قال‏:‏ قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة فأنشدته فناداني‏:‏ يا رؤية فنوديت له من كل مكان‏:‏ يا رؤبة فأجبت‏:‏ لبيك إذ دعوتني لبيكا أحمد ربا ساقني إليكا الحمد والنعمة في يديكا قال‏:‏ بل في يدي الله عز وجل قلت‏:‏ وأنت لما أنعمت حمدت‏.‏
ثم استأذنت في الإنشاد فأذن لي فأنشدته‏:‏ ما زال يأتى الملك من أقطاره وعن يمينه وعن يساره مشمراً لا يصطلى بناره حتى أقر الملك في قرراه فقال‏:‏ إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفضه الإنفاق وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة ومنك العود وعليك المعول والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بجنبيك الأسدة قال‏:‏ فقلت‏:‏ الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله‏.‏

وفود العتابي على المأمون
الشيباني قال‏:‏ كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون فلما خرج إلى خراسان شيعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى فلما حاول وداعه قال له المأمون‏:‏ لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء‏.‏
فلما أفضت الخلافة إلى المأمون وفد إليه العتابي زائراً فحجب عنه فتعرض ليحيى بن أكثم فقال‏:‏ أيها القاضي إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين فقال له يحيى‏:‏ ما أنا بالحاجب قال له‏:‏ قد علمت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان‏.‏
فدخل على المأمون فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أجرني من العتابي ولسانه فلم يأذن له وشغل عنه فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى كتب إليه‏:‏ ما على ذاكنا افترقنا بسندا دولا هكذا رأينا الإخاء تضرب الناس بالمثقفة السم ر على غدرهم وتنسى الوفاء فلما قرأ أبياته دعا به فلما دنا منه سلم بالخلافة ووقف بين يديه فقال‏:‏ يا عتابي بلغتنا وفاتك فغمتنا ثم انتهت إلينا وفادتك فسرننا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قسم هذا البر على أهل منى وعرفات لوسعهم فإنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك قال‏:‏ سل حاجتك قال‏:‏ يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة‏.‏
فأحسن جائزته وانصرف وفود أبي عثمان المازني على الواثق أبو عثمان بكر بن محمد قال‏:‏ وفدت على الواثق فلما دخلت وسلمت قال‏:‏ هل خليت وراءك أحداً يهمك أمره قلت‏:‏ أخية لي ربيتها فكأنها بنتي قال‏:‏ ليس شعري‏!‏ ما قالت حين فارقتها قلت‏:‏ أنشدتني قول الأعشى‏:‏ تقول ابنتي يوم جد الرحيل أرانا سواء ومن قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا نخاف بأن تخترم أرانا إذا أضمرتك البلا د نجفى وتقطع منا الرحم ثقي بالله ليس له شريك ومن عنده الخليفة بالنجاح قال‏:‏ أتاك النجاح وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏
ثم قال‏:‏ حدثني حديثاً ترويه عن أبي مهدية مستظرفاً قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين حدثني الأصمعي قال‏:‏ قال لي أبو مهدية‏:‏ بلغني أن الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فاقرأ‏:‏ الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ولا تقرأ الأعراب ولا يغرنك العزب وإن صام وصلى‏.‏
فضحك الواثق حتى شغر رجله وقال‏:‏ لقد لقي أبو مهدية من العزبة شراً وأمر له بخمسمائة دينار‏.‏

الوافدات على معاوية
وفود سودة بنت عمارة على معاوية عامر الشعبي قال‏:‏ وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها فلما دخلت عليه سلمت فقال لها‏:‏ كيف أنت يا بنة الأشتر قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين قال لها‏:‏ أنت القائلة لأخيك‏:‏ شمر كفعل أبيك يا بن عمارة يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليا والحسين ورهطه واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخو النبي محمد علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش وسر أمام لوائه قدماً بأبيض صارم وسنان قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب فدع عنك تذكار ما قد نسي قال‏:‏ هيهات ليس مثل مقام أخيك ينسى قالت‏:‏ صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ فقولي حاجتك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد والله سائلك عما افترض عليك من حقنا ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة هذا ابن أرطأة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته فشكرناك وإلا لا فعرفناك فقال معاوية‏:‏ إياي تهددين بقومك‏!‏ والله قد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك فسكتت ثم قالت‏:‏ صلى الإله على روح تضمنه قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به ثمناً فصار بالحق والإيمان مقرونا قال‏:‏ ومن ذلك قالت‏:‏ علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قالت‏:‏ وما أرى عليك منه أثراً قال‏:‏ بلى أتيته يوماً في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائماً يصلي فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة وتعطف‏:‏ ألك حاجة فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء فقال‏:‏ اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ‏.‏
إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام‏.‏
فأخذته منه يا أمير المؤمنين ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام‏.‏
فقال معاوية‏:‏ اكتبوا لها الإنصاف لها والعدل عليها فقالت‏:‏ ألي خاصة أم لقومي عامة قال‏:‏ وما أنت وغيرك قال‏:‏ هي والله إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا يسعنى ما يسع قوي قال‏:‏ هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون وغركم قوله‏:‏ فلو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقوله‏:‏ ناديت همدان والأبواب مغلقة ومثل همدان سنى فتحة الباب كالهنداوي لم تفلل مضاربه وجه جميل وقلب غير وجاب اكتبوا لها بحاجتها على معاوية استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال‏:‏ كيف أنت يا خالة قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين قال‏:‏ غيرك الدهر قالت‏:‏ كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر‏.‏
قال عمرو بن العاص‏:‏ هي والله والقائلة يا أمير المؤمنين‏:‏ يا زيد دونك فاستشر من دارنا سيفاً حساماً في التراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة فاليوم أبرزه الزمان مصونا قال مروان‏:‏ وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين‏:‏ أترى ابن هند للخلافة مالكاً هيهات ذاك - وإن إراد - بعيد منتك نفسك في الخلاء ضلالة أغراك عمرو للشقا وسعيد قال سعيد بن العاصي‏:‏ هي والله القائلة‏:‏ قد كنت أطمع أن موت ولا أرى فوق المنابر من أمية خاطبة في كل يوم للزمان خطيبهم بين الجميع لآل أحمد عائباً ثم سكتوا‏.‏
فقالت‏:‏ يا معاوية كلاك أعشى بصري وقصر حجتي أنا والله قائلة ما قالوا وما خفي عليك مني أكثر فضحك وقال‏:‏ ليس يمنعنا ذلك من برك اذكري حاجتك‏.‏
قالت‏:‏ الآن فلا‏.‏

وفود الزرقاء على معاوية
عبيد الله بن عمرو الغساني عن الشعبي قال‏:‏ حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا‏:‏ بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد إذ ذكروا الزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمدانية وكانت شهدت مع قومه صفين فقال‏:‏ أيحكم يحفظ كلامها قال بعضهم‏:‏ نحن نحفظه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ فأشيروا علي في أمرها فقال بعضهم‏:‏ نشير عليك بقتلها قال‏:‏ بئس الرأي الذي أشرتم به علي أيحسن بمثلى أن يتحدى عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها‏!‏ فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه ما ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها وأن يمهد لها وطاء ليناً ويسترها بستر خصيف ويوسع لها في النفقة فأرسل إليها فأقرأها الكتاب فقالت‏:‏ إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي فإني لا آتية وإن كان حتم فالطاعة أولى‏.‏
فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به فلما دخلت على معاوية قال‏:‏ مرحباً وأهلاً قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك قالت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين‏.‏
أدام الله لك النعمة قال‏:‏ كيف كنت في مسيرك قالت‏:‏ ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً قال‏:‏ بذلك أمرناهم أتدرين فيما بعثت إليك قالت‏:‏ أنى لي بعلم ما لم أعلم قال‏:‏ ألست الراكبة الجمل الأحمر والوقفة بين الصفين يوم الصفين تحضين على القتال‏.‏
وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ولم يعد ما ذهب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعد الأمر قال لها معاوية‏:‏ صدقت‏.‏
أتحفظين كلامك يوم صفين قالت‏:‏ لا والله لا أحفظه ولقد أنسيته قال‏:‏ لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين‏:‏ أيها الناس ارعووا وارجعوا إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسع لناعقها ولا تنساق لقائدها‏.‏
إن المصباح لا يضيء في الشمس ولا تنير الكواكب مع القمر ولا يقطع الحديد إلا الحديد‏.‏
ألا من استرشدنا أرشدناه ومن سألنا أخبرناه‏.‏
أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص فكأن قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل ودمغ الحق باطله فلا يجهلن أحد فيقول‏:‏ كيف العدل وأنى ليقض الله أمراً كان مفعولا‏.‏
ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء ولهذا اليوم ما بعده‏.‏
والصبر خير في الأمور عواقبا أيهاً في الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين‏.‏
ثم قال لها‏:‏ والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه قالت‏:‏ أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك فمثلك بشر بخير وسر جليسه قال‏:‏ أو يسرك ذلك قالت‏:‏ نعم والله‏.‏
لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل فضحك معاوية وقال‏:‏ والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته اذكري حاجتك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميراً أعنت عليه أبداً ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة قال‏:‏ صدقت وأمر لها وللذين جاؤوا معها بجوائز وكسا‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:04 AM

وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية
سعيد بن أبي حذافة قال‏:‏ حبس مروان بن الحكم وهو والي المدينة غلاماً من بني ليث في جناية جناها فاتته جدة الغلام أم أبيه وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسب فعرفها فقال لها‏:‏ مرحباً يا بنة خيثمة ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا قالت‏:‏ إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة وأحلاماً وافرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا ينتقمون بعد عفو وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال‏:‏ صدقت نحن كذلك فكيف قولك‏:‏ عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد والليل يصدر بالهموم ويورد يا آل مذحج لا مقام فشمروا إن العدو لآل أحمد يقصد هذا علي كالهلال تحفه وسط السماء من الكواكب أسعد خير الخلائق وابن عم محمد إن يهدكم بالنور منه تهتدوا ما زال مذ شهد الحروب مظفراً والنصر فوق لوائه ما يفقد قالت‏:‏ كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفاً بعده‏.‏
فقال رجل من جلسائه‏:‏ كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة‏:‏ فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت فوق الغصون حمامة قمريا قد كنت بعد محمد خلفاً كما أوصى إليك بنا فكنت وفيا فاليوم لا خلف يؤمل بعده هيهات نأمل بعده إنسيا قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظننا فحظك الأوفر والله ما ورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا قال‏:‏ وإنك لتقولين ذلك قالت‏:‏ سبحان الله‏!‏ والله ما مثلك مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا كان والله علي أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك قال‏:‏ ممن قالت‏:‏ مروان بن الحكم وسعيد بن العاصي قال‏:‏ وبم استحققت ذلك عندك قالت‏:‏ بسعة حلمك وكريم عفوك قال‏:‏ فإنهما يطمعان في ذلك قال‏:‏ والله لقد قاربت فما حاجتك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح‏.‏
لا حكم بعدل ولا يقضي بسنة يتتبع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين حبس ابن ابني فأتيته فقال‏:‏ كيت وكيت فألقمته أخشن من الحجر وألعقته أمر من الصاب ثم رجعت إلى نفس باللائمة وقلت‏:‏ لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً وعليه معديا قال‏:‏ صدقت لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي‏.‏
فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم‏.‏

وفود عكرشة بنت الأطرش على معاوية رحمه الله تعالى
أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال‏:‏ دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكاز لها فلمت عليه بالخلافة ثم جلست فقال لها معاوية‏:‏ الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين قالت‏:‏ نعم إذ لا علي حي قال‏:‏ ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين‏:‏ أيها الناس عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها ولا يرهم من سكنها ولا يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم مستظهرين بالصبر على طلب حقهم إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة دعاهم بالدنيا فأجابوه واستدعاهم إلى الباطل فلبوه فالله الله عباد الله في دين الله وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى يا معشر المهاجرين والأنصار امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم فكأني بكم غداً ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر وتروث روث العتاق‏.‏
فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران يقولون‏:‏ هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله وكان أمر الله قدراً مقدوراً فما حملك على ذلك قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ‏"‏ وإن اللبيب إذا كره أمراً لا يحب إعادته قال‏:‏ صدقت فاذكري حاجتك قالت‏:‏ إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا وإنا قد فقدنا ذلك فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان الخونة ولا استعمل الظلمة‏.‏
قال معاوية‏:‏ يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق وبحور تنفهق قالت‏:‏ يا سبحان الله والله ما فرض الله لنا حقاً فجعل فيه ضرراً على غيرنا وهو علام الغيوب قال معاوية‏:‏ هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا‏.‏
ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافها‏.‏
مع معاوية رحمه الله تعالى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال‏:‏ حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كناية كانت تنزل بالحجون يقال لها دارمية الحجونية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها فقال‏:‏ ما حالك يا بنة حام فقالت‏:‏ لست لحام إن عبتني أنا امرأة من بني كنانة قال‏:‏ صدقت أتدرين لم بعثت إليك قالت‏:‏ لا يعلم الغيب إلا الله قال‏:‏ بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبعضتني وواليته وعاديتني قالت‏:‏ أوتعفيني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا أعفيك قالت‏:‏ أما إذ أبيت فأني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق وواليت علياً على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الولاء وحبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى قال‏:‏ فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك قالت‏:‏ يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي قال معاوية‏:‏ يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيراً إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت‏.‏
قال لها‏:‏ يا هذه هل رأيت علياً قالت‏:‏ إي والله قال‏:‏ فكيف رأيته قالت‏:‏ رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك قال‏:‏ فهل سمعت كلامه قالت‏:‏ نعم والله فكان يجلو القلب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست قال‏:‏ صدقت فهل لك من حاجة قالت‏:‏ أو تفعل إذا سألتك قال‏:‏ نعم قالت‏:‏ تعطيني مائة ناقة حمراء فحلها وراعيها قال‏:‏ تصنعين بها ماذا قالت‏:‏ أغذوا بألبانها الصغر وأستحيي بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر قال‏:‏ فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب قالت‏:‏ ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا‏:‏ سبحان الله أو دونه‏.‏
فأنشأ معاوية يقول‏:‏ إذ لم أعد بالحلم مني عليكم فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد جزاك على حرب العداوة بالسلم ثم قال‏:‏ أما والله لو كان علي حياً ما أعطاك منها شيئاً قالت‏:‏ لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين‏.‏

وفود أم الخير بنت الحريش
عبيد الله بن عمر الغساني عن الشعبي قال‏:‏ كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيراً وبالشر شراً‏.‏
فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه فقالت‏:‏ أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري‏.‏
فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها‏:‏ يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بالخير خيراً وبالشر شراً فمالي عندك يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل ولا تؤيسك معرفتي بك أن يقول فيك غير الحق‏.‏
فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية فأنزلها مع الحرم ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال لها‏:‏ وعليك السلام يا أم الخير بحق ما دعوتني بهذا الاسم قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مه فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه و لكل أجل كتاب قال‏:‏ صدقت فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك قالت‏:‏ لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق قال معاوية‏:‏ بحسن نيتي ظفرت بكم قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين يعيذك الله من دحض المقال وما تردي عاقبته قال‏:‏ ليس هذا أردنا أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر قالت‏:‏ لم أكن زورته قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة فإن أحببت أن أحدث لك مقالاً عن ذلك فعلت قال‏:‏ لا أشاء ذلك‏.‏
فالتفت معاوية إلى جلسائه فقال‏:‏ أيكم يحفظ كلامها فقال رجل منهم‏:‏ أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ هات قال‏:‏ كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف النسيج وهي على جمل أرمك وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفيرة وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول‏:‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إن الله قد أوضح لكم الحق وأبان الدليل وبين السبيل ورفع العلم ولم يدعكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمة فأين تريدون رحمكم الله أفراراً عن أمير المؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول‏:‏ ‏"‏ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ‏"‏‏.‏
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول‏:‏ اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى واردد الحق إلى أهله هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضي التقي والصديق الأكبر إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وضغائن أحدية وثب بها واثب حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس‏.‏
ثم قالت‏:‏ قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون‏.‏
صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة ولات حين مناص إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها واستطابوا الآخرة فسعوا لها فالله الله أيها الناس قبل أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وأبي سبطيه خلق من طينته وتفرع من نبعته وخصه بسره وجعله باب مدينته وأبان ببغضه المنافقين وها هو ذا مغلق الهام ومكسر الأصنام صلى والناس مشركون‏.‏
وأطاع والناس كارهون فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل الله به أهل خيبر وفرق بن جمع هوازن‏.‏
فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقاً وردة وشقاقاً وزادت المؤمنين أيماناً قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏
فقال معاوية‏:‏ يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي ولو قتلتك ما حرجت في ذلك قالت‏:‏ والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه قال‏:‏ هيهات يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله قالت‏:‏ وما عسيت أن أقول في عثمان استخلفه الناس وهم به راضون وقتلوه وهم له كارهون قال معاوية‏:‏ يا أم الخير هذا أصلك الذي تبينين عليه قالت‏:‏ لكن الله يشهد وكفى بالله شهيداً ما أردت بعثمان نقصاً ولكن كان سابقاً إلى الخير وإنه لرفيع الدرجة غداً‏.‏
قال‏:‏ فما تقولين في طلحة بن عبيد الله قالت‏:‏ وما عسى أن أقول في طلحة اغتيل من مأمنه وأتي من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة‏.‏
قال‏:‏ فما تقولين في الزبير قالت‏:‏ وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ولقد كان سباقاً إلى كل مكرمة في الإسلام‏.‏
وأنا أسألك بحق الله يا معاوية - فإن قريشاً تحدثت أنك أحلمها - أن تسعني بفضل حلمك و أن تعفني من هذه المسائل وتسألني عما شئت من غيرها قال‏:‏ نعم ونعمة عين قد أعفيتك منها ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردها مكرمة‏.‏

وفود أروى بنت عبد المطلب على معاوية رحمه الله
العباس بن مكار قال‏:‏ حدثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي‏:‏ أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة فلما رآها معاوية قال‏:‏ مرحباً بك وأهلاً يا عمة فكيف كنت بعدنا فقالت‏:‏ يا بن أخي لقد كفرت يد النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم فأتعس الله منك الجدود وأضرع منكم الخدود ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور فوليتم علينا من بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى فغايتنا الجنة وغايتكم النار‏.‏
فقال لها عمرو بن العاص‏:‏ كفى أيتها العجوز الضالة وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك‏!‏ فقالت له‏:‏ وأنت يا بن النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك عنهم فقالت‏:‏ كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به‏.‏
فقال مروان‏:‏ كفى أيتها العجوز واقصدي لما جئت له‏.‏
فقالت‏:‏ وأنت أيضاً يا بن الزرقاء تتكلم‏!‏ ثم التفتت إلى معاوية فقالت‏:‏ والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك فإن أمك القائلة في قتل حمزة‏:‏ نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبة من صبر وشكر وحشى علي دهري حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها بنت عمي وهي تقول‏:‏ خزيت في بدر وبعد بدر يا بنة جبار عظيم الكفر فقال معاوية‏:‏ عفا الله عما سلف يا عمة هات حاجتك قالت‏:‏ مالي إليك حاجة وخرجت عنه‏.‏

كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولنا في الوفود والوافدات ومقاماتهم بين يدي نبي الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي الخلفاء والملوك ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك والتزلف إليهم بسحر البيان الذي يمازج الروح لطافة ويجري مع النفس رقة والكلام الرقيق مصايد القلوب وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظاً والمندمل حقداً حتى يطفئ جمرة غيظه ويسل دفائن حقده وإن منه لما يستميل قلب اللئيم ويأخذ بسمع الكريم وبصره وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة وشافعاً مقبولاً قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ‏"‏‏.‏
وسنذكر في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى من تخلص من أنشوطة الهلاك وتفلت من حبائل المنية بحسن التفصل ولطيف التوصل ولين الجواب ورقيق الاستعتاب حتى عادت سيآته حسنات وعيض بالثواب بدلاً من العقاب‏.‏
وحفظ هذا الباب أوجب على الإنسان من حفظ عرضه وألزم له من قوام بدنه‏.‏
كل شيء كشف لك قناع المعنى الخفي حتى يتأدى إلى الفهم ويتقبله العقل فذلك البيان الذي ذكره الله عز وجل في كتابه ومن به على عباده فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ‏"‏‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيم الجمال فقال‏:‏ في اللسان يريد البيان‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن من البيان لسحراً‏.‏
وقالت العرب‏:‏ أنفذ من الرمية كلمة فصيحة‏.‏
وقال الراجز‏:‏ لقد خشيت أن تكون ساحراً راوية طوراً وطوراً شاعراً‏.‏
وقال سهل بن هارون‏:‏ العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم‏.‏
وقالوا‏:‏ البيان بصر والعي عمى كما أن العلم بصر والجهل عمى‏.‏
والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل‏.‏
وقالوا‏:‏ ليس لمنقوص البيان بهاء ولو حك بيافوخه عنان السماء‏.‏
وقال صاحب المنطق‏:‏ حد الإنسان‏:‏ الحي الناطق المبين‏.‏
وقال‏:‏ الروح عماد البدن والعلم عماد تبجيل الملوك وتعظيمهم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه‏.‏
وقالت العلماء‏:‏ لا يؤم ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه‏.‏
وقال زياد ابن أبيه‏:‏ لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏
وقال يحيى بن خالد بن برمك‏:‏ مساءلة الملوك عن حالها من سجية النوكى فإذا أردت أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقل‏:‏ صبح الله الأمير بالنعمة والكرامة وإذا كان عليلاً فأردت أن تسأله عن حاله فقل‏:‏ أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة فإن الملوك لا تسأل ولا تشمت ولا تكيف وأنشد‏:‏ إن الملوك لا يخاطبونا ولا إذا ملوا يعاتبونا وفي المقال لا ينازعونا وفي العطاس لا يشمتونا وفي الخطاب لا يكيفونا يثنى عليهم ويبجلونا اعتل الفضل بن يحيى فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام عليه والدعاء له ويخفف في الجلوس ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه وكان غيره يطيل الجلوس‏.‏
فلما أفاق من علقته قال‏:‏ ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح‏.‏
وقال أصحاب معاوية له‏:‏ إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك فقال‏:‏ علامة ذلك أن أقول‏:‏ إذا شئتم‏.‏
وقيل ذلك ليزيد فقال‏:‏ إذا قلت‏:‏ على بركة الله‏.‏
وقيل ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏:‏ إذا وضعت الخيزرانة من يدي‏.‏
ومن تمام خدمة الملوك أن يقرب الخادم إليه نعليه ولا يدعه يمشي إليهما ويجعل النعل اليمنى مقابلة الرجل اليمنى واليسرى مقابلة اليسرى وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن يؤمر فلا ينتظر في ذلك ويتفقد الدواة قبل أن يأمره وينفض عنها الغبار إذا قربها إليه وإن رأى بين يديه قرطاساً قد تباعد عنه قربه ووضعه بين يديه على كسره‏.‏
ودخل الشعبي على الحجاج فقال له‏:‏ كم عطاك قال‏:‏ ألفين قال‏:‏ ويحك‏!‏ كما عطاؤك قال ألفان قال‏:‏ فلم لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك قال‏:‏ لحن الأمير فلحنت وأعرب الأمير فأعربت ولم أكن ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه فأكون كالمقرع له بلحنه والمستطيل عليه بفضل القول قبله‏.‏
فأعجبه ذلك منه ووهبه مالاً‏.‏
قبلة اليد ذكر عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنا نقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن حديث عبد الرحمن وكيع عن سفيان قال قال‏:‏ قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏
ومن حديث الشعبي قال‏:‏ لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فالتزمه وقبل ما بين عينيه‏.‏
قال إياس بن دغفل‏:‏ رأيت أبا نضرة يقبل خد الحسين‏.‏
الشيباني عن أبي الحسن عن مصعب قال‏:‏ العتبي قال‏:‏ دخل رجل على عبد الملك بن مروان فقبل يده وقال‏:‏ يدك يا أمير المؤمنين أحق يد بالتقبيل لعلوها في المكارم وطهرها من المآثم وإنك تقل التثريب وتصفح عن الذنوب فمن أراد بك سوءاً جعله الله حصيد سيفك وطريد خوفك‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ دخل أبو بكر الهجري على المنصور فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل البيت بركة فلو أذنت فقبلت رأسك لعل الله يمسك علي ما بقي من أسناني قال‏:‏ اختر بينها وبين الجائزة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أيسر علي من ذهاب الجائزة أن لا تبقى في فمي حاكة فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏
ودخل جعفر بن يحيى في زي العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة معه ثمامة بن أشرس فقال ثمامة‏:‏ هذا أبو الفضل فنهض إليه سليمان فقبل يده وقال له‏:‏ بأبي أنت ما دعاك إلى أن تحمل عبدك ثقل هذه المنة التي لا أقوم بشكرها ولا أقدر أن أكافئ عليها‏.‏
الشعبي قال‏:‏ ركب زيد بن ثابت فأخذ عبد الله بن عباس بركابه فقال له‏:‏ لا تفعل يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هكذا‏:‏ أمرنا أن نفعل بلعمائنا فقال له زيد‏:‏ أرني يدك فأخرج إليه يده فأخذها وقبلها وقال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا‏.‏
وقالوا‏:‏ قبلة الإمام في اليد وقبلة الأب في الرأس وقبلة الأخ في الخد وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزوجة في الفم‏.‏

من كره من الملوك تقبيل اليد
العتبي قال‏:‏ دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبل يده فقال‏:‏ أف له إن العرب ما قبلت الأيدي إلا هلوعاً ولا فعلته العجم إلا خضوعاً‏.‏
واستأذن رجل المأمون في تقبيل يده فقال له‏:‏ إن قبلة اليد من المسلم ذلة ومن الذمي خديعة ولا حاجة بك أن تذل ولا بنا أن نخدع‏.‏
واستأذن أبو دلامة الشاعر المهدي في تقبيل يده فقال‏:‏ أما هذه فدعها قال‏:‏ ما منعت عيالي شيئاً أيسر فقداً عليهم من هذه‏.‏
قال هارون الرشيد لمعن بن زائدة‏:‏ كيف زمانك يا معن قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أنت الزمان فإن أصلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان‏.‏
وهذا نظير قول سعيد بن سلم وقد قال له أمير المؤمنين الرشيد‏:‏ من بيت قيس في الجاهلية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين بنو فزارة قال‏:‏ فمن بيتهم في الإسلام قال‏:‏ يا أمير المؤمنين الشريف من شرفتموه قال‏:‏ صدقت أنت وقومك‏.‏
ودخل معن بن زائدة على أبي جعفر فقال له‏:‏ كبرت يا معن قال‏:‏ في طاعتك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ وإنك لجلد قال‏:‏ على أعدائك يا أمير المؤمنين قال وإن فيك لبقية قال‏:‏ هي لك يا أمير المؤمنين قال أي الدولتين أحب إليك أو أبغض أدولتنا أم دولة بني أمية قال‏:‏ ذلك إليك يا أمير المؤمنين وإن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي وإن زاد برهم على برك كانت دولتهم أحب إلي قال‏:‏ صدقت‏.‏
قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح‏:‏ أهذا منزلك قال‏:‏ هو لأمير المؤمنين ولي به قال‏:‏ كيف ماؤه قال‏:‏ أطيب ماء قال‏:‏ فكيف هواءه قال‏:‏ أصح هواء‏.‏
وقال أبو جعفر المنصور لجرير بن يزيد‏:‏ إنك أردتك لأمر قال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أعد الله لك مني قلباً معقوداً بطاعتك ورأياً موصولاً بنصيحتك وسيفاً مشهوراً على عدوك فإذا شئت وقال المأمون لطاهر بن الحسين‏:‏ صف لي ابنك عبد الله قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مدحته عبته وإن ذممته اغتبته ولكنه قدح في كف مثقف ليوم نضال في خدمة أمير المؤمنين‏.‏
وأمر بعض الخلفاء رجلاً بأمر فقال‏:‏ أنا أطوع من الرداء وأذل لك من الحذاء‏.‏
وهذا قاله الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات‏.‏
وقال آخر‏:‏ أطوع لك من يدك وأذل لك من نعالك وقال المنصور لمسلم بن قتيبة‏:‏ ما ترى في قتل أبي مسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ حسبك أبا أمية‏.‏
وقال المأمون ليزيد بن مزيد‏:‏ ما أكثر الخلفاء في ربيعة قال‏:‏ بلى ولكن منابرهم الجذوع‏.‏
وقال المنصور لإسحاق بن مسلم‏:‏ أفرطت في وفائك لبني أمية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه من وفىّ لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى‏.‏
وقال هارون لعبد الملك بن صالح‏:‏ صف لي منبج قال‏:‏ رقيقة الهواء لينة الوطاء قال‏:‏ فصف لي منزلك بها قال‏:‏ دون منازل أهلي وفوق منازل أهلها قال‏:‏ ولم قدرك فوق أقدارهم قال‏:‏ ذلك خلق أمير المؤمنين أتأسى به وأقفو أثره وأحذو مثاله‏.‏
ودخل المأمون يوماً بيت الديوان فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم فقال‏:‏ من أنت يا غلام قال‏:‏ أنا الناشئ في دولتك والمتقلب في نعمتك والمؤمل لخدمتك الحسن بن رجاء قال المأمون‏:‏ بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته‏.‏
علي بن يحيى قال‏:‏ إني عند المتوكل حين دخل عليه الرسول برأس إسحق بن إسماعيل فقام علي بن الجهم يخطر بين يدي المتوكل ويقول‏:‏ أهلاً وسهلاً بك من رسول جئت بما يشفي من الغليل برأس إسحق بن إسماعيل فقال المتوكل‏:‏ قوموا التقطوا هذا الجوهر لئلا يضيع‏.‏
ودخل عقال بن شبة على أبي عبيد الله كاتب المهدي فقال‏:‏ يا عقال لم أرك منذ اليوم قال‏:‏ والله إني لألقاك بشوق وأغيب عنك بتوق‏.‏
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح - وكان أسود - يا نصيب هل لك فيما يثمر المحادثة يريد المنادمة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير اللوم مرمد والشعر مفلفل ولم أقعد إليك بكريم عنصر ولا بحسن منظر وإنما هو عقلي ولساني فإن رأيت أن لا تفرق بينهما فافعل‏.‏
ولما ودع المأمون الحسن بن سهل عند مخرجه من مدينة السلام وقال له‏:‏ يا أبا محمد ألك حاجة تعهد إلي فيها قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك‏.‏
وقال سعيد بن سلم بن قتيبة للمأمون‏:‏ لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إلي بحديثه وإشارته إلي بطرفه لكان ذلك من أعظم ما توجبه النعمة وتفرضه الصنيعة قال المأمون‏:‏ ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت وحسن الفهم إذا حدثت ما لا يجده عند غيرك‏.‏

مدح الملوك والتزلف إليهم
في سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره جمع الناس فخطبهم خطبة حضهم فيها على الألفة والطاعة وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة وصنف لهم الناس أربعة أصناف فخروا له سجداً‏.‏
وتكلم متكلمهم فقال‏:‏ لا زلت أيها الملك محبواً من الله بعز النصر ودرك الأمل ودوام العافية وتمام النعمة وحسن المزيد ولا زلت تتابع لديك المكرمات وتشفع إليك الذمامات حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها ولا تنقطع زهرتها في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى عنده والحظوة لديه ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر زائدين زيادة البحور والأنهار حتى تستوي أقطار الأرض كلها في علوك عليها ونفاذ أمرك فيها فقد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها وألف بين القلوب بعد تباغضها وأذهب عنا الإحن والحسائف بعد توقد نيرانها بفضلك الذي لا يدرك بوصف ولا يحد بنعت‏.‏
فقال أردشير‏:‏ طوبى للممدوح مستحقاً وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً‏.‏
ودخل حسان بن ثابت على الحارث الجفني فقال‏:‏ أنعم صباحاً أيها الملك السماء غطاؤك والأرض وطاؤك ووالدي فداؤك أنى يناوئك المنذر فوالله لقذالك أحسن من وجهه ولأمك أحسن من أبيه ولظلك خير من شخصه ولصمتك أبلغ من كلامه ولشمالك خير من يمينه‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ ونبئت أن أبا منذر يساميك للحدث الأكبر قذالك أحسن من وجهه وأمك خير من المنذر ويسرى يديك إذا أعسرت كيمنى يديه فلا تمتر ودخل خالد بن عبد الله القسري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين من تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها وأنت كما قال الشاعر‏:‏ وإذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ أعطي صاحبكم مقولاً ولم يعط معقولاً‏.‏
ذكر بن أبي طاهر قال‏:‏ دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم‏:‏ يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك وزادك في نعمتك وشكرك على رعيتك تقدمت من قبلك وأتعبت من بعدك وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه وأما فيما بقي فلا نرجوه فنحن جميعاً ندعو لك ونثني عليك خصب لنا جنابك وعذب شرابك وحسنت نظرتك وكرمت مقدرتك جبرت الفقير وفككت الأسير فأنت يا أمير المؤمنين كما قال الأول‏:‏ ما زلت في البذل للنوال وإط لاق لعان بجرمه علق حتى تمنى البراء أنهم عندك أسرى في القيد والحلق ودخل رجل على خالد بن عبد الله القسري فقال‏:‏ أيها الأمير إنك لتبذل ما جل وتجبر ما اعتل وتكثر ما قل ففضلك بديع ورأيك جميع‏.‏
وقال رجل للحسن بن سهل‏:‏ لقد صرت لا أستكثر كثيرك ولا أستقل قليلك قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ لأنك أكثر من كثيرك ولأن قليلك أكثر من كثير غيرك‏.‏
وقال خالد بن صفوان لوال دخل عليه‏:‏ قدمت فأعطيت كلاً بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعداتك حتى كأنك من كل أحد وكأنك لست من أحد‏.‏
وقال الرشيد لبعض الشعراء‏:‏ هل أحدثت فينا شيئاً قال‏:‏ يا أمير المؤمنين المديح كله دون قدرك والشعر فيك فوق قدري ولكني أستحسن قول العتابي‏:‏ فت الممادح إلا أن ألسننا مستنطقات بما تخفي الضمايير مدح خالد بن صفوان رجلاً فقال‏:‏ قريع المنطق جزيل الألفاظ عربي اللسان قليل الحركات حسن الإشارات حلو الشمائل كثيرة الطلاوة صموتاً قؤولاً يهنأ الجرب ويداوي الدبر ويقل الحز ويطبق المفصل لم يكن بالبرم في مروءته ولا بالهذر في منطقه متبوعاً غير تابع‏.‏
كأنه علم في رأسه نار دخل سهل بن هارون على الرشيد فوجده يضاحك ابنه المأمون فقال‏:‏ اللهم زده من الخيرات وابسط له في البركات حتى يكون كل يوم من أيام موفياً على أمسه مقصراً على غده فقال له الرشيد‏:‏ يا سهل من روى من الشعر أحسن وأجوده ومن الحديث أصحه وأبلغه ومن البيان أفصحه وأوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه قال سهل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما ظننت أن أحداً تقدمني سبقني إلى هذا المعنى فقال‏:‏ بل أعشى همدان حيث يقول‏:‏ وجدتك أمس خير بني لؤي وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً كذاك تزيد سادة عبد شمس وكان المأمون قد استثقل سهل بن هارون فدخل عليه يوماً والناس عنده على منازلهم فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال لهم‏:‏ ما لك تسمعون ولا تعون وتفهمون ولا تعجبون وتعجبون ولا تصفون أما والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل عربكم كعجمهم وعجمهم كعرب بني تميم ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء قال‏:‏ فرجع له المأمون إلى رأيه الأول‏.‏
وكان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان قال زياد‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو وسهمك الذي لا يطيش وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم‏.‏
فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على الحجاج ولا أحب إليه منه‏.‏
حدث الشيباني قال‏:‏ أقام المنصور صالحاً ابنه فتكلم في أمر فأحسن فقال شبيب بن شيبة‏:‏ تالله ما رأيت كاليوم أبين بياناً ولا أعرب لساناً ولا أربط جأشاً ولا أبل ريقاً ولا أحسن طريقاً وحق لمن كان المنصور أباه والمهدي أخاه أن يكون كما قال زهير‏:‏ هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا وخرج شبيب بن شيبة من دار الخلافة يوماً فقيل له‏:‏ كيف رأيت الناس قال‏:‏ رأيت الداخل راجياً والخارج راضياً‏.‏
وقيل لبعض الخلفاء‏:‏ إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح‏.‏
قال‏:‏ فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعده المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ألا إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة‏:‏ فمنها الأسد الخادر والبحر الزاخر والقمر الباهر والربيع الناضر فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه ثم نزل‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان لرجل دخل عليه‏:‏ تكلم بحاجتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين بهر الدرجة وهيبة الخلافة يمنعاني من ذلك قال‏:‏ فعلى رسلك فإنا لا نحب مدح المشاهدة ولا تزكية اللقاء قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لست أمدحك ولكن أحمد الله على النعمة فيك قال‏:‏ حسبك فقد أبلغت‏.‏
ودخل رجل على المنصور فقال له‏:‏ تكلم بحاجتك فقال‏:‏ يبقيك الله يا أمير المؤمنين قال‏:‏ تكلم بحاجتك فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما أستقصر أجلك ولا أخاف بخلك ولا أغتنم مالك وإن عطاءك لشرف وإن سؤال لزين وما لامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين‏.‏
قال‏:‏ فاحسن جائزته وأكرمه‏.‏
حدث إبراهيم بن السندي قال‏:‏ دخل العماني على المأمون وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج فقال له‏:‏ إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان رائقان‏.‏
قال‏:‏ فغدا علي في زي الأعراب فأنشده ثم دنا فقبل يده وقال‏:‏ قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد ورأيت وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزهما وأنشد مروان وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته وأنشدت المهدي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبراء الأمراء والسادة الرؤساء فلا والله يا أمير المؤمنين ما رأيت فيهم أبهى منظراً ولا أحسن وجهاً ولا أنعم كفاً ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فأعظم له الجائزة على شعره وأضعف له على كلامه وأقبل عليه بوجهه وبشره فبسطه حتى تمنى جميع من حضره أنهم قاموا مقامه‏.‏
حدث العتبي عن سفيان بن عينية قال‏:‏ قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق فنظر إلى شاب منهم يتحوش للكلام فقال‏:‏ أكبروا أكبروا فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه ليس بالسن ولو كان الأمر كله بالسن لكان في المسلمين من أهو أسن منك فقال عمر‏:‏ صدقت رحمك الله تكلم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة أما الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا وقدمت علينا بلادنا وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك قال‏:‏ فما أنتم قال‏:‏ وفد الشكر قال‏:‏ فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك فإن ناساً خدعهم الثناء وغرهم شكر الناس فهلكوا وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم فألقى عمر رأسه على صدره‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif التنصل والاعتذار
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من لم يقبل من متنصل عذراً صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ المعترف بالذنب كمن لا ذنب له‏.‏
وقال‏:‏ الاعتراف يهدم الاقتراف‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً إليك فلم تغفر له فلك الذنب واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي فقال‏:‏ قد عذرتك غير معتذر إن المحاذير يشوبها الكذب‏.‏
واعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى فقال‏:‏ قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن‏.‏
وقال إبراهيم الموصلي‏:‏ سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له وهو يقول‏:‏ أحتج إليك بغالب القضاء وأعتذر إليك بصادق النية‏.‏
وقال رجل لبعض الملوك‏:‏ أنا من لا يحاجك عن نفسه ولا يغالطك في جرمه ولا يلتمس رضاك إلا من جهة عفوك ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزلة‏.‏
وقال الحسن بن وهب‏:‏ ما أحسن العفو من القادر لا سيما عن غير ذي ناصر إن كان لي ذنب ولا ذنب لي فما له غيرك من غافر أعوذ بالود الذي بيننا أن يفسد الأول بالآخر وكتب الحسن بن وعب إلى محمد بن عبد الملك الزيات‏:‏ أبا جعفر ما أحسن العفو كله ولا سيما عن قائل‏:‏ ليس لي عذر وقال آخر‏:‏ اقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن بر عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا خير الخليطين من أغضى لصاحبه ولو أراد انتصاراً من لانتصرا وقالت الحكماء‏:‏ ليس من العدل سرعة العذل‏.‏
وقال آخر‏:‏ لعل له عذراً وأنت تلوم وقال حبيب‏:‏ البر بي منك وطى العذر عندك لي فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم وقال آخر‏:‏ إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ عذيري من طول البكا لوعة الأسى وليس لمن لا يقبل العذر من عذر وقال آخر‏:‏ فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل فإن لم أكن للعفو عندك للذي أتيت به أهلاً فأنت له أهل ومن الناس من لا يرى الاعتذار ويقول‏:‏ إياك وما يعتذر منه‏.‏
وقالوا‏:‏ ما اعتذر مذنب إلا ازداد ذنباً‏.‏
إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن أطراح العذر خير من العذر قال ابن شهاب الزهري‏:‏ دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة فرآني أحدثهم سناً فقال لي‏:‏ من أنت فانتسبت له فقال‏:‏ لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الأشعث فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن مثلك إذا عفا لم يعدد وإذا صفح لم يثرب‏.‏
فأعجبه ذلك وقال‏:‏ أين نشأت قلت‏:‏ بالمدينة قال‏:‏ عند من طلبت قلت‏:‏ سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وقبيصة بن ذؤيب قال‏:‏ فأين أنت من عروة بن الزبير فإنه بحر لا تكدره الدلاء‏.‏
فلما انصرفت من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات‏.‏
ودخل ابن السماك على محمد بن سليمان بن علي فرآه معرضاً عنه فقال‏:‏ مالي أرى الأمير كالعاتب علي قال‏:‏ ذلك لشيء بلغني عنك كرهته قال‏:‏ إذاً لا أبالي قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأنه إذا كان ذنباً غفرته وإن كان باطلاً لم تقبله‏.‏
ودخل جرير بن عبد الله على أبي جعفر المنصور وكان واجداً عليه فقال له‏:‏ تكلم بحجتك فقال لو كان لي ذنب تكلمت بعذري ولكن عفو أمير المؤمنين أحب إلي من براءتي‏.‏
وأتي موسى الهادي برجل فجعل يقرعه بذنوبه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن اعتذاري مما تقرعني فإن كنت ترجو في العقوبة راحة فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر سعي بعبد الملك بن الفارسي إلى المأمون فقال له المأمون‏:‏ إن العدل من عدله أبو العباس وقد كان وصفك بما وصفك به ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الذي بلغك عني تحميل علي ولو كان كذلك لقلت‏:‏ نعم كما بلغك فأخذت بحظي من الله في الصدق واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة عفوه قال‏:‏ صدقت‏.‏
محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال‏:‏ كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات النصرة فجار فيها وظلم فكثر الشاكي له والداعي عليه ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين رجلاً من جلة البصريين فعزله المأمون وجلس لهم مجلساً خاصاً وأقام أحمد بن يوسف لمناظرتهم‏.‏
فكان مما حفظ من كلامه أن قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لو أن أحداً ممن ولي الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ‏"‏ فأعجب المأمون جوابه واستجزل مقاله وخلى سبيله‏.‏
محمد بن القاسم الهاشمي أبو العيناء قال‏:‏ قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود‏:‏ دخلت على الواثق فقال لي‏:‏ ما زال قوم في ثلبك ونقصك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏.‏
‏"‏ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ‏"‏ والله ولي جزائه وعقاب أمير المؤمنين من ورائه وما ذل من كنت ناصره ولا ضاع من كنت حافظه فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قلت أبا عبد الله‏:‏ وسعى إلي بعيب عزة نسوة جعل الإله خدودهن نعالها قال أبو العيناء‏:‏ قلت لأحمد بن أبي داود‏:‏ إن قوماً تظافروا علي قال‏:‏ ‏"‏ يد الله فوق أيديهم ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ إنهم عدد وأنا واحد قال‏:‏ ‏"‏ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ إن للقوم مكراً قال‏:‏ ‏"‏ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ‏"‏‏.‏
قال أبو العيناء‏:‏ فحدثت بها الحديث أحمد بن يوسف الكاتب فقال‏:‏ ما يرى ابن أبي داود إلا أن القرآن أنزل عليه‏.‏
قال‏:‏ وهجا نهار بن توسعة قتيبة بن مسلم وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلب فقال‏:‏ كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فبدلت بعده قرداً نطوف به كأنما وجهه بالخل منضوح فطلبه فهرب منه ثم دخل عليه بكتاب أمه فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ بأي وجه تلقاني قال‏:‏ بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك‏.‏
فقر به ووصله وأحسن إليه‏.‏
وأقبل المنصور يوماً راكباً والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب فقام الناس إليه ولم يقم فاستشاط المنصور غيظاً وغضباً ودعا به فقال‏:‏ ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني قال‏:‏ خفت أن يسألني الله تعالى لم فعلت ويسألك عنه لم رضيت وقد كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فسكن غضبه وقر به وقضى حوائجه‏.‏
يحيى بن أكثم قال‏:‏ إني عند المأمون يوماً حتى أتي برجل ترعد فرائصه فلما مثل بين يديه قال له المأمون‏:‏ كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين وأين يقع شكري في جنب ما أنعم الله بك علي فنظر المأمون إلي وقال متمثلاً‏:‏ فلو كان يستغني عن الشكر ماجد لكثرة مال أو علو مكان لما ندب الله العباد لشكره فقال اشكروا لي أيها الثقلان ثم التفت إلى الرجل فقال له‏:‏ هلا قلت كما قال أصرم بن حميد‏:‏ رشحت حمدي حتى إنني رجل كلي بكل ثناء فيك مشتغل خولت شكري ما خولت من نعم فحر شكري لما خولتني خول الاستعطاف والاعتراف لما سخط المهدي على يعقوب بن داود قال له‏:‏ يا يعقوب قال‏:‏ لبيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك قال‏:‏ ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعاً وأبعد من ذكرك إذا كنت خاملاً وألبسك من نعمتي ما لم أجد بها يدين من الشكر فكيف رأيت الله أظهر عليك ورد إليك مني قال‏:‏ إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب وإن كان مما استخرجته دفائن الباغين فعائذ بفضلك فقال‏:‏ والله لولا الحنث في دمك بما تقدم لك لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً ثم أمر به إلى الحبس‏.‏
فتولى وهو يقول‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين كرم والمودة رحم وأنت بها جدير‏.‏
أخذت الشعراء معنى قول المهدي‏:‏ لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً فقال معلي الطائي‏:‏ طوقته بالحسام طوق ردى ما يستطيع عليه شد أزرار وقال حبيب‏:‏ طوقته بالحسام طوق داهية أغناه عن مس طوقه بيده ومن قولنا‏:‏ ولما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد أذن له بالدخول عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ الحمد الله الذي سهل لي سبيل الكرامة بلقائك ورد على النعمة بوجه الرضا منك وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين وفي حال رضاك جزاء المنعمين المتطولين‏:‏ فقد جعلك الله وله الحمد تثبت تحرجاً عند الغضب وتمتن تطولاً بالنعم وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلاً بالعفو‏.‏
ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي - وهو الذي يقال له ابن شكلة - أمر بإدخاله عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ ولي الثأر محكم في القصاص والعفو للتقوى وقد جعل الله كل ذنب دون عفوك فإن صفحت فبكرمك وإن أخذت فبحقك‏.‏
قال المأمون‏:‏ إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا علي به قال‏:‏ أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك وما جرت عليه عادة السياسة فقد فعلا ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله ثم استعبر باكياً قال له المأمون‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغاني عفوه ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب قال المأمون‏:‏ لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن زلتك لبلغك إليه حسن توصلك ولطيف تنصلك‏.‏
وكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما‏.‏
وقال المأمون لإسحاق بن العباس‏:‏ لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلب وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره قال‏:‏ يا أمير المؤمنين والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمي إليك ولرحمي أمس من أرحامهم وقد قال كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏"‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ‏"‏ وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه المنة وممتثل لها قال‏:‏ هيهات تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فوالله للسلم أحق بإقالة العثرة وغفران الزلة من الكافر هذا كتاب الله بيني وبينك يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ‏"‏ إلى ‏"‏ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏
فهي للناس يا أمير المؤمنين سنة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف قال‏:‏ صدقت اجلس وريت بك زنادي فلا برح نادماً من القادرين من أهلك وأمثالك‏.‏
العتبي عن أبيه قال‏:‏ قبض مروان بن محمد من معاوية بن عمرو بن عتبة ماله بالفرسان وقال‏:‏ إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك‏:‏ إني أقطعتك بستاني والبستان لا يكون إلا غامراً وأنا مسلم إليك الغامر وقابض منك العامر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهوداً على ما ادعيته وشفعاء فيما طلبته يسألونك بإحسانك إلي مكافأة إحسان سلفي إليهم فشفع فينا الأموات واحفظ منا القرابات واجعل مجلسك هذا مجلساً يلزم من بعدنا شكره قال‏:‏ لا والله إلا أن أجعلها طعمة مني لك لا قطيعة من عمك لأبيك قال‏:‏ قد قبلت ذلك ففعل‏.‏
العتبي قال‏:‏ أمر عبد الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجودة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية فدخل عليه عمر بن عتبة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أدنى حقك معتب وبعضه فادح لنا ولنا من حقك علينا حق عليك بإكرام سلفنا لسلفك فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليهم وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك قال‏:‏ عبد الملك‏:‏ إنما ما يستحق عطيتي من استعطاها فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه فسنكله إلى نفسه ثم أمر له بعطيته‏.‏
فبلغ ذلك خالداً فقال‏:‏ أبا لحرمان يهددني‏!‏ يد الله فوق يده باسطة وعطاء الله دونه مبذول فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها‏.‏
العتبي قال‏:‏ حدثنا طارق بن المبارك عن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة قال‏:‏ جاءت دولة المسودة وأنا حديث السن كثير العيال متفرق المال فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شعرت فيها فلما رأيت أمري لا يكتتم أتيت سليمان بن علي فاستأذنت عليه قرب المغرب فأذن لي وهو لا يعرفني فلما صرت إليه قلت‏:‏ أصلحك الله لفظتني البلاد إليك ودلني فضلك عليك فإما قبلتني غانماً وإما رددتني سالماً قال‏:‏ ومن أنت فانتسبت له فعرفني وقال‏:‏ مرحباً اقعد فتكلم غانماً قلت‏:‏ أصلحك الله إن الحرم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا وأولى الناس بهن بعدنا قد خفن بخوفنا ومن خاف خيف عليه قال‏:‏ فاعتمد سليمان على يديه وسالت دموعه على خديه ثم قال‏:‏ يا بن أخي يحقن الله دمك ويستر حرمك ويسلم مالك إن شاء الله ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت‏.‏
فلم أزل في جوار سليمان آمناً‏.‏
وكتب سليمان إلى أبي العباس أمير المؤمنين‏:‏ أما بعد يا أمير المؤمنين فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم ولم نحاربهم على أرحامهم وقد دفت إلي منهم دافة‏.‏
لم يشهروا سلاحاً ولم يكثروا جمعاً وقد أحسن الله إليك فأحسن فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أماناً ويأمر بإنفاذه إلي فليفعل‏.‏
فكتب لهم كتاباً منشوراً وأنفذه إلى سليمان بن علي في كل من لجأ إليه من بني أمية فكان ودخل عبد الملك بن صالح يوماً على الرشيد فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد فقال متمثلاً‏:‏ أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد ثم قال‏:‏ أما والله لكأني أنظر إلى شؤبؤبها قد همع وعارضها قد لمع وكأني بالوعيد قد وقع فأقلع عن براجم بلا معاصم وجماجم بلا غلاصم فمهلاً مهلاً فبي والله يسهل لكم الوعر‏.‏
ويصفو لكم الكدر وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمتها فالتدارك التدارك قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل‏.‏
قال عبد الملك‏:‏ أفذاً ما تكلمت أم توأماً يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بل فذاً قال اتق الله في ذي رحمك وفي رعيتك التي استرعاك الله ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب فقد محضت لك النصيحة وأديت لك الطاعة وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم وتركت عدوك سبيلاً تتعاوره الأقدام فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته إن الكتاب لنميمة واش وبغي باغ ينهش اللحم ويلغ في الدم فكم ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق فرجته وكنت كما قال الشاعر أخو بني كلاب‏:‏ ومقام ضيق فرجته بلساني ومقامي وجدل لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي وزجل والتفت الرشيد يوماً إلى عبد الملك بن صالح فقال‏:‏ أكفراً بالنعمة وغدراً بالإمام قال‏:‏ لقد بؤت إذاً بأعباء الندم وسعيت في استجلاب النقم وما ذلك يا أمير المؤمنين إلا بغي باغ نافسني فيك بقديم الولاية وحق القرابة يا أمير المؤمنين إنك خليفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمته وأمينه على رعيته لك عليها فرض الطاعة وأداة النصيحة ولها عليك التثبت في حادثها والعدل في حكمها‏.‏
فقال له هارون‏:‏ تضع لي من لسانك وترفع علي من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك فقال عبد الملك‏:‏ أحقاً يا قمامة قال‏:‏ نعم لقد أردت قتل أمير المؤمنين والغدر به فقال عبد الملك‏:‏ كيف لا يكذب علي من خلفي من بهتني في وجهي‏!‏ قال الرشيد‏:‏ هذا ابنك عبد الرحمن شاهد عليك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هو بين مأمور أو عاق فإن كان مأموراً معذور وإن كان عاقاً فما أخاف من عقوقه أكثر‏.‏
وقال له الرشيد يوماً وكان معتلاً عليه‏:‏ أتبقون بالرقة قال‏:‏ نعم ونبرغث قال له‏:‏ يا بن الفاعلة ما حملك على أن سألتك عن مسألة فرددت علي في مسألتين وأمر به إلى الحبس‏.‏
فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين‏.‏
إبراهيم بن السندي قال‏:‏ سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس وذكر الرشيد وفعله به فقال‏:‏ والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته ولا نصبت له ولا أردته ولو أردته لكان إلي أسرع من الماء إلى الحدور ومن النار إلى يبس العرفج وإني لمأخوذ بما لم أجن ومسؤول عما لم أعرف ولكن حين رآني للملك قميناً وللخلافة خطيراً ورأي لي يداً تنالها إذا مدت وتبلغها إذا بسطت ونفساً تكمل لخصالها وتستحقها بفعالها - وإن كنت لم أجن تلك الخصال ولم أصطنع تلك الفعال ولم أترشح لها في السر ولا أشرت إليها في الجهر - ورآها تجن حنين الوالدة الوالهة وتميل ميل الهلوك خاف أن ترغب إلى خير مرغب وتنزع إلى أخصب منزع وعاقبني عقاب من سهر في طلبها وجهد في التماسها فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي وأليق بها وتليق لي فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه وإن زعم أن لا صرف لعقابه ولا نجاة من عذابه إلا أن أخرج له من حد العلم والحلم والحزم فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحاً كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً وسواء علي أعاقبني على علمي وحلمي أم عاقبتني على نسبي وسني وسواء علي عاقبتني على جمالي أو عاقبتني على محبة الناس لي ولو أردتها لأعجلته عن التفكير وشغلته عن التدبير ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير‏.‏
إبراهيم بن السندي قال‏:‏ كنت أساير سعيد بن سلم حين قيل له‏:‏ إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحاك وأمر بأخذ ماله فارتاع بذلك وجزع فقيل له‏:‏ ما يروعك منه فوالله ما جعل الله بينكما نسباً ولا سبباً فقال‏:‏ بلى النعمة نسب بين أهلها والطاعة سبب مؤكد بين الأولياء‏.‏
وبعث بعض الملوك إلى رجل وجد عليه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أيها الأمير إن الغضب شيطان فاستعذ بالله منه وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيء فلا تضق عما وسع الرعية من حلمك وعفوك‏.‏ فعفا عنه وأطلق سبيله‏.‏
ولما اتهم قتيبة بن مسلم أبا مجلز على بعض الأمر قال‏:‏ أصلح الله الأمير تثبت فإن التثبت نصف العفو‏.‏
قال الحجاج لرجل دخل عليه‏:‏ أنت صاحب الكلمة قال‏:‏ أبوء بالذنب وأستغفر الرب وأسأل العافية قال‏:‏ قد عفونا عنك‏.‏
وأرسل بعض الملوك في رجل أراد عقوبته فلما مثل بين يديه قال‏:‏ أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك وهو على عقابك أقدر منك على عقابي إلا نظرت في أمري نظر من برئي أحب إليه من سقمي وبراءتي أحب إليه من جرمي‏.‏
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إن القدرة تذهب الحفيظة وأنت تجل عن العقوبة ونحن مقرون بالذنب فإن تعف عني فأهل ذلك أنت وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا‏.‏
وأمر معاوية بن أبي سفيان بعقوبة روح بن زنباع فقال‏:‏ أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تنقض مني مريرة أنت أبرمتها أو تشمت بي عدواً أنت وقمته إلا أتى حلمك وصفحك عن خطئي وجهلي فقال معاوية‏:‏ خليا عنه إذا أراد الله أمراً يسره‏.‏
وجد عبد الملك بن مروان على رجل فجفاه وأطرحه ثم دعا به ليسأله عن شيء فرآه شاحباً ناحلاً فقال له‏:‏ مذ متى اعتللت فقال‏:‏ ما مسني سقم ولكني جفوت نفسي إذ جفاني الأمير وآليت أن لا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين‏.‏
فأعاده إلى حسن رأيه‏.‏
وقعد الحسن بن سهل لنعيم بن حازم فأقبل إليه حافياً حاسراً وهو يقول‏:‏ ذنبي أعظم من السماء ذنبي أعظم من الأرض فقال الحسن‏:‏ على رسلك أيها الرجل لا بأس عليك قد تقدمت لك طاعة وحدثت لك توبة وليس للذنب بينهما موضع ولئن وجد موضعاً فما ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو‏.‏
أذنب رجل من بني هاشم ذنباً إلى المأمون فعاتبه فيه فقال يا أمير المؤمنين من حمل مثل دالتي ولبس ثوب حرمتي ومت بمثل قرابتي اغتفر له فوق زلتي قال‏:‏ صدقت يا بن عمي واعتذر رجل إلى المأمون من ذنب فقال‏:‏ إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها وكرمك موقوف عليها‏.‏
أخذه صريع الغواني فقال‏:‏ إن كان ذنبي قد أحاط بحرمتي فأحط بذنبي عفوك المأمولا دخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أبي جعفر المنصور بعدما كتب أمانه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن إمارتكم بكر ودولتكم جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تخف على قلوبهم طاعتكم وتسرع إلى أنفسهم محبتكم وما زلت مستبطئاً لهذه الدعوة‏.‏
فلما قام قال أبو جعفر‏:‏ عجباً من كل من يأمر بقتل هذا‏!‏ ثم قتله بعد ذلك غدراً‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ لما انهزم عبد الله بن علي من الشام قدم على المنصور وفد منهم فتكلموا عنده ثم قام الحارث فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا لسنا وفد مباهاة وإنما نحن وفد توبة ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا واستفزت حليمنا ونحن بما قدمنا معترفون ومما سلف منا معتذرون فإن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعف عنه فطالما أحسنت إلى من أساء منا فقال المنصور للحرسي‏:‏ هذا خطيبهم وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة‏.‏
قال أحمد بن أبي داود‏:‏ ما رأينا رجلاً نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل فإنه كان تغلب على شاطئ الفرات وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة ودخل عليه فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا بجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه وكان جسيماً وسيماً ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره فقال‏:‏ يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجة فأدل بها فقال‏:‏ أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول‏:‏ الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏.‏
يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة وتصدع الأفئدة ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك ثم أنشأ يقول‏:‏ أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيثما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ومن ذا الذي يدلى بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فكم من قائل‏:‏ لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت قال‏:‏ فتبسم المعتصم وقال‏:‏ كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل اذهب فقد غفرت لك الصبوة وتركتك للصبية‏.‏
وحكي أن أمير المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه‏:‏ إنه لو كان في صالح خدمتك وما تعرفناه من طاعتك وفاء يجب به الصفح عن ولدك ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى غيره ولكنه نكص على عقبيه وكفر بربه قال أبو عبيد الله‏:‏ رضانا عن أنفسنا وسخطنا عليها موصول برضاك وسخطك ونحن خدم نعمتك تثيبنا على الإحسان فنشكر وتعاقبنا على الإساءة فنصبر‏.‏
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما حج المنصور مر بالمدينة فقال للربيع الحاجب‏:‏ علي بن جعفر بن محمد قتلني الله إن لم أقتله فمطل به ثم ألح عليه فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه همس جعفر بشفتيه ثم تقرب وسلم فقال‏:‏ لا سلم الله عليك يا عدو الله تعمل علي الغوائل في ملكي قتلني الله إن لم أقتلك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سليمان صلى الله على محمد وعليه أعطى فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر وإن يوسف ظلم فغفر وأنت على إرث منهم وأحق من تأسى بهم‏.‏
فنكس أبو جعفر رأسه ملياً وجعفر واقف ثم رفع رأسه فقال‏:‏ إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة وذو الرحم الواشجة السليم الناحية القليل الغائلة ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله ثم قال‏:‏ يا ربيع عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه‏.‏
قال الربيع‏:‏ فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت بثوبه فقال‏:‏ ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا فقلت‏:‏ لا عليك هذه مني لا منه فقال‏:‏ هذه أيسر سل حاجتك فقلت له‏:‏ إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك ورأيتك إذ دخلت همست بشفتيك ثم رأيت الأمر انجلى عنك وأنا خادم سلطان ولا غنى لي عنه فأحب منك أن تعلمينه قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بحفظك الذي لا يرام ولا أهلك وأنت رجائي فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها شكري فلم تحرمني وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلن اللهم بك أدرأ في نحره وأستعيذ بخيرك من شره فإنك على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم‏.‏
كان يزيد بن راشد خطيباً وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد العزيز بن الوليد فنذر سليمان قطع لسانه‏.‏
فلما أفضت الخلافة إليه دخل عليه يزيد بن راشد فجلس على طرف البساط مفكراً ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين كن كنبي الله صلى الله عليه وسلم ابتلي فصبر وأعطي فشكر وقدر فغفر قال‏:‏ ومن أنت قال‏:‏ يزيد بن راشد‏.‏
فعفا عنه‏.‏
حبس الرشيد رجلاً فلما طال حبسه كتب إليه‏:‏ إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله والأمد قريب والحكم لله‏.‏
فأطلقه‏.‏
ومر أسد بن عبد الله القسري وهو والي خراسان بدار من دور الاستخراج ودهقان يعذب في حبسه وحول أسد مساكين يستجدونه فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم فقال الدهقان‏:‏ يا أسد إن كنت تعطى من يرحم فارحم من يظلم فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم يا أسد احذر من ليس له ناصر إلا الله واتق من لا جنة له إلا الابتهال إليه إن الظلم مصرعه وخيم ولا تغتر بإبطاء الغيثات من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب وقد أملى لقوم ليزدادوا إثماً‏.‏
فأمر أسد بالكف عنه‏.‏
عتب المأمون على رجل من خاصته فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة فقال‏:‏ صدقت ورضي عنه‏.‏
وكان ملك من ملوك فارس عظيم المملكة شديد النقمة وكان له صاحب مطبخ فلما قرب إليه طعامه صاحب المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه فزوى لها الملك وجهه وعلم صاحب المطبخ أنه قاتله فكفأ الصحفة على يديه فقال الملك‏:‏ علي به فلما أتاه قال له‏:‏ قد علمت أن سقوط النقطة أخطأت بها يدك فما عذرك في الثانية قال‏:‏ استحييت للملك أن يقتل مثلي في سني وقديم حرمتي في نقطة فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي فقال له الملك‏:‏ لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل ما هو بمنجيك من العقوبة اجلدوه مائة جلدة وخلوه‏.‏
الشيباني قال‏:‏ دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين محمد بن عبد الملك بين يديك ربيب دولتك وسليل نعمتك وغصن من أغصان دوحتك أتأذن لي في الكلام قال‏:‏ نعم قال‏:‏ نستمتع الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا وفي أثرك من آثارنا ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا هذا مقام العائد بفضلك الهارب إلى كنفك وظلك الفقير إلى رحمتك وعدلك ثم تكلم في حاجته فقضاها‏.‏
أذقني طعم النوم أو سل حقيقة علي فإن قامت ففصل بنانيا خلعت فاستطار فأصبحت ترامى به البيد القفار تراميا ولم يقل أحد في هذا المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر‏:‏ أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع أكلفتني ذنب امرئ وتركته كذي العر يكوى غيره وهو راتع فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقال فيه أيضاً‏:‏ ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني جناية لمبلغك الواشي أغش وأكذب ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فهبني امرأ إما بريئاً علمته وإما مسيئاً تاب منه وأعتبا وكنت كذي داء يبغي لدائه طبيباً فلما لم يجده تطببا وقال الممزق لعمرو بن هند‏:‏ تروح وتغدو ما يحل وضينها إليك ابن ماء المزن وابن محرق أحقاً أبيت اللعن أن ابن مزننا على غير إجرام بريقي مشرقي فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فادركني ولما أمزق فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ومهما تضع من باطل لا يحقق وتمثل بهذه الأبيات عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار‏.‏
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات لما أحس بالموت وهو في حبس المتوكل برقعة إلى المتوكل فيها‏:‏ هي السبيل فمن يوم إلى يوم كأنه ما تريك العين في النوم لا تعجلن رويداً إنما دول دنيا تنقل من قوم إلى قوم إن المنايا وإن أصبحت ذا فرح تحوم حولك حوماً أيما حوم وقال عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة للمنصور وقد أراد عقوبة رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الانتقام عدل والتجاوز فضل والمتفضل قد جاوز حد المنصف ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه أوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين‏.‏
جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين قائد من قواده يقال له شهرام كلام فقال له قائده كلمة فيها بعض الغلظ ثم ندم على ما كان منه فجعل يتضرع ويتنصل إليه فقال له أبو مسلم‏:‏ لا عليك لسان سبق ووهم أخطأ وإنما الغضب شيطان وأنا جرأتك علي بطول احتمالي منك فإن كنت للذنب متعمداً فقد شاركتك فيه وإن كنت مغلوباً فإن العذر يسعك وقد عفونا على كل حال‏.‏
فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إن عفو مثلك لا يكون غروراً قال‏:‏ أجل قال‏:‏ فإن عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن وألح في الاعتذار فقال له أبو مسلم‏:‏ عجباً لك إنك أسأت فأحسنت فلما أحسنت أأسيء‏!‏ دخل أبو دلف على المأمون وقد كان عتب عليه ثم أقاله فقال له وقد خلا مجلسه‏:‏ قل أبا دلف وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ ليالي تدنو منك بالبشر مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يقطر قال المأمون‏:‏ لك بها رجوعك إلى المناصحة وإقبالك على الطاعة ثم عاد له إلى ما كان عليه‏.‏
وقال له المأمون يوماً‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إني امرؤ كسروي الفعال أصيف الجبال وأشتوا العرافا ما أراك قدمت لحق طاعة ولا قضيت واجب حرمة قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما هي نعمتك ونحن فيها خدمك وما هراقة دمي في طاعتك إلا بعض ما يجب لك‏.‏
ودخل أبو دلف على المأمون فقال‏:‏ أنت الذي يقول فيك ابن جبلة‏:‏ إنما الدنيا أبو دلف بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين شهادة زور وكذب شاعر وملق مستجد وليكن الذي يقول فيه ابن أخيه‏:‏ ذريني أجوب الأرض في طلب الغنى فما الكرج بالدنيا ولا الناس قاسم الكرج‏:‏ منزل أبي دلف وكان اسمه القاسم بن عيسى‏.‏
وقال المنصور وجعل لمعن بن زائدة‏:‏ ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقاً قال‏:‏ كيف ذلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بلغني عنك أنك أعطيت شاعراً لبيت قاله ألف دينار وأنشده البيت وهو‏:‏ معن بن زائدة الذي زيدت به فخراً إلى فخر بنو شيبان قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين قد أعطيته ألف دينار ليس على هذا البيت ولكن على قوله‏:‏ ما زلت يوم الهاشمية معلماً بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقاءه من وقع كل مهند وسنان قال‏:‏ فاستحيا المنصور وجعل ينكت بالمخصرة ثم رفع رأسه وقال‏:‏ اجلس أبا الوليد‏.‏
أتي عبد الملك بن مروان بأعرابي سرق فأمر بقطع يده فأنشأ يقول‏:‏ يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها ولا خير في الدنيا وكانت حبيبة إذا ما شمالي فارقتها يمينها فأبى إلا قطعه فقالت أمه‏:‏ يا أمير المؤمنين واحدي وكاسبي قال‏:‏ بئس الكاسب كان لك وهذا حد من حدود الله قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها فعفا عنه‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:06 AM

تذكير الملوك بذمام متقدم
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة‏:‏ إنه كان لي أملان‏:‏ أمل لك وأمل بك فأما أملي لك فقد بلغته وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه قال‏:‏ يكون أفضل ما رجوت وأملت فجعله من سماره وخاصته‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي فقال له‏:‏ يا أبرش ما منعك أن تسجد كما سجدوا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا وتركتنا قال‏:‏ فإن ذهبت بك معي قال‏:‏ أو تفعل يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فالآن طاب السجود ثم سجد‏.‏
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه‏:‏ إنا بطانتك الألى كنا نكابد ما نكابد ونرى فنعرف بالعدا وة والبعاد لمن نباعد ونبيت من شفق علي ك ربيئة والليل هاجد هذا أوان وفاء ما سبقت به منك المواعد وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى‏:‏ وإن أولى الموالي أن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان ولى عثمان بن حيان المري وأمره بالغلظة على أهل الظنة فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها فقال له قائل‏:‏ هذا العباس بن سهل على ما فيه كان مع ابن الزبير وعمل له فقال عثمان بن حيان‏:‏ ويلي عليه والله لأقتلنه قال العباس‏:‏ فبلغني ذلك فتغيبت حتى أضر بي التغيب فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم‏:‏ ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته‏.‏
قال‏:‏ ففعلت وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها وهو يطوف في حاشيته يتفقد مصالحها يسحب أردية الخز حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده قال‏:‏ هيه أنت رأيت ذلك قلت‏:‏ أجل والله قال لي‏:‏ ومن أنت قلت‏:‏ وأنا آمن قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ العباس بن سهل بن سعد الأنصاري قال‏:‏ مرحباً وأهلاً أهل الشرف والحق‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده‏.‏
فقيل له بعد ذلك‏:‏ أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ حدثنا أبو عبيدة قال‏:‏ أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع فقدم في الأسرى إلى المختار فقال سراقة‏:‏ امنن علي اليوم يا خير معد وخير من لبى وصلى وسجد فعفا عنه المختار وخلى سبيله‏.‏
ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً فقال له‏:‏ ألم أعف عنك وأمنن عليك أما والله لأقتلنك قال‏:‏ لا والله لا تفعل إن شاء الله قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك ثم أنشده‏:‏ خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً وكان خروجنا بطراً وحينا تراهم في مصفهم قليلاً وهم مثل الدبى لما التقينا فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏
ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتي به المختار فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله هذه ثالثة فقال سراقة‏:‏ أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني فأين هم لا أراهم إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض فقال المختار‏:‏ خلوا سبيله ليخبر الناس‏.‏
ثم دعا لقتاله فقال‏:‏ ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهماً مصمتات أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً علي قتالكم حتى الممات كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى فلما سقوا قال‏:‏ يا معن أتقتل ضيفانك فأمر معن بإطلاقهم‏.‏
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام فأبى عليه فأمر بقتله فلما عرض عليه السيف قال‏:‏ لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال‏:‏ أنا آمن حتى أشرب قال‏:‏ نعم‏.‏
فألقى الإناء من يده وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج قال‏:‏ لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال له عمر‏:‏ ويحك‏!‏ أسلمت خير إسلام فما أخبرك قال‏:‏ خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت فقال عمر‏:‏ إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك‏.‏
ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه‏.‏
لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم فقال رجل‏:‏ أصلح الله الأمير إن لي حرمة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك فعرضت دونهما فقلت‏:‏ لا والله ما في نسبه مطعن فقولوا فيه ودعوا نسبه قال‏:‏ ومن يعلم ما ذكرت فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي فقلت‏:‏ هذا يعمله قال له الحجاج‏:‏ ما تقول فيما يقول قال‏:‏ صدق أصلح الله الأمير وبر‏.‏
قال‏:‏ خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته‏.‏
عمرو بن بحر الجاحظ قال‏:‏ أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله فقال‏:‏ أصلح الله الأمير لي عندك يد بيضاء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل فلم يتحفز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه ولولا محض كرمك وشرف قدرك ونباهة أوليتك ما ذكرتك هذه عند مثل هذا قال ابن حاتم‏:‏ صدق وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمنه إياها‏.‏
ولما ظفر المأمون بأبي دلف وكان يقطع في الجبال أمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين قال‏:‏ افعل‏.‏
فركع وحبر أبياتاً ثم وقف بين يديه فقال‏:‏ بع بي الناس فإني خلف ممن تبيع واتخذني لك درعاً قلصت عنه الدروع وارم بي كل عدو فأنا السهم السريع فأطلقه وولاه تلك الناحية فأصلحها‏.‏
أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك قال‏:‏ لا تقل يا معاوية فإنها مصيبة قال‏:‏ وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة اضرب عنقه يا غلام فقال الأسير‏:‏ اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله قال له‏:‏ ويحك‏!‏ لقد سببت فأبلغت وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه فقال‏:‏ أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول‏:‏ أي رب سل هذا فيم قتلني قال‏:‏ أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض أعطوه مائة ألف قال الأسير‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏
أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء‏.‏
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء أمر عبد الملك بقتل رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله فعفا عنه‏.‏
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال‏:‏ والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال‏:‏ أف لهذه الجيف ما كان فيهم من يقول مثل هذا‏!‏ وأمسك عن القتل‏.‏
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم فقال له رجل منهم‏:‏ لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏"‏‏.‏
فهذا قول الله في كتابه‏.‏
وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق‏:‏ وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج‏:‏ ويحكم‏!‏ أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق‏!‏ وأمسك عمن بقي‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ أتي الحجاج بحرورية فقال لأصحابه‏:‏ ما تقولون في هذه قالوا‏:‏ اقتلها أصلح الله الأمير ونكل بها غيرها‏.‏
فتبسمت الحرورية فقال لها‏:‏ لم تبسمت فقالت‏:‏ لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج استشارهم في قتل موسى فقالوا‏:‏ أرجه وأخاه وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها‏.‏
وقال معاوية ليونس الثقفي‏:‏ اتق الله لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها قال‏:‏ أليس بي وبك المرجع إلى الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاستغفر الله‏.‏
ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيرياً فقال له عبد الملك‏:‏ أليس الله قد ردك على عقبيك قال‏:‏ ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ‏.‏
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فقال له سليمان‏:‏ على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك فضعه من النار حيث شئت‏.‏
وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد‏:‏ ما تقول في وفي الحسين قال‏:‏ أعفني عافاك الله قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك قال‏:‏ قد علمت غشك وخبثك لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك فقال له ابن يعمر‏:‏ وإن جئت بالمخرج فأنا آمن قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وعيسى ‏"‏‏.‏
فمن أقرب‏:‏ عيسى من إبراهيم وما هو ابن بنته أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الحجاج‏:‏ والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط وولاه قضاء بلده فلم يزل بها قاضياً حتى مات‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج فقال لجلسائه‏:‏ إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم يعني عبد الرحمن فقال عبد الرحمن‏:‏ معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏‏.‏
فكان عثمان منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
فكان أبي منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ‏"‏‏.‏
فكنت أنا منهم‏.‏
فقال‏:‏ صدقت‏.‏ أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال‏:‏ بعث إلي الحجاج فقال لي‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي قال‏:‏ متى هبطت هذا البلد قلت‏:‏ حين هبط أهله قال‏:‏ ما تقرأ من القرآن قلت‏:‏ أقرأ منه ما لو تبعته كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك في عملي قلت‏:‏ إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تدعني فهو أحب إلي وإن تقحمني أتقحم قال‏:‏ إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح هذا ولست لك على عمل قال‏:‏ هيه كيف قلت فأعدت عليه فقال‏:‏ إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني قال‏:‏ فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر فقال‏:‏ أرشدوا الشيخ‏.‏
لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشخمير وسعيد بن جبير وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه فقال الحجاج للشعبي‏:‏ وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر فقال‏:‏ أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأحزن بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال‏:‏ لله أبوك لقد صدقت ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ‏.‏
ثم قال لمطرف‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ أصلح الله الأمير إن من شق العصا وسفك الدماء ونكث البيعة وفارق الجماعة وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فخلى سبيله‏.‏
ثم قال لسعيد بن جبير‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ ما كفرت منذ آمنت بالله فضرب عنقه ثم استعرض الأسرى فمن أقر بالكفر خلى سبيله ومن أبى قتله حتى أتي بشيخ وشاب فقال للشاب‏:‏ أكافر أنت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكفر فقال له الشيخ‏:‏ أعن نفسي تخادعني يا حجاج والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته فضحك الحجاج وخلى سبيله‏.‏
فلما مات الحجاج وقام سليمان قال الفرزدق‏:‏ لئن نفر الحجاج آل معتب لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وموتاهم في النار كلحا سبالها وكانوا يرون الدائرات بغيرهم فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصين أورمت به الهند ألواح عليها جلالها هلم إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أهل العراق خبالها لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن‏:‏ اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء ووكل به من ينخس به ففعل ذلك فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح فتركه حتى ارتد إليه روحه ثم قال له‏:‏ أنت أهل لما نزل بك ألست القائل في الوليد‏:‏ وقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا قلت وإنما قلت‏:‏ معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك ثم أمر له بصلة وخلى سبيله‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض قال المهدي‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا شريك بلغني أنك فاطمي قال له شريك‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى قال‏:‏ ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ أفتلعنها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ معاذ الله فماذا تقول فيما يلعنها قال‏:‏ عليه لعنة الله قال‏:‏ فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها فعليه لعنة الله قال الربيع‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها قال له شريك‏:‏ يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال قال المهدي‏:‏ دعني من هذا فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي وما ذلك إلا بخلافك علي ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً قال شريك‏:‏ إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه وإن الدماء لا تستحل بالأحلام وإن علامة الزندقة بينة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي قال‏:‏ صدقت والله أبا عبد الله أنت والله خير من الذي حملني عليك‏.‏
ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع‏:‏ خنت مال الله ومال أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كان ذلك لأتاك سهمك‏.‏
العتبي قال‏:‏ دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط‏:‏ بنيتها في غير بلدك وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم‏.‏
فقال له جامع‏:‏ أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك‏.‏
قال الحجاج‏:‏ ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف قال‏:‏ أيها الأمير إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج‏:‏ الخيار يومئذ لله قال‏:‏ أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فغضب وقال‏:‏ يا هناه إنك من محارب فقال جامع‏:‏ فقال الحجاج‏:‏ والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك قال جامع‏:‏ إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال‏:‏ أجل وسكن‏.‏
وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وقالوا له‏:‏ ما عندك دفع الله عنك قال‏:‏ ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم‏.‏
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام واستجار بزفر بن الحارث فأجاره‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده بالتشيع فأمر بطلبه فهرب منه ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة فهرب منه ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أتي بالرجلين قال‏:‏ أي الرجلين قيل‏:‏ أنس بن أبي شيخ ومسلم ابن الوليد فقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بهما يا غلام أحضرهما‏.‏
فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد أنس الهوى ببني علي في الحشا وأراه يطمح عن بني العباس قال‏:‏ بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين‏:‏ أنس الهوى ببني العمومة في الحشا مستوحشاً من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم أولى بذلك يا بني العباس قال‏:‏ فعجب هارون من سرعة بديهته وقال له بعض جلسائه‏:‏ استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس وامتحنه فسترى منه عجباً فقال له‏:‏ قل شيئاً في أنس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أفرخ روعي أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك فإني لم أدخل على خليفة قط ثم أنشأ يقول‏:‏ تلمظ السيف من شوق إلى أنس فالموت يلحظ والأقدار تنتظر فليس يبلغ منه ما يؤمله حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت عند قدرته وليس للموت عفو حين يقتدر قال‏:‏ فأجلسه هارون وراء ظهره لئلا يرى ما هم به حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له‏:‏ أنشدني أشعر شعر لك فكلما فرغ من قصيدة قال له‏:‏ التي تقول فيها الوحل فإني رويتها وأنا صغير فأنشده شعره الذي أوله‏:‏ أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي إذا ما علت منا ذؤابة شارب تمشت به مشي المقيد في الوحل فضحك هارون وقال‏:‏ ويحك يا مسلم‏!‏ أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله‏.‏
قال كسرى ليوشت المغني‏:‏ وقد قتل الفهليذ تلميذه كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك وأذهبت أنت الشطر الآخر‏:‏ أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك قال كسرى‏:‏ دعوه فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة‏.‏
يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال‏:‏ دخلت يوماً على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيظ متربد فندمت على دخولي عليه وقد كنت أفهم غضبه في وجهه فسلمت فلم يرد فقلت‏:‏ داهية نآد ثم أومأ إلي فجلست‏.‏
فالتفت إلي وقال‏:‏ لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلقد نطق بالحكمة حيث يقول‏:‏ يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي أقصر فإنك من قوم أرومتهم في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه لقد عجبت لقوم لا أصول لهم أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي ما نالني من غنى يوماً ولا عدم إلا وقولي عليه الحمد لله فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه قال‏:‏ لعله من بني أبيك وأمك‏.‏
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته أما بعد‏:‏ قف بالديار وقوف زائر وتأن إنك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله‏:‏ يا مسلم بن أبي الولي د لميت إن شئت ناشر غلقت حبالي من حبا لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة‏:‏ سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له‏:‏ هذا الكميت بن زيد‏.‏
فأعجب لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه‏.‏
فقال الكميت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته - الحمد لله - قال هشام‏:‏ نعم الحمد لله يا هذا - قال الكميت‏:‏ مبتدئ الحمد ومبتدعه والذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته وجعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقيناً وأبصر مستبيناً وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هبوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة إدلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة حائداً عن الحق قائلاً بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمي‏.‏
ثم يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه‏.‏
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت‏:‏ ويحك‏!‏ من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال‏:‏ الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا حمرت الحدث وعضت المغافر بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف بصير بالأعداء مغزي الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء‏.‏
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض فقال‏:‏ أيها الأمير إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك‏.‏
فأمر به إلى الحبس فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به فأجاره واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه‏.‏
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة فقال له‏:‏ إباق العبد أبقت قال له‏:‏ حين نمت نومة الأمة‏.‏
فقال الفرزدق في ذلك‏:‏ لما رأيت الأرض قد سد ظهرها فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة وما سار سار مثلها حين أدلجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة سوى حثك التقريب من آل أعوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه فقال متمثلاً‏:‏ من يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم قال لهم‏:‏ ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي ومثل هذا قول القطامي‏:‏ والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل عبد الله بن سوار قال‏:‏ قال لي ربيع الحاجب‏:‏ أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه فقال‏:‏ حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة قال‏:‏ كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق‏:‏ أنا بالله وبالأمير فقال مسلمة‏:‏ صوت ابن هبيرة اخرج إليه‏.‏
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته فقال‏:‏ أدخله فدخل فإذا رجل يميد نعاساً فقال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله ثم قال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله حتى قالها ثلاثاً ثم قال‏:‏ أنا بالله فسكت عنه ثم قال لي‏:‏ انطلق به فوضئه ولصصل ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام‏.‏
فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام فقال‏:‏ شربة سويق فشرب وفرشت له فنام وجئت إلى مسلمة فأعلمته فغدا إلى هشام فجلس عنده حتى إذا حان قيامه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لي حاجة قال‏:‏ قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة قال‏:‏ رضيت يا أمير المؤمنين ثم قام منصرفاً حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء قال‏:‏ لا بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ فأحضره‏.‏
فلما وقف بين يديه جعل يتكلم فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً فقال هشام بن عبد الملك‏:‏ ويحك‏!‏ تكلم بحاجتك‏.‏



فضيلة العفو والترغيب فيه
كان للمأمون خادم وهو صاحب وضوئه فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده فاغتاظ المأمون عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد كظمت غيظي عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والعافين عن الناس ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد عفوت عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ اذهب فأنت حر‏.‏
أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل فقال له رجاء بن حيوة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد فعل ما تحب من الظفر فافعل ما يحبه من العفو‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏:‏ إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعف يعف الله عنك‏.‏
دخل ابن خريم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشاً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن الذنب والتجاوز عن المسيء فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف‏.‏
أمر المهدي بضرب عنق رجل فقام إليه ابن السماك فقال‏:‏ إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق قال‏:‏ فما يجب عليه قال‏:‏ تعفو عنه فإن كان من أجر كان لك دوني وإن كان وزر كان علي دونك‏.‏
فخلى سبيله‏.‏
كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال‏:‏ إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم‏.‏
العتبي قال‏:‏ وقعت دماء بين حيين من قريش فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه فقال‏:‏ ما معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق قال‏:‏ نعم العفو فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب‏:‏ ما ظلم أحد ظلمك ولا نصر نصرك فهل لك في الثالثة نقلها قال‏:‏ وما هي قال ولا عفا عفوك‏.‏
وقال المبارك بن فضالة‏:‏ كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط إذ أمر برجل أن يقتل فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله‏:‏ ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب‏.‏
فأمر بإطلاقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ‏"‏ وتقول العرب في أمثالها‏:‏ ملكت فأسجح وارحم ترحم وكما تدين تدان ومن بر يوماً بر به‏.‏
بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد وعليه كساء غليظ وخفان جاسيان فسلم وجلس فلم يعرفه الوليد فقال لخادم بين يديه‏:‏ سل هذا الشيخ من هو‏.‏
فسأله فقال له‏:‏ اعزب فعاد إلى الوليد فأخبره فقال‏:‏ عد إليه واسأله فعاد إليه فقال له مثل ذلك‏.‏
فضحك الوليد وقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ نافع بن جبير بن مطعم‏.‏
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله ألا أوصي بك الأمير زياداً قال‏:‏ يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت‏.‏
وقال معاوية لعمرو بن سعيد‏:‏ إلى من أوصى بك أبوك قال‏:‏ إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال وبما أوصى إليك قال‏:‏ أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه‏.‏
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان‏:‏ ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك قال‏:‏ وإني لفي كنانتك‏!‏ أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها‏.‏
وقال يزيد بن المهلب‏:‏ ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق هجاني ملكاً ومدحني سوقة‏.‏
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً فقال له‏:‏ والله ما أحسنت فأحمدك ولا أسأت فألومك وإنك لأقرب البعداء وأحب البغضاء‏.‏
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل‏:‏ والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً أن لا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد‏.‏
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري‏.‏
وكان أعرابياً يسكن البادية وكان تصهر إليه الخلفاء وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له‏:‏ جنبني هجناء ولدك‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة‏.‏
فبلغ ذلك عقيل بن علفة فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام‏:‏ بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة فقلت‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين ثم انصرف‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف فقال له رجل من بني مرة‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه نحن والله ألأم الطرفين‏.‏
أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري قال‏:‏ كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول‏:‏ فرقت إني رجل فروق بضحكة آخرها شهيق وقال عقيل‏:‏ إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر وقال الأصمعي‏:‏ كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً وكان يصهر إليه الخلفاء وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه‏.‏
قال‏:‏ فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل‏:‏ قضت وطراً من دير سعد وطالماً على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه‏:‏ يا عملس أجز فقال‏:‏ ثم قال لابنته‏:‏ يا جرباء أجيزي فقالت‏:‏ كأن الكرى سقاهم صرخدية عقاراً تمشى في المطا والقوائم قال‏:‏ وما يدريك أنت ما نعت الخمر‏!‏ فأخذ السيف وهوى نحوها فاستعانت بأخيها عملس فحال بينه وبينها‏.‏
قال‏:‏ فأراد أن يضربه‏.‏
قال‏:‏ فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب قالوا لهم‏:‏ إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء فإذا عقيل بارك وهو يقول‏:‏ إن بني زملوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة‏:‏ الطبيعة وأخزم‏:‏ فحل معروف وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم‏.‏
فكتبوا إليه‏:‏ العبد تبع كم يروم قتالنا ومكانه بالمنزل المتذلل إنا أناس لا ينام بأرضنا عض الرسول ببظر أم المرسل فغزاهم تبع أبو كرب فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً فتذمم من قتالهم ورحل عنهم‏.‏
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ من أنت وتجهم له كأنه لا يعرفه‏:‏ فقال له الفرزدق‏:‏ وما تعرفني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا من قوم منهم أوفى العرب أسود العرب وأجود العرب وأحلم العرب وأفرس العرب وأشعر العرب‏:‏ قال‏:‏ والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها‏:‏ وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر وأما أحلم العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السعدي أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره وقال‏:‏ ارجع على عقبيك فما لك عندنا شيء من خير‏.‏
فرجع الفرزدق وقال‏:‏ أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك ولا من قلة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر‏:‏ بنو دارم قومي ترى حجزاتهم عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها وقال الأحوص في الفخر وهو أفخر بيت قالته العرب‏:‏ ما من مصيبة نكبة أرمى بها ألا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقال أبو عبيدة‏:‏ اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بردي محرق وقال‏:‏ ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر فقال له النعمان‏:‏ بم أنت أعز العرب قال‏:‏ العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس‏.‏
ثم قال النعمان‏:‏ هذه حالك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك قال‏:‏ أنا أبو عشرة وخال عشرة وعم عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض ثم قال‏:‏ من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل‏.‏
فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين‏.‏
ففيه يقول الفرزدق‏:‏ فما ثم في سعد ولا آل مالك غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية‏.‏
ومنهم بنو صفوان الذين ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ولا تغيب إلا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى‏:‏ ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول‏:‏ من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها‏:‏ أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار‏.‏
وممن شرفت نفسه وبعدت همته‏:‏ طاهر بن الحسين الخراساني وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة وخاف المأمون أن يغدر به امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً لأنه كان مولى خزاعة ويقال إنه خزاعي‏:‏ أيسومني المأمون خطة عاجز أوما رأى بالأمس رأس محمد توفي على روس الخلائق مثل ما توفي الجبال على رؤوس القردد إني من القوم الذين هم هم قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد وقال طاهر بن الحسين‏:‏ غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت وأعتبتها مني بإحدى المتالف قتلت أمير المؤمنين وإنما بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى كأني فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أم رأس فتكة فإما لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة‏:‏ عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر إذا أنت منا لم تعلق بكانف فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا كثول تهادى الموت عند التزاحف ستعلم ما تجني عليك وما جنت يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر‏:‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول أقصري عما لهجت به ففراغي عنك مشغول سائلي عمن تسائلني قد يرد الخير مسئول أنا من تعرف نسبته سلفي الغر بالبهاليل سل بهم تنبيك نجدتهم مشرفيات مصاقيل كل عضب مشرب علقا وغرار الحد مفلول مصعب جدي نقيب بني هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم بعده الحق مقبول وأبي من لا كفاء له من يسامي مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت رأيه القوم المحاصيل حل منهم بالذرى شرفاً دونه عز وتبجيل نفصح الأنباء عنه إذا أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا حوله الجرد الأبابيل وهبوا لله أنفسهم لا معازيل ولا ميل ملك تجتاح صولته ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه وهو مرهوب ومأمول وتره يسعى إليه به ودم يجنيه مطلول فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة وكان من أصحابه وآثرهم عنده ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله‏:‏ من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة‏:‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة لا يخون العهد متبول حملتني كل لائمة كل ما حملت محمول واحكمي ما شئت واحتكمي فحرامي لك تحليل وبدت يوم الوداع لنا غادة كالشمس عطبول تتعاطى شد مئزرها ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع وجناح البين مشكول ثم ولت كي تودعنا كحلها بالدمع مغسول أيها البادي بطيته ما لأغلاطك تحصيل قد تأولت على جهة ولنا ويحك تأويل إن دليلاك يوم غدا بك في الحين لضليل قاتل المخلوع مقتول ودم القاتل مطلول قد يخون الرمح عامله وسنان الرمح مصقول وينال الوتر طالبه بعد ما تسلو المثاكيل بأخي المخلوع طلت يداً لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت جالت الخيل الأبابيل إن خير القول أصدقه حين تصطك الأقاويل مراسلات الملوك العتبي عن أبيه قال‏:‏ أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏
فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏
فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏
زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال‏:‏ كتب قيصر إلى معاوية‏:‏ أخبرني عما لا قبلة له وعمن لا أب له وعمن لا عشيرة له وعمن سار به قبره وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم وعن شيء ونصف شيء ولا شيء وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ أما مالا قبلة قبله له فالكعبة وأما من لا أب له فعيسى وأما من لا عشيرة له فآدم وأما من سار به قبره فيونس وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم‏:‏ فكبش إبراهيم وناقة ثمود وحية موسى وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله وأما نصف شيء فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره وملأ القارورة ماء وقال‏:‏ هذا بزر كل شيء‏:‏ فبعث به إلى معاوية فبعث به معاوية إلى قيصر‏.‏
فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة‏.‏
نعيم بن حماد قال‏:‏ بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه‏:‏ من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته ابنه ألف ملك والذي مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية ولكنها تحية وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام والسلام يعني الهدية الكتاب‏.‏
الرياشي قال‏:‏ لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم‏:‏ إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك وإن كان خطأ فما عذرك فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏‏.‏
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف‏.‏
فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول ففعل فقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة‏.‏
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم فلما قرأه قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من كلام النبوة‏.‏
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم‏:‏ ما جئتم به قالوا‏:‏ هذه أشرف كسوة بلدنا فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله فصلب الرسل على وجوههم وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم ثم قال لهم الحاجب‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا له‏:‏ هذه سيوف قلعية لا نظير لها‏.‏
فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقط الفجل من غير أن تنثني له شفرة ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه فصلب القوم على وجوههم ثم قيل لهم‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا‏:‏ هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته فقال لهم هارون‏:‏ فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم‏:‏ فلما نظروا إليه هالهم وقالوا‏:‏ فنرسلها عليه وكانت الأكلب ثلاثة فأرسلت عليه فمزقته فأعجب بها هارون وقال لهم‏:‏ تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا قال لهم‏:‏ ما كنا لنبخل عليكم ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف قال‏:‏ لا سبيل إليه ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم‏.‏
أبو جعفر البغدادي قال‏:‏ لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمه وأعطاه سم ساعة ووعده على ذلك بأموال كثيرة‏.‏
فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏
فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏
فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏
فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏
فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏
وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏
والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏
والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏
قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏
وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏
فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏
وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏
وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏ عِلم الأبدان وعِلم الأديان‏.‏
وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏
وقال أبو يوسُف القاضي‏:‏ ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة‏:‏ مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة ومَن طلب ‏"‏ المالَ ‏"‏ بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب‏.‏
وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏ وما من كاتب إلا ستبقى كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه فلا تكتب بكفِّك غير شيء يَسرّك في القِيامة أن تَراه وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏
وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ‏:‏ كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا لو قد نبذتَ به إليك لسركا ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا الحض على طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏.‏
وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج‏.‏
وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏
وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏
وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏
وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى ‏"‏ لبنيه ‏"‏‏:‏ يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار ‏"‏ قوم ‏"‏ لا يُحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏
وقال ملك الْهِند لولده وكان له أربعون ولداً‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏
وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والورَّاق للعلم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ وقال ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ ‏"‏ مِن ‏"‏ قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏
وقال رُؤْبة بن العجَّاج‏:‏ قال لي النسِّابة البَكْري‏:‏ يا رُؤبة لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني قلتُ‏:‏ إني أرجو أن لا أكون كذلك‏.‏
قال‏:‏ فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته قلت‏:‏ تُخبرني قال‏:‏ آفتُه النسيان ونَكَده الكذب وهُجْنته نشره عند غير أهله‏.‏
وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏
وقال‏:‏ ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً‏.‏
وقال رجل لأبي هُريرة‏:‏ أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال‏:‏ كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له‏.‏
وقال عبد اللهّ بن مسعود‏:‏ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم‏.‏
وأخذه الشاعر فقال‏:‏ تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ ولآخر‏:‏ ولآخر‏:‏ ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما وقال آخر‏.‏
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر وقال بعضً الحكماء‏:‏ اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك وأخفُّ على قَلبك فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:11 AM

تذكير الملوك بذمام متقدم
قال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة‏:‏ إنه كان لي أملان‏:‏ أمل لك وأمل بك فأما أملي لك فقد بلغته وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه قال‏:‏ يكون أفضل ما رجوت وأملت فجعله من سماره وخاصته‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لما مات يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك خر أصحابه سجوداً إلا الأبرش الكلبي فقال له‏:‏ يا أبرش ما منعك أن تسجد كما سجدوا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لأنك ذهبت عنا وتركتنا قال‏:‏ فإن ذهبت بك معي قال‏:‏ أو تفعل يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فالآن طاب السجود ثم سجد‏.‏
ولما صارت الخلافة إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه‏:‏ إنا بطانتك الألى كنا نكابد ما نكابد ونرى فنعرف بالعدا وة والبعاد لمن نباعد ونبيت من شفق علي ك ربيئة والليل هاجد هذا أوان وفاء ما سبقت به منك المواعد وقال حبيب الشاعر في هذا المعنى‏:‏ وإن أولى الموالي أن تواسيه عند السرور لمن واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن حسن التخلص من السلطان أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير فلما بايع الناس عبد الملك بن مروان ولى عثمان بن حيان المري وأمره بالغلظة على أهل الظنة فعرض يوماً بذكر الفتنة وأهلها فقال له قائل‏:‏ هذا العباس بن سهل على ما فيه كان مع ابن الزبير وعمل له فقال عثمان بن حيان‏:‏ ويلي عليه والله لأقتلنه قال العباس‏:‏ فبلغني ذلك فتغيبت حتى أضر بي التغيب فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم‏:‏ ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن مروان فقالوا‏:‏ والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا انبسط فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته‏.‏
قال‏:‏ ففعلت وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة ضخمة ذات ثريد ولحم‏:‏ والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون عليها وهو يطوف في حاشيته يتفقد مصالحها يسحب أردية الخز حتى إن الحسك ليتعلق به فما يميطه ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه فيأتي الحاضر من أهله بالدنو والطارئ من أشراف قومه وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام وما هو إلا الفخر بالدنو من مائدته والمشاركة ليده قال‏:‏ هيه أنت رأيت ذلك قلت‏:‏ أجل والله قال لي‏:‏ ومن أنت قلت‏:‏ وأنا آمن قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ العباس بن سهل بن سعد الأنصاري قال‏:‏ مرحباً وأهلاً أهل الشرف والحق‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده‏.‏
فقيل له بعد ذلك‏:‏ أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية فلقد جعلنا نذوده عن رحلنا مخافة أن يسرقه‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ حدثنا أبو عبيدة قال‏:‏ أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع فقدم في الأسرى إلى المختار فقال سراقة‏:‏ امنن علي اليوم يا خير معد وخير من لبى وصلى وسجد فعفا عنه المختار وخلى سبيله‏.‏
ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً فقال له‏:‏ ألم أعف عنك وأمنن عليك أما والله لأقتلنك قال‏:‏ لا والله لا تفعل إن شاء الله قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك ثم أنشده‏:‏ خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً وكان خروجنا بطراً وحينا تراهم في مصفهم قليلاً وهم مثل الدبى لما التقينا فأسجح إذا قدرت فلو قدرنا لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني سأشكر إن جعلت النقد دينا قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏
ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتي به المختار فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله هذه ثالثة فقال سراقة‏:‏ أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني فأين هم لا أراهم إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض فقال المختار‏:‏ خلوا سبيله ليخبر الناس‏.‏
ثم دعا لقتاله فقال‏:‏ ألا أبلغ أبا إسحاق أني رأيت البلق دهماً مصمتات أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً علي قتالكم حتى الممات كان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى فلما سقوا قال‏:‏ يا معن أتقتل ضيفانك فأمر معن بإطلاقهم‏.‏
لما أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام فأبى عليه فأمر بقتله فلما عرض عليه السيف قال‏:‏ لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال‏:‏ أنا آمن حتى أشرب قال‏:‏ نعم‏.‏
فألقى الإناء من يده وقال‏:‏ الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج قال‏:‏ لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف فلما رفع عنه قال‏:‏ الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال له عمر‏:‏ ويحك‏!‏ أسلمت خير إسلام فما أخبرك قال‏:‏ خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت فقال عمر‏:‏ إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك‏.‏
ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه‏.‏
لما أتي الحجاج بالأسرى الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم فقال رجل‏:‏ أصلح الله الأمير إن لي حرمة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك فعرضت دونهما فقلت‏:‏ لا والله ما في نسبه مطعن فقولوا فيه ودعوا نسبه قال‏:‏ ومن يعلم ما ذكرت فالتفت إلى أقرب الأسرى إلي فقلت‏:‏ هذا يعمله قال له الحجاج‏:‏ ما تقول فيما يقول قال‏:‏ صدق أصلح الله الأمير وبر‏.‏
قال‏:‏ خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته‏.‏
عمرو بن بحر الجاحظ قال‏:‏ أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله فقال‏:‏ أصلح الله الأمير لي عندك يد بيضاء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا بني نهشل والمجلس محتفل فلم يتحفز لك أحد فقمت من مكاني حتى جلست فيه ولولا محض كرمك وشرف قدرك ونباهة أوليتك ما ذكرتك هذه عند مثل هذا قال ابن حاتم‏:‏ صدق وأمر بإطلاقه وولاه تلك الناحية وضمنه إياها‏.‏
ولما ظفر المأمون بأبي دلف وكان يقطع في الجبال أمر بضرب عنقه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين قال‏:‏ افعل‏.‏
فركع وحبر أبياتاً ثم وقف بين يديه فقال‏:‏ بع بي الناس فإني خلف ممن تبيع واتخذني لك درعاً قلصت عنه الدروع وارم بي كل عدو فأنا السهم السريع فأطلقه وولاه تلك الناحية فأصلحها‏.‏
أتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أمكنني منك قال‏:‏ لا تقل يا معاوية فإنها مصيبة قال‏:‏ وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة اضرب عنقه يا غلام فقال الأسير‏:‏ اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله قال له‏:‏ ويحك‏!‏ لقد سببت فأبلغت وأمر مصعب بن الزبير برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه فقال‏:‏ أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطرافك وأقول‏:‏ أي رب سل هذا فيم قتلني قال‏:‏ أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض أعطوه مائة ألف قال الأسير‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏
أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لقوله‏:‏ إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء‏.‏
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء أمر عبد الملك بقتل رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله فعفا عنه‏.‏
أتي الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم فقدم فيهم شاب فقال‏:‏ والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال‏:‏ أف لهذه الجيف ما كان فيهم من يقول مثل هذا‏!‏ وأمسك عن القتل‏.‏
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم فقال له رجل منهم‏:‏ لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ‏"‏‏.‏
فهذا قول الله في كتابه‏.‏
وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق‏:‏ وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل القلائد فقال الحجاج‏:‏ ويحكم‏!‏ أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق‏!‏ وأمسك عمن بقي‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ أتي الحجاج بحرورية فقال لأصحابه‏:‏ ما تقولون في هذه قالوا‏:‏ اقتلها أصلح الله الأمير ونكل بها غيرها‏.‏
فتبسمت الحرورية فقال لها‏:‏ لم تبسمت فقالت‏:‏ لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج استشارهم في قتل موسى فقالوا‏:‏ أرجه وأخاه وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها‏.‏
وقال معاوية ليونس الثقفي‏:‏ اتق الله لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها قال‏:‏ أليس بي وبك المرجع إلى الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاستغفر الله‏.‏
ودخل رجل من بني مخزوم على عبد الملك بن مروان وكان زبيرياً فقال له عبد الملك‏:‏ أليس الله قد ردك على عقبيك قال‏:‏ ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه فسكت عبد الملك وعلم أنها خطأ‏.‏
دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك فقال له سليمان‏:‏ على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة لعنة الله أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك فضعه من النار حيث شئت‏.‏
وقال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد‏:‏ ما تقول في وفي الحسين قال‏:‏ أعفني عافاك الله قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك قال‏:‏ قد علمت غشك وخبثك لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الحسين بن علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك فقال له ابن يعمر‏:‏ وإن جئت بالمخرج فأنا آمن قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وعيسى ‏"‏‏.‏
فمن أقرب‏:‏ عيسى من إبراهيم وما هو ابن بنته أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الحجاج‏:‏ والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط وولاه قضاء بلده فلم يزل بها قاضياً حتى مات‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده قال‏:‏ دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج فقال لجلسائه‏:‏ إن أردتم أن تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم يعني عبد الرحمن فقال عبد الرحمن‏:‏ معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين إنه ليحجزني عن ذلك آيات في كتاب الله قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏‏.‏
فكان عثمان منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏
فكان أبي منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ‏"‏‏.‏
فكنت أنا منهم‏.‏
فقال‏:‏ صدقت‏.‏ أبو عوانة عن عاصم بن أبي وائل قال‏:‏ بعث إلي الحجاج فقال لي‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ ما أرسل إلي الأمير حتى عرف اسمي قال‏:‏ متى هبطت هذا البلد قلت‏:‏ حين هبط أهله قال‏:‏ ما تقرأ من القرآن قلت‏:‏ أقرأ منه ما لو تبعته كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك في عملي قلت‏:‏ إن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تدعني فهو أحب إلي وإن تقحمني أتقحم قال‏:‏ إن لم أجد غيرك أقحمتك وإن وجدت غيرك لم أقحمك قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك والله إني لأتعار من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح هذا ولست لك على عمل قال‏:‏ هيه كيف قلت فأعدت عليه فقال‏:‏ إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم مني قال‏:‏ فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر فقال‏:‏ أرشدوا الشيخ‏.‏
لما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشخمير وسعيد بن جبير وكان الشعبي ومطرف يريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه فقال الحجاج للشعبي‏:‏ وأنت ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر فقال‏:‏ أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل وأحزن بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال‏:‏ لله أبوك لقد صدقت ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ‏.‏
ثم قال لمطرف‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ أصلح الله الأمير إن من شق العصا وسفك الدماء ونكث البيعة وفارق الجماعة وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فخلى سبيله‏.‏
ثم قال لسعيد بن جبير‏:‏ أتقر على نفسك بالكفر قال‏:‏ ما كفرت منذ آمنت بالله فضرب عنقه ثم استعرض الأسرى فمن أقر بالكفر خلى سبيله ومن أبى قتله حتى أتي بشيخ وشاب فقال للشاب‏:‏ أكافر أنت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكفر فقال له الشيخ‏:‏ أعن نفسي تخادعني يا حجاج والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته فضحك الحجاج وخلى سبيله‏.‏
فلما مات الحجاج وقام سليمان قال الفرزدق‏:‏ لئن نفر الحجاج آل معتب لقوا دولة كان العدو يدالها لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وموتاهم في النار كلحا سبالها وكانوا يرون الدائرات بغيرهم فصار عليهم بالعذاب انفتالها ألكني إلى من كان بالصين أورمت به الهند ألواح عليها جلالها هلم إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أهل العراق خبالها لما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن‏:‏ اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي على قتب بلا وطاء ووكل به من ينخس به ففعل ذلك فلما انتهى إلى سليمان بن عبد الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح فتركه حتى ارتد إليه روحه ثم قال له‏:‏ أنت أهل لما نزل بك ألست القائل في الوليد‏:‏ وقال‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا قلت وإنما قلت‏:‏ معاذ ربي أن نبقى ونفقدهم وأن نكون لراع بعدهم تبعا فنظر إليه سليمان واستضحك ثم أمر له بصلة وخلى سبيله‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض قال المهدي‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال له‏:‏ يا شريك بلغني أنك فاطمي قال له شريك‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى قال‏:‏ ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ أفتلعنها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ معاذ الله فماذا تقول فيما يلعنها قال‏:‏ عليه لعنة الله قال‏:‏ فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها فعليه لعنة الله قال الربيع‏:‏ لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها قال له شريك‏:‏ يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال قال المهدي‏:‏ دعني من هذا فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي وما ذلك إلا بخلافك علي ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً قال شريك‏:‏ إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه وإن الدماء لا تستحل بالأحلام وإن علامة الزندقة بينة قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي قال‏:‏ صدقت والله أبا عبد الله أنت والله خير من الذي حملني عليك‏.‏
ودخل شريك القاضي على المهدي فقال له الربيع‏:‏ خنت مال الله ومال أمير المؤمنين قال‏:‏ لو كان ذلك لأتاك سهمك‏.‏
العتبي قال‏:‏ دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط‏:‏ بنيتها في غير بلدك وتورثها غير ولدك - لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم‏.‏
فقال له جامع‏:‏ أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك‏.‏
قال الحجاج‏:‏ ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف قال‏:‏ أيها الأمير إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار قال الحجاج‏:‏ الخيار يومئذ لله قال‏:‏ أجل ولكنك لا تدري لمن يجعله الله فغضب وقال‏:‏ يا هناه إنك من محارب فقال جامع‏:‏ فقال الحجاج‏:‏ والله لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك قال جامع‏:‏ إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال‏:‏ أجل وسكن‏.‏
وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وقالوا له‏:‏ ما عندك دفع الله عنك قال‏:‏ ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم تراجعتم وتعاديتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم‏.‏
وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام واستجار بزفر بن الحارث فأجاره‏.‏
العتبي قال‏:‏ كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني قد رمي عنده بالتشيع فأمر بطلبه فهرب منه ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة فهرب منه ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد فلما أتي بهما قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أتي بالرجلين قال‏:‏ أي الرجلين قيل‏:‏ أنس بن أبي شيخ ومسلم ابن الوليد فقال‏:‏ الحمد لله الذي أظفرني بهما يا غلام أحضرهما‏.‏
فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم وقد أنس الهوى ببني علي في الحشا وأراه يطمح عن بني العباس قال‏:‏ بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين‏:‏ أنس الهوى ببني العمومة في الحشا مستوحشاً من سائر الإيناس وإذا تكاملت الفضائل كنتم أولى بذلك يا بني العباس قال‏:‏ فعجب هارون من سرعة بديهته وقال له بعض جلسائه‏:‏ استبقه يا أمير المؤمنين فإنه من أشعر الناس وامتحنه فسترى منه عجباً فقال له‏:‏ قل شيئاً في أنس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أفرخ روعي أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك فإني لم أدخل على خليفة قط ثم أنشأ يقول‏:‏ تلمظ السيف من شوق إلى أنس فالموت يلحظ والأقدار تنتظر فليس يبلغ منه ما يؤمله حتى يؤامر فيه رأيك القدر أمضى من الموت عند قدرته وليس للموت عفو حين يقتدر قال‏:‏ فأجلسه هارون وراء ظهره لئلا يرى ما هم به حتى إذا فرغ من قتل أنس قال له‏:‏ أنشدني أشعر شعر لك فكلما فرغ من قصيدة قال له‏:‏ التي تقول فيها الوحل فإني رويتها وأنا صغير فأنشده شعره الذي أوله‏:‏ أديرا علي الراح لا تشربا قبلي ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي إذا ما علت منا ذؤابة شارب تمشت به مشي المقيد في الوحل فضحك هارون وقال‏:‏ ويحك يا مسلم‏!‏ أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل ثم أمر له بجائزة وخلي سبيله‏.‏
قال كسرى ليوشت المغني‏:‏ وقد قتل الفهليذ تلميذه كنت أستريح منك إليه ومنه إليك فأذهب حسدك ونغل صدرك شكر تمتعي وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك وأذهبت أنت الشطر الآخر‏:‏ أليس جنايتك على نفسك مثل جنايتي عليك قال كسرى‏:‏ دعوه فما دله على هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة‏.‏
يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال‏:‏ دخلت يوماً على الرشيد أمير المؤمنين وهو متغيظ متربد فندمت على دخولي عليه وقد كنت أفهم غضبه في وجهه فسلمت فلم يرد فقلت‏:‏ داهية نآد ثم أومأ إلي فجلست‏.‏
فالتفت إلي وقال‏:‏ لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فلقد نطق بالحكمة حيث يقول‏:‏ يا أيها الزاجري عن شيمتي سفهاً عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي أقصر فإنك من قوم أرومتهم في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه لقد عجبت لقوم لا أصول لهم أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي ما نالني من غنى يوماً ولا عدم إلا وقولي عليه الحمد لله فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه قال‏:‏ لعله من بني أبيك وأمك‏.‏
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته أما بعد‏:‏ قف بالديار وقوف زائر وتأن إنك غير صاغر حتى انتهى إلى قوله‏:‏ يا مسلم بن أبي الولي د لميت إن شئت ناشر غلقت حبالي من حبا لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصي ب كمهتد بالأمس حائر فقال مسلمة‏:‏ سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له‏:‏ هذا الكميت بن زيد‏.‏
فأعجب لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه‏.‏
فقال الكميت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته - الحمد لله - قال هشام‏:‏ نعم الحمد لله يا هذا - قال الكميت‏:‏ مبتدئ الحمد ومبتدعه والذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته وجعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقيناً وأبصر مستبيناً وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هبوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة إدلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة حائداً عن الحق قائلاً بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمي‏.‏
ثم يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه‏.‏
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت‏:‏ ويحك‏!‏ من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال‏:‏ الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا حمرت الحدث وعضت المغافر بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف بصير بالأعداء مغزي الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء‏.‏
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة‏.‏
العتبي قال‏:‏ لما أتي بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق أتي به مغلولاً مقيداً في مدرعة فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض فقال‏:‏ أيها الأمير إن القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك فأنشدك الله أن تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك‏.‏
فأمر به إلى الحبس فأمر ابن هبيرة غلمانه فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت له أفراس يداولها حتى أتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به فأجاره واستوهبه مسلمة من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه‏.‏
فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد عنده ابن هبيرة فقال له‏:‏ إباق العبد أبقت قال له‏:‏ حين نمت نومة الأمة‏.‏
فقال الفرزدق في ذلك‏:‏ لما رأيت الأرض قد سد ظهرها فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة وما سار سار مثلها حين أدلجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة سوى حثك التقريب من آل أعوجا ودخل الناس على ابن هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه فقال متمثلاً‏:‏ من يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ثم قال لهم‏:‏ ما كان وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي ومثل هذا قول القطامي‏:‏ والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل عبد الله بن سوار قال‏:‏ قال لي ربيع الحاجب‏:‏ أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه فجاءه فقال‏:‏ حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة قال‏:‏ كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين فإني لأصب الماء على يديه م آخر الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق‏:‏ أنا بالله وبالأمير فقال مسلمة‏:‏ صوت ابن هبيرة اخرج إليه‏.‏
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته فقال‏:‏ أدخله فدخل فإذا رجل يميد نعاساً فقال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله ثم قال‏:‏ أنا بالله وبالأمير قال‏:‏ أنا بالله وأنت بالله حتى قالها ثلاثاً ثم قال‏:‏ أنا بالله فسكت عنه ثم قال لي‏:‏ انطلق به فوضئه ولصصل ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام‏.‏
فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام فقال‏:‏ شربة سويق فشرب وفرشت له فنام وجئت إلى مسلمة فأعلمته فغدا إلى هشام فجلس عنده حتى إذا حان قيامه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لي حاجة قال‏:‏ قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة قال‏:‏ رضيت يا أمير المؤمنين ثم قام منصرفاً حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت على الاستثناء قال‏:‏ لا بلغ هشام بن عبد الملك عن رجل كلام غليظ فأحضره‏.‏
فلما وقف بين يديه جعل يتكلم فقال له هشام‏:‏ وتتكلم أيضاً فقال الرجل‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ‏"‏ فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً فقال هشام بن عبد الملك‏:‏ ويحك‏!‏ تكلم بحاجتك‏.‏



فضيلة العفو والترغيب فيه
كان للمأمون خادم وهو صاحب وضوئه فبينما هو يصب الماء على يديه إذ سقط الإناء من يده فاغتاظ المأمون عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد كظمت غيظي عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والعافين عن الناس ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ قد عفوت عنك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ والله يحب المحسنين ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ اذهب فأنت حر‏.‏
أمر عمر عبد العزيز بعقوبة رجل فقال له رجاء بن حيوة‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله قد فعل ما تحب من الظفر فافعل ما يحبه من العفو‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عزم عبد الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏:‏ إذا أسرعت بالقتل في أكفائك فمن تباهي بسلطانك فاعف يعف الله عنك‏.‏
دخل ابن خريم على المهدي وقد عتب على بعض أهل الشام وأراد أن يغزيهم جيشاً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عليك بالعفو عن الذنب والتجاوز عن المسيء فلأن تطيعك العرب طاعة محبة خير لك من أن تطيعك طاعة خوف‏.‏
أمر المهدي بضرب عنق رجل فقام إليه ابن السماك فقال‏:‏ إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق قال‏:‏ فما يجب عليه قال‏:‏ تعفو عنه فإن كان من أجر كان لك دوني وإن كان وزر كان علي دونك‏.‏
فخلى سبيله‏.‏
كلم الشعبي ابن هبيرة في قوم حبسهم فقال‏:‏ إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم وإن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم‏.‏
العتبي قال‏:‏ وقعت دماء بين حيين من قريش فأقبل أبو سفيان فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه فقال‏:‏ ما معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق قال‏:‏ نعم العفو فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏
وقال هزيم بن أبي طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب‏:‏ ما ظلم أحد ظلمك ولا نصر نصرك فهل لك في الثالثة نقلها قال‏:‏ وما هي قال ولا عفا عفوك‏.‏
وقال المبارك بن فضالة‏:‏ كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط إذ أمر برجل أن يقتل فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله‏:‏ ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن مذنب‏.‏
فأمر بإطلاقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ‏"‏ وتقول العرب في أمثالها‏:‏ ملكت فأسجح وارحم ترحم وكما تدين تدان ومن بر يوماً بر به‏.‏
بعد الهمة وشرف النفس دخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد وعليه كساء غليظ وخفان جاسيان فسلم وجلس فلم يعرفه الوليد فقال لخادم بين يديه‏:‏ سل هذا الشيخ من هو‏.‏
فسأله فقال له‏:‏ اعزب فعاد إلى الوليد فأخبره فقال‏:‏ عد إليه واسأله فعاد إليه فقال له مثل ذلك‏.‏
فضحك الوليد وقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ نافع بن جبير بن مطعم‏.‏
وقال زياد بن ظبيان لابنه عبيد الله ألا أوصي بك الأمير زياداً قال‏:‏ يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية فالحي هو الميت‏.‏
وقال معاوية لعمرو بن سعيد‏:‏ إلى من أوصى بك أبوك قال‏:‏ إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي قال وبما أوصى إليك قال‏:‏ أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه‏.‏
وقال مالك بن مسمع لعبيد الله بن زياد بن ظبيان‏:‏ ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك قال‏:‏ وإني لفي كنانتك‏!‏ أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها‏.‏
وقال يزيد بن المهلب‏:‏ ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق هجاني ملكاً ومدحني سوقة‏.‏
وقدم عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه عشرين ألفاً فقال له‏:‏ والله ما أحسنت فأحمدك ولا أسأت فألومك وإنك لأقرب البعداء وأحب البغضاء‏.‏
وعبيد الله بن زياد بن ظبيان هذا هو القائل‏:‏ والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً أن لا أكون قد ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكين من ملوك العرب في يوم واحد‏.‏
ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري‏.‏
وكان أعرابياً يسكن البادية وكان تصهر إليه الخلفاء وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده فقال له‏:‏ جنبني هجناء ولدك‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة‏.‏
فبلغ ذلك عقيل بن علفة فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام‏:‏ بلغني يا أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة فقلت‏:‏ قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين ثم انصرف‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا شتمنا ثم انصرف فقال له رجل من بني مرة‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم إلا نفسه وقومه نحن والله ألأم الطرفين‏.‏
أبو حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله العتبي قال‏:‏ سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري قال‏:‏ كان بنو عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث فسمع عقيل بن علفة بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول‏:‏ فرقت إني رجل فروق بضحكة آخرها شهيق وقال عقيل‏:‏ إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر وقال الأصمعي‏:‏ كان عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً وكان يصهر إليه الخلفاء وإذا خرج يمتار خرج بابنته الجرباء معه‏.‏
قال‏:‏ فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد فلما ارتحلوا قال عقيل‏:‏ قضت وطراً من دير سعد وطالماً على عرض ناطحنه بالجماجم ثم قال لابنه‏:‏ يا عملس أجز فقال‏:‏ ثم قال لابنته‏:‏ يا جرباء أجيزي فقالت‏:‏ كأن الكرى سقاهم صرخدية عقاراً تمشى في المطا والقوائم قال‏:‏ وما يدريك أنت ما نعت الخمر‏!‏ فأخذ السيف وهوى نحوها فاستعانت بأخيها عملس فحال بينه وبينها‏.‏
قال‏:‏ فأراد أن يضربه‏.‏
قال‏:‏ فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك ومضوا وتركوه حتى إذا بلغو أدنى ماء للأعراب قالوا لهم‏:‏ إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء فإذا عقيل بارك وهو يقول‏:‏ إن بني زملوني بالدم شنشنة أعرفها من أخزم من يلق أبطال الرجال يكلم والشنشنة‏:‏ الطبيعة وأخزم‏:‏ فحل معروف وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم‏.‏
فكتبوا إليه‏:‏ العبد تبع كم يروم قتالنا ومكانه بالمنزل المتذلل إنا أناس لا ينام بأرضنا عض الرسول ببظر أم المرسل فغزاهم تبع أبو كرب فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً فتذمم من قتالهم ورحل عنهم‏.‏
ودخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ من أنت وتجهم له كأنه لا يعرفه‏:‏ فقال له الفرزدق‏:‏ وما تعرفني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا من قوم منهم أوفى العرب أسود العرب وأجود العرب وأحلم العرب وأفرس العرب وأشعر العرب‏:‏ قال‏:‏ والله لتبينن ما قلت أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها‏:‏ وأما أسود العرب فقيس بن عاصم الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وقال‏:‏ هذا سيد الوبر وأما أحلم العرب فعتاب بن ورقاء الرياحي وأما أفرس العرب فالحريش بن هلال السعدي أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره وقال‏:‏ ارجع على عقبيك فما لك عندنا شيء من خير‏.‏
فرجع الفرزدق وقال‏:‏ أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك ولا من قلة في مجاشع وقال الفرزدق في الفخر‏:‏ بنو دارم قومي ترى حجزاتهم عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها وقال الأحوص في الفخر وهو أفخر بيت قالته العرب‏:‏ ما من مصيبة نكبة أرمى بها ألا تشرفني وترفع شاني وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان وقال أبو عبيدة‏:‏ اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج إليهم بردي محرق وقال‏:‏ ليقم أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر فقال له النعمان‏:‏ بم أنت أعز العرب قال‏:‏ العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس‏.‏
ثم قال النعمان‏:‏ هذه حالك في قومك فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك قال‏:‏ أنا أبو عشرة وخال عشرة وعم عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض ثم قال‏:‏ من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل‏.‏
فلم يقم إليه أحد فذهب بالبردين‏.‏
ففيه يقول الفرزدق‏:‏ فما ثم في سعد ولا آل مالك غلام إذا ما سيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية‏.‏
ومنهم بنو صفوان الذين ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ولا تغيب إلا عند أخرانا وقال الفرزدق في مثل هذا المعنى‏:‏ ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وكانت هنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق تقول‏:‏ من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتى لها‏:‏ أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار‏.‏
وممن شرفت نفسه وبعدت همته‏:‏ طاهر بن الحسين الخراساني وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة وخاف المأمون أن يغدر به امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه‏.‏
وقال دعبل بن علي الخزاعي يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً لأنه كان مولى خزاعة ويقال إنه خزاعي‏:‏ أيسومني المأمون خطة عاجز أوما رأى بالأمس رأس محمد توفي على روس الخلائق مثل ما توفي الجبال على رؤوس القردد إني من القوم الذين هم هم قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد وقال طاهر بن الحسين‏:‏ غضبت على الدنيا فأنهبت ما حوت وأعتبتها مني بإحدى المتالف قتلت أمير المؤمنين وإنما بقيت عناء بعده للخلائف وأصبحت في دار مقيما كما ترى كأني فيها من ملوك الطوائف وقد بقيت في أم رأس فتكة فإما لرشد أو لرأي مخالف فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة‏:‏ عتبت على الدنيا فلا كنت راضيا فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف فمن أنت أو ما أنت يا فقع قرقر إذا أنت منا لم تعلق بكانف فنحن بأيدينا هرقنا دماءنا كثول تهادى الموت عند التزاحف ستعلم ما تجني عليك وما جنت يداك فلا تفخر بقتل الخلائف وقد بقيت في أم رأسك فتكة سنخرجها منه بأسمر راعف وقال عبد الله بن طاهر‏:‏ مدمن الإغضاء موصول ومديم العتب مملول أقصري عما لهجت به ففراغي عنك مشغول سائلي عمن تسائلني قد يرد الخير مسئول أنا من تعرف نسبته سلفي الغر بالبهاليل سل بهم تنبيك نجدتهم مشرفيات مصاقيل كل عضب مشرب علقا وغرار الحد مفلول مصعب جدي نقيب بني هاشم والأمر مجبول وحسين رأس دعوتهم بعده الحق مقبول وأبي من لا كفاء له من يسامي مجده قولوا صاحب الرأي الذي حصلت رأيه القوم المحاصيل حل منهم بالذرى شرفاً دونه عز وتبجيل نفصح الأنباء عنه إذا أسكت الأنباء مجهول سل به الجبار يوم غدا حوله الجرد الأبابيل وهبوا لله أنفسهم لا معازيل ولا ميل ملك تجتاح صولته ونداه الدهر مبذول نزعت منه تمائمه وهو مرهوب ومأمول وتره يسعى إليه به ودم يجنيه مطلول فأجابه محمد بن يزيد بن مسلمة وكان من أصحابه وآثرهم عنده ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته إلا قوله‏:‏ من يسامي مجده قولوا فأمر له بمائة ألف وزاده أثرة ومنزلة‏:‏ لا يرعك القال والقيل كل ما بلغت تضليل ما هوى لي كنت أعرفه بهوى غيرك موصول أيخون العهد ذو ثقة لا يخون العهد متبول حملتني كل لائمة كل ما حملت محمول واحكمي ما شئت واحتكمي فحرامي لك تحليل وبدت يوم الوداع لنا غادة كالشمس عطبول تتعاطى شد مئزرها ونطاق الخصر محلول شملنا إذ ذاك مجتمع وجناح البين مشكول ثم ولت كي تودعنا كحلها بالدمع مغسول أيها البادي بطيته ما لأغلاطك تحصيل قد تأولت على جهة ولنا ويحك تأويل إن دليلاك يوم غدا بك في الحين لضليل قاتل المخلوع مقتول ودم القاتل مطلول قد يخون الرمح عامله وسنان الرمح مصقول وينال الوتر طالبه بعد ما تسلو المثاكيل بأخي المخلوع طلت يداً لم يكن في باعها طول وبنعماه التي كفرت جالت الخيل الأبابيل إن خير القول أصدقه حين تصطك الأقاويل مراسلات الملوك العتبي عن أبيه قال‏:‏ أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏
فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏
فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏
زهير عن أبي الجويرية الجرمي قال‏:‏ كتب قيصر إلى معاوية‏:‏ أخبرني عما لا قبلة له وعمن لا أب له وعمن لا عشيرة له وعمن سار به قبره وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم وعن شيء ونصف شيء ولا شيء وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ أما مالا قبلة قبله له فالكعبة وأما من لا أب له فعيسى وأما من لا عشيرة له فآدم وأما من سار به قبره فيونس وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم‏:‏ فكبش إبراهيم وناقة ثمود وحية موسى وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله وأما نصف شيء فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره وملأ القارورة ماء وقال‏:‏ هذا بزر كل شيء‏:‏ فبعث به إلى معاوية فبعث به معاوية إلى قيصر‏.‏
فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة‏.‏
نعيم بن حماد قال‏:‏ بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه‏:‏ من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته ابنه ألف ملك والذي مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية ولكنها تحية وأحببت أن تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام والسلام يعني الهدية الكتاب‏.‏
الرياشي قال‏:‏ لما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم‏:‏ إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها فإن كان صواباً فقد أخطأ أبوك وإن كان خطأ فما عذرك فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ‏"‏‏.‏
وكتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً مائة ألف ومائة ألف‏.‏
فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده ويكتب إليه بما يقول ففعل فقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إن الله عزل وجل لوحاً محفوظاً يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة‏.‏
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم فلما قرأه قال‏:‏ ما خرج هذا إلا من كلام النبوة‏.‏
بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم‏:‏ ما جئتم به قالوا‏:‏ هذه أشرف كسوة بلدنا فأمر هارون القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله فصلب الرسل على وجوههم وتذمموا من ذلك ونكسوا رؤوسهم ثم قال لهم الحاجب‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا له‏:‏ هذه سيوف قلعية لا نظير لها‏.‏
فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب فقطعت به السيوف بين يديه سيفاً سيفاً كما يقط الفجل من غير أن تنثني له شفرة ثم عرض عليهم حد السيف فإذا لا فل فيه فصلب القوم على وجوههم ثم قيل لهم‏:‏ ما عندكم غير هذا قالوا‏:‏ هذه كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته فقال لهم هارون‏:‏ فإن عند سبعا فإن عقرته فهي كما ذكرتم ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم‏:‏ فلما نظروا إليه هالهم وقالوا‏:‏ فنرسلها عليه وكانت الأكلب ثلاثة فأرسلت عليه فمزقته فأعجب بها هارون وقال لهم‏:‏ تمنوا في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به سيوفنا قال لهم‏:‏ ما كنا لنبخل عليكم ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم قالوا‏:‏ ما نتمنى إلا السيف قال‏:‏ لا سبيل إليه ثم أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم‏.‏
أبو جعفر البغدادي قال‏:‏ لما انقبض طاهر بن الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه فنون العلم ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق وقد واطأه على أن يسمه وأعطاه سم ساعة ووعده على ذلك بأموال كثيرة‏.‏
فلما انتهى إلى خراسان وأوصل إلى طاهر الهدية قبل الهدية وأمر بإنزال الوصيف في دار وأجرى عليه ما يحتاج إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً‏.‏
فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه‏:‏ يا سيدي إن كنت تقبلني فاقبلني وإلا فردني إلى أمير المؤمنين فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه‏.‏
فلما انتهى إلى باب المجلس الذي كان فيه أمره بالوقوف عند باب المجلس وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه وبين يديه مصحف منشور وسيف مسلول فقال‏:‏ قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا نقبلك وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين ولي عندي جواب أكتبه إلا ما ترى من حالي فأبلغ أمير المؤمنين السلام وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها‏.‏
فلما قدم الوصيف على المأمون وكلمه بما كان من أميره ووصف له الحال التي رآه فيها شاور وزراءه في ذلك وسألهم عن معناه فلم يعلمه واحد منهم فقال المأمون‏:‏ لكني قد فهمت معناه‏:‏ أما تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض فهو يخبرنا أنه عبد ذليل وأما المصحف المنشور فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا وأما السيف المسلول فإنه يقول‏:‏ إن نكثت تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك أغلقوا عنا باب ذكره ولا تهيجوه في شيء مما هو فيه‏.‏
فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين وقام عبد الله بن طار بن الحسين مكانه فكان أخف الناس على المأمون‏.‏
وكتب طاهر بن الحسين إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه فأطلقه له وكتب إليه‏:‏ أخي أنت ومولاي فما ترضاه أرضاه وما تهوى من الأمر فإني أنا أهواه لك الله على ذاك لك الله لك الله قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه‏:‏ قد مضى قولًنا في مُخاطبة الملوك ومقاماتهم وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم والتزلّف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني وبارع مَنطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا وفَرْقُ ما بين الإنسان وسائر الحيوان وما بين الطَّبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية‏.‏
وهما مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح وقد جَعل الله بلطيف قُدْرته وعظيم سُلطانه بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض فإجالة الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة والإرادة تُحْكم أسباب العمل فكلُّ شيء يقوم في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا ثم فِكْرا ثم إرادة ثم عملا‏.‏
والعقل متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ‏.‏
والعلم علمان‏:‏ علم حُمِل وعلم استُعمل فما حُمل منه ضرّ وما استُعمل نَفع‏.‏
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل الألوان والسمع في تقبل الأصوات أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل له والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ الدواب فإن زَعم زاعمِ فقال‏:‏ إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم‏:‏ فهو يَستعمل عقله في قلّة علمه فيكون أشدَ رأياَ وأنبه فِطنةً وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير العِلم مع قَلّة العَقْل فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم واستعماله فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب‏.‏
قيل للمُهلِّب‏:‏ بِمَ أدركتَ ما أدركتَ قال‏:‏ بالعِلم قيل له‏:‏ فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ ولم يُدرك ما أدركت قال‏:‏ ذلك عِلم حُمِل وهذا علم استُعْمل‏.‏
وقد قالت الحكماء‏:‏ العِلمُ قائد والعَقل سائق والنَّفس ذَوْد فإذا كان قائد بلا سائق هلكت ‏"‏ الماشية ‏"‏ وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا وإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً‏.‏
فنون العلم قال سهل بن هارون يوماً وهو عند المأمون‏:‏ مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال فقال المأمون‏:‏ قد يُسمِّي بعضُ الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ ولو قلتَ أيضاَ‏:‏ إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه ولا يُسْبر قَعْره ولا تُبلغ غايتهُ ولا تُستقىَ أُصوله ولا تَنْضَبط أجزاؤُه صدقتَ فإن كان الأمر كذلك فابدأ بالأهمِّ فالأهمّ والأوكد فالأوكد وبالفَرْض قبل النَّفل يكن ذلك عَدْلا قصداً ومذْهباً جَمِيلاَ‏.‏
وقد قال بعضُ الحُكماء‏:‏ لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته ولكن التماسَ مالا يسع جَهلُه فهذا وَجهٌ لما ذكرت‏.‏
وقال آخرون‏:‏ عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير وعِلم التجَّار الكِتاب والحساب فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع منه فلا‏.‏
وقال محمد بن إدريس رضي الله عنه‏:‏ العِلم علمان‏:‏ عِلم الأبدان وعِلم الأديان‏.‏
وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏
وقال أبو يوسُف القاضي‏:‏ ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة‏:‏ مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من الزَّنْدَقَة ومَن طلب ‏"‏ المالَ ‏"‏ بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر ومن طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب‏.‏
وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏ وما من كاتب إلا ستبقى كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه فلا تكتب بكفِّك غير شيء يَسرّك في القِيامة أن تَراه وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏
وقال أبو نُواس الحسن بن هانئ‏:‏ كم من حَديث مُعْجِب عندي لكا لو قد نبذتَ به إليك لسركا ممَّا تَخَيَّره الرواة مُهذّب كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا أَتتبع العُلماءَ أكتبُ عنهمُ كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا الحض على طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏.‏
وقال عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج‏.‏
وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏
وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏
وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏
وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى ‏"‏ لبنيه ‏"‏‏:‏ يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار ‏"‏ قوم ‏"‏ لا يُحتاج إليكم فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏
وقال ملك الْهِند لولده وكان له أربعون ولداً‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏
وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والورَّاق للعلم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نِعْمَ الأنيسُ إذا خلوْتَ كِتَابُ تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ لا مُفْشِياً سرّا إذا استودعتَه وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ وقال ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ ‏"‏ مِن ‏"‏ قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏
وقال رُؤْبة بن العجَّاج‏:‏ قال لي النسِّابة البَكْري‏:‏ يا رُؤبة لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم يَسأَلوني وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني قلتُ‏:‏ إني أرجو أن لا أكون كذلك‏.‏
قال‏:‏ فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته قلت‏:‏ تُخبرني قال‏:‏ آفتُه النسيان ونَكَده الكذب وهُجْنته نشره عند غير أهله‏.‏
وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏
وقال‏:‏ ذَلَلتُ طالباً فعَزَزْتُ مطلوباً‏.‏
وقال رجل لأبي هُريرة‏:‏ أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال‏:‏ كفاك بترك طَلَب العِلم إضاعةً له‏.‏
وقال عبد اللهّ بن مسعود‏:‏ إن الرجل لا يُولد عالماً وإنما العِلم بالتعلّم‏.‏
وأخذه الشاعر فقال‏:‏ تَعَلم فليسَ المرء يُولد عالماً وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ ولآخر‏:‏ ولآخر‏:‏ ولم أر فرعاً طال إلا بأصْلهِ ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما وقال آخر‏.‏
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر وقال بعضً الحكماء‏:‏ اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك وأخفُّ على قَلبك فإنّ نفاذَك فيه على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:15 AM

البلاغة وصفتها
قيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ ما بَلَّغك الجنَّة وعَدَل بِك عن النار قال السائل‏:‏ ليس هذا أُريد قال‏:‏ فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك وعواقبَ غَيِّك قال‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم يحسن أن يسأل ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول‏:‏ قال‏:‏ ليس هذا أُريد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّا معشر ‏"‏ النبيين ‏"‏ بِكَاء - أي قليلو الكلام وهو جمع بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله قال السائل‏:‏ ليس هذا أريد قال‏:‏ فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إنك إن أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة كُنت قد أُوتيت فَصْلَ الخِطاب‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ مَعْرفة الوَصْل من الفَصل‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إيجاز الكلام وحَذْف الفُضُول وتَقْرِيب البعيد‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع ولا يُؤتى السّامع من وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ أن تُجيب فلا تُبطئ وتُصيب فلا تُخْطئ‏.‏
ثمّ قال‏:‏ أَقِلْني يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قد أَقَلْتكَ‏.‏
قال‏:‏ لا تُبْطئ ولا تُخطئ‏.‏
قال أبو حاتم‏:‏ استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال وتَكلّم بأوجزَ منه‏.‏
وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان وكَثْرة الهَذَيان ولكنها بإصابَة المَعْنى والقَصْدِ إلى الحُجَّة‏.‏
فقال له‏:‏ أبا صَفْوان ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة‏.‏
وتكلّم رَبيعة الرَّأي يوماً فأكثر ‏"‏ وأُعجب بالذي كان منه ‏"‏ وإلى جَنْبه أعرابيٌّ فالتفتَ إليه فقال‏:‏ ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ قال‏:‏ قِلّة الكلام وإيجاز الصواب قال‏:‏ فما تَعُدّون العِيّ قال‏:‏ ما كًنت فيه منذُ اليوم‏.‏
فكأنما أَلْقمه حَجراً‏.‏
ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم‏:‏ يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل‏.‏
وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام ويُصيب الفُصول والمَعاني بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله‏.‏
ومثله قولُهم‏:‏ يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب‏.‏
وقولهم‏:‏ قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة وأصاب عَيْن القِرْطاس‏.‏
كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه‏.‏
‏"‏ قيل للعَتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إظهار ما غمَض من الحقّ وتَصْوير الباطل في صورة الحق‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ مَن أَبلغ الناس قال‏:‏ أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر وحُسْن التأليف له إذا طال‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ الإيجاز في غَيْر عَجْز والإطناب في غَيْر خَطَل‏.‏
وقيل لغيره‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إقلال في إيجاز وصَواب مع سُرعة جواب‏.‏
قيل لليُونانيّ‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام‏.‏
وقيل لبعضهم‏:‏ مَن أبلغ الناس قال‏:‏ مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز‏.‏
وكان يقال‏:‏ رسولُ الرجل مكان رَأْيه وكِتَابه مكان عَقله‏.‏
وقال جَعفر بن محمد عليه السلام‏:‏ سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه‏.‏
وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال‏:‏ مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظاً كثيراً فهوِ بَليغ‏.‏
وقالوا‏:‏ البلاغة ما كان من الكلام حَسناً عند استماعه مُوجزاً عند بَدِيهته‏.‏
وقيل‏:‏ البلاغة‏:‏ لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان‏:‏ ولبعضهم‏:‏ خَيْر الكلامٍ قَليلُ على كَثير دَلِيلُ والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ يَحويه لفظٌ طَويلُ وقال بعضُ الكتَّاب‏:‏ البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل‏.‏
وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وإذا نَطقتَ فلا تكًن أَشِراً وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا وقال آخر‏:‏ وما أحدٌ يكون له مَقالٌ فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ وقال‏:‏ الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا وجدتَ له على اللّهوات بَرْداً كبَرْد الماء حين صَفا وطابا وقال آخر‏:‏ ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو لَ بطُول الإسهاب والإكثار إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع - نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ وجوه البلاغة البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه‏:‏ تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه ومنه قولُهم‏:‏ لكل مَقام مَقال ولكل كلام جَواب ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ‏.‏
فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة‏.‏
وأمّا الدِّلالة‏:‏ فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به كما قال الحكيم‏:‏ أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت وشَواهد قائمات كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة ويَشهد لك بالرُّبوبية‏.‏
وقال آخر‏:‏ سَل الأرضِ ‏"‏ فقُل ‏"‏‏:‏ مَن شَقَّ أنهارَكِ وغَرَس أشجارَكِ وجَنَى ثمارك فإن لم تُجِبك إخباراَ أجابتك اعتباراً‏.‏
لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيراً فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا وقال آَخر‏:‏ نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح‏:‏ فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ يُرِيد‏:‏ لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك‏.‏
وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ‏.‏
وقال حَبِيب‏.‏
الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه وطارفِ الكلام وتَليده أكثر من أن يُحيط به وَصْف أو يأتَي من ورائه نعْت‏.‏
وقال رجل للعتّابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة فهو بَليغ‏.‏
قالوا‏:‏ قد فَهمنا الإعادة والحُبسة فما معنى الاستعانة قال‏.‏
أن يقول عند مَقاطع كلامه‏:‏ اْسمع منِّي وافهم عنِّي أو يمسح عُثْنونه أو يَفْتِل أصابعه أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب أو يتساءل من غير سُعلة أو يَنبهر في كلامه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع وهذَا كلُّه من العيّ‏.‏
وقال أبْرويز لكاتبه‏:‏ اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع إن التُمس لها خامسة لم تُوجد وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ وهي‏:‏ سُؤالك الشيء وسُؤالك عن الشيء وأمْركِ بالشيء وإخبارك عن الشيء‏.‏
فإذا طلبت فأسجح وإذا سألتَ فأَوْضح وإِذا أمرت فأحكم وإِذا أَخبرت فحقِّق‏.‏
وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول‏.‏
يريد الكلام الذي تَقِل حروفه وتَكثر معانيه‏.‏
وقال ربيعة الرِّأي‏:‏ إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن وما زِدْت فيه شيئاً ولا غيرت له معنى‏.‏
وقالوا‏:‏ خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام‏.‏
‏"‏ وقال يحيى‏:‏ الكلامُ ذُو فنون وخيره ما وفق له القائل وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر‏:‏ وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما وصف أعرابي بليغاً فقال‏:‏ كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده ولا تَنطق إلا ببَيانه‏.‏
وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال‏:‏ كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل الحيّة ‏"‏‏.‏
وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى فًصول عَجيبة وبدائع غريبة وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول من البلاغة
قدم قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ والياً عليها فقال‏:‏ مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فَلْيَنْبِذْه وإن كان في فيه فَليَلْفِظه وإن كان في صَدْره فَلْيَنْفُثْه‏.‏
فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل‏.‏
وقيل لأبي السَّمًال الأسديّ أيامَ مُعاوية‏:‏ كيف تركتَ الناس قال‏:‏ تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف وظالم لا يَنتهي‏.‏
وقيل لشَبيب بن شَيْبة عند باب الرَّشيد‏:‏ كيف رأيتَ الناس قال‏:‏ رأيت الداخلَ راجياً والخارج راضياً‏.‏
وقال حسّان بن ثابت في عبد الله بن عبّاس‏:‏ إذا قال لم يَتْرك مَقالا لقائلٍ بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا كَفي وَشَفي ما في النُّفوس ولم يَدَعْ لذي إِرْبة في القَوْل جِدّاً ولا هَزْلا ولَقي الحُسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق فسأله عن الناس فقال‏:‏ القُلوب معك والسُّيوِف عليك والنَّصر في السماء‏.‏
وقيل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام‏:‏ كم بين المَشرق والمَغرب فقال‏:‏ مَسيرة يوم للشمس قيل له‏:‏ فكم بين السماء والأرض قال‏:‏ مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة‏.‏
وقيل لأعْرابي‏:‏ كم بين مَوْضع كذا وموضع كذا قال‏:‏ بَياضُ يوم وسَواد ليلة‏.‏
وشكا قوم إلى المَسيح عليه السلام ذنوبهم فقال‏:‏ اتركوها تُغفَر لكم‏.‏
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن‏.‏
وقيل لخالد بن يَزيد بن مُعاوية‏:‏ ما أقربُ شيء قال‏:‏ الأجل قيل له‏:‏ فما أبعدُ شيء قال‏:‏ الأمل قيل له‏:‏ فما أوْحش شيء قال‏:‏ الميّت قيل له‏:‏ فما آنس شيء قال‏:‏ الصاحب المُواتي‏.‏
مَرّ عمرو بن عُبيد بسارق يُقْطع فقال‏:‏ سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية‏.‏
وقيل للخليل بن أحمد‏:‏ مالك تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله قال‏:‏ لأني كالمِسَنّ أشْحذ ولا أقْطع‏.‏
وقيل لعَقِيل بن عًلَّفةَ‏:‏ ما لَك لا تًطيل الهجاء قال‏:‏ يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق‏.‏
ومَرِّ خالد بن صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة فقال‏:‏ أَنْبتته الطاعة وحَصَدته المَعْصية‏.‏
ومرَّ أَعرابيّ برجل صَلبه السلطان فقال‏:‏ مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه ومن فارق الحق ومن النطق بالدِّلالة ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال‏:‏ نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك فقال له عَدِيّ‏:‏ أبيتَ اللعنَ أتدري ما تقول هذه الشجرة قال‏:‏ ما تقول قال تقول‏:‏ رب شَرْبٍ قد أناخُوا حولَنا يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ ثم أضحَوْا عَصَف الدهرُ بهم وكذاك الدهرُ حال بعد حال فتَنغّص على النعمان ما هو فيه‏.‏
‏"‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ قلت للفضل‏:‏ ما الإيجاز عندك قال‏:‏ حذف الفضول وتقريب البعيد ‏"‏‏.‏
وقال رجلٌ لخالد بن صَفْوان‏:‏ إنك لتًكْثر قال‏:‏ أكثر لضَرْبين أحدهما فيما لا تُغني فيه القِلْة والآخر لتمرين اللّسان فإنَّ حَبْسه يُورِث العُقلة‏.‏
وكان خالدُ بن صَفْوان يقول‏:‏ لا تكونُ بليغاً حتى تُكلِّم أمَتك السَّوداء في اللّيلة الظَّلماء في الحاجة المُهِمَة بما تَتكلَّم به في نادي قَومك‏.‏
وإنما اللّسان عُضو إذا مَرّنته مَرَن وإذا تَركته لَكِنَ كاليد تُخَشِّنها بِالمُمَارسة والبَدنِ الذي تُقوِّيه برَفّع الحجر وما أشبهه والرِّجْل إذا عُوِّدت المشي مشت‏.‏
وكان نوفلُ بن مُساحق إذا دخل على امرأته صَمت فإذا خرج عنها تكلّم فقالت له‏:‏ إذا كنتَ وذكر شَبِيبُ بن شيبة خالدَ بن صَفْوان فقال‏:‏ ليس له صَدِيق في السِّر ولا عدوٌّ في العَلاَنية‏.‏
وهذا كلام لا يَعرف قَدْره إلا أهلُ صناعته‏.‏
‏"‏ وَوَصف رجلٌ آخرَ فقال‏:‏ أتَيناه فأخرج لسانَه كأنّه مِخْراق لاعب‏.‏
ودَخل مَعن بن زائدة على المَنْصُور يُقارب خَطْوه فقال المنصور‏:‏ لقد كَبرتْ سنّك قال‏:‏ في طاعتك قال‏:‏ وإنك لَجلْد قال‏:‏ على أعدائك قال‏:‏ أرى فيك بقية قال‏:‏ هي لك‏.‏
وكان عبد الله بن عبَّاس بليغاً فقال فيه مُعاوية‏:‏ إذا قال لم يَتْرك مقالاً ولم يَقِفْ لعِيّ وِلم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر يُصَرِّفُ بالقول اللسانَ إذا انتحَى ويَنظُر في أعْطافه نَظَر الصَّقر وتكلّم صَعْصَعَةُ بن صُوحان عند مُعاوية فَعَرِق فقال له مُعاوية‏:‏ بَهرك القولُ قال‏:‏ الجياد نَضَّاحة بالعَرَق‏.‏
وكتب ابن سَيَابة إلى عمرو بن بانة‏:‏ إنَّ الدهر قد كَلَحَ فَجَرح وطَمحَ فجَمح وأفسد ما صَلَح فإن لم تُعِنْ عليه فَضَح‏.‏
ومَدح رجل من طَيئ كلامَ رجل فقال‏:‏ هذا الكلامُ يُكْتَفي بأُولاه ويُشْتَفي بأًخْراه‏.‏
ووَصف أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ إنَّ رِفْدَك لَنجيح وإن خيرك لصَرِيح وإن مَنْعك لمُرِيح‏.‏
ودخل إياسُ بنُ معاويةَ الشامَ وهو غلام فقدِّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك ‏"‏ وكان خَصْمه شيخاً كبيراً ‏"‏‏.‏
فقال له القاضي‏:‏ أتقدِّم شيخاً كبيرأً فقَال له إياس‏:‏ الحقُّ أكبرُ منه قال له‏:‏ اسكت قال‏.‏
فمن يَنْطق بحُجَّتي قال‏:‏ ما أظنّك تقُول حقّاً حتى تقُوم قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه‏.‏
فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأَخبره بالخبر فقال‏:‏ اقض حاجتَه الساعة وأَخْرجه من الشام لا يُفْسِد عليّ الناسَ‏.‏
ومن الأسْجاع قولُ ابن القِرِّيّة وقد دُعي لكلام فاحتبَسٍ القولُ عليه فقال‏:‏ قد طال السَّمر وسَقَط القَمر واشتَدّ المَطر فما أنتظر‏.‏
فأجابه فتى من عبد القيس‏:‏ قد طال الأَرَق وسقَط الشَفق فَلْينطق من نَطَق‏.‏
قال أحمد بنُ يوسف الكاتب‏:‏ دخلتُ على المأمون وبيده كتابٌ لعمرو بن مَسْعدة وهو يُصَعِّد في ذُراه ويقوم مَرَّة ويَقْعد أخرى ففعل ذلك مراراً ثم التفت إليَّ فقال‏:‏ أَحْسَبك مُفكِّراً فيما رأيتَ قلتُ‏:‏ نعمٍ وَقَى الله عزّ وجلّ أميرَ المؤمنين المَكاره فقال‏:‏ ليس بَمكْروه ولكن قرأتُ كلاما نَظِير خَبرٍ خَبّرني به الرشيدُ سمعتُه يقول‏:‏ إنَّ البَلاغة لتَقاربٌ من المَعنى البَعيد وتَباعدٌ من حَشْو الكلام ودَلالة بالقَلِيل على الكثير‏.‏
فلم أتوَهّمٍ أنّ هذا الكلامَ يَسْتَتِبّ على هذه الصِّفة حتى قرأتُ هذا الكتابَ فكان استعطافاً على الجُنْد وهو‏:‏ كتابي إلى أمير المؤمنين أَيَّدَه اللّه ومَن قِبَلي من أجناده وقُوّاده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعةُ جًنْد تأخّرت أرزاقُهم واختّلت أحوالُهم‏.‏
فأَمر بإعطائهم ثمانيةَ أشهر‏.‏
ووَقع جَعْفر البرمكيّ إلى كُتَّابه‏:‏ إن اْستطعتُم أن تكون كُتًبكم تَوْقيعات فافعلوا‏.‏
وأمره هارون الرشيد أن يَعْزل أخاه الفضلَ عن الخاتَم ويأخذَه إليه عَزْلاً لَطيفاً‏.‏
فكتب إليه‏:‏ قد رَأَى أميرُ المؤمنين أن يَنْقُل خاتَم خِلافته من يمينك إلى شِمالك فكَتب إليه الفضلُ‏:‏ ما انتقلتْ عني نِعمة صارت إليك ولا خَصَّتك دوني‏.‏
ووَقع جعفرٌ في رُقْعة رجل تنَصل إليه من ذَنب‏:‏ تقدمت لك طاعة وظَهرت منك نَصيحة كانت بينهما نَبْوة ولن تَغْلِب سيَئة حسَنَتين‏.‏
قال الفضْل بن يحيى لأبيه‏:‏ ما لنا نُسْدِي إلى الناس المَعروف فلا نرى من السُّرور في وُجوههم عند انصرافهم ببِرنا ما نراه في وُجوههم عند آنصرافِهم ببِرَ غيرنا فقال له يَحيى‏:‏ إن آمال الناس فينا أطولُ منها في غيرنا وإنما يُسَر الإنسانُ بما بَلِّغه أملَه‏.‏
قيل ليحيى‏:‏ ما الكرمُ قال‏:‏ مَلِك في زِيّ مِسكين قيل‏:‏ فما الفَرْعنة قال‏:‏ مِسكين في بَطْش عِفريت قيل‏:‏ فما الجودُ قال‏:‏ عَفْو بعد قُدرة‏.‏
أُتي المأمونُ برجل قد وَجَب عليه الحدُّ فقال وهو يُضرب‏:‏ قَتَلتني يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ الحقَّ قَتَلك قال‏:‏ ارحَمني قال‏:‏ لستُ أرْحمَ بك ممن أوجبَ عليك الحدَ‏.‏
وسأل المأمون عبد الله بن طاهر في شيء فأسرع يفي ذلك فقال له المأمون‏:‏ فإنّ الله عزّ وجلّ قد قَطع عُذْر العَجول بما مكَّنه من التثبُّت وأَوْجب الْحُجَّة على القَلِق بما بَصَّره من فضْل الأناة‏.‏
قال‏:‏ أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين أن أكتُبه قال‏:‏ نعم فكَتبه‏.‏
قال إبراهيمُ بن المهديّ قال لي المأمونُ‏:‏ أنت الخليفة الأسْود قلت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أنت مَنَنت عليّ بالعَفو وقد قال عبدُ بني الْحَسْحاس‏:‏ أشعارُ عَبْد بنيِ الْحَسْحاس قُمْنَ له عند الفَخار مَقامَ الأصل والوَرقِ إن كنتُ عبداَ فنَفْسي حُرِّة كَرَماً أَو أَسْودَ الْجلْد إني أَبْيضُ الخُلُقِ فقال المأمون‏:‏ يا عمُّ خرّجك الهَزْل إلى الجد ثم أنشأ يقول‏:‏ ليس يُزْرِي السواد بالرَّجلِ الشَّهم ولا بَالفتى الأديب الأريبِ إن يكُن للسّواد مِنك نصِيبٌ فبَيَاض الأخلاق منك نَصيبي قال المأمون‏:‏ أسْتحسن من قول الحُكماء‏:‏ الجودُ بَذْل المَوْجود والبُخل بَطَر بالمَعْبود عزّ وجلّ‏.‏
قالت أُمُّ جعفر زُبيدة بنت جعفر للمأمون حين دَخلت عليه بعد قتْل ابنها‏:‏ الحمد لله الذي ادّخرك لي لمَّا أثكَلني وَلَدي ما ثكِلت ولداً كنتَ لي عوضاً منه‏.‏
فلما خرجَت قال المأمون لأحمد بن أبي خالد‏:‏ ما ظننتُ أن نِساءَ جُبلن على مِثل هذا الصَّبر‏"‏‏.‏
وقال أبو جَعفر لعمرو بن عُبيد‏:‏ أعنِّي بأصحابك يا أبا عُثمان قال‏:‏ ارفع عَلَم الحقّ يَتْبعك أهلُه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif آفات البلاغة
قال محمد بن منصور كاتبُ إبراهيم وكان شاعراً راوياً وطالباً للنحو عَلامة قال سمعتُ أبا دُواد ‏"‏ بن جرير الإيادي ‏"‏ وجَرى شيء من ذِكْر الخُطَب وتَمْييز الكلام فقال‏:‏ تَلْخيصُ المَعاني رِفق والاستعانة بالغَريب عَجْز والتَّشادُق في غير أهل البادية نَقْص والنَّظر في عُيون الناس عِيّ ومَسُ اللِّحية هَلَع والخُروج عما بُني عليه الكلام إسْهاب‏.‏
قال‏:‏ وسمعتهُ يقول‏:‏ رَأْسُ الخَطابة الطبْع وعَمُودها الدربة ‏"‏ وجناحاها رواية الكلام ‏"‏ وحَلْيُها الِإعراب وبَهاؤها تخيّر اللَفظ والمَحبَّة مَقرونة بقلّة الاستكراه‏.‏
وأنشدني بيتاً في خُطباء إياد‏:‏ يَرْمُون بالخُطب الطِّوال وتارةً وَحْي المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقباءِ وقال ابن الأعرابيّ‏:‏ قلتُ للفَضْل‏:‏ ما الايجاز عندك قال‏:‏ حَذْف الفُضول وتَقْريب البَعيد‏.‏
وتكلم ابن السمَّاك يوماً وجارية له تَسمعِ ‏"‏ كلامه ‏"‏ فلما دخل ‏"‏ إليها ‏"‏ قال لها‏:‏ كيف سمعتِ كلامي ‏"‏ قالت‏:‏ ما أَحسنه‏!‏ لولا أنك تُكْثِر ترْدادَه‏!‏ قال‏:‏ أرِدده حتى يَفهمه مَن لم يفهمه ‏"‏ قالت‏:‏ إلى أن تًفَهِّمه من لم يَفْهمه يكون ‏"‏ قد ‏"‏ مَلَّه من فَهمِه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب الحلم ودفع السيئة بالحسنة
قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم‏.‏
وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم ‏"‏‏.‏
وقال رجل لعمرو بن العاص‏:‏ والله لأتفرَّغنَّ لك قال‏:‏ هنالك وقعت في الشغل قال‏:‏ كأنك تهددني والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً قال‏:‏ وانت والله لئن قلت لي عشراً لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك قال‏:‏ معك يَدْخل لا مَعي‏.‏
وقيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك قال‏:‏ إياه فارحموا‏.‏
وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ فقال له‏:‏ إن كنتَ صادقاً فغَفر اللهّ لي وإن كنتَ كاذباً فغفر الله لك‏.‏
وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال‏:‏ يا هذا لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً فإنا لا نًكافيء مَن عمى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه‏.‏
ومَرَّ المَسيح بن مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شرًّا فقال خيراَ فقيل له‏:‏ وقال الشاعر‏:‏ ثَالَبني عَمْرٌو وثَالبته فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ قلتُ له خيراً وقال الخنى كل على صاحبِه كاذِب وقال آخر‏.‏
وذي رَحِمٍ قَلّمْت أَظفار ضغنه بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ إذا سُمْتهُ وَصْلَ القَرابة سامَني قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم فداويتُه بالحِلْم والمَرْءُ قادرٌ على سَهْمه ما كان في كَفِّه السًهم ‏"‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر ‏"‏ وكتب رجل إلى صديق له وبلَغه أنه وَقع فيه‏:‏ لئن ساءَني أن نِلْتِني بمَساءةٍ لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك وأنشد طاهرُ بن عبد العزيز‏:‏ إذا ما خَليلي أَسا مَرَّةً وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ ذكرتُ المقدم من فِعْلهِ فلم يفسد الآخرُ الأوّلا قيل للأحنف بن قيس‏:‏ ممنِ تعلَّمت الحِلْم قال‏:‏ من قيس بن عاصم المِنْقريّ رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول فقيل له‏:‏ هذا ابن أخيك قَتل ابنك فواللّه ما حَل حَبْوته ولا قطَع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له‏:‏ يا بن أخي أَثِمت برّبك ورَمَيت نفسَك بسَهْمك وقتلتَ ابن عمك‏.‏
ثم قال لابن له آخر‏:‏ قم يا بني فوارِ أخاك وحُلّ كِتاف ابن عمك وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة ثم أنشأ يقول‏:‏ إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي دَنَس يهجنه ولا أفْنُ من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن خطباء حي يقول قائلُهم بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن لا يفطنون لعَيْب جارهمُ وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ وقال رجل للأحنف بن قَيْس‏:‏ علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر قال‏:‏ هو الذُّل يا بن أَخي أَفتصبر عليه وقال الأحنف‏:‏ لستُ حليماً ولكنّي أتحالم‏.‏
وقيل ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ مَن أَحلمُ‏:‏ أنت أم معاوية قال‏:‏ تا للّه ما رأيتُ أجهلَ منكم إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم وأنا أَحلُم ولا أقدِر فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه‏!‏ قال‏:‏ إن شئتَ أخبرتُك بخَلَّة وإن شئت بخَلَّتين وإن شئت بثلاث قال‏:‏ فما الخَلَّة قال‏:‏ كان أَقوى الناس على نفسه قال‏:‏ فما الخلتان قال‏:‏ كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر قال‏:‏ فما الثلاث قال‏:‏ كان لا يجهل ولا يبْغي ولا يَبْخل‏.‏
وقيل لقَيْس بن عاصم‏:‏ ما الْحِلم قال‏:‏ أن تَصِل مَن قطَعك وتُعْطي مَن حرَمَك وتعفو عَمَّن ظلَمك‏.‏
وقالوا‏:‏ ما قرن شيء إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم ومن عَفْو إلى قُدْرة‏.‏
وقال لُقمانُ الحكيم‏:‏ ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة‏:‏ لا تعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحَرْب ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ليْست الأحلامُ في حي الرِّضا إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ وفي الحديث‏.‏
أقرب ما يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب‏.‏
وقال الحسن‏:‏ المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه وتلا قولَ الله عز وجلَّ‏:‏ ‏"‏ وَإذَا خاطَبَهُمْ الجاهلونَ قَالُوا سَلاماً ‏"‏‏.‏
وقال معاوية‏:‏ إني لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي وقال مُؤَرِّق العِجْليّ‏:‏ ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا‏.‏
وقال يزيدُ بن أبي حَبيب‏:‏ إنما غَضَبي في نَعْليّ فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا غَضِب الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ‏.‏
وقيل للأحنف‏:‏ ما الحِلْم فقال‏:‏ قوْل إن لم يكنِ فعل وصَمْت إن ضَرَّ قوْل‏.‏
وقال ‏"‏ أمير المؤمنين ‏"‏ علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ مَن لانَتْ كلمته وجبت مَحبَّتهُ‏.‏
وقال‏:‏ حِلْمك على السًفيه يكثر أنصارك عليه‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ مَن لم يصبر على كلمة سَمِع كلمات‏.‏
وقال‏:‏ رب غَيْظ تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه وأنشد‏:‏ رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره فقال لا عليك إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً انصرفْ إذا شئت‏.‏
وقال الشاعرُ في هذا المعنى‏:‏ لَنْ يًدْرِك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموِا حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام ويُشْتَموا فترَى الألوانَ كَاسفةَ لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام إذا قِيلت العوراءُ أغضى كأنّه ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ وأحسن بيْت في الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير‏:‏ إذا أنت لم تُعْرِض عن الجهل والخَنَى أصبتَ حَليماً أو أصابك جاهلُ وقال الأحنفُ آفةُ الحِلْم الذّلّ‏.‏
وقال لا حِلْم لمَن لا سَفِيه له‏.‏
وقال‏:‏ ما قلَّ سُفهاء قَوْم إلا ذَلْوا‏.‏
وأنشد‏:‏ لابدَّ للسًّودد من رِماح ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح يُدَافعون دونه بالرَّاح ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح وقال النَابغة الجعديّ‏:‏ ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا ‏"‏ ولا خَير في جَهْل إذا لم يَكُن له حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا ‏"‏ ولمّا أنشدَ هذين البيتن للنبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يَفْضُض اللهّ فاك ‏"‏ قال ‏"‏‏:‏ فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة‏.‏
وقالوا‏:‏ لا يَظهر الحِلْم إلاِّ مع الانتصار كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ سمعتُ أعرابيَّاً يقول‏:‏ كَان سِنانُ بن أبي حارثة أحلمَ من فَرْخ الطائر قلت‏:‏ وما حِلْم فرخ الطائر قال‏:‏ إنّه يخرج من بَيْضة في رأس نِيق ولا يتحوَل حتى يتوفّر ريشه ويَقْوى على الطيران‏.‏
‏"‏ وللأشْنَنْدانيّ‏:‏ وفي اللّين ضَعْفٌ والشَّراسة هَيْبةٌ ومَن لا يُهَب يُحْمَل على مَرْكب وَعْرِ وللفقر خيرٌ من غِنى في دَنَاءَةً ولَلْمَوتُ خيرٌ من حياة على صُغر وما كُلَّ حين يَنْفع الْحِلْمُ أَهْلَه ولا كُلَّ حالٍ يَقْبُح الْجَهلُ بالصَّبر وما بي عَلى مَن لان لي مِنْ فَظَاظَةٍ ولكنّني فَظّ أَبيٌّ على القَسرْ وقَال آخر في مَدح اَلحِلْم‏:‏ إني أرى الحِلْم مَحْمُوداً عواقبُه والجَهْلُ أفنَى من الأقوام أقوامَا ولسَابق‏:‏ ألمِ تَرَ أنّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ فكن دافناً للجهل بالحِلْم تَسْتَرح من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ ولغيره‏:‏ فيا ربِّ هَبْ لي منك حَلماً فإنني أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم وقال بعضً الحُكماء‏:‏ ما حَلا عِنْدي أفضل من غَيْظ أتجرّعه‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا فَتَنْدَمَ إذ لا تَنْفَعَنْك ندامةٌ كما ندِم المَغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا وقال علي عليه السلام‏:‏ أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل‏.‏
سُئل كِسْرى أنو شرِوان‏:‏ ما قَدْر الحِلْم فقال‏:‏ وكيف تَعْرِفُ قَدْر ما لم يَرَ كَمَالَه أحد‏.‏
وقال مُعاوية لخالد بن المُعَمَّر‏:‏ كيف حُبُّك لعليّ بن أبي طالب عليه السلامُ قال‏:‏ أُحِبّه لثلاثِ خِصال‏:‏ على حِلمه إذا غَضِب وعلى صِدقة إذا قال وعلى وَفائه إذا وَعد‏.‏
وكان يُقال‏:‏ ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه استَكْمل الإيمان‏:‏ من إذا غَضِب لم يُخْرِجْه غَضَبُه عن الحقّ ومَن إذا رَضيَ لَم يُخرِجه رِضاهُ إلى الظلم والباطل ومن إذا قَدَر لم يَتَناول ما ليس له‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ إذا سَمعت الكلمةَ تُؤْذِيك فطَأْطِىء لها حتى تَتخطاك‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ إنما يُعْرف الحِلم عند الغَضَب‏.‏
فإذا لم تَغْضب لم تَكن حِليماً وقال الشاعر‏:‏ وليس يَتِمًّ الحِلْم لِلمَرْء راضِياً إذا هو عند السُّخط لم يَتَحِلَّم وقال بعضُ الحكماء‏:‏ إنّ أفضلَ وادٍ تُرى به الحِلْمُ فإذا لم تكن حَلِيماً فتحلّم فإذا لم تكن عَلِيماً فتعلِّم فقلَّما تشبَّه رجلٌ بقَوْم إلا كان منهم‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ الحِلم عُدَّة على السّفيه لأنك لا تُقابل سفيهاً بالإعراض عنه والاستخفاف بفِعْله إلا أَذْللتَه‏.‏
ويقال‏:‏ ليس الحَلِيم مَن ظُلِم فَحَلُم حتى إذا قَدَر انْتَقم ولكنَّ الحَلِيم من ظُلِم فَحَلُم ثمّ قَدَر فَعَفا‏.‏
وللأحنف أو غيره‏:‏ ولربما ضحِك الحَليمُ من الأذىَ وفؤادهُ من حَرِّه يَتأَوَّهُ ولرًبَّما شَكَلَ الحليمُ لسانَهَ حَذَرَ الجواب وَإنّه لمُفَوَّه وقيل‏:‏ ما استَبَ اثنان إلا غَلب ألأمُهما‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ وجدتُ الحلم أنصرَ لي من اِلرِّجال‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ إيّاك وعِزَّةَ الغَضب فإنها تصَيرك إلى ذلّ الاعتذار‏.‏
وقيل‏:‏ مَن حَلُم ساد ومَن تَفهَّم ازداد‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ ما نازعني أحد قط إلا أخذتُ أمري بإحدى ثلاث‏:‏ إن كان فوقي عرفتُ قدرَه وإن كان دُوني أكرمتُ نفسي عنه وإن كانَ مثلي تفَضَّلت عليه‏.‏
ولقد أَحْسن الذي أخذ هذا المعنى فَنَظَمه فقال‏:‏ إذا كان دُوني مَنْ بُليت بجَهْله أَبَيْتُ لِنَفْسي أن تُقَارع بالجَهْل وإن كان مثلي ثم جاء بِزَلَّة هَوِيتُ لصَفْحي أن يُضاف إلى العَدْل وان كنت أدنى منه قدراً ومَنْصِباً عَرفت له حَقَّ التقدم والفضل وفي مِثْله قال بعضُ الشعراء‏:‏ سأُلزِم نَفسي الصَفحَ عن كل مُذْنبٍ وإن كَثُرت منه إليَّ الجرائمُ ولا الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم فأمًا الذي فَوقي فأَعْرِف فضلَه وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ قائم وأمّا الذي دوني فإن قال صُنت عن إجابته نَفْسي وإن لامَ لائِم وأمّا الذين مِثْلي فإنْ زلَّ أو هَفَا تفضلت إنّ الفَضل للحُرّ لازم ولأصْرم بن قَيْس ويُقال إنها لعليّ عليه السلامُ‏:‏ أَصَمُّ عن الكَلِم المُحْفِظاتِ وأَحْلُمُ والحِلْمُ بي أَشْبَهُ فلا تَغْتِرر برُواء الرِّجال وما زَخْرَفوا لك أو مَوَّهوا فكم من فَتَى يُعْجِب الناظرين له أَلْسُنٌ وله أَوْجُه ينام إذا حَضَر المَكْرُمَاتِ وعند الدَّناءة يستنبه وللحَسن بن رجاء‏:‏ أُحِبُّ مكارِم الأخلاق جَهْدِي وأَكْره أن أَعيب وأن أُعابَا وأَصْفَح عن سِباب النَّاس حِلْماً وشرُّ الناس مَن يَهْوَى السِّبابا ومَن هَاب الرِّجالَ تَهَيَّبُوه ومَن حَقَر الرِّجالَ فلن يُهَابا ومَن قَضَت الرجالُ له حُقوقاً ولم يَقْض الحُقوِق فما أصابَا وقال محمد بن عليّ رضوان الله عنهما‏:‏ مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه ومَن أَصْلح مالَه استَغْنى ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه ومَن صَبر حُمِد أمرُه ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه ومَن اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه‏.‏
وسأل أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السلامُ كبيراً من كُبراء الفُرْس‏:‏ أيُّ شيء لمُلوككمٍ كان أحمدَ عندكم قال‏:‏ كان لأرْدَشير فضل السَّبْق في المملكة غير أنّ أحمدَهم سيرة أنو شروان‏.‏
قال‏:‏ فأيّ أخلاقِه كان أغلبَ عليه قال‏:‏ الحلم والأناة‏.‏
قال‏:‏ هما توأمان يُنتجهما عُلوّ الهمَّة‏.‏
إنّي وَهَبْت لظاِلمي ظُلْمِيِ وغفَرْتُ ذاك له على عِلم ورأيتُه أسدَى إليَّ يداَ لما أبان بجَهْله حِلْمي رَجَعَتْ إساءتُه عليه وإح ساني إليَّ مُضاعَف الغُنْم وغَدْوتُ ذا أَجْرٍ ومَحْمدةٍ وغداَ بكَسْب الظلم والإثمْ وكأنما الإحسانُ كان له وأنا المُسيء إليه في الحُكْم ما زال يَظْلمني وأَرْحَمه حتى رَثيتُ له من الظُّلم ولمحمد بن زياد يَصِف حُلماء‏:‏ نَخالُهمُ في الناس صُمَّاً عن الْخَنَىِ وخُرْساً عن الفَحْشاء عند التَهاجُرِ ومَرضىَ إذا لُوقُوا حياءً وعِفّةَ وعند الحِفَاظ كاللُّيوث الخَوادِر كأن لهم وَصْماَ يخافون عارَه وما ذاك إلاّ لاتّقاء المَعاير وله أيضاً‏:‏ وأَرْفع نفسي عنِ نًفوس وربما تَذلَلتُ في إكرامها لنُفوس وإنْ رامني يوماَ خَسيسٌ بجَهْله أَبى اللهُ أنْ أَرْضى بعِرْضِ خَسيس ولبعضهم‏:‏ وإذا استشارك مَنْ تَوَدّ فُقل له أَطِع الحَلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا واعلم بأنَك لن تَسُود ولن ترَى سُبل الرًشادِ إذا أَطعتَ هَواكا وقال آخر‏:‏ وكن مَعْدِناً للحِلم واصفَح عن الأذى فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ وأَحْبِب إذا أجبتَ حُثا مُقارِباً فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع وأَبْغِض إذا أبغضتَ غيرَ مُباين فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع ‏"‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:27 AM

باب السودد
قيل لعَدِي بنِ حاتم‏:‏ ما السودد قال‏:‏ السيد الأحمق في مالِه الذَليل في عِرْضه المُطَّرِح لحِقده‏.‏
وقيل لقَيْس بن عاصم‏:‏ بمَ سَوَدك قومُك قال‏:‏ بكَفِّ الأذى وبَذْل النًدى ونَصْر المَوْلى‏.‏
وقال رجلٌ للأحنف بم سوَدك قومُك وما أنت بأشرفهم بَيتاً ولا أُصْبحهم وَجهاً ولا أحسنهم خُلُقاً قال‏:‏ بخِلاف ما فيك با بنَ أخي قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ بتركي من أَمْرك ما لا يَعْنِيني كما عناك من أَمْري ما لا يَعْنِيك‏.‏
وقال عمرُ بن الخطَاب رضي الله عنه لرجل‏:‏ مَن سيِّد قَوْمك قال‏:‏ أنا قال كذبت لو كنتَ كذلك لم تَقُلْه‏.‏
وقال ابن الكَلْبي‏:‏ قَدِم أوسُ بنُ حارثة بن لأم الطائي وحاتمِ بنُ عبد الله الطّائي على النُّعمان بن المُنذر فقال لإياس بن قَبِيصة الطائيّ‏:‏ أيهما أفْضل قال‏:‏ أبيتَ اللعنَ أيها الملك‏.‏
إنِّي من أحدهما ولكنْ سَلهما عن أَنْفسهما فإنهما يُخبرانك‏.‏
فدخل عليه أوسٌ فقال أنت أفضلُ أم حاتم فقال‏:‏ أبيتَ اللعن إنّ أدنى ولد حاتم أفضلُ مني ولو كنتُ أنا وولدي ومالي لحاتم لأنْهبَنَا في غَداة واحدة‏.‏
ثم دخل عليه حاتم فقال له‏:‏ أنت أفضلُ أم أَوس فقال‏:‏ أبيت اللعن إنّ أدنى وسأل عبدُ الملك بن مَروانَ روح بن زِنْباع عن مالك بن مِسْمع فقال‏:‏ لو غَضِب مالكٌ لغَضِب معه مائةُ ألف سيف لا يسأله واحدٌ منهم‏:‏ لم غضبتَ فقال عبدُ الملك‏:‏ هذا واللّه السودد‏.‏
أبو حاتم عن العُتبي قال‏:‏ أهدى ملكُ اليمن سبعَ جزائر إلى مكة وأوصى أن يَنحرها أعزُ قرشيّ بها فأتت وأبو سفيان عَروس بهند فقالت له هِنْد‏:‏ يا هذا لا تَشغلك النّساء عن هذه الأكرومة التي لعلّك أن تُسْبق إليها فقال لها‏:‏ يا هذه ذرِي زَوْجك وما اختار لنفسه فواللّه لا نحرها أحدٌ إلا نحرتُه‏.‏
فكانت في عُقُلها حتى خرَج إليها بعد السابع فنَحرها‏.‏
ونظر رجلٌ إلى معاوية وهو غلام صغير فقال‏:‏ إني أظنّ أنّ هذا الغلام سيسود قومَه فسمعته أمه هِنْد فقالت‏:‏ ثكِلتُه إذاً إن لم يَسُد غيرَ قومه‏.‏
وقال الهيثم بن عَدِيِّ‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إذا كان الصبيّ سابل الغُرّة طويل الغُرْلة مُلتاث الإزْرَة فذاك الذي لا يُشكّ في سُودده‏.‏
ودخل ضَمْرة بن ضمْرة على النعمان بن المُنْذر وكانت به دَمامة شديدة فالتفت النعمانُ إلى أصحابه وقال‏:‏ تَسمع بالمُعيديّ خير من أن ترإه‏.‏
فقال‏:‏ أيها الملك إِنما المرء بأصغريه قلبِه ولسانه فإن قال قال ببَيان وإن قاتل قاتل بجَنَان قال‏:‏ صدقت وبحَقِّ سوّدك قومُك‏.‏
وقيل لعَرابة الأوسيّ‏:‏ بم سوَّدكَ قومُك قال‏:‏ بأربع خلال‏:‏ أَنْخَدع لهم في مالي وأذِلّ لهم في عِرْضي ولا أحْقِر صغيرَهم ولا أحسُد كبيرَهم‏.‏
وفي عَرابة الأوْسيّ يقول الشَّمَّاخ وهو ‏"‏ ابن ‏"‏ ضرِار‏:‏ رأيتُ عَرابة الأوْسي يَسمو إلى الخيْرَاتِ مُنقطع القَرينِ إذا ما رايةٌ رُفعت لمجْدٍ تلقاها عرَابة باليمين وقالوا‏:‏ يَسود الرجل بأربعة أشياء‏:‏ بالعَقل والأدب والعِلم والمال‏.‏
وكان سلم بنُ نوفل سيِّدَ بني كِنانة فوَثب رجلٌ على ابنه وابن أخيه فجَرَحهما فأُتي به فقال ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ ما أمَنك من انتقامي قال‏:‏ فلِم سَوَّدْناك إذاً إلا أن تكْظم الغَيظ وتَحْلُم عن الجاهل وتحتمل المكروه فخلّى سبيلَه فقال فيه الشاعر‏:‏ يُسوَّد أقوام وليسوا بسادةٍ بل السيّد الصِّنديد سَلم بنُ نوفل وقال ابن الكلْبي‏:‏ قال لي خالدٌ العَنْبري‏:‏ ما تعُدُّون السُّودد قلت‏:‏ أمّا في الجاهليَّة فالرِّياسة وأما في الإسلام فالوِلاية وخَيْر من ذا وذاك التقوَى قال‏:‏ صدقت كان أبي يقول‏:‏ لم يُدْرِك الأوِّلُ الشرفَ إلا بالعقل ولم يُدْرِك الآخرُ إلاّ بما أَدْرَك به الأوّل قلتً له‏:‏ صدق أبوك إنما ساد الأحنف بن قيْس بحلْمه ومالك بن مِسْمَع بحُبّ العشيرة له وقتُيبة بن مُسلم بدَهائه وساد المُهَلّب بهذه الْخِلال كلّها‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ قيل لأعرابيّ يقال له مُنْتَجع بن نَبْهان‏:‏ ما السَّميدع قال‏:‏ السيّد المُوَطّأ الأكناف‏.‏
وكان عمر بن الخطاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ يُفْرش له فِراش في بَيْته في وَقْت خلافته فلا يجلس عليه أحد إلا العبَّاس بن عبد المطّلب وأبو سُفيان بن حَرْب‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سُفيان‏:‏ كل الصيد في جَوْف الفَرأ‏.‏
والفرأ‏:‏ الْحِمار الوَحْشي وهو مَهموز وجَمعه فِراء ومعناه‏:‏ أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش‏.‏
ودخل عمرو بنُ العاص مكة فرَأى قوماً مِن قُريش قد تحلّقوا حَلقة فلما رَأوه رَموا بأبصارهم إليه فعَدل إليهم فقال‏:‏ أَحْسبَكم كنتم في شيء من ذِكْرِي قالوا‏:‏ أجل كنا نُمَاثِل بينكَ وبن أخيكَ هِشام أيّكما أفضل‏.‏
فقال عمرو‏:‏ إنّ لهشام عليَّ أربعةً‏:‏ أمه ابنة هِشام بن المُغيرة وأُمي من قد عَرفتم وكان أحبَّ الناس إلى أبيه منِّي وقد عرفتم مَعْرفة الوالد وأَسْلَم قبلي واستُشْهِد وبقيتُ‏.‏
قال قيسُ بنِ عاصم لبَنِيه لما حضرته الوفاة‏:‏ ‏"‏ يا بَنيَّ ‏"‏ احفَظوا عنّي فلا أحدَ أنصح لكم منّي أمَّا إذا أنامِتُّ فسَوِّدوا كِبَارَكم ولا تُسوِّدوا صغارَكم فيَحقر الناسُ كِبارَكم‏.‏
وقال الأحنفُ بن قيس‏:‏ السُّودد مع السَّواد‏.‏
وهذا المعنى يحتمل وجهين من التفسير‏:‏ أحدهما أن يكون أراد بالسواد سوادَ الشعر يقول‏:‏ من لم يَسُد مع الحَداثة لم يَسُد مع الشيخوخة‏.‏
والوجه الآخر أن يكون أَراد بالسَّواد سوادَ الناس ودَهْماءهم يقول‏:‏ من لم يَطِرْ له اسمٌ على ألسنة العامّة بالسُّودد لم يَنْفعه ما طار له في الخاصة‏.‏
وقال أَبانُ بن مَسْلمة‏:‏ ولَسنا كقَوْم مُحُدَثين سِيادةً يُرَى ما لها ولا تُحَسّ فَعالُها مَساعِيهمُ مَقَصورَةٌ في بُيوتهم ومَسْعاتنا ذُبيانُ طُرّاً عِيالُها الهيْثم بن عَدِيّ قال‏:‏ لما اْنفرد سًفيان بن عُيينة ومات نُظراؤه من العُلماء تَكاثر الناسُ عليه فأنشأ يقول‏:‏ خَلَت الدِّيارُ فَسُدت غَيْر َمُسَوَّد ومِنَ الشَّقاء تَفَردي بالسُّوددِ سودد الرجل بنفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أسْرع به عَمَلُه لم يُبْطِىء به حَسَبُه ومَن أَبطأ به عملُه لم يسرع به حسبه وقال قس بن ساعدة‏:‏ من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نفس عصام سودت عصاماً وعلمته الكر والإقداما وقال عبد الله بن معاوية‏:‏ لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقال قس بن ساعدة‏:‏ لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحدٌ قبلي ولا يردها أحدٌ بعدي أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم عليه وأيما رجلٌ أدعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له‏.‏
وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لوم دونه كرم فالكرم أولى به‏.‏
تريد أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه فإن كان كريماً وآباؤه لئام لم يضره ذلك وإن كان لئيماً وآباؤه كرامٌ لم ينفعه ذلك‏.‏
وإني وإن كنت ابن سيد عامرٍ وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ أبى الله أن أسمو بجدٍ ولا أب وتكلم رجل عند عبد الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه فقل له‏:‏ ابن من أنت قال‏:‏ أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك قال‏:‏ صدقت‏.‏
فأخذ الشاعر هذا المعنى فقال‏:‏ ما لي عقلي وهمتي حسبي ما أنا مولى ولا أنا عربي إذا انتمى منتم إلى أحد فإنني منتمٍ إلى أدبي وقال بعض المحدثين‏:‏ رأيت رجال بني دالقٍ ملوكاً بفضل تجاراتهم وبربرنا عند حيطانهم يخوضون في ذكر أمواتهم وما الناس إلا بأبدانهم وأحسابهم في حر اماتهم المروءة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا دين إلا بمروءة‏.‏
وقال ربيعة الرأي‏:‏ المروءة ست خصال‏:‏ ثلاثة في الحضر وثلاثة في السفر فأما التي في السفر‏:‏ فبذل الزاد وحسن الخلق ومداعبه الرفيق وأما التي في الحضر‏:‏ فتلاوة القرآن ولزوم المساجد وعفاف الفرج‏.‏
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ المروءة مروءتان‏:‏ مروءة ظاهرة ومروءة باطنة فالمروءة الظاهرة الرياش والمروءة الباطنة العفاف‏.‏
وقدم وفد على معاوية فقال لهم‏:‏ ما تعدون المروءة قالوا‏:‏ العفاف وإصلاح المعيشة قال اسمع يا يزيد‏.‏
وقيل لأبي هريرة‏:‏ ما المروءة قال‏:‏ تقوى تالله وتفقد الضيعة‏.‏
وقيل للأحنف‏:‏ ما المروءة قال‏:‏ العفة والحرفة‏.‏
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ إنا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سودداً ونعمد العفاف وإصلاح المال مروءة‏.‏
قال الأحنف‏:‏ لا مروءة لكذوب ولا سودد لبخيل ولا ورع لسيء الخلق وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ تجاوزوا لذوي المروآت عن عثراتهم فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وإن يده لبيد الله‏.‏
وقال العتبي عن أبيه‏:‏ لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس‏:‏ أن يكون عالماً صادقاً عاقلاً ذا بيان مستغيناً عن الناس‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل وقيل لعبد الملك بن مروان‏:‏ أكان مصعب بن الزبير يشرب الطلاء فقال‏:‏ لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شر به‏.‏
وقالوا‏:‏ من أخذ من الديك ثلاثة أشياء ومن الغراب ثلاثة أشياء تم بها أدبه ومُروءته‏:‏ مَن أخذ من الدِّيك سَخاءه وشَجاعته وغَيْرته ومن الغُراب بُكوره لطَلَب الرِّزق وشدَّة حَذَره وسَتر سِفاده‏.‏
طبقات الرجال قال خالدُ بنُ صَفْوان‏:‏ الناسُ ثلاثُ طبقات‏:‏ طَبقة عُلماء وطَبقة خُطباء وطبقة أدباء ورِجْرِجة بين ذلك يغْلُون الأسعار ويُضَيِّقون الأسواق ويُكَدِّرون المِياه‏.‏
وقال الحسنِ‏:‏ الرِّجال ثلاثة‏:‏ فَرَجل كالغِذاء لا يُسْتغنى عنه ورَجُل كالدَّواء لا يحتاج إِليه إلا حِيناَ بعد حِين ورَجل كالدَّاء لا يحتاج إليه أبداً‏.‏
وقال مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير‏:‏ الناسُ ثَلاثة‏:‏ ناسٌ ونَسْناس وناس غُمِسوا في ماء الناس‏.‏
وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الرجالُ أربعة‏:‏ فَرَجل يَدْرِيَ ويَدْري أنه يَدْري فذلك عالم فَسَلُوه ورجُل يَدْري ولا يَدْري أنه يَدْري فذلك النَّاسي فذَكِّروه ورجُل لا يَدْري ويَدْري أنه لا يَدْري فذلك الجاهلُ فعلِّموه ورجُل لا يَدْري ولا يَدري أنه لا يَدري فذلك الأحمقُ فارفضوه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ أَليس من البَلْوى بأنّك جاهل وأنك لا تَدْري بأنك لا تَدْري إذا كنت لا تَدْري ولستَ كمن درَى فكيف إذاً تَدْرِي بأنك لا تَدْري ولآخر‏:‏ وما الدَّاء إلا أن تُعلِّم جاهلاً ويَزْعُم جهلاً أنه منك أَعْلَمُ وقال علّيّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالمٌ ربَّاني ومُتعلِّم على سَبِيل نَجَاة ورَعَاع هَمَجٌ يميلون مع كل ريح‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ الِإخوانُ ثَلاثة‏:‏ فأخٌ يُخْلِص لك ودَّه ويَبْذُلُ لك رِفْدَه ويَستَفْرغ في مُهمِّك جُهْده وأَخٌ ذو نِيّة يَقْتصر بك على حُسن نيَّته دون رِفْده ومَعُونته وأخٌ يتَملق لك بلِسانِه ويَتَشاغَل عنك بشانه ويُوسعكَ مِن كَذِبه وأيمانه‏.‏
وقال الشعبيّ‏.‏
مَرَّ رجُل بعبد الله بن مَسعُود فقال لأصحابه‏:‏ هذا لا يَعْلم ولا يَعْلم أنه لا يَعْلم ولا يَتعلّمِ ممن يَعْلم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كُنْ عالماَ أو مُتَعلماً ولا تكُن الثالثةَ فتَهْلِك‏.‏
الغوغاء الغوغاء‏:‏ الدَّبا وهي صغار الجَراد وشُبِّه بها سَوَادُ الناس‏.‏
وذُكر الغَوْغاء عند عبد الله بن عباس فقال‏:‏ ما اجتَمعوا قطُّ إلا ضَرُّوا ولا افترقوا إلا نفَعوا وقيل له‏:‏ قد عَلِمْنا ما ضَرَّ اجتماعهم فما نَفع افتراقهم قال‏:‏ يَذْهب الحجَّام إلى دكانه والحداد إلى أكياره وكل صانع إلى صِنَاعته‏.‏
ونظر عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه إلى قَوْم يَتبعون رجلاً أخذ في رِيبَة فقال‏:‏ لا مَرْحباً بهذه الوُجوه التي لا تُرَى إلا في كلِّ شرًّ‏.‏
وقال حبيب بن أوس الطائي‏:‏ إنْ شِئْتَ أن يَسْوَدَّ ظَنُّك كُلُّهُ فأَجِلْهُ في هذا السّوَادِ الأعْظم وقال دِعْبل‏:‏ ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم الله يَعْلم أَنِّي لم أَقُلْ فَنَدَا إنِّي لأفْتح عَيْني حِينَ أَفْتَحَها على كَثيرٍ ولكنْ لا أرَى أحدا الثقلاء قالت عائشةُ أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ نزلتْ آيةٌ في الثُّقلاء‏:‏ ‏"‏ فإذا طَعمتُمْ فِانْتَشرًوا ولا مًسْتَأْنِسِين لِحَديث ‏"‏‏.‏
وقال الشعبي‏:‏ مَن فاتَتْه رَكْعتا الفَجْر فَلْيلعن الثقلاء‏.‏
وقيل لجالينوس‏:‏ بِمَ صار الرجلُ الثقيلُ أثقلَ من الْحِمْل الثقيل فقال‏:‏ لأنّ الرجلَ الثقيل إنما ثِقَلُه على القَلْب دون الجَوارح‏.‏
والحِمْل الثَّقيل يَسْتَعِين فيه المرء بالجَوَارح‏.‏
وكان أبو هُرَيرة إِذا استثَقل رجلاً قال‏:‏ اللهم اغْفِر له وأرِحْنا منه‏.‏
وكان الأعمشُ إِذا حَضر مَجلسه ثقيلٌ يقول‏:‏ فما الفِيلُ تَحْمِلُه مَيِّتاً بأثقلَ من بَعْض جُلاسِنَا وقال أبو حَنِيفة للأعمش وأتاه عائِداً في مرضه‏:‏ لَوْلا أن أثْقُل عليك أبا محمَد لعُدْتك واللّهِ في كلّ يوم مَرّتين فقال له الأعمش‏:‏ والله يا بن أخي أنتَ ثَقِيل عليّ وأنتَ في بَيْتك فكيف لو جئتني في كلّ يوم مَرَّتين‏.‏
وذكر رجلٌ ثقيلاً كان يَجْلِس إليه فقال‏:‏ واللّه إِني لُأبْغِضُ شِقِّي الذي يليه إذا جَلس إلِيّ‏.‏
ونقَشَ رجل على خاتَمه‏:‏ أَبْرَمْتَ فَقُم‏.‏
فكان إذا جَلس إليه ثقيلٌ ناوَله إِيَّاه وقال‏:‏ اقرأ ما على هذا الخاتم‏.‏
وكان حَمّاد بن سَلمة إذا رأى من يَستَثقله قال‏:‏ ‏"‏ رَبَّنَا اكشفْ عَنَا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنونَ ‏"‏‏.‏
وقال بشّار العُقَيليّ في ثَقِيل يُكنى أبا عِمْران‏:‏ رُبمَّا يَثْقُل الجَلِيسُ وإنْ كا نَ حنيفاً في كِفّة الميزانِ ولقد قلتُ إذْ أطل عَلَى القَوْ م ثَقِيل يُرْبي عَلَى ثَهْلان كيفَ لا تَحْمِل الأمانَةَ أُرْض حَمَلَتْ فوقَها أبا عُمْران أنتَ يا هذا ثَقِيلُ وثقيل وثقيل أنتَ في المَنْظَر إنْسا ن وفي الميزان فيل وقال الحَسَن بن هانئ في رجل ثَقِيل‏:‏ ثَقِيل يُطَالِعُنا من أمَمْ إذا سره رغم أنفي ألم أقوله له إذا بَدَا لا بَدَا ولا حملته إلينا قدم فَقدتُ خيالَك لا مِن عَمىٍ وصوت كلامك لا من صمم وله فيه‏:‏ وما أظنَ القِلاَصَ مُنْجِيتي منك ولا الفلك أيها الرجل ولو رَكِبْت البرَاق أدْرَكني منك على نَأي دَارِك الثَقَل هل لك فيما ملكته هِبةً تَاخذه جُمْلة وتَرْتَحِل وله فيه‏:‏ يا مَن على الجُلاس كالفَتْق كلامُك التًخْديش في الحَلْق هل لك في مالي وما قد حَوَت يَدَاي من جِلٍّ ومن دق ألا يا جبل المَقْت ال ذي أرسىَ فما يَبْرحْ لقد أكثرتُ تَفكِيري فما أدْرِي لما تَصْلُحْ فما تصلح أنْ تُهْجَىَ ولا تَصلحُ أن تُمْدَح أَهْدى رجلٌ من الثُقلاء إلى رجل من الظُرفاء جَمَلاَ ثم نزَل عليه حتى أبْرمه فقال فيه‏:‏ يا مبرماً أهدى جَمَلْ خُذْ وانصرف ألفيْ جَمَل قالَ وما أوْقارُها قلتُ زَبِيبٌ وعَسَلْ قال ومَن يَقُودها قلتُ له ألْفَا رَجُل قال ومَن يَسُوقها قلتُ له ألْفَا بَطَل قال وما لِباسُهم قلتُ حُلِيً وحُلَل قال وما سِلاحُهم قلتُ سُيوف وأَسَل قال عَبِيد لي إذن قلتُ نَعم ثم خَوَل قال بهذا فاكتُبوا إذن عليكم لي سِجل قال وقد أثقلتكم قلتُ له فوق الثَقل قال فإني راحلٌ قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل يا كوكبَ الشُؤم ومَن أرْبَى على نحْس زُحَل يا جبلاً مِن جَبَلٍ في جَبَلٍ فوق جبَل وقال الحَمْدوني في رجل بَغِيض مَقِيت‏:‏ أيابن البَغِيضة وابن البَغِيضِ ومَن هو في البُغض لا يُلْحَق سألتًك بالله إلا صَدَقْت وعِلْمي بأنكَ لا تَصدق أتبغضُ نَفسك مِن بُغضها وإلا فأنتَ إذن أحْمَقُ وله فيه‏:‏ في حمير الناس إن كُنتَ من الناس تُعَدُّ ولقد أُنبئت‏:‏ إبليس إذا راك يَصُد ولحبيب الطائي في مثله أي في رجل مَقِيت‏:‏ يا مَن تَبَرَّمت الدنيا بطَلعته كما تَبَرَّمت الأجفان بالرَّمدِ وللحسن بن هانئ في الفضل الرًقاشيّ‏:‏ رأيتُ الرقاشيِّ في مَوْضِع وكان إليَّ بغيضاً مقيتا فقال اقترِح بعض ما تَشْتَهِي فقلتُ اقترحتُ عليك السُّكوتا وأنشد الشَعبيُّ‏:‏ إنّي بُلِيتُ بمَعشر نَوْكَى أخفهمُ ثقيلْ بُلْهٌ إذَا جالستهُم صَدِئَتْ لقُرْبهمُ العُقول لا يُفْهموني قولهم ويَدِقُّ عنهم ما أقول فَهُمُ كثِيرٌ بي كما أنيِّ بقُرْبهم قليل وقال العُتْبيّ‏:‏ كتب الكِسائيّ إلى الرّقاشي‏:‏ شَكَوْتَ إلينا مَجَانينَكم وأشْكُو إليك مَجَانيننا وأنشأتَ تَذْكر قُذّاركم فأنتِنْ وأَقْذِرْ بمَنْ عِنْدنا فلَوْلا السَّلامة كُنًا كَهُم ولوْلا البَلاء لكانوا كَنَا وقال حبيب الطائي‏:‏ وقال حبيب‏:‏ يا مَن لهُ في وَجْهه إذ بَدَا كنُوز قارُون من البُغْض لو فر شيء قطٌّ مِن شكله فرَّ إذاً بعضك من بَعْض كوْنُك في صُلْبِ أبينا الّذِي أهبطنا جمعاً إلى الأرْض وقال أبو حاتم‏:‏ وأنشدني أبو زَيْد الأنصاريّ النًحوي صاحبُ النَّوادر‏:‏ وَجْهُ يحيى يدْعو إلى البَصْق فيه غير أنِّي أَصون عنه بُصاقي قال أبو حاتم‏:‏ وأنشدني العُتبيّ‏:‏ له وَجْه يَحلّ البَصقُ فيه ويَحْرُم أن يُلقَّى بالتَّحيَّة قال وأنشدني‏:‏ قميصُ أبي أميِّة ما عَلِمتم وأوْسَخُ منه جِلْدُ أبي أُمَيَّه التفاؤل بالأسماء سأَل عُمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يَسْتعين به على عمل عن اسمه واسم أبيه‏.‏
فقال‏:‏ ظالم بن سُراقة فقال‏:‏ تَظْلم أنت ويَسْرِق أبوك ولم يَسْتَعِن به في شيء‏.‏
وأقبل رجلٌ إلى عُمَر بن الخطاب فقال له عمر‏:‏ ما اسمك فقال‏:‏ شِهاب ابن حُرْقة قال‏:‏ ممَّن قال‏:‏ من أهل حَرة النار قال‏:‏ وأين مَسكنك قال‏:‏ بذات لَظى قال‏:‏ اذهب فإن أهلَك قد احترقوا‏.‏
فكان كما قال عمر رضي الله عنه‏.‏
ولقي عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه مَسْروق بن الأجْدع فقال له‏:‏ من أنتَ قال‏:‏ مَسْروق بن الأجدع‏.‏
قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الأجدع شيطان‏.‏
وروى سُفيان عن هشام الدَسْتُوائيّ عن يحيى بن أبي كَثير قال‏:‏ كَتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه‏:‏ لا تُبْردوا بريداً إلا حَسَن الوجه حَسَنَ الاسم‏.‏
ولمَّا فرغ المُهلّب بن أبي صُفْرة من حرب الأزارقة وجه بالفتْح إلى الحجاج رجلاً يقال له مالك بن بَشِير فلما دخل على الحجّاج قال له‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ مالك بن بَشِير محال‏:‏ مُلْك وبِشارة‏.‏
وإذا تكُون كريهةٌ فَرَّجْتها أدعو بأسْلم مَرَّةً ورَباح يُريد التَّطيّر بأسْلم ورَباح للسَّلامة والرِّبح‏.‏
الرّياشي عن الأصمعيّ قال‏:‏ لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينه على رجل من الأنصار فصاح الرجلً بغُلامَيه‏:‏ يا سالم ويا يسار فقال رسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ سَلِمت لنا الدّار في يُسْر‏.‏
وقال سَعيد بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وَهب المَخْزومي‏:‏ قَدِم جَدِّي حَزْن بن أبي وَهْب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ كيف اسمُك قال‏:‏ حَزْن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل مَهْل قال‏:‏ ما كنتُ لأدع اسماً سَمّتني به أُمِّي قال‏:‏ سَعِيد‏:‏ فإِنا لَنَجد تلك الحزُونة في أخْلاقنا إلى اليوم‏.‏
وإنما تَطيّرت العرب من الغُراب للغُربة إذ كان اسمُه مُشْتَقًّا منها‏.‏
وقال أبو الشِّيص‏:‏ أشاقَكَ والليلً مُلْقِي الجرَانِ غُرابٌ يَنُوحِ على غُصْن بَانِ وفي نَعَبات الغُراب اغتِراب وفي البَان بينٌ بَعيد التَّدَاني ولآخر في السَّفَرْجل‏:‏ خَوْفَ الفِراق لأنّ شَطْر هِجَائه سَفَر وحَقّ له بأن يَتَطَيًّرَا ولآخر في السَّوْسن‏:‏ ياذا الَّذي أهدئ لنا السَّوْسَنا ما كنتَ في إهدائه مُحْسِنَا شَطْرُ اْسمه سَوء فقد سُؤْتَني يالَيت أنِّي لم أَر َالسَّوسَنا ولآخرَ في الأتْرُج‏:‏ أَهْدَى إليه حبِيبُه أُتْرُجّة فَبَكَى وأشْفَق من عِيافة زَاجرِ خافَ التَّبدّل والتَّلوُّن إنّها لَوْنان باطنُها خلافُ الظّاهر وقال الطائي في الحَمام‏:‏ هُنّ الحَمام فإن كَسَرتَ عِيافةً مِن حائِهنّ فإنهن حِمامُ وكان أشعبُ يَختلف إلى قَيْنة بالمَدينة فلمّا أراد الخُروِج سألها أن تُعْطِيه خاتَم ذَهب في يَدِها ليَذكرها به قالت‏:‏ إن ذَهب وأَخاف أن تذْهب ولكن هذا العُود فلعلّك أن تعود‏.‏



باب الطيرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ثلاثة لا يَكاد يَسْلم منهنّ أحد‏:‏ الطِّيرة والظنّ والحَسد قيل‏:‏ فما المَخْرج منهنّ يا رسولَ اللّه قال‏:‏ إذا تَطيَّرت فلا تَرْجع وإذا ظَننت فلا تًحقِّق وإذا حَسَدت فلا تَبْغ‏.‏
وقال أبو حاتم‏:‏ السانح ما وَلاك مَيامِنه والبارِح ما وَلاك ميَاسره والجابه ما استقبلك من تُجاهك والقَعِيد الذي يَأْتيك من خَلْفك‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا عَدْوَى ولا طِيَرة‏.‏
وقال‏:‏ ليس منا مَن تَطيّر‏.‏
وقال‏:‏ إذا رَأَى أحدُكم الطِّيرة فقال‏:‏ اللَهمّ لا طَير إلا طَيْرك ولا خَيْر إلا خيْرك ولا إله غَيْرك لم تَضره‏.‏
وقد كانت العَرب تتطيّر ويَأْتي ذلك في أشعارهم وقال بعضهم‏:‏ وما صَدَقَتك الطير يوم لَقِيتَنا وما كان مَنْ دَلاك فينا بخَابِر وقال حسّان رضي الله تعالى عنه‏:‏ لتَسمعنَّ وَشيكاً في ديارِهُم الله أكْبر يا ثاراتِ عُثْمانا وقال الحَسَن بن هانئ‏:‏ قامَ الأمير بأمر الله في البَشَر واسْتَقْبل المُلْك في مَسْتَقبل الثمر فالطَير تُخْبِرنا والطَّيُر صادقةٌ عن طِيبِ عَيْش وعن طًول من العُمر وقال الشَّيْباني‏:‏ لما قَدِم قُتيبة بن مُسْلم والياً على خُراسان قام خَطِيباً فسَقطت المِخْصَرَة من يَدِه فتطيّر بها أهلً خُراسان فقال‏:‏ أيها الناس ليس كما ظَننتم ولكنه كما قال الشاعر‏:‏ فأَلْقت عَصاها واستَقْرّت بها النَّوى كما قَر عَيْناً بالإيابِ المَسَافُر اتخاذ الإخوان وما يجب لهم رَوَى الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كَثير أنّ داود قال لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ يا بُنيّ لا تَستَقلّ عَدوَاً واحداَ ولا تَستَكْثِر أَلف صَديق ولا تَستَبدل بأخٍ قديم أخاً مُستَحدثاً ما استَقام لك‏.‏
وفي الحديث المرفوع‏:‏ المَرْء كَثير بأَخيه‏.‏
وقاد شَبيب بن شَيْبة إخوان الصَّفاء خير مكاسب الدُّنيا هم زِينةٌ في الرِّخَاء وعدَّة في البَلاء ومَعُونة على الأعداء‏.‏
لَعَمْرك ما مالُ الفَتَى بذَخيرة ولكن إخوانَ الصَّفاء الذَّخائرُ وقال الأحْنف بن قَيْس‏:‏ خَيْرُ الإخوان إن استغنيت عنه لم يَزِدك في المَودَّة وإن احتَجْت إليه لم يَنْقُصك منها وإن كُوثِرت عَضدك وإن استرفدت رفَدَك وأنشد‏:‏ أخوكَ الذي إن تَدْعُه لِمُلِمِّة يُجِبْك وإنْ تَغْضب إلى السًيف يَغْضب ولآخر‏:‏ أخَاكَ أَخَاكَ إنّ مَن لا أخاً له كَساعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْر سِلاح وإنّ ابن عَمّ المَرْء فاعْلَم جَناحُه وهل يًنْهض البازِي بغَيْر جَنَاح ومما يَجب للصدًيق على الصَّديق النصيحةُ جَهْده‏.‏
فقد قالوا‏:‏ صدِيق الرجل مِرْآته تُريه حَسناتِه وسيّآته‏.‏
وقالوا الصَّدِيق من صَدَقك وُدّه وبَذَل لك رِفْدَه‏.‏
‏"‏ وقالوا‏:‏ أربعة لا تعرَف إلاّ عِنْد أربعة‏:‏ لا يُعرف الشجاع إلا عند الحَرْب ولا الحَلِيم إلا عند الغَضب ولا الأمين إلا عند الأخذ والعَطاء ولا الأخوانُ إلا عَند النَّوائب ‏"‏‏.‏
وقالوا‏:‏ خير الإخوان مَن أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إن الكرِامَ إذا مَا أُسهَلوا ذَكَرُوا مَن كان يأَلَفَهُم في المنزل الخَشِن ولآخر‏:‏ البرُّ من كَرَم الطبيعة والمَنّ مَفْسدة الصنيعة تَرْكُ التعهُّد للصَّدي ق يكون داعيةَ القطيعة أنشد محمدُ بن يزيد المبرِّد لعبد الصَّمد بن المُعذَّل في الحَسْن بن إبراهيم‏.‏
يا من فَدَت نَفْسَه نَفْسي ومن جُعُلت له وِقَاءً لِمَا يخشى وأَخْشاهُ أبْلِغ أخاكَ وان شَط المَزَار به أنِّي وإنْ كُنتُ لا ألقاه ألقاه وأنّ طَرْفيَ مَوْصول برؤيته وإنْ تَباعد عن مَثْواي مَثْواه اللّه يعْلَم أنّي لستُ أذْكُره وكيف يَذكره مَن ليس يَنْساه عًدُّوا فهل حَسَنٌ لم يَحْوِه حَسَن وهَلْ فتَى عَدَلت جَدْواه جَدْوَاه فالدهر يَفْنى ولا تَفْنى مَكارمه والقَطْر يُحْمىَ ولا تُحْصىَ عَطَايَاه وقيل لبعض الوُلاة‏:‏ كم صديقاً لك قال‏:‏ لا أدْري الدُّنيا مُقْبِلة عليَّ والناس كلِّهم أصدقائيِ وإنما أَعرف ذلك إذا أدبرَتْ عنِّي‏.‏
ونُرَى فنُعْرف بالعَدا وَة والبِعاد لمَن تُباعد ونبيت في شَفَق عَلَي - ك رَبيئةً والليلُ هاجِد أصناف الإخوِان قال العَتّابي‏:‏ الإخوانُ ثلاثة أصناف‏:‏ فرْع بائنٌ من أصله وأصل مُتَّصل بفَرْعه وفَرْع ليس له أصل‏.‏
فأمّا الفرع البائن من أصله فإخاءٌ بُني على مودّة ثم انقطعت فحُفِظ على ذمام الصُّحبة وأمّا الأصل المتَّصل بفَرْعه فإخاءٌ أصله الكرم وأغصانه التَقوى وأمّا الفرع الذي لا أصل له فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصاحب رُقْعة في قميصك فانظر بم تُرَقِّعه‏.‏
ويقال‏:‏ من علامة الصَّديق أن يكون لصَديق صديقه صديقاً ولعدوه عدوَّاً‏.‏
وقَدِم دِحْية الكَلْبيّ على أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ فما زال يَذْكر مُعاوية ويطْريه في مجلسه فقال عليٌّ عليه السلام‏:‏ صَديقُ عَدُوِّي داخلٌ في عَدَاوَاتي وإنِّي لمَن وَدَّ الصّديقَ وَدودُ فلا تَقْرَباً منّي وأنت صَديقُه فإنّ الذي بين القُلوب بعيدُ تَودُّ عدوِّي ثم تَزْعُم أنني صديقُك إنّ الرَّأي عنك لعازِبُ وليس أخي مَن دوني رَأْيَ عَيْنه ولكنْ أخي مَن دوني وهو غائبُ وقال آخر‏:‏ ليس الصديقُ الذي إن زَلَّ صاحبُه يوماً رَأَى الذنبَ منه غيرَ مغْفِورِ وإنْ أَضاع له حَقَاً فعاتَبه فيه أتاه بتَزْوِيق المَعاذِير إنّ الصًديق الذي ألقاه يَعذِر لي ما ليس صاحبُه فيه بمَعْذور وقال الآخر‏:‏ كم مِن أخ لم يَلدِهْ أبُوكا وأخ أبوهُ أبوكَ قد يَجْفُوكا صافِ الكِرَامَ إذا أَردتَ إخاءَهم واعْلَم بأنّ أخا الحِفاظ أُخوكا والناسُ ما استغنيتَ كُنتَ أخاهُمُ وإذَا افتقرتَ إليهمُ رَفَضًوكا وقال بعضهم‏:‏ أخوك الذي إن قمتَ بالسًيْف عامِداً لتَضْرِبَه لم يَسْتغشَّك في الوُدِّ وإنْ جئتَ تَبْغي كفّه لتُبينَها لبادَر إشفاقاً عليك من الرَّدّ إنْ كنتَ مُتَّخذاً خَلِيلاً فتَنَقَّ واْنتَقد الخَلِيلاَ مَن لم يكُن لك منصفًا في الوُدّ فابغ به بَدِيلا ولقَلَّما تَلْقى اللَّئيمَ عليك إلا مستطيلا وللعَطوِيّ‏:‏ صُنِ الوًدً إلاِّ عَن الاكرمين ومَن بمُؤَاخاتِه تَشْرُفُ ولا تغتررْ مِن ذَوِي خلَة بما مَوّهوا لكَ أَوْ زَخْرفوا وكم من أخ ظاهر ودًّه ضَمِيرُ مَودّته أَحْيَف إذا أنت عاتبتَه في الإخا ءِ تنكر منه الذي تَعْرِف وكتب العباس بن جَرير إلى الحَسن بن مَخْلد‏:‏ ارعَ الإِخاءَ أبا مُحم د للَّذي يصْفو وصُنْهُ وإذا رأيتَ مُنافِساً في نيل مكرمةٍ فكنه إنَ الصديقَ هو الذي يرعاك حيث تغيب عنه فإذا كشفت إخاءَهُ أحمدتَ ما كشفت منه وقال آخر‏:‏ خَيْرُ إخوانِكَ آْلمشارك في المر وأَين الشرِيكُ في المرّ أَيْنَا الَّذِي إنْ شهدتَ زادَك في البرّ وإن غِبْتَ كان أذْناً وعَيْنا وقال آخر‏:‏ ومِنَ البَلاء أخٌ جنايتُه عَلَق بنا ولغَيْرنا سَلَبُهْ ولآخر‏:‏ إذا رأيتُ انحرافاً من أخِي ثِقةٍ ضاقتْ عليّ برُحب الأرض أوْطانِي فإن صددتُ بوَجْهي كَيْ أكافئَه فالعَين غَضْبَى وقَلْبي غير غضبان وكتب بعضُهم إلى محمد بن بَشّار‏:‏ مَن لم يُرِدْك فلا تردهُ لِتَكُنْ كَمَنْ لم تَسْتَفِدْه باعِدْ أخاكَ لبُعْده وإذا دَنا شِبْراً فزِده كم من أخٍ لك يا بنَ بَشّ ا رٍ وأُمُّك لم تَلِدْه وأخِي مُناسَبة يَسُو ءُك غَيْبُه لم تفتقده مَنْ يَأْنس الإخْوان لم يَبْدَ العِتابَ ولم يُعِدْه عاتِبْ أخاك إذا هَفا واعْطِفْ بِودك واسْتَعِدْه وإذا أتاك بِعَيْبِهِ واشٍ فقُل لم تَعْتمده معاتبة الصديق واستبقاء مودته قالت الحكماء‏:‏ مما يجب للصَّديق على الصديق الإغْضاء عن زلاّته والتَّجاوز عن سيّآته فإن رجع وأعتب وإلاّ عاتبتَه بلا إكثار فإنّ كثرَة العتاب مَدْرجة للقَطِيعة‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ لا تَقْطع أخاك على ارتياب ولا تهجره دون استِعْتاب‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ مَن لك بأَخيك كلّه‏.‏
وقالوا أيّ الرجال المُهذَّب‏.‏
وقال بشّار العُقَيْليّ‏:‏ إذا أنتَ لم تَشْرب مِراراً على القَذَى ظَمِئْتَ وأيُ النَّاس تَصْفو مَشارِبُه وقالوا‏:‏ مُعاتبة الأخ خَيرٌ من فَقْدِه‏.‏
إذا ذَهب العِتاب فليْسَ ودٌ ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِي العِتَابُ ولمحمد بن أَبان‏:‏ إذا أنَا لم أَصْبِرْ على الذَّنب مِن أخٍ وكنتُ أُجازيه فأَين التفاضلُ ‏"‏ إذا ما دهاني مِفْصلٌ فقطعتًهَ بَقيتُ وما لي للنُّهوص مَفاصل ‏"‏ ولكنْ أُدَاويه فإنْ صَحَّ سرًّني وإنْ هو أَعْيا كان فيه تحامل وقال الأحنف‏:‏ مِن حَقّ الصَّديق أن يَتَحَمَل ثلاثاً‏:‏ ظُلم الغضب وظُلم الدالّة وظُلم الهَفوة‏.‏
لعبد الله بن مُعاوية‏:‏ ولستُ ببَادي صاحبِي بقَطِيعة ولستُ بمُفْشٍ سِرَّه حين يغْضبُ عَليك بإخوان الثِّقَات فإنهم قليلٌ فَصِلْهم دُون مَن كنت تَصْحَب وما الخِدْن إلا مَن صَفا لك وُدّه ومَن هو ذو نُصْح وأنت مُغَيَّب ما يستجلب الإخاء والمودة ولين الكلمة قال عليُّ بن أبي طالب عليه السلام‏:‏ مَن لانت كَلِمته وَجَبت محبّتُه‏.‏
وأنشد‏:‏ وعَلَى الصديقِ ألا يلقَى صديقه إلا بما يُحب ولا يًؤذِي جليسَه فيما هو عنه بمَعْزِل ولا يأتي ما يَعيب مِثْلَه ولا يَعيب ما يأتي شَكْلَه‏.‏
وقد قال المتوكّل اللّيثي‏:‏ لا تنهَ عَن خُلُقِ وَتأْتِيَ مِثْلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ وقال عمرً بن الخَطّاب رضي الله عَنه‏:‏ ثلاث تثبت لك الوًدَّ في صَدْرِ أخيك‏:‏ أن تَبدأه بالسَّلام وتُوسع له في المَجْلس وتَدْعوه بأحبّ الأسماء إليه‏.‏
وقال‏:‏ ليس شيءٌ أبلغَ في خَيْر ولا شَرّ من صاحب‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إن كُنتَ تبغي الأَمْرَ أو أصلَه وشاهداً يُخْبر عن غائبِ فاعْتَبِر الأرضَ بأَشْباهها واعْتَبر الصّاحب بالصَّاحب لعَدِيّ بن زَيد‏:‏ عَنِ المَرْء لا تَسَلْ وسَلْ عَن قَرِينه فكُلُّ قَرِين بالمُقارن يَقْتَدِي و لعمرو بن جَمِيل التَغْلَبي‏:‏ سأصبر من صَديقي إنْ جَفَاني على كلّ الأذَى إلا الهَوَانَا فإنّ الحُرَّ يَأنَف في خَلاءِ وإن حَضر الجماعةَ أن يُهانَا وقال رجلٌ لمُطِيع بن إياس‏:‏ جِئّتُك خاطباً مَوَدَّتك قال‏:‏ قد زَوَّجتكها على شرط أن تجعل صَداقها أن لا تَسمع فيَّ مقالَ الناس‏.‏
ويقال في المَثَل‏:‏ مَن لم يَزْدَرِد الرّيق لم يَستكثر من الصديق‏.‏
وما أحسنَ ما قال إبراهيمُ بن العبَّاس‏:‏ يا صديقيِ الذي بَذَلْت له الو دَّ وأنزلتُه على أحشائي إنّ عَيْناَ أقْذَيْتهَا لتراعي ك على ما بها مِن الإقذاءِ ما بها حاجةٌ إليك ولكنْ هي مَعْقودة بحَبْل الوَفاء ولابن أبي حازم‏:‏ ارْضَ من المَرْءِ في مَوَدَّته بما يُؤدي إليكَ ظاهرُه مَن يَكْشِف الناسَ لا يَرى أحداً تَصِحّ منه له سَرائرُه توشِك أن لا تتم وَصْل أخٍ في كلّ زَلاّته تُنافِره إنْ ساءَني صاحِبي احْتملْتُ وإن سرَّ فإني أخوه شاكِرُه أصفح عَنْ ذَنْبه وإِن طَلَب ال عُذْرَ فإنّي عليه عَاذِرُه ولغيره‏:‏ لقد أصبحتْ نَفْسي علي شَفِيقةً ومِثْلي على أهل الوَفاء شَفِيق أسرَّ بما فيه سُرُورك إنَّني جَدِير بمكنون الإخاء حَقِيق عدَوّ لمن عاديتَ سَلْم مُساِلمٌ لكل آمرئ يَهْوى هواكَ صَدِيق ولأبي عبد الله بن عُرْفة‏:‏ هُمًومُ رجالٍ في أمور كَثيرةٍ وهَمِّي من الدِّنيا صديق مُساعِدُ يكون كرُوح بين جِسْمين فُرِّقَا فَجِسْماهما جِسْمان والرُّوح واحِد قال بعض الحكماء‏:‏ الإخاء جَوْهرة رقيقة وهي ما لم تُوَقِّها وتَحْرُسها مُعرَّضة للآفات فَرُض الإخاء بالحدّ له حتى تَصل إلى قُربه وبالكَظْم حتى يَعْتذِر إليك مَن ظَلَمك وبالرِّضى حتى لا تَسْتَكْثر من نَفْسك الفَضْل ولا من أخيك التَّقْصير‏.‏
لمحمود الوَرّاق‏:‏ لا بِرِّ أعظمُ من مُساعدةٍ فاشكُر أخاك علىِ مُساعَدَتِهْ وإذا هَفا فأَقِلْه هَفْوَته حتى يَعودَ أخاَ كعادته فالصفح عن زَلَل الصّديق وإن أَعْياك خيرٌ من مُعاندته مَن لم يُدرِك ولم ترده لم يستفدك ولم تُفِدْه قَرِّبْ صدِيقَك ما نَأى وَزِدِ التقارُب واستزده وإذا وَهَتْ أركان ودٍّ من أَخي ثِقَة فَشِدْهُ فضل الصداقة على القرابة قيل لبُزرجمهر‏:‏ مَن أحب إليك‏:‏ أخوك أم صديقك فقال‏:‏ ما أحِبّ أخي إلا إذا كان لي صديقاً‏.‏
وقال أكثم بن صَيفيّ‏:‏ القرابة تحتاج إلى مودَة والمودَة لا تحتاج إلى قرابة‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ القرابة تقْطع والمعروف يُكْفر وما رأيتً كتقارب القلوب‏.‏
وقالوا‏:‏ إيَّاكم ومَن تكْرهه قلوُبكم فإن القُلوب تُجَارِي القلوب‏.‏
وقال عبد الله بنً طاهر الخُراسانيّ‏:‏ أميل مع الذِّمام على ابن أمِّيِ وأحْمِل للصديق على الشِّقِيقِ وإن ألفيتَني مَلِكاً مُطاعاَ فإنك واجدِي عبدَ الصَّديق أفرِّق بين معروفي ومَنِّي وأجمع بين مالي والحُقوق ولقد سَبَرتُ الناس ثم خَبرتُهمِ ووصفتُ ما وَصفوا من الأسباب فإذا القرابةُ لا تُقَرِّب قاطعاً وإِذا المودَة أقرب الأنساب وللمبرِّد‏:‏ ما القرْبُ إلا لمن صحَت مَوَدَّته ولم يَخُنْك وليس القُرْبً للنسَبِ كم مِن قَريب دَوِيّ الصَّدْر مُضْطَغِن ومن بَعيدٍ سَلِيم غير مقترب وقالت الحًكماء‏:‏ رب أخ لك لم تَلِدْه أمك‏.‏
وقالوا‏:‏ القَرِيب من قَرب نَفْعه‏.‏
وقالوا‏:‏ رُبّ بعيدٍ أقرب من قَريب‏.‏
وقال آخر‏:‏ رُب بعيدَ ناصحُ الجَيْب وابن أبِ مُتهم الْغَيب وقال آخر‏:‏ أخُو ثِقةٍ يُسَر ببعض شانِي وِإنْ لم تُدْنِه مني قَرَابهْ أحَبُّ إليَّ من ألْفْي قَريب لَبيتُ صُدورهم لي مُسْترابه وقال آخر‏:‏ قد يَجمع المالَ غير ُآكله ويأكل المالَ غيرُ من جَمَعه فارْض من الدهر ما أتاك به من قَرَّعَيْنَا بعَيْشِه نَفَعه وقال‏.‏
لكلِّ شيء من الهُموم سَعَهْ والليلُ والصُّبح لا بقَاءَ معهْ لا تَحْقِرَنّ الفقيرَ عَلَّكَ أن تركع يوماً والدَّهُرُ قد رفَعَه وقال ابن هَرْمة‏:‏ للّه درُّك من فَتًى فَجعت به يومَ البَقيع حوادِثُ الأيام هَشّ إذا نزَل الوُفودُ ببابه سَهْل الحِجاب مُؤَدَّب الخُدّام وإِذا رأيت صديقه وشَقيقه لم تَدْرِ أيّهما أخو الأرحام التحبب إلى الناس في الحديث المَرْفوع‏:‏ أحبُّ الناس إلى الله أكثرهم تَحَبُّباً إلى الناس‏.‏
وفيه أيضاً‏:‏ إذا أحبَّ الله عبداً حبَّبه إلى الناس‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏.‏
وجْهٌ عليه من الحَيَاء سَكينةٌ ومحبَّة تجري مع الأنفاس وإذا أحبّ الله يوماً عبدَه ألقى عليه محبَّة للنّاس وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقّاص‏:‏ إن الله إذا أحَبَّ عبداً حبَّبه إلى خَلْقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس واعْلم أنّ مالك عند الله مثلُ ما للناس عندك‏.‏
وقال أبو دُهْمان لسَعيد بن مُسلم ووقف إلى بابه فحجَبَه حيناً ثم أذن له فمثل بين يديه وقال‏:‏ إنَّ هذا الأمر الّذي صار إليك وفي يديك قد كان في يدَيْ غيرك فأمسى واللّه حديثاً إن خيراَ فخير وإن شراً فشر قتحبَّب إلى عباد الله بحُسن البِشْر وتسهيل الحجاب ولين الجانب فإن حُبَّ عبادِ الله مَوْصولٌ بحُب اللّه وبُغضهم مَوْصول ببغض اللّه لأنهم شُهداء الله على خَلْقه ورُقباؤه على من أعوج عن سبيله‏.‏
وقال الجارود‏:‏ سُوء الخُلق يُفْسِد العَمل كما يُفسد الخَلّ العَسل‏.‏
وقيل لمُعاوية‏:‏ من أحبّ الناس إليك قال‏:‏ مَن كانت له عِنْدي يد صالحة قيل له‏:‏ ثم مَن قال‏:‏ من كانت لي عِنْده يدٌ صالحة‏.‏
وقال محمدُ بن يزيد النَّحوي‏:‏ أتيتُ الخليلَ فوجدته جالساً على طُنْفسة صَغِيرة فوسَّع لي وكَرِهتُ أن أُضيِّق عليه فانقبضتُ فأخذ بِعَضُدي وقَرَّبي إلى نَفْسه وقال‏:‏ إنه لا يَضِيق سَمُّ الخياطَ بمُتحابين ولا تَسَع الدنيا مُتباغضين‏.‏
ومن قَولنا في هذا المَعنى‏.‏
صِل من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبةً فأَطيبُ العَيْش وَصلٌ بين إلْفين واقْطَعْ حَبائل خِدْنٍ لا تُلائمه فربِّما ضاقتِ الدُّنيا بإثْنين صفة المحبة أبو بكر الورَّاق قال‏:‏ سأل المأمونُ عبد الله بنَ طاهر ذا الرِّياستين عن الحبّ ما هو فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إذا تقادحتْ جواهر النُّفوس المُتقاطعة بوَصْل المُشاكلة انبعثت منها لمْحَة نور تَسْتضيء بها بواطنُ الأعضاء فتحرّك لإشراقها طَبائع الحَياة فيتصوَّر من ذلك خَلْق حاضر للنَّفس مُتَّصِل بخَواطِرها يُسمى الحب‏.‏
وسُئل حمَّاد الراوية عن الحبّ فقال‏:‏ شَجرة أصلُها الفِكْر وعُروقها الذِّكر وأغصانُها السَّهر وأوراقُها الأسقام وثمرتُها المنيّة‏.‏
وقال مُعاذ بن سَهْل‏:‏ الحبُّ أصعبُ ما ركب وأسْكر ما شُرب وأَفْظع ما لُقِي وأحْلَى ما اشتُهي وأَوْجع ما بَطَن وأشهى ما عَلَن وهو كما قال الشاعر‏:‏ وللحُب آياتٌ إذا هي صَرّحت تَبَدَّت علاماتٌ لها غُرَرٌ صفْرُ فباطِنُه سُقْم وظاهِرُه جَوَى وأوَّلُه ذكر وآخره فكر وقالوا‏:‏ لا يكن حُبّك كَلَفا ولا بغْضك سَرَفا‏.‏
وقال بشَّار العُقَيْليِّ‏.‏
هل تَعْلَمِينَ وَراء الحُبّ مَنزلةً تُدْني إليكِ فإنّ الحبَّ أقصَانِي وقال غيرُه‏:‏ أُحِبّكِ حُبا لو تحبينَ مِثْلَه أصابك من وَجْدٍ عليّ جُنُونُ لَطِيفاً مع الأحْشاء أمّا نهارُه فدَمْعٌ وأمّا لَيْلُه فأنِين من حديث ابن أبي شَيْبة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تَقْطع مَن كان يواصلُ أباك تُطفيء بذلك نُورَه فإنّ وُدَّك وُدُّ أبيك‏.‏
وقال عبدُ الله بن مَسعود‏:‏ مِن بِرّ الحيِّ بالميِّت أن يَصِل مَن كان يصلُ أباه‏.‏
وقال أبو بكر‏:‏ الحبُّ والبغضُ يُتوارثَان‏.‏
ومن أمثالهم في هذا المعنى‏:‏ لا تقْتنِ من كلب سَوْء جِرْواً‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ تَرْجُو الوليدَ وقد أعياك والدُه وما رَجاؤُك بعد الوالدِ الوَلدَا واجتمع عندَ مَلِك من ملوك العرب‏.‏
تميمُ بن مُرّ وبكر بن وائل فوقَعت بينهما مُنازعة ومُفاخرة فقالا‏:‏ أيُّها الملك أعطِنا سَيْفين نتجالد بهما بين يَدَيك حتى تَعلم أيُّنا أجْلد‏.‏
فأمر الملكُ فنُحِت لهما سَيفان من عُودين فأعطاهما ‏"‏ إياهما ‏"‏ فجعلاَ يَضْطربان مَليًّا من النهار فقال بكرُ بن وائل‏:‏ لو كانَ سيفانَا حديداً قَطَعا قال تميم بن مُرّ‏:‏ أو نحتا من جَنْدل تَصًدّعا أُساجِلك العَداوَةَ ما بَقِينا فقال له بكر‏:‏ وإنْ مِتْنا نُوَرِّثها البَنِينا فيًقال إن عداوة بكر وتميم من أجل ذلك إلى اليوم‏.‏
أبو زيد‏:‏ قال أبو عُبيدة‏:‏ بُني دُكَان بسجستان بَنَتْه بكر بن وائل فهَدَّمته تميم ثم بنته تميم فهَدَّمته بكر فتواقعوَا في ذلك أربعةً وعشرين وَقعة‏.‏
فقال ابن حِلِّزة اليَشْكُري في ذلك‏:‏ قَرَبي ياخَليُّ وَيحْكِ دِرْعي لَقِحَت حَرْبُنا وحربُ تميم إخْوة قرّشوا الذُّنوب علينا في حديث من دهرِهم وقَدِيم طَلبُوا صُلْحنا ولاتَ أوَانٍ إنَّ ما يَطلبون فوق النُّجُوم الحسد قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا راحةَ لِحَسُود ولا إخَاء لمَلُول ولا مُحِبَّ لسَيىِّء الخُلًق‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ما رَأيت ظالماً أشبهَ بمظلوم من حاسِد نَفَس دائم وحُزن لازم وغم لايَنْفد‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كاد الحَسد يَغْلِب القَدَر‏.‏
وقال مُعاوية‏:‏ كلُّ الناس أَقْدِر أُرْضِيهم إلا حاسدَ نِعْمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ كلُّ العَداوة قد تُرْجَى إماتتُها إلا عَدَاوَةَ مَن عاداكَ مِن حَسَدِ وقال عبد الله بن مَسعود‏:‏ لا تُعادُوا نِعَم الله قيل له‏:‏ ومن يُعادي نِعَم اللّه قال‏:‏ الذين يحْسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فِضله‏.‏
يقول الله في بعض الكتب‏:‏ الحَسُود عدوُّ نِعْمَتي مُتَسخِّطٌ لقَضَائي غيرُ راض بِقسْمَتي‏.‏
ويقال‏:‏ الحَسَد أوّل ذَنْب عصي الله به في الَسماء وأوّل ذَنْبِ عُصي الله به في الأرض فأمّا في السماء فحَسدُ إبليس لآدمَ وأما في الأرض فَحَسدَ قابيلَ هابيل‏.‏
وقال بعضُ أهل التفسير في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ رَبنَا أَرِنَا الَّلذَيْنِ أَضلانَا مِنَ اْلْجنِّ والإنْس نَجْعَلهما تحتَ أقدامِنا ليَكُونَا من الأسْفَلِين ‏"‏‏.‏
إنه أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل وذلك أن إبليس أولُ من سَنَّ الكفر وقابيل أوّل من سَنَّ القتل وإنما كان أصل ذلك كله الحسد‏.‏
ولأبي العتاهية‏:‏ فيا رَبِّ إنّ الناس لا يُنْصفونني وكيفَ ولَوْ أَنصفتُهم ظَلَمُوني وإنْ كانَ لي شيءٌ تَصدِّوْا لأخْذه وإن جئت أبْغِي سَيْبهم مَنَعُوني وإن نالَهُمِ بَذْلي فلا شُكْرَ عِنْدهم وإن أنا لم أبذل لهم شَتَمُوني وإن طَرَقتْني نِقْمَةٌ فَرِحُوا بها وإن صَحِبَتنِي نِعْمَةٌ حَسَدُوني سَأَمْنَع قلْبِي أن يَحنَّ إليهُم وأحْجُب عنهم ناظِري وجُفُوني أبو عُبيدة مَعمر بن اَلمُثنِّي قال‏:‏ مَرّ قيس بن زُهير ببلاد غَطَفان فرأَى ثَرْوَةً وعدداً فكَرِه ذلك فقيل له‏:‏ أيسوؤك ما يَسرُّ الناس قال‏:‏ إِنك لا تَدْري أنّ مع النِّعمة والثروة التَّحاسدَ والتخاذلَ وأنَّ معِ القلّة التحاسد والتناصُر‏.‏
وكان يقال‏:‏ ما أثْرَى قَوْم قطُّ إلا تَحاسدوا وتخاذلوا‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ ألزَم الناس للكآبة أربعة‏:‏ رجل حديد ورجل حَسُود وخَلِيط الأدباء عليّ بن بِشْر المَرُّوزيّ قال‏:‏ كتب إليَّ ابن المبارك هذه الأبياتَ‏:‏ كلَّ العَدَاوة قد ترْجَى إماتَتُها إلا عَداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ فإِنّ في القَلْبِ منها عُقْدَةً عُقِدَتْ وليس يَفْتحها راقٍ إلى الأبدِ إلا الإَله فإن يَرْحم تُحَلّ به وإنْ أباه فلا تَرْجُوه من أحد سُئِلَ بعضُ الحُكماء‏:‏ أيّ أعدائك لا تُحِبّ أن يَعُود لك صديقاً قال ‏"‏‏:‏ الحاسِد الذي لا يَرُدّه إلى ‏"‏ مودتي ‏"‏ إلا زوالُ نِعْمتي‏.‏
وقال سُلَيمان التَّيْمِيّ‏:‏ الحَسد يُضعِف اليَقِين ويُسْهِر العَينْ ويُثِرُ الهمّ‏.‏
الأحنفُ بن قَيْس صَلِّى على حارثة بن قُدَامة السَّعْديّ فقال‏:‏ رَحمك اللهّ كنتَ لا تحْسُد غَنياً ولا تحقر فقيراَ‏.‏
وكان يُقال‏:‏ لا يُوجَد الحُرُّ حَرِيصاً ولا الكَرِيم حَسُداً‏.‏
وقال بعضُ الحُكماء‏:‏ أجهدُ البَلاء أن تَظْهَرَ الخَلَّة وتَطُوِل المُدَّة وتَعْجِز الحِيلة ثم لا تعْدَم صَدِيقاً مُوَلِّيا وابن عمٍّ شامتاً وجاراً حاسِداَ ووليًّا قد تَحَوَّل عدوًّا وزَوْجة مُخْتلِعة وجارية مُسْتَبِيعة وعَبداً يَحْقِرك وولداً يَنتهرك فانظُر أين مَوْضِع جَهْدك في الهرَب‏:‏ لرجل من قُريش‏:‏ وإذا ما الله أَسْدَى نِعْمَةً لم يَضِرْها قولُ أعداءِ النِّعَم وقيل‏:‏ إذا سرك أن تَسْلم من الحاسد فعَمِّ عليه أمْرَك‏.‏
وكانت عائشةُ رضى اللهّ عنها تتمثّل بهذين البيتين‏:‏ إذا ما الدهر جَرَّ على أناس حوادثَه أناخَ بآخرِينَا فقُلْ للشَّامِتين بنا أفِيقُوا سيَلْقى الشامِتون كما لَقِينا ولبعضهم‏:‏ إياك والحسدَ الذي هو آفةٌ فَتَوَقَّه وتَوَقَّ غِيرة مَنْ حَسد إِنَّ الحَسُودَ إذا أرك مَوَدَّةً بالقَوْل فهو لك العَدُوُّ المُجْتَهِدْ الليثً بن سَعْد قال‏:‏ بَلَغني أنَّ إبليس لقي نُوحًا صلى الله عليه وسلم فقال له إبليس‏:‏ اتّق الحَسْد والشح فإني حَسَدتُ آدمَ فخرجتُ من الجنة وشَحَّ آدم على شَجرة واحدة مُنِع منها حتى خَرج من الجنًة‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ أصول الشَّرِّ ‏"‏ ثلاثة ‏"‏ وفُروعه ستَّة فالأصول الثلاثة‏:‏ الحَسَد والحِرْص وحُبًّ الدُّنيا‏.‏
والفُروع الستة‏:‏ ‏"‏ حُبّ النوم وحُبّ الشِّبع وحُبُّ الراحة وحُبُّ الرئاسة وحُبُّ الثناء وحُبُّ الفَخْر‏.‏
وقال الحسن‏:‏ يَحْسُد أحدُهم أخاه حتى يَقَعَ في سَرِيرته وما يَعْرِف علانِيَته ويَلُومه على ما لا يَعْلمه منه وَيتعلم منه في الصّداقة ما يُعَيِّره به إذا كانت العداوة واللّه ما أرى هذا بمُسْلِم‏.‏
ابن أبي الدُّنيا قال‏:‏ بَلغني عن عُمر بن ذَرّ أنه قال‏:‏ اللهم من أرادنا بشّرٍ فاكفِناه بأيِّ حُكمَيْك شِئت إمّا بتَوْبة وإمّا براحة‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ما حسدتُ أحداً على هاتين ‏"‏ الكلمتين ‏"‏‏.‏
وقال ابن عبَّاس‏:‏ لا تَحْقِرَنَ كلمة الحكمة أن تَسْمعها من الفاجر فإنما مَثَلُه كما قال الأول‏:‏ رُبَّ رَمْيَة من غير رام‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ ما أمحقَ للإيمان ولا أهتكَ للستر من الحسد وذلك أنّ الحاسدَ مًعاند لحكم الله‏.‏
باغٍ على عباده عاتٍ على ربه يَعْتَدّ نِعم اللهّ نِقَما ومَزِيده غِيَرا وعَدْل قضائة حَيْفا للناس حال وله حال ليس يهدأ ولا يَنام جَشَعه ولا ينْفعه عَيْشُه مُحْتقر لِنَعم الله عليه مُتسخِّط ما جرت به أقدارُه لا يَبردُ غَليله ولا تُؤْمَن غوائله إن سالمتَه وَتَرَك وأن وَاصلتَه قَطَعك وإن صَرَمتْه سَبَقك‏.‏
ذُكِر حاسدٌ عند بعض الحكماء فقال‏:‏ يا عَجَبا لرجل أسلكه الشيطانُ مهاوِي الضَّلالة وأورده قُحَم الهَلَكة فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد إن أنالها من أحب مِن عِباده أشْعِر قلبُه الأسف على ما لم يُقْدَر له وأغاره الكَلَفُ بما لم يكن لِينالَه‏.‏
اصبر على حَاسَد الحَسو د فإنّ صَبْرَكَ قاتلُه النَّارُ تأكل بعضها إن لم تَجدْ ما تاكله وقال عبدُ الملك بن مَرْوان للحجاح‏:‏ إنه ليس منَ أحدٍ إلا وهو يَعرف عَيب نفسه فصفْ لي عيوبك‏.‏
قال‏:‏ أعفِنى يا أمير المؤمنين قال‏:‏ لستُ أفعل قال‏:‏ أنا لَجُوج لَدُود حَقُود حَسُود قال‏:‏ ما في إبليس شرٌ من هذا‏.‏
وقال المنصور لسُليمان بنِ مُعاوية المُهلَبي‏:‏ ما أسرع الناسَ إلى قومك‏!‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ إن العَرَانين تَلْقَاها مُحَسِّدةً ولن تَرَى للئام الناس حُسَّادَا وأنشد أبو موسى لنَصرْ بن سيار‏:‏ إِنِّي نشأتُ وحُسَّادي ذَوُو عَدَدٍ يا ذا المَعارج لا تَنْقُص لهم عَدَدَا إنْ يَحْسُدًوني على حُسْنِ البَلاَء بهم فمِثْل حُسْن بَلاَئي جر لي حَسدا وقال آخر‏:‏ إن يَحْسُدُوني فإنّي غيرُ لائمهم قبْلي من الناس أهل الفضل قد حُسِدُوا فَدَام لي ولهم ما بي وما بهم وما أكثرْنا غَيظاً بما يَجِد إنَ الغُراب وكان يَمشي مِشْيَةً فيما مضى من سالف الأحْوَالِ حَسَد القطَاة فَرَام يمشي مَشْيَها فأصابَه ضَرْبٌ من العُقًال ‏"‏ فأضلّ مِشْيته وأخطأ مَشْيها فلذاك كنِّوه أبا مِرْقال ‏"‏ وقال حبيب الطائي‏:‏ وإذا أراد الله نَشرَ فَضيلةٍ طُوِيت أتاح لها لسانَ حَسُودِ لولا اشتعالُ النار فيما جاوَرَت ما كان يُعْرف طِيبُ عَرْف العُودِ وقال محمد بن مُناذر‏:‏ بأيُها العَائبي وما بيَ من عَيْبِ ألا تَرْعَوِي وتَزْدَجِرُ هلْ لك عِندي وِتْرٌ فتَطْلُبَه أم أنتَ مما أتيتَ مُعتَذِرُ إِنْ يَكُ قَسْمُ الإله فَضّلني وأنت صَلْدٌ ما فيك معْتَصر فالحمدُ والشُّكر والثَناء له وَللْحَسود الترَابُ والْحَجَرُ فما الذي يَجتني جَليسُك أوْ يَبْدُو لهُ منك حين يَختبر اقرأ لنا سورة تُذَكرنا فإنّ خيْرَ المواعِظ السُوَرُ أو مِن أعاجيب جاهِليتنا فإنها حِكمةٌ ومُخْتَبر أو آرْوِ عن فارس لنا مثلاً فإن أمثالَها لنا عِبَرُ فإن تكن قد جَهِلت ذاك وذا ففيكَ للناظِرينِ مُعْتَبَر فغَنً صوتاً تُشْجَى النفوس به وبعضُ ما قد أتيت يُغتفر الأصمعيّ قال‏:‏ كان رجلٌ من أهل البصرة بذيئاً شِرِّيراً يؤذي جيرانه ويَشتم أعراضهم فأتاهُ رجلٌ فوَعظه فقال له‏:‏ ما بالُ جيرانك يَشكونك قال‏:‏ إنهم يَحسدُونني قال له‏:‏ على أيّ شيء يَحسدُونك قال‏:‏ على الصَلْب قال‏:‏ وكيف ذاك قال‏:‏ أَقْبِلْ معي‏.‏
فأقبل معه إلى جيرانه فقعد مُتحازِناً فقالوا له‏:‏ ما لَك قال‏:‏ طَرَق الليلة كتاب مُعاوية أنا أصلب أنا ومالك بن المنذر وفلان وفلان - فذكر رجالاً من أشراف أهل البصْرَة - فوَثبوا عليه وقالوا‏:‏ يا عدوّ اللهّ أنت تُصْلب مع هؤلاء ولا كرامةَ لك‏!‏ فالتفت إلى الرجل فقال‏:‏ أما تراهم قد حَسدوني على الصَّلب فكيف لو كان خيراً‏!‏ وقيل لأبي عاصم النبيل‏:‏ إنّ يحيى بن سَعيد يَحْسُدك وربما قَرَّضك فأَنشأَ يقول‏:‏ فلستَ بحيٍّ ولا ميتٍ إذا لم تُعادَ ولم تُحْسَدِ كتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ‏:‏ مُر ذَوي القَرَابات أن يتزَاورُوا ولا يتجاورُوا‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفيّ‏:‏ تباعَدُوا في الدار تقاربُوا في المودَّة‏.‏
وقالوا‏:‏ أَزْهدُ الناس في عالمٍ أهلُه‏.‏
فَرَج بن سلام قال‏:‏ وَقف أميِّة بن الأسكر عِلى ابن عم له فقال‏:‏ نَشَدْتُك بالبَيت الذي طافَ حولَه رجالٌ بَنوه من لؤَيّ بن غالبِ فإنك قد جَرَّبتني فوجدتنيِ أُعينك في الجُلّى وأكفيك جانبي وإن دبَّ من قومي إليك عداوةً عقاربهُم دبَّت إليهم عَقارِبي قال أكذلك أنتَ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما بالُ مِئبرك لا يزال إليَّ دسيسا قال‏:‏ لا أعود قال‏:‏ قد رضيتُ وعفا الله عما سلف وقال يحيى بن سعيد‏:‏ من أراد أن يَبِين عملُه ويَظهر علمُه فَلْيَجلس في غير مَجْلس رهْطه‏.‏
وقالوا الأقارب هم العقارب‏.‏
وقيل لعطاء بن مصعب‏:‏ كيف غلبتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك قال‏:‏ كنتُ بعيدَ الدار منهم غريب الاسم عظيمَ الكِبْر صغير الجرْم كثيرَ الالتوإء فقرّبني إليهم وقال رجلٌ لخالد بنِ صَفْوان‏:‏ إنِّي أحبك قال‏:‏ وما يَمنعك من ذلك ولستُ لك بجار ولا أخٍ ولا ابن عم‏.‏
يريد أن الحسد مُوكل بالأدنى فالأدنى‏.‏
الشِّيباني قال‏:‏ خَرجِ أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين متنزِّها بالأنبار فأمعن في نزهتة وانتبذ من أصحابه فوافي خباءً لأعرَابيّ‏.‏
فقال له الأعرابيّ‏:‏ ممن الرجل قال‏:‏ مِن كِنانة قال‏:‏ من أيّ كِنانة قال‏:‏ من أبغض كِنانة إلى كِنانة قال‏:‏ فأنت إذاً من قُريش قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمن أيّ قريش قال‏:‏ من أبغض قريش إلى قُريش قال‏:‏ فأنت إذاً من ولد عبد المطلب قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمن أيّ وَلد عبد المطّلب أنت قال‏:‏ من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المُطلب قال‏:‏ فأنت إذاً أميرُ المؤمنين السلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته‏.‏
فاستحسنَ ما رأى منه وأمر له بجائزة‏.‏
وقال ذو الإصبع العَدْوَانيّ‏.‏
ليَ ابن عمٍٍّ على ما كان من خُلُق مُحاسِدٌ ليَ أقليه ويَقْلِيني أزْرَى بنا أنّنا شالتْ نعامتُنا فخالني عُونهَ أو خِلْتُه دوني يا عمرو إلا تَدَعْ شَتْمي ومَنقصتي أضربْك حتى تقول الهامةُ اسقوني ماذا عَلَيّ وإن كنتم ذَوِي رَحَمِي أن لا أُحبَّكُم إن لم تُحبوني وقال آخر‏:‏ مهلاً بني عمِّنا مهلاً مَوالينا لاتَنْبِشًوا بيننا ما كان مَدْفوناً لا تَطمعوا أن تًهينونا ونُكْرمكم وأن نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤذونا الله يعلم أنا لانحبًّكمُ ولا نَلومكُم إن لم تحِبُّونا وقال آخر‏:‏ ولقد سَبرت الناسَ ثم خَبرتهم ووصفت ما وصفوا من الأسبابِ فإذا القرابة لا تقَرّب قاطعا وإذا المودة أقرب الأنساب المشاكلة ومعرفة الرجل لصاحبه قالوا‏:‏ أَقرب القرابة المُشاكلة وقالوا‏:‏ الصاحب المُناسب‏.‏
وقال حبيب‏:‏ وقُلت أخي قالوا أخٌ من قرابة فقلت لهم إنّ الشُكول أقاربُ وقال أيضاً‏:‏ ذو الودّ منِّي وذو القُرْبى بمنزلةٍ وإخْوَتي أُسوةٌ عندي وإخواني وقال أيضاً‏:‏ إنْ نَفْتَرِقْ نَسَبًا يُؤلِّفْ بيننا أدبٌ أَقمناه مُقام الوالد أو نَخْتلف فالوَصْلُ منَّا ماؤه عَذب تَحدَّر من غَمَامٍ واحد وقال آخر‏:‏ إنَّ النفوس لأجْنادٌ مُجَنًدَة بالإذْن من رَبِّنا تَجْري وتَخْتلفُ فما تَعارفَ منها فهو مُؤتلِفٌ وما تَناكر منها فهو مُختلف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الأنفس أجْناد مُجنَّدة وإنها لتتَشامّ في الهَوَى كما تتَشام الخَيْل فما تعارف منها ائتلف وما تَناكر منها اختلف‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصاحبُ رُقْعة في الثَّوب فَلينظر الإنسان بم يَرْقع ثوبه‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ امتحنوا الناس بإِخوانهم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فاعتبر الأرضَ بأشباهها واعتبر الصاحبَ بالصاحبِ وقيل‏:‏ كلُ إلْف إلى إلْفه يَنزع وقال الشاعر‏:‏ وقال امرؤ القيس‏:‏ أجارتَنا إِنا غَريبان هاهنا وكل غَريب للغريب نَسِيبُ وقال آخر‏:‏ إذا كنت في قَوْم فصاحِبْ خِيارَهم ولا تَصْحب الأرْدى فتردىَ مع الرّدِي عن المرْء لا تَسأل وسَلْ عن قَرينه فكل قَرِين بالمُقارِن يَقْتدي وقال آخر‏:‏ اصحبْ ذَوِي الفَضل وأهْل الدِّين فالمرْءُ مَنسوبٌ إلى القرينِ أيوب بن سُليمان قال‏:‏ حدَّثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم قال‏:‏ بينما سُليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مَرّ بنَسْر واقع على قَصْر فقال له‏:‏ كم لك مذ وقعتَ هاهنا قال‏:‏ سبعمائة سنة قال‏:‏ فمن بَنى هذا القصر قال‏:‏ لا أدريِ هكذا وجدتُه ثم نظر فإذا فيه كتاب مَنْقور بأبيات من شعر وهي‏:‏ خرجنا من قُرَى اصطَخْرٍ إلى القصر فقلناهَ فمن يسأل عن القصر فمبنيا وَجَدناه فلا تصحب أخا السَّوْء وإِيَّاكَ وإياه يُقاس المرْءُ بالمرْء إذا ما المرْءُ ماشاه وفي الناس منٍ الناس مقاييسٌ وأشباه وفي العيَن غِنى للعَين أن تَنطق أفواه السعاية والبغي قال اللهّ تعالى ذِكْرُه‏:‏ ‏"‏ يَا أيُّهَا الناسُ إِنَمَا بَغْيًكُمْ على أنْفُسِكم ‏"‏‏.‏
وقال عزَ وجل‏:‏ ‏"‏ ثَم بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنًهُ الله ‏"‏‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فلا تسبق إلى أحدٍ بِبَغْيٍ فإِنَّ البَغْي مَصرعه وخيم وقال العتَّابي‏:‏ بَغَيْت فلم تَقَع إلاّ صَرِيعاً كذاك البَغْي يَصرع كلَّ باغِي وقال المأمون يوماَ لبعض وَلده‏:‏ إياك وأن تُصْغي لاستماعٍ قول السُّعاة فإنه ما سَعى رجلٌ برجل إلا انحطّ من قَدْرِه عندي ما لا يتلافاه أبداً‏.‏
ووقَّع في رُقعة ساعٍ‏:‏ سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين‏.‏
ووقّع في رًقعة رجل سعَى إليه ببعض عُمَّاله‏:‏ قد سَمِعنا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه فانصرفْ رَحمك اللّه‏.‏
فكان إذا ذُكر عند السُّعاة قال‏:‏ ما ظَنُّكم بقوْمٍ يَلعنهم الله على الصِّدق ثم كشف عن ذلك فإذا هو لغير رِشْدَة فقال‏:‏ أنا أبو عمرو وما كَذبْتُ ولا كُذِبت‏.‏
حدثني أبي عن جدّي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ السًاعي لِغَيْر رِشْدة‏.‏
وسأل رجلٌ عبدَ الملك الخَلْوَة فقال لأصحابه‏:‏ إذا شِئْتم فقُوموا‏.‏
فلما تَهَيَّأَ الرجل للكلام قال له‏:‏ إيّاك أن تَمْدحني فأنا أعلم بنفسي منك أو تَكْذِبني فإنه لا رَأْي لكَذُوب أو تَسْعى إليً بأحد وإن شئتَ أَقلتُك قال‏:‏ أَقِلْني‏.‏
ودخل رجلٌ على الوليد بن عبد الملك وهو والي دِمشق لأبيه فقال‏:‏ للأمير عندي نصيحة فقال‏:‏ إِن كانت لنا فاذكُرْها وإن كانت لِغَيرنا فلا حاجةَ لنا فيها قال‏:‏ جارٌ لي عَصىَ وفَرَّ مِنْ بَعْثه قال‏:‏ أما أنت فتُخبِر أنَّك جارُ سَوْء وإِن شئتَ أرْسلنا معك فإن كنتَ صادقاً أقصَيناك وإِن كنتَ كاذباً عاقبناك وإِن شئتَ تارَكناك قال‏:‏ تَارِكْني‏.‏
وفي سِيَر العجم‏:‏ أنّ رجلاً وَشىَ برجل إلى الإسكندر فقال‏:‏ أتًحِب أن تَقْبل مِنه عليك ومِنك عليه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكُفَّ الشر يُكَفُّ عنك الشرُّ‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا الواشي نَعَى يومًا صدِيقا فلا تَدَع الصديق لقَوْلِ واشي وقال ذو الرِّياستين‏:‏ قَبول النَّمِيمة شَرٌ من النميمة لأنّ النميمة دِلالة والقَبُول إجازة وليس مَن ذُكِر السُّعاة عند المأمون فقال لرجل ممن حَضر‏:‏ لو لم يكن من عَيْبهم إلا أنّهم أَصدق ما يكونون أبغضُ ما يكونون إلى الله تعالى ‏"‏ لكَفَاهُم ‏"‏‏.‏
وعاتب مُصْعبُ بن الزبير الأحنفَ في شيء فأنكره فقال‏:‏ أَخْبَرني الثقةُ قال‏:‏ كلا إنّ الثقة لا يُبلغِ‏.‏
وقد جَعل اللهّ السامع شريك القائل‏.‏
فقال‏:‏ ‏"‏ سًمّاعُون للكَذِب أَكَّالُون للسُّحْتِ ‏"‏‏.‏
وقيل‏:‏ حَسْبك من شّرٍ سماعُه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ لَعمركَ ما سبَّ الأمير عدوُّه ولكنَّما سَبَّ الأمير المُبَلغُ وقال آخر‏:‏ لا تقبلنَّ نَميمةً بُلِّغتَها وتحفَظَنَّ مِن الذي أنباكَهَا إنّ الذي أنباك عنه نَميمةً سَيَدِبُّ عنك بمثلها قد حاكها لا تنقشنَّ برِجْل غيرك شَوْكةً فَتَفي برِجْلك رجْلَ مَن قد شاكَها وقال دِعْبل‏:‏ وقد قطَع الواشُون ما كان بَيننا ونحنُ إلى أن نُوصِلَ الحَبلَ أحْوَجُ وكانوا أناسا كنتُ آمنُ غيْبَهم فراحُوا على ما لا نُحبّ فأدْلجوا الغِيبَة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا قلتَ في الرجل ما فيه فقد اغتَبْته وإذا قلتَ ما ليس فيه فقد بهَته‏:‏ ومرَّ محمدُ سِيرين بقوم فقال إليه رجل منهم فقال‏:‏ أبا بكر إنّا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا فقال‏:‏ ‏"‏ إني ‏"‏ لا أحِلّ لك ما حَرّم اللهّ عليك ‏"‏ فأمّا ما كان إليَّ فهو لك ‏"‏‏.‏
وكان رَقَبة بن مَصْقلة جالساً مع أصحابه فذَكَروا رجلاً بشيء فاطْلعَ ذلك الرجلُ فقال ‏"‏ له ‏"‏ بعضُ أصحابه‏:‏ أَلا أخْبره بما قًلنا فيه لئلا تكون غِيبة قال‏:‏ أخبره حتى تكون نميمة‏.‏
اغتاب رجلٌ رجلاً عند قُتيبة بن مُسلم فقال له ‏"‏ قُتَيبة ‏"‏‏:‏ أمْسك عليك أيها الرجل فواللّه لقد تلَمَّظت بمُضْغة طالما لَفَظها الكِرام‏.‏
محمد بن مُسلم الطائفيّ قال‏:‏ جاء رجلٌ إلى ابن سِيرين فقال له‏:‏ بَلغني أنك نِلْتَ منّي قال‏:‏ نفسي أعزًّ ‏"‏ علي ‏"‏ من ذلك‏.‏
وقال رجل لبَكْر بن محمد بن عِصْمة‏:‏ بلَغني أنَّك تقع فيّ قال‏:‏ أنتَ إذًا عليَّ أكرمِ من نفسي‏.‏
وَوقع رجلٌ في طَلْحَة والزُبير عند سَعد بن أبي وَقّاص فقال له‏:‏ اسكُتْ فإن الذي بيننا لم يَبْلُغ وعاب رجلٌ رجلاً عند بعض الأشراف فقال له‏:‏ قد استدللتُ على كَثرة عُيوبك بما تكثر من عُيوب الناس لأن طالبَ العُيوب إِنما يَطْلبها بقَدر ما فيه منها أما سمعتَ قولَ الشاعر‏:‏ لا تَهْتِكَنْ من مَساوي الناس ما سترُوا فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِن مَساوِيكَا واذكُرْ محَاسِنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فِيكا وقال آخر‏:‏ لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثْلَه عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ وابْدَأْ بنفسك فانهَها عنَ غَيِّها فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمِ وقال محمد بن السماك‏:‏ تَجَنَب القول في أخيكَ لخَلتين‏:‏ أمَّا واحدة فعلَّك تعِيبه بشيءٍ هو فيك وأما الأخرى فإنْ يَكُن الله عافاك ممَّا ابتلاه به كان شُكْرك الله على العافية تعبيراً لأخيك على البَلاء‏.‏
وقيل لبعض الحُكماء‏:‏ فلانٌ يَعِيبك قال‏:‏ إنما يَقْرض الدَرهمَ الوازنُ‏.‏
‏"‏ قيل لبُزَرْجَمُهر‏:‏ هل تعلم أحداً لا عيبَ فيه قال‏:‏ إن الذي لا عيب فيه لا يموت ‏"‏‏.‏
وقيل لعمرو بن عُبيد‏:‏ لقد وَقع فيك أيوب السِّخْتيانيّ حتى رَحمْناك قال‏:‏ إياه فارحَمُوا‏.‏
‏"‏ وقال ابن عبَّاس‏:‏ اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع وقَدم العلاء بن الحَضرميّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ هل تَرْوِي من الشعر شيئَاَ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأنشِدني فأنشِده‏:‏ تَحَببْ ذَوي الأضغان تَسْب نفوسَهم تَحَببَك القُربَى فقد تُرْقع النَّعَلْ وإن دَحسوا بالكُرْه فاَعفُ تكرُّمًا وإن غَيَّبوا عنك الحديثَ فلا تَسَل فإن الذي يُؤْذيك منه سماعُه وإن الذي قالوا وراءك لم يُقل فقال النبي عليه السلام‏:‏ إن من الشِّعر لَحِكْمة‏.‏
وقال الحسنُ البَصْرِي‏:‏ لا غِيبةَ في ثَلاثة‏:‏ فاسقٍ مُجاهر ‏"‏ بالفِسْقِ ‏"‏ وإمام جائر وصاحب بِدْعة لم يَدَع بِدْعته‏.‏
وكتب الكِسائي إلى الرَّقاشي‏:‏ تركتَ المسجد آلْجَام عَ والتَرك له ريبَهْ فلا نافلةً تَقْضي ولا تَقضي لمَكْتوبَه وأخبارُكَ تَأْتينا على الأعْلام مَنْصوبَه قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ شَرّ الناس من اتّقاه الناسُ لشَرّه‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إذا لقيتَ اللئيمَ فخالِفْه وإذا لقيتَ الكريمَ فخالِطْه‏.‏
وقال أبو الدِّرداء‏:‏ إنا لنَكْشِرُ في وُجوه قوم وإنّ قلوبنا لتَلْعنهم وسُئل شَبيب بن شَيْبة عن خالد بن صَفْوان فقال‏:‏ ليس له صديق في السرّ ولا عدوّ في العَلاَنية‏.‏
وقال الأحنف‏:‏ رُبَّ رجل لا تَغيب فوائدُه وإن غابَ وآخرَ لا يسلم منه جليسهُ وإِن احتَرس‏.‏
وقال كثير بن هَرَاسة‏:‏ إنّ من الناس ناسًا يَنْقصونك إذا زِدْتهم وتَهُون عندهم إذا خاصصْتَهم ليس لرضاهم مَوْضع تَعْرِفه ولا لسُخْطهم موضع تَحْذره فإذا عرفتَ أُولئك بأعْيانهمِ فابذُل لهم موضِعَ الموَدة واحرمهم موضعَ يَكُن ما بذلتَ لهم من المودة حائلاً دون شرِّهم وما حَرَمتهم من الخاصة قاطعاً لحرْمتهم‏.‏
وأنشد العُتْبيّ‏:‏ لي صديقٌ يَرَى حُقوقي عليه نافلاتٍ وحقَّه الدهرَ فَرْضَا لو قطعتُ البلادَ طُولاً إليه ثم من بَعْد طُولها سِرْتُ عَرْضا لرَأَى ما فعلتُ غَيْر كَثِير وآشتَهى أن يَزيد في الأرْض أَرْضا اْسقِهم السُّمّ إن ظَفِرت بهم وآمزُجْ لهم من لِسانك العَسَلاَ كَتب سهلُ بن هارون إلى مُوسى بن عِمْران في أبي الهُذَيل العَلاّف‏:‏ إنّ الضَّمِير إذا سألتًكَ حاجةً لأبي الهُذَيل خلافُ ما أبدِي ‏"‏ فأَلِن له كنفا ليحسن ظنًّه في غير منفعة ولا رِفد ‏"‏ حتى إذا طالتْ شَقاوةُ جَدِّه وعَنَاؤه فاجْبَهه بالردّ وقال صالحُ بن عبد القُدُوس‏:‏ تجنب صدِيق السّوء وآصرِمْ حِبالَه وإِن لم تَجدْ عنه مَحيصاً فَدَارِهِ ومَن يَطلب المعْروف من غير أَهله يَجدْه ورَاءَ البحر أو في قَرارِه وللّه في عَرْضُ السمواتِ جَنَّةٌ ولكنّها مَحْفوفة بالمَكاره وقال آخر‏:‏ بَلاءٌ ليس يُشْبِهه بَلاءٌ عدَاوةُ غير ذي حَسَبٍ ودينِ يبيحك منه عِرْضاً لم يَصُنْه لِيرْتع منكَ في عِرْض مَصون عُرض على أبي مُسلم صاحب الدّعْوة فرسٌ جواد فقال لقُوّاده‏:‏ لماذا يصلُح مثلُ هذا الفرس قالت الحُكماء‏:‏ جُبل الناسُ على ذمّ زَمانهم وقلّة الرِّضا عن أهل عَصْرهم فمنه قولُهم‏:‏ رضَا الناسُ غايةٌ لا تُدرك‏.‏
وقولهم‏:‏ لا سبيلَ إلى السلامة من أَلْسنة العامّة‏.‏
وقولهم‏:‏ الناسُ يعيّرون ولا يَغْفِرون واللّه يَغْفر ولا يُعيِّر‏.‏
وفي الحديث‏:‏ لو أن المؤمن كالقِدْح المُقوّم لقال الناس‏:‏ ليت ولو‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن لابَس النَّاس لم يَسْلم من الناس وضَرَّسُوهُ بأَنْيَابٍ وأَضْرَاس هِشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت‏:‏ رَحِمَ الله لَبِيداً كًان يقول‏:‏ ذَهب الذين يُعاش في أكنافهم وبَقِيتُ في خَلَف كجِلْد الأجْرَبِ فكيف لو أَبصر زمانَنا هذا‏.‏
قال عُروة‏:‏ ونحن نقول‏:‏ رَحِم الله عائشة فكيف لو أدركت زمانَنا هذا‏.‏
وكان بعضهم يقول‏:‏ ذهب الناسُ وبَقيَ النَسْناس فكيف لو أدْرك زماننا هذا‏.‏
دخل مُسلم بن يَزِيد بن وَهْب على عبد الملك بن مَرْوَان‏.‏
فقال له عبدُ الملك‏:‏ أيُّ زمان أدركتَ أفضَل وأيُّ الملوك أكمل قال‏:‏ أمّا المُلوك فلم أَرَ إلا حامداً أو ذامًّا وأما الزمان فيَرْفع أقواماً وكلّهم يَذُم زمانَه لأنه يُبْلِي جديدَهم ويُفرَق عديدهم ويهْرِم صغيرَهم ويهلك كَبيرَهم‏.‏
أيا دهرُ إن كنتَ عاديتَنا فَها قد صَنَعتَ بِنا ما كفَاكَا جَعلت الشرَارَ علينا خِياراً وولَيتنا بعد وَجْهٍ قفَاكا وقال آخر‏:‏ إذا كان الزمانُ زمانَ تَيْمٍ وعكْلٍ فالسلامُ على الزّمانِ زمان صارَ فيه الصدرُ عَجْزا وصار الزُّجّ قُدّامَ السّنان لعلّ زمانَنا سَيعود يومًا كما عاد الزمانُ على بِطان أبو جعفر الشّيباني قال‏:‏ أتانا يوماً أبو مَيَّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال‏:‏ ما أنَتم ‏"‏ فيه ‏"‏ وما تتذاكرون قلنا‏:‏ نَذْكُر الزمان وفَساده قال‏:‏ كلا إنما الزمانُ وِعاء وما ألْقِي فيه مِن خَيْر أو شرّ كان على حاله ثم أنشأ يقول‏:‏ أرَى حُللاً تُصان على أناسٍ وأخلاقاً تُدَاسُ فَما تُصَان يَقولوِن الزمانُ به فَسادٌ وهُم فَسدوا وما فَسد الزمان أنشد فرج بن سلاّم‏:‏ هذا الزمان الذيِ كنَّا نُحذَّرُه فيما يُحدِّث كعبٌ وابن مسعودِ إن دام ذا الدهرُ لم نحْزَن على أحدٍ يموتُ منَا ولم نَفْرح بِمَوْلود لم أَبكِ في زَمن لم أرضَ خَلَته إلا بكيتُ عليه حين يَنْصَرِمُ وقال آخر في طاهر بن الحسين‏:‏ إذا كانت الدُنيا تًنال بِطاهرٍ تَجَنَّبت منها كلَّ ما فيه طاهرُ وأعرضتُ عنها عِفَةَ وتكَرُّماَ وأرجأتُها حتى تَدورَ الدوائر وقال مُؤمن بن سَعيد في مَعْقل الضَّبيّ وابن أخيه عثمان‏:‏ لقد ذلَّت الدنيا وقد ذلّ أهلُها وقد مَلَّها أهلُ النَدى والتَّفضُّل إذا كانت الدُّنيا تَميل بخَيّرها إلى مِثل عًثمانٍ ومِثل المُحوّل ففي استِ ام دُنيانا وفي آست ام خَيّرها وفي آست آم عثمان وفي آست ام مَعقِل وقال محمد بن مُناذر‏:‏ يا طالبَ الأشعار والنَّحوِ هذا زمانٌ فاسدُ الحَشْوِ نهارُه أوْحشً من لَيْله ونَشْوُه من أخْبَث النّشْو فَدَع طِلاَبَ النَّحو لا تَبغِهِ ولا تقل شعراً ولا تَرْو فَما يَجوز اليومَ إلا آمرؤٌ مُسْتَحكم العَزْف أو الشَّدْو رَجاءٌ دُون أَقْربه السَّحابُ وَوَعْدٌ مثلُ ما لمَع السَّرَابُ ودَهْر سادت العُبْدان فيه وعاثَتْ في جوانبه الذِّئاب وأيّام خلَتْ من كلِّ خَيْرٍ ودُنيا قد تَوَزّعها الكِلاب كلابٌ لو سألتَهم تُرَاباً لقالوا عندنا آنقطع التّراب يُعاقَب مَن أساء القولَ فيهم وإنْ يُحْسِن فليس له ثَواب كتب عَمْرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إِخوانه في ذمِّ الزمان‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم حَفِظك الله حفْظ مَن وَفّقه للقَناعة واستَعمله في الطاعة‏.‏
كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفت غمومه وأشْكلت عليه أموره واشتَبه عليه حالُ دهره ومَخْرج أمْره وقَلَّ عنده من يَثِق بوَفائه أو يَحمد مَغبة إخائه لاستحالة زمانِنا وفَساد أيّامنا ودَوْلة أنذالِنا‏.‏
وقِدْماً كان يقال مَن قَدَم الحياءَ على نَفْسه وحكَّم الصِّدْق في قوله وآثر الحقً في أموره ونَبَذ المُشتبِهات عليه من شئونه تَمٌتْ له السلامة وفاز بوُفورِ حظّ العافية‏.‏
وحَمِد مَغبة مكْروه العاقِبة فنَظرنا إذ حال عِنْدنا حُكْمُه وتحوّلت دولتُه فَوَجَدْنا الحياء متَّصلاً بالحِرْمان والصِّدْق آفةً علِى المال والقَصْدَ في الطّلَب برك استعمال القِحة وإخْلاقِ العِرض في طريق التوكّل دليلاَ على سَخافة الرأي إذا صارت الخُطوة السابقة والنًعمة السابغة في لُؤم النِّيَّة وتناولُ الرِّزق من جهة محاشاة الوفاء ومُلابسة مَعرّة العار‏.‏
ثم نَظَرنا في تعقّب المُتعقّب لقولنا والكاسِر لحُجّتنا فأقَمنا له عًلَماً واضِحا وشاهِداً قائماً ومنارًا بيِّناً إذ وَجَدْنا مَن فيه السُّفوليةَ الواضحة والمَثالب الفاضحة والكَذِب المُبرِّح والخُلْفَ المُصَرّح والجَهالة المُفْرطة والرِّكاكة المُسْتَخِفّة وضَعْف اليقين والاستيثاب وسرْعة الغَضب والخِفّة قد استُكْمل سروره واعتدلت أمورُه وفاز بالسِّهْم الأغْلب والحظّ الأوْفر والقَدْر الرَّفيع وَالجَواب الطّائع والأمر النافِذ إن زلّ قيل حَكُم وإنْ أخطأَ قيل أصاب وإن هَذَى في كَلامه وهو يَقْظان قيل رُؤْيا صادِقة في سِنَة مُباركة فهذه حُجّتنا ‏"‏ أبقاك اللّه ‏"‏ على مَن زَعم أنّ الجهْل يَخْفِضُ وأن الحُمق يَضَع وأنّ النَّوْك يُرْدي وأن الكَذِب يَضُر وأنّ الخُلفَ يُزْرِي‏.‏
ثم نَظَرْنا في الوَفاء والأمانة والنُّبْل والبَراعة وحُسْن المَذْهب وكماله المُروءَة وسَعة الصَّدْر وقلّة الغَضب وكَرِم الطبيعة والفائق في سَعة عِلْمه والحاكم على نَفْسه والغالِب لِهَواه فَوَجدنا فُلان بن فلان ثم وَجدنا الزَّمان لم يًنْصفه من حقّه ولا قامَ له بوَظائف فرْضه‏.‏
وَوَجَدْنا فضائلَه القائمة له قاعدهً به‏.‏
فهذا دليلٌ على أنّ الطًلاح أجدَى من الصَّلاح وأنّ الفَضْل قد مَضى زمانُه وعَفَت آثارُه وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضدّه وَوَجدْنا العَقْلَ يَشْقى به قرينُه كما أن الجَهْل والحمْق يَحْظَى به خَدِينُه‏.‏
وَوَجدْنا الشعرَ ناطقاً على الزَّمان ومُعْرباً عن تَحَامَقْ مع الحَمْقَى إِذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجَهْل فعْلَ أخِي الجَهْل وخَلِّط إذا لاقَتْ يوماً مُخَلِّطا يُخَلِّط في قَوْلٍ صَحيح وفي هَزْل فإنِّي رأيتُ المَرْء يَشْقَى بعَقْلِه كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعَقْل فبقيتُ أبقاك الله مثلَ مَن أصبح على أَوْفاز ومن النُّقلة على جهَاز لا تَسوغ له نِعْمة ولا يُطعم عَيْنيه غَمْضة في أهاويل يُباكره مكْرُوهها وتُراوحه عقابيلُها فلو أنّ الدُّعاءَ أجيب والتَضرًع سُمع لكانت الهَدّة العُظمى والرَّجفة الكبرى فليتَ الذي يا أخي ما أَستَبْطئه من النّفْخة ومن فَجْأَة الصَّيحة قُضي فحان وأذن به فكان فواللهّ ما عُذبت أُمةٌ برَجفة ولا ريح ولا سَخْطة عذابَ عَينيّ برُؤْية المُغايظة المُضْنية والأخبار المُهلكة كأنّ الزَّمان توكَّل بعَذَابي أو انتصب لإيلامي فما عَيْشُ مَن لا يُسَر بأخ شقيق ‏"‏ ولا خِدْن شفيق ‏"‏ ولا يَصْطبح في أوَّل نهارِه إلا برُؤية من تُكْره ‏"‏ رؤيتُه ‏"‏ ونَغمة من تَغُمه طَلْعته فبدَّل الله ‏"‏ لي أي أخي بالمسكن مَسكنا وبالرَّبع رَبْعا فقد طالت الغُمة وواطنت الكُرْبة ادلهمتْ الظُّلمة وخَمد السِّراج وتَباطأ الانفِراج‏.‏
‏"‏ والسلام ‏"‏‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:29 AM

فساد الإخوان



قال أبو الدَّرداء‏:‏ كان الناس وَرَقاً لا شَوْك فيه فصاروا شَوْكاً لا وَرَق فيه‏.‏
وقيل لعُرْوة بن الزُّبير‏:‏ ألا تَنْتقل إلى المدينة قال‏:‏ ما بَقِى بالمدينة إلا حاسدٌ على نِعْمة أو شامت بمُصِيبة‏.‏
الخُشني قال أنشدني الرِّياشيّ‏:‏ إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ كأمْثال الذِّئاب لها عُواء صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء إذا ما جئتهم يَتدافَعوني كأنِّي أجربٌ آذاه داء أقولُ - ولا ألاَم على مَقال - على الإخوان كُلِّهم العَفاء وقالت الحًكماء‏:‏ لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له‏:‏ واصطناع مَن لا شكر عِنده والكريمُ يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة‏.‏
وفي كتاب لِلْهند‏:‏ إنّ الرَّجل السًوْء لا يَتَغَيّر عن طبْعه كما أنَّ الشَّجرة المُرَّة لو طَلَيْتها بالعَسل لم وسَمِع رجلٌ أبا العتاهية يُنْشد‏:‏ فارْم بطَرْفك حيث شئ تَ فلا ترى إلا بَخيلاَ ‏"‏ فقال له‏:‏ بَخلت الناس كًلَّهم قال‏:‏ فأَكذبني بسَخِيّ واحد ‏"‏‏.‏
وقال أيضا في هذا المعنى‏:‏ للّه درُّ أَبيك أيّ زَمان أصبحتُ فيه وأيّ أهل زَمانِ كلّ يُوازنك المَودة جاهداً يُعْطِي ويأخُذ منك بالميزان فإذا رأى رُجْحانَ حَبَّة خَرْدلٍ مالتْ مَودَّتُه مع الرًّجحان وقال فيه أيضاً‏:‏ أَرَى قوماً وُجُوهُهمُ حِسانٌ إذا كانت حَوائجُهم إلينَا وإن كانت حَوائجُنا إِليهم يُقبح حُسْن أوجههم عَلَينا فإن مَنع الأشحّةُ ما لَدَيهم فإنّا سوف نَمْنح ما لَدَينا وقال‏:‏ مَوالينا إذا احتاجوا إلينا وليسَ لنا إذا احتجنا موالى للبَكريّ‏:‏ كان في سِرِّي وجَهْري ثِقَتي لستُ عنه في مُهِمّ أحترس ستر البغض بألفاظ الهوى وادَّعىٍ الوُدَّ بغِش ودَلَس إنْ رآني قال لي خَيراً وإنْ غبت عنه الود بغش ودلس ثم لمّا أمكَنَتهُ فًرْصةٌ حَمَل السيفَ على مَجْرَى النّفس وأرادَ الرُوح لكنْ خانَهُ قَدَرٌ أيقَظَ مَن كانَ نَعَس وأنشد العُتبي‏:‏ إِذا كنتَ تَغْضب من غير ذَنْب وتَعْتِب من غَير جُرْم عَلَيّا طَلبتُ رِضاكَ فإن عَزَّني عَدْدتُكَ مَيْتاً وإن كنتً حَيّا فلا تعجبنّ بمَا في يَدَيْكا فأكثْر منه الذي في يَدَيّا وقال ابن أبي حازم‏:‏ وصاحب كانَ لي وكنتُ لهُ أشفقَ من والدٍ عَلَى وَلَدِ كُنّا كَسَاقٍ تَسْعى بها قَدَمٌ أو كَذِراعٍ نيطت إلى عَضد حتى إذا دَبَّت الحوادثُ في عَظْمِي وحًل الزّمانُ من عقَدي وخِلٍّ كان يَخْفِض لي جَناحًا أعادَ غِنًى فنابذَني جماحَا فقلتُ لهُ وَلِي نَفْس عَزُوف إذَا حَمُيت تَقحَمت الرًّماحا سأبدِل بالمَطامع فيك يأسًا وباليَأْس آستَراح من استراحا وقال عبد الله بن مُعاوية بن ‏"‏ عبد الله بن ‏"‏ جعفر‏:‏ وأنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ فإِنْ عَرَضت أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا فلا زاد ما بَيْني وبَيْنك بعدَ ما بَلَوْتُكَ في الحاجاتِ إلا تمَادِيا كِلاَنَا غنيٌّ عن أَخِيه حياتَه ونحنُ إذا مِتْنا أشدُّ تَغانِيا وعينُ الرِّضَا عن كلِّ عَيْبٍ كليلةٌ كما أنّ عينَ السُّخط تُبدِي المَساوِيا وقال البُحتريّ‏:‏ أشرِّق أم أغَرِّبً يا سعيدُ وأَنْقُص من ذِمامِي أو أزِيدُ عَدَتني عن نَصِيبين العَوادِي فبَخْتى أبلهٌ فيها بَلِيدُ وخَلَّفني الزّمانُ على رِجالٍ وجُوههمُ وأيديهمْ حَدِيد لهم حُلَل فهُنَّ بِيضٌ وأخلاقٌ سَمُجن فهُنَّ سُود وقالُوا لو مَدحت فَتًى كَرِيماً فقلتُ وكيفَ لي بفتًى كَريم بُلِيتُ ومَرَّ بي خَمْسون حَولاً وحَسْبُك باْلمُجَرِّب من عَلِيم فلا أَحدٌ يُعَدُّ ليومِ خيْرٍ ولا أحدٌ يَعود علَى عَدِيم وقال‏:‏ قد بلوتُ النّاسَ طُرَّا لم أحِدْ في الناس حرا صار حُلْوُ الناس في العَي ن إذا ما ذيق مُرا وقال‏:‏ مَن سَلاَ عنِّيَ أَطْلَق تُ حِبالِي من حِبالهْ أَو أَجَدّ الوَصل سارَع ت بجَهْدِي في وصاله إنَّما أَحْذو على فع ل صَدِيقي بمثَاله غيرَ مُستجْدٍ إِذا ازوَر ر كأني مِن عِيَاله لَنْ تراني أبداً أع ظِم ذا مالٍ لماله لا ولا أَزْرَى بمَنْ يع قِل عندي سُوءُ حاله ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ أبا صالحٍِ جاءت على الناس غَفْلةٌ على غَفْلَةٍ بانت بكلِّ كَرِيم فَليتَ الآلي باتُوا يُفادون بالألى أقاموا فَيُفْدَى ظاعنٌ بمقيم وياليتَها الكُبْرَى فتُطْوى سماؤنا لها وتُمَدّ الأرضُ مَدَّ أَديم فما الموتُ إلا عَيْش كلِّ مُبَخَّل وما العَيْش إلا موت كل ذَميم وأعذَرُ ما أدمى الجُفونَ من البُكا كَريمٌ رَأى الدًّنيا بكَفّ لَئيم ومثلُه في هذا المعنى‏:‏ أبا صالحٍ أينَ الكِرامُ بأَسْرِهم أفِدْني كريماً فالكريمُ رِضَاءُ أحقًّا يقول الناسُ في جود حاتمٍ وابن سِنان كان فيه سَخاء عَذِيريَ مِن خَلْق تَخَلَّق منهم غَباءٌ ولُؤْم فاضحٌ وجَفاء حِجارةُ بُخْلٍ ما تَجُود ورُبَّما تَفجَّر من صُمِّ الحجارة ماء ولو أنّ موسى جاَء يَضْربُ بالعَصا لما انبجَسَت من ضَرْبه البُخلاء بَقاءُ لِئام الناس مَوْتٌ عليهمُ كما أنّ موتَ الأكْرمين بَقاء ساقٌ تَرنّح يَشْدُو فوقَهُ ساقُ كأنّه لِحَنِين الصَّوْتِ مُشْتاقُ يا ضَيْعَةَ الشِّعر في بُلْهٍ جَرامقةٍ تَشابهت منهُمُ في اللُّؤْم أخلاق ‏"‏ غُلَّت باَّعناقِهم أَيدٍ مُقَفَّعَةٌ لا بُوركت منهُمُ أَيدٍ وأعنَاق كأنما بينهم في مَنْع سائلهم وحَبْس نائلهم عَهْد ومِيثاقُ كم سُقْتهم بأَماديحي وقُدْتهم نحو المَعالي فما انقادوا ولا انساقوا وإن نَبا بيَ في ساحاتهم وَطنٌ فالأرض واسعة والناس أَفراق ما كنتُ أوّلَ ظمآن بمَهمهة يَغرُّه من سراب القَفْر رَقراق رِزْقٌ من الله أرضاهم وأسخطَني اللّهُ للأنْوك المَعْتوه رَزَّاق يا قابضَ الكف لا زالت مُقبَّضة فما أناملُها للناس أرزاق وغِبْ إذا شِئت حتى لا تُرى أبداً فما لفقدك في الأحشاء إقلاق ولا إليك سبيلُ الجود شارعةٌ ولا عليكَ لنور المجد إشراق لم يَكتنفني رَجاء لا ولا أمل إلا تكنّفه ذُلّ وإملاق يَتحامَوْن لِقائي مثلَ ما يَتحامَوْن لِقاءَ الأسد طَلْعتي أثقلُ في أعينهم وعلى أنفسهم من أحُد لو رأوني وَسْط بحْرٍ لم يكن أحَدٌ يأخذ منهم بيَدىِ ‏"‏



باب في الكبر
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ العَظمة إزاري والكِبْرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قصمتُه وأهنته‏.‏
وقال عليه السلام‏:‏ لا يدخل حَضْرة القدس مُتكبِّر‏.‏
وقال‏:‏ فَضل الإزار في النار‏.‏
معناه‏:‏ من سَحب ذيلَه في الخُيلاء قاده ذلك إلى النار‏.‏
و ‏"‏ نَظر الحسنُ إلى عبد الله بن الأهْتم يَخْطِر في المَسْجِد فقال‏:‏ انظروا إلى هذا ليس منه عضو إلا وللّه عليه نِعْمة وللشيطان في لَعْنة‏.‏
وقال سَعد بن أبي وَقّاص لابنه‏:‏ يا بُني‏:‏ إيّاك والكِبرَ ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه‏:‏ عِلْمُك بالذي منه كنتَ والذي إليه تَصِير وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها خُلِقتَ والرحِم التي منها قُذِفْت والغِذَاء الذي به غُذِيت‏.‏
وقال يحيى بن حَيّان‏:‏ الشريفُ إذا تَقَوى تواضَع والوَضيع إذا تقوَّى تَكَبَّر‏.‏
وقال بعضُ الحُكماء‏:‏ كيف يَسْتقِرّ الكِبر فيمن خُلِق من ترَاب وطُوِي على القَذَر وجَرى مجرى البول‏.‏
وذكر الحسنُ المُتكبرين فقال‏:‏ يُلْفي أحدُهم ينص ‏"‏ رَقَبَته ‏"‏ نصّا ينفَض مذرويه ويَضرب أصْدَريه يَمْلُخ في الباطل مَلْخا يقول‏:‏ ها أناذا فاعرفُوني قد عَرَفناك يا أَحمق مَقتك الله ومَقتك الصالحون‏.‏
ووَقف عُيينة بن حِصْن بباب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ استأذِنُوا لي على أمير المؤمنين وقولُوا له‏:‏ هذا ابن الأخيار بالباب‏.‏
فأذِن له فلما دَخل عليه قال له‏:‏ أنتَ ابن الأخْيار قال نعم قال له‏:‏ بل أنتَ ابن الأَشْرار وأما ابن الأخيار فهو يُوسف بن يَعْقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏.‏
وقيل لعبيد اللهّ بن ظَبْيان‏:‏ كثر الله في العَشِيرة أمثالك فقال‏:‏ لقد سألتم الله شَططا‏.‏
وقيل لرجُل من بني عبد الدَّار عَظِيم الكِبْر‏:‏ ألا تَأْتي الخَلِيفة قال‏:‏ أخشى أَلا يَحمل الجسْرُ شرفي‏.‏
وقَيل له‏:‏ ألا تَلبَس فإنَّ البَردَ شدِيد قال‏:‏ حَسَبي يُدْفئني‏.‏
قيل للحجاجِ‏:‏ كيف وجدت منزلَك بالعِرَاق أيها الأمِير قال‏:‏ خَير مَنزِل لو أدركتُ بها أربعةَ نفر فَتقرَّبت إلى الله سُبحانه وتعالى بدمائهم قيل له‏:‏ ومَن هم قال‏:‏ مُقاتل بن مِسْمع وَلِي سِجِسْتان فأتاه الناسُ فأعْطاهم الأموال فلما قَدِم البصرة بسط له الناسُ أرديتهم فمشى عليها فقال‏:‏ لمثْل هذا فليعمل العامِلُون‏.‏
وعبيد اللهّ بن ظَبيان خطَب خُطْبة أَوْجَز فيها فناداه الناسُ من أَعْراض المَسْجد‏.‏
كثَّر الله فينا أمثالك قال‏:‏ لقد كلَّفتم ربكم شططا‏.‏
ومَعْبد بن زُرارة كان ذات يومٍ جالساً على طريق فمرَّت به امرأةٌ فقالت‏:‏ يا عبد الله أين الطَّريق لِمَكان كذا فقالَ لمِثْلي يُقال يا عبد الله‏!‏ وَيلك‏!‏ وأبو السَّمّال الحَنَفِيّ أضلَّ ناقَته فقال‏:‏ واللهّ لئن لم تُرَدَّ عليَّ ناقتي لا صلّيتُ أبداً‏.‏
وقال ناقلُ الحديث‏:‏ ونَسيِ الحجَّاج نفسَه وهو خامسُ هؤلاء الأربعة بل هو أشدُّهم كُفْراً وأعْظَمهم إلحاداَ حين كتب إلى عبد الملك بن مروان في عَطْسة عَطسها فَشَمَّته أصحابُه ورَدَ عليهم‏:‏ بَلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين وتشْميت أصحابه له وردّه عليهم فيا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيما‏.‏
وكتابُه إليه‏:‏ إنّ خَليفة الرَّجل في أهلِه أكرمُ عليه من رَسوله إليهم وكذلك الخُلفاء يا أميرَ المؤمنين أعلَى منزِلةً من المُرسلين‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ رأيتُ مُحْرِزاَ مولَى باهلة يَطوف على بَغْلة بين الصَّفا والمَرْوة ثم رأيتُه بعد ذلك على جِسْر بَغْداد راجلاً فقلتُ له‏:‏ أراجلٌ أنتَ في مِثْل هذا المَوْضع قال‏:‏ نعم إنّي ركبتُ في مَوْضع يمْشي الناسُ فيه فكان حقيقاً على الله أن يُرَجِّلني في مَوْضع يَرْكب الناس فيه‏.‏
وقال بعضُ الحكماء ‏"‏ لابنه‏:‏ يا بُني عليك بالترحيب والبشر وإياك والتقطيبَ والكبر فأنَ الأحرار أحبُّ إليهم أن يًلْقَوْا بما يُحبون ويُحرَموا مِن أن يُلْقَوْا بما يكرهون ويًعْطَوْا‏.‏
فانظر إلى خَصْلة غَطّت على مِثْل اللؤم فالزمها وانظر إلى خَصلة عَفَّت على مثل الكرة فاجتنبها‏.‏
ألم تسمع قول حاتم الطائي‏:‏ أضاحِك ضيفي قبل إنزال رَحْله ويُخصب عندي المَحَلُّ جديبُ وما الخِصب للأضياف أن يَكْثُرَ القِرَى ولكنما وجهُ الكريم خَصيب وقال محمود الوراق‏:‏ التِّيه مَفسدة للدِّين منقصة للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ مَنْع العطاء وبَسْط الوجه أحسنُ من بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط وقال أيضاً‏:‏ بِشْرُ البخيلِ يكاد يصْلِح بُخلَه والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ ونقيصة تبْقى على أيامه ومَسبَّة في الأهل والأولاد وقال آخر في الكِبر‏:‏ مع الأرض يا بنَ الأرض في الطَيران أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ حَمَاهُ مكانُ البُعد مِن أَن تَناله بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان التسامح مع النعمة والتذلل مع المصيبة قالوا‏:‏ من عَزّ بإقبال الدَّهر ذَلّ بإِدْباره‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن أَبْطره الغِنَى أذلّه الفقر‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن وَليَ وِلاية يَرى نفْسَه أكبر منها لم يتغيَّر لها ومَن وَليَ ولايةً يراها أكبر من نفسه تغير لها‏.‏
وقال يحيى بن حَيّان‏:‏ الشرَّيف إذا تقوَّى تواضع والوضيعُ إذا تقوَّى تكبَّر‏.‏
وقال كِسرى‏:‏ احذَرُوا صَوْلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شَبع‏.‏
وكتب عليًّ بن الجَهْم إلى ابن الزيّات‏:‏ أبا جعفر عرج على خُلطائكَا وأَقصِر قليلاً من مَدى غُلوائكَا فإن كنتَ قد أُوتيت في اليوم رِفْعةً فإنّ رَجائي في غَدٍ كرجائكا وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابيّ‏:‏ إذا نال لم يَفْرَح وليس لنَكبة أَلمَت به بالخاشع المُتَضائل وقال الحسنُ بن هانئ‏:‏ لقد حَزِنْتُ فلَم أَمُتْ تَرَحا ولقد فَرِحْتُ فلم أمُت فَرَحا كتب عقِيلُ بن أبي طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلامُ يسأله عن حاله فكتب إليه عليٌّ رضي الله عنه‏:‏ فإنْ تَسألِينيّ كيفَ أنتَ فإنني جَليِدٌ على عَض الزَّمان صَلِيبُ عَزِيزٌ عليًّ أنْ تُرى بي كآبةٌ فيفرح واشٍ أو يُسَاء حَبِيب ما جاء في ذم الحمق والجهل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الجاهلُ يظلم مَن خالطه ويعتدي على مَن هو دونه ويتَطاول على مَن هو فَوْقه ويتَكلّم بغير تَمييز وإن رَأَى كريمةً أعرض عنها وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه وتهوَّر فيها‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ عَلامة الجاهل ثلاث‏:‏ العُجُب وكَثرة المَنطق وأن يَنْهَى عن شيء ويأتيه‏.‏
وقال أرْدشير‏:‏ حَسْبُكم دَلالة على عَيْب الجهل أنَّ كل الناس تَنفر منه وتَغضب من أن تُنسب وكان يُقال‏:‏ لا تَغْرُرْك من الجاهل قَرابة ولا أُخوَة ولا إِلْف فإنّ أحقَّ الناس بتَحريق النَّار أقربُهم منها‏.‏
وقيل‏:‏ خَصْلتان تقَرِّبانك من الأحمق كثرةُ الالتفات وسرعة الجواب‏.‏
وقيل‏:‏ لا تَصْطحب الجاهِلَ فإنّه يُريد أن يَنْفعك فيضُرّك‏.‏
ولبعضهم‏:‏ لكلِّ دَاءٍ دواءٌ يستطب به إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها ولأبى العتاهية‏:‏ احْذَرِ الأحمقَ أن تَصْحَبَه إنما الأحمقُ كالثَّوب الخَلَقْ كلَّما رَقَّعْتَه مِن جانبٍ زَعْزَعتْه الريحُ يوماَ فَانخرق أو كصدع في زُجاج فاحشٍ هل تَرَى صَدْع زُجاجٍ يَلْتصق فإذا عاتبتَه كي يَرْعَوِي زادَ شرًّا وتمادى في الحُمق



باب في التواضع
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن تَوَاضَع للّه رَفعه الله‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مَرْوان رَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن رِفْعة وزَهِد عن قُدْرة وأنصف عن قوة‏.‏
وقال ابن السماك لعيسى بن موسى‏:‏ تواضُعك في شَرَفك أكبرُ من شرَفك‏.‏
وأصبح النّجاشيّ يوماً جالساً على الأرض والتّاجُ عليه فأعظمت بَطارقتُه ذلك وسألُوه عن السَّبب الذي أوْجبه فقال‏:‏ إني وَجدت فيما أنزل الله على المَسِيح‏:‏ إذا أنعَمْتُ عَلَى عَبْدِي نِعمةً فَتَواضَع أتمَمتُها عليه وإنه وُلد لي هذه الليلةَ غلامٌ فتواضعتُ شكراً للّه‏.‏
خرج عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه ويدُه على المُعلَّى بن الجارود العَبْديِّ فَلقيَتْه امرأةٌ من قُرَيش فقالت له‏:‏ يا عُمر فَوَقف لها فقالت‏:‏ كنَا نَعْرفك مُدةً عُميراً ثم صِرْت من بعد عُمير عُمر ثم صِرْت من بعد عُمر أميرَ المؤمنين فاتق اللهّ يا بن الخطّاب وانظُر في أمور الناس فإنه مَن خاف الوَعيد قَرُبَ عليه البَعيد ومَن خاف الموتَ خَشيَ الفَوْت‏.‏
فقال المُعلّى‏:‏ إيهاً يا أمةَ الله فقد أبكيتِ أميرَ المؤمنين‏.‏
فقال له عُمر‏:‏ اسكت أتَدْري مَن هذه ‏"‏ ويحك ‏"‏ هذه خَوْلة بنت حَكيم التي سمع الله قولَها من سمائه فعُمَر أحرى أن يَسمع قولَها ويَقْتدي به‏.‏
وقال أبو عَبّاد ‏"‏ الكاتب ‏"‏‏:‏ ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خيِّل إليَ أنّي سأجلس إليه‏.‏
وسُئل الحسنُ عن التواضع فقال‏:‏ هو أن تخرج من بَيْتك فلا تلْقى أحداً إلا رأيتَ له الفضلَ وقال رجل لبَكر بن عبد الله‏:‏ عَلِّمني التواضع فقال‏:‏ إذا رأيتَ مَن هو أكبَرُ منك فقُل‏:‏ سَبَقني إلى الِإسلام والعَمل الصالح فهو خير مني وإذا رأيت ‏"‏ من هو ‏"‏ أصغرُ منك فقُل‏:‏ سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ فأنا شرٌّ منه‏.‏
وقال أبو العتاهية‏:‏ يا مَن تشرًّف بالدُّنيا وزينتها ليسَ التشرُّف رَفْعَ الطّين بالطيّن إذا أردتَ شريفَ الناس كلِّهِمُ فانظُرْ إلى مَلِك في زِيِّ مِسْكينَ ‏"‏ ذاك الذي عَظُمت في الناس هِمَّته وذاكَ يَصْلح للدُّنيا وللدِّين ‏"‏ الرفق والأناة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أًوتِيَ حظَّه من الرِّفق فقد أوتي حظَّه من خَيْر الدُنيا والآخرة‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعًنْف ألاَ تَرى أنّ الماء على لِينه يَقْطع الْحَجَر على شِدَته وقال أشجعُ ‏"‏ بن عمرو ‏"‏ السُّلَميّ لجعفر بنِ يحيى بنِ خالد‏:‏ وقال النابغة‏:‏ الرِّفْقُ يُمْن والأَناةُ سعادةٌ فاْسْتَأْنِ في رِفْق تُلاَق نَجَاحَا وقالوا‏:‏ العَجل بَرِيدُ الزَّلل‏.‏
أخذ القَطامىِ التَّغلبِيّ هذا المعنى فقال‏:‏ قد يُدْرِك المُتَأنِّي بعض حاجتِه وقد يكونُ معَ المُستَعْجل الزَّللُ وقال عَدِيُّ بن زَيد‏:‏ قد يُدْرِكُ المُبْطِىءُ مِن حظّه والْحَين قد يَسْبقُ جُهْدَ الحَرِيصْ استراحة الرجل بمكنون سره إلى صديقة تقول العرب‏:‏ أَفْضَيْتُ إليك بشُقوري‏.‏
وأَطلَعْتُك على عًجَري وبُجَري‏.‏
لوكان في جَسدي بَرص ما كَتَمتُه‏.‏
وقال اللهّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ ‏"‏‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ لكلّ سِرّ مُستودع‏.‏
وقالوا‏:‏ مكاتمة الأدْنين صرَيحُ العُقوق‏.‏
وأبثثتُ عَمراً بعضَ ما في جَوَانحي وجَرَّعتُه من مُرّ ما أتجرع ‏"‏ ولا بدَّ من شَكْوى إلى ذي حَفِيظةٍ إِذَا جَعلتْ أسرارُ نفس تَطَلَّع ‏"‏ وقال حبيب‏:‏ شكوت وما الشَّكْوَى لِمِثْليَ عادةٌ ولكنْ تَفِيضُ النفسُ عند امتلائها وأنشد أبو الحسن محمد الَبَصَريَّ‏:‏ لَعِبَ الهَوَى بمَعالمي ورُسومي ودُفِنْتُ حيًّا تحت رَدْم هُمُومِي وشكوتُ هَمِّي حين ضِقْتُ ومَن شكا هَمًّا يضِيقُ به فغير ملوم وقال آخر‏:‏ إِذا لم أطِق صَبراً رَجعتُ إلى الشكوى وناديتُ تحت اللًيل يا سامع النَّجْوَى وأَمطَرْت صَحْن الخَدِّ غيثاً من البُكا على كَبِد حَرَّى لِتَرْوَى فما تَرْوَى الاستدلال باللحظ على الضمير قالت الحكماء‏:‏ العينُ باب القَلْب فما كان في القلب ظهَر في العين‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس بن مُصْعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال‏:‏ إني لأَعرف في العين إِذَا عَرفتْ وأَعرِف فيها إذا أنكرتْ وأعرف فيها إذا لم تَعرف ولم تُنكر أما إذا عرفت فتخواصّ وأما إذا أَنكرت فتَجْحظ وأما إذا لم تَعرف ولم تُنْكر فتَسْجُو‏.‏
وقال صريعُ الغَواني‏:‏ جَلنا عَلامات اْلمَوَدَّة بَيْننا مَصايِدَ لَحْظٍ هنَ أَخفي من السِّحْرِ فأعرفُ فيها الوَصْلَ في لِينِ طَرْفِها وأعرِف فيها الهَجْر في النَظر الشزْر وقال محمودٌ الورّاق‏:‏ إنّ العُيون على القُلوب شَوِاهدٌ فبغيضُها لكَ بَينٌّ وحبِيبُها وإذا تَلاحظت العُيون تَفاوضت وتحدثت عما تجن قلوبها يَنْطِقْنَ والأفْواهُ صامِتةٌ فما يَخْفي عليك بَريئُهَا ومُريبها وقال ابن أبي حازم‏:‏ خذْ مِن العَيْش ما كَفي ومِن الدَّهر ما صَفا عين من لا يُحب وَصْلك تُبْدِي لكَ آلْجَفَا ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ صاحب في الحب مَكْذُوبُ دَمْعة للشَّوق مَسْكوب وقال الحسنُ بن هانئ‏:‏ وإِنّي لِطَيْر العيَنْ بالعَينْ زاجِر فقد كِدْتُ لا يَخْفي عَلَيَّ ضَمِيرُ الاستدلال بالضمير على الضمير كتب حَكيمٌ إلى حَكيمٍ‏:‏ إذا أردتَ معرفةً مالَك عنِدي فضَع يَدَك على صدْرك فكما تَجدُني كذلك أجدُك‏.‏
وقالوا‏:‏ إيَّاكم ومَن تُبغضه قلوبُكم فإنَ القُلوب تُجَازي القلوبَ‏.‏
وقال ذو الإصْبع‏:‏ لا أسألُ الناسَ عمّا في ضَمائرهم ما في ضمِيري لهم مِن ذاك يَكْفِينى وقال محمود الورّاق‏:‏ لا تسألنَّ المَرْء عمًا عنِده واستَمْل ما في قَلبه من قَلْبكَا إنْ كان بُغْضاً كان عندك مِثْلُه أو كان حُبَا فاز منك بحًبِّكا الإصابة بالظن قيل لعمرو بن العاص‏:‏ ما العَقْل قال الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان‏.‏
وقال عليٌ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ للهّ دَرُّ عباس إن كان لينظر إلى الغَيْب من سِترْ رَقيق‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وقَلّما يَفْجأ المَكْرُوهُ صاحبَه حتى يَرى لوجوه الشَّرّ أسْبَاباً وإنّما رَكَّب الله العقلَ في الإنسان دون سائر الحَيوان ليستدلَ بالظاهر على الباطن ويَفْهم الكثيرَ بالقليل‏.‏
ومن قوِلنا في هذا المعنى‏:‏ يا غافلا ما يَرى إلا مَحاسِنَه ولو دَرَى ما رأى إلا مَساويهِ انظُر إلى باطنِ الدًّنيا فظاهِرُها كلُّ البهائم يَجْري طَرْفُها فيه تقديم القرابة وتفضيل المعارف قال الشَّيباني‏:‏ أَوَّل مَن آثر القَرابة والأولياء عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه وقال‏:‏ كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أقاربَه ابتغاءَ وجه اللهّ‏.‏
فلا يُرَى أفضل من عمر‏.‏
وقال لما آوَى طريدَ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما نَقِم الناسُ عَلَيَّ أن وصلتُ رحماً وقَرَّبت وقيل لمُعَاوية بن أبي سُفيان‏:‏ إنَّ آذِنَك يُقدِّم معارفَه وأصدقاءَه في الإذْن على أشرافِ الناس ووُجوههم فقال‏:‏ وَيْلكم‏!‏ إنَّ المَعْرفة لتَنْفع في الكلْب العَقور والجَمَل الصَّؤول فكيف في رَجُل حَسيب ذي كرم ودين‏.‏
وقال رجلٌ لزِياد‏:‏ أصلح اللهّ الأميرَ إنَ هذا يُدِلّ بمَكانةٍ يَدَّعيها منك قال‏:‏ نعم وأخبرك بما يَنْفعه من ذلك إنْ كان الحق له عليك أخذتُكَ به أخذاً شديداً وإن كان لك عليه قَضيته عنه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ أقولُ لجاريِ إنْ أتاني مُخاصماً يُدِلُ بحقِّ أو يُدِلُّ بباطل إذا لم يَصِلْ خيْري وأنتَ مُجاورِي إليك فما شَرِّي إليك بواصِل العُتْبيّ قال‏:‏ وَلَي عبدً اللهّ بنُ خالد بن عبد الله القَسْرِي ‏"‏ قَضاء ‏"‏ البَصرة فكان يُحابى أهل مودَّتِه فقيلَ له‏:‏ أيّ رجلٍ أنت لولا أنك تُحَابي‏!‏ قال‏:‏ وما خَيْر الصَّديق إذا لم يَقْطع لصديقه قِطْعة من دينه‏.‏
ووَلِي ابن شُبرمة قَضَاء البَصرة وهو كاره فأحسن السِّيرة‏.‏
فلما عُزِلَ اجتمع إليه أهلُ خاصَّته ومَودَّته فقال لهم‏:‏ والله لقد وَليتُ هذه الوِلاية وأنا كارهٌ وعُزلت عنها وأنا كاره وما بي من ذلك إلا مخافَة أن يلي هذه الوُجوهَ من لا يَعرف حقّها‏.‏
ثم تمثَل بقول الشاعر‏:‏ بَلَى إنَّ أقواماً أخافُ عليهمُ إذا مِتُّ أن يُعطوا الذي كنتُ أمنع ‏"‏ وتقول العامَّة‏:‏ مَحَبَّة السلطان أردّ عليك من شُهودك ‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ إذا كان الأمير عليك خَصما فَلَيس بقابلٍ منك الشّهودَا وقال زياد‏:‏ أحب الولايةَ لثلاث وأَكرهها لثلاث‏:‏ أحبها لِنَفْع الأوْلياء وضرَّ الأَعْداء واسترخاص الأشياء وأكرهها لِرَوْعة البريد وقُرْب العزْل وشَماتة العدوّ‏.‏
ويقول الحُكماء‏:‏ أَحقُّ مَن شاركك في النِّعمة شرُكاؤك في المُصِيبة‏.‏
أَخذه الشاعر فقال‏:‏ وإنَ أوْلى الموالي أن تُوَاسِيه عند السُّرُور لمن آساك في الحزَن إنّ الكِرام إذا ما أسْهلُوا ذَكَروا مَن كان يَألَفهم في المَنْزِل الخَشِن وقال حَبِيب‏:‏ قَبَح الإلهُ عداوةً لا تُتّقى ومَودَّةً يُدْلَى بها لا تَنْفَعُ فضل العشيرة قال عليّ بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة إن كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة مع مودَّتهم وحِفَاظهم ونُصْرتهم‏.‏
إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه وسأتْلُو عليكمِ في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ ‏"‏ تعالى ‏"‏ قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه عن لُوط‏:‏ ‏"‏ لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد ‏"‏‏!‏ يعني العشيرة ولم يكن للوط عَشيرة‏:‏ فوالذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده إلا في ثَرْوَة من قومه ومَنعة من عَشِيرته ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه‏:‏ ‏"‏ إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ ‏"‏ وكان مَكْفوفاً واللّه ما هابُوا ‏"‏ الله ولا هابوا ‏"‏ إلا عشيرتَه‏.‏
وقبل لِبُزُرْجمْهِر‏:‏ ما تقول في ابن العم قال‏:‏ هو عدوُّك وعدوُّ عدوّك‏.‏
الدَّين مِن حَدِيث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ الدَّيْنُ يَنْقُص ذا الحَسب‏.‏
وقال عمر ‏"‏ ألا إنّ ‏"‏ لأسَيْفع أُسَيْفِع جُهينة رَضي مِن دِينه وأمانته أن يُقال‏:‏ سَبق الحاج ألا وإنه قد أدان مُعرِضاَ وأصبح قدرِين به فمن كان له عِنْده شيء فلْيأْتنا بالغداة وقال مولَى قُضاعة‏:‏ فلو كنتُ مولىَ قَيْس غَيْلانَ لم تَجد علي لإنْسان من الناس دِرْهَما ولكنَّني مولَى قُضاعة كُلِّها فلستُ أبالي أن أدينَ وتَغرَما وقال آخر‏:‏ إذا ما قضيْتَ الدَّينَ بالدَين لم يكُن قَضاءَ ولكِن كان غًرْماً على غُرْم وقال سُفيان الثوريّ‏:‏ الدَّين هَمٌ باللًيل وذُلٌ بالنهار فإذا أراد الله أن يُذِلَ عَبداً جَعله قِلادة في عُنقه‏.‏
ورأى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً مُتقنِّعاً فقال له‏:‏ كان لقمان الحكيم يِقول‏:‏ القِنَاع رِيبةٌ بالليل ذُلٌّ بالنهار فقال الرجلُ‏:‏ إنّ لُقمان الحكيم لم يكن عليه دين‏.‏
وقال المقنع الكِنْديّ‏:‏ يَعِيبونني بالدَين قَومي وإنما تَداينتُ في أشياء تُكْسِبهم حَمْدا إذا أكلوا لَحْمي وَفَرتُ لحومهم وإن هدَمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدَا وقالت الحكماء‏:‏ لَيس لكَذّاب مُرُوءة‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن عُرف بالكَذِب لم يَجُزْ صِدْقه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يجوز الكَذِب في جِدّ ولا هَزْل‏.‏
وقال‏:‏ لا يكون المؤمن كَذّاباً‏.‏
وقال عبد الله بن عُمر‏:‏ خُلْف الوَعْدِ ثُلُث النِّفاق‏.‏
وقال حبيب الطائيِّ في عَيّاش‏:‏ يا أكثر الناس وَعْداَ حَشْوُه خُلْفٌ وأكثر الناس قولاً حَشْوُه كَذِبُ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ صَحِيفةٌ أفنيتْ ليتٌ بها وعسى عُنْوانها راحةُ الرِّاجي إذا يَئسَا وَعْدٌ له هاجسٌ في القَلْب قد بَرِمتْ أحشاءُ صَدْري به من طول ما آنحبسا مواعدٌ غَرَّني منها وَمِيضُ سَنَى حتى مَددْتُ أيها الكًفّ مقْتَبِسا فَصادفتْ حجَراً لو كنتَ تَضْرِبه مِن لُؤْمه بعَصَا مُوسى لما آنْبَجَسا كأنما صِيغ من بُخل ومن كَذِب فكان ذاكَ له رُوحا وذا نَفَسا والقول به اعلم أنّ السامع شريك القائل في الشَر‏.‏
قال الله ‏"‏ تعالى ‏"‏‏:‏ ‏"‏ سماعُونَ لِلْكَذِب ‏"‏‏.‏
وقال العُتبي‏:‏ حَدّثني أبي عن سَعد القصير قال‏:‏ نَظر إليَّ عمرو بن عُتبة ورجل يَشْتُم رجلاً بين يديّ فقال لي ويلك - وما قال لي ويلك قبْلها - نَزَه سَمْعك عن استماع الخَنا كما تُنزِّه لِسانَك عن الكلام به فإنّ السامعَ شريكُ القائل وإنه عَمد إلى شرِّ ما في وعائه فأفرغه في وِعائك ولو رُدَّت كلمة جاهل في فِيهِ لَسَعِدَ رادُّها كما شَقي قائُلها‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:32 AM

باب في الغلو في الدِّين
توّفِّي رجل في عَهد عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب وجاوَزَ في الطُّغيان فتَحَامَى الناسُ عن جِنازته فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه فلما أدْلٍيَ في قبره قال‏:‏ يَرْحمك الله أبا فُلان صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا‏.‏
ومن حديث أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال‏:‏ ‏"‏ يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما تَعملون عَلِيم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ ‏"‏ ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء يقول‏:‏ يا رَبّ يا رَب ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام فأنى يُستجاب له قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة سُنَّتي الصلاة والنوم والإفطار والصَّوم فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع ولا ظَهْراً أَبقى‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط يَرْجع إليهم الغالي ويَلحق بهم التّالي‏.‏
وقال مطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير لابنه وكان قد تَعبَّد‏:‏ يا بُنيّ إن الحسنَة بين السيئتين - يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها وشَرّ السّير الحَقْحقة‏.‏
وقال سلمان الفارِسيّ‏:‏ القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق‏.‏
وقالوا‏:‏ ‏"‏ طالب العِلم و ‏"‏ عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف منه أَبْشَمه‏.‏
وفي بعض الحديث‏:‏ إن عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له‏:‏ ما تَصْنع قال‏:‏ أَتعبَّد ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر فلما قَدِموا قالوا‏:‏ ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ من فلان كان يَصُوم النهار فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل قال‏:‏ فَمن كان يَمْهن له ويَكفُله قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلّكم أفضلُ منه‏.‏
وقيل للزهري‏:‏ ما الزّهد في الدنيا قال ‏"‏ أمّا ‏"‏ إنه ما هو بتشعيث اللِّمة ولا قَشَف الهيئة ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة‏.‏
عليِّ بن عاصم عن أبي إسحاق الشَّيباني قال‏:‏ رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن وعليه مُطْرَف خز أصْفَر‏.‏
السدِّي عن ابن جُريج عن ‏"‏ عثمان بن أبي سليمان‏:‏ أن ‏"‏ ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف‏.‏
إسماعيل بن عبد الله بن جعْفر عن أبيه قال‏:‏ رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران‏:‏ رداء وعمامة‏.‏
وقال مَعمر‏:‏ رأيتُ قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض فسألتُه عن ذلك فقال‏:‏ إن الشُّهرة كانت فيما مضى في تذْييل القَمِيص وإنهّا اليومَ في تَشميره‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي‏:‏ أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة فقالت‏:‏ مِثلُك يَلْبس هذا فذكرتُ ذلك لابن سيربن قال‏:‏ أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة بألف فصلّىِ قدم حمَّاد بن سَلمة البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف فقال له حمَاد‏:‏ ضَع عنك نَصرانيّتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم ‏"‏ فيخرج إلينا ‏"‏ وعليه معَصفْرة ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن المدائنيّ قال‏:‏ دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة صوف فقال له‏:‏ ما يدعوكَ إلى لِباس هذه فسكت فقال له قتيبة‏:‏ أكلّمك ولا تُجيبني قال‏:‏ أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي فما جوابُك إلا السُّكوت‏.‏
قال ابن السًماك لأصحاب الصُّوف‏:‏ واللّه لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم‏.‏
وكان القاسمُ بن محمد يَلْبس الخزّ وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف ويقعُدان في مجلس المدينة فلا يُنكر هذا على هذا ‏"‏ شيئاَ ‏"‏ ولا ذا على هذا‏.‏
ودَخل رجلٌ على محمد بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية فقال‏:‏ رَحمك اللّه جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال‏:‏ على هذا أدركتُ الناس‏.‏
وصلّى الأعمشُ في مسجد قوم فأطال بهم الإمام فلما فَرغ قال له‏:‏ يا هذا لا تُطِلْ صلاتك فإنه يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف قال الإمام‏:‏ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فقال له الأعمش‏:‏ أنا رسولُ الخاشعين إليك إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ أصابت الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه فكانت تنتقض عليه كل عام فأتاه عليُّ بن أبي طالب عائداً فقال له‏:‏ كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن قال‏:‏ أجدُني لو كان لا يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه قال له‏:‏ وما قيمة بَصرك عندك قال‏:‏ لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها قال‏:‏ لا جَرم ليُعطينّك اللهّ على قَدْر الدُنيا لو كانت لك لأنفقتها في سبيله إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير‏.‏
قال له الرَّبيع‏:‏ يا أميرَ المؤمنين ألا أشكو إليك عاصمَ بن زِياد قال‏:‏ وماله قال‏:‏ لَبِسَ العَباء وتَرَك المُلاَء وغم أهْلَه وأحْزن وَلَده قال‏:‏ عليِّ عاصماً‏.‏
فلما أتاه عَبس في وَجْهه وقال‏:‏ وَيْلكَ يا عاصم‏!‏ أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره ‏"‏ منك ‏"‏ أخْذَك منها أنت أهونُ على الله من ذلك أو ما سَمعْته يقول‏:‏ ‏"‏ مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان ‏"‏ حتى قال‏:‏ ‏"‏ يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان ‏"‏‏.‏
وتاللّه لابتذال نِعَم الله بالفِعال أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال وقد سمعته يقول‏:‏ ‏"‏ وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ ‏"‏‏.‏
قال عاصم‏:‏ فعلامَ اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف قال‏:‏ إن الله افترض على أئمة محمد بن حاطب الْجُمَحيّ قال‏:‏ حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً قال‏:‏ حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن ‏"‏ عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أمّ ‏"‏ عبد الله بن عمرو ‏"‏ بن العاص ‏"‏ وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم فقال‏:‏ كيف أنتِ يا أمَ عبد الله كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا قال لها‏:‏ كيف ذلك قالت‏:‏ حرّم النوم فلا ينام ولا يُفطر ولا يَطْعم اللحم ولا يؤدِّي إلى أهله حقَّهم قال‏:‏ فأين هو قالت‏:‏ خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة قال‏:‏ فإذا رجع فاحبسيه عليَّ‏.‏
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّجعة فقال‏:‏ يا عبد الله بن عَمرو ما هذا الذي بلغني عنك ‏"‏ قال‏:‏ وما ذاك يا رسولَ الله قال بَلَغني أنك لا تنام ‏"‏ ولا تُفْطر ‏"‏ قال‏:‏ أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال‏:‏ وبلَغني أنك لا تَطْعم اللَّحم قال‏:‏ أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة قال‏:‏ وبلغني أنك لا تؤدي إلى أهلك حقَهم قال‏:‏ أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّم يا عبد الله بن عمرو إن لك في رسول الله أسوة حَسنة فرسول الله يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم‏.‏
يا عبد الله بن عمرو إنَ لله عليك حقّا وإنَ لبدنك عليك حقّا وإن لأهلك عليك حقّا‏.‏
فقال‏:‏ يا رسول الله ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم أربعة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيومين وأفطر يوماً قال‏:‏ لا قال‏:‏ فيوماً ‏"‏ وأفْطِر يوماً ‏"‏ قال‏:‏ ذلك صيام أخي داود يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال‏:‏ فما تأمرني ‏"‏ به ‏"‏ يا رسول اللهّ قال‏:‏ تأخذ ما تَعرف وتَدَع ما تُنكر وتَعمل بخاصَّة نَفْسك وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم‏.‏
قال‏:‏ ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه وقال له‏.‏
أطِع أباك‏.‏
فلما كان يومُ صِفّين قال له أبوه عمرو‏:‏ يا عبد الله اخرج فقاتل فقال‏:‏ يا أبتاه أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت وعَهِد إليَ ‏"‏ ما عهد ‏"‏ قال‏:‏ أنشدك الله ألم يكن آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك‏:‏ أطِع أباك ٍ قال‏:‏ اللهم بلى قال‏:‏ فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل‏.‏
قال‏:‏ فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين‏.‏
القول في القدر أتى قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر‏.‏
فقالوا له‏:‏ أنت الذي تقول‏:‏ إن الله يُعذِّب الخلق على ما قدَّر عليهم فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم‏.‏
فقالوا له‏:‏ أصلحك الله إن كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك فقال‏:‏ اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك ولا تَمكر بنا حِيلتك ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك قليلَ أعمالنا تقَبّل وعظيمَ خطايانا اغفر أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك ولا يكونُ شيء بعدك وليّ الأشياء ترفع بالهُدى من تشاء لا مَن أحسن استغنى عن عَونك ولا مَن أساء غَلَبك ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك ‏"‏ لا ملجأ إلا إليك ‏"‏ فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك حفيظ لا ينسى قديم لا يَبلى حيّ لا يموت بك عرفناك وبك اهتدينا إليك ولولا أنت لم نَدْرِ ما أنت سُبحانك وتعاليت‏.‏
فقال القوم‏:‏ قد واللّه أخبر وما قَصرّ‏.‏
وقال‏:‏ ذُكر القَدر في مجلس الحسن البصريّ فقال‏:‏ إن الله خلق الخلق للابتلاء لم يُطيعوه بإكراه ولم يَعْصوه بغَلبة لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم عليه والمالك لما ملّكهم إياه فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ مُثَبِّطاً ‏"‏ لهم ‏"‏ بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم وتَقوَى إلى تَقْواهم وإن يأتمروا بمعْصية اللّه كان الله قادراً على صرفهم إن شاء وإن خَلّى بينهم وبين المَعْصية فمن بعد إعذار وإنذار‏.‏
مروان بن موسى قال‏:‏ حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة فقال له‏:‏ أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ فقال له رَبيعة‏:‏ أنت الذي تزعم أن الله يُعصى كَرها فكأَنما أَلقمه حجراً‏.‏
قيل لطاوس‏:‏ هذا قَتادة يُحب أن يأتيك فقال‏:‏ إن جاء لأقُومنّ قيل له‏:‏ إنه فقيه قال‏:‏ إِبليس أفقه منه قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ بما أَغْوَيْتَني ‏"‏‏.‏
وقيل للشعبّى‏:‏ رأيتَ قتادة قال‏:‏ نعم رأيت كُناسة بين حَشَّين القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة والإذْن والمشيئة‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ سألتُ أعرابياً فقلت له‏:‏ ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان قال‏:‏ الكِتاب يعني القَدَر‏.‏
وقال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ كُلُّ في كِتَاب مُبِين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين ‏"‏ يعني القَدَر‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزَاما ‏"‏‏.‏
قال الخُشني أبو عبد الله محمد بن السَّلام‏:‏ شاعران من فُحُول الجاهلية لهما ‏"‏ بَيْتان ‏"‏ ذَهب ‏"‏ أحدهما في بيته ‏"‏ مَذْهب العَدْلية والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية أعشى بَكْر حيثُ يقول‏:‏ آسْتأثر الله بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ إنّ تَقْوَى ربِّنَا خَيْرُ نَفَل وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ مَن هَداه سُبلَ الخْير اهتدى ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل وقال إِياس بن مُعاوية‏:‏ كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه فقلت له‏:‏ دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ فإنّ الأمر كله للّه‏.‏
ومن قوْل اللهّ عز وجل في القدر‏:‏ ‏"‏ قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ أجْمَعين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ صَادِقينَ ‏"‏ ابن شِهاب قال‏:‏ أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة‏:‏ ‏"‏ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال‏:‏ ‏"‏ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ ‏"‏‏.‏
وقال محمد بنُ سِيرين‏:‏ ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله ‏"‏ قد ‏"‏ عَلِم مِن خَلْقه عِلْماً فكَتبه عليهم‏.‏
وقال رجلٌ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ما تَقول في القَدَر قال‏:‏ وَيْحك‏!‏ أخبرني عن رحمة الله أكانَتْ قبلَ طاعة العباد قال نعم قال علي‏:‏ أسْلَم صاحبًكم وقد كان كافراً فقال الرجلً له‏:‏ أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها ‏"‏ وقَوَّم خَلقي ‏"‏ أقوم وأقعد وأقْبِضً وأبْسُط قال له ‏"‏ علي ‏"‏ إنك بعدُ في المشيئة أمَا إني أسألك عن ثلاث فإن قلتَ في واحدة منهن لا كفرت وإن قلت نعم فأنت أنت فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول فقال له عليّ‏:‏ أخبرني عنك أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء قال‏:‏ بل كما شاء قال‏:‏ فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء قال‏:‏ بل لما شاء قال‏:‏ فيومَ القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء قال‏:‏ بل بما شاء قال‏:‏ قُمْ فلا مَشيئة لك‏.‏
قال هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي‏:‏ كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم وقال له في بعض ما توعده به من الكلام‏:‏ ما أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في المَشيئة بقول الله عزّ وجل‏:‏ ‏"‏ وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله ‏"‏ فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً فقال عمر‏:‏ اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله ولسانه واضرب عُنُقه فانْتَهِ أولى لك ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه فقال له غَيْلان لِحَيْنه وشَقْوته‏:‏ ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ عليّ فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ وإن أخذتنى حجتُه فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ‏.‏
فغاظ قوله هشاماً فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان وما ردَّ غيلان‏:‏ فالتفت إليه الأوزاعيّ فقال له‏:‏ اسألك عن خمس أو عن ثلاث فقال غيلان‏:‏ بل عن ثلاث قال الأوزاعيّ‏:‏ هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم قال غيلان‏:‏ ما علِمت ‏"‏ وعَظُمت عنده ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى قال غيلان‏:‏ هذه أعظمُ‏!‏ ما لي بهذا من عِلْم قال‏:‏ فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر قال غيلان -‏:‏ حال دون ما أمر ما علمتُ قال الأوزاعي‏:‏ هذا مرتاب من أهل الزَّيع‏.‏
فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله ثم ألقي في الكُناسة‏.‏
فاحْتَوشه الناسُ يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته‏.‏
ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر فتخلّل الناس حتى وَصل إليه فقال يا غيلانُ اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ فقال غيلان‏:‏ أفلح إذاً هشام إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما أمر به فبلغت كلمته هشاما فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر‏.‏
ثم التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له‏:‏ قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر فقال‏:‏ نعم قَضى على ما نَهى عنه نَهى آدم عن أكل الشجرة وقضى عليه بأكلها وحال دُون ما أَمر أمر إبليس بالسُجود لآدم وحال بينه وبين ذلك وأعان على ما حرَّم المَيْتة وأعان المُضطر على أكلها‏.‏
الرَّياشي عن سعيد بن عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة قال‏:‏ لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر فقال‏:‏ رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم فقلت‏:‏ بل رَأْيَ العرب‏:‏ قال‏:‏ فإنه لم يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت ‏"‏ القدر ‏"‏ وأنشد‏:‏ وقال أعرابيّ‏:‏ الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها‏.‏
وقال كعب بن زُهَير‏:‏ لو كنتُ أعجبُ من شيء لأعجَبني سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ يَسْعى الفتَى لأمور ليس يُدْرِكها فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر والمَرْءُ ما عاش مَمْدُودٌ له أمل لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر وقال آخر‏:‏ والجَدّ أنهض بالفتَى من عَقْله فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ ما أقربَ الأشْياء حين يَسُوقها قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ عبد الرحمن القَصِير قال‏:‏ حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه قال‏:‏ نعم وأنت أظْلم‏.‏
وحدّث أبو عبد الرحمن المُقْرىء يَرْفعه إلى أبي هُريرة عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم‏.‏
ومن حديث عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر‏.‏
ثُمَامة بن أَشْرَس قال‏:‏ دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق فأَمر له بمال وجَعل يُحادثه فقال له يومًا‏:‏ ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة فقال له المأمون‏:‏ أنت بصناعتك أَبصر فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها قال له‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اجمع بيني وبين من شئتَ منهم‏.‏
فأَرْسَلَ إليِّ فدخلتُ عليه فقال لي‏:‏ هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم‏.‏
قلت‏:‏ فلْيَسأَل عمّا بدا له‏.‏
فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال‏:‏ مَن حَرَّك هذه قلتُ مَن ناك أُمّه فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين شتَمني قلت له‏:‏ نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه فَضَحك المأمونُ فقلت له‏:‏ يا جاهل تحرك يدَك ثم تقول‏:‏ مَن حَرَّكها ‏"‏ فإن كان اللهّ حَرَّكها ‏"‏ فلم أَشْتُمك وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها فهو قَوْلي قال له المأمون‏:‏ عندك زيادةٌ في المسألة‏.‏
قال الكندي في الفَنّ التاسع من التّوحيد‏:‏ اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء - ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل لأنه - جل ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة فلما كان المختار غيرَ تامّ الحكمة لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً مما فيه فَسادُ الكل فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا‏.‏
فصيّر بعضه سوانحَ لبعض يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في بِنْية اكل فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص فاتْضَح أنّ كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها وأنّ بعضَ ذلك باضطرار وبعضه باختيار وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره ‏"‏ اختار ‏"‏ وبإرادته لا بالكَرْه ‏"‏ منه ‏"‏ فَعل‏.‏
سُئل أعرابيّ عن القَدَر فقال‏:‏ ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون وكثر فيه المُختلفون والواجب علينا أن نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه‏.‏
واصطحب مَجوسي وقَدَري في سَفَر فقال القدريّ للمجوسيّ‏:‏ مالَك لا تُسلم قال‏:‏ إن أَذِن الله في ذلك كان قال‏:‏ إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك قال‏:‏ فأنا مع أَقْواهما‏.‏
وقال رجلٌ لهشام بن الحَكَم‏:‏ أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه ثم يًعذِّبنا عليه قال هشام‏:‏ قد واللّه فَعل ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم‏.‏
اجتمع عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ فقال له‏:‏ إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان في مثل هذا المَوْضع فيَفترقان من غير فائدةَ فإن شِئتَ فقُلْ وإن شئتَ فأنا أقول قال له‏:‏ قل قال‏:‏ هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر فيما تَعلم أنت أنه لا يَقدر عليه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ مَن لا أبينَ من عُذْره فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ‏.‏



رد المأمون على الملحدين وأهل الأهواء
قال المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده‏:‏ أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما هل نَدِم مُسيء قط على إساءته قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان قال‏:‏ بل إحسان قال‏:‏ فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره قال‏:‏ بل هو الذي أساء قال‏:‏ فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر قال‏:‏ فإني أقول‏:‏ إن الذي نَدِم غير الذي أساء قال‏:‏ فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره فسكت‏.‏
قال له أيضاً‏:‏ أخبرني عن قولك باثنين هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقاً لا يَستعين فيه بصاحبه قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما تَصنع باثنين واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح‏.‏
وقال المأمون للمُرتد الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام‏:‏ أَخبرني ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنساً من دِيننا فواللّه لأن أستحييك بحق أحبّ إليَّ من أن أقتلُك بحق وقد صِرْتَ مُسلماً بعد أن كنت كافراً ثم عُدت كافراً بعد أن صِرْت مُسلماً وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به وإن أخطأك الشفاء وتَباعد عنك كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم قال المرتد‏:‏ أوْحشني منكم ما رأيتُ من كثرة الاختلاف في دِينكم قال المأمون‏:‏ لنا اختلافان‏:‏ أحدُهما كاختلافِنا في الآذان وتكبير الجنائز وصلاة العِيدين والتشهّد والتَّسليم من الصلاة ووُجوه القراآت واختلاف وُجوه الفُتيا وما أشبه ذلك وهذا ليس باختلاف وإنما هو تخيير وتَوْسعة وتخفيف من السنَّة فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم ومَن ربع لم يأثم‏.‏
والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله وتأويل الحديث عن نبيّنا مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عَينْ الخبر فإن كان إنما أوْحشك هذا فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما يكون متفقاً على تَنزيله ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا يُختلف في تأويله لفَعل ولَكنَّا لم نجد شيئاً من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت البَلْوى والمِحن وذهَب التفاضل والتبايُن ولمَا عُرف الحازم من العاجز ولا الجاهل مِن العالم وليس على ‏"‏ هذا ‏"‏ بُنِيت الدنيا‏.‏
قال المُرتد‏:‏ أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأن المَسيح عبدُ اللّه وأنَّ محمداً صادق وأنك أمير المؤمنين ‏"‏ حقّا ‏"‏‏.‏
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرِّضا‏:‏ بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر قال‏:‏ بقرابة عليّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وعلى آله وبقرابة فاطمة منه ‏"‏ فقال له المأمون‏:‏ إنْ لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خَلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل بَيته مَن كان أقربَ إليه من عليّ أو مَن في مِثل قُعْدُده وإن كان بقرابة فاطمة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان فإذا كان الأمر كذلك فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما صحيحان واستولى على ما لا يَجب له‏.‏
فما أجابه علي بن موسى بشيء‏.‏
كتب واصل بنُ عَطاء الغزّال إلى عمرو بن عُبيد‏:‏ أما بعد فإنّ استلاب نِعمة العبد وتَعْجيل المُعاقبة بيد اللّه ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام والمُجاوَرة للجِدال الذي يحُول بين المرء وقَلْبه وقد عرفتَ ما كان يُطعن به عليك وُينسب إليك ونحن بين ظَهْراني الحسن بن أبي الحسن رحمه اللّه لاسْتِبْشاع قُبْح مَذْهبك نحن ومَن قد عرفتَه من جميع أصحابنا وُلمَّة إخواننا الحاملين الواعين عن الحسن فللّه تلكم لمَّة وأوْعياء وحَفَظة ما أدمثَ الطبائع وأرزن المجالس وأبينَ الزُّهد وأصدقَ الألسنة اقتدَوْا والله بمن مَضى شَبهًا بهم وأخذوا بهَدْيهم‏.‏
عَهدي واللهّ بالحسن وعَهدكم به أمس في مَسْجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرقيّ الأجنحة وآخر حديث حدَّثنا إذ ذَكر الموت وهول المُطَّلع فأسف على نفسه واعترف بذنبه ثم التفت واللّه يَمنة ويسرة مُعتبرًا باكيًا فكأني أنظر إليه يمسَح مُرْفَض العَرق عن جبينه ثم قال‏:‏ اللهم إني قد شَددْت وَضِين راحلتي وأخذت في أَهبة سَفَري إلى محلّ القبر وفَرْش العَفْر فلا تؤاخذني بما ينسبون إليَّ من بعدي اللهم إني قد بلَّغْت ما بَلغني عن رسولك وفسَّرت من مُحْكم تأويلك ما قد صَدًقه حديثُ نبيّك ألا وإني خائفٌ عَمْرا ألا وإني خائف عَمْرا شكاية لك إلى ربِّه جَهراً وأنت عن يمين أبي حُذيفة أقر بنا إليه وفد يلغني كبير ما حمّلته نفسَك وقَلّدته عنقك من تَفسير التنزيل وعبارة التأويل ثم نظرتُ في كتبك وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص المعاني وتفريق المَباني فدلَت شكاية الحسن عليك بالتَّحقيق بظهور ما ابتَدَعت وعظيم ما تحمَّلت فلا يَغْرْرك ‏"‏ أي أخي ‏"‏ تَدْبيرُ مَن حولك وتعظيمهم طولَك وخَفضهم أعينهم عنك إجلالاً لك غداً واللّه تمضي الخُيلاء والتفاخر وتُجْزى كلّ نَفْس بما تَسعى ولم يكُن كتابي إليك وتَجليبي عليك إلا لتَذْكيرك بحديث الحسن رحمه اللهّ وهو آخر حَديث حدّثناه فأَدِّ المَسموع وانطق



باب من أخبار الخوارج
لما خرجت الخوارجُ عَلَى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا من أصحابه وكان مِن أمر الحَكمين ما كان واختِداع عمرو لأبي مُوسى ‏"‏ الأشعريّ ‏"‏ قالوا‏:‏ لا حُكْم إلا للهّ‏.‏
فلما سمع عليٌ رضي اللهّ عنه نِداءهم قال‏:‏ كلمة حق يراد بها باطل وإنما مَذْهبهم أن لا يكون أمير ولا بُدَ من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا‏.‏
وقالوا لعليّ‏:‏ شككتَ في أمرك وحكَّمت عدوّك في نَفْسك‏.‏
وخرجوا إلى حَرُوراء وخرج إليهم عليٌّ رضي الله عنه فخَطَبهم متوكِّئاً على قوْسه وقال‏:‏ هذا مَقام مَن أفلح فيه أَفلح يومَ القيامة أنْشُدكم اللهّ هل عَلِمتم أنّ أحداً كان أكرَه للحكومة منِّي قالوا‏:‏ اللهم لا ‏"‏ قال‏:‏ أفعلتم أنكم أكرهتموني عليها حتِى قبِلْتُها قالوا‏:‏ اللهم نعم ‏"‏ قال‏:‏ فعلامَ خالفتُموني ونابذتموني قالوا‏:‏ إنَّا أتينا ذنباَ عظيما فتُبْنا إلى اللهّ منه فتُب إلى اللهّ منه واْستغفره نُعدْ إليك‏.‏
فقال عليٌ‏:‏ إني أستغفر الله من كلّ ذنب فرَجَعوا معه وهم في ستّة آلاف‏.‏
فلما استقرُّوا بالكوفة أشاعُوا أن عليَاً رَجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالاً‏.‏
فأتى الأشعثُ بن قيس عليَاً رضي اللهّ عنه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ الناس قد تحدثوا أنك رأيتَ الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كُفْراً وتُبْت‏.‏
فخطب عليٌ الناس فقال‏:‏ مَن زَعم أني رجعتُ عن الحكومة فقد كذَب ومَن رآها ضلالاً فهو أضلّ منها‏.‏
فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت فقيل لعليّ‏:‏ إنهم خارجون ‏"‏ عليك ‏"‏ فقال‏:‏ لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيَفعلون‏.‏
فوَجّه إليهمٍ عبدَ الله بن العبّاس فلما سار إليهم رحَّبوا به وأكرموه فرأى لهم جباهًا قَرِحة لطول السجود وأيديًا كثَفِنات الإبل وعليهم قمُص مُرْحَضة وهم مُشمِّرُون فقالوا‏:‏ ما جاء بك يا بن عبّاس قال‏:‏ جِئتكم من عند صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وأَعْلمنا برّبه وسنة نبيّه ومن عند المهاجرين والأنصار فقالوا‏:‏ إنا أتينا عظيماَ حين حَكّمنا الرجالَ في دين اللّه فإن تاب كما تُبْنا ونهض لمًجَاهدة عدوّنا رَجعنا‏.‏
فقال ابن عبّاس‏:‏ نَشدتكم الله إلا ما صَدَقتم أنفسَكم أمَا عَلمتم أنَّ الله أمر بتَحْكيم الرِّجال في أَرْنب تُساوي رُبع درْهم تًصَاد في الحَرَم وفي شِقاق رجل وامرأته فقالوا‏:‏ اللهم نعم قال‏:‏ فأنشُدكم اللّه هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْسك عن القِتال للهُدنة بينه وبين أهل الحُدَيبية قالوا‏:‏ نعم ولكن عليًّا مَحا نفسَه من خِلافة المسلمين قال ابن عبّاس‏:‏ ليس ذلك يُزِيلها عنه وقد مَحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اسمه ‏"‏ من النبوَّة وقال سُهَيل بن عمرو‏:‏ لو عَلمتُ أنك رسول الله ما حاربتُك فقال للكاتب‏:‏ اكتُب‏:‏ محمد بن عبد الله‏.‏
وقد أخذ على الحَكَمين أن لا يَجُورا ‏"‏ وإِن يَجُورا ‏"‏ فعليٌّ أوْلى من مُعاوية وغيره قالوا‏:‏ إنّ مُعاويةَ يدَّعي مثلَ دعوى عليّ قال فأيُّهما رأيتُموه أوْلى فولُوه قالوا‏:‏ صدقتَ‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ومتى جار الحَكَمان فلا طاعة لهما ولا قَبُول لقولهما‏.‏
فاتَّبعه منهم ألفان وبَقي أربعة آلاف‏.‏
فصلّى بهم صلاتَهُم ابن الكَوّاء وقال‏:‏ متى كانت حرب فرئيسُكم شَبَث بن رِبْعِيّ الرِّياحي‏.‏
فلم يَزالوا على ذلك حتى أجْمعوا على البَيعة لعَبد الله بن وَهْب الرَّاسبيّ فخرج بهم إلى النَّهروان فأوْقع بهم عليّ فقَتل منهم ألفين وثمانمائة وكان عددُهم ستةَ آلاف وكان منهم بالكوفة زُهاء ألفين ممن يُسِرّ أمره فخرج منهم رجلٌ بعد أن قال عليٌّ رضي اللهّ عنه‏:‏ ارجعوا وادفعوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب قالوا‏:‏ كلّنا قَتله وشرك في دَمه وذلك أنهمٍ لما خرجوا إلى النَّهْروان لقُوا مُسْلمًا ونَصرانيا فقتلوا المُسْلم وأوْصَو‏!‏ بالنصرانيّ خَيرا وقالوا‏:‏ احفظًوا ذمّة نبيّكم‏.‏
ولقُوا عبدَ الله بن خبّاب وفي عُنقه المُصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا‏:‏ إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقَتلك فقال لهم‏:‏ أحْيوا ما أحْيا القُرآن وأميتوا ما أمات القرآن قالوا‏:‏ حَدِّثنا عن أبيك قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ تكون فتنة يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه يمسى مؤمناً ويُصبح كافرًا فكُن عبدَ اللهّ المقتول ولا تكن عبدَ اللهّ القاتلَ قالوا‏:‏ فما تَقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيراً ‏"‏ قالوا‏:‏ فما تقول في عليّ قبل التحكيم وفي عثمان فأثنى خيراً ‏"‏ قالوا‏:‏ فما تقول في الحكومة والتحكيم قال‏:‏ أقول‏:‏ إنَّ عليًّا أعلمُ بكتاب اللهّ منكم وأشد تَوقِّيا على دينه وأبعد بصيرةً قالوا‏:‏ إنك لستَ تتَّيع الهدى بل الرجالَ على أسمائها ثم قَرَّبوه إلى شاطئ البَحر فذَبحوه فا مذَقَرَّ دمُه أي جَرى مستقيماً على دقة وسامُوا رجلاً نَصْرانيا بنَخْلة فقال‏:‏ هي لكم هِبَة قالوا‏:‏ ما كُنَّا نأخذها إلا بثَمن فقال‏:‏ ما أَعجبَ هذا‏!‏ أتقتلون مثلَ عبد الله بن خبّاب ولا تَقبلون منا ‏"‏ جنَى ‏"‏ نخْلة إلا بثَمن‏!‏ ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب‏:‏ الإباضية أصحاب عبد اللهّ بن إباض والصُّفرية واختلفوا في نَسبهم فقال قوم‏:‏ سُمُّوا بابن الصفار وقال قوم‏:‏ نهكتهم العبادة فاصفرّت وجوهُهم ومنهم البَيْهسية وهم أصحاب ابن بَيْهس ومنهم الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكانوا قبلُ على رَأْيٍ واحد لا يختلفون إلا في الشيء الشاذّ‏.‏
فبلغهم خروج مُسلم بن عُقبة إلى المدينة وقَتْلُهُ أَهلَ حَرَّة وأنه مُقبل إلى مكة فقالوا‏:‏ يجب علينا أن نمنعَ حَرَم الله منهم ونمْتَحن ابن الزبير فإن كان على رأينا تابعناه‏.‏
فلما صاروا إلى ابن الزبير عرَّفوه أنفسهم وما قَدِموا له فأظهر لهم أنه على رأْيهم حتى أتاهم مُسلم بن عُقبة وأهل الشام فدافعوه إلى أن يأتي رأْيُ يزيدَ بنِ مُعاوية ولم يُتابعوا ابن الزُّبير ثم تناظَروا فيما بينهم فقالوا‏:‏ نَدخل إلى هذا الرجل فنْظر ما عنده فإن قَدّم أبا بكر وعمر وبَرِىء من عُثمان وعليّ وكَفر أباه وطَلْحة بايعناه وإن تكُن الأخرى ظَهر لنا ما عنده وتَشاغلنا بما يجديِ علينا‏.‏
فدخلوا على ابن الزًّبير وهو مُتَبذل وأصحابه مُتفرقون عنه فقالوا له‏:‏ إنَا جِئناك لتُخْبرنا رأْيَكَ فإن كنتَ على صواب بايعناك وإن كنتَ على خلافة دَعَوْناك إلى الحق ما تقولُ في الشَّيخين قال‏:‏ خيرًا قالوا‏:‏ فما تقول في عُثمان الذي حَمَى الحِمَى وآوى الطَّريد وأظهر لأهل مِصرْ شيئاً وكَتب بخلافه وأوطأ آلَ بني مُعيط رِقابَ الناس وآثرهم بَفيْء المُسلمين وفي الذي بعده الذي حكّم ‏"‏ في دين اللّه ‏"‏ الرجالَ وأقام على ذلك عيرَ تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليًّا وهو إمام عادل مَرْضي لم يَظْهر منه كُفر ثم نكَثَا بَيْعته وأخرجا عائشة تُقاتل وقد أمرها الله وصَواحبَها أن يَقرنْ في بُيوتهن وكان لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوْبة فإن أنتَ قبِلت كلّ ما نقول ‏"‏ لك ‏"‏ فلك الزُّلفي عند اللهّ والنصر على أيدينا إن شاء الله ونَسألُ الله لك التوفيقَ وإن أبَيتَ خَذلك الله والنصر منك بأيدينا‏.‏
فقال ابن الزبير‏:‏ إنّ الله أمر وله العِزّة والقُدرة في مخاطبة أكْفر الكافرين وأَعتَى العانين بأَرقَّ من هذا القول فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما‏:‏ ‏"‏ اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إنِّهُ طَغَى فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعًلّهُ يَتذكَّر أَوْ يَخْشىَ ‏"‏‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تُؤذوا الأحياء بسَبّ المَوْتىَ ‏"‏‏.‏
فنهى عن سبّ أبي جَهل من أجل عِكْرمة ابنه وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ رسوله والمُقيم على الشِّرك والجادّ في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبل الهجرة والمُحارب له بعدَها وكفي بالشِّرك ذَنْبًا وقد كان يُغْنيكم عن هذا القول الذي سمَّيتم فيه طلحة وأَبي أن تقُولُوا‏:‏ أتَبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخَلا في غُمَار الناس وإن لم يكونا منهم لم تُحْفِظوني بسبّ أبي وصاحبه وأنتم تَعلمون أنّ اللهّ جلّ وعزّ قال للمُؤْمن في أبويه‏:‏ ‏"‏ وَإنْ جاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصاحِبْهُمَا في الدًّنْيَا مَعْرًوفاً ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَقُولُوا للَنَّاس حُسْنًا ‏"‏‏.‏
وهذا الذي دعوتُم إليه أمرٌ له ما بعده وليس يُقْنعكم إلا التَّوقيف والتَّصْريح ولَعَمْري إنّ ذلك أحرَى بِقَطْع الْحجج وأَوْضَح لمنهاج الحقّ وأوْلَى بأن يَعرف كلٌّ صاحبَه من عدوِّه فَرُوحوا إليَّ من عَشِيَّتكم هذه أكْشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى‏.‏
فلمَّا كان العشي راحُوا إليه فخَرج إليهم وقد لبِس سلاحه فلما رأى ذلك نَجْدةُ قال‏:‏ هذا خُروج منا بذلكم فجلس على رَفَع من الأرض فحمد اللّه وأثنى عليه وصلىّ على نبيّه ثم ذكراً أبا بكر وعُمر أحسنَ ذِكْر ثم ذكر عُثمان في السِّنين الأوائل من خِلافته ثم وصلهنّ بالسّنين التي أنكروا سِيرتَه فيها فجعلها كالماضية وأخبر أنه آوى الحَكَم بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذَكر الحِمَى ومما كان فيه من الصَّلاح وأن القومَ آستعتبوه ‏"‏ من أمور ‏"‏ ما كان له أن يَفعلها أوّلاً مصيِبِا ثم أعتبهم بعد ذلك مُحسناً وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمِن لهم العُتْبى ثم كُتب ذلك الكتابُ بقَتْلهم فدَفعوا الكتابَ إليه فَحَلف باللّه أنه لم يكتبه ولم يأْمر به وقد أَمر الله عزّ وجلّ بقبول اليمين ممَّن ليس له مثل سابقته مع ما اجتَمع له من صِهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه ‏"‏ من ‏"‏ الإمامة وأنّ بَيعة الرِّضوان تحت الشجرة إنما كانت بِسبَبه وعثمان الرجل الذي لَزِمَتْه يمينٌ لو حَلَف عليها لَحَلَف على حقّ فافتَدَاها بمائة ألف ولم يَحْلِف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع‏:‏ ‏"‏ مَن حَلَف باللّه فلْيَصدُق ومن حُلِف له باللّه فليقْبل ‏"‏‏.‏
وعُثمان أمير المؤمنين ‏"‏ كصاحبيه ‏"‏ وأنا وليّ وليّه وعدوّ عدوّه وأبي وصاحبه صاحبَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ورسول الله ‏"‏ يقول ‏"‏ عن اللّه ‏"‏ عزّ وجلّ يومَ أُحد لما قُطعت إصْبع طَلْحَة‏:‏ ‏"‏ سَبَقته إلى الجنة ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ أوْجب طلحة ‏"‏‏.‏
وكان الصِّديق إذا ذُكر يومَ أُحد قال‏:‏ ذلك يوم كلّه ‏"‏ أو جُلّه ‏"‏ لطلحة‏.‏
والزُّبير حواريَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفْوته وقد ذكر أنه في الجنّة وقال عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ رَضيَ الله عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ‏"‏‏.‏
وما أخبرَنا بعدُ أنه سَخِط عليهم وإن يكن ما صَنعوا حقًّا فأهل ذلك هم وإن يكن زلّة ففي عَفو الله تَمحِيصُها وفيما وَفَّقهم له من السابقة مع نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذَكَرتموهما به فقد بَدَأْتم بأًمِّكم عائشة فإن أبَى آبٍ أن تكون له أمًّا نَبَذ اسم الإيمان عنه وقد قال جلّ ذِكْره‏:‏ ‏"‏ النَّبِيُّ أَوْلَى باْلمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ‏"‏‏.‏
فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه‏.‏
وكتب بعد ذلك نافعُ بن الأزرق إلى عبد الله بن الزُّبير يَدْعوه إلى أمره‏:‏ أمّا بعد فإني أحذِّرك من الله يومَ تَجد كلُّ نفس ما عَمِلَت من خَيْر مُحْضَرًا وما عَمِلَت من سُوء توَدّ لو أنّ بينها وبَينه أَمدًا بعيداً ‏"‏ ويُحَذِّركم الله نفسه ‏"‏‏.‏
فاتّق الله ربَّك ولا تَتَوَلّ الظالمين فإنّ الله يقول‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ لا يَتَّخِذ المُؤْمِنون الكافِرِينَ أوْليَاءَ مِنْ دونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْس مِنَ الله في شيَء ‏"‏‏.‏
وقد حضرتُ عثمانَ يومَ قُتِل فَلَعمري لئن كان قُتل مظلومًا لقد كفر قاتلوه وخاذِلُوه وإن كان قاتلوه مُهْتدين وإنهم لمُهْتدون لقد كفَر مَن تولاّه ونصرَه‏.‏
ولقد علمتَ أنّ أباك وطَلْحة وعليّاً كانوا أشدَّ الناس عليه وكانوا في أمره بين قاتل وخاذِل وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان فكيف ولاية قاتل مُتَعَمِّد ومَقتول في دين واحد ولقد ملك علىّ بعده فَنَفي الشُّبهات وأقام الحُدود وأَجْرى الأحكام مجاريها وأَعطى الأمور حقّها فيما عليه وله فبايَعه أبوك وطَلْحة ثم خَلعا بَيْعته ظالمين له وإن القَول فيك وفيهما لكما قال ابنُ عباس رحمه الله‏:‏ إن يكُن علِيّ في وقت مَعْصِيتكم ومُحاربتكم له كان مؤمنَاَ لقد كفَرتم بقتال المؤمنين وائمة العَدْل وإن كان كافراً كما زَعمتم وفي الحُكم جائراً فقد بُؤْتم بغضب من الله لفراركم من الزَّحف‏.‏
ولقد كنتَ له عدوًّا ولسيرته عائباً فكيف توليته بعد مَوته‏.‏
وكتب نجدةُ وكان من الصُّفرية القَعَديّة إلى نافع بن الأزرق لما بلغه عنه استعراضُه للناس وقَتْله الأطفال واستحلاله الأمانة‏:‏ بسم اللهّ الرحمن الرحيم صلى الله عليه وسلم أمّا بعد فإنّ عَهْدي بك وأنت لليتيم كالأب الرَّحيم وللضعيف كالأخ البَرّ لا تأخذك في الله لومةُ لائم ولا ترى معونة ظالم ‏"‏ كذلك كنتَ أنت وأصحابك أما تذكر قولَكَ‏:‏ لولا أني أعلمِ أنّ للإمام العاذل مِثلَ أجر جميع رعيّته ما تولّيت أمر رجلين من المسلمين ‏"‏ فلما شَرَيْتَ نفسك في طاعة ربّك ابتغاءَ رضوانه وأصبتَ من الحق فصَّه ‏"‏ وركبتَ مُرَّة ‏"‏ تَجَرّد لك الشيطانُ فلم يكن أحدٌ أثقلَ وطأةً عليه منك ومن أصحابك فاستمالك واستغواك فعَوِيتَ وأكفرت الذين عَذرهم الله في كتابه من قَعَدة المسلمين وَضعفتهمِ فقال جلَّ ثناؤه وقوله الحق ووعدُه الصِّدق‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المَرْضى وَلا عَلَى الذينَ لا يَجدُونَ مَا يُنْفِقونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُوله ‏"‏ ثم سمَّاهم أحسنَ الأسماء فقال‏:‏ ‏"‏ مَا عَلَى المحسِنِينَ مِنْ سَبِيل ‏"‏‏.‏
ثم استحللت قتلَ الأطفال وقد نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلهم وقال جلَّ ثناؤه‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَزِرً وَازِرَةٌ وِزْرَ أًخْرَى ‏"‏‏.‏
وقال في القَعَد خيراً وفَضّل الله من جاهد عليهم ولا يدفع منزلةُ أكثر الناس عملاً منزلةَ مَن هو دُونه إلا إذا اشتركا في أصلٍ أو ما سمعتَ قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لا يَسْتَوِى القَاعِدُون مِن المؤمِنين غيرُ أولَي الضّرَرِ والمُجَاهِدُونَ في سَبِيل الله ‏"‏ فجعلهم الله من المؤمنين وفَضّل عليهم المَجاهدين بأعمالهم ورأيتَ من رأيك أن لا تؤَدِّي الأمانة إلى مَن يُخالفك واللّه يأمرك أن تؤدي الأماناتِ إلى أهلها فإتق الله وانظُرْ لنفسك واتَّقَ يومًا لا يجزى والدٌ عن ولده ولا مَوْلود هو جازٍ عن والده شيئاً فإن الله بالمِرْصاد وحُكمه العدل وقوله الفصل والسلام‏.‏
فكتب إليه نافعُ بن الأزرق‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد‏:‏ فقد أتاني كتابُك تَعِظُني فيه وتُذكِّرني وتَنصحُ لي وتزجرُني وتصِفُ ما كنتُ عليه من الحق وما كنتُ أُوثرهُ من الصواب وأنا أسألُ الله أن يجعلني من الذين يَسْتمعون القولَ فيتبعون أحسنه‏.‏
وعِبْتَ على ما دِنْتُ به من إكفار القَعد وقَتل الأطْفال واستحلال الأمانة وسأفسِّر لك ‏"‏ لِمَ ‏"‏ ذلك إن شاء اللّه‏:‏ أما هؤلاء القَعد فليسوا كمن ذكرتَ ممن كان بِعَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا بمكة مَقْهورين مَحْصورين لا يجدون إلى الهرب سَبيلاً ولا إلى الاتصال بالمُسلمين طريقاً وهؤلاء قد فَقُهوا في الدين وقرءوا القرآن والطريقُ لهم نَهَج واضح وقد عرفتَ ما يقول الله فيمن كان مِثْلهم إذ قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ الّذَينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ ظالمي أنْفُسِهِم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ‏.‏
قَالوا كنا مُسْتَضْعَفينَ فيِ الأرْض‏.‏
قالوا أَلم تَكُنْ أرضُ الله وَاسعةَ فتُهاجرُوا فيها ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ فَرحَ المُخَلَّفُون بمقعدهم خِلاف رسول الله وقال‏:‏ ‏"‏ وَجَاء الْمُعَذِّرًونَ مِنَ الأعرابِ لِيُؤْذَن لَهُمْ‏.‏
وَقَعَد الّذِين كَذَبُوا الله وَرَسُولَه ‏"‏ ‏"‏ فخبَّر بتَعْذِيرهم وأنهم كذبوا الله ورسولَه ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ سَيُصِيبُ الذينَ كَفَروا منهُمْ عَذابٌ أَليم ‏"‏ فانظر إلى أسمائهم وسِمَاتهم‏.‏
وأما أمر الأطفال فإنّ نبيّ الله نُوحًا كان أَعرفَ باللهّ يا نَجْدةُ منّي ومنك قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْض منَ الكافِرينَ دَيَّارًا‏.‏
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّارًا ‏"‏ فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولَدُوا فكيف جاز ذلك في قوم نُوح ولا يجوز في قومنا واللّه يقول‏:‏ ‏"‏ أَكُفَّارُكم خَيْرٌ مِنْ أولَئِكُم أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ في الزُّبُر ‏"‏‏.‏
وهؤلاء كمشركي العرب لا تُقْبل منهم جِزْية وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام‏.‏
وأما استحلال الأمانات ممَّن خالفنا فإن الله عز وجلَّ أحلَّ لنا أموالهم كما أحل لنا دماءَهم فدماؤهم حَلال طِلْق وأموالهُم فَيْء للمُسْلمين فاتَّق اللهّ وراجِع نفسك فإنه لا عُذْر لك إلا بالتوبة ولا يَسَعك خِذْلانُنا والقُعود دوننا ‏"‏ وتَرْك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا ‏"‏ والسلام على مَن أَقرَّ بالحق وعمل به‏.‏
وكان مِرْداس أبو بلال من الخوارج وكان مُستتراَ فلما رأى جِدَّ ابن زياد في قَتْل الخوارج وحَبْسهم قال لأصحابه‏:‏ إنه واللهّ لا يَسعنا المُقام بين هؤلاء الظالمين تَجْري علينا أحكامُهم‏!‏ مُجانبين للعدل مفارقين للعقل والله إنّ الصبرَ على هذا لَعَظيم وإنّ تَجريد السيف وإخافةَ السبيل لعظيم ولكنّا لا نَبْتدئهم ولا نُجرِّد سيفاً ولا نُقاتل إلا مَن قاتلنا‏.‏
فاجتمعِ عليه أصحابُه وهم ثلاثون رجلاً فأرادوا أن يُولّوا أمرَهم حُرَيث بن حَجْل فأبى فولّوا أمرَهم مِرداساً أبا بلال‏.‏
فلما مضى بأصحابه لَقِيه عبدُ الله بن رَبَاح الأنْصاري وكان له صديقاَ فقال له‏:‏ يا أخي أين تُريد قال‏:‏ أريد أن أهْرُب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أَحكام هؤلاء الجَوَرة والظَّلمَة فقال له‏:‏ أَعَلِم بكم أحد قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع قال أَوَ تخاف عليّ مكروهاً قال‏:‏ نعم ‏"‏ وأن يُؤْتى بك ‏"‏ قال‏:‏ فلا تَخَف فإنّي لا أجرِّد سيفاً ولا أخيف أحَداً ولا أقاتل إلا مَن قاتلني‏.‏
ثم مَضى حتى نزل آسَك وهوِ مَوْضع دون خُراسان فمرّ به مالٌ يُحمل إلى ابن زِيَاد وقد بلغ أصحابُه أربعين رجلاَ فحطَّ ذلك المالَ وأخذ منه عطاءَه وأعْطيات أصحابه وردّ الباقي على الرُّسل فقال‏:‏ قُولوا لصاحبكم إنّا قبضنا أعطياتِنا فقال بعضُ أصحابه‏:‏ فعلامَ نَدع الباقي فقال‏:‏ إنّهم يَقْسمون هذا الفَيْء كما يُقيمون الصلاة فلا نقاتلهم‏.‏
ولأبي بلال مِرْداس هذا أشعارٌ في الخُروجِ منها قولُه‏:‏ أبعدَ ابن وَهْب ذي النزاهة والتُّقىِ ومن خاضَ في تلك الحُروب المَهالِكَا أحِبّ بقاءً أو أُرَجِّي سَلامةً وقد قَتلوا زيدَ بن حِصْنٍ ومالكا فيا رَبِّ سَلِّمْ نِيّتي وبَصيرتي وهَبْ لي التّقَى حتى ألاقِي أولئكا وقالوا‏:‏ إنََّ رجلا من أصحاب زياد قال‏:‏ خرجنا في جَيْش نُريد خُراسان فمرَرْنا بآسَك فإذا نحن بمرْداس وأصحابه وهم أربعون رجلاً فقال‏:‏ أقاصدُون لقتالنا أنتم قُلْنا‏:‏ لا إنما نريد خُراسان قال‏:‏ فأبْلِغوا مَن لَقِيتم أنَّا لم نَخْرج لنُفْسد في الأرض ولا لنُروِّع أحداً ولكن هَرَبنا من الظُّلم ولَسْنا نُقاتل إلا مَن قاتَلنا ولا نأخذ من الفَيْء إلا أعطياتنا ثم قال‏:‏ أَنُدِب لنا أحد فقُلْنا‏:‏ نعم أسْلَم بن زُرْعة الكلابيّ قال‏:‏ فمتى تَرَوْنه يَصلُ إلينا قُلنا له‏:‏ يومَ كذا وكذا فقال أبو بلال‏:‏ حَسْبنا الله ونعم الوكيل‏.‏
ونَدَب عُبيد الله بن زياد أسلم بن زُرعة الكِلاَبيّ ووجّهه إليهم فيِ ألفين فلما صار إليهم صاح به أبو بلال‏:‏ اتق الله يا أسلم فإنا لا نُريد قتالا ولا نحْتجز مالا فما الذي تُريد قال‏:‏ أريد أن أردَّكم إلى ابن زياد قال‏:‏ إذاً يقتلنا قال‏:‏ وإنْ قَتلكم قال‏:‏ أفَتَشْركه في دمائنا قال‏:‏ نعم إنه مُحق وأنتم مُبْطلون قال أبو بلال‏:‏ وكيف هو مُحق وهو فاجر يُطيع الظَّلمة‏.‏
ثم حَملوا عليه حملةَ رجل واحد فانهزم هو وأصحابه‏.‏
فلما وَرد على ابن زياد غَضَب عليه غَضباً شديداً وقال‏:‏ انهزمت وأنت في ألفين عن أَربعين رجلا‏!‏ قال له أسلم‏:‏ واللّه لأن تَذُمَّني حيّا أحبًّ إليَّ من أن تَحمَدني مَيِّتاً‏.‏
وكان إذا خرج إلى السوق ومرَّ بالصبيان صاحُوا به‏:‏ أبو بلال وراءك حتى شكا إلى ابن زياد فأمر الشّرط أن يكفّوا الناسَ عنه‏.‏
رد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي الهيثم بن عَدِيّ قال‏:‏ أخبرنى عَوانة بن الحَكم عنِ محمد بن الزُّبير قال‏:‏ بَعثني عمر بن عبد العزيز مع عَوْن بن عبد الله بن مَسْعود إلى شوْذَب الخارجيّ وأصحابه إذ خرجوا بالجزيرة وكتب معنا كتاباً فقَدِمنا عليهمِ ودَفعنا كتابَه إليهم فبَعثوا معنا رجلاً من بني شَيْبان ورجلاً فيه حَبشيّة يقال له شوْذَب‏.‏
فقدما معنا على عمرَ وهو بخِنَاصرة فصَعِدْنا إليه وكان في غُرْفة ومعه ابنه عبدُ الملك وحاجبُه مُزاحم فأخبرناه بمكان الخارجيين فقال عمر‏:‏ فتِّشوهما لا يَكُن معهما حديد وأدخلوهما فلما دخلا قالا‏:‏ السلامُ عليكم ثم جلسا فقال لهما عمر‏:‏ أخْبراني ما الذي أخْرجكم عن حُكْمي هذا وما نَقِمْتم علي فتكلَّم الأسود منهما فقال‏:‏ إنَّا واللّه ما نَقِمْنا عليك في سِيرتك وتَحَرِّيك العَدْل والإحسان إلى مَن وَليت ولكنَّ بيننا وبينك أمراً إن أعطيتَناه فنحن منك وأنت منَّا وإن مَنَعْتناه فلستَ منا ولسنا منك قال عمر‏:‏ ما هوِ قالا‏:‏ رأيناك خالفتَ أهلَ بيتك وسَمَّيتها مظالم وسلكت غيرَ طريقهم فإن زعمتَ أنك على هُدى وهم على ضلال فالْعَنهم وابرأ منهم فهذا الذي يَجمع بيننا وبينك أو يُفرِّق‏.‏
فتكلم عمر فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إني قد علمتُ أو ظننتُ أنكم لم تَخْرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومَتاعها ولكنَّكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلَها وإني سائُلكما عن أمر فباللّه اصْدقاني فيه مَبلغ عِلْمكما قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ أخبراني عن أبي بكر وعُمر أليسا من أسلافكما ومَن تتولَّيان وتَشْهدان لهما بالنجاة قالا‏:‏ اللهم نعم قال‏:‏ فهل عَلِمْتما أنّ أبا بكر حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم له فارتدّت العرب قاتلَهم فَسَفك الدِّماء وأخذ الأموال وسَبَى الذراري قالا‏:‏ نعم قال فهل عَلمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السَّبايا إلى عشائرها قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل بَرِىء عمر من أبي بكر أو تَبْرءون أنتم من أحد منهما قالا‏:‏ لا قال‏:‏ فأخبراني عن أهل النَّهروان أَليْسوا من صالحي أسلافكم وممَّن تَشْهدون لهم بالنجاة قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهلِ تَعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كَفوا أيديَهم فلم يَسْفكوا دماً ولم يُخيفوا آمناَ ولم يأخذوا مالا قالا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل علمتم أن أهل البَصْرة حين خَرجوا مع مِسْعَر بن فُدَيك استعرضوا الناس يَقْتلونهم ولَفوا عبد الله بن خبّاب بن الأرَتّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريتَه ثم قتلوا النّساء والأطفال حتى جعلوا يُلْقونهم في قُدُور الأقْط وهي تفور قالا‏:‏ قد كان ذلك قال‏:‏ فهل بَرِىء أهلُ الكوفة من أهل البصرة قالا‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تَبرءُون أنتم من إحدى الفِئتين قالا‏:‏ لا قال‏:‏ أَفرأَيتم الدِّين إليس هو واحد أَم الدِّين اثنان قالا‏:‏ بل واحدة قال‏:‏ فهل يَسعكم منه شيء يُعْجِزني قالا‏:‏ لا قال فكيف وَسِعكم أن تولَّيتم أبا بكر وعُمرِ وتولَّى كلُّ واحد منهما صاحبَه وتولَّيتم أهلَ الكوفة والبَصرة وتولَّى بعضُهم بعضاَ وقد اختلفوا في أعْظم الأشياء‏:‏ الدِّماء والفُروج والأموال ولا يَسَعني إلا لَعْن أهل بَيْتي والتبرُؤ منهم أو رأيتَ لَعْنَ أهل الذُّنوب فَريضةً لا بدّ منها فإنْ كان ذلك فمتى عَهْدك بلَعْن فِرْعون وقد قال‏:‏ أَنَا ربًّكم الأعلى قال‏:‏ ما أذكُر أني لعنتُه قال‏:‏ ويحك‏!‏ أيسَعك أن لا تَلْعن فِرْعون وهو أخبث الخَلْق ولا يَسَعُني إلا أن ألعن أهلَ بَيْتي والبراءةُ منهم ويحكم‏!‏ إنكم قَوْم جُهَّال أردتم أمراً فأخطأتموه فأنتم تَردّون على الناس ما قَبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَعثه اللهّ إليهم وهم عَبَدَة أوثان فدعاهم إلا أن يخلعوا الأوثان وأن يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه فمن قال ذلك حَقَن بذلك دَمَه وأحْرز مالَه ووَجبت حُرمَتُه وأَمِن به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إِسوة المُسلمين وكان حسابُه على اللّه أفلستم تَلقَون مَن خَلع الأوْثان ورَفَض الأديان وشَهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله تَسْتحلون دَمَه ومالَه وُيلْعن عندكم ومَن تَرَك ذلك وأباه من اليهود والنَّصارى وأهلِ الأديان فَتُحَرِّمون دَمَه ومالَه ‏"‏ ويأمن عندكم ‏"‏ فقال الأسود‏:‏ ما سمعتُ كاليوم أحداَ أبين حُجّة ولا أقرب مَأْخذاً أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك‏.‏
فقال عمر لصاحبه‏:‏ يا أخا بني شَيْبان ما تقول أنت قال‏:‏ ما أَحسَنَ ما قُلْتَ ووصفتَ غير أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حُجّتهم قال‏:‏ أنت وذاك‏.‏
فأقام الحَبشيّ مع عمر وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات ولَحِق الشَّيباني بأصحابه فقُتل معهم بعد وفاة عُمر ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏‏.‏
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكروا فضلَه وشِدَة اجتهاده في العِبادة‏.‏
فبينما هم في ذِكْره حتى طَلَع عليهم الرجلُ فقالوا‏:‏ يا رسولَ اللّه هو هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما إني أرى بين عَيْنيه سَفْعة من الشَّيطان فأقبل الرجلُ حتى وقف فسلّم عليهم فقال‏:‏ هل حَدَّثتك نفسُك إذ طلعتَ علينا أنه ليس في القوم أحسن منك قال نعم ثم ذهب إلى المسجد فصفّ بين قَدَميه يصلِّي‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يقومُ إليه فيقتله فقال أبو بكر‏:‏ أنا يا رسول اللهّ‏.‏
فقام إليه فَوَجده يًصلَي فهابه فانصرف فقال‏:‏ ما صنعتَ قال وجدتُه يصلِّي يا رسول الله فهِبتُه‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يَقُوم إليه فيقتله قال عمر‏:‏ أنا يا رسولَ اللّه‏.‏
فقام إليه فوجده يصلِّي فهابه فانصرف فقال‏:‏ يا رسولَ اللّه وجدتُه يصلِّي فهِبتُه‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيكم يقوم إليه فيقْتُلَه فقال عليٌّ‏:‏ أنا يا رسول اللّه قال‏:‏ أنت له إن أدركته‏.‏
فقام إليه فوجده قد انصرف‏.‏
فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ هذا أول قَرْنٍ يَطلًعُ في أُمتي لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقةً واحدة وهي الجماعة‏.‏
إنما قيل لهم رافضة لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر ولم يَرْفُضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم والشيعة دونهم وهم الذين يُفضِّلون عليًّا على عثمان ويَتَوَلَّون أبا بكر وعمر‏.‏
فأما الرافضة فلها غُلوّ شديد في عليّ ذهب بعضُهم مَذهب النَّصارى في المسيح وهم السَّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ عليهم لعنةُ اللهّ وفيهم يقول السَّيد الحميري‏:‏ قَوْمٌ غَلوْا في علّيِ لا أبالهمُ وأُجْشَمُوا أنفُساً في حُبِّه تَعَبَا قالوا هو اللهّ جَلِّ الله خالقُنا من أن يكون ابن شيء أو يكون أَبا وقد أَحْرقهم عليّ رضي الله عنه بالنَّار‏.‏
ومن الروافض‏:‏ المُغيرة بن سعد مولى بَجِيلة‏.‏
قال الأعمش‏:‏ دخلتُ على المُغيرة بن سعد فسألته عن فَضائل عليّ فقال‏:‏ إنك لا تَحْتملها قلتُ‏:‏ بلى‏.‏
فَذَكر آدم صلواتُ الله عليه فقال‏:‏ عليٌّ خير منه ثم ذكر مَن دونه من الأنبياء فقال عليٌّ خير منهم حتى انتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ عليّ مثلُه فقلت‏:‏ كذبت عليك لعنة الله قال‏:‏ قد أَعلمتُك أَنك لا تحتملها‏.‏
ومن الروافض‏:‏ مَن يزعُم أنّ علياً رضي الله عنه في السَّحاب فإذا أطلَّت عليهم سحابة قالوا‏:‏ السلامُ عليك يا أبا الحَسن‏.‏
وقد ذكرهم الشاعر فقال‏:‏ بَرِئتُ من الخوارجِ لستُ منهم مِن الغَزّال منهم وابن باب ولكنّي أُحِبُّ بكلّ قَلْبي وأعْلم أنَّ ذاك من الصواب رسولَ الله والصِّدِّيقَ حَقًّا به أرجو غداً حُسن الثَّواب وهؤلاء من الرافضة يقال لهم‏:‏ المَنصورية‏.‏
وهم أصحاب أبي منصور الكِسْف وإنما سُمِّي الكِسْف لأنه كان يتأوَّل قي قول الله عزَّ وجلً‏:‏ ‏"‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ سَاقِطاً يَقُولوا سَحَابٌ مَرْكُوم ‏"‏ فالكِسْفُ عليٌّ وهو في السحاب‏.‏
وكان المُغيرة بن سعد من السَّبئية الذين أحْرقهم علي رضيِ الله تعالى عنه بالنار وكان يقول‏:‏ لو شاء عليّ لأحيا عاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراَ‏.‏
‏"‏ وقد ‏"‏ خرج ‏"‏ على ‏"‏ خالد بن عبد الله فقتل خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر‏.‏
ومن الروافض كُثَيِّر عَزَّة الشاعر‏.‏
ولما حضرته الوفاة دعا ابنةَ أَخٍ له فقال‏:‏ يا بِنتَ أخي إنَ عمَّك كان يُحب هذا الرَّجلَ فأَحبَيه - يعني عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه - فقالت‏:‏ نَصِيحتك يا عمّ مردودة عليك أحبًّه واللهّ خلافَ الحبِّ الذي أحْببتَه أنت فقال لها‏:‏ بَرِئت منك وأنشد يقول‏:‏ بَرِئتُ إلى الإله من ابن أَرْوَى ومن قول الخوارج أجمعينَا ومن عُمرٍ برئتُ ومن عَتيق غداةَ دُعي أميرَ المؤمنينا والروافض كلها تؤمن بالرَّجعة وتقول‏:‏ لا تقوم الساعةُ حتى يخرجِ المهديُّ وهو محمد بن عليِّ فيملؤُها عَدْلا كما مُلِئتْ جَوْراً ويُحيى لهم موتاهم فيرْجعون إلى الدنيا ويكون الناسُ أمةً واحدة‏.‏
وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏ أَلا إنَّ الأئمة من قُريش وُلاةَ العَدْل أربعةٌ سَواءُ عليّ والثلاثةُ مِن بَنيه همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء فَسِبْطٌ سِبطُ إيمانٍ وبِرٍّ وسِبْط غَيًبته كرْبلاء أراد بالأسباط الثلاثة‏:‏ الحسن والحسين ومحمد بن الحنفيَّة وهو المهديّ الذي يخرُج في آخر الزمان‏.‏
ومن الروافض‏:‏ السيّد الحِمْيري وكان يُلقَى له وسائد في مسجد الكوفة يَجلس عليها وكان يؤمن بالرَّجعة وفي ذلك يقول‏:‏ إذا ما المرْءُ شابَ له قَذال وعَلِّلهُ اْلمَواشِطُ بالْخِضابِ فقد ذهبتْ بَشاشتهُ وأودَى فَقُم بأَبيك فابكِ على الشَباب فليسَ بعائدٍ ما فاتَ منهُ إلى أحدٍ إلى يوم المآب إلى يومٍ يؤوب الناسُ فيه إلى دُنياهُمِ قبل الحساب لأنَّ الله خَبَّر عن رِجالٍ حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب وقال يرثيِ أخاه‏:‏ يابن أمِّي فدَتْكَ نفسي ومالي كنتَ رُكني ومَفْزعي وَجَمالي ولَعَمْرِي لئن تركْتُك مَيْتاً رَهْنَ رَمْس ضَنْكٍ عليك مُهالَ لوشيكاً ألقاك حياً صحيحاً سامِعاً مُبْصَراً على خير حال قد بُعثتم من القُبور فَأبْتُم بعد ما رَفَت العِظامَ البَوالي أو كَسَبْعين وافداً مع مُوسى عاينُوا هائلاً من الأهْوال حين رامُوا من خُبثهم رُؤية الله وأنىَّ برُؤية المتعالي فرَماهم بصَعْقة أحْرقتهم ثم أحياهُم شديدُ المحال دخل رجل من الْحِسْبانيّة على المأمون فقال‏:‏ لثُمامة بن أشرس كلِّمه فقال له‏:‏ ما تقول وما مَذْهبك فقال‏:‏ أقول إنّ الأشياء كلّها على التوهُّم والْحِسْبان وإنما يُدْرٍك منها الناسُ على قَدْر عقولهم ولا حتَّى في الحقيقة‏.‏
فقام إِليه ثُمامة فَلَطَمه لطمةً سوَدت وَجْهه فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين يفعل بي مثلَ هذا في مجلسك‏!‏ فقال له ثُمامة‏:‏ وما فعلتُ بك قال‏:‏ لَطَمْتني قال‏:‏ ولعلَّ إنما دَهَنتُك بالبان ثم أنشأ يقول‏:‏ ولعلَّ ما أبصرتَ من بِيض الطًّيور هو الغُراب وعَساك حين قَعدتَ قم تَ وحين جئتَ هو الذّهاب وعَسى البنفسج زِئْبقاً وعسى البَهار هو السَّذاب وعَساك تأكل مِن خَرَا ك وأنتَ تَحْسبه الكَباب ومن حديث ابن أبي شَيْبة أن عبد الله بن شدِّاد قال‏:‏ قال لي عبد الله بن عبَّاس‏:‏ لأخبرنَّك بأعجب شيء‏:‏ قَرَع اليومَ علي البابَ رجلٌ لما وضعتُ ثيابي للظَّهيرة فقلتُ‏:‏ ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمرٌ مهمّ أدخله‏.‏
فلما دخل قال‏:‏ متى يُبعث ذلك الرجل قلت‏:‏ أي رجل قال‏:‏ عليّ بن أبي طالب قلتُ‏:‏ لا يُبعث حتىِ يَبعث الله مَن في القبور قال‏:‏ وإنك لتقول بقول هذه الجَهلة‏!‏ قلت‏:‏ أَخْرِجُوه عني لعنه اللّه‏.‏
ومن الروافض الكَيْسانية قلتُ‏:‏ وهم أصحاب المُختار بن أبي عُبيد ويقولون إنّ اسمه كَيْسان‏.‏
ومن الرافضة الحُسينية وهم أصحاب إبراهيم بن الاشتر وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة وينادون‏:‏ يا ثاراتِ الحًسين فقيل لهم‏:‏ الحُسينية‏.‏
ومن الرافضة الغُرابية‏:‏ سمِّيت بذلك لقولهم‏:‏ عليّ أشبه بالنبي من الغُراب بالغراب‏.‏
ومن الرافضة‏:‏ الزَّيْدِية وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخُراسان وهم أقلُّ الرافضة غُلُوًّا مالك بن مُعاوية قال‏:‏ قال لي الشّعبيِ وذَكَرْنا الرافضة‏:‏ يا مالك لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم عَبيداً وأن يَمْلئوا بيتي ذَهَباَ عليً على أن أكْذِبَ لهم على علّيِ كِذْبَةً واحدةً لَقَبِلوا ولكني واللّه لا أَكْذِب عليه أبداً يا مالك إني دَرسْتُ الأهواءَ كلَّها فلم أَرَ قوماً أحمقَ من الرافضة فلو كانوا من الدوابّ لكانوا حميراً أو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً‏.‏
ثم قال‏:‏ أحذِّرك الأهواءَ المُضلة شرُّها الرافضة فإنها يهود هذه الأمة يُبغضون الإسلام كما يُبغض اليهودُ النَّصرِانية ولم يدْخلوا في الإسلام رغبةً ولا رَهْبة من الله ولكن مَقْتاً لأهل الإسلام وبَغْياَ عليهم وقد أحرَقهم عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار ونفاهم إلى البُلْدان منهم‏:‏ عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط وعبد الله بن سباب نفاه إلى الجازر وأبو الكَرَوَّس وذلك أن مِحْنة الرافضة محنة اليهود قالت اليهود‏:‏ لا يكون المُلك إلا في آل داود وقالت الرافضة‏:‏ لا يكون المُلك إلا في آل عليّ بن أبي طالب وقالت اليهود‏:‏ لا يكون جِهاد في سبيل الله حتى يَخْرج المَسيح المُنتظر ويُنادي منادٍ من السماء وقالت الرافضة‏:‏ لا جِهادَ في سبيل الله حتى يخرُج المَهديُّ ويَنْزل سَبَب من السماء واليَهود يُؤخِّرون صلاةَ المَغرِب حتى تَشتبك النّجوم وكذلك الرافضة واليَهود لا تَرى الطَّلاق الثلاثَ شيئاَ وكذا الرَّافضة واليهود لا تَرى على النساء عدة وكذلك الرافضة واليهود تستحل دم كل مسلم وكذلك الرافضة واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفت القران واليهود تُبْغض جبريلَ وتقول‏:‏ هو عَدوُّنا من الملائكة وكذلك الرافضة تقول‏:‏ غَلط جبريلُ في الوَحْي إلى محمد بترك عليّ بن أبي طالب واليهود لا تأكُل لَحم الجَزُور وكذلك الرافضة‏.‏
ولليهود والئصارى فَضِيلة على الرافضة في خَصْلتين سُئِل اليهود مَن خَيْر أهل مِلّتكم فقالوا‏:‏ أصحابُ موسى وسُئِلت النصارى فقالوا‏:‏ أصحابً عيسى وسُئِلت الرِافضة‏:‏ مَن شرّ أهل مِلّتكم فقالوا‏:‏ أصحابُ محمّد أمَرهم اللهّ بالاستغفار لهم فشَتَموهم فالسيفُ مَسْلول عليهم إلى يوم القيامةِ لا تَثبُت لهم قدم ولا تَقومُ لهم راية ولا تُجمع لهم كِلمة دَعْوَتُهم مَدْحورة وكَلِمتهم مِختلفة وجَمْعهم مُفرَّق كلما أَوْقدُوا ناراً للحرب أطْفأها اللّه‏.‏
وذُكرت الرّافضةُ يوماً عند الشًعْبِيّ فقال‏:‏ لقد بغَّضُوا إلينا حديثَ عليّ بن أبي طالب‏.‏
وقال الشّعبيّ‏:‏ ما شَبَّهتُ تأويلَ الرِوافض في القرآن إلا بتأويل رَجل مَضْعوف من بني مَخْزوم من أهل مكّة وجدتُه قاعداَ بفِناء الكَعْبة فقال يا شعبيّ‏:‏ ما عِنْدك في تأويل هذا البَيْت فإن بَني تَميم يَغْلطون فيه ويزعمون أنه إنما قيل في رجل منهم وهو قولُ الشاعر‏:‏ بَيْتاً زُرَارةُ مًحْتَبِ بِفِنائه ومُجاشع وأَبو الفَوارس نَهْشلُ فقلت له‏:‏ وما عِندَك أنت فيه قال‏:‏ البيتُ هو هذا البيت وأشار بيده إلى الكَعْبة وزُرارةُ الحجر زُرِّر حول البيت فقلت له‏:‏ فَمُجاشع قال‏:‏ زَمزم جَشِعت بالماء قلت‏:‏ فأَبُو الفوارس قال‏:‏ هو أبو قُبيس جَبل مكَّة قلت‏:‏ فَنَهْشل ففكّر فيه طويلا ثم قال‏:‏ أَصبتُه هو مِصْباح الكعبة طويلٌ أَسود وهو النَّهشل‏.‏
قولهم في الشيعة قال أبو عُثمان عمرو بِن بَحر الجاحظ‏:‏ أخبرني رجلٌ من رُؤساء التجّار قال‏:‏ كان معنا في السَّفينة شيخٌ شرس الأخلاق طويلُ الِإطْراق وكان إذا ذُكِر له الشِّيعةُ غَضِب واربدّ وجهُه وزَوى من جاجبَيْه فقلتُ له يوماً‏:‏ يَرْحمك اللّه ما الذي تَكْرهه من الشِّيعة فإني رأيتُك إذا ذُكِروا غَضِبْتَ وقُبضتَ قال‏:‏ ما أَكْره منهم إلا هذه الشِّين في أوّل اسمهم فإني لم أجِدْها قطُّ إلا في كلَّ شرّ وشُؤْم وشَيْطان وشَغب وشَقَاء وشَنَار وشَرَر وشَين وشَوْك وشَكْوى وشَهْوة وشَتْم وشُح‏.‏
قال أبو عثمان‏:‏ فما ثَبت لِشيعيّ بعدها قائمة‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:38 AM

باب من كلام المتكلمين
دخل المُوبَذ على هشام بن الحكم واْلمُوبَذ هو عالم الفُرس فقال له‏:‏ يا هشام‏:‏ حولَ الدنيا شيء قال‏:‏ لا قال‏:‏ فإن اخرجتُ يدي فثَمِّ شيءٌ يَرُدُها قال هشام‏:‏ ليس ثَمَّ شيءٌ يرُدّها ولا شيء تُخْرِج يدك فيه قال‏:‏ فكيف أعلَم هذا قال له يا مُوبَذُ أنا وأنت على طَرَف الدنيا فقلت لك يا مُوبَذً‏.‏
إني لا أرى شيئاً فقلتَ لي‏:‏ ولم لا ترِى فقلت لك‏:‏ ليس هاهنا ظلامٌ يمنعني قلت لي أنتَ‏:‏ يا هشام إِني لا أرى شيئاَ فقلت لك‏:‏ ولم لا ترى قلتَ‏:‏ ليس ضياء أنظر به فهل تكافأت المِلَّتان في التناقض قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فإذا تكافأَتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء فأشار الموبَذُ بيده أن أصبت ‏"‏‏.‏
قال رجلٌ لبعض ولاة بني العباس‏:‏ أنا أجعل هِشام بن الحَكم يقول في عليّ رضيِ الله عنه إنه ظالم ‏"‏ فقال‏:‏ إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا ثم أحْضر هشام ‏"‏ فقال له نشدتُك اللهّ أبا محمَد أما تَعلم أن عليًّا نازع العباس عند أبي بكر قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمَن الظالم منهما فكَرِه أن يقول‏:‏ العبّاس فَيُواقع سُخْط الخليفة أو يقول‏:‏ عليْ فيَنْقض أصلَه قال‏:‏ ما منهما ظالم قال‏:‏ فكيف يَتنازع اثنان في شيء لا يكون أحدُهما ظالماً قال‏:‏ قد تَنازع المَلَكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم ولكن ليُنبِّها داود على الخَطِيئة وكذلك هذان أرادا تَنْبيه أبي بكر من خَطِيئته فأُسْكت الرجل وأمر الخليفةُ لهشام بِصِلة عظيمة‏.‏
‏"‏ دخلَ إبراهيمُ النَّظَّام على أبي الهُذَيل العَلاف وقد أَسنَّ وَبَعًد عهدُه بالمُناظرة وإبراهيمُ حَدَث السنّ فقال‏:‏ أخبرني عن قراركم‏:‏ أن يكون جَوْهراً مخافة أن يكون حِسْما فهل قَرَّرْتم أن لا يكون جوهراً مخافةَ أن يكون عرضاً والعَرض أضعفُ من الجوهر‏.‏
فَبَصَق أبو الهُذَيل في وجهه فقال له إبراهيم‏:‏ قبحك الله من شَيْخ‏!‏ ما أضعف حُجِّتك وأسفه حِلْمك‏.‏
قال‏:‏ لَقِي جَهْم رجلاً من اليونانيين فقال له‏:‏ هل لك أن تُكلِّمني وأكلَمك عن مَعْبودك هذا أرأيته قطَّ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلمستَه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فذُقته قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن أين عَرفتَه وأنت لم تُدْركه بحسّ من حواسّك الخَمْس وإنما عقلك معبر عنها فلا يدرك إلا ما أوصلَتْ إليه من جميع المَعْلومات‏.‏
قال‏:‏ فَتلجلج جَهْم ساعةً ثم استدرك فعكس المسألة عليه فقال له‏:‏ ما تًقِرّ أنّ لك رُوحا قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل رأيتَه أو ذُقْتَه أو سَمِعْته أو شَممتَه أو لَمستَه قال‏:‏ لا قال‏:‏ فكيف علمتَ أنّ لك رُوحا فأقَرّ له اليُونانيّ‏.‏



باب في الحياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم الحَياء خَيْرٌ كلُّه‏.‏
الحَياء شُعْبة من الإيمان‏.‏
وقال عليه السلام‏:‏ إنّ اللهّ تَبارك وتعالى يحبّ الحيّ الحَليمَ المُتَعفِّف ويَكره البَذِىء السأّل المُلْحُف‏.‏
وقال عَوْن بن عبد الله‏:‏ الحياءُ والحِلْم والصَّمتُ من الإيمان‏.‏
وقال ابن عمر‏:‏ الحياء والإيمان مَقْرونان جميعاً فإِذا رُفِع أحدهما ارتفع الآخر معه‏.‏
وقال‏:‏ مَكْتوب في التوراة‏:‏ إذا لم تَسْتح فاصنع ما تَشاء‏.‏
وقال‏:‏ أحيُوا الحياء بمُجالسة من يُسْتحيا منه‏.‏
وذكر أعرابيٌ رجلاً حيا فقال‏:‏ لا ترَاه الدهرَ إلا وكأنّه لا غِنى به عنك وإن كنتَ إليه أحوجَ وإن أذْنبتَ غَفر وكأنّه المُذنب وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المُسيء‏.‏
لليلى الأخيلية‏:‏ فتًى هو أحْيا منِ فَتاة حَيِيَّة وأشجعً من لَيْثٍ بخِفَّان خادِر ولابن قيس أيضاَ‏:‏ تخَالهم للحلم صُما عن الخَنَا وخُرْساً عن الفَحشَاءِ عند التَهاجُر ومَرْضى إذا لوقُوا حَياءً وعَفّة وعند الحِفاظ كالليوث الخوادر وقال الشعبي‏:‏ تَعاشر الناس فيما بينهم زماناً بالدِّين والتَقوى ثم رُفِع ذلك فتعاشروا بالحَياء والتذمُّم ثم رُفع ذلك فما يَتعاشر الناس إلا بالرغبة والرَّهبة وسيجىء ما هو شرمن ذلك‏.‏
وقيل‏:‏ الحياء يزيد في النُّبل‏.‏
ولبعضهم‏:‏ فلا وأبيكَ ما في العَيْش خيرٌ ولا الدُّنيا إذا ذَهب الحياءُ وقال آخر‏:‏ إذا رُزِق الفتى وجهاً وَقاحاً تَقلَّب في الأمور كما يشاءُ ورُث قَبيحةٍ ما حالَ بيني وبين رُكُوبها إلا الحَياء وقال عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهَه‏:‏ قُرنت الهيبةُ بالخَيْبة والحياءُ بالحِرْمان‏.‏
وقد قيل‏:‏ ارفع حياءَكَ فيما جئتَ طالبَه إنّ لحياءَ مع الحِرمان مَقرونُ وفي المثل‏:‏ كثرة الحياء من التخنث‏.‏
قال الحسن‏:‏ من استتر بالحياء لبس الجهل سرباله فقطّعوا سرابيل الحياء فإنه مَن رَقّ وجهه رق عِلْمه‏.‏
وَصَف رجل الحياء عند الأحنف فقال‏:‏ إن الحياء ‏"‏ لَيَتّتُم ‏"‏ لمقدار من المقادير فما زاد على ذلك فسمِّه بما أحببت‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ إن الحياء مع الحرمان مُقْترن كذاك قال أميرُ المؤمنين عَلي واعلم بأن من التخنيث أكثره فارفعه في طلب الحاجات والأمَلَ وللشماخ‏:‏ أجاملُ أقواماً حياءً وقد أرى صدورهم بادٍ عَلَيَّ مِراضُها ولابن أبي حازم‏:‏ حياءٌ وإسلام وتقْوى وأنَّني كريم ومِثْلي قد يَضرُ ويَنفع وقال آخر‏:‏ إذا حُرم المرء الحياءَ فإنهُ بكلّ قبيح كان منه جديرُ له قِحة في كل أمر وسِره مُباح وجدواه جفاً وغرور يَرى الشَّتْم مَدْحاً والدناءة رِفْعة وللسَّمْع منه في العِظات نُفور فرجِّ الفتى ما دام حيَّا فإنّهُ إلى خيِر حالات اْلمُنِيب يَصِير ‏"‏



باب جامع الآداب
أدب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قال أبو عُمر أحمد ببن محمد‏:‏ أوّل ما نَبدأ أدبُ النبي صلى الله عليه وسلم ثم أَدبه صلى الله عليه وسلم لأمّته ثم الحكماء والعُلماء وقد أدّبَ الله نَبِيّه بأحسن الآداب كًلها فقال له‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ‏"‏‏.‏
فنهاه عن التَقتِير كما نهاه عن التَّبذير وأمره بتوسّط الحاليْن كما قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لم يسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما ‏"‏ وقد جَمع الله ‏"‏ تبارك و ‏"‏ تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم في كتابه المُحْكَكم ونَظِم له مَكارم الأخلاق كلّها في ثلاث كلمات منه فقال‏:‏ ‏"‏ خُذِ العفو وَأَمًرْ بالعرفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ‏"‏‏.‏
ففي أَخذِه اللعفو صِلة مَن قَطَعه والصَّفحُ عمَّن ظَلَمه وفي الأمر بالمعروف تَقْوَى اللّه وغَض الطِّرفِ عن المحارم وصَوْن اللسان عن الكَذِب وفي الإعراض عن الجاهِلين تنزيه النَّفْس عن مماراة السَّفيه ومنازعة اللَجُوجِ‏.‏
ثم أمره تبارك وتعالى فيماِ أدَّبه باللِّين في عَريكته والرِّفق بأًمّته فقال‏:‏ ‏"‏ واخفضْ جَناحَك لمن اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمِنِين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ ولَوْ كُنْتَ فَظّا غليظَ الْقَلْب لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ‏"‏‏.‏
وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ لا تَسْتَوي الحَسَنَةُ وَلا السِّيِّئَةُ اْدْفَعْ بالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإِذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَمِيم‏.‏
وَمَا يُلَقَاهَا إلا الذِينَ صَبروا وَمَا يُلَقَاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم ‏"‏‏.‏
فلما وَعى عن الله عزَّ وجلَّ وكَمُلت فيه هذه الآداب قال اللهّ تبارك وِتعالى‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏"‏‏.‏



باب أدب النبي لأمته صلى الله عليه وسلم
لأمته قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحَضها عليه من مَكارم الأخْلاق وجَمِيل المعاشرة وإصلاح ذاتِ البَينْ وصِلَة الأرحام‏:‏ أوْصاني ربيِّ بتِسْع ‏"‏ وأنا ‏"‏ أوصيكم بها‏:‏ أوصاني بالإخلاص في السر والعَلانية والعَدْل في الرِّضا والغَضب والقَصْد في الغِنَى والفَقْر وأن أعْفُو عمن ظَلَمني وأعْطي مَن حَرَمني وأصِل مَن قَطعني وأن يكون صَمتي فِكْراً ونُطْقي ذِكْراً ونَظَري عبَرا‏.‏
وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقْعدوا على ظُهور الطُّرق فإن أَبَيْتم فغُضُوا الأبصار وأفشُوا السلام واهدوا الضالَّ وأعينوا الضعِيف‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَوْكُوا السِّقاء واكْفَئُوإ الإناء وأَغْلِقوا الأبواب وأطفِئوا المِصْباح فإن الشيطان لا يَفْتح غَلَقا ولا يحل وِكاءً ولا يَكْشف الإناء‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أنَبئكم بشرّ الناس قالوا‏:‏ بلى يا رسولَ اللهّ قال‏:‏ من أكل وَحْدَه ومَنَع رِفْده وجَلَد عبدَه‏.‏
ثم قال‏:‏ ألا أُنبئكم بشِرّ من ذلك قالوا‏.‏
بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ ‏"‏ من لا يُقيل عزة ولا يقبل مَعْذرة ثم قال أَلاَ أنبئكم بشرّ من ذلك قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال‏:‏ مَن يُبغض الناسَ ويُبْغِضونه‏.‏
وقال‏:‏ حَصِّنوا أموالَكم بالزّكاة وداوُوا مَرْضاكم بالصدَقة واستَقْبِلوا البَلاء بالدُّعاء وقال‏:‏ ما قَلّ وكَفي خير مما كثر وألْهى‏.‏
وقال المسْلِمون تَتكافأ دِماؤُهم ويَسْعَى بذمَّتهم أدْناهم وهُمْ يَدٌ على مَن سواهم‏.‏
وقال‏:‏ اليَدُ العُلْيا خيرٌ من اليد السُّفْلي‏.‏
‏"‏ وقال ‏"‏‏:‏ وابْدَأ بمن تَعول‏.‏
وقال‏:‏ لا تَجْن يَمينُك على شِمالك ولا يًلدغ المُؤمن من جحر مرتين‏.‏
وقال‏:‏ اْفصِلُوا بين حَدِيثكم بالاستغفار واسْتَعينوا على قضاء حَوائجكم بالكِتمان‏.‏
وقال‏:‏ أَفضل الأصحاب من إذا ذَكَرْت أعانك وإذا نَسيت ذَكرَّك‏.‏
وقال‏:‏ لا يُؤَم ذو سُلْطان في سُلْطانه ولا يُجْلس على تَكْرِمته إلا بإِذنه‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أَكل فأفْنى أو لَبِسَ فأبلَى أو وهب فأمْضى‏.‏
وقال‏:‏ سَتَحْرصون على الإمارة فنِعمت المُرْضعة وبئست الفاطمة‏.‏
وقال‏:‏ لا يَحْكمِ الحاكم بين اثنين وهو غَضْبان‏.‏
وقال‏:‏ لو تَكاشفتم ما تَدافَنْتم وما هَلَك امرؤ عَرف قَدْره‏.‏
وقال‏:‏ الناس كإبل مائةٍ لا تَكاد تَجد فيها راحلةً واحدة والناس كلّهم سواء كأسنان المُشْط‏.‏
وقال‏:‏ رَحِم الله عبداً قال خيراً فَغَنِم أو سَكَت فَسَلِم‏.‏
وقال‏:‏ خَيْر المال سِكَة مَأْبورة ومُهْرة مَأْمورة وخير المال عَينٌ ساهرة لِعَين نائمة‏.‏
وقال في إناث الخيل‏:‏ بُطونها كَنْز وظُهورها حِرْز‏.‏
وقال‏:‏ ما أملق تاجرٌ صدُوق وما أقفر بيتٌ فيه خَلّ‏.‏
وقال‏:‏ قَيّدوا العِلم بالكتابة‏.‏
وقال‏:‏ عَلق سَوْطك حيثُ يراه أهلُك‏.‏



باب في آداب الحكماء والعلماء
فضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال‏:‏ الأدب أكرم الجواهر طبيعةً وأنْفسها قيمةً يَرْفع الأحساب الوَضيعة ويُفيد الرَّغائب الجليله ويُعِز بلا عشيرة ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة فالبسوه حُلّة وتَزَينُوه حِلْية يُؤْنسكم في الوَحشة ويجمع لكم القُلوب المختلفة‏.‏
ومن كلام علّي عليه السلام‏:‏ فيما يُروى عنه أنه قال‏:‏ مَن حَلم ساد ومن ساد استفاد ومن استَحيا حُرم ومن هاب خاب ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن عَيب غيره ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها ومَن نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته ومن كابر في الأمور عَطِب ومن اقتحم اللُّجج غَرِق ومن أعجب برأْيه ضَلَّ ومن استغنى بعَقله زلَ ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ ومَن صاحَب الأنذال حُقِّر ومن جالس العلماء وُقَر ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم ومَن حَسَنُ خُلقه سَهُلَت له طُرُقه ومن حَسَّنَ كلامَه كانت الْهَيْبة أمامَه ومَن خَشي الله فاز ومَن استقاد الجَهْل تَرك طَرِيق العَدْل ومَن عرف أجَله قَصًر أمله ثم أنشأ يقول‏:‏ البَسْ أخاك على عُيوبه واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه واصبر على بَهْتِ السَّفِيهِ وللزَّمان على خُطوبه ودَع الجوابَ تفضلاً وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه وقال شَبِيب بن شَيبة‏:‏ اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل ودليل على المُروءة وصاحب في الغُربة ومُؤنس في الوَحشة وحِلْية في المَجْلِس ‏"‏ ويجمع لكم القلوب المختلفة ‏"‏‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مَروان لبَنِيه‏:‏ عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً‏.‏
وقال بعضُ الحكماء‏:‏ اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال وجاهاً بالأدب غيرُ زائل عنك‏.‏
وقال ابن المقفَّع‏:‏ إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك فإنّ الكرامة تزُول بزوالهما ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب‏.‏
وقال الأحْنَف بن قَيس‏:‏ رأسُ الأدب المَنْطِق ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل ولا في مال إلا بجُود ولا وقال مَصقلة الزُّبيريّ‏:‏ لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن فأما الثلاثة‏:‏ فالبلاغة والفصاحة وحُسن العِبارة وأما الاثنان فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر‏.‏
وقالوا‏:‏ الحَسَب مُحتاجِ إلى الأدب والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة‏.‏
وقال بُزُرْجَمْهِر‏:‏ ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ‏:‏ رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره‏.‏
وقالوا‏:‏ حُسْن الخُلق خيْر قَرِين والأدب خير ميراث والتَوفيق خير قَائد‏.‏
وقال سُفيان الثَّوريّ‏:‏ مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه‏.‏
وقال أنو شِرْوان للموبذ وهو العالم ‏"‏ بالفارسيّة ‏"‏‏:‏ ما كان أفضلُ الأشياء قال‏:‏ الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة ومن العِلْم بالإشارة وكلما يَموت البَذْر في السِّباخ كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة قال له‏:‏ صدقت ونحن لهذا قَلّدناك ما قلّدناك‏.‏
وقيل لارْدَشِير‏:‏ الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة فقال‏:‏ الأدب زِيادة في العَقل ومَنْبهة للرأيٍ ومِكْسبة للصواب والطَّبيعة أملك لأن بها الاعتقاد ونَماء الغِراسة وتَمام الغِذاء‏.‏
وقيل لبعض الحُكماء‏:‏ أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة قال‏:‏ أدب مُكْتسب‏.‏
وقالوا‏:‏ الأدب أدَبان‏:‏ أدبُ الغَريزة وهو الأصل وأدب الرِّواية وهو الفرع ولا يتفرَّع شيء إلا عن أصله ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ‏"‏ ولم أرَ فَرْعًا طال إلا بأصْله ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما وقال حَبيب ‏"‏‏:‏ وما السيفُ إلا زُبْرَةٌ لو تركتَه على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ وقال آخر‏:‏ ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به وقال ابن عبّاس‏:‏ كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه وكفاكَ من عِلْم الأدب أن تَرْوي الشاهد والمثاللَ‏.‏
قال ابن قُتيبة‏:‏ إِذا أردتَ أن تكون ‏"‏ عالماً فاطلب فَنّا واحداً وإذ أردتَ أن ‏"‏ تكون أديباً فتفنَّن في العلوم‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ إذا كان الرجل طاهرَ الأثواب كثيرَ الآداب حسنَ المذْهب تأدَّب بأدبه رأيتُ صلاحَ الَمرْء يِصلح أهلَه ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ يُعظَّم في الدنيا لِفَضل صَلاحه وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد وسُئل ديُوجانِس‏:‏ أي الخِصال أحمدُ عاقبة قال‏:‏ الإيمانُ بالله عزّ وجلّ وبرّ الوالدين ومحبّة العُلماء وقبولُ الأدب‏.‏
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ مَن لا أدب له لا عقل له‏.‏
وقالوا‏:‏ الأدب يَزيدُ العاقلَ فضلاً ونَباهة ويُفيده رقّة وظَرفاً‏.‏
في رقة الأدب قال أبو بكر بن أبي شَيْبة‏:‏ قيل للعبّاس بن عبد المطّلب‏:‏ أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه‏.‏
وقيل لأبي وائل‏:‏ أيكما أكبر أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم قال‏:‏ أنا أكبر منه سنًا وهو أكبر منّي عقلاً‏.‏
وقال أبان بنُ عثمان لطُويس المغنّى‏:‏ أنا أكبر أم أنت قال‏:‏ جُعلتُ فداك لقد شَهِدْتُ زفاف أمك المُباركة ‏"‏ على أبيك الطيّب‏.‏
انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك ‏"‏‏.‏
وقيل لعُمر بن ذَرّ‏:‏ كيف برّ ابنك بك قال‏:‏ ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي ولا ليلاً إلا مَشى أمامي ولا رَقى عِلّية وأنا تحته‏.‏
ومن حديث عائشة قالت‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس‏.‏
وكان عمر وعثمان إذا لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له إذا كانا راكبَين‏.‏
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال‏:‏ قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح‏:‏ هذا منزلُك وقد تقدم هذا الخبر في الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ‏:‏ كم عَطاؤك ومن قولنا في رقة الأدب‏:‏ أَدبٌ كمثْل الماء لو أفرغتَه يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ أحمد بن بّي طاهر قال‏:‏ قلتُ لعليّ بن يحيى ما رأيتُ أكملَ أدبا منك قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إسحاق بن إبراهيم فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ فقلتُ ذلك لإبراهيم فقال‏:‏ كيف لو رأيت جعفر بن يحيى وقال عبدُ العزيز بِن عُمر بن عبد العزيز‏:‏ قال لي رَجاءُ بن حَيْوة‏:‏ ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم عِشْرَةً من أبيك سَمَرتُ عنده ليلة فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام الغلام فقلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين قد عَشى المصباح ونام الغلام فلو أذنتَ لي أصلحتُه فقال‏:‏ إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة ثم رَجع ‏"‏ وأخذ رداءه وقال‏:‏ قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر‏.‏
العتبي عن أبيه قال‏:‏ صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد فلما كانت الصلاة قال عمر‏:‏ عَزَمتُ على صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ ‏"‏ فلم يَقُم أحدٌ‏.‏
فقال جريرُ بن عبد اللهّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ قال‏:‏ صدقتَ ولا عَلِمتُك إلا سيّدا في الجاهليّة فقيها في الإسلام قُوموا فتوضئوا‏.‏
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ حدَّثني عُثمان الشحَّام قال‏:‏ قلتُ للحسن‏:‏ يا أبا سعيد قال‏:‏ لَبَّيك قلت‏:‏ أتقول لي لَبّيك قال‏:‏ إني أقولها لخادمي‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ يا حبذا حين تُمسى الريحُ باردةً وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ مُخدَمون كِرامٌ في مجالسهم وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم وما أصاحب من قوم فأذْكُرهم إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم وقالت الحُكماء‏:‏ رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء للمتكلّم‏.‏
وذكر الشّعبي قوماً فقال‏:‏ ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس ولا أحسن فهما من مُحدِّث‏.‏
وقال الشعبي فيما يَصِف به عبدَ الملك بن مروان‏:‏ والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث تاركاً لثلاث آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث وبأيسر المؤونة إذا خُولف تاركاً لمجاوبة اللئيم ومماراة السَّفيه ومُنازعة اللجُوج‏.‏
وقال بعض الحُكماء لابنه‏:‏ يا بُني تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث وليعلم الناسُ أنك أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه الرجوع بالفِعْل حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل‏.‏
وقالوا‏:‏ من حُسن الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه وإذا حَدًث بحديث فلا تُنازعه إياه ولا تَقْتحم عليه فيه ولا تُره أنك تعَلمه وإذا كلّمت صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه ولا تُظهر الظَّفر به وتَعلَم حُسنَ الاستماع كما تعلم حُسنَ الكلام‏.‏
وقال الحسنُ البَصريّ‏:‏ حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم‏.‏
وقال أبو عبًاد ‏"‏ الكاتب ‏"‏‏:‏ إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع حديثه والسبَب الذي أُجري ذلك له فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث وإلاّ قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان للفائدة‏.‏
الأدب في المجالسة ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يَقم الرجلُ ‏"‏ للرجل ‏"‏ عن مجلسه ولكن ليُوسع له‏.‏
وكان عبد الله بن عمر إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه وقال‏:‏ لا يقم أحد لأحد عن مجلسه ولكن افْسَحوا يَفسح الله لكم‏.‏
أبو أمامة قال‏:‏ خرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا إليه فقال‏:‏ لا تقوموا كما يقوم العجم لعُظمائها‏.‏
فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك‏.‏
ومن حديث ابن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم في وجهي وإن قمت فكما أنتم وإن جلست فكما أنتم فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه ومن قام من مجلسه وَرَجع إليه فهو أحقّ به‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ عليهما الرِّضوانُ فقال له‏:‏ إنك جلستَ إلينا ونحن نريد القيام أفتأذَنُ وقال سعيدُ بنُ العاص‏:‏ ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي ولا قمتُ ‏"‏ عن مجلسي ‏"‏ حتى يقوم‏.‏
وقال إبراهيمُ النِّخَعيّ‏:‏ إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه‏.‏
وطَرح أبو قِلابة لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها فقال‏:‏ أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ لا تَردَّ على أخيك كرامَته وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه‏:‏ لا يأبى الكرامةَ إلا حِمار‏.‏
وقال سَعِيد بن العاص‏:‏ لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ‏:‏ إذا دنَا رَحَّبْتُ به وإذا جَلَس وَسَّعتُ له وإذا حَدًث أقبلْت عليه‏.‏
وقال‏:‏ إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن يُؤذِيه‏.‏
الهيثم بن عديّ ‏"‏ عن عامر الشَّعبي ‏"‏ قال‏:‏ دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها فقال له‏:‏ ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة فقال‏:‏ يا أمير المُؤمنين إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال‏:‏ لا تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك ولا تَقْطعه حتى يَنْساك ولا تَجْلِس له على فراش ولا وِسادة واجعل‏!‏ بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو وقال الحسن‏:‏ ‏"‏ مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى‏.‏
ولذلك قال شَبيب بن شَيْبة لأبي جعفر ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته‏:‏ أصلحك الله إنِّي أحب المعرفةَ وأجلَّك عن المسألة فقال‏:‏ أنا فُلان بنُ فلان‏.‏
قال زياد‏:‏ ما أتيت مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما ليس لي‏.‏
وقال‏:‏ إيّاكَ وصدور المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها فإنها مجالس قُلَعة‏.‏
وقال ‏"‏ الشعبي ‏"‏‏:‏ لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد‏.‏
وذكروا أنه كان يوماً أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم فاستدعى عبد الله إِسحاقَ فَناجاه بشيء وطالت النَجوى بينهما‏.‏
قال‏:‏ فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه ونظر عبد الله إلي ‏"‏ يا أبا السمراء ‏"‏ إذا النَجيان سرًا عنك أمرهَما فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ ولا تُحَملهما ثِقْلاً لخوفهما على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني فما رأيتُ أكرَم منه ولا أرفق أدباً ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء وأدَبني أدبَ النُظراء‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما أحدُكم مرآة أخيه فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه وإذا أخذ أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل‏:‏ لا بك السُّوء وصَرَف اللهّ عنك السُّوء‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا اجتمعت حُرْمتان أسقطت الكبرى الصُّغرى‏:‏ وقال المُهلَب بن أبي صفرة‏:‏ العيْش كلّه في الجَليس المُمْتع‏.‏



الأدب في المماشاة
وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة ووجَّه معه ابن أخيه وأوصى كلَّ واحد منهما بصاحبه فلما قَدِما عليه قال لابن أخيه‏:‏ كيف رأيتَ ابن عمّك فقال‏:‏ إن شئت أجملت وإن شئت فسّرْتُ قال‏:‏ بل أجمل قال‏:‏ عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا إليك‏.‏
وقال يحيى بن أكثم‏:‏ ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ فكنت من الجانب الذي يَسترٌه من الشَمس فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع وأردتُ أن أدور إلى الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس فقال‏:‏ لا تفعل ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما سَتَرْتني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف الشمسُ فقال‏:‏ ليس هذا من كرم الصُحبة ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته‏.‏
وقيل لعُمَر بن ذرّ‏:‏ كيف برُ ابنك بك قال‏:‏ ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي ولا ليلاً إلا مشى أمامي ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته‏.‏
وقيل لزياد‏:‏ إنك تَستخلص حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب فقال‏:‏ وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته ولا راكبني قطّ فمست رُكْبتي رُكْبته‏.‏
محمد بن يزيد بن عُمر بن عبد العزيز قال‏:‏ خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان فقال لي‏:‏ إمّا أن تَحملين وإمّا أن أحْملك فعلمتُ ما أراد فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة‏:‏ أوصيكم بالله أولَ وَهْلةٍ وأَحْسابِكِم والبرُّ باللّه أَوَّلُ وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدوهم وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا وإن أنتمُ أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا وإنْ نزلتْ إحدى الدَواهي بقَوْمكم فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا وإنّ طَلبوا عُرْفاً فلا تَحْرموهمُ وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا قال‏:‏ فأمر لي بعشرين ألف دِرْهم‏.‏
وقيل‏:‏ إن سعيد بن سَلْم راكب موسى الهادي والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك وكانت الريح تَسْفي التراب وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته وإذا حاذاه ناله ذلك التراب فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم فقال‏:‏ أما ترى ما نَلقى من هذا الخائن قال‏:‏ واللّه يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في الاجتهاد ولكن حُرِم التوفيق‏.‏



باب السلام والإذن
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَطِيبوا الكلام وأفشوا السلام وأطعِموا الأيتام وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام‏.‏
وأتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ عليك السلامُ يا رسول الله فقال‏:‏ لا تقُل‏:‏ عليك السلام فإِنها تحيِّة الموتى وقل‏:‏ السلام عليك‏.‏
وقال صاحبُ حَرس عمر بن عبد العزيز‏:‏ خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة على قلنسوة لاطئة فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه فقال‏:‏ مَه أنا واحدٌ وأنتم جماعة السلامُ عليّ والردُّ عليكم‏.‏
ثم سلّم ورَددنا عليه ومشى فمشينا معه إلى المسجد‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يُسَلِّم الماشي على القاعد والرَّاكب على الراجل والصًغير على الكبير‏.‏
ودخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أبي يُقْرِئك السلام فقال‏:‏ عليك وعلى أبيك السلام‏.‏
إبراهيم عن الأسود قال قال ‏"‏ لي ‏"‏ عبد الله بن مسعود‏:‏ إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام قال‏:‏ فلقيتُه فأَقْرأْته السلام فقال‏:‏ عليك وعليه السلام‏.‏
دخل مَيْمون بن مِهْران على سُليمان بن هِشام وهو والي الجزيرة فقال‏:‏ السلام عليكم فقال له سُليمان‏:‏ ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة فقال‏:‏ إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة إذا كان عنده الناس‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ‏:‏ حيَّاك الله حتى يقول السَّلام‏.‏
وسُئل عبد الله بن عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد قال يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏
ومر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبَول فسلّم عليه فلم يرد عليه السلام‏.‏
وقال رجلٌ لعائشة ‏"‏ رضي الله عنها ‏"‏‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ يا أم المؤمنين ‏"‏ قالت‏:‏ بنِعْمة من اللّه‏.‏
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ كيف أصبحتَ ‏"‏ قال‏:‏ بنعمة ‏"‏ ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء‏.‏
وقيلِ لمحمد بن وكيع‏:‏ كيف أصبحت ‏"‏ قال‏:‏ أصبحتُ طويلاً أملى قصيراً أجلى سيئاً وقيل لسًفْيان الثَّوْري‏:‏ كيف أصبحتَ قال‏:‏ أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء‏.‏
واستأذن رجلٌ من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال‏:‏ أَلِجُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان وقُل له يقول‏:‏ السَّلام عليكم أدْخُل جابر بن عبد الله قال‏:‏ استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مَن أنت فقلت‏:‏ أنا قال‏:‏ أنا أنا‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الاستئذان ثلاثة فإن أُذن لك وإلاّ فارجع‏.‏
وقال عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه‏:‏ الأولى إذْن والثانية مؤامرة والثالثة عزيمة إمّا أن يأذنوا وإمّا أن يردّوا‏.‏



باب في تأديب الصغير
قالت الحُكماء‏:‏ مَن أَدَّب ولدَه صغيراً سُرّ به كبيراً‏.‏
وقالوا‏:‏ اطْبَعِ الطِّن ما كان رَطْباً واغْمِز العُود ما كان لَدْناً‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن أدَّب ولدَه غَمّ حاسدَه‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ مَن لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب قال الشاعر‏:‏ إذا المَرءُ أَعْيَتْه المُروءةُ ناشِئاً فَمَطْلَبها كَهْلاً عليه شديدُ وقالوا‏:‏ ما أشدَّ فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وتَرُوض عِرْسَك بعد ما هَرمت ومِن العَناء رياضةُ الهَرِم وكتب شُرَيح إلى معلِّم ولده‏:‏ تَركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يَسعى بها يَبْغِي الهِرَاشَ مع الغُواة الرُّجَّس ‏"‏ فَليَأتيِنَّك غُدوًة بصحيفة كُتِبت له كصحيفة المُتَلمِّس ‏"‏ فإذا هَمَمْتَ بضربه فبدِرَّةٍ وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فاحْبِس واعْلم بأنّك ما أتيتَ فنفْسُه مع ما تُجَرِّعني اعزُّ الأنْفس وقال صالح بن عبد القدّوس‏:‏ وإنَّ مَن أدَّبته في الصبا كالعُود يُسقَى الماءَ في غَرْسِه حتى تَراه مُورِقاً ناضِراً بَعد الذي أبصرتَ من يُبْسِه والشيخُ لا يَتْرك أخلاقَه حتى يُوارَى في ثَرى رَمْسه إذا ارْعوى عادَ له جَهْلهُ كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه ما يَبْلغ الأعداءُ من جاهل ما يَبْلغ الجاهلُ من نَفْسهِ وقال عمرو بن عُتبة لمعلِّم ولده‏:‏ ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك فإنّ عُيونهم مَعْقودة بعَيْنك فالحَسن عندهم ما صَنعتَ والقبيح عندهم ما تَركت‏.‏
علمَهم كتابَ اللهّ ولا تُكْرههم عليه فيَملّوه ولا تَتركهم منه فيهجروه رَوِّهم من الحديث أشرفَه ومن الشعر أعفّه ولا تَنْقُلهم من عِلم إلى علم حتى يُحْكِموه فإنّ ازدحام الكلام في القَلْب مَشغلة للفهم وعَلِّمهم سُنَن الحكماء وجَنِّبهم محادثة النِّساء ولا تَتّكَل على عُذْر منّي لك فقد اتكلتُ على كِفاية منك‏.‏
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال‏:‏ يا أبا بحر ما تقول في الولد قال‏:‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ ثمار قُلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرضٌ ذَليلة وسماء ظَلِيلة فإن طلبوا فأعْطِهم وإن غَضبوا فأَرْضهم يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ويُحبُّوا وفاتك‏.‏
فقال‏:‏ للّه أنت يا أحنف لقد دخلتَ عليّ وإني لمملوء غضباً على يزيدَ فسَلَلَته من قلبي‏.‏
فلمّا خرج الأحنفُ من عنده بعث مُعاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب فبعث يزيدُ إلى الأحنف بمائة ألف دِرْهم ومائة ثوب شاطره إياها‏.‏
وكان عبد الله بن عُمر يذهب بولده سالم كلَّ مَذْهب حتى لامه الناسُ فيه فقال‏:‏ يَلُومونني في سالمِ وأَلُومهم وجِلْدةُ بين العَينْ والأنف سالمً وقال‏:‏ إن ابني سالماَ ليُحِبّ حُبَّاً لو لم يَخَفْه لم يَعْصه‏.‏
وكان يحيى بن اليمان يَذْهب بولده داود كل مَذْهب حتى قال يوماً‏:‏ أئمة الحَدِيث أربعة كان عبد الله ثم كان عَلْقمة ثم كان إبراهيم ثم أنت يا داود‏.‏
وقال تزوّجْتُ أمَ داود فما كان عندنا شيءٌ أُلّفه فيه حتى اشتريتُ له كُسوة بدانِق‏.‏
وقال زيدُ بن علي لْابنه‏:‏ يا بُنيَّ إن الله لم يَرْضك لي فأوصاك بي ورَضيني لك فحذَرنيك واعلم أنَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المَودَّةُ إلى التَفريط وخَيْرَ الأبناء للآباء مَن لم يَدْعه التقصير إلى وفي الحديث المَرْفوع‏:‏ ريح الوَلد من ريح الجنَّة‏.‏
وفيه أيضاً‏:‏ الأولاد منِ رَيحان اللّه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بُشر بفاطمة‏:‏ رَيحانة أَشَمّها ورِزْقها على اللهّ‏.‏
ودخل عمرو بن العاص على مُعاوية وبين يديه بنته عائشة فقال‏:‏ مَن هذه يا ‏"‏ أمير المؤمنين ‏"‏ فقال‏:‏ هذه تًفَّاحة القَلْب فقال له‏:‏ انبذُوها عنك ‏"‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ فواللّه إنَهن لَيَلدْنَ الأعداء ويُقرِّبن البُعداء ويُورِّثن الضّغائن‏.‏
قال‏:‏ لا تَقُل ذاك يا عمرو فواللهّ ما مَرّضِ المَرْضى ولا نَدَب الموْتى ولا أعان على الأحزان مِثْلهن ورُبَّ ابن أُخت قد نَفعَ خاله‏.‏
وقال المُعلّي الطائي‏:‏ لولا بُنيّات كزغْب القطَا حُطِطْن من بعْض إلى بَعْض لكان لي مُضطَرَب واسعٌ في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض وإنما أولادُنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرض إن هَبَّت الريحُ على بَعْضهم لم تَشْبع العينُ من الغَمْض وقال عبد الله بن أبي بَكْرة‏:‏ مَوْت الوَلد صَدْع في الكَبِد‏:‏ لا يَنجبر آخرَ الأبد‏.‏
ونظر عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه فقال‏:‏ ما هذا منك وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تُرَقص الحسين بن علي رضي اللهّ عنهما وتقول‏:‏ إنّ بُني شِبْه النبي ليس شَبيهاً بعَلي وكان الزُّبير يُرَقص ‏"‏ ولده ‏"‏ عُرْوَة ويقول‏:‏ أَبْيَضُ من آل أبي عَتِيق مُبارَك مِن وَلد الصِّدِّيقِ ألذَّه كما أَلذّ رِيقي وقال أعرابي وهو يُرَقّص ولده‏:‏ أُحبُّه حُبَّ الشحيح مالَهْ قد كان ذاقَ الفقر تمَ نالَهْ إذا يُريد بذلَه بدالة وقال آخر وهو يُرْقص ولده‏:‏ أعرِف منه قلَّة النُّعاس وخِفّةً في رَأسة من راسي وكان رجلٌ من طيء يَقطع الطّريق فمات وتَرك بُنياً رضيعاً فجعلت أُمه تُرقصه وتْقول‏:‏ ياليتَه قد قطع الطّريقا ولم يًرِد في أمره رَفيقاً وقد أخاف الفَجّ والمضيقا فقَلّ أن كان به شفيقاً وقال هارون الرشيد لابنه المعتصم‏:‏ ما فعل وصيفك ‏"‏ فلان ‏"‏ قال‏:‏ مات فاستراح من الكُتَّاب قال أو بلغ منك الكتّاب هذا المبلغ‏!‏ واللهّ لا حضرته أبداً ووجّهه إلى البادية فتعلّم الفصاحة وكان أُمِّيّاً وهو المعروف بابن مارِدة‏.‏
وفي بعضِ الحديث أنّ إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه كان من أغير النَّاس فلمّا حضرَتْه الوفاة دخل عليه ملك الموت في صُورة رجل أنكره فقال له مَن أدخلك داري قال الذي أسكنك فيها منذُ كذا وكذا سنة قال‏:‏ ومَن أنت قال‏:‏ أنا ملك الموت جئت لقَبض رُوحك قال‏:‏ أتاركي أنت حتى أودِّع ابني إسحاق قال‏:‏ نعم فأرسل إلى إسحاق فلمّا أتاه أخبره فتعلّق إسحاق بأبيه إبراهيم وجعل يتقطّع عليه بُكاءً فخرج عنهما ملك الموت وقال‏:‏ يا ربَّ ذبيحُك إسحاق متعلِّق بخليلك فقال له اللّه‏:‏ قل له إني قد أمهلتك ففعل‏.‏
وانحلّ إسحاق عن أبيه ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه فقبض ملك الموت روحَه وهو نائم‏.‏



باب الاعتضاد بالولد
قال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عَبْدِه زكريَّا ودُعائه إليه في الولد‏:‏ ‏"‏ وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْني فَرداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثين ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانت امرأتي عاقراَ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَليَّاَ‏.‏
يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آل يعقُوبَ واجعلهُ رَبِّ رَضِيَّاً ‏"‏‏.‏
والمَوَالِي ها هنا بنو العم‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن كان ذا عَضُد يُدْرِكْ ظُلامته إنِّ الذّليل الذي لَيْستْ له عَضدُ تَنْبو يَدَاه إذا ما قَلَّ ناضرُه وَيَأنَفُ الضّيْم إنْ أثْرَى له عدد العُتبى قال‏:‏ لمّا أسنَّ أبو بَراء عامرُ بن مالك وضَعَّفه بنو أخيه وخَرَّفوه ولم يكن له ولد يَحْميه أنشأ يقول‏:‏ دَفعتُكم عنَي وما دَفْع راحةٍ بشيء إذا لم تَسْتَعِن بالأنامل يُضَعّفني حِلْمي وكثرةُ جَهلكم عليّ وأني لا أصُول بجاهل وقال آخر‏:‏ تَعْدُو الذِّنائب عَلَى من لا كلابَ له وتَتَّقي سَوْرةَ المُستنفِر الحامِي



باب في التجارب والتأدّب بالزمان
قالت الحُكماء‏:‏ كَفي بالتّجارب تأديباً وبتقلّب الأيام عِظَة‏.‏
وقال حبيب‏:‏ أحاولتَ إرشادي فعَقْليَ مُرْشِدي أم استَمْت تَأديبي فدَهري مُؤدبي وقال إبراهيم بن شَكلة‏:‏ من لم يؤدَبه والده أدَّبه الليلُ والنَّهارُ كم قد أذلأَ كَريمَ قَوْم ليس له منهما انتصار مَن ذا يَدُ الدهرِ لم تَنَله أو اطمأَنّت به الدَيار كُلّ عن الحادِثات مُغْضٍ وعِنده للزّمان ثار وقال آخر‏:‏ وما أبقت لك الأيامُ عُذْراً وبالأيَّام يَتَّعظ‏!‏ اللًبِيب وقالوا‏:‏ كفي بالدهر مُخبرا بما مَضى عمّا بَقيِ‏.‏
وقالوا‏:‏ كَفي مخبراً لذَوي الألباب ما جَرَبوا‏.‏
وقالوا لعيسى بن مَرْيم عليهما السلام‏:‏ مَن أدَّبك قال‏:‏ ما أدَّبني أحد رأيتُ الجَهل قبيحاً فاجتنبتُه‏.‏
قالت الحُكَمَاء‏:‏ اصحب الأيام بالمُوادعة ولا تُسابق الدهرَ فتَكْبُو‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن سابَق الدهر كبا كَبْوةً لم يَسْتَقِلها من خطُا الدَّهرِ فاخطُ مع الدَّهر إذ ما خَطا واجرِ مع الدهر كما يَجْرِي وقال بشّار العُقَيلي‏:‏ أعاذِل إنّ العُسْر سَوف يُفيق وإنّ يَساراً من غدٍ لخلِيقُ وما كنْتُ إلا كالزَّمان إذا صحا صحوتُ وإنْ ماقَ الزَّمان أَموق وقال آخر‏:‏ تحامِق مَع الحَمْقىِ إذا ما لَقيتَهمِ ولاقِهمُ بالجهل فِعل ذوي الجَهْل وَخَلِّط إذا لاقيْت يوماً مخَلَطاَ يُخَلِّط في قول صحيح وفي هَزْل فإنّي رأيتُ المَرْءَ يَشْفي بعَقله كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعقل وقال آخر‏:‏ إن المَقَادِيرَ إذا ساعَدَتْ ألحقت العاجِزَ بالحازِم وقال الآخر‏:‏ ومن أمثالهم في ذلك ‏"‏ قولُهم ‏"‏‏:‏ تطامن لها تَخْطُك‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ وتطَامنْ للزَّمان يَجْزُكَ عَفْواً وإن قالوا ذَليلٌ قُلْ ذليلُ وقال حَبيب‏:‏ وكانت لَوْعَةً ثم اطمأنتْ كذاك لكلِّ سائلة قَرَارُ وقال آخر‏:‏ ماذا يُريك الدَهْرُ من هَوانِهِ ازْفِن لِقرْد السَّوْء في زَمانِهِ ولآخر‏:‏ الدهر لا يبقى على حالةٍ لا بُدَّ أن يُقبِلَ أو يدبرْ فإنْ تَلقاك بِمْرُوهه فاصبِر فإنَّ الدَّهرَ لا يَصْبر ولآخر‏:‏ اصبرْ لِدَهْرٍ نال من ك فهكذا مضتْ الدُّهورُ فَرَحاً وحُزْناً مرّةً لا الحُزن دام ولا السُّرورُ ولآخر‏:‏ تَرُوح لنا الدُّنيا بغير الذي غَدَت وتَحْدُث مِن بعد الأمور أمورُ وتجْرِي الليالي باجتماع وفُرْقة وتَطْلُع فيها أنجمٌ وتَغور وتَطْمع أن يَبقى السّرُور لأهله وهذا مُحال أن يَدُوم سُرُور ولآخر‏:‏ سأنتظرُ الأيّامَ فيك لعلّها تَعود إلى الوَصل الذي هو أَجْمَلً باب التحفظ من المقالة القبيحة وإن كانت باطلاً قالت الحكماء‏:‏ إياك وما يُعتذر منه‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن عَّرَض نَفْسه للتُّهم فلا يأمَن مِن إساءة الظنّ‏.‏
وقالوا‏:‏ حَسْبك من شرِّ سماعه‏.‏
وقالوا‏:‏ كفي بالقَوْل عاراً وإن كان باطلاَ‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ومَن دعا الناسَ إلى ذَمِّه ذمُوه بالحقّ وبالباطل وقال آخر‏:‏ قد قِيل ذلك إن حقَّاً وإن كَذِباً فما اعتذارُك من قَوْلٍ إذا قِيلاَ وقال أَرِسْططاليس للإسكندر‏:‏ إنّ الناس إذا قَدروا أن يقولُوا قدروا أن يفعلوا فاحترس من أن يقولوا تَسْلم من أن يفعلوا‏.‏
وقال آمرؤُ القيس‏:‏ وجُرْع اللّسان كجُرح اْلْيَد وقال الأخطل‏:‏ والقول يَنْفذ ما لا تَنفذ الإبرُ وقال يَعقوب الحَمْدونيّ‏:‏ وقد يُرْجَى لجُرح السًيف بُرءٌ ولا بُرْءٌ لما جرح اللّسانُ ولآخر‏:‏ قالوا ولَوْ صحَّ ما قالُوا لفُزْت به مَن لي بتَصْدِيق ما قالوا وتَكْذِيبي



باب الأدب في تشميت العاطس
ومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تًشَمِّت العاطس حتى يَحمد الله فإن لم يَحمده فلا تُشَمَتوه‏.‏
وقال عليٌّ رضي اللهّ عنه‏:‏ يُشَمَّت العاطس إلى ثلاث فإن زاد فهو داء يَخْرج من رأسه‏.‏
عَطَس ابن عمر فقالوا له‏:‏ يرْحمك اللهّ فقال‏:‏ يَهديكم الله ويُصلح بالكم‏.‏
وعَطَس عليُّ بن أبي طالب فحمِد اللّه فقيل له‏:‏ يَرْحمك اللّه فقال‏:‏ يَغفر الله لنا و لكم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ إذا عَطَس أحدُكم فشَمِّتوه ثلاثاً فإن زاد فقولوا‏:‏ إنك مَضنوك‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ التَّشْميت مرة واحدة‏.‏



باب الإذن في القبلة
عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى عن عبد الله بن عُمر قال‏:‏ كنَّا نُقَبِّل يدَ النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكيع عن سُفيان قال‏:‏ قَبَّل أبو عُبيدة يدَ عمر بن الخطّاب‏.‏
ومن حديث الشعبيّ قال‏:‏ لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم جعفرَ بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه‏.‏
وقال إياسُ بن دَغْفل‏:‏ رأيتُ أبا نَضْرة يُقَبِّل خدَّ الحسن‏.‏
الشَّيباني عن أبي الحسن عن مُصعب قال‏:‏ رأيتُ رجلاً دخل عَلَى عليّ بن الحسين رضي الله العُتبي قال‏:‏ دخل رجلٌ على هِشام بن عبد الملك فقبّل يدَه فقال‏:‏ أُفٍّ‏!‏ إنّ العرَب ما قبّلت الأيدي إلا هُلوعاً ولا قبّلتها العجم إلاّ خُضوعاً‏.‏
واستأذن رجلٌ المأمون في تَقْبيل يده فقال‏:‏ إنّ القُبلة من المؤمن ذِلّة ومن الذِّمي خديعة ولا حاجةَ بك أن تَذِلّ ولا حاجةَ بنا أن نُخْدَع‏.‏
واستأذن أبو دُلامة المهديَّ في تَقْبيل يده فمنَعَه فقال‏:‏ ما مَنَعْتَني شيئاً أيسر على عِيالي فَقْداً مِنْهُ‏.‏
الأصمعيُّ قال‏:‏ دخل أبو بكر الهَجريّ على المنصور فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين نَغَض فمي وأنتم أهل بيت بركة فلو أَذِنت لي فقبلت رأْسَك لعلَّ اللهّ كان يُمسك عليَّ ما بقي من أسناني قال‏:‏ اختَر بينها وبين الجائزة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ أهوَن من ذهاب درهم من الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكَّة‏.‏
فضحك المنصور وأمر له بجائزة‏.‏
وقالوا‏:‏ قُبلة الإمام في اليَد وقُبلة الأب في الرأس وقُبلة الأخ في الخدِّ وقبلة الأخت في الصدر وقبلة الزَّوجة في الفَم‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:40 AM

باب الأدب في العيادة مَرِض
أبو عمرو بن العَلاء فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه فقال له‏:‏ أَريد أن أُساهرَك الليلةَ قال له‏:‏ أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر ولأهل البلاء الصَّبر‏.‏
ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض فقال‏:‏ لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كَنفك النِّعمة‏.‏
فضحِك وأَمر له بجائزة فخرج وهو يقول‏:‏ ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليل‏:‏ نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ وكتب آخر إلى عليل‏:‏ وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له أيهذا الأمير أكرمك الل ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ أَجَميلاً تراه أصلحك الله لكَيما أراه أيضاً جَميلاً أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء أفَلت عِلّتي عليه أُفولا وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا فكتب إليه الوزير يعتذر‏:‏ دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا كَ من العذر جائزاً مَقْبولا ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه فلمّا أفاق قال يحيى بنُ خالد‏:‏ ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده‏:‏ المريض يُعاد والصحيح يُزار‏.‏
وقال سفُيان الثّوْريّ‏:‏ حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس‏.‏
ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه فسأله عن علّته فلمّا أخبره قال‏:‏ من هذه العلة مات فلان ومات فلان‏.‏
فقال له عمر‏:‏ إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروه‏.‏
ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه فإذا سأله أحدٌ قال‏:‏ عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها‏.‏
ولبعضهم‏:‏ مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه فمَرِضتُ من حَذَري عليه وأَتىَ إليَّ يَعُودني فبرِئْتُ من نظري إليه ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله‏:‏ إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ئك من فِعالكَ شاهِدَا إني اعتللت في فَقَدْ تُ سِوى رَسولك عائدا ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ سبباً إليك مُساعداً فأجابه‏:‏ كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ يا أخي الباذل المودّة والنا زلَ من مقلتي مكانَ السواد منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي من دُخولي إليك في العُوّاد لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي ولمحمد بن يزيد‏:‏ يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ إن يَحُل‏!‏ دونك الحجابُ فما يح جَب عني بك الضَّنَى والعَويل وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده‏:‏ بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له‏:‏ كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده فقال‏:‏ اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض العائدين جميعاً لا به المَرَض فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض وليس في غيره منه لنا عِوَض فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراء‏:‏ واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة فقال‏:‏ يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهر‏:‏ أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ وقال غيره‏:‏ يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ هذان يومان لي أعدُّهما مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاس‏:‏ تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا وللعباس بن الأحف‏:‏ قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ وقال الواثق‏:‏ لا بك السُقْم ولكنْ كان بي وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ قيل لي إنك صُدِّعتَ فما خالطت سمعيَ حتى دير بي وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته وإِن بدا لك يوماً غير محجوب أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ ومثله من قولنا‏:‏ لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا الأدب في الاعتناق أبو بكر بن محمد قال‏:‏ حدّثنا سعيد بن ‏"‏ إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ ‏"‏ قال‏:‏ كنتُ جالساً عند مالك ‏"‏ بن أَنس ‏"‏ فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب فقال مالك‏:‏ رجلٌ صالح صاحب سُنَة أدخِلوه فدخل فقال‏:‏ السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته فردَ السلام فقال‏:‏ سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله فقال مالك‏:‏ وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ فصافَحه مالك وقال‏:‏ يا أبا محمد لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك فقال سُفيان‏:‏ قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك‏:‏ جعفراً قال‏:‏ نعم فقال مالك‏:‏ ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ فقال سفيان‏:‏ ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك قال‏:‏ نعم يا أبا محمد فقال‏:‏ حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه وقال‏:‏ جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ



باب الأدب في إصلاح المعيشة
قالوا‏:‏ مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت ‏"‏ بيته ‏"‏ خُبزاً‏.‏
وقالوا‏:‏ يقول الثّوب لصاحبه‏:‏ أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل اللّه‏.‏
وقال عمرُ بن الخطاب‏:‏ لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض فإِن شَحمها في وَجْهها‏.‏
وقال‏:‏ فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين‏.‏
وقال‏:‏ أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين‏.‏
وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياب‏:‏ إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس وإنما البيْع مِكَاس‏.‏
وقال عبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُ‏.‏



باب الأدب في المؤاكلة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قال‏:‏ قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ‏:‏ أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فصِفه لي قال‏:‏ نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن ‏"‏ إلا ‏"‏ إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول له‏:‏ ما عِنْدك فيقول‏:‏ عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهم‏.‏
قال ابن أبي بُردة‏:‏ للّه ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس‏.‏
حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ‏.‏
فقال له هشام‏:‏ عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقال‏:‏ وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي واللّه لا أكلت عندك أبداً‏.‏
ثم خرج وهو يقول‏:‏ وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قال‏:‏ أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله‏.‏
فالتفتَ إليه الرجلُ فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن واللّه لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة‏.‏
وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال‏:‏ كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً ‏"‏ يُسلم من بعيد ويَنْصرف ‏"‏‏.‏
فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقال‏:‏ قد تغذيتُ‏.‏
فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه‏.‏
فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالوا‏:‏ إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفر‏:‏ إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالوا‏:‏ بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع‏.‏
فدعاه فسأله فقال‏:‏ إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال‏:‏ قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل‏.‏
فسكت القومُ وانصرفوا‏.‏
وقال بكرُ بن عبيد الله‏:‏ أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقول‏:‏ لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل‏:‏ ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا‏.‏
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقال‏:‏ أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة‏.‏
والمُكَوكب‏:‏ الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست‏.‏
والحرَامد‏:‏ الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول‏:‏ ما تأكلون فيقولون من بُغْضه‏:‏ سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم‏.‏
والشُّكامد‏:‏ الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة‏.‏
والنُّقامد‏:‏ الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره‏.‏
ومن الأدب‏:‏ أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائه‏:‏ من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر‏.‏
وقال العلماء‏:‏ لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه‏.‏
وقال زِياد‏:‏ لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين‏:‏ ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاس‏:‏ كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقال‏:‏ لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين‏.‏
قال ابن عبّاس‏:‏ ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم‏.‏
فقال له مُعاوية‏:‏ كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت‏.‏
الشّيبانيّ قال‏:‏ بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه‏.‏
فقال عبدُ الملك بن مَرْوان‏:‏ أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم‏:‏ الإمام والعاِلم والوالد والضيف‏.‏
وقال يحيى بن خالد‏:‏ مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقول‏:‏ كيف أصبح الأمير فقُل‏:‏ صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُل‏:‏ أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ‏.‏
ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألته‏.‏
وقالوا‏:‏ الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالوا‏:‏ من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره‏.‏
وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية‏:‏ إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقال‏:‏ علامةُ ذلك أن أقولَ‏:‏ إذا شِئتم‏.‏
وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقال‏.‏
إذا وضعتُ الخَيْزُرانة‏.‏
وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَر‏:‏ أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤال‏.‏
فقال له‏:‏ فلان بن فُلان‏.‏



باب الكناية والتعريض
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ‏:‏ قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه‏:‏ أين نبَتَ بك هذا الحِبْن قال بين الرانفة والصَّفْن‏.‏
وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطه‏:‏ أين نبت بك هذا الحِبْن قال‏:‏ تحت مَنْكِبيّ‏.‏
وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة وعن الحَدَث بالغائط فقال‏:‏ ‏"‏ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ ‏"‏ والغائطَ‏:‏ الفَحْص ‏"‏ وهو المُطْمئن من الأرض ‏"‏ وجَمْعه‏:‏ غِيطان‏.‏
‏"‏ وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ ‏"‏‏.‏
وإنما كنّى ‏"‏ به ‏"‏ عن الحَدث‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ ‏"‏‏.‏
فكنّى ‏"‏ بالسوء ‏"‏ عن البرص‏.‏
ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح فقال‏:‏ ما هذا البَياض بك فقال‏:‏ سيف اللهّ جلاه‏.‏
ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر فقال له زياد‏:‏ ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك قال‏:‏ رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي فقال‏:‏ أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك‏.‏
فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن‏.‏
إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ليأكل رأس لُقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد قال الأحنف‏:‏ السّخينة يا أميرَ المؤمنين‏.‏
قال معاوية‏:‏ واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق وهو الخَريزة فكانت تُسَب به وفيه يقول حسَّان بن ثابت‏:‏ زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ وقال آخر‏:‏ تَعشوا من خَزيرتهم فناموا ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة فقال له عُثمان‏:‏ ما حَشْو جُبّتك يا عمرو قال‏:‏ أنا قال‏:‏ قد علمتُ أنك فيها‏.‏
ثم قال له يا عمرو‏:‏ أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها فقال‏:‏ لأنكم أعجفتم أولادَها‏.‏
فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان‏.‏
وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات فكتب رجلٌ من أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار فكنَى بالقلائص عن النّساء‏.‏
وعَرض برجل يقال له جَعْدَة‏.‏
فسأل عنه عمرُ فَدُل عليه فجزّ شَعره ونَفَاه عن المدينة‏.‏
وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقول‏:‏ فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت ففهم شكواها فبَعث إلى زَوْجها فوجده متغيِّر الفم‏.‏
فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها‏.‏
فاختار الدَّراهم فأعطاه وطَلّقها‏.‏
ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زياد‏:‏ أين مَسكنك من البَصرة قال‏:‏ في وَسطها قال له‏:‏ كم لك من الولد قال‏:‏ تِسْعة فلما خرج من عنده قيل له‏:‏ إنه ليس كذلك في كل ما سألته وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ وهو ساكن في طَرف البَصرْة‏.‏
فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك فقال له‏:‏ ما كذبتُك لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي وبقي معي واحد فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ ومنزلي بين المدينة والجَبانة فأنا بين الأحياء والأموات فمنزِلَي في وَسط البَصرة قال‏:‏ صدقت‏.‏
الكناية يورى بها عن الكذب والكفر لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه ومَن أبَى يَقْتله فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر فَقبِل كلامهما وعفا عنهما وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل‏.‏
وكان مما عرَّض به الشعبي فقال أَصلح الله الأمير نَبا المنزل وأَحْزَن بنا الجَناب واستَحلَسْنا الخوفَ واكتَحلنا السهرَ وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء‏.‏
قال صدقَ والله ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا خَلّيا عنه ثم قُدِّم ‏"‏ إليه ‏"‏ مُطرِّف بن عبد الله فقال له الحجّاج‏:‏ أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر قال‏:‏ إنّ مَن شق العصا وسَفَك الدماء ونكث البَيْعة وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر قال‏:‏ خليا عنه‏.‏
ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير فقال له‏:‏ أتقِر على ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين فقيل له‏:‏ أتَشهد أنّ القرآن مخلوق قال‏:‏ أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن هذه الأربعة مخلوقة ومَدّ أصابعه الأربع فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل‏:‏ وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها فقُتِل وَصلِب‏.‏
ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه فقال له‏:‏ الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء وإنما كره طعامه‏.‏
الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم فقال لهم‏:‏ هل خَرج إليكم في اليهود شيء قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فامضُوا راشِدين فمضَوْا وتركوه‏.‏
ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ فقال له الخارجي‏:‏ واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ فقال له‏:‏ أنا من عليّ ومن عثمان بريء ‏"‏ يريد أنه من عليّ وبريء من عثمان ‏"‏ 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال‏:‏ قال الوليد ‏"‏ بن عُقْبة ‏"‏ على المِنْبر بالكوفة‏:‏ أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام ‏"‏ فخرج عنّي ‏"‏ فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له‏:‏ ومَن هذا الذي يقوم ‏"‏ وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحان‏:‏ اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا ‏"‏ فامتنع من ذلك وقال‏:‏ أو تُعْفيني قال‏:‏ لا‏.‏
فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ معاشر الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً فالعَنُوه لعنه الله ‏"‏‏.‏



الكناية عن الكذب في طريق المدح
المدائنيّ قال‏:‏ أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران فقال له‏:‏ مَن أنت فقال‏:‏ أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود فظنّه ولداً لبعض الأشراف فأمر بتخليته‏.‏
فلمّا كُشف عنه قيل له‏:‏ إنّه ابن باقلاني‏.‏
ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة ‏"‏ القاضي ‏"‏ فقال له‏:‏ أتعرف هذا الرجل - وكان رُمي عنده بريبة - فقال ‏"‏ نعم ‏"‏ إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً فخلّى سبيلَه‏.‏
فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له ‏"‏ أصحابُه ‏"‏‏:‏ أكنت تعرف هذا الرجل قال‏:‏ لا ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه وقدماَ يمشي عليها وشرفُه أُذناه ومَنْكباه‏.‏
وخطب رجل لرجل إلى قوم فسألوه‏:‏ ما حِرْفته فقال‏:‏ هو نخَّاس الدوَاب فزوّجوه فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير فلمّا عنِّفوه في ذلك قال‏:‏ أوَ ما السنانير دواب ما كذبتكم في شيء‏.‏
ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه فأنشده شعراً يقول فيه‏:‏ فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُه‏:‏ واللّه ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء فمَن أردت أن تُعتق قال هما هرّتان عندي والحجّ فريضة واجبة فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالى‏.‏



باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة
سُئل ابن سيرين عن رجل فقال‏:‏ تُوفّي البارحة‏.‏
فلما رأى جَزَع السائل قال‏:‏ ‏"‏ الله يَتوفَى الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها ‏"‏ وإنما أردتُ بالوَفاة النوم‏.‏
ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعوده‏.‏
فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله‏:‏ كيف تركتَ الأمير قال‏:‏ تركتُه يأمر وينهى فقال مَسروق‏:‏ إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض ‏"‏ عَوِيص ‏"‏ وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة فقال له ابن هُبيرة‏:‏ غُضَّ من عِنان بَغلتك فقال‏:‏ إنها مكتوبة أصلح الله الأمير‏.‏
أراد ابن هُبيرة قول جرير‏:‏ فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا وأراد سِنَان قولَ الشاعر‏:‏ لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي فقال التَّميميُ للنّميريّ‏:‏ هذا البازي لك فقال له النُّميري‏:‏ نعم وهو أهدَى من القَطا‏.‏
أراد التميميُّ قولَ جرير‏:‏ أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا وأراد النميري قول الطِّرِمْاح‏:‏ تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع فقال عبد الله بن يزيد‏:‏ ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة فقال له المُحاربيّ‏:‏ أصلح الله الأمير أَو تدْري لمَ ذلك قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها قال‏:‏ قَبّحك اللهّ تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعر‏:‏ لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكم‏:‏ استعْرِض لي هذين الفَرسين فقال‏:‏ أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم يعني قولَ النَّجاشيّ‏:‏ ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني فقال مُعاوية‏:‏ أما إنَ صاحبَهما على ما فيه ‏"‏ لا ‏"‏ يُشئب بكَنائنه‏.‏
وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِه‏.‏
وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها فقال‏:‏ لا خير لك فيها إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها فتركها وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها‏.‏
فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له‏:‏ أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها قال‏:‏ نعم رأيتُ أباها يُقبِّلها‏.‏
وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ يا أميرَ المؤمنين احمِلْني وسُحَيما على جمل فقال‏:‏ نَشدتك الله يا أعرابيّ أسُحيم هذازِق قال‏:‏ نعم ثم قال‏:‏ مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه فقال‏:‏ امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله وحِجاب من كلاءته‏.‏
فَفطِن له الرجل فقال‏:‏ رَفع الله مكانك وشَدِّ ظهرك وجَعلك مَنظوراً إليك‏.‏
والشَّيباني قال‏:‏ كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر ‏"‏ الصدِّيق رضي الله عنهم ‏"‏ وكانت له آمرأة من أشراف قَريش وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع‏:‏ ذَهب الإله بما تَعيش به وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ أنفقت مالك غير مُحْتشم في كلِّ زانية وفي الخمر فقال للجارية‏:‏ لمن هذا الشًعر قالت‏:‏ لموْلاتي‏.‏
فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن قف قليلا أُكلمك فوقف عبد الله بن عمر فقال‏:‏ ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر وأنشد البيتن قال‏:‏ أرى أن تَعفو وتَصفح قال‏:‏ أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره وقال‏:‏ قبّحك اللهّ‏.‏
ثم لَقيه بعد ذلك بأيام فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه فاستقبله ابن أبي عَتيق فقال له‏:‏ سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين فولاه قفاه وأنصت له قال‏:‏ علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته فصعِق عبد الله ولُبِط به فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه وقال‏:‏ أصلحك اللّه إنها امرأتي ‏"‏ فلانة ‏"‏‏.‏
فقام ابن عمر وقَبل ما بي عَيْنيه ‏"‏ وتبسَّم ضاحكاً ‏"‏‏.‏



باب في الصمت
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم ‏"‏ مُقْتَبسا ‏"‏ وكان عبداً أسود فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة فقاسها داودُ على نفسه وقال‏:‏ زِرْد طافا ليوم قِرَافا‏.‏
تفسيره‏:‏ درع حَصينة ليوم قِتال‏.‏
فقال لُقمان‏:‏ الصمت حُكم وقَليل فاعله‏.‏
وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّ‏:‏ كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق‏.‏
وقال أبو الدَّرداء‏:‏ أنْصف أُذنيك مِن فيك فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن قال‏:‏ جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاوية‏:‏ مالك لا تتكلّم أبا بَحْر قال‏:‏ أخافُك إن صدقتُ وأخاف الله إن كذبت‏.‏
وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرة‏:‏ لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه‏.‏
وقال هَرم ابن حيّان‏:‏ صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين إن قصَّرَ فيه خصم وإن أَغْرق فيه أَثِم‏.‏
وقال شَبيب بن شَيبة‏:‏ مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَقْتل الرجل بين فَكًيه‏.‏
وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم‏:‏ يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل وقال الشاعر‏:‏ الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا وقال لحسن بن هانيء‏:‏ خَلّ ِجنبيك لِرَامِي واْمض عنه بسَلاَم ربَّ لفظ ساق آجا ل فِئَام وفئام إنما الساِلمُ من أَلْ جَم فاهُ بِلِجَام وقال بعض الحكماء‏:‏ حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّ‏.‏
وقالوا‏:‏ إذا أعجبك الكلامُ فاصمُت‏.‏
وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز‏:‏ متى أتكلم قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت قال‏:‏ فمتى أصمُتَ قال‏:‏ إذا اشتهيتَ أن تتكلّم‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان‏.‏
وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء فقال‏:‏ بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة‏.‏



باب في المنطق
قال الذين فَضلوا المنطقَ‏:‏ إنما بُعثَت الأنبياء بالكلام ولم يُبْعثوا بالسُّكوت‏.‏
وبالكلام وُصِف فَضْل الصَّمت ولم يُوصف القولُ بالصمت وبالكلام يُؤْمر بالمعروف وينْهى عن المُنْكر ويُعظَّم اللهّ ويُسبَّحِ بحمده ‏"‏ والبيان من الكلام هو الذي مَنَّ الله به على عِباده فقال‏:‏ ‏"‏ خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ البَيَان ‏"‏‏.‏
والعِلْم كلُّه لا يُؤدِّيه إلى أَوْعية القُلوب إلا اللسان فنَفْع المنطق عام لقائله وسامعه ‏"‏ ومن بلّغه ‏"‏ ونَفْع الصمتِ خاص بفاعله‏.‏
وأَعْدلُ شيء قِيل في الصمت والمَنْطق قولهم‏:‏ الكلامُ في الخير كلِّه أفضلُ من الصمت والصمت في الشرِّ كلّه أفضلُ من الكلام‏.‏
وقال عبد الله المُبارك صاحبُ الرقائق يَرْثي مالكَ بن أَنس المَدَنيّ‏:‏ صَمُوتٌ إذا ما الصمتُ زَيَّنَ أَهلَه وفَتِّاق أبكار الكلام المُخَتَّم وَعَى ما وَعَى القرآنُ من كلِّ حِكْمَة وسِيطَت له الآدابُ باللحم والدَّم وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ ترْك الحركة غَفْلة‏.‏
وقال بكرُ بن عبد الله المُزنيّ‏:‏ طُول الصمت حبُسْة‏.‏
وقالوا‏:‏ الصمتُ نَوْم والكلام يَقَظة‏.‏
وقالوا‏:‏ ما شيء ثًني إلا قَصرُ إلا الكلام فإنه كلما ثُني طال‏.‏
‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ الصمت ُشيمته فإنْ أبْدَى مَقاَلاً كان فَصْلاَ أَبدَى السكوتَ فإن تك - لم لم يَدَعْ في القول فَضْلا ‏"‏ محمدُ بن سِيرين قال‏:‏ ما رأيتُ عَلَى آمرأة أجملَ من شَحم ولا رأيتُ عَلَى رَجُل أجمل من فصاحة‏.‏
وقال اللهّ تبارك وٍ تعالى فيما حكاه عنِ نبيّه موسى صلى الله عليه وسلم وآستيحاشه بعدم الفصاحة‏:‏ ‏"‏ وَأخي هرُون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناَ فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَا يُصَدِّقُني ‏"‏‏.‏
آفات المنطق تكلّمَ ابن السماك يوماً وجارية له تسمع كلامه فلما دخل قال لها‏:‏ كيف سمعت كلامي قالت‏:‏ ما أحسنه لولا أنك تردده قال‏:‏ أردّده ليفهمه من لم يفهمه قالت‏:‏ إلى أن يفهمه من لم يفهمه يملّه من فَهِمَه‏.‏
‏"‏ الأصمعي قال ‏"‏‏:‏ قال مُعاوية يوماً لجلسائه‏:‏ أيّ الناس أفصح فقال رجلٌ من السِّماط‏:‏ يا أميرَ المؤمنين قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر وتيامَنُوا عن‏:‏ شَنْشَنة تَغْلب ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة ولا طمطمانيّة حِمْير‏.‏
قال‏:‏ مَن هم قال‏:‏ قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش قال‏:‏ صدقتَ فمن أنت قال‏:‏ مِن جَرْم قال الأصمعيّ‏:‏ جَرْم فُصْحَى الناس‏.‏
قال أبو العباس محمد بن يزيد النَحويّ‏.‏



التَمتمة في المنطق
التردُّد في التاء والعُقْلة‏:‏ هي التواء اللسان عند إرادة الكلام والحُبْسة‏:‏ تعذُر الكلام عند إرادته واللفف‏:‏ إدخالُ حَرْف في حَرْف والرُّتة‏:‏ كالرتَج تمنُع أول الكلام فإِذا جاء منه شيء اتصل به‏"‏‏.‏
والغَمْغمة‏:‏ أن تسمع الصوت ولا يَبِين لك تقطيعُ الحروف‏.‏
وأما الرَتة‏:‏ فإنها تكون غريزية وقال الراجز‏:‏ يأيُها المُخلّط الأرَتّ ويقال إنها تكثر في الأشراف‏.‏
وأما الغَمْغمة‏:‏ فإنها قد تكون من الكلام وغيره‏.‏
لأنها صَوتُ من لا يُفهم تقطيع حرُوفه‏.‏
قال عنترة‏:‏ ‏"‏ وصاحبِ ناديته فغَمْغما يُريدُ لَبيك وما تكلَّما قد صار من خوف الكلام أَعْجما ‏"‏ والطمْطمة‏:‏ أن يكون الكلام مُشْبِهاً لكلام العجم والُّلكنة‏:‏ أن تَعْترض في الكلام اللغةُ الأعجمية - وسنفسِّر هذا حرفاً حرفاً وما قيل فيه إن شاء اللّه - واللَّثغة‏:‏ أن يُعدَل بحَرْف إلى حَرْف والغُنّة‏:‏ أن يُشرب الحرفُ صوتَ الخَيْشوم والخُنَة‏:‏ أشد منها والزخيم‏:‏ حَذْف الكلام والفأفأة‏:‏ التردد في الفاء‏:‏ يقال‏:‏ رجل فأفاء تقديره فاعال ونظيره من الكلام ساباط وخاتام يامَيُّ ذات الجَوْرب المنشَقّ أخذتِ خاتامِي بغَير حَقِّ وقال آخر‏:‏ ليس بفأفاء ولا تَمتّام ولا مُحبٍّ سَقَطَ الكلام وأما كشْكشة تميم‏:‏ فإن بني عمرو بن تميم إذا ذَكرتْ كاف المؤنّث فوقفتْ عليها أبدلت منها شينا لقُرب الشين من الكاف في المخرج وقال راجزُهم‏:‏ هل لكِ أن تَنْتفعي وأنفعش فتُدْخلين الَلذْ معي في الَّلذْ مَعَش وأما كسكسة بكر‏.‏
فقوم منهم يُبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين‏.‏
وأما طمطمانية حِمْير‏:‏ ففيها يقول عَنترة‏:‏ تَأوي له قُلُص النَّعام كما أوَتْ حِزَقٌ يمانِيَةٌ لأعجمَ طِمْطِم وكان صُهيب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ صُهيب سابق الروم‏.‏
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبل زوج أُمه شيرويه الأسواريّ‏.‏
وكان زياد الأعجم وهو رجل من بني عبد القيس‏.‏
يَرْتضخ لكنة أعجمية وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه‏:‏ بريد السلطان - وذلك أن بين التاء والطاء نسباً لأن التاء من مخرج الطاء‏.‏
وأما الغُنة فتُستحسن من الجارية الحديثة السن‏.‏
قال ابن الرّقاع ‏"‏ في الظبية ‏"‏‏:‏ تُزْجِي أَغَنّ كأن إبرةَ رَوْقه قلمٌ أصابَ من الدَّواة مِدَادها وقال ابن المُقَفّع‏:‏ إذا كثر تَقْلِيب الِّلسان رقّت حواشيه ولانت عَذَبته‏.‏
وقال العتّابي‏:‏ إذا حُبس اللسانُ عن الاستعمال اشتدَّت عليه مخارج الحروف‏.‏
وقال الراجز‏:‏ كأن فيه لفَفَا إذا نطق من طُول تَحْبِيس وهمّ وأرَقْ



باب في الإعراب واللحن
أبو عُبَيدة قال‏:‏ مَرً الشِّعبيُّ بقَوْم من المَوالي يَتذاكرون النحوَ فقال لهم‏:‏ لئن أَصْلحتموه إنكم لأوَّل من أفسده‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ ليته سَمِع لحنَ صَفْوان وخالد بن صَفْوان وخاقان والفتح بن خاقان والوليدِ بن عبد الملك‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان‏:‏ اللحنُ في الكلام أقبح من التَّفتيق في الثوب والجُدَريّ في الوجه‏.‏
وقيل له‏:‏ لقد عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ شَيَّبنى ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن‏.‏
وقال الحجَّاج لابن يَعْمَر‏:‏ أتَسمعني ألحن قال‏:‏ لا إلاّ أنه ربما سَبَقكَ لسانُك ببعضه في آن وآن قال‏:‏ فإذا كان ذلك فعَرِّفني‏.‏
وقال المأمون لأبي عليّ المعروف بأبي يَعْلى المِنْقريّ‏:‏ بلغني أنك أُمِّيّ وأنك لا تقيم الشِّعر وأنك تَلحن في كلامك فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر قال المأمون‏:‏ سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً وهو الجهل ياجاهل إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة وفيك وفي أمثالك نَقيصة وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب وقد قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ‏"‏‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروانً‏:‏ الإعراب جمالٌ للوَضِيع واللحن هُجْنة على الشَّرِيف‏.‏
وقال‏:‏ تَعلَّموا النحوَ كما تتعلّمون السًّنن والفرائض‏.‏
وقال رجلٌ للحسن‏:‏ إنَّ لنا إماماً يلحن قال‏:‏ أمِيطوه ‏"‏ عنكم فإن الإعراب حِلْية الكلام ‏"‏‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ النَّحوُ يَبْسُط من لسان الأَلْكن والمرءُ تُكْرمه إذا لم يَلْحَنِ فإذا طلبتَ من العُلوم أَجلَّها فأَجلُّها منها مُقِيم الألسن وقال آخر‏:‏ النَّحو صَعْب وطويل سُلًمه إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمُهْ زَلَّتْ به إلى الحَضِيض قَدَمُه يُريدُ أن يُعْربه فَيُعْجِمه وقال رجل للحسن‏:‏ يا أبو سَعِيد فقال‏:‏ أحْسَبُ أنّ الدَّوانِق شَغَلتْك عن أن تقول‏:‏ يا أبا سعيد‏.‏
وكان عمرُ بنُ عبد العزيز جالساً عند الوليد بن عبد الملك وكان الوليد لَحَّاناً فقال‏:‏ ياغلام ادعُ لي صالح فقال الغلام‏:‏ ياصالحا قال له الوليد‏:‏ انُقص ألفاً فقال عمر‏:‏ وأنت يا أميرَ المؤمنين فزِدْ ألفاً‏.‏
ودخل على الوليد بن عبد الملك رجلٌ من أشراف قُريش فقال له الوليد‏:‏ من خَتَنَك قال له‏:‏ فلانٌ اليهودي فقال‏:‏ ما تقول ويحك‏!‏ قال‏:‏ لعلّك إنما تَسْأل عن خَتَني يا أمير المؤمنين هو فلان بن فلان‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان‏:‏ أضرّ بنا في الوليد حُبُّنا له فلم نُلْزمه البادية‏.‏
وقد يَستثقل الإعرابُ في بعض المواضع كما يستخفّ اللحنُ في بعضها‏.‏
وقال مالك بن أسماء بن خارجة الفَزاريّ‏:‏ منطقٌ بارعٌ وتَلحنُ أحيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا وذلك أنه من حَكى نادرةً مُضحكة وأراد أن يُوفِّي حروفها حظَّها من الإعرِاب طَمس حُسنها وأَخرجها عن مِقدارها ألا ترى أن مُزَبِّدا المَدِينيّ أكل طَعاماَ فكظَّه فقيل له‏:‏ أَلا تَقِي قال‏:‏ وما أَقي خبز نقي ولحم طَرِي مَرَتي طالق لو وَجدت هذا فيئاً لأكلته‏.‏
قال‏:‏ وكذلك يُستقبح الإعراب في غير موضعه كما استُقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هُبيرة وحُكي عن بعض المغربين في الَّلحن أن جارية له غنّته‏:‏ إذا ما سَمعتُ اللومَ فيها رفضته فَيَدْخل من أُذْنٍ ويَخرج مِن أُخرَى فقال لها‏:‏ مِن أُخرِى يا فاعلة أما علّمتِكٍ أن ‏"‏ من ‏"‏ تَخفض‏.‏
وقال رجل لشُرَيح‏:‏ ما تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه فقال له‏:‏ أباه وأخاه فقال‏:‏ كم لأباه وأخاه قال لأبيه وأخيه قال‏:‏ أنت علّمتني فما أصْنَع وقال بعضُ الشعراء وأَدرك عليه رجل من المُتفصّحين يقال له حَفْص لحناً في شِعْره وكان حَفْص به اختلاف في عَينيه وتَشويه في وجهه فقال فيه‏:‏ لقد كان في عَينيك يا حَفْصً شاغلٌ وأنفٌ كمِثْل الطَّود عما تَتَبَّع تَتَبّع لحناً من كلامٍ مُرَقَّش وخَلقْك مبْنيّ من اللَّحْن أَجمع فعينك إقواء وأنفك مكفأ ووجهك إبطاء فما فيك مرقع



باب في اللحن والتصحيف
وكان أبو حَنيفة لَحَّاناً على أنه كان في الفُتيا ولُطف النَظر واحدَ زمانه‏.‏
وسأله رجل يوماً فقال له‏:‏ ما تقول في رجل تناول صَخْرة فضرب بها رأسَ رجل فقَتله أتُقيده به قال‏:‏ لا ولو وكان بِشْر المَرِيسيّ يقول لجلسائه‏:‏ قَضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجُوه وأهنؤها فسمع قاسم التَّمّار قوماً يَضْحكون فقال‏:‏ هذا كما قال الشاعر‏:‏ إنّ سليمى واللّهُ يَكْلؤها ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤها وبِشر المَرِيسيّ رأْس في الرأْي وقاسم التَّمّار مُتقدم في أصحاب الكلام واحتجاجُه لبِشر أعجبُ من لَحْن بِشر‏.‏
ودخل شَبِيب بن شَيبة على إسحاق بن عيسى يُعزِّيه عن طِفْل أُصِيب به فقال في بعض كلامه‏:‏ أَصْلح الله الأمير إنّ الطفل لا يزال مُحْبنظيا على باب الجنة يقول‏:‏ لا أدْخل حتى يَدخل أبواي قال إسحاق بن عيسى‏:‏ سبحان اللّه‏!‏ ماذا جئتَ به إنما هو مُحْبنطى أما سمعتَ قول الراجز‏:‏ إني إذا أنشدتُ لا أَحبنطي ولا أُحِبُّ كثرةَ التمطِّي قال شَبيب‏:‏ ألي يقال مثل هذا وما بين لا بتَيها أعلم مني بها فقال له إسحاق‏:‏ وهذه أيضاً أللبصرةَ لابتان يالُكع فأبان بتَقريعه عَوَاره فأخجله فسكت‏.‏
قوله المُحبنطي‏:‏ المُمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء وهو بالطاء غير معجمة ورواه شبيب بالظاء المعجمة‏.‏
وقوله ما بين لا بتَيْها خطأ إذ ليس للبصرة لابتان وإنما اللابة للمدينة نوادر من الكلام يقال‏:‏ ماء نُقاخ للماء العذب وماء فُرات وهو أعذب العذب وماء قُعَاع وهو شديد المُلوحة وماء حُراق وهو الذي يَحرق من مُلوحته وماء شرُوب وهو دون العَذب قليلاً وماء مَسُوس وهو دون الشَرُوب وماء شَريب وهو العذب‏.‏
اجتمع المُفضَّل الضّبي وعبدُ الملك بن قرَيب الأصمعي فأنشد المُفضل‏:‏ تُصْمت بالملك تَوْلباً جَذَعا فقال له الأسمعي‏:‏ تولباً جَدِعاً والجَدِع‏:‏ السيء الغذاء‏.‏
فضَجَّ المفَضّل وأَكثر فقال له الأصمعي‏:‏ لو نَفخت في الشَّبُّور ما نفعك تكلّم بكلام الئمل وأَصِب‏.‏
وقال مروان بن أبي حَفْصة في قوم من رُواة الشعر لا يعَلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته‏:‏ زَوامل للأشعار لا عِلْم عندهم بجيِّدها إلاِّ كعِلْم الأباعرِ لَعمرك ما يَدْري البَعير إذا غدا بأوْساقه أو راح ما في الغرائر



باب نوادر من النحو
وإنَّ كِلاباً هذه عَشْر أَبطُنٍ وأنت بَرِىء من قَبائلها العَشْرِ قال‏:‏ فجعلتُ أعجب من قوله عَشْرَ أَبطُن ‏"‏ حيث أنث لأنه عَنَى القبيلة ‏"‏ فلما رأَى عَجبي قال‏:‏ أليس هكذا قولُ الآخر‏:‏ وكان مِجَنّي دون من كنتُ أَتَّقي ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصرُ وقال أبو زيد قلتُ للخليل‏:‏ لم قالوا في تَصْغير واصل‏:‏ أو يصل ولم يقولوا وُوَيصل قال‏:‏ كرهوا أن يُشبه كلامُهم بنبح الكلاب‏.‏
وقال أبو الأسود الدُّؤَلي‏:‏ من العرب من يقول‏:‏ لولاى لكان كذا وكذا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وكم مَوطنٍ لولاي طِحْتَ كما هَوي بأَجْرامه من قنّة النِّيق مُنْهوِي وكذلكَ لولا أنتم ولولاكم ابتداءٌ وخبره محذوف‏.‏
وقال أبو زيد‏:‏ وراء وقُدَّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان وتَصغير قدَّام قُدَّيْدمة وتصغير وراء وُرَيِّئة وقدَّام خمسة أحرف لأن الدال مشدَّدة‏:‏ فأسقطوا الألف لأنها زائدة ولئلا يُصغر اسم على خمسة أحرف‏.‏
أبو حاتم قال‏:‏ يقال أمٌّ بيِّنة الأمومة‏:‏ وعمٌّ بين العُمومة‏.‏
ويقال‏:‏ مَأموم إِذ شُج أم رأسه‏.‏
ورجل مَمُوم‏:‏ إذأ أصابه المُوم‏.‏
وقال المازنيّ‏.‏
يقال في حَسب الرجل أُرْفة ووَصمة وابنة وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب‏.‏
ويقال‏:‏ قذِيَت عينهُ إذا أصاجها الرَّمد‏.‏
وقد يقال في التقديم والتأخير مثلُ قول الشاعر‏:‏ شَرَّ يوميها وأغواه لها رَكِبتْ عَنْز بحِدْج حَملاَ يريد‏:‏ ركبت عَنْز ‏"‏ بحِدْج جملا في شرِّ يوميها‏:‏ نصب لأنه ظرف‏.‏
وقد يُسمى الشيء باسم الشيء إذا جاوره‏.‏
قال الفرزدق‏:‏ أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قَمراها والنجومُ الطَّوالعُ قوله‏:‏ لنا قَمراها‏:‏ يريد الشمس والقمر‏.‏
وكذلك قولُ الناس في العُمرين‏:‏ أبي بكر وعمر‏.‏
الرِّياشي‏:‏ يقال أخذ قِضِّتها وكُعْبتها إذا أخذ عُذرتها‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ المَعيون الذي ليس له منظر ولا مخبر والمَعين - الذي قد أصيب بالعين‏.‏
والمعين‏:‏ الماء الظاهر‏.‏
أبو عُبيدة قال‏:‏ سمعت رُؤبة يقول‏:‏ أباريق يريد على الريق‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لقي أبو عمرو بن العلاء عيسى بن عمر‏.‏
فقال له‏:‏ كيف رَحْلك قال‏:‏ ما تزداد إلا مثَالة قال‏:‏ فما هذه المَعيوراء التي تَرْكض يريد ما هذه الحمير التي تَركب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ إنما يُقال‏:‏ اقرأ عليه السلام‏.‏
وأنشد‏:‏ اقرأ على عَصْر الشَّباب تحية وإذا لقيتَ دداً فَقطْنى من دَدِ وقال الفرزدق‏:‏ وما سبق القيسيُّ من ضَعف عَقله ولكن طَفَت عَلْماء قُلْفة خالدِ ‏"‏ أراد‏:‏ على الماء فحذف ‏"‏‏.‏
وهذا آخر كتاب سيبويه‏.‏
وقال بعض الورَّاقين‏:‏ رأيتُ يا حمَّاد في الصَّيد أرانباً تؤخذ بالأيْدِي إن ذَوي النَّحو لهم أنفسٌ مَعروفة بالمَكْر والكيد يَضرب عبد الله زيداً وما يُريد عبد الله من زيد وأنشد أبو زيد الأنصاري‏:‏ يا قرطَ قُرْطَ حُيَيّ لا أبالكمُ ياقُرطُ إنّي عليكم خائفٌ حَذرُ قُلتُمٍ له اهجُ تَميماً لا أبا لكم في فَم قائِل هذا التُّرابُ والحَجَر فإن بيتَ تميم ذو سمعتَ به بيتٌ به رَأست في عِزِّها مُضر ذو هنا في مكان الذي لا يتغيّر عن حاله في جميع الإعراب‏.‏
وهذه لغة طيء تجعل ذو في مكان الذي‏.‏
حُبًّ المُدَامة ذو سمعتَ به لم يُبق فيّ لغيرها فَضلاَ وبعضُ العرب يقول‏:‏ لا أباك في مكان لا أبا لك ‏"‏ ولأن أبا لك ‏"‏ مضاف‏.‏
لذلك بقيت الألف ولو كانت غير مُعربة لقلت‏:‏ لا أبَ لك بغير ألف‏:‏ وليس في الإضافة شيء يُشبه هذا لأنه حالَ بين المُضاف والمضاف إليه وقال الشاعر‏:‏ أبالموت الذي لا بدُ أني مًلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفينِي وقال آخر‏:‏ وقد مات شَمَّاح ومات مُزَرِّد وأَيّ كريم لا أباكِ يُخلَّدُ وأنشد الفرَّاء لابن مالك العُقيليّ‏:‏ إذا أنا لم أُومَن عليك ولم يَكُن لقاؤُك إلا من وراءُ وراءُ هذا مثل قولهم‏:‏ بين بين‏.‏
وقال محمود الوراق‏:‏ مزَج للصدودُ وصالهنّ فكان أمراً بَيْنَ بَيْنَ وقال الفرزدق‏:‏ وإذا الرّجال رأوا يزيدَ رأيتهم خُضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصارِ قال أبو العبّاس محمد بن يزيد النَّحويّ‏:‏ في هذا البيت شيء مُسْتطرف عند أهل النَّحو‏.‏
وذلك أنه جمع فاعل على فواعل وإذا كان هكَذا لم يكن بين المُذكر والمُؤنث فَرْق لأنك تقول‏:‏ ضاربة وضوارب ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين وذلك قولهم‏:‏ فوارس وهوالك ولكنّه اضطر في الشّعر فأخرجه عن الأصل ولولا الضرورة ما جاز له‏.‏
وقال أبو غَسَّان ‏"‏ رَفيع بن سَلَمة ‏"‏ تلميِذ أبي عُبيدة ‏"‏ المعروف بدَمَاذ يخاطب أبا عثمان النحويَّ المازنيّ ‏"‏‏:‏ تَفكَّرْتُ في النَّحو حتى مَلِل تُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ وأتعبْت بَكْراً وأصحابَه بكلّ المَسائل في كلّ فَن سِوَى أنَّ باباً عليه العَفا ءُ لِلْفاء ياليتَهُ لم يَكُن فكنتُ بظاهره عالماً وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن وللواو بابٌ إلى جَنْبه من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن إذا قلتُ هاتُوا لما يُقا ل لستُ بآتيك أو تَأتين ‏"‏ أَجِيبُوا لما قِيلَ هذا كذا على النَّصب قالُوا لإضمارِ أن وما إنْ رأيتُ لها مَوْضعاً فأَعْرفَ ما قِيلَ إلاّ بفن

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:51 AM

باب التماس الرزق وما يعود على الأهل والولد
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط في سَبِيل اللّه‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد السُّفلى وابدأ ‏"‏ بنَفْسك ثم ‏"‏ بمَنْ تَعُول‏.‏
وقال عمرُ بن الخَطّاب‏:‏ لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول‏:‏ اللهم ارزُقْني وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة وإنّ الله تعالى إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض وتلا قولَ الله جلّ وعلا‏:‏ ‏"‏ فإذا قُضيت الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُم تُفلحُون ‏"‏‏.‏
وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي‏:‏ احرصْ على ما يَنفعك ودَعْ كلامَ الناس فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة‏.‏
ومثلُه قولُ مالك بن دِينار‏:‏ مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه‏.‏
وقال كطاهر بن عبد العزيز‏:‏ أَخبرنا علي بن عبد العزيز قال‏:‏ أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام‏:‏ لا يَنْقص الكاملَ مِن كماله ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه وقال عمرُ بن الخطّاب ‏"‏ رضى الله عنه ‏"‏‏:‏ يا معشرَ القُرَّاء التًمسوا الرِّزْق ولا تَكُونوا عالةً على الناس‏.‏
وقال أكثمُ بن صَيْفيّ‏:‏ مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ غيره‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا دُنياه لآخرته‏.‏
وقال عمرو بن العاص‏:‏ اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً واعمل لآخرتك عمل من يموت غداً‏.‏
وذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل وقالوا‏:‏ صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبَدَ منه كان لا يَنْفتل من صلاة ولا يُفْطر من صيام‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فمن كان يَمُونه ويَقُوم به قالوا‏:‏ كلّنا قال‏:‏ كلُّكم أعبدُ منه‏.‏
ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد فقال‏:‏ ما تصنع قال‏:‏ أتعبد قال‏:‏ ومَن يقوم بك قال‏:‏ أخي قال‏:‏ أخوك أعبدُ منك‏.‏
وقد جعل الله طَلَب الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه من الإنس والجنّ والطير والهوام منهم بتَعْليم ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر ‏"‏ من الناس ‏"‏ يَطْلبونه بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال‏.‏



باب في فضل المال
قال الله تعالى ‏"‏ المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً ‏"‏‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمُجاشِعيّ‏:‏ إن كان لك مال فلك حسَب وإن كان لك خُلًق فلك مُروءة وإن كان لك دِين فلك كَرم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ حَسَب الرجل مالُه وكرَمه دِينه ومُروءته خُلُقُه‏.‏
وفي كتاب الأدب للجاحظ‏:‏ اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم وعَوْنٌ على الدِّين وتأليف للإخوان وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه ومَن لم يكن بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا‏.‏
وقال حكيم لابنه‏:‏ يا بُنيّ عليك بطَلَب المال فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب عدوّك لكفي‏.‏
وقال عبدُ الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشَّباب الصِّحة والمُروءة الصبر والكرِم التَّقْوى والحَسَب المال‏.‏
وكان سعدُ بن عُبادة يقول‏:‏ اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ فإنه لا مَجد إلا بفعَال ولا فَعال إلا بمال‏.‏
وقالت الحُكماء‏:‏ لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه ويَحْمي به مُروءته ويَصِل به رَحِمه‏.‏
وقال عبد الرحمن بن عَوْف‏:‏ يا حَبذا المالُ أصونُ به عِرْضي وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله الغنى وتَلا ‏"‏ وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم ‏"‏ وقولَه‏:‏ ‏"‏ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ‏.‏
وقال خالدُ بن صفْوان لابنه‏:‏ يا بُنَيَّ أوصيك باثنتين لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما‏:‏ درْهمك لمعاشك ودِينك لمعادك‏.‏
وقال عُروة بن الوَرد‏:‏ ذَرِيني للغِنَى أسعى فإنِّي رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ وأحقَرُهم وأهونُهم عليهم وإنْ أمسى له حَسب وخِير يُباعده القريبُ وتَزْدرِيه حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير وتُلْفِي ذا الغنى وله جَلالٌ يكاد فؤادُ صاحبه يَطير قلِيل ذَنْبُه وَالذنْبُ جم ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور قَلِيلٌ ذَنْبُه وَالذَّنْبُ جم ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور سأكسبُ مالاً أو أموتَ ببَلدة يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي وقال آخر‏:‏ سأعْمل نَصَّ العِيس حتى يَكُفَّني غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ فَللْموتُ خيرٌ من حياة يُرى بهاَ على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ إذا قال لم يُسْمع لِحُسْن مَقاله وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ كأنّ الغِنَى عن أهْله - بُورك الغِنَى - بغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ الرِّياشيّ قال‏:‏ أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش‏:‏ حيْران يَعلم أنّ المالَ ساقَ له ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ لولا ثلاثون ألفاً سُقْتها بِدَراً إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق فمن يَكُن عن كرام الناس يَسْألني فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق وقال آخر‏:‏ أجلّكَ قوم حين صِرْتَ إلى الغِنَى وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ ولو كنتَ ذا عقل ولم تُؤْتَ ثروَةً ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل فشرًّف ذَوِي الأموال حيثُ لَقِيتَهم فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ وأنشد أبو مُحَلَم لرجل من وَلد ‏"‏ طَلِبَة بن ‏"‏ قَيسى بن عاصم‏:‏ وكنتُ إذا خاصمتُ خَصماً كبَبْتُه على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ فلمّا تنازعنا الخُصومة غُلِّبت عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم وأنشد الرِّياشي‏:‏ لم يَبْقَ مِن طَلب الغِنَى إلا التَّعَرضُ للحُتُوف فَلأَقْذِفَنَّ بمًهْجَتي بين الأسِنَّة والسيوف ولأطْلُبَنَّ ولو رَأيتُ الموتَ يلمعُ في الصُّفوف وكان لأحَيْحَة بن الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح فَدَخَل بستاناً له فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها فعُوتب في ذلك فقال‏:‏ تمْرَة إلى تَمرة تَمرات وجَمل إلى جَمل ذَوْد‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ إني مُقيم على الزَّوْراء أعمرُها إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال فلا يَغُرَّنك ذو قُرْبى وذو نَسب من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال كلّ النداء إذا ناديتُ يَخْذًلني إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي قالوا نأيتَ عن الإخوان قلتُ لهم مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي ‏"‏ كان الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان الارْدُن وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف فلما أكثر عليه كَتب إليه‏:‏ إِذَا المَرْء لم يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا وصار عَلَى الأدنين كَلاًّ وأوشَكت صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا فَسِرْ في بِلاد الله والتَمس الغنَى تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا فما طالبُ الحاجات مِنْ حيثُ تبتغى من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا ولا تَرْضَ مِنْ عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا وقال بعضُ الُحَكَماء‏:‏ المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ‏.‏
وأنشد‏:‏ أرَى ذا الغِنَى في النَّاس يَسْعَون حولِه فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا فذلك دَأْبُ النَّاس ما كان ذا غِنَى فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا وأنشد‏:‏ ما النَّاس إلا مع الدُّنيا وصاحبها فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا صنوف المال قال مُعاوية لصَعْصعة بن صُوحان‏:‏ إنما أنت هاتِف بلسانك لا تَنْظُر في أود الكلام ولا في استقامته فإن كنتَ تَنْظُر في ذلك فأخْبرني عن أفضل المال‏.‏
فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إني لأدع الكلامَ حتى يَخْتمر في صَدْرِي فما أرْهِف به ولا أتَلَهَق فيه حتى أقيم أوده وأحَرِّر مَتْنه‏.‏
وإنّ أفضلَ المال لبرة سَمْراء في تُرْبة غَبْراء أو نَعْجَة صَفْراء في رَوْضة خضراء أو عَينْ خَرَّارة في أرض خَوَّارة‏.‏
قال معاوية‏:‏ للّه أنتَ‏!‏ فأين الذِّهب والفِضِّة قال‏:‏ حَجَران يَصْطَكان إن أقبلتَ عليِهما نَفدا وإن تركتَهما لم يزيدا‏.‏
وقيل لأعرابيَّة‏:‏ ما تَقُولين في مائة من المَعز قالتِ‏:‏ قني قيل لها‏:‏ فمائة من الضّأن قالت‏:‏ غِنَى قيل لها‏:‏ فمائة من الإبل قالت‏:‏ مُنَى‏.‏
وقال عبدُ الله بن الحسن‏:‏ غَلّةُ الدُور مسألة وغَلّة النَّخل كَفاف وغَلة الحَبّ مِلْك‏.‏
وفي الحديث‏:‏ أفْضل أموالكم فَرَسٌ في بَطْنها فرس يَتْبعها فرس وعَينْ ساهرة لعَيْن نائمة‏.‏
وأنشد فَرج بن سلام لبعض العِراقيّين‏:‏ ولقد أقولُ لحاجب نُصْحاً له خَلِّ العُروض وبِعْ لنا أرْضا إني رأيتُ الأرض يَبقى نَفْعُها والمال يأكل بعضه بعضا واحذَرْ أناساً يظْهرون محبَّة وعُيونُهم وقُلوبُهم مَرْضىَ تدبير المال قالوا‏:‏ ‏"‏ لا مالَ ‏"‏ لأخرَق ولا عَيْلة على مُصلح وخيرُ المال ما أطعمك لا ما أطعمتَه‏.‏
وقال صاحبُ كليلة ودِمْنة‏:‏ لِيُنْفِق ذو المال مالَه في ثلاثة مواضع‏:‏ في الصَّدقة إن أراد الآخرةَ وفي مُصانعة السُّلطان إن أراد الذِّكْر وفي النِّساء إن أراد ‏"‏ نَعيم ‏"‏ العيش‏.‏
وقال‏:‏ إنّ صاحبَ الدنيا يَطْلب ثلاثة ولا يُدْركها إلاّ بأربعة فأما الثلاثة التي تُطلب‏:‏ فالسَّعة في المعيشة والمنزلة في النَّاس والزاد إلى الآخرة‏.‏
وأما الأربعة التي تُدرك بها هذه الثلاثة‏:‏ فاكتساب المال من أحسن وُجوهه وحُسْن القيام عليه ثم التَّثْمير له ثمّ إنْفاقه فيما يُصْلِح المَعِيشةَ ويُرْضى الأهلَ والإخوان ويَعًود في الآخرة نَفْعه فإن أضاع شيئاً من هذه الأربعة لم يُدْرك شيئاً من هذه الثلاثة إن لم يَكْتسب لم يكنْ له مالٌ يِعيش به وإنْ كان ذا مال واكتسابِ ولم يُحسن القيامَ عليه يُوشِك أن يَفْنى ويَبْقى بلا مال وإن هو أَنْفقَه ولم يُثَمِّره لم تمنعَه قِلّةُ الإنفاق من سُرْعة النَّفاد كالكُحْل الذي إنما يُؤخذ منه على المِيل مثلُ الغبار ثم هو مع ذلك سرَيعٌ نفادُه وإن هو اكتَسب وأَصْلح وثَمِّر ولمِ يُنفق الأموالَ في أبوابها كان بمنزلة الفقير الذي لا مالَ له ثم لا يَمنع ذلك مالَه من أن يُفارقَه ويَذهب حيثُ لا مَنْفعة فيه كحابس الماء في المَوْضع الذي تَنْصَبّ فيه المياه إن لم يَخْرج منه بقَدْر ما يَدْخل فيه مَصَل وسال من نواحيه فيَذْهب الماء ضَياعا‏.‏
وهذا نظير قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذينَ إِذَا أَنْفَقُوا لمْ يُسْرِفوا ولَم يَقْتُرُوا وَكانَ بَين ذلِكَ قَوَاماً ‏"‏ و وقولِه عز وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وَلا تجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كلً البسطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ‏"‏‏.‏
ونظر عبد اللهّ بن عباس إلى دِرْهم بيد رَجُل فقال له‏:‏ إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك‏.‏
يريد أنه لا ينتفعُ به حتى يُنْفِقَه ويَسْتفيد غيرَه مكانَه‏.‏
وقال الحُطَيئة‏:‏ مفيد ومِتْلاف إذا ما سألتَه تَهلَّل وأهتزّ اهتزازَ المُهَنّدَ وقال مُسْلِم بن الوَليد‏:‏ لا يَعْرِف المالَ إلا رَيْثَ يُنْفِقه أو يومَ يَجْمعه للنَّهب والبَدَدِ وقال آخر‏:‏ مُهْلِكُ مالٍ ومُفِيدُ مال وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ‏:‏ مَن كان في يده شيءٌ فَلْيُصْلِحْه فإنّه في زمان إن احتاجَ فيه كان أولَ ما يَبْذُله دينُه‏.‏
وقال المُتلَمِّس‏:‏ وحَبْسُ المال أَيْسَرُ من بُغَاهُ وضَرْب في البِلادِ بغَيْر زاد سَعْد القَصِير قال‏:‏ وَلاّني عُتْبة أموالَه بالحِجاز فلما ودّعته قال لي‏:‏ يا سَعْد تعاهدْ صغير مالي ‏"‏ فَيَكْثُرَ ‏"‏ ولا تُضيِّع كثيرَه فَيَصْغُر فإنه ليس يَشْغلني كثير مالي عن إصلاح قَليله ولا يَمْنعني قليلُ ما في يدي عن الصبر على كثير مما يَنُوبني‏.‏
قال‏:‏ فقَدمْت المدينةَ فحدّثت بها رجالاتِ قُريش ففرَّقوا بها الكُتب على الوُكلاء‏.‏
الإقلال قال أَرِسْططاليس‏:‏ الغِنَى في الغُرْبة وَطَن والمقلّ في أهله غريب‏.‏
أخذه الشاعرُ فقال‏:‏ لَعَمْرُك ما الغريبُ بذي التنائي ولكنّ المُقِلَّ هو الغريبُ إذا ما المرء أَعْوزَ ضاقَ ذَرْعاَ بحاجته وأَبعدَه القريب وقال إبراهيمُ الشَّيباني‏:‏ رأيتُ في جدار من جُدًر بيت المقدس ‏"‏ بيتين مكتوبين بالذَّهب‏:‏ وكُلّ مُقلٍّ حين يَغْدو لحاجةٍ إلى كُل مَن يَلْقى من النَّاس مُذْنِبُ وكان بَنُو عَمِّي يقولون مَرْحباً فلمّا رأوْني مُقْتِراً مات مَرْحب ومِن قَوْلنا في هذا المعنى‏:‏ اقد أسْقطتْ حقّي عليك صَبابتي كما أسْقط الإفْلاسُ حقَّ غَرِيم وأعذَرُ ما أدمى الجُفُونَ من البُكا كريمٌ رأى الدًّنيا بكفِّ لَئِيم أرى كلّ فَدْمٍ قد تَبَحْبَح في الغِنَى وذو الظَّرف لا تَلْقاه غيرَ عَديم قال الحسن بن هانئ‏:‏ الحمدُ للّه لَيس لي نَشَبٌ فَخَفَّ ظَهْري ومَلَّني وَلدِي مَن نَظَرتْ عَيْنُه إليّ فَقَد أحاطَ عِلْماً بما حَوَته يَدِي وكان أبو الشَمَقْمق الشاعر أديباً ظريفاً محارفاً صُعْلوكاً مُتبرَماً قد لَزم بيتَه في أطْمار مَسْحوقة وكان إذا استَفْتح عليه أحدٌ بابَه خرج فَنَظر من فُرَج الباب فإن أعجبه الواقفُ فَتح له وإلا سَكَت عنه‏.‏
فأقبل إليه بعضُ إخوانه فدخل عليه فلما رأى سُوء حاله قال له‏:‏ أبْشر أبا الشَّمَقْمق فإنّا رَوَينا في بَعض الحديث أنّ العارين في الدنيا هم الكاسُون يومَ القيامة‏.‏
قال‏:‏ إن كان والله ما تقول حقًّا لأكونَنَّ بَزَازاً يوم القيامة ثم أنشأ يقول‏:‏ أنا في حالٍ تعالى الله ربِّي أيّ حالِ ولقد أهزلت حتى محت الشَّمسُ خَيالي مَن رَأى شَيْئاً مُحالاَ فأنَا عَين المحال ولقد أفلستُ حتّى حَلَّ أكلي لِعيَالَي في حِرام النَّاس طُرًّا مِن نِسَاء ورجال لو أرَى في النَّاس حُرًّا لَم أكنْ في ذا المِثَال وقال أيضاً‏:‏ أتُراني أرَى من الدَّهر يوماً ليَ فيه مَطِيَّة غيرُ رِجْلي ًكلّما كُنتُ في جَميع فقالوِا قًرِّبُوا للرَّحيل قَرًبتُ نَعْلِى حيثُما كنت لا أخَلِّف رَحْلا مَن رآني فقد رآني ورَحْلي وقال أيضاً‏:‏ لو قد رأيتَ سَرِيري كنتَ تَرْحمني الله يَعلم ما لي فيه تَلْبيسُ واللّه يَعلم ما لي فيه شابكةٌ إلا الحَصيرة والأطْمار والدِّيسُ وقال أيضاً‏:‏ بَرَزت من المَنازل والقِباب فلم يَعْسُر على أحدٍ حِجَابي فمنزليَ الفضاءُ وَسقفُ بَيْتي سماءُ الله أو قِطَع السَّحاب ولا انشَقَّ الثرى عن عُود تَخْتٍ أؤمِّل أنْ أشُدّ به ثِيابي ولا خِفتُ الإبَاقَ على عَبِيدي ولا خِفْتُ الهلاك على دَوَابي ولا حاسَبْتُ يوماً قَهْرماناً مُحاسبةً فأَغْلَظ في حِسابي وفي ذا راحةٌ وفَراغُ بالٍ فَدابُ الدَّهرِ ذا أبداً ودَابي وفي كتاب للهِنْد‏:‏ ما التَّبَع والإخْوان والأهلُ والأصدقاء والأعوان والحَشم إلا مع المال وما أرى المُروءة يُظهرها إلا المال ولا الرّأيَ والقُوّة إلا بالمال ووجدتُ مَن لا مَالَ له إذا أراد أن يتناول أمراً قَعد به العُدْم فيبقى مقَصرأً عما أراد كالماء الذي يَبْقى في الأوْدية من مَطر الصَّيف فلا يَجْري إلى بحر ولا نهر بل يَبْقى مكانَه حتى تَنشَفَه الأرضُ ووجدتُ مَن لا إخوانَ له لا أهلَ له ومَن لا وَلد له لا ذِكر له ومَن لا عَقْل له لا دُنيا له ولا آخرةَ له ومَن لا مال له لا شيءَ له لأن الرجل إذا افتقر رَفَضَه إخوانُه وقَطعه ذوو رَحمه وربما اضطرتْه الحاجة لِنفْسه وعياله إلى التماس الرِّزق بما يُغَرِّر فيه بدينه ودُنياه فإذا هو قد خَسِر الدُّنيا والآخرةَ فلا شيء أشدُّ من الفقر‏.‏
والشَّجَرةُ النابتة على الطريق المأْكولة من كلِّ جانب أمثلُ حالاً من الفقير المُحتاج إلى ما في أيْدي الناس والفَقرُ داعٍ صاحِبَه إلى مقْت الناس ومُتْلِف للعَقْل والمُروءة ومُذْهب لِلعلْم والأدب ومَعْدن للتُّهمة ومَجْمَع للبَلايا‏.‏
ووجدتُ الرجلَ إذا افتقر أساء به الظنَّ مَن كان له مُؤْتمناً وليس مِن خَصلة هي للغنيِّ مَدْح وزَيْن إلا وهي للفَقِير ذَمٌ وشَيْن فإن كان شُجاعاً قيل أهْوج وإن كان جَواداَ قيل مُفْسد وإن كان حَليماً قيل ضَعيف وإن كان وَقُوراً قيل بليد وإن كان صَمُوتاً قيل عَي وإن كان بليغاً قيل مِهْذار‏.‏
فالموت أهونُ من الفقر الذي يَضْطر صاحبَه إلى المسألة ولا سيَّما مسألة اللئام فإنَّ الكريم ‏"‏ لو كُلِّفَ ‏"‏ أن يدخل يده في فَم تنِّين ويْخرجَ منه سُمًّا فيَبْتَلِعَه كان أخفَّ عليه من مسألة ‏"‏ البَخيل اللئيم‏.‏
السؤال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأنْ يأخذ أحدُكم أحْبُلَه فَيَحْتطب بها على ظَهره أهونُ عليه من أن يَأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهّ من فَضْله فيسأله أعْطاه أو منعه‏.‏
وقال‏:‏ مَن فَتح علٍى نفسه باباً من السًّؤال فَح الله عليه سَبْعين باباً من الفَقر‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفِيّ‏:‏ كلّ سُؤال وإن قَلَّ أكثرُ منِ كلّ نَوَال وإن جَلَّ‏.‏
ورَأى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهَه رجلا يَسأل بعَرفات فقَنَّعَه بالسَّوط وقال‏:‏ وَيلك‏!‏ أفي مِثل هذا اليوم تَسأل أحداً غيرَ اللّه وقال عبدُ الله بن عباس‏:‏ المساكينُ لا يَعُودون مَريضاً ولا يَشْهَدُون جِنازةً ولا يَحْضُرُون جُمعة وإذا اجتمع الناسُ في أعيادهم ومَساجدهم يَسألون الله منِ فَضْلِه اجتمعُوا يسألون الناسَ ما في أيديهم‏.‏
وقال النّعمان بن النُذر‏:‏ مَن سأل فوْق حَقِّه استحقَّ الحِرْمان ومَن أَلْحَف في مَسْألته استحقَّ المَطْل والرِّفق يُمْن والخُرْق شُؤْم وخَير السَّخاء ما وافق الحاجة وخَير العَفْو مع المَقْدِرة‏.‏
وقال شُرَيح‏:‏ مَن سأل حاجةً فقد عَرض نفْسَه على الرِّق فإن قَضَاها المسئولُ استعبده بها وإن رَدًه عنها رجعَ كلاهما ذليلاً‏:‏ هذا بذُلِّ البُخْل وذاك بذُلِّ الرَّد‏.‏
وقال حَبيب‏:‏ كُلّ السُّؤال شَجىً في الحَلْقِ مُعْترض من دونه شَرَقٌ من تحته جَرض الخُشَنى قال‏:‏ قال أبو غَسان‏:‏ أخبرني أبو زيد قال‏:‏ سأل سائلٌ بمسجد الكوفة وقتَ الظهر فلم يُعْطَ شيئاً فقال‏:‏ اللهم إنّك بحاجتي عالم لا تُعَلَّم أنت الذي لا يُعْوِزك نائل ولا يُحفيك سائل ولا يَبْلغ مَدْحَك قائل أسألك صبراً جميلا وَفَرَجاً قريباً وبصَراً بالهُدى وقُوَّة فيما تُحب وتَرْضى‏.‏
فتبادَروا إليه يُعْطونه فقال‏:‏ وإلله لا رَزأتكم الليلةَ شيئاً ‏"‏ وقد رفعتُ حاجتِي إلى الله ‏"‏ ثم أنشأ يقول‏:‏ ما نالَ باذلُ وَجْهه بِسُؤاله عِوَضاَ ولو نال الغِنى بِسُؤال إذا النًوَال مع السُّؤَال وَزَنْتَه رجَح السؤال وشالَ كلُّ نَوال وقال مسْلم بن الوليد‏:‏ ِسل الناسَ إني سائِلُ الله وَحده وصائنُ عِرْضي عن فُلانٍ وعن فُل وقال عَبيد بن الأبرص‏:‏ َمنْ يَسْأَل الناس يَحْرِموه وسائلُ الله لا يَخِيبُ وقال ابن أبي حازم‏:‏ َلطَيُّ يومٍ ولَيْلتين ولُبْس ثَوْبين بالبَين أَهْوَنُ من مِنَةٍ لقَوْم أغضُّ منها جفُونَ عَيْني لأحْمَدُ اللهّ حين صارتْ حوائجي بَيْنه وبَيْني ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ سُؤَالُ الناس مِفْتَاح عَتِيدٌ لِبَاب الفَقْرِ فألطف في السًّؤَال ‏"‏ وَرَوَى أشعبُ الطَّمَّاع عن عبد الله بن عُمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ يَحْشرٌ اللهّ عز وجل يوم القيامة قوماً عاريةً وجوههم قد أذهب حياءَها كثرةُ السؤال ‏"‏‏.‏
سؤال السائل من السائل مدح أبو الشَّمَقْمق مروانَ بن أبي حَفصة فقال له‏:‏ أبا الشَّمقمق أنت شاعرٌ وأنا شاعر وغايتنا كلَّنا السؤال‏.‏
وذَكر أعرابيٌ رجلاً بالسُّؤال فقال‏:‏ إنّه أسألُ من ذي عَصَوَين‏.‏
وقال حبيب‏:‏ لم يَخْلُق الرحمنُ أحمقَ لِحْيةً من سائلٍ يَرْجو الغِنى من سائل الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر النّحويّ قال‏:‏ قَدِمْتُ من سَفر فدخل عليّ ذو الرُمة الشاعر فعَرضتُ أن أعطيه شيئاً فقال‏:‏ ‏"‏ كل ‏"‏ أنا وأنتَ نأخذ ولا نُعْطى‏.‏
الشيب قال قيسُ بن عاصم‏:‏ الشيبُ خِطَامُ المَنيّة‏.‏
وقال غيرُه‏:‏ الشيبُ نذيرُ الموت‏.‏
وقال النُّميريّ‏:‏ الثيبُ عُنوان الكِبَر‏.‏
وقال المُعْتَمر بن سُليمان‏:‏ الشيبُ مَوت الشّعَر ومَوت الشّعَر عِلّة لمَوْت البَشر‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ كنتُ أنكِر البَيْضاء فصِرْتُ أنكِر السَّوداء فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدَل‏.‏
وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ يا رسولَ اللّه‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَتْني هُود وأخواتُها‏.‏
وقيل لعبد الملك بن مَرْوَان‏:‏ عَجِل عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ شَيَّبَني اْرتقاء المَنابر وتَوَقُّع اللّحن‏.‏
وقيل لرجل من الشًّعراء‏:‏ عَجِل عليك الشّيبُ‏!‏ فقال‏:‏ وكيف لا يَعْجَل وأنا أَعْصرُ قَلْبي في عمل لا يُرْجَى ثَوابُه ولا يُؤْمَن عِقابُه‏.‏
وقال حبيبٌ الطائي‏:‏ غَدَا الشّيْبُ مختَطًّا بِفَودِيَ خُطّةً طريقُ الرّدىَ منها إلى النَّفْس مَهْيَعُ هُو الزَوْرُ يُجْفي والمُعاشر يُحْتوى وذو الإلْف يُقْلَى والجديدُ يُرِقّعُ له مَنْظر في العَينْ أبيضُ ناصعٌ ولكنه في القلْب أسْود أسْفع بَكيتُ لقُرْبِ الأجلْ وبُعْدِ قَوات الأملْ ووَافِدِ شيْب طَرَا بعِقْبِ شبابٍ رَحَل شَباب كأنًْ لم يَكُن وشيبٌ كأنً لم يزَل طَواك بَشِيرُ البَقا وجاء بشير الأجل ‏"‏ وقال أيضاً‏:‏ لا تَطْلُبَنْ أثراً بعَينْ فالشَيْب إحدَى الميتَتَين أبْدَى مَقابحَ كلِّ شَين ومَحَا مَحاسِنَ كل زَيْن فإذا رَأتكَ الغانيا تُ رَأينَ منك غُرابَ بَين ولرُيما نافَسْنَ في ك وكُنَّ طَوْعاً لليَدَين أيامِ عممك الشَّبا بُ وأنا سَهل العارِضيَنْ حتى إذا نزل المَشي بُ وَصِرْتَ بين عِمَامتين سَوْدَاءَ حالكةٍ وبَي ضاءِ المَناشرِ كاللُجَين َمزَج الصُّدُودُ وِصاله ن كُنَّ أمراً بَين بَين وصَبرن ما صَبر السَّوا د على مُصانَعة ومَينْ قَفين شرّ َقَفِيَّة وأخذْن منك الأطيَبَينْ فاقْنَ الحَياءَ وَسَلِّ نف سك أو فَنادِ الفَرْقَدَين ولَئِنْ أصابتْك الخُطو بُ بكل مكروه وشَين فلقد أَمِنْتَ بأن يُصِب بك ناظرٌ أبداً بعين وقال حبيب الطائيّ‏:‏ نظرتْ إليّ بعين مَن لم يَعْدِل لمّا تَمَكّن حبُّها من مَقْتَلي لمِّا رأتْ وَضَح المَشِيب بلِمَّتي صَدَّت صُدودَ مُجانِب مُتحمِّلَ فجعلتُ أطلب وصلها بتلطفٍ والشَّيْبُ يَغْمِزُها بأنً لا تَفْعلي وقال آخر‏:‏ صَدَّت أمامةُ لمَّا جِئتُ زائرَها عنِّي بمَطْروفةٍ إنسانُها غَرقُ وراعها الشيبُ في رأسي فقلتُ لها كذاكَ يَصفرُّ بعد الخُضْرة الوَرَق وقال محمد بن أميّة‏:‏ رأتني الغواني الشّيبُ لاح بعارضي فأَعرضنَ عنِّي بالخُدود النّواضِرِ عَيرتني بشيب رأسي نَوار يا ابنةَ العمِّ ليس في الشّيب عارُ إنَّما العارُ في الفِرار من الزّح ف إذا قِيل أينَ أينَ الفِرار ومن قولنا في الشّيب‏:‏ بِدا وَضَحُ المَشيبِ على عِذَارِي وهَل ليلٌ يكونُ بلا نَهارِ وأِلبسني النُّهى ثوباً جديداً وجَرَّدني من الثَوْب المُعار شرَيت سوادَ ذا ببياض هذا فَبدَّلتُ العِمامةَ بالخِمَار وما بِعْتُ الهوَى بَيْعا بشَرْط ولا استثنيت فيه بالخِيَار ومن قولنا فيه‏:‏ قالوا شَبابُك قد وَلَّى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كَرِّ الجَديدَيْنِ صِلْ من هَوِيتَ وإن أبدى مُعاتبة فأطيبُ العَيْش وصلٌ بين إلْفَين وَاقطَعْ حَبَائلَ خِدْنٍ لا تُلاَئمهُ فرَّبمَا ضاقَتِ الدُّنيا على اثنين ومن قولنا فيه‏:‏ جارَ المَشيبُ على رَأسي فَغَيَّره لمّا رَأَى عندنا الحُكَّامَ قد جارُوا َسوادُ المَرْءِ تُنْفِدُه اللَّيَالِي وإِنْ كانت تَصير إلى نَفَادِ فأَسوده يَعود إلى بَياض وأبيضه يَعود إلى سَواد ومن قولنا أيضاً‏:‏ أطلالُ َلهْوك قد أَقوَتْ مَغانيها لم يَبْقَ من عَهدها إلا أَثافيها هذِي المَفَارق قد قامت شواهدُها على فَنائِك والدُّنيا تُزَكِّيها الشَّيبُ سُفْتَجة فيها مُعَنْونة لم يَبْقَ إلاّ أن يسحيها ومن قولنا أيضاً‏:‏ ُنجوم في المَفارق ما تَغُور ولا يَجْرِي بها فلكٌ يَدُورُ كأنّ سواد لِمَّته ظلاً أغارَ من المَشيبِ عليه نُور ألا إنَّ القَتِيرَ وَعِيدُ صِدْق لنا لو كان يَزْجُرنا القَتير نذيرُ الموت أرسلَه إلينا فكذَّبْنا بما جاء النَّذير وقُلنا للنُّفوس لعلِّ عُمْراً يطول بنا وأطولُه قَصير متى كُذبتْ مواعدُها وخانت فأوَّلُها وآخرُها غُرور ولم ألقَ المُنَى في ظلِّ لَهْوٍ بأقمارٍ سحائبُها السُّتور ‏"‏ ولآخر‏:‏ والشّيبُ تَنْغيصُ الصِّبا فاقض اللبابةَ في الشَّبابْ وقال ابن عبّاس‏:‏ الدنيا الصحّة والشباب‏.‏
ولبعضهم‏:‏ في كل يوم أرى بَيضاء قد طَلَعتَ كأنَّما طَلعت في ناظِر البَصرِ لَئن قصَصْتُكِ بِالمِقْرَاض عن نَظري لَمَا قَصصتًكِ عن هَمِّي ولا فِكَري ولابن المُعتزّ‏:‏ جاء المَشيب فما تَعِسْتُ به ومَضى الشَّباب فما بُكايَ عليْه وقال أيضَاَ‏:‏ ماذا تُريدين من جَهْلي وقد غَبَرت سِنُو شَبابي وهذا الشًيبُ قد وَخَطَا أرفِّع الشَّعرة البَيْضاء مُلْتقطاً فيُصْبِح الشَيبُ للسوداء مُلتقِطا وسَوفَ - لا شَكّ - يُعْييِني فأتْركه فطالما أعْمِل المِقْراضَ والمُشُطا ‏"‏ الشباب والصحة قال أبو عمرو بن العَلاء‏:‏ ما بَكت العربُ شيثاً ما بَكَت الشباب وما بلغت به ما يستحقّه‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ أحسن أنماط الشِّعر المَرائي والبُكاء على الشَباب‏.‏
وقيل لكُثَيِّر عَزًة‏:‏ ما ‏"‏ لك لا ‏"‏ تقول الشعر قال‏:‏ ذهب الشبابُ فما أطرب ومات عبدُ العزيز فما - أرغب‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ الدُّنيا العافية والشّباب الصحة‏.‏
وقال محمود الورّاق‏:‏ أليسَ عَجِيباً بأن الفَتَى يُصاب ببَعضٍ الذي في يَدَيْهِ فمن بين باكٍ له مُوجَع وبين مُغذّ مُعَزٍّ إليه ويَسْلًبه الشيبُ شَرْخَ الشبا بِ فليس يُعزِّيه خَلْقٌ عليه قال ابن أبي حازم‏:‏ َولَّى الشَّبابُ فخَلِّ الدَّمعَ ينْهملُ فَقْدُ الشِّبابِ بِفَقْدِ الروح مُتَّصلُ لا تُكْذَبنَّ فما الدُّنيا بأجمعها مِنَ الشَّباب بيومٍ واحدٍ بَدَل وقال جرير‏:‏ وَلَّى الشبابُ حَمِيدةً أيامُه لو كان ذلك يُشْترى أو يُرْجَعُ وقال صريعُ الغواني‏:‏ سَلْ عيش دهرِ قد مَضتْ أيامُه هل يَسْتطيع إلى الرُّجوع سَبيلا وقال الحسنُ ‏"‏ بن هانئ ‏"‏‏:‏ وأراني إذ ذاك في طاعة الجه ل وَفَوْقي من الصِّبا أمراءُ تِرْب عَبْث لرَبْطتي فَصْلُ ذَيْل ولرأْسي ذًؤَابةٌ فَرْعاءُ بقِناع من الشَباب جديدٍ لم ترَقَعه بالخِضاب النَساءُ قبل أنْ يَلْبَس المَشيبَ عِذارى وتبلى عمامتي السوداء وقال أعرابي‏:‏ للهّ أيامَ الشباب وعَصره لو يُستعار جديدُه فيُعارُ ما كان أقصرَ ليلَه ونَهَارَه وكذاك أيامُ السُّرور قِصارُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ وَلّى الشبابُ وكنتَ تَسكن ظِلّه فانظُر لنفسك أَيَّ ظلٍّ تَسكنُ ونَهى المَشيبُ عن الصبا لو أنّه يُدْلى بحُجَّته إلى مَنْ يَلْقن ومن قولنا فيه‏:‏ حَسَر المَشيبُ قِناعَه عن رأسه وصَحَا العواذلُ بعد طول مَلام فكأنَّ ذاك العيشَ ظل غمامةٍ وكأنّ ذاك اللهوَ طيفُ منام ‏"‏ ومن قولنا فيه‏:‏ ولو شِئتُ راهنتُ الصَبابةَ والهوَى وأَجْريتُ في اللّذات من مائتين وأسبلتُ من ثَوْب الشّباب وللصّبا عليّ رداءٌ مُعْلَم الطَرَفَينْ ‏"‏ وقال آخر‏:‏ إِنّ شَرْخَ الشّبابِ والشّعرِ الأس ود ما لم يُعاصَ كان جُنونَا وقال آخر‏:‏ قالتْ عَهِدْتُكَ مجنوناً فقلتُ لها إنّ الشّبابَ جُنونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ومن قولنا في الشباب‏:‏ كنتُ إلْفَ الصِّبا فَوَدَّعني وَداعَ مَن بانَ غيرَ مُنْصَرفِ أيامُ لهوِي كظِلِّ إسْحَلة وذا شَبابي كروضة أنًف ومن قولنا فيه‏:‏ شبابي كيف صِرْتَ إلى نَفَاد وبُدِّلتَ البياضَ منَ السَّوادِ فِراقُك عَرًف الأحزان قَلبي وفَرَّق بين جَفْني والرُّقاد فيا لنعيم عَيْشِ قد تَولى ويا لغليل حُزْنٍ مستفاد كأني مِنْك لم أرْبَع برَبْع ولم أَرْتَدَّ به أحْلَى مَراد سَقى ذاك الثَّرَى وَبْلُ الثَرَيَّا وغادىَ نَبْته صوْبُ الغوادِي فكم لي من غَلِيلٍ فيه خافٍ وكم لي مِن عَويلٍ فيه بادِي زمانٌ كان فيه الرُّشد غَيّا وكان الغَيُّ فيه من الرًشاد يُقبِّلني بدلٍّ من قَبُول ويُسْعدني بوٍصْل من سُعاد وأجنُبه فيُعطِيني قياداً ويَجْنُبني فأعْطيه قِيَادي



الخضاب
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ غَيِّروا هذا الشّيبَ ‏"‏ وجَنِّبوه السوادَ ‏"‏‏.‏
وكان أبو بكر يَخْضب بالحِنَّاء والكَتَم‏.‏
وقال مالك بنُ أسماء بن خارجة لجاريته‏:‏ ‏"‏ قُومي ‏"‏ اخضبِي رأسي ولِحيتىِ فقالت‏:‏ دَعْني قد عَييت بما أُرقِّعك‏.‏
فقال مالك بنُ أسماء‏:‏ عَيَّرْتِني خَلَقاً أَبليتُ جِدَّته وهل رأيت جَديداً لم يَعُدْ خَلَقَا ودخلِ أبو الأسود الدُؤليّ على معاوية وقد خَضَب فقال‏:‏ لقد أصبحتَ يا أبا الأسود جميلاَ فلو عَلَّقت تميمة‏.‏
فأنشأ أبو الأسود يقول‏:‏ أَفْنى الشّبابَ الذي فارقتُ بهجَته مَرُّ الجديدَيْن من آتٍ ومُنْطلقِ لم يُبْقِيا ليَ في طُول اختلافهما شيئاً يُخاف عليه لَذْعةُ الحَدَق وذُكر عن الأصمعيّ قال‏:‏ بَلغني عن بعض العَرب فصاحةٌ فأتيتُه فوجدتُه يَخْضب فقال‏:‏ يا بن أخي ما الذيَ أَقصدَك إليِّ قلتُ‏:‏ الاستئناسُ بك والاستماع من حديثك قال‏:‏ يا بن أخي قَصدْتَني وأنا أخْضِب والخضاب من مُقدِّمات الضّعف ولطالما فَزّعت الوُحوش وقُدْت الجيوش وَرَوَّيْت السّيف وقَرَيت الضَّيف وحَميت الجارَ وأبيت العار وشَرِبْتُ الرَّاح وجالستُ المِلاَح وعاديت القُروم وعَلوت الخُصوم واليوم يا بن أخي الكِبَرُ وضعف البصر تركا من بعد الصَّفو الكَدَر وأنشأ يقول‏:‏ شَيْبٌ نُعَلِّله كيما نُسرّ به كهيئة الثَّوب مطويا على خِرَقِ فكنتُ كالغُصْ يَرْتاح الفؤادُ به فصرْتُ عُوداً بلا ماءٍ ولا وَرَق صَبْراً على الدَّهر إنِّ الدّهر ذو غِيَرٍ وأهْلُه منه بين الصفو والرَّنَق ‏"‏ ودخل مُعاويةُ على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جاريةٌ في حِجْرها عودٌ فقال‏:‏ ما هذا يا بن جعفر فقال‏:‏ هذه جارية أروَيها رقيقَ الشعر فَتَزِيده حُسناً بحُسْن نَغْمتها‏.‏
قال‏:‏ فَلْتقل‏.‏
فحرَّكت عُودَها وغنَّت وكان معاوية قد خَضب‏:‏ أليس عندك شُكْرٌ للَّتي جَعلتْ ما ابيضَ من قادمات الرِّيش كالحُمَم جَدَّت منك ما قد كان أخْلَقه رَيْبُ الزمان وصَرْفُ الدهر والقِدَم فحرَّك معاويةُ رجلَه فقال له ابن جعفر‏:‏ لم حركت رجلَك يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ كلُّ كريم طَروب‏.‏
وقال محمود الورّاق في الخِضاب‏:‏ للضيف أَنْ يُقرَى ويُعْرفَ حقُّه والشَّيبُ ضيفُك فاْقْرِه بِخِضَابِ وافي بأكْذَب شاهِد ولربَّما وافي المَشيبُ بشاهِدٍ كذّابِ فافسَخ شهادتَه عليك بخَضبِه تَنْفي الظُّنون به عن المُرْتاب فإذا دنا وَقْتُ المَشيب فخلِّه والشَّيبَ يذهبُ فيه كلِّ ذَهاب وقال آخر‏:‏ وقائلةٍ تقولُ وقد رَأتنْي أًرَقِّع عارضَيّ من القَتِيرِ عليك الخِطْرَ أن تُدَنى إلى بِيضٍ ترائبُهنّ حُور فقلتُ لها المشيبُ نَذِيرُ عُمْري ولستُ مُسَوِّداً وجهَ النَّذير إنّ شَيباً صَلاحُه بخِضَاب لَعَذَابٌ مُوَكَّلٌ بِعَذَاب فوَحَقِّ الشَّباب لولا هَوَى الْبِي ض وأَنْ تَشْمَئِزّ نفسُ الكَعَاَب لأرَحْتُ الخَدًّين مِن وَضر الْخِط ر وآذنتُ بانقضاء الشَّباب وقال غيره‏:‏ َبكَرت تحسِّن لي سوادَ خِضابي لكأنّ ذاك يُعيدني لِشَبابي وإذا أدِيمُ الوَجْه أَخْلَقَه البِلَى لم يُنتَفَع فيه بحُسْن خِضاب ماذا تُرَى يجْدِي عليكِ سوادهُ وخلافُ ما يُرْضيك تحت ثِيابي ما الشَيبُ عندي والخضاب لواصِفٍ إلا كَشَمس جلَلَت بسَحاب تَخْفي قليلاً ثم تَقْشَعه الصَبا فيصيرُ ما سُتِرَت به لِذَهاب ومن قولنا هذا المعني‏:‏ أصمَّم في الغَواية أم أَنابا وشَيبُ الرَّأس قد خَلَس الشَّبَابا إذا نَصل الخِضاب بَكى عليه وَيَضحَك كلما وَصَل الخضابا كأن حمامةً بيضاءَ ظَلَّت تُقاتل في مَفارقه غُرابا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن شَاب شَيْبة في الإسلام كانت له نُوراً يومَ القيامة‏.‏
وقال ابن أبي شَيبة‏:‏ نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن نَتْف الشَّيب وقال‏:‏ هو نُور المُؤمن‏.‏
وقالوا‏:‏ أوَّل مَن رأى الشيب إبراهيمُ خليل الرحمن فقال‏:‏ يا ربِّ ما هذا قال له‏:‏ هذا الوَقار قال‏:‏ ربِّ زِدني وقارًا‏.‏
وقال أبو نُواس‏:‏ يَقُولون في الشّيب الوقارُ لأهْلِه وشَيبي بحمد الله غير وقارِ وقال غيرُه‏:‏ يقُولون هلْ بعد الثلاثين مَلْعب فقلتُ وهل قبلَ الثلاثين مَلْعبُ لقد جَلَّ قَدْرُ الشَيب إن كان كُلّما بَدت شَيْبةٌ يَعْرَى من اللَّهو مَركب دخل أبو دُلَف على المأمون وعنده جارية وقد ترك أبو دُلف الخِضَابَ فغمز المأمونُ الجاريَةَ فقالت ‏"‏ له ‏"‏‏:‏ شِبْت أبا دُلف إنا لله وإنا إليه راجعون ‏"‏ لا ‏"‏ عليك‏!‏ فسكت أبو دُلف‏.‏
فقال له المأمون‏:‏ أجِبْها أبا دُلف‏:‏ فأطرق ساعةً ثم رَفع رأسه فقال‏:‏ تَهزأت أن رأت شيْبي فقلتُ لها لا تَهْزَئِي مَن يطل عُمرٌ به يَشبِ شَيْبُ الرِّجال لهم زينٌ وَمَكْرُمة وَشَيْبُكًن لَكُنّ الوَيْلُ فاكتئبي وقال محمود الوراق‏:‏ وعائب عابني بشيبٍ لم يَعْدُ لمّا ألم وَقْتَه فقلتُ للعائبي بشيبي ياعائبَ الشَيب لا بَلغتَه ‏"‏ أنشدني أبو عبد الله الإسْكَنْدراني ‏"‏ معلَم الإخْوة‏:‏ وممّا زادَ في طول اكتئابي طلائعُ شيبتين ألمتا بي فأمِّا شَيْبَةٌ فَفَزِعْتُ فيها إلى المِقراض من حُبِّ التَّصابيِ وأمّا شَيْبةٌ فَعَفَوت عنها لتَشْهد بالبَرَاء من الخِضاب ‏"‏ وقال محمد بن مُناذِر‏:‏ لا سَلامٌ على الشَّباب ولا حَي يا الإلهُ الشبابَ من مَعْهودِ قد لَبِسْت الجديدَ من كلّ شيء فوجدتُ الشَّباب شرَّ جَديد صاحبٌ ما يزال يَدْعو إلى الغي ي وما مِن دُعاً له برَشِيد ولَنِعْم المَشيبُ والوازعُ الشَّي - ب ونِعم المًفادُ لِلْمستفيد كبر السن قيل لأعرابيّ قد أَخذته كَبْرة السِّن‏:‏ كيف أصبحتَ فقال‏:‏ أصبحتُ تقيِّدني الشَّعرةُ وأَعثُر بالبَعْرة قد أقام الدهرُ صَعَرِي بعد أن أقمتُ صَعَره‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ آخر ‏"‏‏:‏ لقد كنت أنْكِر البيضاءَ فصرْت أُنْكِر السوداءَ فيا خير مَبْدول ويا شرَّ بَدَل‏.‏
ودخل المُسْتَوْغِرِ بنُ ربيعة على معاويةَ بن أبي سُفيان وهو ابن ثلثمائة سنة فقال‏:‏ كيف تَجدك يا مُسْتوغر فقال‏:‏ أَجِدني يا أميرَ المؤمنين قد لان مِنِّي ما كنتُ أحبّ أن يشتدّ واشتدّ مني ما كنتُ أحبُّ أن يَلين وابيضّ مني ما كنتُ أحبُ أن يسودّ واسودّ مني ما كنتُ أحبّ أن يَبْيضَ ثم أَنشأ يقول‏:‏ سَلْني أنَبِّئك بآياتِ الكِبَرْ نوم العِشاءِ وسُعال بالسَّحَرْ ‏"‏ وقِلَّةَ النَّوْم إذا الليل آعْتَكر ‏"‏ وقِلّة الطُّعْم إذا الزَّاد حَضَر ‏"‏ وسُرْعة الطَّرَف وتَحْمِيج النظر ‏"‏ وتَرْكُك الحَسناءَ في قُبْل الطُّهُر والناسُ يَبْلَوْن كما يَبْلى الشًجَر وقال أعرابي‏:‏ أشْكو إليك وَجَعاً برُكْبتي وَهَدجاناً لم يَكًن في مِشْيتي كهَدَجان الرَّأل خَلْف الهَيْقَتِ وقال آخر‏:‏ وقال جرير‏:‏ تَحِنّ العِظام الرّاجفاتُ من البِلَى ولَيْس لداء الركْبتين طبيبُ وقال أعرابيّ في امرأة ‏"‏ عَجُوز ‏"‏‏:‏ يا بِكْرَ حَوَّاءَ من الأوْلاد وأقدمَ العالم في المِيلادِ عُمْركِ ممدودٌ إلى التَّنادِي فحدًثينا بحَدِيث عادِ ومُبْتدا فِرعون ذي الأوْتاد وكيف حالُ السَّيل بالأطْوادِ وقال آخر‏:‏ إذا عاش سَبْعين عاماً فقد ذَهب المَسرةُ والفَتَاءُ كان في غَطفان نَصْر بنُ دُهْمان قادَ غَطفان وسادَها حتى خرِف وعُمِّر تسعين ومائة سنةٍ حتى اسودَّ شَعرُه ونَبتت أضراسُه وعاد شاباً فلا تُعرف في العرب أعجوبة مثله‏.‏
وقال محمد بن مناذر في رجل من المُعمَّرين‏:‏ إنَّ مُعاذَ بنَ مُسْلم رَجلٌ قد ضَجّ من طُول عُمره الأبدُ قد شابَ رأسُ الزَّمان واكتهل الدَّه ر وأثوابُ عُمْره جدُد يا نَسْرَ لُقمان كم تعيشُ وكم تَسْحَبُ ذَيْلَ الحياةِ يا لُبَد تَسأالُ غِرْبانها إذا حجَلت كيفَ يكون الصّدَاع والرَّمد ودخل الشّعبيّ على عبد الملك بن مَرْوَان فوَجده قد كبا مُهْتَمًّا فقالت‏:‏ ما بالُ أمير المؤمنين قال‏:‏ يا شعبيِّ ذكرتُ قولَ زُهير‏:‏ كأني وقد جاوزت سَبْعين حِجًةً خَلعتُ بها عنِّي عِذَارَ لجامي رَمَتني بناتُ الدهر من حيث لا أَرى فكيف بمن يُرْمى وليس بِرَامي فلو أنني أرْمَى بِنبْلٍ رأيتها ولكنًني أرْمَى بغير سِهام عَلَى الرَّاحَتَيْن تارةً وعلى العصا أُنُوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قِيامي قال له الشًعبيُّ‏:‏ ليس كذلك يا أميرَ المؤمنين ولكن كما قال لَبِيدُ ابن ربيعة وقد بلغ سبعين سنة كأني وقد جاوزتُ سَبْعينَ حِجَّةً خلعتُ بها عن مَنْكِبَّيَّ رِدَائيَا فلما بلغ سبعاً وسبعين قال‏:‏ باتت تَشكّى إلى النفسُ مُجهِشةً وقد حملتُكِ سبعاً بعد سَبْعيناً فإن تُزَادي ثلاثاً تَبْلُغي أملاً وفي الثلاثِ وفاءٌ للثّمانينَا فلما بلغ مائة سنة قال‏:‏ فلما بلغ مائة سنةٍ وعشراً قال‏:‏ أليسَ في مائةٍ قد عاشها رجُلٌ وفي تَكامُل عَشْرٍ بعدها عُمُرُ فلما بلغ ثلاثينَ ومائةً وقد حضرَتْه الوفاة قال‏:‏ تَمَنَئ ابنتاي أن يَعيشَ أبوهما وهل أنا إلا منِ رَبيعةَ أو مُضرْ فقُوما وقُولا بالذي تَعْلمانه ولاتَخْمِشَا وجها ولا تَحْلِقَا شَعَر وقولا هو المرءُ الذي لا صَدِيقَه أضاع ولا خانَ الخليلَ ولا غَدر إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلام عليكما ومَن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَر قال الشّعبيّ‏:‏ فلقد رأيت السرورَ في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها‏.‏
وقال لبيد أيضاً‏:‏ أليسَ ورائِي إن تراختْ مَنِيَّتي لُزُومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ أخَبر أخبارَ القُرون التي مَضت أدِبُّ كأنّي كلما قمتُ راكِع فأصبحتُ مثل السيفِ أَخْلق جَفْنَه تَقادمُ عهدِ القَيْن والنَصْلُ قاطِع وقالوا‏:‏ مكتوبٌ في الزّبور‏:‏ مَن بَلغ السبعين أشتكي من غير علّة‏.‏
وقال محمد ابن حسّان النِّبطي‏:‏ لا تَسأل نفسك العامَ ما أعطتك في العام الماضي‏.‏
وقال مُعاويةُ لما أَسنَّ‏:‏ ما مَرَّ شيءٌ كنتُ أستلذّه وأنا شابّ فأجِده اليومَ كما أجده إلا اللبن والحديث الحَسَن‏.‏
عاش ضِرَارُ بن عمرو حتى وُلد له ثلاثةَ عشرَ ذكراً فقال‏:‏ مَن سَرَّه بنوه ساءته نفسُه‏.‏
وقال ابن أبي فَننِ‏:‏ مَن عاشَ أَخْلقتِ الأيام جدَته وخانَه ثِقَتاه السَّمعُ والبَصرُ قالت عَهِدْتًك مَجنوناً فقلتُ لها إنّ الشبَابَ جُنونٌ بُرْؤُه الكِبر قال أبو عُبيدة‏:‏ قيل لشَيْخ‏:‏ ما بَقَى منك قال يَسْبقني مَن بي يَديّ ويُدْركني مَن خَلْفي وأذكر القديمَ وأنْسى الحديثَ وأنْعسِ في الملا وأسْهرُ في الخَلا وإذا قمتُ قَرُبَتِ الأرض مِنِّي وإذا قَعدْتُ تباعدت عَنّي‏.‏
وقال حُمَيد بن ثَوْر الهِلاليّ‏:‏ أرى بَصرِي قد رابني بعد صِحَّةٍ وحَسْبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسْلَمَا وِقال آخر‏:‏ كانت قَنَاتي لا تَلِينُ لغامزٍ فألانَهَا الإصباحُ والِإمْساءُ وَدَعَوْتُ رَبِّي بالسلاَمة جاهِداُ لِيُصِحًني فإذا السلامةُ داء وقال أبو العتاهية ‏"‏ ويروى للقُطاميّ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أَلستَ تَرَى أنّ الزَّمانَ طواني وبدَّل عقلي كلّه وبَرَاني ‏"‏ تَحَيَّفَني عُضْواً فَعُضْواً فلم يَدَع سوى اسمي صحيحاً وحدَه ولِساني ولو كانت الأسماء يَدْخُلها البِلَىِ إذاً بَليَ اسمي لامتدادِ زَمانِي وما ليَ أَبْلَى لِسَبْعِينَ حجَّةَ وَسبع أَتَتْ مِن بعدها سَنَتان إذا عَنًّ لي شيءٌ تَخيَّل دونه شَبيهُ ضَباب أو شَبيهُ دُخان وقال الغَزال‏:‏ أصبحتُ واللهّ مَحْسودأً على أَمدٍ مِنَ الحياة قَصيرِ غير مُمتَدِّ حتى بقيتُ بحمد الله في خَلَفٍ كأنّني بينهم من وَحْشًةٍ وَحْدي وما أُفارق يوماً مَن أفارقه إلا حَسِبْت فِراقِي آخرَ العَهد وقال آخر‏:‏ يا مَن لشيخٍ قد تَخَدَّد لحمُه أَفنَى ثلاثَ عمائمٍ أَلوانا سوداءَ حالكةً وسَحْقَ مُفوَف وأجدَّ لوناً بعد ذاك هِجَانَا قَصَرَ اللّيالي خَطْوَه فَتَدَاني وحَنَينْ قائم صُلبه فتحانىَ إنِّي وإن كان مَسنَّى كِبر على ما قد تَرَيْنَ من كِبَرِى أَعرفُ من قبل أن تُفَارِقَني موقعَ سَهْمِي والسهمُ في الوتَر ‏"‏ من صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه كان حارثةُ بن بَدر الغُدَانيِّ فارسَ بني تميم وكان شاعراً أديبَا ظريفاً وكان يُعاقرا الشَّرابَ ويَصْحب زياداَ فقيل لزياد‏:‏ إنك تَصْحب هذا الرجلَ وليس من شاكِلَتك إنهُ يُعاقر الشراب فقال‏:‏ كيف لا أَصحبه ولم أَسْأله عن شيء قطّ إلا وجدتُ عنده منه عِلماً ولا مَشىَ أمامي فاضطرَّني أن أناديه ولا مَشى خَلْفي فاضطرَّني أن أَلتفتَ إليه ولا راكَبني فمسَّتْ رُكْبتي رُكْبَتَه‏.‏
فلما هلك زيادٌ قال حارثةُ بنُ بَدْر يَرْثيه‏:‏ أَبا المُغِيرَةِ والدُنيا مُغَرِّرَةٌ وإِنّ مَن غَرَّت الدُّنيا لَمَغْرورُ قد كان عِنْدك للمَعْروف مَعْرِفَةٌ وكان عندك للتَّنْكير تَنْكِير لو خلدَ الخيرُ والإسلامُ ذا قِدَمٍ إذاً لخلّدَك الإسلامُ والخِير وتمامُ هذه الأبياتِ قد وقعتْ في الكتاب الذي أَفْرَدناه للمَرَاثي‏.‏
وكان زياد لا يُدَاعب ‏"‏ أحداً ‏"‏ في مجلسه ولا يَضْحَك فاختصم إليه بنو راسِب وبنو الطُّفَاوَة في غُلام أثْبته هؤلاء وهؤلاء فَتَحَيَّر زيادٌ في الحًكم‏.‏
فقال له حارثةُ ابن بدر‏:‏ عِنْدي أكرمَ اللهّ الأميرَ في هذا الغلام أمرٌ إن أذِن الأميرُ تكلّمت به فيه قال‏:‏ وما عندك فيه قال‏:‏ أرى أن يُلْقَى في دِجْلة فإن رَسَب فهو لِبَني راسِب وإن طفا فهو لبني الطُّفَاوَة فتبسَّم زياد وأَخَذَ نَعْليه ودخل ثم خَرج فقال لحارثة‏:‏ ما حَمَلك على الدُّعابة في مَجلسي قال‏:‏ طَيِّبَةٌ حَضرَتْني أبقى الله الأمير خِفْت أن تَفُوتنِى قال‏:‏ لا تَعُدْ إلى مثلها‏.‏
ولما وَليَ عُبيد اللهّ بن زياد بعد موت أبيه اطرحَ حارثةَ بنَ بدر وجفاه‏.‏
فقال له حارثةُ‏:‏ مالك لا تُنْزلني المنزلةَ التي كان يُنزِلني أبوك أتدَّعي أنّكَ أفضلُ منه أو أعقل قال له‏:‏ إنّ أبي كان بَرَع في الفضل بُرُوعاَ لا تَضرّه صُحْبَة مثلك وأنا حَدَث أخشى أن تَحْرِقني بنارك فإنْ شِئْتَ فاتْرُك الشراب وتكونَ أوَلَ داخل وآخِرَ خارج قال‏:‏ واللّه ما تركتُه للّه فكيف أتركه لك قال‏:‏ فتخَيَّرْ بلداً أوَلِّيكه‏.‏
فاختار سُرَّق من أرض العِراق فولاّه إياها‏.‏
فكتب إليه أبو الأسود الدُؤلي وكان صديقاً له‏:‏ أحارَ بنَ بَدْرٍ قَدْ وَليتَ وِلايةً فكُنْ جًرَذاً فيها تَخُون وتَسْرِقُ وباهِ تَمِيَماَ بالغِنى إنّ للغنى لِساناً به المرْء الهيوبة يَنطق وما الناس إلا اثنان إما مُكَذِّبٌ يقول بما يهْوَى وإمَّا مُصدِّق يقُولون أقوالاً ولا يحْكِمُونها فإنْ قيل يوماً حققوا لم يُحَقَقُوا فدع عنك ما قالوا ولا تَكْترث بهم فحظك من مال العِرَاقين سُرّق وكان ابن الوليد البَجليّ وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القَسْرِيّ ولي أصبهان وكان رجلاً مُتَسَمِّتاً مُتَصَلحاً فَقدِمَ عليه حمزةُ بن بيض بن عَوْف ‏"‏ راغباً ‏"‏ في صُحْبته فقيل له‏:‏ إنّ مثل حمزة لا يَصْحب مثلَك لأنه صاحبُ كِلاب ولهو فبعث إليه ثلاثةَ آلاف درْهم وأمره بالانصراف‏.‏
فقال فيه‏:‏ يابن الوليد المُرْتَجَى سَيْبهُ ومن يُجَلي الحدث الحالِكَا سَبِيلُ مَعْروفك مني عَلَى بالٍ فما بالِي عَلَى بالِكا حَشْوُ قميصي شاعرٌ مُفْلِقٌ والجودُ أمْسى حشو سربالِكا يلومك النَّاسُ على صُحْبتٍي والمِسْكُ قد يستصحبِ الرّامِكا إنْ كُنتَ لا تَصحَب إلا فَتى مِثْلك لن تُؤْتىَ بأمْثَالِكا إنيّ آمرُؤ جئتُ أريد الهُدَى فَعُد على جَهلي بإسْلامِكا قال له‏:‏ صدقتَ وقَرَّبه وحَسُنت منزلته ‏"‏ عنده ‏"‏‏.‏
وكان عبدُ الرحمن بن الحَكم الأمير قد عَتَب على نُدمائه‏!‏ فأَمرَ نَصْراً الفتى بإسقاطهم من ديوان عَطائه ولم يَسْتبدل بهم‏.‏
فلما كان بعد أيام أستوحش لهم فقال لِنصر‏:‏ قد استوحشنا لأصحابنا أولئك فقال له نصر‏:‏ قد نالهم من سخْط الأمير ما فيه أدبٌ لهم فإن رأى أن يُرْسل فيهم أرْسلت قال‏:‏ أرْسِلْ‏.‏
فأقبل القومُ وعليهم كآبة فأخذُوا مجالسهم ولم يَنشرحوا ولا خاضُوا فيما كانوا يَخُوضون فيه فقال الأميرُ لِنصر‏:‏ ما يَمنع هؤلاء من الانشراح قال‏:‏ عليهم أَبقى الله الأمير وَجْمَةُ السُخط الذي نالهم قال‏:‏ قُلْ لهم‏:‏ قد عَفَوْنا فليَنْشرحوا‏.‏
قال فقام عبد الرحمن بن الشَمر الشاعرِ المُتنجِّم فجثا بين يديه ثم أنشد شَعراً له أقذع فيه على بعض أصْحابه إلا أنه خَتمه ببيتين بديعين وهما‏:‏ فيا رَحْمَةَ الله في خَلْقه ومَن جُوده أبداً يَسْكُبُ لئن عِفْتَ صُحْبة أهل الذُّنوب لقلَّ مِن الناس من يُصْحَب وأَحسنُ ما قيل في هذا المعنى قولُ النابغة‏:‏ ولمسْتَ بِمُسْتَبْق أخا لا تَلُمّه على شَعَثٍ أيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ قولهم في القرآن كتب المَرِيسيّ إلى أبي يحيى مَنصور بن محمد‏:‏ اكتب إليَّ‏:‏ القرآنُ خالق أو مَخْلوق فكتب إليه‏:‏ عافانا الله وإياك من كلِّ فِتْنة وجَعَلنا وإِيَّاك من أهل السُّنة وممن لا يَرْغب بنفْسه عن الجماعة فإنه إن تَفْعل فأعْظِم بها مِنَّة وإن لا تَفْعل فهي الهَلَكة ونحن نقول‏:‏ إنّ الكلامَ في القرآن بِدعة يتكلّف المُجيبُ ما ليس عليه ويتعاطى السائل ما ليس له وما نعلم خالقاً إلا اللّه وما سِوى الله فمخلوق والقرآنُ كلام اللّه فانْتَه بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكونَ من الضالين جَعلنا الله وإياك من الذين يَخْشَوْن رَبَّهم بالغيب وهم من الساعة مُشْفِقون‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 01:56 AM

كتاب الجوهرة في الأمثال



‏"‏ قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه ‏"‏‏:‏ قدْ مَضى قولُنا في العِلْم والأدب وما يتولّد منهما ويُنْسب إليهما من الحِكَم النادرة والفِطَن البارعة ونحن قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وَشيُ الكلام وجوهر اللفظ وحَلْى المعاني والتي تخيَّرتْها العربُ وقَدَّمتها العجم ونُطِق بها ‏"‏ في ‏"‏ كل زمان وعلى كلِّ لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها ولا عَمَّ عُمومَها حتى قيل‏:‏ أسير من مثل‏.‏
‏"‏ وقال الشاعر ‏"‏‏:‏ ما أنتَ إلا مَثَلٌ سائرُ يَعْرفه الجاهلُ والخابرُ وقد ضرب الله عزَّ وجلَّ الأمثالَ في كتابه وضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه قال اللهّ عز وجل‏:‏ ‏"‏ يَا أَيُّهَا الناسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَه ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَينْ ‏"‏‏.‏
ومِثْلُ هذا كثير في آي القرآن‏.‏
فأوّلُ ما نبدأ به أمثالُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ثم أمثالُ العلماء‏.‏
ثم أمثالُ أكْثَم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجِمهر الفارسيّ وهي التي كان يَسْتَعملها عفرُ بن يحيى في كلامه ثم أمثالًُالعرب التي رواها أبو عُبيد وما أشبهها من أمثال العامة ثم الأمثالُ التي أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ضرب الله مثلاً صِراطاً مُستقيماً وعلى جَنْبي الصراط أبوابٌ مُفَتَحة وعلى الأبواب سُتور مَرْخِيَّة وعلى رأس الصراط داعٍ يقول‏:‏ ادخُلوا الصراطَ ولا تَعْوَجُّوا‏.‏
فالصراطُ الإسلامِ والستورُ حدودُ اللّه والأبواب محارمُ اللّه والداعي القرِان‏.‏
وقال ‏"‏ النبي ‏"‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَثلُ المُؤْمن كالخامة من الزرع يُقَلِّبها الريِحُ مرَّة كذا ومرَة كذا ومَثلُ الكافر مثل الأرزَة المُجْذِيَة على الأرض ‏"‏ حتى ‏"‏ يكون انجعافُها بِمَرّة‏.‏
وسأله حُذَيفة‏:‏ أبعدَ هذا الخير شرّ يا رسول اللّه فقال‏:‏ جماعة ‏"‏ على ‏"‏ أقْذَاء وهُدْنَة على دَخَن‏.‏
وقولُه حين ذَكر الدنيا وزينتَها فقال‏:‏ إنَّ مما يُنْبت الرّبيعُ ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلِمّ‏.‏
وقال لأبي سُفْيان‏:‏ أنت أبا سفيان كما قالوا‏:‏ كلُّ الصيد في جَوْف الفَرَا‏:‏ وقال حين ذكر الغُلوّ في العِبَادة‏:‏ إنّ المنبَتّ لا أرضاً قَطع ولا ظَهْراً أبْقى‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إياكم وخَضرَاءَ الدِّمن‏.‏
قالوا‏:‏ وما خَضراء الدِّمن قال‏:‏ المرأةُ الحَسْناء في المَنْبت السّوء‏.‏
وذكر الرِّبا في آخر الزمان وافْتِنَانَ الناس به فقال‏:‏ مَن لم يَأكلْه أصابه غُبارُه‏.‏
وقال‏:‏ الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الولدُ لِلْفراش وللعاهر الحَجَر‏.‏
وقال في فرس‏:‏ وجدتُه بَحْراً‏.‏
وقال‏:‏ إنّ من البيان لَسِحراً‏.‏
وقال‏:‏ لا ترْفع عصاك عن أهلك‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يُلْدغ المؤمن من جُحر مرَّتين‏.‏
وقال‏:‏ الحَرْب خدَعة‏.‏
وله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أمثالٌ كثيرة غيرُ هذه ولكنَّا لم نذهب في كل باب إلى استقصائه وإنما ذهبنا إلى أن نِكْتَفيَ بالبعض ونَسْتدلّ بالقليل على الكثير ليكونَ أسهلَ مَأخذاً للحفظ وأبرأ من المَلالة والهرب‏.‏
وتفسيرها‏:‏ أمِا المثل الأول فقد فَسَّره النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأما قوله‏:‏ المؤمن كالخامة والكافر كالأرْزة فإنَه شَبه المُؤْمن في تصرّف الأيام به وما يناله من بلائها بالخامة من الزَرْع تُقلَبها الريحُ مرة كذا ومرة كذا‏.‏
والخامة ‏"‏ في قول أبي عُبيد ‏"‏‏:‏ الغَضّة الرَّطبة من الزَرع‏.‏
والارْزة‏:‏ واحدة الأرز وهو شجر له ثمر يقال له الصَّنَوْبر‏.‏
والمُجْذِية‏:‏ الثابتة وفيها لغتان‏:‏ جَذَي يجذو وأجْذَى يجذِي‏.‏
والانجعاف‏:‏ الانقلاع يقال‏:‏ جَعفت الرجل إذا قلعتَه وصرعتَه وضربت به الأرض‏.‏
وقوله لحُذيفة‏:‏ هُدْنة على دَخَن وجَمَاعة على أقذاء أراد ما تَنطوي عليه القُلوب من الضًغائن والأحقاد فشبّه ذلك بإغضاء الجفون على الأقذاء‏.‏
والدَّخن‏:‏ مأخوذ من الدُّخان جعله مثلا لما في الصُّدور من الغِلّ‏.‏
وقوله‏:‏ إنَ مما يُنبت الرّبيع ما يَقْتُل حَبَطاً أو يُلمّ فالحَبط كما ذكر أبو عُبيد عن الأصمعيّ‏:‏ أن تأكل الدابة حتى تَنْتفخ بطنُها وَتمْرَض منه يقال‏:‏ حَبِطَتِ الدَّابةُ تَحْبِط حَبَطاً‏.‏
وقوله‏:‏ أو يُلم معناه‏:‏ أو يَقْرُب من ذلك ومنه قوله إذ ذكر أهل الجنة فقال‏:‏ إنّ أحدَهم إذا نَظر إلى ما أعدَّ الله له في الجنَّة فلولا أنه شيء قَضَاه الله له لألمّ أن يَذهب بَصرُه ‏"‏ يَعْنى ‏"‏ لما يَرى فيها يقول‏:‏ لَقَرُب أن يَذهب بصرُه‏.‏
وقوله لأبي سُفيان‏:‏ كلُّ الصَّيد في جَوْف الفَرا فمعناه أنّك في الرجال كالفَرا في الصيد وهو الحمار الوَحْشيّ وقال له ذلك يتألّفه على الإسلام‏.‏
وقولُه حين ذكر الغلوَّ في العبادة‏:‏ إن المنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى‏.‏
يقول‏:‏ إن المُغِذَّ في السير إذا أَفرط في الإغذاذ عطبت راحلتُه من قبل أن يَبْلُغ حاجَته أو يَقْضيَ سَفَرَه فشبّه بذلك مَن أَفْرَطَ في العِبادة حتى يَبْقى حَسِيراً‏.‏
وقوله في الرِّبا‏:‏ من لم يأكله أصابه غُباره إنما هو مَثل لما ينال الناسَ من حُرْمته وليس هناك ‏"‏ تُراب ولا ‏"‏ غُبار‏.‏
وقولُه‏:‏ الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك أي مَنع منه كأنه قَيْدٌ له‏.‏
وفي حديث آخر‏:‏ لا يَفْتك مؤمن‏.‏
وقوله في فرس‏:‏ وجدتُه بَحْراً وإنّ من البيان لَسِحْراً إنما هو على التمثيل لا على التحقيق‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ الولد لِلفِراش وللعاهر الحَجَر‏.‏
معناه‏:‏ أنه لا حق له في نَسب الوِلد‏.‏
وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا ترفَعْ عَصاك عن أهلك إنما هو الأدب بالقَول ولم يُرد ألا تَرْفع عنهم العصا‏.‏
وقوله‏:‏ لا يُلْدغ المُؤمن من جُحر مرّتين معناه أنّ لَدْغَ مرة يَحْفظ من أخرى‏.‏
وقولُه‏:‏ الحرب خَدعة يريد أنها بالمكر والخديعة‏.‏
خَطب النعمانُ بن بَشِير على مِنْبر الكوفة فقال‏:‏ يا أهلَ الكوفة إني وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم كالضّبُع والثَعلب أتيا الضَب في جُحْره فقالا‏:‏ أبا حِسْل‏:‏ قال‏:‏ أجِبْتما ‏"‏ لمَ جِئْتُما ‏"‏ قالا‏:‏ جِئناك نَخْتصم قال‏:‏ في بَيْته يؤتىَ الحَكم قالت الضَبع‏:‏ فتحتُ عَيْبتي قال‏:‏ فِعْلَ النساء فعلتِ قالت‏:‏ فلقطتُ تمرة قال‏:‏ حُلْوًا جنيتِ قالت فاختطفها ثُعالة قال‏:‏ نفسه بَغَى - ثُعالة‏:‏ اسم الثعلب الذكر والأنثى - قالت‏.‏
فلطمتُه لطمةً قال حقًا قضيتِ قالت‏:‏ فلَطَمني أخرى قال‏:‏ كان حُرّا فانتصر قالت‏:‏ فاحكم الآن بيننا قال‏:‏ حَدِّث حديثين امرأة وإن لم تَفْهم فأَرْبعة‏.‏
وقال عبد الله بنً الزُّبير لأهل العِراق‏:‏ وَدِدْتُ واللّه أنّ لي بكم من أهل الشام صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم‏.‏
قال له رجلٌ منهم‏:‏ أتدري يا أَميرَ المؤمنينَ ما مَثلنا ومَثلك ومَثل أهل الشام قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ ما قاله أعشى بكر حيث يقول‏:‏ عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقت رجلاً غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجلُ أَحببناك نحن وأحببتَ أنتَ أهلَ الشام وأحب أهل الشام عبد الملك ‏"‏ بن مروان ‏"‏‏.‏
مثل في الرياء يحيى بنُ عبد العزيز قال‏:‏ حدَّثني نعَيم عن إسماعيل ‏"‏ عن ‏"‏ رجلٍ من ولد أبي بكر الصدِّيق رضوانُ اللّه عليه عن وَهْب بن مُنَبِّه قال‏:‏ نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فَخّا فجاءت عُصفورة فنزلت عليه فقالت‏:‏ مالي أراك مُنْحَنياً قال‏:‏ لكثرة صلاتي انحنيت قالت‏:‏ فمالي أراك باديةً عِظامُك قال‏:‏ لكثرة صيامي بدت عظامي قالت‏:‏ فمالي أرى هذا الصُّوفَ عليك قال‏:‏ لزُهْدي في الدُّنيا لبستُ الصُوف قالت‏:‏ فما هذا العِصا عندك قال‏:‏ أتوكأ عليها وأقضي ‏"‏ بها ‏"‏ حَوائجي قالت‏:‏ فما هذه الحبّة في يَدك قال‏:‏ قُرْبان إِن مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياها قالت‏:‏ فإنِّي مِسكينة قال‏:‏ فخَذيها‏.‏
فَدَنت فَقَبضت على الحبّة فإذا الفخُّ في عُنقها‏.‏
فجعلت تقول قَعِي قَعِي تفسيره‏:‏ لا غرّني ناسكٌ مُرَاءٍ بعدك أبداً‏.‏
داودُ بنُ أي هِنْد عن الشّعْبِيّ‏:‏ أنّ رجلاً من بني إسرائيل صاد قُبَّرة فقالت‏:‏ ما تُريد أن تَصنع بي قال‏:‏ أذبحك فآكلُك قالت‏:‏ واللّهِ ما أشْفي من قَرَم ولا أغْنى من جُوع ولكنِّي أعلِّمك ثلاثَ خِصال هي خَيْر لك من أَكْلي‏:‏ أما الواحدة فأعلِّمك إياها وأنا في يدك والثانيةُ إذا صرتُ على هذه الشجرة والثالثة إذا صِرْت على هذا الجَبل‏.‏
فقال‏:‏ هاتِ ‏"‏ الأولى ‏"‏‏.‏
قالت‏:‏ لا تَتَلَهَّفنَّ علٍى ما فاتك فخلَّى عنها‏.‏
فلما صارتْ فوْقَ الشجرة قال‏:‏ هاتِ الثانيةَ قالت‏:‏ لا تصِدِّقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت‏:‏ يا شَقيّ لو ذَبحتني لأخْرجت من حَوْصلتي درَّة وَزْنها عشرون مثقالا‏.‏
قال‏:‏ فَعَضّ علىٍ شَفَتَيْه وتلهّف ثم قال‏:‏ هاتِ الثالثة قالت له‏:‏ أنت قد نَسِيت الاثنتين فكَيف أعلّمك الثالثة ألم أقل لك‏:‏ لا تتلهفنَّ على ما فاتك فقد تلهفت عَلَيّ إذ فُتُّك وقلت لك‏:‏ لا تُصَدِّقن بما لا يكون أنه يكون فصدّقت أنا وعَظْمِي وريشي لا أَزن عشرين مثقالا فكيف يكون في حوْصلتي ما يزنها‏!‏ وفي كتاب للهند‏:‏ مثلُ الدُّنيا وآفاتها ومَخاوفها والموت والمعاد الذي إليه مَصير الإنسان‏.‏
قال الحكيمُ‏:‏ وجدت مثل الدنيا والمَغرُور بالدنيا المَملوءة آفات مثلَ رجل ألجأ خوْفٌ إلى بِئر تدلى فيها وتعلَّق بغُصْنين نابتين على شَفير البئر ووقعتْ رجلاه على شيء فمدَهما فنظر فإذا بحيّات أَرْبع قد أَطْلعن رؤوسهن من جُحورهن ونظر إلى أسفل البئر فإذا بثُعبان فاغر فاهُ نحوَه فرفع بصره إلى الغُصْن الذي يتعلق به فإذا في أصله جُرَذان أبيضُ وأسود يَقْرضان الغُصن دائبيَنْ لا يَفْتُرَان فبينما هو مُغْتمّ بنفسه وابتغاء الحيلة في نجاته إذ نظر فإذا بجانب منه جُحْرُ نَحْل قد صَنَعْن شيئاً من عَسل فَتَطاعم منه فَوَجَدَ حلاوتَه فَشغلته عن الًفِكْر في أمره واْلتماس النَّجاة لنفسه ولم يَذْكُر أنّ رِجْلَيْه فوق أربع حيَّات لا يدْري متى تُسَاوره إحداهن وأنّ الجُرَذَيْنِ دائبان في قَرْض الغُصْن الذي يتعلَق به وأنهما إذا قطعاه وقع في لَهْوة التِّنّين ولم يزل لاهياً غافلاً حتى هَلَك‏.‏
قال الحكيم‏:‏ فشبَّهت الدنيا المملوءة آفاتٍ وشروراً ومخاوفَ بالبئر وشبَّهت الأخلاط التي بُني جَسَدُ الإنسان عليها من المِرَّتين والبَلغم والدَّم بالحيّات الأربع وشَبهت الحياة بالغُصنين اللذين تعلَّق بهما وشَبَّهت الليل والنهار ودورانهما في إفْناء الأيام والأجيال‏!‏ بالجُرَذَين الأبيض والأسود اللذين يَقْرِضان الغُصْنَ دائبَينْ لا يَفْترَان وشبّهتُ الموت الذي لا بد منه بالتِّنين الفاغر فاه وشبَّهْتُ الذي يرى الإنسانُ ويَسمع ‏"‏ ويَطعم ‏"‏ ويَلْمس فَيُلْهيه ذلك عن عاقبة أمره وما إليه مَصِيرة بالعُسَيلة التي تطاعمها‏.‏
من ضرب به المثل من الناس قالت العربُ‏:‏ أَسْخَى من حاتم وأَشجع من رَبيعةَ بن مُكَدَّم وأَدْهَى من قَيْس بن زُهير وأعزُّ من كُلَيب وائل وأَوْفي من السّمَوأَل وأَذْكى من إياس بن معاوية وأَسْود من قَيْس بن عاصم وأَمْنع من الحارث بن طالم وأبلغ من سَحْبان وائل وأَحْلم من الأحْنف بن قيس وأَصْدق من أبي ذرّ الغفاريّ وأكذب من مُسَيلمة الحَنَفيّ وأعيا من باقل وأَمْضى من سُليك المَقَانب وأنْعم من خُرَيم النَّاعم وأحمق من هَبنَّقة وأفْتك من البراض‏.‏
من يضرب به المثل من النساء يقال‏:‏ أشْأم من البَسُوس وأمنع من أم قِرْفة وأحمق من دُغة وأَقْوَد من ظُلْمِة وأبصرَ من زَرْقاء اليمامة - البَسوس‏:‏ جارة جساس بن مُرَّة بن ذهل بن شيْبان ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كُلَيب بن وائل وبها ثارت بين بَكر بن وائل وتَغْلب ‏"‏ الحرب ‏"‏ التي يُقال لها حَرْب البَسوس‏.‏
وأم قِرْفة‏:‏ امرأة مالك بن حُذَيفة بن بَدْر الفَزاريّ وكان يُعَلَق في بيتها خمسون سيفاً كلُّ سيف منها لذي مَحْرَم لها‏.‏
ودُغَة‏:‏ امرأة من عِجْل بن لُجَيم تزوَجت في بني العَنْبر بن عمرو بن تميم‏.‏
وزَرقاء بني نُمير‏:‏ امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء ‏"‏ في اللبن وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم ونظرت الزَرقاء فقالت‏:‏ إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم قالوا لها‏:‏ قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك فكذَّبوها وَصبِّحتهم الخيلُ وأغارت عليهم وقُتلت الزَّرقاء‏.‏
قال‏:‏ فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به‏.‏
وظُلمة‏:‏ امرأة من هُذيل زَنت أربعين عاماً ‏"‏ وقادت أربعين عاماً فلما عَجزت عن الزِّنا والقَوْد اتَّخَذت تَيْساَ وعَنْزاً فكانت تُنْزِى التَيْس على العنز فقِيل لها‏:‏ لم تَفْعلين ذلك قالت‏:‏ حتى أسمع أنْفاس الْجِماع‏.‏
ما تمثلوا به من البهائم قالوا‏:‏ أَشجع من أسد وأَجْبن من الصَّافر وأمْضى من لَيْث عِفَرِّين وأحْذَر من غُراب وأبصر منِ عُقاب ‏"‏ مَلاَع ‏"‏ وأَزْهَى من غُرَاب وِأَذلُّ من قراد ‏"‏ بمَنْسِم ‏"‏ وأَسْمَع من فرَس وأنوَم من فَهْد وأعقُّ من ضب وأجبن من صِفْرِد ‏"‏ وأحقد من جَمَل ‏"‏ وأضرع من سِنَّوْر وأسرَق من زَبابة وأصبر من عَوْد وأَظْلم من حَيّة وأَحنُّ من ناب وأكذبُ من فاخِتة وأعزُّ من بيْض الأنُوق وأَجْوَع من كلْبة حَوْمل وأعزُّ من الأبلق العقوق 0 الصَافر‏:‏ ذو الصَّفير من الطّير والعَوْد‏:‏ المُسِن من الجمال‏.‏
والزَّبابة‏:‏ الفأرة تَسرِق دود الحرير‏.‏
والأنُوق‏:‏ طَيْر يقال إنه‏:‏ يبيض في الهواء‏.‏
وفاخِتة‏:‏ طير يَطير بالرًّطب في غير أيامه‏.‏



ما ضرب به المثل من غير الحيوان
قالوا‏:‏ أَهْدَى من النجم وأجود من الدِّيم وأصْبح من الصّبح وأَسْمَح من البَحر وأنْوَر مِن النَهار وأقْوَدُ من ليل وأمْضى من السيل وأحمق من رِجْلة وأحْسن من دُمية وأَنْزَه منْ روْضة وأَوسع من الدَهناء وآنسُ من جَدْول وأضيق من قَرَار حافِر وأوْحش من مَفازة وأثقل من جَبل وأبقى من الوَحْي في صُمِّ الصِّلاب وأخفُّ من ريش الحَواصِل‏.‏
مما ضربوا به المثل قولهم‏:‏ قَوْس حاجِب وقرْط مارِيَة وحَجَّام سَابَاط وشَقَائِق النعمان وندَامة الكسَعِيِّ وحَدِيث خرافة وكَنْزُ النّطِف وخُفَّا حُنَيْن وعِطْر مَنْشِم‏.‏
أمّا قوسُ حاجب فقد فَسرَّنا خبرَه في كتاب الوفود وأما قُرْط مارية فإِنها مارية بنتُ ظالم بن وَهْب بن الحارث بن مُعاوية الكِنْدِي وأختها هِنْد الهُنود امرأة حُجْر آكل المُرار وابنها الحارث الأعرج الذي ذَكره النابغة والحارثُ الأعْرج خَيْرُ الأنام وإياها يَعْنى حسانُ بن ثابت بقوله‏:‏ أولادُ جَفْنةَ حَوْلَ قَبْر أبيهمُ قبر ابن ماريةَ الكريم المُفضِل وأما حَجام ساباط فإنه كان يَحْجُم الجيوشَ بِنَسِيئةٍ إلى انصرافهم من شدّة كَساده وكان فارسيّا وساباط هو ساباط كِسْرى‏.‏
ونُسبت شَقائق النُّعمان إليه لأنّ النُعمان بنَ المُنذر أمرَ بأن تُحْمَى وتُضْر قَبته فيها استحساناً لها فنُسبت إليه والعربُ تُسَمِّيها الشَقِر‏.‏
وأما خُرافة فإن أنس بنَ مالك يَرْوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها‏:‏ إن من أصدق الأحاديث حديث خُرافة‏.‏
وكان رجلاً من بني عُذْرة سَبتَهْ الجِنّ وكان معهم فإذا استرقوا السمعَ أخبروه فيًخُبِرُ به أهلَ الأرض فَيَجدُونه كما قال‏.‏
وأما كَنْز النَّطِف فهو رجلٌ من بني يَرْبوع كان فقيراً يَحْمل الماء على ظَهْره فَيَنْطُف أي يَقْطُر وكان أغار علىِ مالٍ بَعث به باذانُ من اليمن إلى كِسْرى فأَعْطِى منه يوماً حتى غَرُبت الشمس فَضربت به العربُ المَثل ‏"‏ في كثْرة المال ‏"‏‏.‏
وأما خُفَا حُنَين فإنه كان إِسكافاً من أهل الحيرة ساوَمَه أعرابي بخُفَّين فاختلفا حتى أَغْضبه فأَراد أن يَغِيظ الأعرابيّ فلما ارتحل أخذ أحدَ الخُفين فألقاه في طريق الأعرابيّ ثم أَلقى الآخر بموضع آخر على طَرِيقه فلما مَرَّ الأعرابيّ بالخُف الأول قال‏:‏ ما أشبه هذا بِخُفِّ حُنين لو كان معه صاحبُه لأخذتُه فلمِا مَرَّ بِالآخر نَدِم على تَرْك الأوّل فأناخ راحلتَه وانصرف إلى الأوّل وقد كَمن له حُنين فوَثب على راحلته وذَهب بها وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير خفَّي حُنَين فَذَهبت مَثَلاً‏.‏
وأما عِطْر مَنْشِم فإِنها كانت امرأة تَبيع الحُنوط في الجاهليّة فقِيل للقوم إذا تَحاربوا‏:‏ دَقّوا عِطْر مَنْشِم يُراد بذلك طِيب المَوْتى‏.‏
وأما نَدامة الكُسَعيّ فإنه رجل رَمى فأصاب وظَنّ أنه أخطأ فكَسر قوسَه فلما علم نَدِم على كَسر قوسه فضرِب به المثل‏.‏



أمثال أكثم بن صَيْفِيّ وبُزُرْجمِهْر الفارسي العَقْلُ بالتَّجارب‏.‏
الصَّاحبُ مُنَاسب‏.‏
الصديقُ مَن صَدَّق عَيْنينه‏.‏
الغريبُ مَن لم يَكن له حَبيب‏.‏
رًبَّ بَعيدٍ أقربُ من قَريب‏.‏
القريبُ مَن قَرُب نَفْعُه‏.‏
لو تكاشَفْتم ما تَدافَنْتم‏.‏
خيرُ أهلِك مَن كَفاك‏.‏
خَيْرُ سِلاَحك ما وَقاك‏.‏
خيرُ إخوانك مَن لم تَخْبره‏.‏
رُبّ غَريب ناصحُ الجَيْب وابن أب مُتَّهم الغَيب‏.‏
أخوك مَن صَدَقك ‏"‏ النَّصيحةَ ‏"‏‏.‏
الأخُ مِرآةُ أخيه‏.‏
إذا عزّ أخوك فهُن‏.‏
مُكْرَه أخوك لا بَطل تَباعدُوا في الدِّيار وتَقَاربوا في المحبَّة‏.‏
أيُّ الرِّجال المُهذَّب‏.‏
من لك بأخيك كله‏.‏
إنّك إن فَرَّجت لاقٍ فَرَجا‏.‏
أحسِن يُحْسَن إليك‏.‏
ارحم ترْحم‏.‏
كما تَدين تدان‏.‏
مَن برّ يوماً بُرَّ به والدهرُ لا يُغْترّ به عَيْنٌ ‏"‏ عَرفتْ فَذَ ‏"‏ رَفَتْ‏.‏
في كلِّ خِبْرَةٍ عِبرة‏.‏
مِن مَأْمنه يُؤتىَ الحَذِر لا يَعْدُو المرءُ رِزْقَه وإن حَرَص‏.‏
إذا نَزَل القَدَرُ عَمِي البَصر‏.‏
إذا نَزَل الحَينْ نَزل بين الأذنِ والعَينْ‏.‏
الخَمْرُ مِفْتاح كل شرّ‏.‏
الغِنَا رُقْية الزنا‏.‏
القَناعة مال لا يَنْفد‏.‏
خيرُ الغِنى غِنى النَّفس‏.‏
مُنْساقٌ إلى ما أنت لاقٍ‏.‏
خُذ من العافية ما أعطيت‏.‏
ما الإنسان إلا القَلْب واللِّسان‏.‏
إنّما لك ما أَمْضَيت‏.‏
لا تَتكلَّف ما كُفيت ‏"‏ ولا تضيِّع ما وَليت ‏"‏ القَلَم أَحَدُ اللِّسانيَن‏.‏
قِلّة العِيَال أَحَد اليَسَارَيْن‏.‏
رُبما ضاقت الدُّنيا باثنين‏.‏
لن تَعْدَم الحسناءُ ذاماً‏.‏
لن يَعْدَم الغاوِي لائما‏.‏
لا تَكُ في أَهْلك كالجنازة لا تَسْخر من شيء فَيَحُورَبك‏.‏
أخِّر الشرَّ فإذا شِئتَ تَعَجَّلته‏.‏
صَغير الشرَّ يُوشِك يوماً أن يَكْبُر‏.‏
يُبْصِر القلبُ ما يَعْمَى عنه البَصر‏.‏
الحُرّ حُرٌّ وإنْ مَسّه الضُّر‏.‏
العَبْد عَبْد وإن ساعدَه جَدّ‏.‏
مَن عرف قدرَه استبان أمره‏.‏
مَن سَرّه بَنُوه ساءته نَفْسه‏.‏
من تَعظَّم على الزمان أهانَه‏.‏
مَن تعرَّض للسلطان أرداه ومن تَطامن له تخطّاه مِن خَطا يَخطو‏.‏
كلّ مَبْذول مَمْلول‏.‏
كل ممنوع مَرْغوب فيه‏.‏
كل عزيز تحت القُدْرة ذليل‏.‏
لكل مَقام مَقال‏.‏
لكل زمان رجال‏.‏
لكل أجل كتاب‏.‏
لكل عَمَل ثَواب‏.‏
لكل نبأ مُسْتقر‏.‏
لكل سرّ مُسْتَودع‏.‏
قيمةُ كلِّ إنسان ما يُحْسن‏.‏
أطلُب لكلِّ غَلِق مِفْتاحا‏.‏
أكثر في الباطل يكُن حقّا‏.‏
عند القَنَط يأتي الفَرَج‏.‏
عند الصَّباح يُحْمد السُّرَى‏.‏
الصّدق مَنْجاة والكَذب مَهْواة‏.‏
الاعترافُ يَهْدم الاقتراف‏.‏
رُبّ قول أنفذُ من صَوْل‏.‏
رُبّ ساعة ليس بها طاعة‏.‏
رب عَجلةِ تُعْقِب رَيْثاً‏.‏
ربّ كلام أقطعُ من حُسام‏.‏
بعضُ الجَهْل أبلغ من الحِلم‏.‏
رَبيعُ القَلْب ما اشتهى‏.‏
الهوى شديدُ العَمَى‏.‏
الهوَى الإله المَعْبود‏.‏
الرأي نائمٌ والهوى يَقْظان‏.‏
غَلَب عليك مَن دَعا إليك‏.‏
لا راحةَ لحَسُود ولا وَفاء ‏"‏ لمَلُول ‏"‏‏.‏
لا سرور كطيب النَّفس = العُمْر أقصرُ من أن يَحْتَمِل الهَجْر‏.‏
أحقُّ الناس بالعَفْو أَقدرُهم على العُقوبة‏.‏
خيِرُ العِلم ما نَفع‏.‏
خيرُ القَوْل ما اتُّبع‏.‏
البطْنة تُذْهِب الفِطْنة‏.‏
شَرُّ العَمَى عَمى القَلْب أوْثقُ العُرَى كلمة التَّقوى‏.‏
النِّساء حَبَائل الشّيطان 0 الشَّباب شُعْبة من الجنون‏.‏
الشَّقيّ شَقيٌّ في بطن أمه‏.‏
السَّعِيدُ مَنٍ وعظ بغَيْره لكل امرئ في بَدَنه شُغل‏.‏
مَن يَعْرِف البلاءَ يْصبر عليه المَقادير تريك مالا يَخْطرُ ببالك‏.‏
أفضلُ الزاد ما تزوّد ‏"‏ ته ‏"‏ للمعاد‏.‏
الفحل أحمى للشَّول‏.‏
صاحب الحُظْوة غدا مَن بَلَغ المَدَى‏.‏
عواقبُ الصّبر مَحْمودة‏.‏
لا تُبْلغ الغاياتُ بالأماني‏.‏
الصَّريمةُ على قَدْر العَزيمة‏.‏
الضَّيفُ يثني أو يَذُم‏.‏
مَن تَفكَّر اعتَبر‏.‏
كم شاهد لك لا يَنْطِق‏.‏
ليس منك من غَشَّك‏.‏
ما نَظر لامرىء مثلُ نفسه‏.‏
ما سدَّ فقرك إلا مِلْك يمينك‏.‏
ما على عاقل ضيْعة‏.‏
الغِنَى في الغُرْبة وَطن والمُقِلُّ في أهله غَريب‏.‏
أوَّل المَعرفة الاختبار‏.‏
يَدك منك وإن كانت شَلاَّءَ أنفُك منك وإن كان أجْدع‏.‏
من عُرف بالكَذِب لم يُجُز صِدْقُه ومن عُرف بالصِّدْق جاز كَذِبه‏.‏
الصّحة داعية السَّقم‏.‏
الشباب داعيةُ الهرَم‏.‏
كثرة الصِّياح من الفَشَل‏.‏
إذا قَدُمت المُصيبة تُركت التَّعزية‏.‏
إذا قَدُم الإخاء سمُجِ الثَناء‏.‏
العادةُ أملكُ من الأدب‏.‏
الرِّفْق يمن والخُرْق شُؤْم‏.‏
المرأة رَيحانة وليست بقهْرمَانة‏.‏
الدالُّ على الخيْر كفاعله‏.‏
المُحَاجزة قبل الُمناجزة‏.‏
قبل الرّماية تُملأ الكَنائن‏.‏
لكلّ ساقِطَة لاقِطَة‏.‏
مَقْتل الرّجل بين فكّيه‏.‏
تَرْك الحَرَكة غَفْلة‏.‏
طُول الصَّمت حُبْسة‏.‏
من خَيْر خَبَر أن تَسْمَع بمطر‏.‏
كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا لِلخَونة‏.‏
قَيِّدوا النِّعم بالشكر‏.‏
مَن يَزْرع المعروفَ يَحْصُد الشكر‏.‏
لا تَغْترّ بمودّة الأمير إذا غَشّك الوزير‏.‏
أعْظمُ من المُصيبة سُوء الخَلَف منها‏.‏
مَن أراد البقاء فَلْيوطِّن نفسه على المصائب‏.‏
لقاء الأحبة مَسْلاة للهمّ‏.‏
قَطيعة الجاهل كَصِلة العاقل‏.‏
مَن رَضي عن نفسه كثر الساخط عليه‏.‏
قَتلَت أرضٌ جاهلَها وقَتل أرضاً عارفُها‏.‏
أدْوأ الدواء الخُلق الدَّني واللسان البذِيّ‏.‏
إذا جعلك السلطانُ أخا فاجعلْه ربّا‏.‏
احْذَر الأمين ولا تأمن الخائن‏.‏
عند الغاية يُعْرف السابق‏.‏
عند الرّهانِ يْحْمَد المضمار 0 السُّؤال وإن قَلَّ أكثر من النَّوال وإن جَلّ‏.‏
كافيء المعروفَ بمثله أو انشره‏.‏
لا خَلَّة مع عَيْلة‏.‏
ولا مُرُوة مع ضُرّ ولا صبر مع شَكْوَى‏.‏
ليس من العَدْل سُرْعة العَذْل‏.‏
عبدُ غيرك حُرٌّ مِثْلك‏.‏
لا يَعْدم الخيارَ مَن استشار‏.‏
الوضيعُ من وَضَع نفسه‏.‏
المَهين من نَزَل وَحْده‏.‏
من أكثر أهْجر‏.‏
كفى بالمرء كَذبا أن يُحَدِّث بكلّ ما سَمِع‏.‏
‏"‏ كلّ إناء يَنْضح بما فيه‏.‏
العادة طَبْعٌ ثان ‏"‏‏.‏



من أمثال العرب
مما روى أبو عبيد جَرّدناها من الآداب التي أدخلها فيها أبو عُبيد إذ كنا قد أفردنا للأدب والمواعظ كُتًباً غَير هذا وضَمَمْنا إلى أمْثِلة العرب القديمة ما جَرَى على ألْسنة العامة من الأمثال المُسْتعملة وفَسَّرنا من ذلك ما احتاج إلى التفسير فمن ذلك قولُهم‏:‏ في حفظ اللسان‏:‏ لِعُمَر بن عبد العزيز‏:‏ التقيُّ مُلْجَم لأبي بكر الصِّديق‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ البَلاءَ مُوكّل بالمنطق‏.‏
لابن مَسْعود‏:‏ ما شيَءٌ أوْلى بطُول سِجْن من لِسَان‏.‏
لأنس بن مالك‏:‏ لا يكون المؤمن مُؤمناً حتى يَحْتَرِزَ مِن لِسانه ولسان غيره‏.‏
آحذَر لسانَك لا يَضرب عُنُقك‏.‏
جُرْح اللّسان كجُرْح اليد‏.‏
ربَّ كلامٍ أقطعُ من حُسام‏.‏
القوْلُ يَنْفُذ ما لا تَنْفُذ الأبرَ‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وقد يُرْجَى لجُرْح السيف بُرْءٌ ولا بُرْءٌ لما جرح اللِّسانُ اجتلبنا هذا البيِت لأنه قد صار مَثلاَ سائراَ للعامة وجعلنا لأمثال الشعراء في آخر كتابنا هذا باباً‏.‏
وقال أكثم بن صَيْفي‏:‏ مَقْتل الرَّجل بين فكَّيه‏.‏
وقال‏:‏ ربما أَعْلَم فأَذَرُ‏.‏
يريد أنه يَدع ذِكرَ الشيء وهو به عالم لما يَحْذر من عاقبته‏.‏
اكثار الكلام وما يتقى منه - قالوا‏:‏ مَن ضاق صَدْرُه اتَّسع لسانُه‏.‏
ومن أكثَر أَهْجَر‏:‏ أي خَرَج إلى الهُجْر وهو القَبيح من القَول‏.‏
وقالوا‏:‏ المِكثار كحاطب ليل‏.‏
وحاطِبُ اللَّيل ربما نَهَشته الحيَّة أو لسعتْه العَقْرب في احتطابه ليلا‏.‏
وقالوا‏:‏ أوَل العيّ الاختلاط وأسوء القًول الإفراط‏.‏
في الصمت - قالوا‏:‏ الصمتُ حُكم وقليلٌ فاعله‏.‏
وقالوا‏:‏ عَيّ صامِت خَيْرٌ من عَيٍّ ناطق‏.‏
والصمتُ يُكْسِب أهلَه المحبّة‏.‏
وقالوا‏:‏ استَكْثَر من الهَيْبة الصَّموتُ‏.‏
والندم على السُّكوت خَيْر من النَّدم على الكلام‏.‏
وقالوا‏:‏ السُّكوت سَلاَمة‏.‏
القصد في المدح - منه قولُهم‏:‏ من حَفَّنا أورَفنَّا فَلْيَقْتصد‏.‏
يقول‏:‏ مَن مدحنا فلا يَغْلونّ في ذلك‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَهْرِف بما لا تَعْرف‏.‏
والهَرْف‏:‏ الإطْناب في المَدْح والثناء‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ شاكِهْ أبا يَسار من دون ذا يَنْفُق الحِمَار‏.‏
أخبرنا أبو محمد الأعرابيِ عن رجل من بني عامر بن صَعْصعة قال‏:‏ لقي أبو يسار رجلاً بالمِرْبَد يَبِيع حِماراَ ورجلاً يُساومه فجعل أبو يسار يُطْرِي الحِمَار فقال المُشتري‏:‏ أعَرَفْت الحمار قال‏:‏ نعم قال كيف سَيْرُه قال‏:‏ يُصْطاد به النعامُ مَعقولاً قال له البائع‏:‏ شاكِه أبا يسار مِن دُون ذا يَنْفق الحمار‏.‏
والمُشاكهة‏:‏ المُقاربة والقصد‏.‏
صدق الحديث - منه قولهم‏:‏ من صدق الله نَجا‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ سُبَّني واصْدُق‏.‏
وقالوا‏:‏ الكذب داء والصدق شِفَاء‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَكْذب الرائدُ أهلَه‏.‏
معناه أن الذي يَرْتاد لأهله منزلاً لا يكْذبهم فيه‏.‏
وقولهم‏:‏ صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ‏.‏
أصلُه أنّ رجلاً ابتاع من رجل بعيراً فسأله عن سنه فقال له‏:‏ إنه بازل فقال له‏:‏ أنِخْه فلما أناخه قال‏:‏ هِدَعْ هِدَعْ - وهذه لفظة تُسكّن بها الصِّغار من الإبل - فلما سمِع المُشْتري هذه الكلمةَ‏.‏
قال‏:‏ صدَقني سِنَّ بَكْره‏.‏
ومنه قوُلهم‏:‏ القَوْلُ ما قالت حَذَام‏.‏
وهي امرأة لُجَيمْ بن صعْب والد حَنِيفة وعِجْل ابني لجيم وفيها قال‏:‏ إذا قالت حَذام فَصَدِّقوها فإنّ القولَ ما قالتْ حَذَام من أصاب مرة وأخطأ مرة - منه قولهم‏:‏ شُخب في الإناة وشُخب في الأرض ‏"‏ شُبه بالحالب الجاهل الذي يَحْلًب شُخْباً في الإناء وشخباً في الأرض ‏"‏ وقولهم‏:‏ يَشُجّ مرة ويأسو أُخرى‏.‏
وقولهم‏:‏ سَهْم لك وسهم عليك‏.‏
وقولهم‏:‏ اْطرِقي ومِيشي‏.‏
‏"‏ والطّرْق‏:‏ ضرْبُ الصوف بالمِطْرقة ‏"‏‏.‏
والميَشْ أن يُخلطَ الشّعرَ بالصُّوف والمِطْرقة‏:‏ العُود الذي يُضْرَب به بين ما خُلِط‏.‏
سوء المسألة وسوء الإجابة - قالوا‏:‏ أساء سَمْعاً فأساء جابة‏.‏
وهكذا تُحكى هذه الكلمة جابة بغير ألف وذلك أنه اسم موضوع‏.‏
يقال أجابني فلان جابةً حسنة فإذا أرادوا المصدر قالوا‏:‏ إجابة بالألف‏.‏
وقالوا‏:‏ حدِّث امرأة حَدِيثين فإن لم تَفْهم فأربعة‏.‏
كذا في الأصل والذي أحفظ فأرْبَعْ أي أمسِك‏.‏
وقولهم‏:‏ إليك يُساق الحَدِيث‏.‏
من صمت ثم نطق بالفهاهة - قالوا‏:‏ سكت ألفاً ونَطق خَلْفاً 0 الخلْف من كل شيء‏:‏ الرَديء‏.‏
المعروف بالكذب يصدق مرة - قولهم‏:‏ مَع الخواطىء سَهْمٌ صائب‏.‏
ورُبَّ رَمْية من غير رام‏.‏
وقولهم‏:‏ قد يَصدُق الكَذُوب‏.‏
المعروف بالصدق يكذب مرة - قالوا‏:‏ لكل جواد كَبْوة ولكلّ صارم نَبْوة ولكل عام هَفْوة‏.‏
وقد يَعْثر الجواد‏.‏
ومَن لك بأخيك كُلِّه‏.‏
وأيّ الرجال المًهذّب‏.‏
كتمان السر - قالوا‏:‏ صَدْرك أوْسع لسرّك‏.‏
وقالوا‏:‏ لا تُفْش سرِّك إلى أَمَة ولا تَبُلْ على أكمةٍ‏.‏
يقول‏:‏ لا تُفْش سرِّك إلى امرأة فَتُبديَه ولا تَبُلْ على مكان مُرتفع فَتبْدوَ عوْرتك‏.‏
ويقولون إذا أسرُّوا إلى الرجل‏:‏ اجعل هذا في وعاء غير سَرِب‏.‏
وقولهم‏:‏ سِرُّك من دَمك‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ كيف كِتْمانك السرُ فقال‏:‏ ما صَدْرِي إلا القبر‏.‏
اٍنكشاف الأمر بعد اكتتامه - قولهم‏:‏ حَصْحَص الحقُّ‏:‏ وقولهم‏:‏ أبْدَى الصَرِيخ عن الرّغْوَة‏.‏
وفي الرّغوة ثلاث لغات‏:‏ فتح الراء وضمّها وكسرها‏.‏
وقولم‏:‏ صَرَّح المَحْض عن الزُبْد‏.‏
وقالوا‏:‏ أفْرَخ القومُ بَيْضتَهم أي أخرجوا فَرْختها يريدون أظهروا سِرَّهم‏.‏
وقولهم‏:‏ بَرِح الخَفاء وكُشِف الغِطَاء‏.‏
ابداء السر - قالوا‏:‏ أفضيتُ إليك بشُقُوري أي أخبرتُك بأمْري وأطلعتُك على سرِّي‏.‏
وقولهم‏:‏ أخبرتُك بعُجَري وبُجَرى أي أطلعتُك على مَعايبي‏.‏
والعُجَر‏:‏ العرُوق المنعقدة وأما البجُر فَهي في البَطن خاصّة‏.‏
وتقول العامة‏:‏ لو كان في جَسَدي بَرَصَ ما كَتَمْتُكه‏.‏
الحديث يتذكر به غيره - قالوا‏:‏ الحديث ذو شُجُون - وهذا المثل لضَبَّة ابن أُدّ وكان له ابنان‏:‏ سَعْد وسَعِيد‏.‏
فخرجا في طلب إبل لهما فرجع سَعْد ولم يَرْجع سعيد فكان ضَبّة كلما رأى رجلاً مُقْبلا قال‏:‏ أسَعْد أم سَعيد فذهبت مثلاً‏.‏
ثم إن ضبّة بينما هو يَسير يوماً ومعه الحارث بن كَعْب في الشَّهر الحَرام إذ أتى على مكان فقال له الحارث‏:‏ أتَرى هذا اْلمَوضع فإني لقيتُ فتىً هيئتُه كذا وكذا فقتلتُه وأخذت منه هذا السيفَ فإذا بصفة سعيد فقال له ضَبَّة‏:‏ أرني السيفَ أنْظُر إليه فناولَه فَعَرفه فقال له‏:‏ إن الحديث ذو شجون ثم ضرَبه به حتى قَتله فلامَه الناسُ في ذلك وقالوا‏:‏ أقتلتَ في الشهر الحرام‏!‏ قال‏:‏ سَبق السيفُ العَذَل فذهبتَ مَثلا‏.‏
ومنه‏:‏ ذَكّرْتَني الطًعنَ وكنتُ ناسياً‏.‏
وأصل هذا أنّ رجلا حَمَل ليقتل رجلاً وكان بيد المَحْمول عليه رُمْح فأَنْساه الدًهشُ والجَزَع ما في يده فقال له الحامل‏:‏ أَلْقِ الرُّمح قال الآخر‏:‏ فإنّ رُمْحي لَمَعي‏!‏ ذَكِّرتني الطعن وكنتُ ناسياً ثم كًرّ على صاحبه فَهَزمه أو قَتَله‏.‏
ويقال‏:‏ إنّ الحاملَ صَخْر أو مُعاوية السُّلَمي أخو الخَنساء والمَحْمول عليه يَزيد بن الصَّعِقْ‏.‏
العذر يكون للرجل ولا يمكن أن يبديه - منه قولهم‏:‏ رُبَّ سامع بخبري لم يَسْمَع عًذْري‏.‏
ورُبَّ مَلُوم لا ذَنْب له‏.‏
ولعَلَّ له عُذْراً وأنت تَلوم‏.‏
وقولهُم‏:‏ المرْء أَعْلم بشأنه‏.‏
الاعتذار في غير موضعه - منه قولهم‏:‏ تَرْكً الذًنب أيسرُ من التماس العُذْر‏.‏
وتَرْك الذَّنب أيسرُ من طَلَب التَّوبة‏.‏
التعريض بالكناية - منه قولُهم‏:‏ أَعَن صَبُوحٍ تُرَقِّق ومنه قولهم‏:‏ إيّاكِ أَعْني واسمعي يا جارة‏.‏
المن بالعروف - قالوا‏:‏ شَوى أخوك فلما انضج رمَد‏.‏
وقولهم‏:‏ فَضْلُ القَوْل على الفِعْل دنَاءة وفَضْل الفِعْل على القَوْل مَكْرُمة‏.‏
الحمد قبل الاختبار - لا تَحْمدنّ أمةً عام آشترائها ولا حُرَّة عام بِنَائها‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَهْرِف قبلَ إنجاز الوعد - قالوا‏:‏ أنْجز حُرُّ ما وَعد‏.‏
وقولهم‏:‏ العِدَة عطيّة‏.‏
وقولهم‏:‏ من أَخَّر حاجةً فقد ضَمِنها‏.‏
وقالوا‏:‏ وَعْدُ الحرِّ فِعْل ووَعْد اللًئيم تَسْويف‏.‏
وقالت العامّة‏:‏ الوَعد من العَهد‏.‏
التحفظ من المقالة القبيحة وان كانت باطلاَ - حَسْبُك من شَرِ سَماعَهُ وما اْعتذارُك من شيء إذا قِيل الدعاء بالخير - منه قولهم للقادم من سفره‏:‏ خَيْرُ ما رُدَّ في أهلٍ ومال‏.‏
أي جعلك الله كذلك‏.‏
وقولُهم‏:‏ بَلَغ اللَهُ بك أكلأ العُمر أي أقصاه‏.‏
وقولهم‏:‏ نِعم عَوْفُك أي نَعِم بالك 0 وقولهم في النِّكاح‏:‏ على يَدِ الخَير واليُمْن‏.‏
وقولهم‏:‏ بالرِّفاء والبَنِين يريد بالرِّفاء‏:‏ الكثرة يقال منه‏:‏ رفأته إذا دعوت لَه بالكثرة‏.‏
وقولهمِ‏:‏ هُنِّئْتَ ولا تُنْكَه أي أصابك خَيْر ولا أصابك ضُرّ‏.‏
وقولهم‏:‏ هَوَت أمّه‏.‏
وهبِلته أمُّه‏.‏
يدعون عليه وهم يريدون الحمدَ له‏.‏
ونحوُه‏:‏ قاتَله اللّه وأَخْزاه اللّه إذا أحسن‏.‏
ومنه قولُ امرِىء القَيْس‏:‏ ما له عُدَّ من نَفَرِه تعيير الانسان صاحبه بعيبه - قالوا‏:‏ رَمَتْنِي بدائها وانسلَّت‏.‏
وقولهم‏:‏ عَيَّر بُجَيْر بُجَرَه نَسيَ بُجَيْر خَبَرَه‏.‏
وقولهم‏:‏ مُحْترَس من مِثْله وهو حارِس وقولهم‏:‏ تُبْصِر القَذى في عَيْن أخيك ولا تُبْصرِ الْجذع في عَيْنك‏.‏
الدعاء على الإنسان - منه قولهم‏:‏ فاهَا لِفِيك يريد الأرضَ لِفِيك‏.‏
وقولهم‏:‏ بِفِيك الحَجَر وبفيك الأثْلَب‏.‏
وقولهم‏:‏ لِلْيَدين وللفم‏.‏
ولما أتي عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه بسكران في رمضان قال له‏:‏ لليدين وللفم أولدانُنا صِيَامٌ وأنت مُفْطِر وضربه مائَةَ سَوْط‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بجَنْبه فلْتكن الوَجْبَة‏.‏
يريد الصرعة‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ مِن كِلا جانِبَيك لا لبَّيك أي لا كانت لك تَلْبية ولا سَلامة من كلا جانِبَيك‏.‏
والتَّلبية‏:‏ الإقامة بالمكان وقولهم‏:‏ به لا بِظبْي‏.‏
وقال الفرزدق‏:‏ أقولُ له لما أتاني نَعِيُّه به لا بِظبْي بالصَّريمة أعفرَا ومنه قولهم‏:‏ جَدَع الله مَسامِعَهُ‏.‏
وقولهم‏:‏ عَقْراً حَلْقاً‏.‏
يريد عَقَره الله وحلَقه‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا لَعاً له أي لا أقامه اللّه‏.‏
قال الأخطل‏:‏ ولا لعاً لبَني ذَكْوانَ إذا عَثروا ولحبيب‏:‏ صَفْراء صُفْرةَ صِحَّة قد رَكبَّت جُثمانه في ثَوْب سُقْمٍ أصْفَرِ قَتلتْه سرٍّاً ثم قالتْ جَهْرةً قولَ الفَرزدق لا بِظَبْيٍ أعفَر رمى الرجل غيره بالمعضلات - منه قولهم‏:‏ رماه بأقحافِ رأسِه‏.‏
ورَماه بثالثة الأثافي يريد قطعةً من الجَبل يُجعل إلى جَنْبها أثفيّتان وتكون هي الثالثة‏.‏
ومنه‏:‏ يا للعَضِيهة والأَفِيكة إذا المكر والخلابة - منه قولهم‏:‏ فَتَل في ذِرْوَته‏.‏
أي خادَعه حتى أَزاله عن رأيه‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ ويُروي عن الزُبير أنه حين سأل عائشةَ الخُروجِ إلى البَصرِة فأَبَتْ عليه فما زالَ يفْتِل في الذِّرْوة والغارِب حتى أجابت‏.‏
وقولهم‏:‏ ضرَب أخماساَ لأسْداس يريدون المُماكرة‏.‏
وقال آخر‏:‏ إذا أراد امرؤ مَكراً جَنَى عِلَلاً وظَلَّ يَضرب أخماساً لأسْداس ومنه قولهم‏:‏ الذئب يأدو للغَزَال أي يَخْتِله ليُوقعه‏.‏
اللهو والباطل - منه قولهم‏:‏ جاء فلان بالتُرّه وجرى فلان السُّمَّة وهذا من أسماء الباطل‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنا من ددٍ ولا دَدٌ مني‏.‏
وفيه ثلاث لغات‏:‏ دَدٌ وددا مثل قفا وددَن مثل حَزَن‏.‏
خلف الوعد - منه قولهم‏:‏ ما وَعْدُه إلا بَرْق خُلَّب وهو الذي لا مَطَر معه‏.‏
ومنه‏:‏ ما وَعْده إلا وَعْد عُرْقوب وهو رجل من العَماليق أتاه أخوه يسأله فقال‏:‏ إذا أطلعت هذه النخلةَ فلك طلعها فأتاه لِلِعدَة فقال‏:‏ دَعْها حتى تصيرَ بَلَحا فلما أبلحت قال‏:‏ دَعْها حتى تَصِير رًطَبا فلما أرْبطت قال‏:‏ دَعْها حتى تَصِير تمراً فلما أتمرت عَمَد إليها عُرقوبُ فجزَّها ولم يُعْطِ أخاه شيئاً فصارت مثلاً سائراً في الخُلف‏.‏
قال الأعشى‏:‏ اليمن الغموس - منه قولهم‏:‏ جَذَّها جَذَّ العَيْر الصِّلْيانةَ وذلك أن الَعَيْرَ ربما اقتلع الصِّلْيانة إذا ارتعاها‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع‏:‏ اليمين الغَمًوس تَدَع الدَيار بلاقع‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ اليمن الغَمُوس هي المَصْبورة التي يُوقف عليها الرجل فَيَحْلف بها وسمِّيت غَمُوساً لغَمْسها حالِفها في المآثم‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ اليمين حِنْث أو مَنْدمة‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كان حالفاً فَلْيَحْلف بالله‏.‏
أمثال الرجال واختلاف نعوتهم في الرجل المبرز في الفضل - قولهم‏:‏ ما يُشَقّ غُبَارُه‏.‏
وأصله السابقُ من الخَيْل‏.‏
وقولهم‏:‏ جَرْيَ المُذَكّى حَسَرَتْ عنه الحُمُر‏.‏
أي كما يَسْبق الفرسُ القارِح الحُضرَ وقولهم‏:‏ جَرْيُ المُذَكَيَات غِلاَء أو غِلاَب‏.‏
وقولهم‏:‏ لَيست له هِمَّة دون الغَاية القُصْوى‏.‏
الرجل النبه الذكر - قولهم‏:‏ ما يُحْجَر فلانٌ في العِكْم‏.‏
العِكْم‏.‏
العِكْم‏:‏ الجُوالق يريد أنه لا يخفي مكانه‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يومُ حَلِيمة بِسرّ‏.‏
وكانت فيه وقعة مشهورة قُتل فيها المنذر بن ماء السماء فضربت مثلا لِكلّ أمر مشهور‏.‏
وقولهم‏:‏ أشْهر من الفَرَس الأبلق‏.‏
وقولهم‏:‏ وهل يَخْفي على النَاس النَّهار‏.‏
ومثلُه‏:‏ وهل يَخْفي على الناصر الصُّبح‏.‏
وقولهم‏:‏ وهل يجهل فلاناً إلا من يجهل الرجل العزيز يعذبه الذليل - منه قولهم‏:‏ إن البغاث بأرضنا تستنسر‏.‏
البغاث صغار الطير‏.‏
تستنسر‏:‏ تصير نسوراً‏.‏
وقولهم‏:‏ لا حرَّ بوادي عوف‏.‏
يريدون عوف بن محلِّم الشيباني وكان منيعاً‏.‏
وقولهم‏:‏ تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق‏.‏
ما رد‏:‏ حصن بدومة الجندل‏.‏
والأبلق‏:‏ حصن ‏"‏ السمؤال ‏"‏‏.‏
ومن عزَّ بزَّ ومن قلّ ذلّ ومن أمر فلّ‏.‏
أمر‏:‏ كثر‏.‏
الرجل الصعب - منه قولهم‏:‏ فلان ألوى بعيد المستمرّ‏.‏
وقولهم‏:‏ ما بللت منه بأفوق ناصل‏.‏
وأصله السهم المكسور والفوق الساقط النّصل‏.‏
يقول‏:‏ فهذا ليس كذلك ‏"‏ ولكنه كالسّهم القويّ ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يقعقع لي بالشِّنان‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يصطلى بناره‏.‏
وقولهم‏:‏ ما تقرن به صعبة‏.‏
النجد يلقى قرنه - منه قولهم‏:‏ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً والحديد بالحديد يفلح‏.‏
والفلح‏:‏ الشق‏.‏
‏"‏ ومنه‏:‏ فلاحة الأرض وهو شقها بالحرث ‏"‏‏.‏
ولا يفلّ الحديد إلا الحديد‏.‏
والنَّبع يقرع بعضه بعضاً ورمي فلان بحجره أي قرنٌ بمثله‏.‏
الأريب الداهي - هو هتر أهتار‏.‏
وصلُّ أصلال‏.‏
الصِّلُّ‏:‏ من الحيَّات شبه الرجل بها‏.‏
ومثله‏:‏ حيَّة ذكر وحيَّة وادٍ‏.‏
وقولهم‏:‏ هو عضلة من العضل‏.‏
وهو باقعة من البواقع‏.‏
وحوَّل قلَّب‏.‏
ومؤدم مبشر يقول‏:‏ فيه لين الأدمة وخشونة البشرة‏.‏
وفلان يعلم من حيث تؤكل الكتف‏.‏
النبيه بلا منظر ولا سابقة - قال أبو عبيد‏:‏ هو الذي تسمِّيه العرب الخارجيَّ يريدون خرج من أبا مروان لست بخارجيٍّ وليس قديم مجدك بانتحال وقولهم‏:‏ تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه وهو تصغير رجل منسوب إلى معدّ‏.‏
وقالوا‏:‏ نفس عصامٍ سوَّدت عصاما الرجل العالم النحرير - قالوا‏:‏ إنه لنقّاب وهو الفطن الذكيّ‏.‏
وقالوا‏:‏ إنه لعضُّ وهو العالم النحرير‏.‏
وقولهم‏:‏ أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ الجذيل‏:‏ تصغير الجذل وهو عود ينصب للإبل الجرباء لتحتكّ به من الجرب فأراد أنه يشفى برأيه‏.‏
والعذيق‏:‏ تصغير عذق والعذق ‏"‏ بالفتح ‏"‏‏:‏ النخلة نفسها فإذا مالت النخلة الكريمة بنوا من جانبها المائل بناء مرتفعاً يدعِّمها لكيلا تسقط فذلك التّرجيب وصغّرهما للمدح‏.‏
ومثله قولهم‏:‏ إنه لجذل حكاك‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ عَنِيَّته تَشْفِي الجرب‏.‏
والعَنية‏:‏ شيء تُعالج به الإبل إذا جَربت‏.‏
وقولهم‏:‏ لذي الْحِلم قبل اليوم ما تُقْرَع العصا وأوَّل من قُرعت له العصا سَعد بن مالك الكِنانيّ ثم قُرعت لعامر بن الظّرب العدْواني وكان حَكَم العرب في الجاهلية فكَبِر حتى أنكر عَقْله فقال لبنيه‏:‏ إذا أنا زِغْت فقوِّموني وكان إذا زاغ قُرعت له العصا فيَنْزع عن ذلك‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ إنه الأْلمعيّ وهو الذي يُصيب بالظنّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ ما حَكَكْت قَرْحة إلا أدميتها‏.‏
وقولهُم الأمور تَشابه مُقبلةً وتَظهر مُدْبرة ولا يَعرفها مُقبلة الرجل المجرب - منه قولُهم‏:‏ إنه لشراب بِأنْقُع أي مُعاود للخَير والشرّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ إنه لَخرَّاج وَلاج‏.‏
وقولُهم‏:‏ حَلَب الدَّهر أشْطُره وشرِبَ أفاويقه أي اختبر من الدَهر خيره وشرَه‏.‏
فالشّطر‏:‏ هو شَطر الحَلبة والفِيقة‏:‏ ما بين الحَلْبتين‏.‏
وقولُهم‏:‏ رجل مُنَجَّدٌ وهو المًجَرِّب وأصله من النَواجذ يقال‏:‏ قد عضَ على ناجذيه إذا استحكم‏:‏ وقولهم‏:‏ أول الغَزْو أخرق‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تَغْزُ إلا بغلام قد غزا‏.‏
وقولُهم‏:‏ زاحِم بعَوْد أودَع‏.‏
‏"‏ معناه‏:‏ لا تَستعن إلا بمُسنّ مُحْكم أودَع ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ العَوان لا تُعلِّم الخِمْرة‏.‏
وقالت العامة‏:‏ الشارف لا يُصفّر له‏.‏
الذب عن الحرم - قالوا‏:‏ الفَحْل يحمي شَوْله‏.‏
والخيل تَجْري على مَساويها‏.‏
يقول‏:‏ إن الخيل وإن كانت لها عُيوب فإنّ كرمها يحملها على الجري‏.‏
وقولهم‏:‏ النَساء لَحم على وَضم إلا ما ذًبَّ عنه‏.‏
وقولهمِ‏:‏ النِّساء حبائلُ الشَّيطان‏.‏
وقولهم‏:‏ كل ذات صِدَار خالَة يريد أنه يَحميها كما يحمي خالَته‏.‏
الصلة وِالقطيعة - منه قولهم‏:‏ لا خَير لك فيمن لا يَرى لك ما يَرى لِنفسه‏:‏ وقولُهم‏:‏ إنما يُضن بالضَنين‏.‏
وقولُهم خلِّ سبيلَ من وَهَى سِقاؤُه‏.‏
وقولُهم‏:‏ ألْقِ حبلَه على غارِبه‏.‏
وقولُهم‏:‏ لو كَرِهْتني يدي قَطَعْتُها‏.‏
الرجل يأخذ حقه قسرا - منه قولُهم‏:‏ يَرْكب الصَّعبَ من لا ذَلُول له‏.‏
وقولُهم‏:‏ مُجَاهرةً إذا لم أَجِد مَختلا‏.‏
يقول‏:‏ آخذ حقِّي قسراً وعلانيَةَ إذا لم أصِل إليه بالسَّتر والعافية‏.‏
وقولًهم‏:‏ حَلبتها بالساعد الأشدِّ يقول‏:‏ أخذتُها بالقوّة والشدةً إِذ لم أقْدِر عليها بالرِّفق‏.‏
وقولُهم‏:‏ التجلّد خيرٌ من التبلّد‏.‏
والمنيَّة خيرٌ من الدنيّة‏.‏
ومن عَزّ بَزّ‏.‏
الإطراق حتى تصاب الفرصة - منه قولُهم‏:‏ مخرِنْبق لينباع‏.‏
مخْرَنبْق‏:‏ مُطْرِق‏.‏
لِينباع‏:‏ لينبعث‏.‏
يقول‏:‏ سكت حتى يُصيب فرصته فيَثب عليها‏.‏
وقولُهم‏:‏ تَحْسَبها حمقاء وهي باخِس‏.‏
وقولُهم‏:‏ خبره في صَدْره‏.‏
وقولًهم‏:‏ أحمق بَلغ‏.‏
يقول‏:‏ مع حُمْقه يُدْرك حاجته‏.‏
الرجل الجلد المصحِح - أطِرِّي فإِنّك ناعِلة‏.‏
أصله أنّ رجلاً قال لراعية له كانت تَرْعى في السّهولة وتتْرك الحزُونة فقال لها‏:‏ أَطِرِّي أي خُذي طُرَر الوادي وهي نواحيه فإنك ناعلة يريد فإن عليك نَعْلين‏.‏
وقولُهم‏:‏ به داءُ ظبي معناه أنه ليس به ‏"‏ داء كما ليس ‏"‏ بالظبي داء وقالوا‏:‏ الشًّجاع مُوَقَّى‏.‏
الذل بعد العز - منه قُوِلهم‏:‏ كان جملاً فاستَنْوق أي صار ناقةً‏.‏
وقولُهم‏:‏ كان حماراً فاستَأتن أي صار أتاناَ‏.‏
وقولُهم‏:‏ الحَوْر بعد الكَوْر وقولُهم‏:‏ ذُلٌ لو أجد ناصراً‏.‏
أصله أن الحارث بن ‏"‏ أبي شَمِر الغَسَّاني سأل أنس ابن أبي الحُجَيْر عن بعض الأمر فأخبره فلطَمه الحارث فقال أنس‏:‏ ذُلّ لو أجد ناصراً فلطمه ثانية فقال‏:‏ لو نِهيتَ الأولى لم تَلْطم الثانية فذهبتا مثلين ‏"‏ وقولًهم‏:‏ الانتقال من ذل إلى عز - منه قولُهمٍ‏:‏ كنتَ كُراعاً فصِرْتَ ذِراعاً‏.‏
وقولهم‏:‏ كنتَ عَنْزا فاستَتْيَست‏.‏
وقولهم‏:‏ كنت بُغاثا فاستَنْسَرت أي صِرْتَ نَسرا‏.‏
تأديب الكبير - قالوا‏:‏ ما أشدَّ فِطام الكَبِير‏!‏ وقولهم‏:‏ عَود يُقَلَّح أي جَمل مُسِن تُنَقى أسنانُه‏.‏
وقالوا‏:‏ من العَناء رِياضة الهَرِم‏.‏
قال الشاعر‏:‏ وتَرُوض عِرسَكَ بعد ما هَرِمتْ ومن العَناءِ رياضةُ الهَرِم وقولهم‏:‏ أعَييتني بأُشُر فكيف بَدُرْدُر‏.‏
يقول أَعيَيْتنِي وأنت شابّة فكيف إذا بدت دَرادِرًك وهي مغارز الأسنان‏.‏
الذليل المستضعف - منه قِولهم‏:‏ فلان لا يَعْوى ولا يَنْبح من ضعفه يقول‏:‏ لا يتكلّم بخير ولا شر‏.‏
وقولهم‏:‏ أهْون مَظْلوم سِقاءٌ مُرَوَّب وهو السقاء الذي يُلَفُّ حتى يبلغ أوان المَخْض‏.‏
وقالوا‏:‏ أهون مَظْلوم عجوز مَعقومة‏.‏
وقولهم‏:‏ لقد ذلّ من بالت عليه الثَّعالب‏.‏
الذليل يستعين بأذل منه - قالوا‏:‏ عَبْدٌ صَريخه أمة‏.‏
وقولهم‏:‏ مُثْقَل استعان بذَقَنه وأصله البعيرُ يُحْمل عليه الحِمْل الثقيل فلا يَقْدر على النهوض به فيعتمد على الأرض بذَقنه‏.‏
وقولهم‏:‏ العَبْد من لا عَبْد له‏.‏
الأحمق المائق - قالوا‏:‏ عدو الرجل حُمْقه وصديقه عَقْله‏.‏
وقولهم‏:‏ خَرقاء عَيَّابة وهو الأحمق الذي يَعيب الناس‏.‏
قالوا‏:‏ في الرَّجل إذا اشتدّ حمقه جدَّا‏:‏ ثَأطة مُدّت بماء‏.‏
الثأطة‏:‏ الحمأة فإذا أصابها الماء ازدادت فَساداً ورُطوبة‏.‏
الذي تعرض له الكرامة فيختار الهوان - منه قولهم‏:‏ تَجَنّبَ رَوْضَة وأحال يَعْدُو‏.‏
يقول‏:‏ ترك الخير واختار الشقاء‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَخْلو مَسْك السَّوء عَن عَرْف السَّوء‏.‏
يقول‏:‏ لا يكون جلد رديء إلا والرِّيح المُنتنة موجودة فيه‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ قيل للشقيّ‏:‏ هَلُمّ إلى السعادة قال‏:‏ حَسْبي ما أنا فيه‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ أنّ الشقيّ بكل حَبْل يَخْتنِق وقولهم‏:‏ لا يَعدَم الشقيُّ مُهَيرْا أي لا يَعْدَم الشقي رياضة مُهر‏.‏
الرجل تريد اصلاحه وقد أعياك أبوه قبل - منه قولهم‏:‏ لا تَقْتن من كلْب سَوء جِرْوا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ تَرجو الوَليدَ وقد أَعياك والدُه وما رجاؤك بعد الوالدِ الولَدَا الواهن العزم الضعيف الرأي - منه قولهم‏:‏ ما له أكْل ولا صَيَّور أي ليسِ له قُوّة ولا رَأي‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ طلب أعرابي ثوباً من تاجر فقال‏:‏ أعطنىِ ثوباَ له أكْل يعني قوة وحَصافة‏.‏
ومنه قال أبو عُبيد‏:‏ هو الرجل الذي لا رأي له ولا عَزم‏.‏
فهو يتابع كلَّ أحد على رأيه ولا يثبت على شيء وكذلك الإمرَّة الذي يتابع كل أحد على أمره‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ هو بِنْتُ الجَبل ومعناه الصَدى يُجيبك من الجَبل أي هو مع كل متكلِّم يُجيبِه بمثل كلامه‏.‏
الذي يكون ضاراً لا نفع عنده - من قولهم‏:‏ المِعْزَى تبْهِي ولا تُبْنِي‏.‏
‏"‏ معناه أن المِعْزى لا تكون منها الأبنية ‏"‏ وهي بيوت الأعراب وإنما تكون من وَبر الإبل وصُوف الضأن ولا تكون من الشّعر وربما صَعدت اْلمِعْزى إلى الخِباء فَحَرقته فذلك قولهم تُبْهِي يقال‏:‏ أبهيْتُ البيت إذا خرقته فإذا انخرق قيل‏:‏ بيت باهٍ‏.‏
الرجل يكون ذا منظر ولا خير فيه - منه قولهم‏:‏ ترى الفِتْيان كالنَّخل وما يُدْرِيك ما الدَّخْل‏.‏
وقال الحجاج لعبد الرحمن بن الأشعث‏:‏ إنك لمَنظرانيّ قال‏:‏ نعم ومخْبرانيّ‏.‏
أمثال الجماعات وحالاتهمِ من اجتماع الناس وافتراقهم - قال الأصمعي‏:‏ ويقال‏:‏ لن يَزال الناسُ بخير ما تباينوا فإذا تساوَوْا هَلَكوا‏.‏
قال أبو عبيد‏:‏ معناه أن الغالب على الناس الشرُّ والخير في القليل من الناس فإذا كان التّساوي فإنما هو في الشر‏.‏
ومن أشدّ الهجاء قولُ القائل‏:‏ سواسية كأسنان الحِمار‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ الناس سواء كأَسنان المُشْط‏.‏
وقولهم‏:‏ الناس شباه وشتَّى في الشِّيم ‏"‏ وكلهم يَجْمعه بيتُ الأدَم ‏"‏‏.‏
وقوِلهم‏:‏ الناسُ أخْياف أي مُفترقون في أخلاقهم‏.‏
والأخْيف من الخيل‏:‏ الذي إحدى عَينيه زرقاء والأخرى كَحْلاء‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ بيت الإسكاف لأن فيه من كل جلد رُقعة‏.‏
المتساويان في الخير والشر - هما كفَرَسي رِهَان‏.‏
وكرُكبتي بعَير‏.‏
وهما زَنْدان في وِعاء‏.‏
هذا في الخير وأما في الشر فيقال‏:‏ هما كَحِماري العِباديّ ‏"‏ حين قيل له‏:‏ أي حماريك شر قال‏:‏ هذا ثم هذا ‏"‏‏.‏
الفاضلان وأحدهما أفضل - منه قولهم‏:‏ مَرْعى ولا كالسَّعْدان‏.‏
وقولهم‏:‏ ماء ولا كَصَدّاء‏.‏
وصداء‏:‏ ركيةٌ ذات ماء عَذْب‏.‏
وقولهم‏:‏ فَتىً ولا كمالك‏.‏
وقولُهم‏:‏ في كل الشًجر نار‏.‏
واستَمجدا المَرْخ والعَفَار وهما أكثر الشّجر ناراً‏.‏
الرجل يرى لنفسه فضلاً على غيره - منه قولهم‏:‏ كُلّ مُجْرٍ بالخَلاء يُسَرّ‏.‏
وأصله الذي يُجْرِي فرَسَه في المكان الخالي فهو يُسرّ بما يَرى منه‏.‏
المكافأة - منه قولُهم‏:‏ هذه بتلك وقولهم‏:‏ أضئ لي أَقْدح لك أي كُن لي أَكن لك‏.‏
وقولهم‏:‏ اسْقِ رَقَاش إنها سَقَاية‏.‏
يقول‏:‏ أحسِنوا إليها إنها مُحْسنة‏.‏
الأمثال في القربى التعاطف من ذوي الأرحام - قال ابن الكلبي‏:‏ منه قولهم‏:‏ يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً‏.‏
وأصل هذا أن زُرَارة بنِ عُدَسِ زَوَّج ابنتَه من سُوَيد ابن ربيعة فكان له منها تِسْعَةُ بنين وأنّ سُويداً قَتل أخاَ صغيراَ لعمرو بن هِنْد الملك وهَرب ولم يَقْدِر عليه ابن هند فأرسل إلى زُرارة‏:‏ إنِ ائتني بوَلده من ابنتك فجاء بهم فأمر عمرو بقَتْلهم فتعلًقوا بجدّهم زُرارة‏.‏
فقال‏:‏ يا بَعْضي دَعْ بَعْضاً فذهبت مثلاً‏.‏
ومن أمثالهمِ في التحنن على الأقارب - قولهم‏:‏ لكنْ على بَلْدَحِ قَوْمٌ عَجْفَي‏.‏
وقولهم‏:‏ لكِن بالأثلاث لحمٌ لا يُظَلًل‏.‏
وأصل هذا أنّ بَيْهساً الذي يُلقَب بنَعامة كان بين أهل بيْته وبين قوِمِ حَرب‏.‏
فقتلوا سَبْعة إخْوة لِبَيهس وأسروا بَيْهساً فلم يقتلوه لِصِغرِه وارتحلوا به فنزلوا منزلاً في سَفرهم ونَحَروا جَزُوراً ‏"‏ في يوم شديد الحرّ ‏"‏ فقال بعضهم‏:‏ ظَلِّلوا لحْم جَزُوركم ‏"‏ لئلا يَفسد ‏"‏ فقال بَيْهس‏:‏ لكن بالأثَلاث لحمٌ لا يُظَلَّل - يعني لحمَ إخوته القَتْلى - ثم ذكروا كثرة ما غَنِموا فقال بَيْهس‏:‏ لكَنِ على بَلدَح قَوْمٌ عَجْفي‏.‏
ثم إنه أفلت أو خَلّوِا سبيلَه فرجع إلى أمه فقالت أنجوت من بينهم وكانت لا تًحبّه فقال لها‏:‏ لو خُيرت لاخترتِ‏.‏
فلما لم يكن لها ولدٌ غيره رَقّت له وتَعطّفت عليه‏.‏
فقال بَيْهس‏:‏ الثَكلٍ أَرْأَمها فَذَهبت كلماتُه هذه الأربع كلها أمثالاً‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا يَعْدَم الحُوَار من أمه حَنّة‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَضُر الحُوَار ما وَطِئَتْه أمه‏.‏
وقولهم‏:‏ بأبي أَوْجُه اليتامى‏.‏
حماية القريب وإن كان مبغضاً - من ذلك قولهم‏:‏ آكل لَحْمي ولا أَدَعُه يُؤكل‏.‏
ومنه لا تَعدَم من ابن عمك نصراً‏.‏
وقولهم الحَفائظُ تُحلِّل الأحقاد‏.‏
وقولهم في ابن العم‏:‏ عدوُك وعدوّ عدوّك‏.‏
وقولهم‏:‏ كَفُّك منك وإن كانت شلاّء‏.‏
وقولهم‏:‏ انصرُ أخاك ظالماً أو مَظلوماً‏.‏
إعجاب الرجل بأهله - منه قولهم‏:‏ كل فتاة بأبيها مُعْجَبة‏.‏
وقولهم‏:‏ القَرَنْبَى في عين أُمها حَسَنة‏.‏
وقولهم‏:‏ زُيِّن يا عَين والدٍ وَلدُه‏.‏
وقولهم‏:‏ حَسَنٌ في كلِّ عين ما تَوَدّ‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَمْدح العَرُوسَ إلاّ أهلُها تشبيه الرجل بأبيه - منه قولهم‏:‏ من أشبه أباه فما ظَلم‏.‏
وقولهم‏:‏ العُصيّة من العَصا‏.‏
وقولهم‏:‏ ما أشبه حَجَل الجبْال بألوان صُخُورها‏!‏ وقولهم‏:‏ ما أشبه الحَوَل بالقَبَل‏!‏ وما أَشْبه الليلَة بالبارحة‏!‏ وقولهم‏:‏ شنِشنة أَعْرفها من أَخْزم يقال هذا في الولد إذا كانت فيه طبيعة من أبيه‏.‏
قال زُهير‏:‏ وهَلْ يُنْبِت الخَطّيَّ إلا وَشيجُه وتُغْرس إلاّ في مَنابتها النَّخلُ ومنه قولُ العامة‏:‏ لا تَلدِ الذِّئبة إلاّ ذِئْباً‏.‏
وقولهم‏:‏ حَذْوَ النَعل بالنَّعل‏.‏
وحَذْوَ القذة بالقُذَّة‏.‏
والقذة‏:‏ الريشة من ريش السهم تُحْذَى على صاحبتها‏.‏
تحاسد الأقارب - من ذلك قولهم‏:‏ الأقارب هم العقارب‏.‏
وقال عُمر‏:‏ تَزاورُوا ولا تَجَاورُوا‏.‏
وقال أكثم‏:‏ تَباعدوا في الدِّيار وتَقاربوا في المَحَبة‏.‏
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هُريرة‏:‏ زُرْ غِبَّاً تَزْدَد حباً‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ فَرِّق بين مَعد تَحاب‏.‏
يريد أن ذوي القَربى إذا تدانَوْا تحاسدُوا وتباغضوا‏.‏
قولهم في الأولاد - قالوا‏:‏ مَن سَرَّه بنوه ساءتْه نفسُه أي من يَرى فيهم ما يسرُه يرى في نفسه ما يَسُوءه‏.‏
وقولهم‏:‏ إنّ بَنيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّون أَفْلح مَن كان له رِبْعيُون الولد الصيَّفي‏:‏ الذي يُولد للرجال وقد أَسنّ‏.‏
والربعي‏:‏ الذي يُولد له في عُنْفوان شبابه أُخذ من ولد البَقرة الصَّيفي والرِّبعي‏.‏
ويقال للمرأة إذا تَبنَّت غير ولدها‏:‏ ابنك مَن دَمَّى عَقِبيك‏.‏
الرجل يؤتى من حيث أمن - قالوا‏:‏ من مَأمنه يُؤْتىَ الحَذِر‏.‏
وقال عَدِيّ بن زيد العِباديّ‏:‏ لو بِغير الماء حَلقى شَرِقٌ كُنْتُ كالغضَانِ بالماء آعْتِصارِي قال الأصمعيَّ‏:‏ هذا من أشرف أمثال للعَرب‏.‏
يقول‏:‏ إنّ كلَّ من شرَق ‏"‏ بشيء يستغيث بالماء كنتُ من كُرْبتي أَفِرُّ إليهم فهمُ كُرْبتي فأَينَ الفِرَارُ ومثله قول العبّاس بنٍ الأحنف‏:‏ قَلْبي إلى ما ضرَّني داعِي يُكثر أَحْزَاني وأَوْجاعي كيف احتراسي من عَدوِّي إذا كان عدوّي بَين أَضْلاعِي ‏"‏ وقال آخر‏:‏ مَن غَصَّ داوَى بُشرب الماء غُصته فكيف يَصنع مَن قد غَص بالماءِ ‏"‏ الأمثال في مكارم الأخلاق الحلم قال أبو عُبيد‏:‏ من أمثالهم في الحِلْم‏:‏ إذا نَزل ‏"‏ بك ‏"‏ الشرُّ فاقُعد أي فاحلم ولا تسارع إليه‏.‏
ومنه قولُ الآخر‏:‏ الحَليم مَطيَّة الجُهول‏.‏
وقولهم‏:‏ لا يَنْتَصف حَليمٌ من جاهل‏.‏
وقولهم‏:‏ أخر الشرّ فإن شِئْتَ تعجّلته‏.‏
وقولهم في الحَليم‏:‏ إنه لواقع الطَير ولساكن الرِّيح‏.‏
وقولهم‏:‏ في الحُلَماء‏:‏ كأنما على رؤوسهم الطَّير‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ رُبّما أًسْمع فأَذَر‏.‏
وقولهم‏:‏ حِلْمي أصمُّ وأُذني غَيْر صَمّاء‏.‏
العفو عند المقدرة منه قولهم‏:‏ مَلَكْت فأَسْجِح‏.‏
وقد قالته عائشة رضوان اللهّ عليها لعليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يوم الجَمَل حين ظَهر على الناس فَدَنا من هَوْدجها وكَلّمها فأجابْته‏:‏ مَلَكت فأسْجح ‏"‏ أي ظَفِرت فأحْسن‏.‏
فجهزها بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة - وقال بعضهم‏:‏ سبعين - حتى قَدِمت المدينة ‏"‏‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ المَقْدِرة تُذْهب الحَفِيظة‏.‏
وقولهم‏:‏ إذا ارجحنَّ شاصِياً فارْفَعْ يَدا المساعدة وترك الخلاف من ذلك قولهم‏:‏ إذا عَزَّ أخوك فَهُن‏.‏
وقوِلهم‏:‏ لولا الوِئام هَلك اللِّئام‏.‏
الوئام‏:‏ المباهاة‏:‏ يقول لولا المُباهاة لم يفعل الناسُ خيراَ‏.‏
مداراة الناس قالوا‏:‏ إذا لم تَغْلِب فاخْلِب‏.‏
يقول‏:‏ إذا لم تغلب فاخدَع ودار والطف‏.‏
وقولهم‏:‏ إلا حِظية فلا أليّة‏.‏
معناه‏:‏ إن لم يكن حُظْوة فلا تَقْصير‏.‏
‏"‏ إلية‏:‏ من ‏"‏ ألا يألو‏.‏
ويَأتلي أي يقصر‏.‏
‏"‏ ومنه قول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ ولا يَأْتل أولو الفَضْل منكم والسَّعَة ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ سوء الاستمساك خَيرٌ من حُسن الصرَّعة‏.‏
ومنه قولُ أبي الدَّرداء‏:‏ إنّا لَنَبشّ في وُجوه قوم وإنّ قُلوبَنا لَتَلْعنُهم‏.‏
ومنه قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ شِرار الناس من دَارَاه الناسُ لشرِّه‏.‏
ومنه قولُ شَبيب بن شَيْبة في خالد بن صَفْوان‏:‏ ليس له صديقٌ في السرِّ ولا عدوٌ في العَلاَنية‏.‏
يريد أنّ الناس يُدارونه لشرّه وقلوبُ الناس تُبْغِضه‏.‏
مفاكهة الرجل أهله منه قولهم‏:‏ كل آمرئ في بَيْته صَبيّ‏.‏
يريد حُسن الخُلق والمُفاكهة ومنه قولُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ إنا إذا خَلَوْنا قَلْلنا‏.‏
ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خِيَارُكم خَيركم لأهله‏.‏
ومنه قولُ مُعاوية‏:‏ إنهنّ يَغْلبن الكِرام ويَغْلِبهنّ اللِّئام‏.‏
اكتساب الحمد واجتناب الذم - قالوا‏:‏ الحمد مَغْنَم والذمُّ مَغْرَم‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏"‏ إنّ ‏"‏ قليلَ الذّم غيرُ قَليل‏.‏
وقولهم‏:‏ إنّ خيراً من الخير فاعلُه وإنّ شرَّاً من الشرّ فاعلًه‏.‏
وقولهم‏:‏ الخَيْر يَبْقى وإنْ طال الزمانُ به والشرُّ أَخبثُ ما أَوْعيتَ مِن زادِ الصبر على المصائب - من ذلك قولهم‏:‏ هَوِّن عَليك ولا تُولَعِ بإشْفاقِ وقولهم‏:‏ من أَراد طولَ البَقاء فَلْيوَطَن نفسه على المصائب‏.‏
وقولهم‏:‏ المُصيبة للصابِر واحدةٌ وللجازع اْثنتان‏.‏
وقال أَكْتم بن صَيْفيّ‏:‏ حِيلُة من لا حِيلة له الصبر‏.‏
وذكروا عن بعض الحُكماء أنه أُصيب بابن له فَبكى حَوْلا ثم سَلا فقيل له‏:‏ مالك لا تَبْكي قال كان جُرحا فَبَرِئ‏.‏
قال أبو خِرَاش الهُذَلي‏:‏ بَلَى إنها تَعْفو الكلُوم وإنما نُوكّل بالأدنىَ وإن جَلَّ مَا يَمْضي ومنه قولهم‏:‏ لا تلهف على ما فاتك‏.‏
منه قولهم‏:‏ اصطناع المَعروف يَقي مَصارع السُّوء‏.‏
وقولهم‏:‏ الجُود محبَّة والبُخْل مَبْغضة‏.‏
وقول الحُطَيئة‏:‏ مَن يَفْعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوازِيَه لا يَذْهبُ العُرْفُ بين الله والناس الكريم لا يجد منه قولهم‏:‏ بَيْتي يَبْخَل لا أنا‏.‏
وقولُهم‏:‏ بالسّاعد تَبْطِشُ الكَفُّ‏.‏
وِقولُهم‏:‏ ما كلف الله نَفْساً فوقَ طَاقتها ولا تَجُود يدٌ إلاّ بما تَجِدُ وقال آخر‏:‏ يَرى المرءُ أحياناً إذا قَلَّ مالُه مِن الْخَير تاراتٍ ولا يستَطيعُها مَتى ما يرمها قصَّر الفقرُ كَفّه فَيَضعُف عنها والغنيُّ يُضِيعها القناعة والدعة - منه قولُهم‏:‏ وَحَسْبك من غِنى شِبَع ورِيّ وقولهم‏:‏ يَكْفِيك ما يبلّغك المَحل‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ مَن شاء أنْ يُكْثِر أو يُقِلأَ يكْفِيه ما بلَغه المَحَلاَّ الصبر على المكاره يحمد العواقب - قالوا‏:‏ عواقب المَكاره مَحْمودة‏.‏
وقالوا‏:‏ عِند الصَّباح يحمد القومُ السًّرى‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تُدرك الراحةُ إلا بالتَعب‏.‏
أخذه حَبيب فقال‏:‏ على أَنَّني لم أَحْوِ مالاً مُجَمَّعاً فَفُزْتُ به إلاّ بشمل مُبَدَّدِ ولم تُعطِني الأيامُ نوماً مسكناً أَلذُّ به إلاّ بنَوْم مُشَرَّد وأحسن منه قوله أيضاَ‏:‏ بَصُرْتَ بالرَّاحة العُليا فلم تَرَها تُنال إلاّ على جِسْرٍ مِن التَّعب الانتفاع بالمال - قالوا‏:‏ خيرُ مالِك ما نَفَعك‏.‏
ولم يَضِع من مالك ما وَعَظَك‏.‏
ونظر ابن عبِّاس إلى دِرْهم بيد رجل فقال‏:‏ إنه ليس لك حتى يَخْرُج من يدك‏.‏
وقولهم‏:‏ تَقْتِير المَرْء على نفسه تَوْفِير منه على غَيْره‏.‏
قال الشاعر‏:‏ أنتَ للمال إذا أَمْسكتَه فإذا أنفقته فالمالُ لَك المتصافيان - منه قولهم‏:‏ هما كَنَدَمانَي جَذِيمة الأبرش الملك‏.‏
ونديماه رجلان من بَلْقَين يقال لهما‏:‏ مالك وعَقيل‏.‏
‏"‏ بَلْقين‏:‏ يريد من بني القيَنْ ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏"‏ هما أَطْول صُحْبة من الفَرقدين‏.‏
قال الشاعر ‏"‏‏:‏ وكُلُّ أخٍ مُفارقُه أخوه لَعَمْر أَبيكَ إلاّ الفَرْقَدان خاصة الرجل - منه قولُهم‏:‏ عَيْبة الرجل‏.‏
يريدون خاصَّته وموضعَ سرِّه‏.‏
ومنه الحديث في خُزاعة‏:‏ كانوا عَيْبة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم مؤمنُهم وكافرُهم‏.‏
مَن يكسب له غيره - منه قولهم‏:‏ ليس عليك غَزْلُه فاسحبْ وجُرَّ‏.‏
وقولُهم‏:‏ ورُبَّ ساعٍ لقاعد‏.‏
وقولهم‏:‏ خَيْر المال عينٌ ساهرة لعين نائمة‏.‏
المروءة مع الحاجة - منه قولهم‏:‏ تَجُوع الحرةَ ولا تَأكل بِثَدْييها‏.‏
وقولهم‏:‏ شَر الفقر الخُضوع وخَير الغِنى القناعة‏.‏
ومنه الحديث المرفوع‏:‏ أَجْملوا في الطلب‏.‏
قال الشاعر‏:‏ فإذا افتقرتَ فلا تَكًن مُتجَشِّعاً وتَجَمَّل ومنه قولُ هُدْبة العُذْرِيّ‏:‏ ولستُ بمفْراحٍ إذا الدهرُ سًرّني ولا جازع من صَرْفه المُتقلِّب ولا أَتمنىَ الشرِّ والشرُ تاركي ولكنّ مَتى أحْمَل على الشر أَرْكَبَ المال عند مَن لا يستحقه - منه قولهم‏:‏ خَرْقاءُ وجَدت صُوفا‏.‏
وَعَبْدٌ مَلَك عَبْدا ‏"‏ فأَوْلاه تَبَّاً ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَطُل ذيلُه يَنتَطق به‏.‏
ومَرْعى ولا أَكًولة‏.‏
وعًشب ولا بَعِير‏.‏
ومالٌ ولا مُنفِق‏.‏
الحض على الكسب - منه قولهم‏:‏ اطلب تَظْفر‏.‏
وقولُهم‏:‏ من عَجَز عن زاده اتّكل على زاد غيره‏.‏
وقولُهم‏:‏ من العَجْز نُتِجت الفاقُة‏.‏
وقولُهم‏:‏ لا يَفْترس الليثُ الظَّبْي وهو رابض‏.‏
وقول أوْرَدها سَعْدٌ وسَعْد مُشْتَمل ما هكذا تُورد يا سَعْد الإبِلْ الخبير بالأمر البصير به - منه قولهم‏:‏ على الخَبير سَقَطْتَ‏.‏
وقولهم‏:‏ كفي قوماً بصاحبهم خَبيراً‏.‏
وقولهم‏:‏ لكل أناس في جمالهم خُبْر‏.‏
وقولهم‏:‏ على يَدِي دارَ الحديث‏.‏
وقولهم‏:‏ تُعلِّمني بضبّ أنا حَرَشْتُه‏.‏
يقول‏:‏ أتُخْبرني بامرِ أنا وَليته وَلِّ القوسَ بارِيها‏.‏
وقولُهم‏:‏ الخيلًُ أعلم بفُرْسانها‏.‏
وقولُهم‏:‏ كل قوم أَعلم بِصناعتهم‏.‏
وقولُهم‏:‏ قَتَل أرضاً عاِلمُها‏.‏
وقتلت أرضٌ جاهلَها‏.‏
الاستخبار عن علم الشيء وتيقنه - من ذلك قولُهم‏:‏ ما وراءك يا عصام أول من تكلم به النابغةَ الذَّبياني لعِصام صاحب النّعمانِ وكان النعمانُ مريضاً فكان إذا لَقِيه النابغة قال له‏:‏ ما وراءك يا عِصام وقولُهم‏:‏ سيأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد‏.‏
وإليك يُساق الحديث‏.‏
انتحال العلم بغير آلته - منه قولُهم‏:‏ لكالحادِي وليسِ له بَعِير وقال الحُطيئة‏:‏ لكا لماشي وليس له حِذاء‏.‏
وقولهم‏:‏ إنباض بغير توتير‏.‏
وكقَابضٍ عَلَى الماء‏.‏
أخذه الشاعر فقال‏:‏ ومَن يَأمنِ الدُّنيا يكن مثلَ قابضٍ على الماءِ خانَتْهُ فُرُوجُ الأصابع من يوصي غيره وينسي نفسه - يا طَبِيبُ طِبَّ لنفسك‏.‏
ومنه‏:‏ لا تعظيني وتَعَظْعَظى أي لا توصيني وأوْصي نفسَك‏.‏
الأخذ في الأمور بالاحتياط - منه قولُهم‏:‏ أنْ تَرِد الماء بماء أَكْيسُ‏.‏
وقول العامة‏.‏
لا تَصُبَّ ماءً حتى تجدَ ماء‏.‏
وقولهم‏:‏ عَشِّ ولا تَغتر‏.‏
يقول‏:‏ عَشِّ إبلك ولا تغتر بما تُقْدم عليه‏.‏
ويُروى عن ابن عبّاس وابن عمر وابن الزّبير أن رجلاَ أتاهم فقال‏:‏ كل لا يَنْفع مع الشرِّك عملٌ كذلك لا يَضُر مع الإيمان تَقْصير فكلُّهم قال‏:‏ عَش ولا تَغتر‏.‏
وقولهم‏:‏ ليس بأَوَّلِ مَن غَره السراب‏.‏
وقولهم‏:‏ اشْتَر لنَفْسك وللسُّوق‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع عن الرجل الذي قال أأرْسِلُ ناقتي وأتوَكّل قال‏:‏ ‏"‏ بل ‏"‏ اعقلها وتوكل‏.‏
الاستعداد للأمر قبل نزوله - منه قولُهم‏:‏ قبلَ الرَّمْي يُراش السَّهم‏.‏
وقولهم‏:‏ قبل الرِّماءِ تُملأ الكنَائن‏.‏
وقولهم‏:‏ خُذ الأمر بقَوابله أي باستقباله قبل أن يُدْبر‏.‏
وقولهم‏:‏ شرُّ الرأي الدَّبَريّ‏.‏
وقولهم‏:‏ المُحاجزة قبل المناجزة‏.‏
وقولهم‏:‏ التقدُّم قبل التندم‏.‏
وقولهم‏:‏ يا عاقدُ اذكر حَلا‏.‏
وقولهم‏:‏ خيرُ الأمور أحمدُها مَغَبَّة‏.‏
وقولهم‏:‏ ليس للأمر بصاحب مَن لم يَنْظُر في العواقب‏.‏
طلب العافية بمسالمة الناَس - قولُهم‏:‏ مَنْ سَلَك الجَددَ أمِن العِثَار‏.‏
وأحذرْ تَسْلم‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ جًرُّوا له الخَطِيرَ ما انْجَرّ لكم‏.‏
الخطير‏:‏ ذِمامُ الناقة‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا تَكُن أدنىَ العَيْرين إلى السَّهم‏.‏
يقول‏:‏ لا تكُنِ أدنى أصحابك إلى مَوْضع التَّلف وكن ناحيةً أو وَسطاً‏.‏
قال كعب‏:‏ إنّ لكلّ قوم كَلْباَ فلا تَكُن كلبَ أصحابك‏.‏
وتقول العامّة‏:‏ لا تَكُن لسانَ قَوْم‏.‏
توسط الأمور - من ذلك قولُهم‏:‏ لا تَكُن حُلْواً فتُسْترَط ولا مُرّاً فتُعْقى أي تُلْفظ يقال‏:‏ أعقى الشيءُ إذا اشتدّت مرارتُه‏.‏
‏"‏ قال الشاعر‏:‏ ولا تَكُ آنِياً حُلْواً فَتُحْسىَ ولا مُرّا فتنشب في الحِلاق ‏"‏ وتقول العامّة‏:‏ لا تَكُن حُلْواً فتؤكل ولا مُرّاً فتُلْفظ‏.‏
وتَوَسًّط الأمور أدنى السلامة‏.‏
ومنه قول مُطَرِّف بن ‏"‏ عبد الله بن ‏"‏ الشِّخِّير‏:‏ الحَسنة بي السَّيِّئتين وخيرُ الأمور أوسطها‏.‏
وشرّ السَّير الحَقْحقة‏.‏
قوله‏:‏ بين السيئتين يريد بين المُجاوزة والتقصير‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بين المُمِخة والعَجْفاء‏.‏
‏"‏ يريد ‏"‏ بين السمين والمهزول‏.‏
ومنه قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ خيرُ الناس هذا النَّمط الأوْسَط يَلْحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي‏.‏
الإتابة بعد الاجرام - منه قولُهم‏:‏ أقصرَ لمَّا أبْصرَ‏.‏
ومنه أتْبِعْ السيئةَ الحسنةَ ‏"‏ تمحها ‏"‏‏.‏
والتائبُ من الذنبُ كمن لا ذنبَ له‏.‏
والندمُ تَوْبة‏.‏
والاعترافُ يَهْدِم الاقْتراف‏.‏
مدافعة الرجل عن نفسه - جاحَش فلان عن خَيْط رَقَبته‏.‏
وخيط الرقبة‏:‏ النخاع يقوِل‏:‏ دافع عن دمه ومُهجته‏.‏
وقالت العامّة‏:‏ ‏"‏ ومنه ‏"‏‏:‏ أَدفع عن نَفسي إذا لم يكن عنها دافِع‏.‏
قولهم في الانفراد - الذئبُ خالياً أسد‏.‏
يقول‏:‏ إذا وجدك خالياً اجترأ عليك‏.‏
ومنه الحديث المأثور‏:‏ الوَحِيد شيطان‏.‏
وفي الحديث الآخر‏:‏ عليكم بالجماعة فإنَّ الذِّئب إنما يُصيب من الغَنم الشَّاردة‏.‏
من ابتلى بشيء مرة فخافهُ أخرى - منه الحديثَ المرفوع‏:‏ لا يُلْسَع المؤمن من جُحْر مَرَّتين‏.‏
يريد أنه إذا لُسع مرّة ‏"‏ منه ‏"‏ تَحفظ من أخرى‏.‏
وقولُهم‏:‏ مَن لَدغته الحيَّة يَفْرَق من الرَّسَن‏.‏
وقولهم‏:‏ مَن يَشتري سَيْفي وهذا أَثرُه يُضرب هذا المثل للذي قد اختُبر وجُرِّب وقولهم‏:‏ كل الحِذَاءِ يَحتذي الحافِي الوَقِعْ الوَقِع‏:‏ الذي يمشي في الوَقَع وهي الحجارة‏.‏
قال أعرابي‏:‏ يا ليت لي نَعْلين من جِلْد الضَّبع وشُرُكا من آستها لا تنقطعْ كلَّ الحِذاء يحتذي الحافي الوَقِعْ اتباع الهوى - قال ابن عبَّاس‏:‏ ما ذَكَر الله الهَوى في شيء إلا ذَمه‏.‏
قال الشعبيّ‏:‏ قيل له هَوًى لأنه يهْوَى به‏.‏
ومن أمثالهم فيه‏:‏ حُبًّك الشيءَ يُعْمى ويُصِمّ‏.‏
وقالوا‏:‏ الهَوَى إله مَعْبود‏.‏
الحذر من العطب - قالوا‏:‏ وقولُهم‏:‏ أعورُ عينَك والحَجَر‏.‏
وقولُهم‏:‏ الليلَ وأهضامَ الوادي‏.‏
وأصله أن يسير الرجلُ ليلاً في بُطون الأودية حذّره ذلك‏.‏
وقولُهم‏:‏ دَع خيرَها لشرِّها‏.‏
وقولهم‏:‏ لا تُراهن على الصَّعْبة‏.‏
وقولُهم أَعْذَر مَن أَنْذَر‏.‏
حسن التدبير والنهي عن الخرق - الرِّفْق يُمْن والخُرْق شُؤْم‏.‏
ورُبَّ أكلة تَمْنع أكلات‏.‏
وقولهم‏:‏ قَلَب الأمر ظَهْراً لِبَطن‏.‏
وقولُهم‏:‏ ‏"‏ اضْرب ‏"‏ وَجْهَ الأمرِ وعَيْنَيه وأجْر الأمور على أَذْلالها أي على وُجوهها‏.‏
وقولُهم‏:‏ وجِّه الحَجَر وِجْهةً ما ‏"‏ له ‏"‏‏.‏
وقولُهم‏:‏ وَلِى حارَها مَن وَلي قارَها‏.‏
المشورة - قالوا‏:‏ أوّلَ الحَزْم المَشورة‏.‏
ومنه‏:‏ لا يهلك امرؤ عن مَشورة‏.‏
قال ابن المُسيِّب‏:‏ ما اْستشرتُ في أمر واْستخرتُ وأبالي على أيَ جنبيّ سقطْتُ‏.‏
الجد في طلب الحاجة - أَبْل عُذْراً وخَلاك ذَمّ‏.‏
‏"‏ يقول‏:‏ إنما عليك أن تَجتهد في الطلب وتُعْذِر لكيلا تُذَمّ فيها وإن لم تكن تقْضىَ الحاجة ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ هذا أوَانُ الشدِّ فاشتدِّي زيم وقولُهم‏:‏ اضرب عليه جرْوَتك أي وَطِّن عليه نَفْسك‏.‏
ومنه‏:‏ اجمعْ عليه جَرَاميزَك واشددَ له حيازيمك‏.‏
وقولًهم‏:‏ شَمِّر ذَيلا واْدَّرع ليلاً‏.‏
ومنه‏:‏ اْئت به ‏"‏ من ‏"‏ حِسِّك وبَسِّك‏.‏
ومنه قول العامّة‏:‏ جئ به من حيث أيسَ وليس‏.‏
الأيس‏:‏ الموجود‏.‏
والليس‏:‏ التأني في الأمرِ - من ذلك قولُهم‏:‏ رب عجلة تُعْقب رَيْثاً‏.‏
وقولُهم إنَ المنبَتّ لا أرضاً قَطَع ولا ظَهراَ أبقى‏.‏
وقال القطاميّ‏:‏ قد يُدْرك المتأَنِّي بعضَ حاجته وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ ومنه‏:‏ ضَحِّ رًوَيْداً أي لا تَعجل‏.‏
والرَّشْفُ أنقع أي أَرْوَى يقال‏:‏ شَرب حتى نَقَع‏.‏
ومنه‏:‏ لا يُرْسل الساقَ إلا مُمْسكاً ساقاً‏.‏
سوء الجوار - منه قولهم‏:‏ لا يَنْفعُك من جار سَوءٍ تَوَقٍّ‏.‏
والجارُ السُّوء قِطعة من نار‏.‏
ومنه‏:‏ هذا أحقُ منزل بتَرْك‏.‏
‏"‏ ومنه قولهم‏:‏ الجارَ قبل الدار‏.‏
الرفيقَ قبل الطريق‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ بعتُ جاري ولم أبع داري‏.‏
يقول‏:‏ كنتُ راغبا في الدار إلا أني بعتُها بسبب الجار السوء ‏"‏‏.‏
سوء المرافقة - أنت تَئِقٌ وأنا مَئِق فمتى نَتَّفِق‏.‏
التَئِق‏:‏ السريع الشرّ‏.‏
والمَئِق‏:‏ السريع البُكاء ويقال‏:‏ الممتلىء من الغضب والتّئِق والمَئِق مهموزان‏.‏
وقولهم‏:‏ ما يجمع بين الأرْوَى والنعام يريد أن مَسْكن الأروى الجبلُ ومَسكنَ النعام الرَّمل - الأرِوى‏:‏ جمع أرْوّية - ومنه‏:‏ لا يَجْتمع السِّيْفان في غِمد‏.‏
ومنه‏:‏ لا يَلتاط هذا بصَفري أي لا يَلْصق بقَلْبي‏.‏
العادة - قالوا‏:‏ العادةُ أملكُ منِ الأدب‏.‏
وقالوا‏:‏ عادةُ السَّوء شرٌ من المَغْرَم‏.‏
وقالوا‏:‏ أَعْطِ العبدَ ذِراعاً يَطْلُبْ باعاَ‏.‏
ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أئِنَّا لَمَرْدودُونَ فِي الْحافِرَة ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ رجع فلان على قَرْوَائه‏.‏
ومنه الحديث‏:‏ لا تَرْجع هذه الأمة عن قَرْوَائها‏.‏
اشتغال الرجل بما يعنيه - منه‏:‏ كلُّ امرئ في شأنه ساع‏.‏
وقولهم‏:‏ هَمُّك ما أهَمَّك‏.‏
همك ما أدْأبك‏.‏
وقولهم‏:‏ ولي حارَها من تَوَلّى قارَّها‏.‏
قلة الاكثراثٍ - منه قولهم‏:‏ ما أبالِيه بالة‏.‏
وسئل ابن عبّاس عن الوضوء من اللبن فقال‏:‏ ما أبالِيه بالة‏.‏
وقولهم‏:‏ اسمَحْ يُسْمَح لك‏.‏
وقولُهم‏:‏ الكلابَ على البقر‏.‏
يقول‏:‏ خلِّ الكلابَ وبقرَ الوِحْش‏.‏
قلة اهتمام الرجل بصاحبه - هان على الأَمْلس ما لاقَى الدَبِر‏.‏
ما يلقى الشجي منِ الْخَليّ‏.‏
قال أبو زيد‏:‏ الشجي مخفف والخلىّ مشدد‏:‏ ومنه قول العامّة‏:‏ هان علىَ الصحيح أن يَقول لِلْمَريض‏:‏ لا بأس عليك‏.‏
الجشع والطمعِ - منه قولهم تُقَطِّع أعناقَ الرِّجال المطامعُ ومنه قولهم‏:‏ غَثُّك خيرٌ لك من سمِين غيرك‏.‏
وقولهم‏:‏ المَسئلة خُموش في وجه صاحبها‏.‏
وقال أبو الأسْوَد في رجل دنيء‏:‏ إذا سُئِل أَرَز وإذا دُعى انتهز‏.‏
ومنه قولُ عَوْن بن عبد الله‏:‏ إذا سأل أَلْحَف وإذا الشره المطعام - منه قولهم‏:‏ وَحْمَى ولا حَبَل أي لا يذكر له شيء إلا اشتهاه كشَهْوَة الحُبْلى وهي الوَحْمَى‏.‏
ومنه‏:‏ المرء تَوَّاق إلى ما لمِ يَنَل‏.‏
وقولهم‏:‏ يَبْعَث الكلابَ عن مَرَابضها أي يَطْرُدها طَمَعاً أن يَجدَ شيئاً يأكله من تَحْتها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ أَراد أن يأكل بيَدَيْن‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع‏:‏ الرَّغْبة شُؤْم‏.‏
الغلط في القياس - منه قولُهم‏:‏ ليس قَطاً مثلَ قُطَيّ‏.‏
وقال ابن الأسْلت‏:‏ ليس قطاً مثل قُطَيّ ولا ال مَرْعِيُّ في الأقوام كالرَّاعي ومنه قولهم‏:‏ مُذَكِّيةٌ تقاس بالْجذَاَع‏.‏
يُضرب لمن يَقيس الكَبِير بالصغير‏.‏
والمُذَكِّية هي المُسِنَّة من الخيل‏.‏
وضع الشيء في غير موضعه - منه‏:‏ كمُسْتَبْضع التَّمر إلى هَجَر‏.‏
وهجر‏:‏ معدن التمر‏.‏
قال الشاعر‏:‏ فإنّا وَمَنْ يَهْدِي القَصائدَ نَحْوَنا كمُسْتَبْضع تمراً إلى أَهْل خَيْبرَا ومنه قولهم‏:‏ كمُعَلِّمة أُمّها الرضاع‏.‏
ومنه الحديث المرفوع‏:‏ رُب حامِل فِقْهٍ إلى مَن هو أفقه منه‏.‏
وفيمن وَضع الشيء في غير موضعه ‏"‏ قولهم ‏"‏‏:‏ ظَلَمَ مَن اسْترعى الذئبَ الغَنَم‏.‏
وقال ابن هَرْمة‏:‏ كتاركةٍ بيضها بالعَرَاء ومًلحِفة بيضَ أُخرى جَناحَا كفران النعمة - منه‏:‏ سَمِّنْ كلبَك يأكُلك‏.‏
أحشّك وتَرُوثني‏!‏ قاله في مخاطبة فرسه أي أعْلفك الحشيشَ وتروث عليّ ومنه قولُ الآخر‏:‏ أُعلَمه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ فلمَّا اشتدَ ساعدُه رَمَاني التدبر - منه قولهم‏:‏ لا ماءكِ أَبقَيْتِ ولا دَرَنك أنْقيت‏.‏
وقولهم‏:‏ لا أبوك نُشرِ ولا التراب نَفِد‏.‏
أصل هذا المثل لرجل قال‏:‏ ليتني أعرف قبرَ أبي حتى آخذ من تُرابه على رأسي‏.‏
التهمة - منه قولهم‏:‏ عسى الغوَير أَبْؤُساً‏.‏
والأبؤس‏:‏ جمع بأس‏.‏
قال ابن الكَلْبي‏:‏ الغوَير‏:‏ ماء معروف لكَلْب‏.‏
وهذا مثل تكلَّمت به الزباء وذلك أنها وجَّهت قَصِيراَ اللَخْميّ بالعِير ليَجْلِب لها من بَزّ العراق وكان يَطلبها بدم جَذيمة الأبرش فجعل الأحمال صناديق وجعل في كل صُندوق رجلاً معه السلاح ثم تنكّب بهم الطريقَ وأخذ على الغُوَير فسألْت عن خَبره فأُخبرَت بذلك فقالت‏:‏ عسى الغُوَير أَبْؤُساً‏.‏
تقول‏:‏ عسى أن يأتي الغُوَير بشرّ واستنكرت أخذَه على غير الطريق‏.‏
ومنه‏:‏ سَقَطت به النصيحةُ على الظِّنَّة أي نصحتَه فاتهمك‏.‏
ومنه‏:‏ لا تَنْقُش الشوكةَ بمثلها ‏"‏ فإنّ ضَلْعها معها ‏"‏‏.‏
يقول‏:‏ لا تَستَعِن في حاجتك بمَن هو ومنه‏:‏
إذا غاب منها كَوْكبٌ لاحَ كَوكب
وقولهم‏:‏ رأسٌ برأسٍ وزيادةِ خَسمائة‏.‏
قالها الفرزدق في رجل كان في جيش فقال ‏"‏ صاحبُ الجيش ‏"‏‏:‏ مَن جاء برأس فله للمطلوب منه الحاجة أَنْصح ‏"‏ منه لك ‏"‏‏.‏
تأخير الشيء وقت الحاجة إليه - منه‏:‏ لا عطْر بعد عَروس‏.‏
وأصل هذا أَنّ عَروساً أُهديت فوجدها الرجلُ تَفِلة فقال لها‏:‏ أين الطَّيب قالت‏:‏ ادَخَرتُه قال‏:‏ لا عطر بعد عَروس‏.‏
وقولهم‏:‏ لا بَقاء للحمِيَّة بعد الحُرْمة‏.‏
يقول‏:‏ إنّما يَحْمى الإنسانُ حريمه فإذا ذهبت فلا حَميَّة له‏.‏
الإساءة قبل الإحسان - منه‏:‏ يسبق دِرَّتَه غِرارُه‏.‏
الغرار‏:‏ قلة اللبن‏.‏
والدِّرَّة‏:‏ كثرته‏.‏
ويسبق سيلَه مَطرُه‏.‏
البخل - ما عنده خَيْر ولا مَيْر سواء هو والعَدَم‏.‏
والعَدَم والعُدْم لغتان‏.‏
ما بضّ حجره‏.‏
والبَضّ‏:‏ أقلِّ السيلان‏.‏
ما تَبُلّ إحدى يديه الأخرى‏.‏
الجبن - إنّ الجبان حَتْفه من فَوْقه ‏.‏
‏"‏ ومثله ‏"‏ في القرآن‏:‏ ‏"‏ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ‏"‏‏.‏
ومنه‏:‏ كلُّ أَزَب نَفُور‏.‏
وَقَفّ شَعَره واقشعرَّت ذُؤَابته‏.‏
معناه‏:‏ قام شعرُه من الفَزع‏.‏
وشَرِقَ برِيقه‏.‏
الجبان يتواعد بما لا يفعل - الصَدْق يُنبي عنك لا الوَعيد‏.‏
يُنْبي ‏"‏ عنك ‏"‏‏:‏ يَدفع عنك مَن يَنْبو‏.‏
ومنه‏:‏ أَوْسعتُهم شَتْماً وأَوْدَوْا بالإبل‏.‏
وقيل لأعرابيّ خاصم امرأته إلى السلطان ‏"‏ فقيل له‏:‏ ما صنعت معها ‏"‏ قال‏:‏ كَبَّها الله لوَجْهِهَا ولو أُمِرَ بي إلى السِّجن‏.‏
الاستغناء بالحاضر عن الغائب - قولهم‏:‏ إن ذَهب عَيْرٌ فعَيْرٌ في الرِّباط‏.‏
خَمسمائة ‏"‏ درهم‏.‏
فبرز رجل وقتل رجلاً من العدوَ فأعطاه خمسمائة درهمِ ‏"‏ ثم برز ثانية فقُتل فبَكى عليه أهلُه فقال لهم الفرزدق‏:‏ أمَا تَرْضون رأساَ برأس وزيادة خمسمائة المقادير - منه قولُهم‏:‏ المقاديرُ تُريك ما لا يَخْطُر ببالك‏.‏
وقولُهم‏:‏ إذا نزل القَدر غَشىَّ البَصر‏.‏
وإذا نزل الحَينْ غَطَى العين‏.‏
ولا يُغْنى حَذَر من قدَر‏.‏
ومن مَأمنه يُؤتى الحَذر‏.‏
وقولُهم‏:‏ وكيف تَوَقّى ظَهْر ما أنت راكبُه‏.‏
الرجل يأتي إلى حتفه - منه قولًهم‏:‏ أتتكَ بحائنٍ رجلاه‏.‏
لا تَكنُ كالباحُث عن المدية‏.‏
وقولُهم‏:‏ حَتْفَها تحمِل ضأن بأَظْلافها‏.‏
ما يقال للجاني على نفسه - يداكَ أَوْكَتا وفُوِكَ نَفخ‏.‏
وأصلُه أَنّ رجلاً نَفَخ زِقَّاً ورَكِبه في النهر فانحلّ الوِكاء وخَرجت الريح وغرِق الرجل فاستغاث بأعرابيّ على ضفّة النهر فقال‏:‏ يداك أوْكتا وفُوك نَفخ‏.‏
جالب الحين إلى أهله - منه قولُهم‏:‏ دلَت على أهلها رَقاش ورقاش كلبة لحيّ من العَرب مرَّ بهم جيش ليلاً ولم يَنْتبهوا لهم فنَبحت رقاش فدلَّت عليهم‏.‏
وقالوا‏:‏ كانت عليهم كراغية البَكْر‏.‏
يَعْنون ناقةَ ثمود‏.‏
وقال الأخطل‏:‏ ضفَادع في ظَلْماء ليل تَجاوَبَتْ فدلّ عليها صوتها حيةَ البَحْرِ تصرف الدهر - منه قولُهم‏:‏ مرَّةً عيش ومرة جيش‏.‏
ومنه‏:‏ اليوم خَمر وغداً أمر قاله امرؤ القيس أو مهلهل أخو كليب لمّا أتاه موتُ أخيه وهو يَشرب‏.‏
وقالوا‏:‏ عِش رجباً ترى عَجباً‏.‏
وقالوا‏:‏ أتى الأبد على لُبد‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ فيَومٌ علينا ويومٌ لنا ويوماً نُساء ويوماً نسَرّ وقولُهم‏:‏ مَن يَجتمعِ تَتَقَعقَع عُمُدُه‏.‏
وأنشد‏:‏ أجارتَنا مَن يجتَمع يَتَفَرَّق ومَن يك رهناً للحوادث يَغْلَقِ الأمر الشديد المعضل - منه قولًهم‏:‏ أَظْلم عليه يومُه‏.‏
وأين يَضَع المَخنوقُ يدَه ومنه ‏"‏ قولهم ‏"‏‏:‏ لو كان ذا حيلة لتَحوَّل‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ رأى الكوكب ظُهْراً‏.‏
قال طَرَفة‏:‏ وتُرِيه النجمَ يَجْرِي بالظُّهرُ هلاك القوم - منه قولهم‏:‏ طارت بهم العَنْقاء‏.‏
وطارت بهم عُقاب مَلاَع‏.‏
يُقال ذلك في الواحد والجمع وأحسبها مَعْدولة عن مَيْلع‏.‏
والمَنايا على الحَوايا‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ يقال‏:‏ إن الحَوَايا في هذا الموضع مَرْكب من مَرَاكب النساء واحدتها حويّة وأحسب أصلها أن قوماً قُتلوا فحُمِلوا على الحَوَايا ‏"‏ فظنَّ الراؤون أن فيها نساء فلما كشفوا عنها أبصروا القَتْلى فقالوا ذلك ‏"‏ فصارت مثلاً‏.‏
ومنه‏:‏ أتتهم الدُّهَيم تَرْمِي بالرًضْف‏.‏
معناه‏:‏ الداهية العظيمة‏.‏
وهذا أمر لا يُنادى وَليده معناه أنّ الأمر اشتدّ حتى ذَهِلت المرأةً أن تدعو وَليدَها‏.‏
ومنه‏:‏ التقت حَلقتا البطان وبَلَغ السيل الزُّبى وجاوَز الْحِزامُ الطُّبيين‏.‏
وتقول العامَّة‏:‏ بلغ السِّكينُ العظمَ‏.‏
إصلاح ما لا صلاح له - منه قولهم‏:‏ كدابغةٍ وقد حَلِم الأديم حَلِم‏:‏ فسد‏.‏
وكتب الوليد بن عُقبة إلى معاوية بهذا البيت‏:‏ فإنّك والكتابَ إلى عليّ كدابغةٍ وقد حَلِم الأديمُ في شعر له‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:00 AM

صفة العدو
- يقال في العدوّ‏:‏ هو أَزْرَق العين وإن لم يكن أَزْرَق وهو أَسْود الكَبِد وأَصْهب السِّبال‏.‏
البخيل يعتل بالعسر - منه قولهم‏:‏ قَبْل البُكاء كان وجهُك عابساً‏.‏
ومنه‏:‏ قبل النِّفاس كنت مُصْفَرَّة‏.‏
اغتنام ما يعطى البخيل وإن قل - منه‏:‏ خذ من الرِّضْفة ما عليها‏.‏
وخُذ من جَذَع ما أعطاك‏.‏
قال ابن الكلبي‏:‏ وأصل هذا المثل أن غسّان كانت تُؤدِّي إلى ملوك سَلِيح دينارين كلَّ سنة عن كل رجل وكان الذي بَلى ذلك سَبَطة بن المُنذر السَّليحي فجاء سَبَطة إلى جَذَع بن عمرو الغسّاني يَسأله الدِّينارين فَدَخَل جَذَع منزلَه واشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به سَبَطة حتى سَكت ثم قال له خُذ من جَذع ما أعطاك فامتنعت غسّان من الدينارين بعد ذلك وصار الملْك لها حتى أتى الإسلام‏.‏
البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه - منه قولهم‏:‏ سَمْنُكم ‏"‏ هُرِيق ‏"‏ في أديمكم‏.‏
ومنه يا مُهْدِيَ المال كُلْ ما أهديت‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ الحمار جَلَبه والحمار أكله‏.‏
موت البخيل وماله وافر - منه مات فلان عريضَ البِطان‏.‏
ومات بِبِطنته لم يَتَغَضْغَض منها شيء‏.‏
والتَّغضغض‏:‏ النقصان‏.‏
البخيل يعطي مرة - منه قولهم‏:‏ ما كانت عطيَّته إلا بَيْضة العُقْر وهي بَيْضة الديك‏.‏
قال الزُّبيرِي‏:‏ الدِّيك ربَّما باضٍ بيضة وأنشد لبشّار‏:‏ قد زًرْتِني زَوْرَةَ في الدَّهر واحدة ثَنِّي ولا تَجْعليها بيضةَ الدِّيكِ ومنه قولُ الشاعر‏:‏ لا تَعجبنّ لخير زلّ من يَدِه فالكوكبُ النَّحس يَسْقِي الأرضَ أحياناً ومنه قولُهم‏:‏ من الخَواطئ سهمٌ صائب‏.‏
والليلُ طويل وأنت مُقمِر‏.‏
وأصل هذا ‏"‏ أن ‏"‏ سُليك بن سُلكَة كان نائماً مُشْتملاً فجَثَم رجل على صدره وقال له‏:‏ استأسرْ فقال له‏:‏ الليل طويل وأنت مُقْمِر ‏"‏ ثمّ قال له‏:‏ استأسر ‏"‏ يا خَبيث فضَمَّه ضَمَّة ضَرِط منها فقال له‏:‏ أَضَرِطاً وأنت الأعلى فذهبت أيضاً‏.‏
طلب الحاجة المتعذرة - منه قولُهم‏:‏ تَسألني بَرامَتين سَلْجماً‏.‏
وأصله أنّ امرأة تَشهَّت على زوجها سَلْجماً وهو ببلد قَفْر فقال هذه المقالة‏.‏
والسَّلجم‏:‏ اللِّفت‏.‏
ومنه شرُّ ما رام امرؤ ما لم يَنَلْ‏.‏
ومنه‏:‏ السائلُ فوق حقِّه مُسْتَحِق الحِرْمان‏.‏
ومنه قولُهمّ‏:‏ إنك إنْ كلفتني ما لم أُطِق ساءَك ما سَرَّك منِّي من خُلُق الرضا بالبعض دون الكل - منه‏:‏ قد يَرْكبُ الصَّعب من لا ذَلول له‏.‏
وقولُهم‏:‏ خُذ من جَذَع ما أعطاك‏.‏
وقولهم‏:‏ خُذ ما طَفَّ لك أي ارض بما أمكنك‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ زَوْجٌ من عُود خيرٌ من قُعود‏.‏
وقولُهم‏:‏ ليس الرِّيّ ‏"‏ عن ‏"‏ التّشاف أي ليس يَرْوَى الشاربُ بشرب الشِّفافة كلّها وهي بقية الماء في الإناء‏.‏
ولكنه يَرْوى قبل بلوغ ذلك‏.‏
وقولهم‏:‏ لم يُحْرَمٍ من فُصِد له‏.‏
ومعناه‏:‏ أنهم كانوا إذا لم يَقْدروا على قِرَى الضَّيف فَصَدوا له بعيراً وعالجوا دَمه بشيء حتى يمكن أن يأكله‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ إذا لم يكن شَحْم فَنَفس‏.‏
أصل هذا أن امرأة لَبِسَت ثياباً ثم مَشت وأظهرت البُهْر في مِشْيتها بارتفاع نَفَسها فلَقِيها رجلٍ فقال لها‏:‏ إني أَعرفك مَهزولة فمَن أين هذا النفس قالت‏:‏ إن لم يكن شَحْم فنفس‏.‏
وقال ابن هانئ‏:‏ التنوق في الحاجة - منه قولهم‏:‏ فعلتَ فيها فعلَ من طَبَّ لمَن أحَبَّ‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ جاء تَضِبُّ لِثَاته على الحاجة معناه لشدة حِرْصه عليها‏.‏
وقال بِشْر بن أبي خازم‏:‏ خيلا تَضِبّ لِثَاتُها للمَغْنم استتمامِ الحاجة - أَتْبع الفرس لجامها يريد أنك قد جُدْت بالفَرس واللِّجام أَيْسر خَطْباً فأتمَّ الحاجة‏.‏
ومنه‏:‏ تَمام الرَّبيع الصَّيف وأصله في المطر فالرَّبيع أوّله والصَّيف آخره‏.‏
المصانعة في الحاجة - مَن يَطْلب الحَسْناء يُعْطِ مَهْرَها‏.‏
وقولهم‏:‏ المُصانعة تُيَسِّر الحاجة‏.‏
ومَن اشترى فقد اشتوَى‏.‏
يقول‏:‏ مَن اشترى لحماً فقد أَكل شِواء‏.‏
تعجيل الحاجة - قولهم‏:‏ السَّرَاح من النجاح‏.‏
النفسُ مُولعةٌ بحبِّ العاجل‏.‏
الحاجة تمكن من وجهين - منه قولهم‏:‏ كلا جانبي هَرْشى لهُنّ طريق‏.‏
هَرْشى‏:‏ عقبة‏.‏
ومنه‏:‏ هو على حَبْل ذِراعك أي لا يخالفك‏.‏
مَن منع حاجة فطلب أخرى - منه قولهم‏:‏ إلاده فلاَدهِ‏.‏
قال ابن الكلبي‏:‏ معناه أن كاهناً تَقَاضى إليه رجلان من العرب‏:‏ فقالا‏:‏ أَخْبرنا في أي شيء جِئناك قال‏:‏ في كذا وكذا قالا‏:‏ إلادَه أي انظر غير هذا النظرِ‏.‏
قال‏:‏ إلادَه فَلاَده ‏"‏ ثم أخبرهما بها ‏"‏‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن‏.‏
الأمرُ يَحْدُث دونه الأمر‏.‏
وقولهم‏:‏ أخْلَف رُوَيْعياً مَظِنُّه‏.‏
وأصله أن راعياً اعتاد مكاناَ فجاءه يرعاه فوجده قد تغيِّر وحال عن عهده‏.‏
ومنه قولهم سَدَّ ابن بَيْض الطريقَ سدًّا‏.‏
وابن بيض‏:‏ رجل عقر ناقة في رأس ثَنيَّة فسدَ بها الطريق‏.‏
اليأس والخيبة - منه قولهم‏:‏ جاء بخُفي حُنين‏.‏
وقد فسرناه في الكتاب الذي قبل هذا‏.‏
ومنه‏:‏ أطالَ الغيبة وجاء بالخَيْبة‏.‏
ونظير هذا قولهم‏:‏ سَكت ألفاً ونَطَق خَلْفاً أي أطال السكوت وتكلم بالقبيح وهذا المثل يقع في باب العيّ وله ها هنا وجه أيضاً‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ ومازِلْتُ اقطعُ عَرْضَ البِلادِ مِن المَشْرِقين إلى المَغْرِبَين وَأدَّرعُ الخوفَ تحتَ الدُجى وَأسْتَصْحِبُ الْجَدْى وَالفَرْقَدَيْن وَأطوِى وَأنْشُرُ ثوبَ الهُموم إلى أن رَجَعتُ بخُفي حُنَيْنِ طلب الحاجة في غير موضعها - قالوا‏:‏ لم أجد لشفْرَتي مَحَزّا‏.‏
وقولهم‏:‏ كَدَمْتَ غير مَكدَم‏.‏
وقولهم‏:‏ نَفختَ لو تنفخ في فَحَم‏.‏
وقالت العامة‏:‏ يَضرب في حديدٍ بارد‏.‏
طلب الحاجة بعد فواتها - منه قولهم‏:‏ لا تطلب أثراً بعد عَين‏.‏
وقولهم‏:‏ ‏"‏ في ‏"‏ الصيَّف ضَيّعتِ اللبن‏.‏
معناه أنّ الرجل إذا لم يُطرق ماشيَته في الصيَّف كان مُضَيِّعاً ‏"‏ لألبانها عند الحاجة ‏"‏‏.‏
الرضا من الحاجة بتركها - منه قولهم‏:‏ نجا برأسه فقد رَبح‏.‏
وقولهم‏:‏ وقول العامة‏:‏ الهزيمة مع السلامة غنِيمة‏.‏
وقال امرؤ القيس‏:‏ وقد طوَفْتُ في الآفاقِ حتَّى رَضِيتُ من الغنيمة بالإيابِ وقال آخر‏:‏ الليلُ داج والكِباشُ تَنْتَطِحْ فَمن نَجَا برأسه فقد رَبِحْ من طلب الزيِادة فانتقص - منه‏:‏ كطالب القَرْن جُدِعت أُذُنه‏.‏
وقولهم‏:‏ كطالب الصَّيد في عريسة الأسد‏.‏
وقولهم‏:‏ سَقَط العَشاء بها على سِرْحان‏.‏
يريد دابة خَرجت تطلب العَشاء فصادفت ذِئباً‏.‏
ونظير هذا من قولنا‏:‏ طلبْتُ بك التكثير فازددتُ قِلَّةً وقد يَخْسر الإنسان في طلب الرِّبْح الرجل يخلو بحاجته - منه قولهم‏:‏ خلا لكِ الجوُّ فبِيضى واصْفِرى ومنه‏:‏ ‏"‏ رًمِي ‏"‏ برَسنك على غاربك‏.‏
وهذا المثلُ قالته عائشة لابن أخت مَيْمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذهبت والله ميمونة ورُمي برَسَنك على غاربك‏.‏
ارسالك في الحاجة من تثق به - أرْسِل حكيماً ولا توصِه‏.‏
وقولهم‏:‏ الحريص يَصِيد لك لا الجواد‏.‏
يقول‏:‏ إنّ الذي له هوىً وحِرْص على حاجتك هو الذي يقُوم بها لا القويّ عليها ولا هَوَى له فيها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ لا يُرَحِّلنّ رحلَك مَن ليس معك‏.‏
ومنه في ‏"‏ هذا ‏"‏ المعنى‏:‏ الحاجة يجعلها نُصْبَ عينيه ويَحْملها بين أذنه وعاتقه ولم يجعلها بظَهْر‏.‏
قضاء الحاجة قبل السؤال - لا تسأل الصارخ وانظر ماله‏.‏
يريد لم يأتك مُستصرخاً إلا منِ ذُعر‏.‏
أصابه فأغِثه قبل أن يسألك‏.‏
ومنه كَفي برُغائها منادياً‏.‏
ومنه‏:‏ يُخْبِر عن مجهوله ‏"‏ مَعْلومُه ‏"‏‏.‏
وقولهم‏:‏ في عَيْنه فَرَارُه‏.‏
يَعْنون في نظرك إلى الفَرس ما يُغْنيك عن فَراره‏.‏
الانصراف بحاجة تامة مقضية - جاء فلان ثانياً من عِنانه‏.‏
فإن جاء بغير قضاء حاجته قالوا‏:‏ جاء يضرْب أصْدَرَيْه أي عِطْفيه‏.‏
وجاء وقد لَفَظ لِجَامه‏.‏
وجاء سَبَهْلَلاً‏.‏
فإن جاء بعد شدّة قيل‏:‏ جاء بعد الُّلتيا والَتي‏.‏
وجاء بعد الهِيَاط والمِيَاط‏.‏
تجديد الحزن بعد أن يبلى - منه قولهم‏:‏ حَرك لها حُوارها تَحِنَّ‏.‏
وهذا المثل يُروى عن عمرو بن العاص أنه قال لمِعاوية حين أراد أن يَسْتَنصر أهلَ الشام‏:‏ أخْرِج إليهم قميصَ عثمان رضوان الله عليه الذي قُتل فيه‏.‏
ففعل ذلك مُعاوية فأقبلوا يَبْكون فعندها قال عمرو‏:‏ حَرِّك لها حُوَارَها تَحِنّ‏.‏
جامع أمثال الظلم - منه قولُهم‏:‏ الظُّلم مَرْتعه وَخيم‏.‏
وفي الحديث‏:‏ الظلم ظُلمات يوم القيامة‏.‏
الظلم من نوعين - منه‏:‏ أحَشَفاً وسوءَ كِيلة‏.‏
ومنه‏:‏ أغُدَّةٌ كغُدَّة البَعير وَموْتٌ في بيت سَلُوليّة‏.‏
وهذا المثل لعامر بن الطُّفيل حين أصابه الطاعوِن في انصرافه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلجأ إلى امرأة من سَلُول فهلك عندها‏.‏
ومنه‏:‏ أَغَيْرَةَ وَجُبْناً‏.‏
قالته امرأةٌ من العرب لزوجها تُعيِّره حين تخلَف عن عدوّه في منزله ورآها تَنظُر إلى قِتال الناس فَضرَبها‏.‏
فقالت‏:‏ أغيرة وجُبْناً‏.‏
وقولهم‏:‏ أكسْفاً وإمساكاً‏.‏
أصله الِرجل يلقاك بعُبوس وكُلوح مع بُخل ومَنْع‏.‏
وقولهم‏:‏ ياعَبْرَى مُقْبلة يا سَهْرَى مُدْبِرَةَ‏.‏
يُضرب للأمر الذي يًكره من وجهين‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ كالمُستغيث من الرَّمْضاء بالنار وقولهم‏:‏ للموت نَزَع والموت بَدَر‏.‏
وقولهم‏:‏ كالأشقَر إِنْ تقدَّم نحِر وإن تأخّر عُقِر‏.‏
وقولهم‏:‏ كالأرقم إن يُقْتَلْ يَنْقِم وإن يُترْك يَلْقم‏.‏
يقول‏:‏ إن قتلته كان له من ينتقِم منك وإن تركته قتَلك‏.‏
ومنه‏:‏ هو بين حاذفٍ وقاذفٍ‏.‏
الحاذف‏:‏ الضارب بالعصا‏.‏
والقاذف‏:‏ الرامي بالحَجَر‏.‏
من يزداد غماً على غم - منه قولهم‏:‏ ضِغْثٌ على إبّالة‏.‏
الضِّغث‏:‏ الحُزمة الصغيرة من الحطب‏.‏
والإبّالة‏:‏ الكبيرة‏.‏
‏"‏ ومنه قولهم‏:‏ كِفْتٌ إلى وَئيّة‏.‏
الكِفْت‏:‏ القِدْر الصغيرة‏.‏
والوئية‏:‏ القِدر الكبيرة‏.‏
يُضرب للرجل يحمل البليّة الكبيرة ثم يزيد إليها أخرى صغيرة ‏"‏ ومنه قولهم‏:‏ وَقَعوا في أم جُنْدب‏.‏
إذا ظُلِمُوا‏.‏
المغبون في تجارته - منه قولهم‏:‏ صَفْقة لم يَشْهدها حاطب‏.‏
وأصله أنّ بعض أهل حاطب باع بَيْعَة غُبن فيها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ أعطاه الَّلفَاءَ غير الوفاء‏.‏
سرعة الملامة - منه‏:‏ ليس من العَدْل سرعة العَذْل‏.‏
ومنه رُبَّ مَلُوم لا ذنبَ له‏.‏
وقولهم‏:‏ الشَعيرُ يُؤكل ويُذمّ‏.‏
وقولُ العامة‏:‏ أكلاً وذمًّا‏.‏
وقولُ الحجاج‏:‏ قُبِّح والله منا الحسن الكريم يهتضمه اللئيم - لو ذاتُ سِوَار لَطَمَتْني‏.‏
ومنه‏:‏ ذًلّ لو أَجِد ناصراً‏.‏
الانتصار من الظالم - هذه بتلك والبادي أَظْلم‏.‏
ومنه‏:‏ مَنْ لم يَذُد عن حوضه يهدَّم‏.‏
الظلم ترجع عاقبته على صاحبه - قالوا‏:‏ مَن حفر مُغوّاة وَقع فيها‏.‏
والمغوّاة‏:‏ البئر تُحْفَر للذِّئاب ويُجعل فيها جَدْيٌ فيسقط الذئبُ فيها لِيَصِيدَه فَيُصاد‏.‏
ومنه‏:‏ يَعْدو على كل آمرىء ما يَأْتمر‏.‏
ومنه‏:‏ عاد الرَّمْي على النَزَعَة‏.‏
وهم الرّماة يَرْجع عليهم رَمْيهُم‏.‏
وتقول العامة‏:‏ كالباحِث عن مُدْية‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ رُمي بحَجَره وقُتِلَ بسلاحه‏.‏
المضطر إلى القتال - مُكْرَه أخوك لا بطل‏.‏
قد يَحْمِلُ العير من ذعر على الأسد المأخوذ بذنب غيره - جانِيكَ مَن يَجْني عليك‏.‏
ومنه‏:‏ ‏"‏‏:‏ كَذِي العُرّ يُكْوي غَيرُه وهو راتِع ومنه‏:‏ كالثوْر يُضْرب لما عَافَت البَقَر يعني عافت الماء‏.‏
وقال أنَس بن مُدْرك‏:‏ يعني ثَور الماء وهو الطحلُبُ يقال‏:‏ ثار الطّحلب ثَوْراً وثَوَرانا‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ كلُّ شاةٍ بِرِجْلها تُناط‏.‏
يُريد‏:‏ لا يُؤْخذ رجلٌ بغير ذَنْبه‏.‏
المتبرىء من الشيء - ما هو من ليلي ولا سَمَرِه‏.‏
ما هو من بَزِّي ولا مِن عِطْري‏.‏
مالي فيه ناقة ولا جَمَل‏.‏
ومنه قولهمَ‏:‏ بَرِئْت منه إلى اللّه‏.‏
ومنة‏:‏ لستُ منكَ ولستَ منّي‏.‏
وما أنا من دَدٍ ولا دَدٌ مني‏.‏
سوء معاشرة الناس - قالوا‏:‏ الناس شَجرة بَغْى‏.‏
لا سَبِيل إلى السّلامة من أَلْسنة العامة‏.‏
وقولهم‏:‏ رِضىَ الناس غايةٌ لا تدرك‏.‏
ومنه الحديثُ المرفوع‏:‏ النّاس كإِبلٍ مائةٍ لا تكاد تَجد فيها راحِلة ‏"‏ واحدة ‏"‏‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ الناس يُعيِّرون ولا يَغْفرون واللّه يغَفر ولا يُعيِّر‏.‏
وقال مالكُ بن دينار‏:‏ مَن عرف نفسَه لمِ يَضِرْه قولُ الناس فيه‏.‏
وقول أبي الدَّرداء‏:‏ إنْ قارضْتَ الناسَ قارضُوك إنْ تركتهم لم يَزكوك‏.‏
الجبان وما يذم من أخلاقه - منه قولهم‏:‏ إنّ الجبانَ حَتْفه من فَوْقه‏.‏
وهو من قول عمرو بن أمامة‏:‏ لقد وَجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه من فَوْقه قال أبو عُبيد‏:‏ أحسبه أراد ‏"‏ أن ‏"‏ حَذَره وتَوقَيه ليس بدافع عنه المَنيّة‏.‏
‏"‏ قال أبو عمرِ ‏"‏‏:‏ وهذا غَلط من أبي عُبيد عندي والمَعنى فيه أنه وَصف نفسَه بالجُبن وأنه وَجد الموت قبل أن يَذُوقه وهذا من الْجُبن ثم قال‏:‏ إنّ الجبان حتفُه من فوقه يريد أنه نظر إلى منيّته كأنما تحوم على رأسه كما قال الله تبارك وتعالى في المنافقين ‏"‏ إذ وصفهم بالجبن ‏"‏‏:‏ ‏"‏ يَحْسَبون كل صَيْحَةٍ عليهم همُ العَدُوّ ‏"‏‏.‏
وكما قال جرير للأخطل يُعيّره ‏"‏ إيقاعِ قَيْس بهم ‏"‏‏:‏ حَملتْ عليك رجالُ قَيْسٍ خَيْلَهَا شعْثاً عوابسَ تَحْمِلُ الأبطالا مازِلْتَ تَحْسِب كل شيء بعدَهم خيلاً تكر عليكمُ ورجالا ولو كان الأمر كما ذهب إليه أبو عُبيد ما كان معناه يَدخل في هذا الباب لأنه باب الجبان وما يُذَم من أخلاقه وليس أخذ الحَذَر من الجبن في شيء لأن أخْذ الحَذَر محمود وقد أمر الله تعالى به فقال‏:‏ ‏"‏ خُذوا حِذْرَكم ‏"‏ والجبن مَذْموم من كل وجه‏.‏
ومنه الشعر تمثل به سعد بن مُعاذ يوم الخنْدق‏:‏ لَبِّث قليلا يُدْرِك الهيْجا حَمَل ما أحسنَ الموتَ إذا حان الأجَلْ ومنه قولُهم‏:‏ كلّ أزَبّ نَفور وإنما يقال في الأزبّ من الإبل لكثرة شره ويكون ذلك في عَيْنيه فكلّما رآه ظن أنه شَخْص ‏"‏ يطلبه ‏"‏ فَيَنْفِر من أجله‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ بَصْبَصْنَ إذ حُدِين بالأذْناب‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ وقولُهم‏:‏ حال الجَريض دونَ القَرِيض‏.‏
وهذا المثل لعَبِيد بن الأبرص قاله للنعمان بن المنذر بن ماء السماء حين أراد قتْلَه فقال له‏:‏ أنْشِدني شِعْرَك‏:‏ أقفر من أهْله مَلْحُوب فقال عَبِيد‏:‏ حال الْجَرِيضُ دون القَرِيض‏.‏
ومنه‏:‏ قَفّ شَعَره واقشعرت ذُؤابتُه‏.‏
‏"‏ معناه‏:‏ قام شعره ‏"‏ من الفَزَع‏.‏
إفلات الجبان بعد اشفائه - منه قولُهم‏:‏ أفلت وانْحص الذَّنَب ومنه‏:‏ أفْلَت وله حُصَاص‏.‏
وُيروى في الحديث‏:‏ إن الشّيطان إذا سَمع الأذَان أدْبر وله حُصَاص‏.‏
ومنه‏:‏ أفلتنى جُرَيعَة الذَّقن إذا كان منه قرِيباً كقُرب الجَرْعة من الذَقن ثم أفلته‏.‏
ومنه قول العامة‏:‏ إن يُفلت العَيْرُ فقد ذرَق‏.‏
وقولُهم‏:‏ أفلتني وقد بَلَ النيْفق الذي تُسَمِّيه العامة النِّيفَق الجبان يتهدد غيره - منه قولُهم‏:‏ جاء فلان يَنفَض مِذرَوَيه أي يتوعّد ويتهدّد‏.‏
والمِذْرَوَان‏:‏ فَرْعا الأليَتين‏.‏
ولا يكاد يُقال هذا إلا لمن يتهدّد بلا حقيقة‏.‏
ومنه‏:‏ أبْرق لمن لا يَعْرفك‏.‏
واقْصِد بذَرْعك‏.‏
ولا تبْق إلا على نفسك‏.‏
تصرف الدهر - منه‏:‏ مَن يَجْتمع تَتقَعْقَع عُمُدُه‏:‏ أي إن الاجتماع داعية الافتراق‏.‏
ومنه‏:‏ كل ذات بَعْل ستَئِيم‏.‏
ومنه البيت السائر‏:‏ ومنه‏:‏ لم يَفُتْ مَن لم يَمُت‏.‏
الاستدلال بالنظر على الضمير - منه قولُهم‏:‏ شاهد البُغْض اللَّحْظ‏.‏
وجَلًى محبٌّ نَظَرَه‏.‏
قال زُهَير‏:‏ فإنْ تَكُ في صَديقٍ أو عدوّ تخبِّرْك العيونُ عن القًلوب وقال ابن أبي حازم‏:‏ خذ من العَيش ما كَفي ومِنَ الدهرِ ما صَفَا عَين من لا يُحبّ وَصَ لَك تُبْدِي لك الجَفا نفي المال عن الرجل - منه قولهم‏:‏ ما له سَعْنَة ولا مَعْنة‏.‏
معناه‏:‏ لا شيء له‏.‏
ومنه‏:‏ ما له هِلِّع ولا هِلَّعة وهما الجَدْي والعَنَاق‏.‏
ومنه‏:‏ ما له هارب ولا قارب‏.‏
معناه‏:‏ ليس أحد يَهرُب منه ولا أحدٌ يقرب إليه فليس له شيء‏.‏
وقولهم‏:‏ ما له عافِطة ولا نافِطة وهما الضَّائنة والمَاعِزة‏.‏
وما به نَبَض ولا حَبَض‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ النَبَض‏:‏ التحرّك ولا أعرف الحَبَض‏.‏
وقال غيرُه‏:‏ النبَض والحَبَض في الوتر فالنَّبَض‏:‏ تحرُّك الوَتر والحَبَض‏:‏ صوته‏.‏
وقال‏:‏ والنيْلُ يَهْوِي نَبَضاً وحَبَضاً ومنه قولهم‏:‏ ما له سَبَد ولا لَبَد هما الشعر والصوف‏.‏
ولم يَعْرف الأصمعي السَّعْنة والمَعْنة‏.‏
إذا لم يكن في الدار أحد - منه قولهم‏:‏ ما بالدار شَفْر ولا بها دُعْوِيٌّ ولا بها دًبّي‏.‏
معناه‏:‏ ما بها من يدعو من يَدِب‏.‏
وما بها من عَريب ولا بها دُورِيّ ولا طُوِريّ وما بها وابِر وما بها صافِر وما بها ديار وما بها نافخ ضَرَمة وما بها أرم‏.‏
معنى هذا كله‏:‏ ما بها أَحد‏.‏
ولا يقال منها شيء في الإثبات والإيجاب وإنما يَقولونها في النَّفي والجَحْد‏.‏
اللقاء وأوقاته - منه‏:‏ لَقِيت فلاناً أولَ عَين يعني أولَ شيء‏.‏
وقال أبو زيد‏:‏ لقيتُه أولَ عائنة ولقيتُه أوّلَ وَهْلة ولقيته أولَ ذات يَدَيْنِ ولقيته أولَ صَوْك وأولَ بَوْك‏.‏
فإن لقيته فجأة من غير أن تُريده قلتَ‏:‏ لَقِيته نِقَاباَ ولَقِيتُه التقاطاً إذا لَقِيتَه من غير طَلَب‏.‏
وقال الراجز‏:‏ ومَنْهل وردته التقاطاً وإن لقيته مُواجهة قلت‏:‏ لَقيتُه صِفاحاً ولقيتُه كِفاحاً ولقيتُه كَفَةَ كَفةَ‏.‏
قال أبو زَيد‏:‏ فإنْ عَرض لك من غير أن تذكُرَهُ قلت‏:‏ رُفعِ لي رفعاً وأشِبّ لي إشباباً‏.‏
فإن لقيتَه وليس بينك وبينه أحدٌ قلتَ‏:‏ لقيتُه صَحْرة بَحْرَة وهي غيرُ مُجْراة‏.‏
فإن لقيتَه في مكان قَفْر لا أنيسَ به قلتَ‏:‏ لقيته بوحش إصْمتَ غير مُجْرى أيضاً ولقيته بين سَمع الأرْض وبصرَها‏.‏
فإنْ لقيتَه قبل الفجر قلتَ‏:‏ لقيتُه قبل ‏"‏ كل ‏"‏ صيْحٍ وَنَفْر‏.‏
النفر‏:‏ التفرق‏.‏
وإن لقيتَه بالهاجرة قلت‏:‏ لقيته صَكًةَ عُمَىّ ‏"‏ وصَكَة أعْمى ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ رؤبة يصف الفلاة إذ لمعت بالسراب في الهاجرة‏:‏ فإن لقيتَه في اليومين والثلاثة قلت‏:‏ لقيتُه في الفَرَط ولا يكون الفَرَط في أكثر من خمس عشرة ليلة‏.‏
فإن لقيتَه بعد شهر ونحوه قلت‏:‏ لقيته من عُفْر‏.‏
فإن لقيتَه بعد الحول ونحوه قلت‏:‏ لقيته عن هَجْر‏.‏
فإن لقيتَه بعد أعوام قلت‏:‏ لقيته ذات العُريم‏.‏
فإن لقيته في الزمان قلت‏:‏ لقيته ذات الزُمين‏.‏
والغِبّ في الزيارة‏:‏ هو الإبطاء فيها‏.‏
والاعتمار في الزيارة‏:‏ هو التردد فيها‏.‏
في ترك الزيارة - منه قولُهم‏:‏ لا آتيك ما حنَّت النِّيبُ وما أطَّت الإبل وما اختلفت الدّرَة والجِرّة وما اختلف المَلَوَان وما اختلف الجديدان‏.‏
ولا آتيك الشمس والقمرَ وأبدَ الأبد ويقال‏:‏ أبد الآبدين ودهْر الداهرين وحتى يرجع السهمُ إلى فُوقه وحتى يَرْجع اللبنُ في الضّرع‏.‏
ولا آتيك سِنّ الحِسْل‏.‏
تفسيره‏:‏ النَيب‏.‏
جمع ناب وهي المُسنّة من الإبل‏.‏
والدَرة‏:‏ الحَلْبة من اللبن‏.‏
والجرّة‏:‏ من اجترار البعير‏.‏
والملوان والجديدان‏:‏ الليل والنهار‏.‏
والحِسْل‏:‏ هو ولد الضبّ‏.‏
يقول‏:‏ حتى تَسْقط أسنانه ولا تسقط أبداً حتى يموت‏.‏
استجهال الرجل ونفي العلمِ ‏"‏ عنه ‏"‏ - منه قولهم‏:‏ ما يعرف الحوَّ من اللوِّ‏.‏
وما يعرف الحيّ من الليّ ولا هَرِيراً من غرير ولا قَبيلاَ من دَبير‏.‏
وما يعرف أيَّ طَرَفَيْه أطرل وأكبر‏.‏
وما ‏"‏ يعرف هِرّاً من بِرّ‏.‏
أي ما ‏"‏ يعرف من يَهِرُّه ممن يَبَرّه‏.‏
والقَبيل‏:‏ ما أقبلتَ به من فَتل الحَبْل‏.‏
والدَّبير‏:‏ ما أدبرت ‏"‏ به ‏"‏ منه‏.‏
وأيّ طرفيه أطول‏:‏ أنسَبُ أبيه أم نسب أمّه‏.‏



أمثال مستعملة في الشعر
- قال الأصمعي‏:‏ لم أجد في شعر شاعر بيتاً أوّله مَثلٌ وآخرُه مَثل إلا ثلاثة أبيات منها بَيْتٌ للحطيئة‏:‏ مَن يفعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوَازِيَه لا يذهبُ العُرْف بين الله والناس وبيتان لأمرئ القيس‏:‏ وأفلتهنَّ عَلبَاءٌ جَريضاً ولو أدْرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطَابُ وقاهم جَدُّهم ببني أبيهم وبالأَشْقَين ما كان العِقَابُ ومثلُ هذا كثير في القديم والحديث ولا أدري كيف أغفل القديمَ منه الأصمعيُّ‏.‏
فمنه قولُ طرفة‏:‏ ستُبْدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً وَيأتيكَ بالأخبار من لم تُزَوِّدِ وفي هذا مثلان من أشرف الأمثال‏.‏
ويقال إنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمع هذا البيت فقال‏:‏ إنَّ معناه من كلام النبوَة ومن ذلك قولُ الآخر‏:‏ ما كلفَ الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يدٌ إلا بما تَجِدُ ‏"‏ ففي الصَّدْر مَثَل وفي العجز مَثَل ‏"‏‏.‏
ومن ذلك قولُ الحَسن بن هانئ‏:‏ أيها المُنتاب عن عُقُره لستَ من لَيْلي ولا سَمَرِه إِنَّ العربَ تقول‏:‏ انتاب فلان عن عقُره أي تباعد عن أصله‏.‏
لستَ من ليلي ولا سمره مثلٌ ثانٍ‏.‏
وليس في البيت الثاني إلا مثلٌ واحد‏.‏
ومن قولنا في بيتٍ أوله مثلٌ وآخره مثل‏:‏ وقد صَرَح الأعداء بالبَينْ وأشرَقَ الصُّبْحُ لذي العَيْن وبعده أبيات في كل بيتٍ منها مَثلَ وذلك‏:‏ وعادَ مَنْ أهوَاه بعد القِلاَ شَقيقَ رُوحٍ بين جِسْمَيْن وأصبَحَ الدَّاخل في بَيْننا كساقِطٍ بين فِرَاشين قد ألبِسَ البِغْضَة ذا وذا لا يَصْلُحُ الغِمْدُ لسَيْفَينْ ما بالُ من ليست له حاجةٌ يكون أنفْاً بذهن عَينين ومن قولنا الذي هو أمثالٌ سائرة‏:‏ قالوا شبابك قد ولٌى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كر الجديديْنِ صِلْ من هوية وإن أبدى معاتبة فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين واقطع حبائل خل لا تلائمه فربِّما ضاقت الدنيا على اثنينَ وقلت بعد هذا في المدح‏:‏ فكّرْتُ فيك أَبَحْرٌ أنت أم قَمَرٌ فقد تَحَيَّر فِكْرِي بين هذَيْنِ أو قلتُ بدراً رأيتُ البدرَ مُنْتَقَصاً فقلت شتّان ما بين البُدَيْرَيْن ومن الأمثال التي لم تأت إلاّ في الشعر أو في قليل من الكلام‏:‏ من ذلك قول الشاعر‏:‏ تَرجو النجاةَ ولم تَسْلُك مَسالكهَا إنَّ السفينةَ لا تَجْري عَلَى اليَبَس ‏"‏ وقال آخر‏:‏ متى تَنْقَضي حاجاتُ من ليس صابراً على حاجةٍ حتى تكون له أخرَى قيل ولما بلغَ حاتماً قول المُتَلَمِّس‏:‏ وأَعلمُ عِلمَ صدقٍ غير َظنٍّ لَتَقْوَى الله مِنْ خيْر العَتَادِ وحِفْظ المال أَيْسرُ من بُغَاه وسَيْر في البلاد بغير زاد وإصلاح القَليل يَزيدُ فيه ولا يَبْقَى الكثير مع الفساد قال‏:‏ قَطَعَ الله لسانَه‏!‏ يحمِل الناس على البُخْل ألا قال‏:‏ لا الجودُ يًفْني المالَ قبلَ فَنَائه ولا البًخْلُ في مال الشَحِيح يزيدُ فلا تَلْتَمِسْ مالاً بعيْش مُقَتِّرٍ لكلِّ غَدٍ رزقٌ يعود جديد وقال غيرُه‏:‏ إذا كنتُ لا أعفُو عن الذَّنب من أخٍ وقلتُ‏:‏ أُكافيه فأينَ التَّفاضُلُ ولكنني أغْضي الجُفون على القَذَى وأصفَحُ عما رابني وأجَامِل متى ما يَر ِبْني مِفْصَل فقَطَعْتُه بَقيتُ ومالي للنُهُوض مفاصِل ولكنْ أداويه فإن صَحَّ سرني وإنْ هو أعياَ كان فيه التًّحاملُ وقال‏:‏ يُديفُون لي سًمّاً وأسْقِيهمُ الحَيَا ويَقْرُونَني شَرّاً وشَري مُؤَخَّرُ كأنِّي سَلبْتُ القومَ نُورَ عُيونهم فلا العُذرُ مقبول ولا الذَّنب يُغْفَر وقد كان إحساني لهم غيرَ مَرّة ولكنّ إحسان البَغِيض مُكَفَّر ولغيره‏:‏ لم يبق من طلب الغنى إلا التعرض للحتوف فلاقبلن وإن رأي ت الموت يلمع في الصفوف إني امرؤٌ لم أوت من أدب ولا حظٍ سخيف لكنه قدرٌ يزو ل من القوي إلى الضعيف

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب الزمردة في المواعظ والزهد
قال أحمدُ بن محمّد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولُنا في الأمثال وما تَفَنَنَّوا فيه على كلِّ لسان ومع كلِّ زمان ونحن نبدأ بعوْن اللهّ وتوفيقه بالقَوْل في الزُهد ورجاله المشهورين به ونذكر المُنْتَحَلَ من كلامهم والمواعظَ التي وَعظت بها الأنبياء واْسْتَخْلصها الآباءُ للأبناء وجَرَت بين الحكماءِ والأدباء ومَقاماتِ العُبَّاد بين أيدي الخلفاء‏.‏
فأبلغ المواعظ كلِّها كلام الله تعالى الأعزّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفه تنزيلٌ من حكيم حَميد‏.‏
قال اللهّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ادْعُ إلى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَة الْحَسَنَة ‏"‏ إلى آخر السورة‏.‏
وقال جلّ ثناؤه‏:‏ ‏"‏ كيْفَ تَكْفُرًونَ بالله وَكُنْتُم أَمْواتَاَ فَأَحْيَاكُمْ ثَم يُميتُكُمْ ثَمَّ يُحْيِيكُمْ ثَمّ إلَيْه تُرْجَعُون ‏"‏ وقال ‏"‏ أَوَلَمْ يَرَ الِإنْسَان أَنّا خَلقْنَاهُ مِنْ نُطْفةٍ فَإذَا هُوَ خصِيمٌ مبِين ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ عَلِيم ‏"‏‏.‏
فهذه أبلغُ الحُجَج وَأَحْكم المواعظ‏.‏
ثم مواعظُ الأنبياء صلواتُ الله عليهم ثم مواعظُ الآباء للأبناء ثمّ مواعظُ الحُكماء والأدباء ثم مَقامات العُبّاد بي أيدي الخُلفاء‏.‏
ثم قولهم في الزُّهد ورجاله المعروفين ثم المَشْهورين من المنتَسِبين إليه‏.‏
والموعظةُ ثقيلةٌ على السمع مُحَرِّجة على النفس بعيدة من القَبول لاعتراضها الشًهوة ومُضَادَّتها الهوى الذي هو ربيع القَلْب ومَرَاد الرُّوح ومَرْبَع اللًهو ومَسْرَح الأماني إلا لَنْ تَرْجِعَ الأنْفًسُ عن غَيها حتى يُرى منها لها واعظ وقالت الحكماء‏:‏ السًعِيد مَن وعِظ بغيره لاَ يَعْنُون مَن وَعظه غيرُه ولكنْ مَن رأى العِبر في غيره فاتِّعظ بها في نفسه‏.‏
ولذلك كان يقول الحَسَن‏:‏ آقْدَعُوا هذه النفوس فإنها طُلَعة وحادثوها بالذِّكر فإنها سريعة الدُثور واعْصُوها فإنها إن أُطِيعت نَزَعَتْ إلى شَرَّ غاية‏.‏
وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختْم مَوْعظته‏:‏ يا لها من موْعظة لو صادفت من القلوب حياةً‏.‏
وكان ابن السماك يقول إذا فَرَغ من كلامه‏:‏ أَلْسُنٌ تَصف وقلوب تعرف وأعمال تُخالَف‏.‏
وقال يونُس بن عُبَيد‏:‏ لو أُمِرْنا بالجزَع لَصَبرنا‏.‏
يريد ثِقَل الموعظة على السْمع وجُنوحَ النفس إلى مُخالفتها‏.‏
ومنه قولهم‏:‏ أَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا وقولهم‏:‏ والشيءُ يُرْغَبُ فيه حين يَمْتِنعُ والموعظةُ مانعةٌ لك مما تَشْتهي حاملٌة لك على ما تَكْرَه إلا أن تلْقَاها بِسَمْع قد فَتقَتْه العِبْرة وقلبٍ قدَحَتْ فيهِ الفِكْرَة ونفس لها من عِلْمها زاجر ومن عقلها رادع فيُفْتَح لك بابُ التوبة ويُوَضَحُ لك سبيلُ الإنابة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حُفَّت الجنّة بالمكاره وخُفَت النار بالشَهوات‏.‏
يريد أنَ الطريقَ إلى الجنة احتمالُ المكاره في الدنيا والطريقَ إلى النار ركوب وخيرُ الموعظة ما كانت من قائل مخلص إلى سامعِ مُنْصِف‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ الكلِمة إذا خَرَجَتْ من القلب وقعَتْ في القلب وإذا خرَجَتْ من اللِّسَان لم تُجَاوز الآذان‏.‏
وقالوا‏:‏ ما أَحْسَن التاجَ‏!‏ وهو على رأس المَلِك أَحْسَنُ وما أَحسن الدُّرَّ‏!‏ وهو على نَحر الفتاة أحسن وما أحسنَ الموعظةَ‏!‏ وهي من الفاضل التَّقِيّ أحسنُ وقال زياد‏:‏ أيها الناسُ لا يَمْنَعكم سوء ما تعلمون منّا أن تَنتَفعوا بأحْسَن ما تسمعون منّا قال الشاعر‏:‏ اعْمَل بقوْلي وَإنْ قَصَّرْتُ في عَمَلي يَنْفَعْكَ قَوْلِي ولا يضْرًرْكَ تَقْصِيري وقال عبدُ الله بن عبّاس‏.‏
ما انتفعَتُ بكلام أحدٍ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتفعتُ بكلامٍ كتبَه إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏
كَتب إليّ‏:‏ أمّا بعد فإن المرءَ يَسره إدراكًُ ما لم يَكُن ليَفوتَه ويسوءُه فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكه فَلْيَكن سرورُك بما نِلْتَ من أمر آخرِتك ولْيَكن أسفُك على ما فاتَك منها‏.‏
وما نِلْتَ من أمرِ دُنياك فلا تكن به فَرِحاً وما فاتك منها فلا تَأْسَ عليه جَزَعا وليكن هَمُّك ما بعد الموت‏.‏
ووقَفَ حكيم بباب بعض المُلوك فَحُجب فتلطّف برُقْعة أَوْصَلَها إليه‏.‏
وكتب فيها هذا البيت‏:‏ أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى وأَنَ الغِني يُخشى عليه من الفقرِ فلمّا قرأ البيتَ لم يلبث أن انتعل وجَعل لاطئةً على رأسه وخرج في ثوْب فِضَال‏:‏ فقال له‏:‏ واللهّ ما اتّعظتُ بشيء بعد القرآن اتعاظي ببَيْتك هذا ثمّ قضى حوائجه‏.‏



مواعظ الأنبياء عليهم السلام
قال أبو بكر أبي شْبَة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يكفي أحدَكم من الدنيا قدرُ زادِ الرَّاكب‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابن آدم اغْتنم خَمْساً قبل خمس‏:‏ شبابَك قبل هَرمك وصِحَّتك قبل سَقَمك وغِناك قبل فَقْرك وفَراغك قبل شُغْلك وحياتَك قبل مَوْتك‏.‏
عبد الله بن سلاًم قال‏:‏ لما قَدِم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتيتُه فلمّا رأيتُ وجهه عَلمْتُ أنّه ليس بوجِه كذّاب فسمعتُه يقول‏:‏ أيها الناسُ أطعِموا الطعامَ وأَفْشوا السلامَ وصلُوا والناسُ نيام‏.‏
وقال عيسى بنُ مرْيِمِ عليه السلام‏:‏ أَلا أُخْبِركم بخيركم مُجالسةً قالوا‏:‏ بلى يا رُوح الله قال‏:‏ مَن تُذكركم باللهّ رؤيتُه ويَزيد في عَمَلكم مِنْطِقُه ويَشُوقكم إلى الجنة عملُه‏.‏
وقال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين‏:‏ ويلكم يا عَبيد الدُّنيا‏!‏ كيف تُخالف فروعُكم أصولَكم وأهواؤكم عقولَكم قولُكم شِفاءٌ يبرئ الداء وَفِعْلكُم داء لا يقبلُ الدواء لستُم كالكَرْمَة التي حَسُنَ وَرَقها وطابَ ثَمَرُها وَسَهُل مُرْتَقاها ولكنكم كالسَّمُرهَ التي قَلّ وَرَقُها وكثر شَوْكها وصَعُب مُرْتقاها‏.‏
ويلكم يا عَبيدَ الدنيا‏!‏ جعلتم العملَ تحت أقدامكم من شاءَ أخذَه وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم لا يمكن تناوًلها فلا أنتم عبيدٌ نُصحاء ولا أحرارٌ كِرام‏.‏
ويلكم يا أُجَرَاءَ السَّوْء‏!‏ الأجْر تأخذون والعملَ تفْسِدون سوف تَلْقَوْن ما تحذَرون إذا نظر ربُّ العمل في عَمَلِه الذيٍ أفسدتُم وأجرِه الذي أخذتُم‏.‏
وقال عليه السلام للحواريين‏:‏ اتخذوا المساجِدَ بُيُوتاً والبيوتَ منازلَ وكُلُوا بَقْل البرّيّة واشربوا الماءَ القَرَاح وانجُوا من الدنيا سالمين‏.‏
وقال عليه السلام للحواريّيِن‏:‏ لا تنظُروا في أعمال الناس كأنكم أَرْباب وَانظروا في أعمالكم كأنكم عَبيد فإنما الناسُ رجلان‏:‏ مُبْتَلًى ومُعافي فارحموا أهلَ البلاء واحمدَوا الله عَلَى العافية‏.‏
وقال عليه السلامُ لهم أيضاً‏:‏ عجَباً لكم تَعْملُون لِلدُّنيا وأنتم تُرزقون فيها بلا عَمل ولا تَعملون للآخرة وأنتم لا تُرْزَقون فيها إلا بعمل‏.‏
وقال يحيى بن زكريا عليه السلام للمُكَذِّبين من بني إسرائيل‏:‏ يا نَسْلَ الأفاعي من دلَكم على الدخول في مَساخط الله المُوبقة لكم ويلكم‏!‏ تَقرًبوا بِعَمَل صالح ولا تَغُرَّنَّكم قرابتكم من إبراهيم ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ فإن الله قادر على أن يَسْتخرج من هذه الجنادِل نَسْلاً لإبراهيم‏.‏
إن الفأس قد وُضِعَتْ في أصول الشجر فأَخْلِق بكلِّ شَجَرَة مُرَّة الطَّعم أن تًقْطع وتُلقى في النار‏.‏
وقال شَعْيَاء لبنىِ إسرائيل إذ أنطق الله لسانه بالوَحي‏:‏ إن الدابّة تَزْداد على كثرة الرِّياضة لِيناً وقُلوبَكم لا تَزداد على كثرة المَوْعظة إلاّ قَسْوة إنّ الجَسد إذا صلَح كفاه القليلُ من الطَّعام وإنِّ القَلْب إذا صَحَّ كَفاه القليلُ من الحِكْمة‏.‏
كم من سِرَاج قد أَطْفَأَتْه الرِّيح وكم من عابدٍ قد أفسده العُجْب‏.‏
يا بني إسرائيل اسمعوا قولي فإنّ قائلَ الحِكمة وسامعَها شريكان وأَوْلاهما بها مَن حقَّقها بعمله‏.‏
وقال المسيحُ عليه السلام‏:‏ إنَ أَوْليَاء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزنون الذين نَظَروا إلى باطن الدُّنيا إذ نَظر الناسُ إلى ظاهرها وإلى اجلها إذ نَظروا إلى عاجلها فأماتُوا منها ما خَشُوا أن يُمِيتهم وتركوا ما علموا أن سَيَترْكهم هم أعداء لما سالم الناسُ وسَلْم لما عادى الناسُ لهم خبرٌ وعندهم الخبر العجيب بهم نَطَق الكِتابُ وبه نَطقوا وبهم عُلِم الهُدى وبه عُلِمُوا لا يَرَوْنَ أماناً دون ما يَرْجون ولا خَوْفاً دون ما يَحْذَرُون‏.‏
وَهْب بن مُنَبِّه‏:‏ قال ‏"‏ قال ‏"‏ داودُ عليه السلام‏:‏ يا رب ابن آدم ليس منه شَعَرة إلا وتحتها لك نِعْمة وفوقها لك نِعْمة فمَن أيْن يُكافئُك بما أعطيتَه فأوْحى الله إليه‏:‏ يا داود إني أًعطي الكثير وأَرْضى من عبادي بالقليل وأَرْضى من شُكْر نِعْمتي بأن يعلم العبدُ أن ما به من نِعْمة فمن عندي لا من عِنْد نفسه‏.‏
ولمّا أمر الله عزً وجلَّ إبراهيم عليه السلامُ أن يَذبح ولده ويجعلَه قُرْباناً أَسرَّ بذلك إلى خليل لهُ يقال له العازر وكان له صديقاً فقال له الصديق‏:‏ إن الله لا يَبْتلى بمثل هذا مِثْلَك ولكنه يريد أن يختَبِرك أو يَخْتبر بك وقد علمتَ أنه لا يبتليك بمثل هذا لِيَفْتنك ولا ليُضلك ولا ليُعْنتك ولا ليَنْقُصَ به بصيرَتك وإيمانَك ويَقينك فلا يَرُوعَنّك هذا ولا يَسُوأَنَ بالله ظنك وإنما رَفع الله اسمك في البلاء عنده على جميع أهل البلايا حتى كنت أعظمَهم مِحْنة في نفسك ووَلدك لِيَرْفعك بقَدر ذلك في المنازل والدرجات والفَضَائل فليس لأهل الصبر في فضيلة الصَبر إلا فضلُ صبْرك وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضلُ ثوابك وليس هذا من وُجوه البلاء الذي يَبْتلي الله به أولياءه لأنّ الله أكرمُ في نفسه وأعدل في حكمه وأَرْحم بعباده من أن يجعل ذبح الولد الطيب بيد الوالد النبي المُصْطفي وأنا أعوذ باللّه أن يكون هذا منّي حتْماً على الله أو ردَّاً لأمره أو سُخطاً لِحُكمه ولكنْ هذا الرَّجاء فيه والظنُّ به فإن عَزَم ربُّك على ذلك فكُنْ عند أَحْسَن علمه بك فإني أعلمُ أٍنه لم يُعرِّضك لهذا البلاء الجَسيم والخَطْب العظيم إلا لحُسْن عِلْمه بك وصِدْقك وتَصَبرك ليجعلك إماماً ولا حَوْل ولا قوّة إلاّ باللهّ العليّ العظيم‏.‏
من وحي الله تعالى إلى أنبيائه أَوْحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّ من أنبيائه‏:‏ إنّي أنا اللهّ مالكُ المُلوك قلوبُ المُلوك بيديِ فمَن أطاعني جعلتُ الملوكَ عليهم رحمةً ومَن عَصاني جعلتُ الملوك عليهم نِقْمةَ‏.‏
ومما أنزل اللَهُ على المسيح ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ في الإنجيل‏:‏ شَوَقناكم فلم تشتاقوا ونُحْنا لكم فلم تبكوا‏.‏
يا صاحبَ الخمسين ما قدَمْتَ وما أَخّرْت ويا صاحبَ السِّتين قد دنا حَصادُك ويا صاحبَ السَبْعين هلمّ إلى الحِساب‏.‏
وفي بعض الكُتب القديمة المنزّلة‏:‏ يقول الله عزّ وجل يومَ القيامة‏:‏ يا عِبادي طالما ظَمِئتم وتقلَّصت في الدنيا شِفاهُكم وغارت أعينكم عطَشاً وجُوعاً فكُلُوا واشربوا هَنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية‏.‏
وأوحْى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه‏:‏ هَبْ لي من قلْبك الخُشوع ومن نَفْسك الخضوع ومن عَينيْك الدموع وسَلْني فأنا القريب المجيب‏.‏
وفي بعض الكتب‏:‏ عَبْدي كم أتحبّب إليك بالنِّعم وتَتبغَّض إلي بالمَعاصي‏!‏ خَيْري إليك نازل وشرُّك إليّ صاعد‏.‏
وأوْحى الله إلى نَبيّ من أنبيائه‏:‏ إن أردتَ أن تَسكن غداً حظيرةَ القُدْس فكُنْ في الدنيا فريداً وحيداً طريداً مهموماً حزيناً كالطير الوُحْدانيّ يَظَلّ بأرض الفَلاة ويَرِدُ ماء العيون ويأكل من أطراف الشجر فإذا جَنَّ عليه الليلُ أَوَى وحدَه استيحاشاَ من الطير واستئناساً بربه‏.‏
ومما أوحى الله إلى موسى في التوراة‏:‏ يا موسى بن عمران يا صاحبَ جبل لُبْنان أنت عَبْدي وأنا الملك الديّان لا تستذلَّ الفقيرَ ولا تَغْبِط الغَنيّ ‏"‏ بشيء يسير ‏"‏ وكُن عند ذكْرى خاشعاً وعند تلاوة وَحْيي طائعاً أسْمِعني لذاذةَ التوراة بصوت حزين‏.‏
وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه‏:‏ أوحي اللهّ إلى موسى عند الشجرة‏:‏ لا تُعْجبك زينةُ فِرْعون ولا ما مًتِّع به ولا تَمُدَّنْ إلى ذلك عينَك فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينةُ المترَفين ولو شئتُ أن أُوتيك زينة يَعْلِم فرْعون حين ينظر إليها أنّ مقْدِرَتَه تعجِزُ عنها فعلتُ ولكني أرغبتُك عن ذلك وأَزْوَيْته عنك فكذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها ولذاذتها كما يذًود الراعي الشفيقُ غَنَمه عن مراتع الهَلَكة وإني لأحمِيهم عيشَها وسَلْوَتها كما يَحْمِي الراعي ذَوْده عن مَبَارك العُرّ‏.‏
وذُكر عن وَهْب بن مُنَبّه‏:‏ أنّ يوسف لما لَبِثَ في السجن بِضْع سنين أرسل اللهّ جبريلِ إليه بالبِشارة بخروجه فقال‏:‏ أما تَعْرِفُني أيها الصدِّيق قال يوسف‏:‏ أرى صورةَ طاهرة ورُوحاً طيِّباً لا يُشبِه أرواح الخاطئين قال جِبْريلُ‏:‏ أنا الرُّوح الأمين رسولُ ربّ العالمين قال يوسف‏:‏ فما أَدْخلك مَداخل المُذْنبين وأنت سيِّد المُرسلين ورأسُ المُقَرَّبين قال‏:‏ ألم تَعلم أيها الصِّدَيق أن الله يُطَهَر البيوت بطُهْر النبيين وأن البُقعة التي تكون فيها هي أطهرُ الأرَضين وأَنّ الله قد طهَر بك السجن وما حوله يا بن الطّاهرين قال يوسف‏:‏ كيف تُشَبهني بالصالحين وتسميني بأسماء الصادقين وتَعُدُني مع آبائي المُخلصين وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين قال جبريل‏:‏ لم يَكْلَم قلبك الجَزْع ولم يغير خلقك البَلاء ولم يَتعاظَمْكَ السجن ولم تَطَأْ فراشَ سيّدك ولم يُنْسك بلاء الدُّنيا الاخرة ولم يُنْسك بلاء نفسك أباك ولا أبوك ربك وهذا الزَّمان الذي يَفُك الله فيه عُنُقك وَبعتِق فيه رَقَبتك ويبين للناس فيه حِكْمَتَك ويُصَدِّق رؤياك ويُنْصفك ممن ظَلمك ويجمع لك أَحِبَّتك ويهَب لك مُلْك مصر تملك ملوكها وتُعَبِّد جبابرتها وتُصَغر عظماءها وُيذِلُّ لك أَعِزَتها ويُخْدِمُك سُوقَها ويُخَوَلك خَوَلَها ويرحم بك مساكينَها ويُلْقي لك المودّة والهيْبة في قلوبهم ويجعل لك اليد العُليا عليهِم والأثَر الصالح فيهم ويُرى فرعونَ حُلْماً يفزَعُ منه حتى يسهرَ ليلَه ويُذْهبَ نوْمَه ويُعَمَي عليه تفسيرَه وعلى السَّحَرة والكهنة ويُعَلِّمك تأويلَه‏.‏



مواعظ الحكماء
قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وَجْهَه‏:‏ أُوصيكمِ بخَمس لو ضرَبتم عليها آباط الإبل لكان قليلاً‏:‏ لا يَرْجًوَن أحدكم إلا ربّه ولا يخافنَ إلا ذنبه ولا يستحي إذا سُئل عما لا يَعلم أن يقول‏:‏ لا أعلم‏.‏
وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قُطع الرأس ذهب الجسد‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ من أراد الغِنَى بغير مال والكثرةَ بلا عَشية فليتحوَّل من ذُلِّ المَعصية إلى عزِّ الطاعة ‏"‏ أبى الله إلا أن يُذِلّ مَن عصاه‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ مَن خاف اللهّ أخاف اللهّ منه كل شيء ومن خاف الناسَ أخافه الله من كل شيء‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ من عَمِلَ لأخرته كَفَاه الله أمرَ دنياه ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح اللهّ ما بينه وبين الناس ومَن أخلص سريرتَه أخلص الله علانيَته‏.‏
قال العُتْبيّ‏:‏ اجتمعت العربُ والعجم على أربع كلمات‏:‏ قالوا‏:‏ لا تَحْملنّ على قلبك مالا يُطِيق ولا تعملنَّ عملاَ ليس لك فيه مَنْفعة ولا تَثِقْ بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثُر‏.‏
وقال أبو بكر الصدِّيق لعُمَر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند مَوته حين استخلْفه‏:‏ أُوصيك بتقوى الله إن للّه عملاً بالليل لا يَقْبَلُه بالنهار وعملا بالنهار لا يَقْبَله بالليل وإنه لا يقبل نافلة حتى تُؤَدَّى الفرائض وإنما ثَقُلَتْ موِازين مَن ثقُلت موازينهم يومَ القيامة باتباعهم الحقّ وثقَلِه عليهم وحُقّ لميزانٍ لا يُوضعِ فيه إلا الحقُّ أن يكون ثقيلا وإنما خَفّت موازينُ من خَفّت موازينهم يومَ القيامة باْتباعهم الباطل في الدُّنيا وخِفّته عليهمِ وحُقِّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً وإن الله ذَكَر أهلَ الجنَّة فَذكَرهم بأحسن أعمالهم وتجاوَزَ عن سيئاتهم فإذا سمعتَ بهم قُلْت‏:‏ إني أخاف أن لا أكون من هؤلاء وذكرَ أهل النار بأقبح أعمالهم وأمسك عن حَسَناتهم فإذا سمعتَ بهم قلتَ‏:‏ أنا خيرٌ من هؤلاء وذكر آية الرّحمة مع آية العذاب ليكونَ العبدُ راغباً راهباً لا يتمنى على الله غيرَ الحق‏.‏
فإذا حفظت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أحبَّ إليك من الموت وهو آتيك وإن ضيّعْت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أكرَه إليك من الموت ولن تُعْجزه‏.‏
ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه فرآه يُصَوِّب بصره في صُندوق في بيته وُيصَعِّده ثم قال‏:‏ أبا سَعِيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أُؤَدِّ منها زكاةً ولم أصِل منها رَحِماً قال‏:‏ ثَكِلَتْكَ أُمك ولمن كنتَ تَجْمعها قال‏:‏ لرَوْعة الزِمان وجَفْوة السلطان ومُكاثرة العَشيرة‏.‏
قال‏:‏ ثم مات فشَهده الحسنُ فلما فَرَغ من دَفْنِه قال‏:‏ انظروا إلى هذا المِسكين أتاه شيطانُه فحذّره رَوْعة زَمانه وجفوة سُلطانه ومُكاثرة عشيرته عما رزقه اللهّ إياه وغَمره فيه انظروا كيف خرج منها مَسْلوباً محروباً‏.‏
ثم التفتَ إلى الوارث فقال‏:‏ أيها الوارث لا تُخْدَعَنّ كما خُدِعَ صوَيْحبك بالأمس أَتاك هذا المال حلالاً فلا يكونن عليك وبالا أتاك عفواً صفواً ممن كان له جمُوعا مَنُوعا من باطل جَمَعه ومن حقً مَنَعه قطع فيه لُجَجَ البِحار ومفاوِزَ القِفار لم تَكْدح فيه بِيَمين ولم يَعْرَق لك فيه جَبين‏.‏
إِنّ يوم القيامة يوم ذو حَسَرَات وإن من أعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك فيالها عَثَرة لا تُقال وتوبة لا تُنال‏.‏
ووعظَ حكيم قوماً فقال‏:‏ يا قوم استَبْدِلوا العَوَارِيَ بالهِبات تَحْمَدوا العُقْبَى واستقْبِلوا المصائب بالصَبْر تستحِقُّوا النُّعْمَى واستَدِيموا الكَرَامة بالشُّكر تَسْتَوْجبوا الزِّيادة واعرفوا فَضْل البَقاء في النِّعمة والغِنَى في السلامة قبل الفِتْنَة الفاحِشةِ والمَثُلة البينة وانتقال العَمَل وحُلول الأجَل فإنما أنتم في الدُّنيا أَغراض المَنايا وأَوطان البلايا ولن تنالوا نِعْمَة إلا بِفِراق أُخرى ولا يَسْتقبل مُعَمَّر مِنكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أجله ولا يَحيا له أَثر إلا مات له أَثر‏.‏
فأنتم أعوان الحُتُوف على أنفسكم وفي معايشكم أسبابُ مَنَاياكم لا يَمنعكم شيء منها ولا يَشْغَلكم شيء عنها‏.‏
فأنتم الأخْلاف بعد الأسلاف وستكونون أَسلافاً بعد الأخلاف‏.‏
بكل سبيل منكمِ صَرِيعٌٍ مُنْعَفر وقائم يَنْتظر فمن أيّ وجه تَطْلُبون البَقَاء وهذان الليلُ والنهِارُ لم يرْفعا شيئا قَطّ إلا أسرَعا الكرَّة في هَدْمه ولا عقدا أَمراً قطُّ إلاَّ رَجَعا في نقضه‏.‏
وقال أبو الدَّرْداء‏:‏ يا أَهل دمَشق مالكم تَبْنون مالا تسكنون وتأمُلون ما لا تُدرِكون وتَجمعون ما لا تأكلون هذه عادٌ وثمود قد مَلَئُوا ما بين بُصْرَى وعَدَن أموالاً وأولاداً فمن يَشْتري مني ما تركوا بدرهمين وقال ابن شُبْرُمَة‏:‏ إذا كان البَدَن سقيماً لم يَنجع فيه الطعام ولا الشراب وإذا كان القلب مُغْرَماً بِحُبّ الدنيا لم تَنْجِع فيه الموعظة‏.‏
وقال الرًبيع بن خُثَيم‏:‏ أَقْلِل الِكلام إلا من تِسع‏:‏ تكبيرِ وتهليل وتسْبيح وتَحْمِيد وسؤالِكَ الخير وتَعَوّذِك من الشرّ وأمرِكَ بالمعروف ونهْيِكَ عن المُنْكر وقراءتك القرآن‏.‏
قال رجل لبعض الحًكماء‏:‏ عِظْني‏.‏
قال‏:‏ لا يَراك اللهّ بحيث نَهَاك ولا يَفْقِدك من حيثُ أمرَك‏.‏
وقيل لحكيم‏:‏ عِظْني‏.‏
قال‏:‏ جميعُ المواعظ كلّها مُنتظمة في حرف واحد قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ تُجْمِع على طاعة اللّه فإذا أنت قد حَوَيت المواعظ كُلَّها‏.‏
وقال أبو جعفر لسُفْيان عِظْني‏.‏
قال‏:‏ وما عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ فأعِظَك فيما جهلتَ‏.‏
قال هارون لابن السمّاك‏:‏ عِظني‏.‏
قال‏:‏ كفي بالقرآن واعظاً يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ألمْ تر كيفَ فَعَلَ رَبكَ بِعَاد‏.‏
إرَمَ ذَاتِ العِماد التي لمْ يُخْلَق مثلُها في البِلاد ‏"‏‏.‏
إلى قوله ‏"‏ فصَّبّ عليهم ربك سَوْط عَذَاب‏.‏
إنَّ ربك لبَالمِرْصاد ‏"‏‏.‏
مكاتبة جرت بين الحكماء عَتَبَ حَكيمٌ على حكيم فَكَتَبَ المَعْتُوبُ عليه إلى العاتب‏:‏ يا أخي إنّ أيام العُمْر أقصرُ من أن تحتمل الهَجْر‏.‏
فَرَجع إليه‏.‏
وكتب الحسنُ إلى عُمَر بن عبد العزيز‏:‏ أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكُن وبالآخرة لم تَزَل‏.‏
والسلام‏.‏
وكتب إليه عُمر‏:‏ أما بعد فكأنّ آخر من كُتِبَ عليه الموت قد مات والسلام‏.‏
ابن المُبارك قال‏:‏ كتب سَلْمان الفارسيّ إلى أبي الدّرداء‏:‏ أما بعد فإنك لن تنال ما تُريد إلا بترْكِ ما تشتهي ولن تنال ما تأمُل إلا بالصَّبر على ما تَكْره‏.‏
فَلْيكُن كلامُك ذِكْراً وصَمْتك فِكْرا ونظرك عِبَرا فإنّ الدُّنيا تتقلب وبهجتها تتغيَّر فلا تغترّ بها وليكن بيتُك المسجدَ والسلام‏.‏
فأجابه أبو الدَّرداء‏:‏ سلامٌ عليك أما بعد فإنِّي أُوصيك بتَقْوَى اللّه وأن تأخذ من صِحَّتِك لِسَقَمِك ومن شبابك لهِرَمك ومن فراغك لِشُغلك ومن حياتك لمَوْتك ومن جَفائك لمودَّتك واذكر حياةً لا موتَ فيها في إحدى المنزلتين‏:‏ إما في الجنة وإما في النار فإنك لا تَدْري إلى أيهما تَصير‏.‏
وكتب أبو موسى الأشعريّ إلى عامر بن عبد القَيْس‏:‏ أما بعد فإني عاهدتُكَ على أمر وبَلغني وكتب محمد بن النَّضر إلى أخِ له‏:‏ أما بعدُ فإنك على مَنْهج وأمامك منزلان لا بدلك من نُزول أحدهما ولم يَأتِك أمانٌ فتَطْمَئنَّ ولا براءة فتتَّكل‏.‏
وكتب حكيم إلى آخر‏:‏ اعلم حَفِظك اللّه أنّ النفوس جُبِلت على أخذ ما أُعْطِيتْ وَمَنْع ما سُئِلتْ فاحْمِلها على مَطيّة لا تُبطىءُ إذا رُكبت ولا تُسْبَق إذا قُدِّمَتْ فإنما تحفظا لنفوسُ على قدْر الخوف وتَطْلُب على قَدْرِ الطمع وتطْمَع على قدر السبب‏.‏
فإذا استطعت أن يكون معك خَوْف المُشْفِق وقناعة الرّاضي فافعل‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حَيْوة‏:‏ أما بعد فإنه مَن أكثر من ذِكْر الموت اكتفى باليَسِير‏:‏ ومن عَلِمَ أن الكلامَ عملٌ قلَّ كلامهُ إلا فيما يَنْفَعه‏.‏
وكتب عمر بن الخطّاب إلى عُتبة بن غزوان عامِله على البَصْرة‏:‏ أما بعد فقد أصبحتَ أميراً تقول فيُسمع لك وتأمر فينفّذ أمرُك فيالها نعمةً إن لم تَرْفعك فوق قَدْرك وتُطْغِك على مَن دونك فاحترَس من النِّعمة أشدّ من احتراسك من المُصيبة وإياك أن تَسْقُطَ سَقْطَة لا لعاً لها - أي لا إقالة لها - وتَعْز عَثْرة لا تُقالها والسلام‏.‏
وكتب الحسن إلى عمَر‏:‏ إن فيما أمرك الله به شُغلا عما نهاك عنه والسلام‏.‏
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن‏:‏ اجمع لي أَمْر الدنيا وصِفْ لي أَمرَ الآخرة‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إنما الدُّنيا حُلْم والآخرة يَقَظَة والموت متوسِّط ونحن في أضغاث أحْلام من حاسَبَ نَفْسَه ربح ومن غَفلَ عنها خَسِر ومن نَظر في العواقِب نَجَا ومن أطاعَ هواه ضَلَّ ومن حَلُم غَنِم ومن خافَ سَلِمَ ومن اعتبر أَبْصَرَ ومن أبصرَ فَهِمَ ومن فَهِمَ عَلِمَ ومن عَلِم عَمِلَ فإذا زَلَلْتَ فارْجعِ وإذا نَدِمْتَ فأَقْلِع وإذا جَهِلْت فاسأل وإذا غَضِبْتَ فأمْسِك واْعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه‏.‏



مواعظ الآباء للأبناء
قال لُقمانُ لابنه‏:‏ إذا أتيت مجلسَ قومٍ فاْرمهِمْ بسَهْم السلام ثم اجلس فإن أفاضوا في ذِكر اللهّ فأَجِلْ سَهمْك مع سِهامهم وإن أفاضوا في غير ذلك فَتَخَلَّ عنهم وانهض‏.‏
وقال‏:‏ يا بني استَعِذ باللّه من شِرَار الناس وكُنْ من خِيارهم على حَذَر‏.‏
ومثلُ هذا قولُ أكثَم بن صَيْفي‏:‏ احذر الأمين ولا تأتمن الخائن فإنّ القُلوب بيد غيرك‏.‏
وقال لُقمان لابنه‏:‏ لا تركنْ إلى الدنيا ولا تَشْغَل قلبك بها فإِنك لم تُخْلَق لها وما خَلَق الله خَلْقاً أهون عليه منها فإنه لم يجعل نعيمَها ثواباً للمُطيعين ولا بلاءَها عُقوبة للعاصين‏.‏
يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تَمْش في غير أرب ولا تسأل عما لا يَعْنيك‏.‏
يا بني لا تُضَيِّع مالَك وتُصلِحْ مالَ غيرك فإنّ مالَك ما قدَّمت ومالَ غيرك ما تركت‏.‏
يا بني إنه من يَرْحم يُرْحَم ومن يَصْمُت يَسْلم ومن يَقُل الخير يَغْنَم ومَنْ يقُل الباطل يأثَم ومن لا يملك لِسانَه ينْدم‏.‏
يا بني زاحم العلماء برُكْبتَيْك وأنصت إليهم بأًذنَيك فإِنّ القلب يَحيا بنُور العُلماء كما تحيا الأرض المَيتة بمطر السماء‏.‏
وقال خالدُ بن صَفْوان لابنه‏:‏ كُن أحسنَ ما تكون في الظاهر حالاً أقلّ ما تكون في الباطن مآلاً ودَعْ من أعمال السرِّ مالا يَصْلُح لك في العلاَنِيَة‏.‏
وقال أعرابي لابنه‏:‏ يا بني إنه قد أَسْمَعك الدَّاعي وأعذر إليك الطالب وانتهى الأمرُ فيك إلى حَدّه ولا أعرِفُ أعظمَ رزيّة ممن ضَيَّعَ اليقين وأَخْطأه الأمَلً‏.‏
وقال عليًّ بن الحسين لابنه وكان من أفضل بني هاشم‏:‏ يا بني اصبر على النّوِائب ولا تَعرّض للحُتوف ولا تًجبْ أخاك من الأمر إلى ما مَضرّتُه عليك أكثر من مَنْفعَته لك‏.‏
وقال حكيم لبنيه‏:‏ يا بني إياكم أن تكونوا بالأحداث مُغْتَرين ولها آمنين فإني واللّه ما سَخِرْت من شيء إلا نزل بي مثله فاحذَروها وتوقَّعوِها فإنما الإنسان في الدُّنيا غرَضٌ تَتَعاوره السِّهام فمُجَاوزٌ له ومُقصِّر عنه وواقعٍ عن يمينه وشماله حتى يُصيبه بعضها واعلموا أن لكل شيء جرَاءَ ولكل عمل ثواباً‏.‏
وقد قالوا‏:‏ كما تَدِين تُدَان ومن بَرِّ يوماً بُرَّ به‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا ما الدَّهر جرَّ على أُناس حوادثَه أناخَ بآخَرِينَا فقُلْ للشّامتين بنا أَفيقوا سَيَلقى الشامِتون كما لقِينا وقال حكيم لابنه‏:‏ يا بني إني مُوصيك بوصيّة فإن لم تحفظ وصيتي عنّي لم تَحْفَظها عنِ غيري‏:‏ اتّق الله ما استطعتَ وإن قَدَرْت أن تكون اليومَ خيراً منك أمس وغداً خيراَ منك اليومَ فافعل وإياك والطمعَ فإنه فَقْرٌ حاضِر وعليك باليأسِ فإنك لن تيأسِ من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه وإياك وما يُعْتَذر منه فإنك لن تَعْتذر من خير أبداَ وإذا عَثر عاثر فاحمد اللهّ أن لا تكون هو‏.‏
يا بني خذِ الخيرَ من أهله ودع الشرً لأهله وإذا قُمتَ إلى صَلاتك فَصلِّ صلاة وقال عليًّ بن الحُسن عليهما السلام لابنه‏:‏ يا بني إن الله لم يَرْضَك لي فأَوْصاك بي ورَضيَنى لك فَحَذّرَني منك واعلم أَنّ خيرَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعًه المودة إلى التفريط فيه وخيرَ الأبناء للآباء منِ لم يَدْعُه التقصيرُ إلى العُقوق له‏.‏
وقال حكيم لابنه‏:‏ يا بني إن أشدَّ الناس حسرةً يومَ القيامة رجلٌ كَسَب مالاً من غير حِلّه فأدخله النارَ وأوْرَثه مَنْ عَمِل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة‏.‏
عَمْرو بن عُتْبَة قال‏:‏ لما بلغتُ خمسَ عشرةَ سنة قال لي أبي‏:‏ يا بني قد تَقَطعَتْ عنك شرائع الصِّبَا فالزَم الحياء تكن منِ أهله ولا تُزَايِلْه فَتَبِين منه ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فيك فمَدحك بما تعلم خلافه من نفسك فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعْلَم إذا رَضي قال فيك من الشرّ مثلَه إذا سَخِط‏.‏
فاستأنس بالوُحْدَة من جُلساء السَّوء ِتَسْلَم من غِبّ عواقبهم‏.‏
وقال عبد الملك بنُ مَرْوَان لبَنيه‏:‏ كُفّوا الأذى وابذُلوا المعرِوف واعْفوا إذا قَدَرْتم‏!‏ ولا تَبْخَلوا إذا سئلتم ولا تُلْحِفوا إذا سألتم فإنه من ضيّق ضُيِّق عليه ومن أعطى أخْلَفَ اللهّ عليه‏.‏
وقال الأشعثُ بن قيس لبنيه‏:‏ ‏"‏ يا بني ‏"‏ ‏"‏ لا ‏"‏ تَذِلُّوا في أعراضكم وانخدعوا في أموالكم ولتَخِفَّ بُطونُكم من أموال الناس وظًهوركم من دمائهم فإنّ لكلِّ امرىء تَبِعة وإياكم وما يُعتَذر ‏"‏ منه ‏"‏ أو يُستحى فإنما يُعتذر من ذنب ويستحى من عَيب وأصْلِحوا المالَ لجفوة السُّلطان وتَغيُّر الزمان وكُفُّوا عند الحاجة عن المسألَة فإنه كَفي بالردّ مَنْعا وأجملُوا في الطلب حتى يوافق الرِّزْق قدَرا وامنعوا النساءَ من غير الأكفاء فإنكم أهلُ بَيْت يتأسىّ بكم الكريمُ ويتشرَف بكم اللئيم وكونوا في عوامّ الناس ما لم يَضْطرب الحبْلُ فإذا اضطرب الحبلُ فالحقوا بعشائركم‏.‏
وكتب عمرُ بن الخطّاب إلى ابنه عبد الله في غَيْبة غابها‏:‏ أمَّا بعد فإنّ مَنِ اتقى اللّه وَقاه ومن اتْكل عليه كفاه ومن شكَرَ له زاده ومن أقْرَضه جَزاه فاجعل التًقوى عِمارة قلبك وجَلاءَ بَصرك فإنه لا عمَل لمن لا نِيَّة له ولا خيرَ لمن لا خَشْيَة له ولا جديد لمن لا خلق له‏.‏
وكتب عليُّ بن أبي طالب إلى وَلده الحَسن عليهما السلام‏:‏ من عليّ أمير المؤمنين الوالدِ الفان المقرّ للزَّمان المًستَسْلم للحَدَثان‏:‏ المُدْبر العُمر المُؤمّل ما لا يُدْرك السالك سبيلَ مَن قد هَلَك غرَض الأسقام ورهينة الأيّام وعبْد الدنيا وتاجر الغُرور وأسير المنَايَا وقرين الرَّزايا وصريع الشهوات ونُصْب الآفات وخليفة الأموات أما بعد يا بني فإن فيما تَفكرَّت فيه من إدبار الدُّنيا عني وإقبال الآخرة إليّ وجُموح الدهر علىّ ما يُرَغِّبنى عن ذكر سوايِ والاهتمام بما ورائي غيرَ أنه حين تفرّد بي همّ نفسي دون همّ الناس فَصدَقني رأي ‏"‏ وصرَفني عن هواي ‏"‏ وصرزَح بي مَحْضُ أمري فأَفْضىَ بي إلى جِدٍّ لا يُزْري به لَعِب وصِدْق لا يَشو به كَذِب وَوَجَدْتُك يا بُنيّ بَغضي بل وجدتُك كُلِّي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك لأصابني وحتى كأنّ الموت لو أتاك أتاني فعند ذلك عَنَاني من أمرك ما عَنَاني من أمر نَفْسي‏.‏
كتبتُ إليك كتابي هذا يا بُني ‏"‏ مُستظهراً به ‏"‏ إن ‏"‏ أنا ‏"‏ بَقِيت ‏"‏ لك ‏"‏ أو فَنِيت فإني مُوصيك بتقوى الله وعِمَارة قلبك بذكره والاعتصام بحَبْله فإنَّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏"‏ وأيُّ سبب يا بُني أوْثق من سبب بينك وبين الله تعالى ‏"‏ إن أنت أخذت به ‏"‏‏.‏
أحْي قلبك بالموْعظة ونَوَره بالحكمة وأَمِّنه بالزًّهْد وذَلِّلهُ بالموت وقَوِّهِ بالغِنَى عن الناس وحَذِّرْه صولةَ الدَّهر وتقلُّبَ الأيام والليالي‏.‏
واعرض عليه أخبارَ الصين وسِرْ في ديارهم وآثارهم فانظرُ ما فعلوه وأين حلُّوا فإنك تَجِدهم قد اْنتقلوا عن دار الأحبّة ونزلوا دارَ الغُرْبة وكأنك عن قليل يا بنيّ قد صرت كأحدهم فبعْ دنياكَ بآخرتك ولا تبعْ آخرتك بدُنياك ودَع القولَ فيما لا تَعْرِف والأمرَ فيما لا تكلًف وأْمُر بالمعروف بيَدِك ولسانك وَانْهَ عن المنكر بيدك ولسانك وبايِنْ مَن فعَلَه وخُض الغَمَرَاتِ للحق ولا تأخُذْك في الله لوِمةُ لائم واحفظ وَصيَّتي ولا تَذْهَب عنك صَفْحاً فلا خير في عِلْم لا ينفع‏.‏
واعلم ‏"‏ أنَّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة ‏"‏ وأنه لا غِنى لك فيه عن حُسْن الارتياد مَع بلاغك منِ الزَّاد‏.‏
فإن أصَبتَ من أهلِ الفاقة مَنْ يحمل عنك زادك فيُواِفيك به في مَعارك فاغْتنِمه فإن أَمامك عَقَبَةً كَؤُداَ لا يُجاوزها إلا أخفُّ الناس حْملاَ فأَجْمل في الطلب وأحسِن المكتسب فرُب طَلَب قد جرَّ إلى حَرَب وإنما المحْرُوب من حُرِبَ دِينُه والمسلوبُ من سُلِب يقينه‏.‏
واعلم أنه لا غِنى يَعْدِل الجنَّة ولا فقْرَ يَعْدِل النار‏.‏
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏
وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية‏:‏ أنْ تَفَقّه في الدّين وعَوِّد نفسَك الصبر على المَكْروه وكِلْ نَفْسَك في أمورك كلِّها إلى الله عزَّ وجلَّ فإنك تَكِلًها إلى كهف‏.‏
وأخْلِص المسألة لربِّك فإنّ بيده العَطاء والحِرمان‏.‏
وأكثر الْاسْتخارة له واعلم أنَّ من كانت مَطيّته الليلَ والنهار ‏"‏ فإنه ‏"‏ يُسار به وإن كان لا يَسير فإنَّ الله تعالى قد أبى إلا خرابَ الدنيا وعمارة الآخرة‏.‏
فإن قَدرتَ أن تَزْهد فيها زُهْدَك كلّه فافعل ذلك وإن كنتَ غير قابل نَصِيحتي إيّاك فاعلَم عِلْماً يَقِيناً أنك لن تَبْلُغ أملك ولن تَعْدو أجلك وأنك في سَبيل مَن كان قَبْلك فأكْرم نفسَك عن كل دَنِيَّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تَعتاض بما تَبْذُلُ من نفسك ‏"‏ عوضاً ‏"‏‏.‏
وإيّاك أن تُوجِف بك مَطايا للطمع وتقول‏:‏ متى ما أخِّرت نزعتُ فإنَّ هذا أهْلَك مَن هَلك قَبْلك‏.‏
وأمسِك عَليك لسانك فإنَ تَلافِيكَ ما فرط من صَمْتك أيْسر عليك من إدراك ما فات من مَنْطقك واحفَظْ ما في الوِعاء بشدّ الوكاء فحُسْن التَّدبير مع الاقتصاد أبْقى لك من الكثير مع الفَساد والحُرْفة مع العِفّة خير من الغِنَى مع الفجور والمَرْء أحفظُ لسِرّه ولربما سَعى فيما يَضرُه‏.‏
إياك والاتّكالَ على الأماني فإنها بضائع النَّوكي وتًثبط عن الآخرة والأولى‏.‏
ومن خير حظّ الدنيا القَرين الصالح فقارنْ أهلَ الخَير تَكُن منهم وباين أهلَ الشر تَبِنْ عنهم ولا يَغْلبنَ عليك سوء الظنّ فإنه لن يَدعَ بينك وبين خليل صُلْحاً‏.‏
أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار الحطب واعلم أنّ كُفْر النِّعمة لُؤْم وصُحْبة الأحمق شُؤم ومن الِكَرَم مَنْع الحُرَمٍ ومَن حَلُم ساد ومَن تَفَهّم ازداد‏.‏
آمْحَض أخاك النصيحةَ حسنةًَ كانت أو قبيحةً‏.‏
لا تَصرْم أخاك على ارتياب ولا تَقْطعه دون استعتاب وليس جزاء من سرّك أن تَسُوءه‏.‏
الرزق رِزْقان‏:‏ رِزْق تَطْلبه ورِزْق يَطلبك فإن لم تأته أتاك‏.‏
واعلم يا بُني أن مالَك من دُنياك إلا ما أصلحت به من مَثْواك فأنْفق من خَيْرك ولا تَكن خازناً لِغَيرك وإن جَزعْت على ما يُفلت من يديك فاجزع على ما لم يَصِل إليك‏.‏
ربما أخطأ البصيرُ قَصْدَه وأبصر الأَعمى رُشْدَه ولم يَهْلك أمرؤ اقتصد ولم يَفْتقر من زَهد‏.‏
مَن ائتمن الزمانَ خانه ومن تَعظّم عليه أهانه‏.‏
رأسُ الدين اليقين وتمام الإخلاص اجتناب المَعاصي وخيرُ المَقال ما صَدّقَته الفِعَال‏.‏
سَلْ عن الرَّفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدّار واحمل لِصَديقك عليك واقْبل عًذْر مَن اعتذر إليك وأخر الشرَّ ما استطعت فإنك إذا شِئْت تَعجّلته‏.‏
لا يكن أخوك على قَطِيعتك أقوَى منك على صِلَته وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان‏.‏
لا تُمَلّكن المرأة من الأمر ما يًجاوز نفسها فإنَّ المرأة رَيْحانة وليست بِقَهْرمانة فإنَّ ذلك أدومُ لحالها وأرخَى لبالها‏.‏
واغضُض بصرَها بِستْرك واكفُفْها بحجابك وأكرم الذين بهم تَصُول وإذا تطاولتَ بهم تَطُول‏.‏
اسأل الله أن يُلْهمك الشكر والرَّشد ويُقَوِّيك على العمل بكل خَيْر ويَصرف عنك كل مَحْذور برحمته والسلامُ عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏



مقامات العباد عند الخلفاء
مقام صالح بن عبد الجليل قام صالح بن عبد الجَليل بين يدي المهديّ فقال له‏:‏ إنه لما سَهُل علينا ما توعّر على غيرنا منِ الوصول إليك قُمْنا مَقام الأدَاء عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظْهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنهْي عند انقطاع عُذْر الكِتْمان ولا سيّما حين اتّسمتَ بميسم التَواضع ووعدت الله وحَملة كتابه إيثارَ الحق على ما سواه فَجَمعنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التَّمحيص‏.‏
وقد جاء في الأثر‏:‏ مَن حَجَب الله عنه العِلْم عَذَبه على الجَهل وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إِليه العلمُ فأدبر عنه فاْقبل يا أمير المُؤمنين ما أهْدي إليك من أَلْسنتنا قَبولَ تحقيق وعمل لا قَبول سُمعةٍ ورياء فإنما هو تَنْبيه من غَفْلة وتذْكير من سَهْو وقد وَطَّن الله ‏"‏ عزَ وجلَّ ‏"‏ نَبيّه ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ على نُزولها فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإمّا يَنْزغَنْك مِن الشَّيطان نزْغ فاْسَتعذ باللّه إنه هو السَّمِيع العَليم ‏"‏‏.‏
مقام رجل من العباد عند المنصور بينما المنصورُ في الطَراف بالبَيْت ليلاً إذ سَمِع قائلا يقول اللّهم إني أشكُو إليك ظُهور البغي والفَساد في الأرض وما يحولُ بين الحقّ وأهله من الطّمع‏.‏
فخرج المنصورُ فَجَلس ناحية من المَسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلّى رَكْعتين واستَلم الركن وأَقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة فقال المنصورُ‏:‏ ما الذي سمعتًك تذكُر من ظُهور الفَساد والبغي في الأرض وما الذي يحَول بين الحقّ وأهله من الطّمع فواللِّه لقد حَشَوْتَ مسامعي ما أرْمَضني‏.‏
فقال‏:‏ إنْ أمَنتني يا أميرَ المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها وإلاّ احتجرتُ منك واقتصرتُ على نفسي فلي فيها شاغِل‏.‏
قال‏:‏ فأنتَ آمنٌ على نفسك فقُل‏.‏
فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الذي دخله الطمعُ وحال بينه وبين ما ظَهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت فقال‏:‏ فكيف ذلك وَيْحك‏!‏ يَدْخلُني الطمع والصفراء والبَيضاء في قَبْضتي والحًلْو والحامض عندي قال‏:‏ وهل دَخل أحدٌ من الطمع ما دَخلك إنَّ الله استرْعاك أمرَ عِباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجَمْع أموالهم وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجَصّ والآجُرّ وأبواباً من الحديد وحًرّاساً معهم السّلاح ثم سجنتَ نفسك عنهم فيها وبَعثتَ عُمَّالك في جباياتِ الأموال وجَمْعها ‏"‏ وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكُراع ‏"‏ وأَمرت أن لا يدخل عليك أحدٌ من الرجال إلا فلانٌ وفلانٌ نفراً سميتهم ولم تَأْمر بإيصال المَظلوم ولا الملْهوف ولا الجائع العارِي ‏"‏ ولا الضَّعيف الفقير ‏"‏ إليك ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حقّ فلما رآك هؤلاء النفرُ الذين استَخْلصتهم لنفسك وآثرتَهم على رعيّتك وأمرِتَ أن لا يُحجبوا دونك تَجْبي الأموالَ وتَجمعها قالوا‏:‏ هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه فإئتمروا أنْ لا يصلَ إليك من عِلْم أخبار الناس شْيءٌ إلا ما أرادوا ولا يَخْرُجَ لك عاملٌ ‏"‏ فيُخالفَ أمرهم ‏"‏ إلا خَوّنوه عندك ونفَوْه حتى تسقطَ منزلتُه فلما انتشر ذلك عنك وعَنهم أَعْظَمهم الناسُ وهابوهم وصانَعُوهم فكان أولَ من صانَعهم عُمّالُك بالهدايا والأموال لِيَقْووا بها على ظُلم رعيّتك ثم فعل ذلك ذوو المقْدرة والثروة من رعيّتك لينالوا ظُلْم مَن دونهم فامتلأت بلادُ الله بالطّمع ظُلْماً وبَغْياً وفساداً وصار هؤلاء القومُ شركاءك في سُلْطانك وأنت غافل فإن جاء مُتظلِّم حِيل بينك وبينه‏.‏
فإنْ أراد رَفْع قِصّته إليك عند ظُهورك وَجدك قد نَهَيْت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً يَنْظر في مَظالمهم فإن جاء ذلك المتظلِّم فبَلغ بطانتَك خبرُه سألوِا صاحبَ المظالم أن لا يَرْفع مَظلَمتَه إليك ‏"‏ فإن المتظلَّم منه له بهم حُرْمة فأجابهم خوفاَ منهم ‏"‏ فلا يَزال المظلوِمُ يَختلف إليه ويَلُوذ به ويَشْكو ويَسْتغيث وهو يَدْفعه فإذا أجْهد وأحْرج ثم ظَهرْت صَرخ بين يديك فيُضرب ضرباً مُبرِّحاً يكون نَكالاً لغيره وأنت تَنظر فما تُنْكِر فما بَقاء الإسلام ‏"‏ على هذا ‏"‏ وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أًسافر إلى الصِّين فقدِمتها مرَّةً وقد أُصيب ملكُها بسَمْعه فَبكى بًكاءَ شديداً فحّثه جُلساؤه على الصَبر فقال أما إني لستُ أَبكي للبليّة النازٍلة بي ولكني أبْكي لمظلوم يصرُخ بالباب فلا أَسمع صوتَه‏.‏
ثم قال‏:‏ أمَا إذ قد ذهب سَمْعي فإنّ بَصري لم يَذْهب نادُوا في النّاس أن لا يَلْبس ثوباً أحمرَ إلا مُتظلِّم‏.‏
ثم كان يركب الفيلَ طَرَفي النهار وينظُر هل يَرى مظلوماً‏.‏
فهذا يا أمير المؤمنين مُشرك باللّه بلغتْ رأفته بالمُشركين هذا المبلغ وأنت مُؤمن باللّه من أهل بيت نبيّه لا تَغْلبك رأفتك بالمُسلمين على شُحّ نفسك فإن كنتَ إنما تَجمع المال لولدك فقد أراك الله عِبَراً في الطِّفل يَسقط من بَطن أمه مالَه على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يدٌ شَحيحة تَحْويه فما يَزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعْظُم رغبة الناس إليه ولستَ الذي تُعطي بل الله الذي يعطيِ من يشاء ما يشاء فإن قلتَ إنما تَجْمَع المال لتَشُدَّ به السلطان فقد أراك الله عِبراَ في بني أمَيّة ما أغنى عنهم جمعُهم من الذًهب وما أعدُّوا من الرِّجال والسلاح والكُرَاع حين أراد الله بهم ما أراد وإن قلت إنما تجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فواللّه ما فَوق ما أنت فيه إلا منزلةٌ لا تُدْرك إلا بخلاف ما أنتَ عليه‏.‏
يا أميرَ المؤمنين هل تُعاقب مَن عَصَاك بأشدّ من القتل فقال المنصور‏:‏ لا فقال‏:‏ فكيف تَصنع بالمَلِك الذي خَوَّلك مُلْك الدنيا وهو لا يُعاقب مَن عَصاه بالقتل ولكن بالخُلود في العذاب الأليم قد رأى ما عُقد عليه قلبك وعَملته جوارحك ونَظَر إليه بَصرك واجترَحَتْه يداك ومَشَت إليه رِجْلاك هل يُغْني عنك ما شَحِحْتَ عليه من مُلْك الدُّنيا إذا انتزَعَه من يدك ودعاكَ إلى الحِساب قال‏:‏ فَبكى المنصورُ ثم قال‏:‏ ليتَنِي لم أخْلق‏.‏
ويحك‏!‏ فكيف أحتال لِنَفْسي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ للناس أعلاماَ يَفْزَعون إليهم في دينهم ويَرْضَوْن بهم في دُنياهم فاجعلهم بِطانَتك يُرْشدوك وشاوِرْهم في أمْرِكَ يُسَدِّدوك قال‏:‏ قد بعثتُ إليهم فهربوا منِّي قال‏:‏ خافُوك أن تَحملهم على طريقَتِك ولكن افْتَح بابَكَ وسهِّل حِجَابك وانصُر المظلوم واقمع الظالم وخُذِ الفَيْءَ والصدقات من حِلَها واقسمها بالحقّ والعدْلِ على أهلها وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة‏.‏
وجاءَ المؤذِّنون فسلَّموا عليه فصلّى وعاد إلى مَجْلسه وطُلِب الرجُل فلم يوجد‏.‏
مقام الأوزاعي بين يدي المنصور قال الأوزاعيّ‏:‏ دخلتُ عليه فقال لي‏:‏ ما الذي بَطّأَ بك عني قلتُ‏:‏ وما تُريد منّي يا أمير المؤمنين قال‏:‏ الاقتباس منك قلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين انْظُر ما تقول فإنّ مَكحولا حدَّثَني عن عطيَّة بن بُسْر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ مَنْ بَلغتْه عن اللّه نصيحةٌ في دِينه فهي رحمةٌ من الله سِيقت إليه فإنِّ قَبِلها من الله بشكرو إلا فهي حُجَّة من الله عليه ليَزداد إثماً ويزدادَ الله عليه غَضباً ‏"‏ وإِن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا وإن سَخِطَ فله السّخْط ومَن كرهه فقد كره الله عزَّ وجلَّ لأنَّ الله هو الحق المبين ‏"‏‏.‏
ثم قلتُ‏:‏ يا أميرَ المُؤْمنين إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عُرضت على السَّمواتِ والأرض فأَبَين أَنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا‏.‏
وقد جاء عن جدِّكَ عبد الله بن عبّاس في تفسير قول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلا كَبيرَةً إلا أَحْصَاهَا ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ الصِّغيرة‏:‏ التبسّم‏.‏
والكبيرة‏:‏ الضحك‏.‏
فما ظنك بالقول والعمل فأًعيذك باللّه يا أَميرَ المُؤْمنين أن تَرى أنّ قَرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْفعك مع المُخالفة لأمره فقد قال للّه‏:‏ يا صفِيّة عمة محمّد ويا فاطمة بنت محمّد استَوْهِبا أنفسكما من الله فإنّي لا أُغْنِي عنكما من الله شيئاً‏.‏
وكذلك جدًك العبَّاس سأل إمارةً من النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيْ عمّ نفسٌ تُحييها خيرٌ لك من إمارة لا تُحْصِيها‏.‏
نظراً لعمه وشفقةً عليه من أن يَليَ فيحيد عن سُنّتِه جَنَاح بعوضة فلا يستطيع له نَفْعاً ولا عنه دَفْعاً‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما منَ راع يَبِيتُ غاشاً لرعيّتِه إلا حَرّمَ الله عليه رائحةَ الجنَّة‏.‏
وحقِيق على الوالي أن يكونَ لرعيًّته ناظرِاً ولما استطاع من عَوْرَاتِهم ساتراً وبالحق فيهم قائماً فلا يتخوّف مُحْسنهم منه رَهَقاَ ولا مُسِيئهم عًدْوَاناً فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جَريدةٌ يَستاك بها ويَرْدَعُ المنافقين عنه فأتاه جبريلُ فقال‏:‏ يا محمد ما هذه الجريدة التي معك اتْرُكها لا تَمْلأْ قلوبهم رُعْباً‏.‏
فما ظنُّك بمن سَفك دِمَاءَهم وقطّع أستارَهم ونهب أموالهمِ يا أمير المؤمنين إن المغفور له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخّر دعا إلى القِصاص من نفْسه بِخَدْش خَدَشه أَعرابيّاً لم يتعمَّده فقال جبريلُ‏:‏ يا محمد إنّ الله لِم يَبْعثك جبّاراً تَكْسِر قًرون أُمّتك‏.‏
واعلم يا أمير المؤمنين أن كلَّ ما في يدك لا يعَدِلُ شرْبةً من شَرَاب الجنَّة ولا ثمرَةً من ثِمارها ولو أن ثوباً من ثِياب أهل النار عُلِّق بين السماء والأرض لأهْلك الناسَ رائحتُه فكيف بمن تَقَمّصه‏!‏ ولو أن ذَنوباً من ‏"‏ صَديد أهل ‏"‏ النار صُبّ على ماء الدُّنيا لأَحَمَّه فكيف بمن تجرّعه‏!‏ ولو أنَ حَلْقة من سَلاسل جهنَّم وُضعت على جبَل لأذابتْه فكف بمن يُسْلَك فيها وَيُرَدّ فَضْلُها على عاتقه‏!‏ كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك حجّ سُليمان بن عبد الملك فلما قَدِمَ المدينةَ للزيارة بَعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شِهاب فلما دخل قال‏:‏ تكلّم يا أبا حازم‏.‏
قال‏:‏ فيم أتكلّم يا أمير المُؤمنين قال‏:‏ في المَخْرج من هذا الأمر قال‏:‏ يَسِيرٌ إن أنت فعلتَه قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ لا تأخذ الأشياء إلاّ من حِلِّها ولا تَضَعْها إلا في أهلها قال‏:‏ ومن يَقوى على ذلك قال‏:‏ مَن قلَّدَه الله من أَمر الرعيّة ما قلَّدك‏.‏
قال‏:‏ عِظْني يا أبا حازم قال‏:‏ اعلم أنَّ هذا الأمر لم يَصِرْ إليك إلا بمَوْت من كان قَبْلَك وهو خارجٌ من يديك بمثل ما صار إليك‏.‏
قال‏:‏ يا أبا حازم أَشِر عليَّ قال‏:‏ إنما أنت سُوق فما نفق عندك حُمِل إليك من خير أو شرّ فاشتر أيَّهما شِئتَ‏.‏
قال‏:‏ مالك لا تأتينا قال‏:‏ وما أَصنع بإتيانِك يا أمير المؤمنين إنً أَدْنَيْتَني فتنْتَني وإن أقصَيتني أَخْزَيْتني وليس عندك ما أرجوك له ولا عِنْدي ما أَخافُك عليه‏.‏
قال‏:‏ فارفع إلينا حاجتَك قال‏:‏ قد رفعتُها إلى ما مَن هو أقدرُ منك عليها فما أَعطاني منها قَبِلْتُ وما مَنَعَني منها رَضِيتُ‏.‏
مقام ابن السمَّاك عند الرشيد دَخل عليه فلما وَقف بين يديه قال له‏:‏ عِظْني يابن السمَّاك وأوجز‏.‏
قال‏:‏ كفي بالقُرآن واعظاً يا أميرَ المؤمنين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ بِسْم الله الرحْمن الرحيم‏.‏
وَيلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذين إذا اكتالوا على النَّاس يَسْتَوْفُون‏:‏ ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ لِرَبِّ العَالمين ‏"‏‏.‏
هذا يا أمير المؤمنين وَعيدٌ لمن طَفّفَ في الكَيْل فما ظَنُّك بمن أخذه كُلّه وقال له مرة‏:‏ عِظْني وأتي بماء ليشرَبه فقال‏:‏ يا أَمير المؤمنين لو حُبِسَتْ عنك هذه الشرْبةُ أكنتَ تَفدِيهاَ بمُلْكك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فلو حُبِس عنك خُروجُها أكنت تَفديها بمُلْكك قال‏:‏ نعم ‏"‏ قال ‏"‏‏:‏ فما خيرٌ في مُلْك لا يُسَاوي شرْبة ولا بَولَة‏.‏
قال‏:‏ يابن السماك ما أَحْسن ما بَلَغنِي عنك‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَ لي عيوباَ لو اطّلع الناسُ منها على عيب واحد ما ثبتتْ لي في قَلب أحد موِدّة وإني لخائفٌ في الكلام الفِتْنة وفي السرّ الغِرّةً وإني لخائفٌ على نَفْسي من قِلّة خوْفي عليها‏.‏
كلام عمرو بن عبيد عند المنصور دخل عمرو بن عُبيد على المَنصور وعنده ابنه المهديّ فقال له أبو جعفر‏:‏ هذا ابن أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين ورَجائي أن تًدْعو له فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أراك قد رَضيتَ له أموراً يصير إليها وأنت عنه مَشْغول‏.‏
فاستَعْبر أبو جعفر وقال له‏:‏ عِظْني أبا عثمان قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ الله أعطاك الدّنيا بأسرها فاشتر نفسَك منه بِبعْضها هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يدِ مَن كان قبلك لم يَصِل إليك‏.‏
قال‏:‏ أبا عثمان أعِنِّي بأصحابك قال‏:‏ ارفع عَلَم الحق يَتبْعك أهلُه ثم خرج فأتْبعَه أبو جعفر بصرُّة فلم يَقبلها وجعل يقول‏:‏ كُلّكم يَمْشي رُوَيد كُلّكم خاتِلُ صَيد غير َعمرو بنِ عُبيد خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر لَقي أبو جعفر سُفْيان الثَّوريَّ في الطواف وسُفيان لا يَعْرفه فَضرب بيده على عاتِقه وقال‏:‏ أتَعْرفني قال‏:‏ لا ولكنّك قَبضت عليّ قَبْضة جبّار‏.‏
قال‏:‏ عِظْني أبا عبد الله قال‏:‏ وما عملتَ فيما عَلِمتَ فأَعِظَك فيما جَهِلْت قال‏:‏ فما يَمْنعك أن تَأتَينا قال إنَّ الله نهى عَنْكم فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِين ظَلَمُوا فَتَمًسّكم النَّار ‏"‏‏.‏
فمسح أبو جعفر يدَه به ثم التفت إلى كلام شبيب بن شيبة للمهدي قال العُتْبي‏:‏ سألتُ بعضَ آل شَبيب بن شَيْبة أتَحْفظون شيئاً من كلامه قالوا‏:‏ نعم قال للمهديّ‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الله إذ قَسَّم الأقسام في الدًنيا جعل لك أسناها وأَعلاها فلا تَرْض لنفسك في الآخرة إلا مثلَ ما رَضي لك به من الدنيا فأًوصيك بتَقْوى اللّه فَعَليكم نَزَلت ومِنكم أخذت وإِليكم تُرَدّ‏.‏
من كره الموعظة لبعض ما يكون فيها من الغلظ أو الخرق قال رجل للرَّشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّي أريد أن أعِظك بِعظةٍ فيها بعض الغِلْظة فاحتَمِلها قال‏:‏ كلاّ إنَّ الله أمر مَن هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ منِي قال لنبيّه موسى ‏"‏ عليه السلام ‏"‏ إذ أرسله إلى فرعون‏:‏ ‏"‏ فقُولا له قَوْلاً ليِّناً لَعلّه يَتَذكر أو يَخْشى ‏"‏‏.‏
دخل أعرابيٌّ على سُليمان بن عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني مُكلِّمك بكلام فاحتَمِلْه إن كرهتَه فإن وراءه ما تُحب إن قبلتَه قال‏:‏ هات يا أعرابيّ قال‏:‏ إني سأطلق لساني بما خَرستْ عنه الألْسُن من عِظتك تأديةً لحق الله تعالى وحقِّ إمامتك إنه قد اكتَنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دُنياك بدينهم ورِضاك بسُخْط ربهم خافُوك في الله ولم يَخافوا الله فيك فهم حَرْب للآخرة سِلْمِ للدنيا فلا تَأمنهم علِى ما ائتمنك الله عليه فإنهم لا يألونك خبالاً والأمانة تَضييعاً والأُمةَ عَسْفاَ وخَسْفاً وأنت مَسْؤول عما آجترحوا وليسوا مَسْؤولين عما اجترحتَ فلا تُصْلح دُنياهم بفَساد آخرتك فإنَّ أَخْسَر الناس صَفْقةً يوم القيامة وأَعظمَهم غبْناً مَن باع آخرتَه بدُنيا غيره‏.‏
قال سليمان‏:‏ أما أنت يا أَعرابيّ فقد سَلَلْتَ لسانك وهو أحدّ سيفَيْك‏.‏
قال‏:‏ أجلْ يا أمير المؤمنين لك لا عليك‏.‏
ووعظ رجل المأمون فأَصغَى إليه مُنْصَتاً فلما فَرغ قال‏:‏ قد سمعتُ موعظتك فاسأل الله أن ينفعنا بها وبما عَلِمنا غيرَ أنّا أحوجُ إلى المُعاونة بالفِعال مِنّا إلى المُعاونة بالمَقال فقد كَثُر القائلون وقَلّ الفاعلون‏.‏
العُتْبِيُّ قال‏:‏ دَخل رجلٌ من عَبد القَيْس على أبي فَوَعِظه فلما فَرغ قال أبي له‏:‏ لو اتّعظنا بما عَلِمنا لا نْتَفعْنا بما عَمِلْنا ولكنّا عَلِمنا عِلماَ لزمتنا فيه الحُجَّة وغَفَلنا غَفْلةَ مَن وَجبت عليه النِّقمة فَوُعظنا في أنفسنا بالتَّنقل من حال إلى حال ومن صِغَرِ إلى كِبر ومن صِحَّة إلى سَقم فأبينا إلا المُقام على الغَفْلة وإيثاراً لعاجل لا بقاءَ لأهله وإعراضاً عن آجل إليه المصير‏.‏
سعد القَصِير قال‏:‏ دَخل أناسٌ من القُرّاء على عُتْبة بنِ أبي سًفيان فقالوا‏:‏ إنّك سَلَّطت السيفَ على الحقّ ولم تسلِّط الحقَّ على السَّيف وجئت بها عَشوة خَفِيّة‏.‏
قال كَذَبْتُم‏:‏ بل سلّطت الحقّ وبه سُلِّطتَ فاعرفوا الحقَّ تَعْرفوا السيفَ فإنكم الحاملون له حيثُ وَضعه أفضل والواضعون له حيثُ حَمْله أعدل ونحِن في أول زمان لم يأتِ آخرُه وآخرِ دَهْر قد فات أولُه فصار المَعْروف عندكم مُنْكراَ والمُنكر معروفاً وإني أقول لكم مَهْلاً قبلَ أن أقول لنفسي هلا قالوا‏:‏ فَنَخْرج آمِنين قال‏:‏ غيرَ راشدين ولا مَهْدِيِّين‏.‏
حاد قوم سَفْر عن الطريق فَدَفعوا إلى راهب مُنْفرد في صَوْمعته فنادَوْه فأشرف عليهم فسألوه عن الطريق فقال‏:‏ ها هنا وأومأ بيده إلى السماء فَعلِموا ما أراد فقالوا‏:‏ إنا سائلوك قال‏:‏ سَلُوا ولا تُكْثِرُوا فإن النهار لا يرجع والعُمْر لا يعود والطالبَ حثيث قالوا‏:‏ علام الناسُ يومَ القيامة قال‏:‏ على نيَّاتهم وأعمالهم قالوا‏:‏ إلى أين المَوْئل قال‏:‏ إلى ما قَدَّمتم قالوا‏:‏ أوصِنا قال‏:‏ تزَوَّدُوا على قَدْر سَفركم فَخَيْر الزاد ما بَلَّغ المحلّ ثم أرشدهم الجادَّة واْنقمع‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ أتيت الشامَ فمررتُ بدَيْر حَرْملة فإذا فيه راهبٌ كأنّ عينيه مَزادتان فقلت له‏:‏ ما يُبْكيك قال‏:‏ يا مُسلم أبْكي على ما فَرّطت فيه من عُمري وعلى يوم يَمْضي من أجلي لم يَحْسُن فيه عملي‏.‏
قال‏:‏ ثم مررتُ بعد ذلك فسألتُ عنه فقيل لي‏:‏ إنه قد أسلم وغزا الرومَ وَقُتل‏.‏
قال أبو زَيْد الحيريّ‏:‏ قلت لثوبانَ الراهب‏:‏ ما مَعنى لُبْس الرهبان هذا السواد قال‏:‏ هو أشبهُ بلباس أهل المصائب قلت‏:‏ وكلَّكم معشرَ الرُّهبان قد أصيب بمُصيبة قال‏:‏ يَرْحمك اللّه وهل مُصيبة أعظمُ من مَصائب الذنوب على أهلها قال أبو زيد‏:‏ فما أذكُر قوله إلا أبكاني‏.‏
حبيبٌ العَدَويّ عن موسى الأسْوَارِيّ قال‏:‏ قال‏:‏ لما وقعتْ الفِتْنه أردتُ أن أحْرِزَ ديني فخرجتُ إلى الأهْواز فبلغ آزادمَرْد قُدومي فبعثَ إليّ مَتاعاً فلما أردتُ الانصراف بلغني أنه ثَقِيل فدخلتُ عليه فإذا هو كالخًفاش لم يَبق منه إلا رأسه فقلت‏:‏ ما حالُك قال‏:‏ وما حالُ مَنْ يُريد سفراً بعيداً بغير زاد ويَدْخل قبراً موحِشاً بلا مُؤنس وَينْطلق إلى مَلك عَدْل بلا حُجَّة ثم خرجتْ نفسُه‏.‏
العُتبيُّ قال‏:‏ مررتُ براهب باكٍ فقلتُ‏:‏ ما يُبكيك قال‏:‏ أمْرٌ عَرفتُه وقَصرُت عن طلبه ويومٌ مَضى من عُمري نقص له أجلي ولم يَنْقُص له أملي‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:03 AM

باب كلام الزهاد وأخبار العباد
قيل لقوم من العُبَّاد‏:‏ ما أقامكم في الشَّمس قالوا‏:‏ طلَب الظِّل‏.‏
قال علقمةُ لأسودَ بنِ يزيد‏:‏ كم تُعذِّب هذا الجسدَ الضَّعيف قال‏:‏ لا تنال الراحة إلا بالتَّعب‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ لو رفقتَ بنفسك قال‏:‏ الخيرُ كلُّه فيما أُكْرِهت النفوسُ عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حُفّت الجنَّة بالمكاره‏.‏
وقيل لمَسروق بن الأجْدع‏:‏ لقد أضررتَ ببدنك قال‏:‏ كرامتَه أُريد‏.‏
وقالت له امرأته فَيْروز لما رأتْه لا يُفْطِر من صيام ولا يَفْترً عن صلاة‏:‏ ويلك يا مسروق‏!‏ أما يعْبد الله غيرُك أما خُلقت النارُ إلا لك قال لها‏:‏ وَيحْك يا فيروز‏!‏ إن طالب الجنة لا يَسأَم وهاربَ النار لا ينام‏.‏
وشَكت أم الدَرداء إلى أبي الدَّرداء الحاجة فقال لها‏:‏ تصبَّري فإنّ أمامَنا عَقَبةً كئُوداً لا يجاوزها إلا أخفُّ الناس حِمْلاً‏.‏
ومر أبو حازم بسُوق الفاكهة فقال‏:‏ مَوْعدك الجنّة‏.‏
ومرَّ بالجزًارين فقالوا له‏:‏ يا أبا حازم هذا لحم سمين فاشتَر قال‏:‏ ليس عندي ثَمَنُه قالوا‏:‏ نُؤخرك قال‏:‏ أنا أُؤخر نفسي‏.‏
وكان رجل من العُبَّاد يأكل الرُّمان بِقشرْه فقيل له‏:‏ لم تَفْعل هذا فقال‏:‏ إنما هو عدوّ فأثْخن فيه ما أمكنك‏.‏
وكان عليّ بن الحُسين عليهما السلام إذا قام للصلاة أخذتْه رِعْدةٌ فسُئِل عن ذلك فقال‏:‏ وَيحْكم‏!‏ أَتَدْرُون إلى من أَقُوم ومَن أُرِيد أن أُناجي وقال رجل ليونس بن عُبيد‏:‏ هل تَعلم أَحداً يَعمل بِعَمل الحسن قال‏:‏ لا واللهّ ولا أحداً يقول بقَوْله‏.‏
وقيل لمحمد بن عليّ بن الحُسين أو لعليّ بن الحُسين عليهم السلام‏:‏ ما أقلَّ وَلَدَ أبيك قال‏:‏ العجبُ كيف وُلدْتُ له‏!‏ وكان يصلّي في اليوم والليلة ألفَ ركعة فمتى كان يَتَفَرع للنساء وحَجَّ خمسة وعشرين حِجَّة راجلا‏.‏
ولما ضُرِب سعيدُ بن المُسَيِّب وأُقيم للناس قالت له امرأة‏:‏ ‏"‏ يا شيخ ‏"‏ لقد أُقمت مُقام خزْية فقال‏:‏ من مُقام الخزية فررتُ‏.‏
وشكا الناسُ إلى مالك ابن دينار القحطَ فقال‏:‏ أنتم تستبطئون المَطر وأنا أستبطئ الحِجارة‏.‏
وشكا أهل الكوفة إلى الفُضيل بن عِيَاض القحطَ فقال‏:‏ أمُدَ بِّراً غيرَ الله تريدون‏.‏
وذكر أبو حنيفة أيوبَ السِّخْتيانيّ فقال‏:‏ رحمه الله تعالى ثلاثاً لقد قَدمَ المدينة مرة وأنا بها فقلت‏:‏ لأقعدنّ إليه لعلي أتعلَّق منه بسقْطة فقام بين يدي القبر مَقاماً ما ذكرتُه إلا اقشعرَّ له جِلْدِي‏.‏
وقيل لأهل مكة‏:‏ كيف كان عَطاءُ بن أبي رَبَاح فيكم قالوا‏:‏ كان مثلَ العافية التي لا يُعرف فضلُها حتى تُفْقد‏.‏
وكان عطاء أفْطَس أشَلّ أعرج ثم عَمِي وأمه سَوداء تسمَّى بَرَكة‏.‏
وكان الأوقص المَخْزُوميّ قاضياً بمكة فما رًئى مثلُه في عَفافه وزُهْده فقال يوماً لِجُلسائه‏:‏ قالت لي أُمي‏:‏ يا بني إنك خُلقت خِلْقة لا تصلح معها لمَجَامع الفِتْيان عند القيان ‏"‏ إنك لا تكون مع أحدِ إلا تَخَطتْك إليه العيون ‏"‏ فعليك بالدِّينِ فإنَّ الله يَرْفَع به الخَسِيسة وُيتمُّ به النَّقيصة‏.‏
فنفعني اللهّ تعالى بكلامها وأطعتها فوليتُ القضاء‏.‏
الفُضَيل بن عِياض قال‏:‏ اجتمع محمد بن واسع ومالكُ بن دينار في مجلس بالبصرة فقال مالكُ بن دينار‏:‏ ما هو إلا طاعة اللهّ أو النار‏.‏
فقال محمد بن واسع‏:‏ ما هو كما تقول ليس إلا عَفْو الله أو النار‏.‏
قال مالك‏:‏ صدقتَ‏.‏
ثم قال مالك‏:‏ إنه يُعجبني أن يكون للرجل مَعِيشة على قدر ما يَقوته‏.‏
قال محمد بن واسع‏:‏ ولا هو كما تقول ولكن يُعْجبني أن يُصبح الرجل وليس له غَدَاء وُيمسى وليس له عَشَاء وهو مع ذلك راضٍ عن اللّه‏.‏
قال مالك‏:‏ ما أحْوَجني إلى أن يُعَلّمني مثلك‏.‏
جعفر بن سُليمان قال‏:‏ سمعتُ عبد الرحمن بن مهَديّ يقول‏:‏ ما رأيتُ أحداً أقْشَف من شعبَة ولا أعبدَ من سُفيان الثوري ولا أحفظَ من ابن المُبارك وما أُحِبُّ أن ألْقَى الله بصحيفة أحد إلا بصحيفة بِشر بنِ مَنصور مات ولم يَدَع قليلاً ولا كثيراً‏.‏
عبد الأعلى بن حمَّاد قال‏:‏ دخلت على بِشر بن مَنصور وهو في الموت فإذا به من السرور في أمر عظيم فقلت له‏:‏ ما هذا السّرور قال‏:‏ سُبحان اللهّ‏!‏ أخرجُ من بين الظالمين والباغين والحاسدين والمُغْتابين وأَقْدَم على حَجَّ هارون الرَّشيد فَبلغه عن عابدٍ بمكة مُجاب الدَّعوة مُعْتزل في جِبَال تِهامة فاتاه هارون الرشيدُ فسأله عن حاله ثم قال له‏:‏ أوْصِني ومُرْني بَما شِئتَ فواللّه لا عَصَيتك‏.‏
فَسكت عنه ولم يَرُدَّ عليه جواباً‏.‏
فخرج عنه هارون فقال له أصحابُه‏:‏ ما مَنعك إذ سألك أن تَأْمرَه بما شِئْتَ - وقد حَلَف أن لا يَعْصيك - أن تأمرَه بتقوِى الله والإحسان إلى رعيّته فَخَطَّ لهم في الرَّمل‏:‏ إنيّ أعظمتُ الله أن يكونَ يَأمره فيَعْصِيه وآمرُه أنا فيطيعني‏.‏
عليّ بن حمزة ابن ‏"‏ أُخت ‏"‏ سُفيان الثوري قال‏:‏ لما مَرِض سُفيان مَرَضه الذي مات فيه ذهبتُ ببَوْله إلى دَيْرانيّ فأرَيتُه إياه فقال‏:‏ ما هذا ببول حَنِيفيّ قلت‏:‏ بلى واللّه من خِيارهم‏.‏
قال‏:‏ فأنا أذهب معك إليه‏.‏
قال‏:‏ فدخل عليه وجَسَّ عِرْقه فقال‏:‏ هذا رجُلٌ قطَع الحُزن كَبِده‏.‏
مُؤرِّق العِجْليّ قال‏:‏ ما رأيتُ أحداً أفقه في وَرعه ولا أورَعَ لا فِقْهِه من محمد بن سيرين ولقد قال يوماً‏:‏ ما غَشِيتُ امرأةً قط في نوم ولا يقظة إلا امرأتي أم عبد الله فإني أرى المرأة في النوم فاعلم أنها لا تَحِلّ لي فأصْرف بَصري عنها‏.‏
الأصمعي عن ابن عَوْن قال‏:‏ رأيت ثلاثة لم أَرَ مثلَهم‏:‏ محمدَ بن سيرين بالعراق والقاسمَ بن محمد بالحجاز ورجاءَ بن حَيْوة بالشام‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ سمعت أشياخنا يقولون‏:‏ انتهى الزُّهْد إلى ثمانية من التابعين‏:‏ عامر بن عبد القيس والحسن بن أبي الحسنٍ البَصْرِيّ وهَرِم بن حيّان وأبي كيف يكون الزهد العُتْبيّ يرفعه قال‏:‏ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما الزًّهد في الدنيا قال‏:‏ أما إنه ما هو بتَحْريم الحَلال ولا إضاعة المال ولكنّ الزهدَ في الدنيا أن تكون بما في يد اللهّ أغنى منك عما في يدك‏.‏
وقيل للزُّهريّ‏:‏ ما الزُّهْد قال‏:‏ أما إنه ليس تَشْعِيثَ الِّلمَّة ولا قَشْفَ الهيْئَة ولكنّه صرْف النفس عن الشَّهْوَة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما الزُّهْد في الدنيا قال‏:‏ أَن لا يَغْلب الحرامُ صَبْرَك ولا الحلالُ شكرَك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول اللّه مَنْ أزهدُ الناس في الدنيا قال مَن لم يَنْس المَقابر والبِلَى وآثرَ ما يَبْقى على ما يَفْنى وعَدّ نَفْسه مع الموتى‏.‏
وقبل لمحمد بن واسع‏:‏ مَنْ أزهَدُ الناس في الدُّنيا قال‏:‏ مَنْ لا يبالي بِيدَ مَن كانت الدنيا‏.‏
وقيل للخليل بن أحمد‏:‏ مَن أزهدُ الناس في الدُّنيا قال‏:‏ من لم يَطلب المَفْقود حتى يَفْقد المَوْجود‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الزهد في الدُّنيا مِفْتاح الرَّغبة في الآخرة ‏"‏ والرغبة في الدُّنيا مِفْتاح الزُهد في الآخرة ‏"‏‏.‏
وقالوا‏:‏ مَثَلُ الدنيا والآخرة كمثَل رجل له امرأتان ضرَّتان إن أرْضى إحداهما أسْخط الأخرى‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن جعل الدنيا أكبرَ همِّه نزَع الله وقال ابن السّماك‏:‏ الزاهد الذي إن أصاب الدنيا لم يَفرح وإن أصابتْه الدنيا لم يحزن يضحك في المَلا ويَبْكي في الخَلا‏.‏
وقال الفُضيل‏:‏ أصلُ الزهد في الدنيا الرِّضا عن الله تعالى‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صفة الدنيا
قال رجُل لعلي بن أبي طالب كرم الله وَجْهَه‏:‏ يا أميرَ المؤمنين صِفْ لنا الدّنيا‏.‏
قال‏:‏ ما أصِف مِن دارٍ أولها عَناء وآخرُها فَناء حَلالُها حساب وحَرامها عِقاب مَن اْستغنى فيها فُتِن ومن افتقر فيها حَزِن‏.‏
قيل لأرسطاطاليس‏:‏ صِف لنا الدنيا‏.‏
فقال‏:‏ ما أصِف من دار أولها فَوْت وآخرها مَوْت‏.‏
وقيل لحكيم‏:‏ صف لنا الدنيا‏.‏
قال‏:‏ أمَل بين يديك وأجَل مُطِل عليك وشَيْطان فتّان وأمانِيُّ جرّارة العِنَا تدعوك فَتستجيب وترجُوها فتَخيب‏.‏
وقيل لعامر بن عبد القيس‏:‏ صف لنا الدنيا‏.‏
قال‏:‏ الدنيا والدةٌ للموت ناقضة للمُبْرَم مُرْتجعة للعطية وكلُّ مَن فيها يجري إلى ما لا يدري‏.‏
وقيل لبَكر بن عبد الله المُزنيّ‏:‏ صِف لنا الدنيا‏.‏
فقال‏:‏ ما مَضى منها فَحُلم وما بَقي فأمانيّ وقيل لعبد الله بن ثَعْلبة‏:‏ صِف لنا الدنيا قال‏:‏ أمسُكَ مَذْموم منك ويومُك غير محمود لك وغَدك غير مأمون عليك‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الدنيا سِجْن المُؤمن وجنَّة الكافر‏.‏
وقال‏:‏ الدنيا عرَضٌ حاضرِ يأْكُل منه البرّ والفاجر والآخرة وَعْد صِدْق يحكم فيها ملك قادر يفصل الحقّ من الباطل‏.‏
وقال‏:‏ الدنيا خَضرِة حًلْوَة فمن أَخذها بحقّها بُورك له فيها ومَن أخذها بغير حقّها كان كالآكِل الذي لا يَشْبع‏.‏
وقال ابن مَسعود‏:‏ ليس من الناس أَحدٌ إلا وهو ضَيْف على الدنيا ومالُه عارية فالضَّيْف مُرْتحِل والعارية مردودة‏.‏
وقال المسيح عليه السلام‏:‏ الدنيا لإبليس مزْرَعة وأهْلُها حُرَّاث‏.‏
وقال إبليسُ‏:‏ ما أُبالي إذا أحَب الناس الدنيا أن لا يَعْبُدوا صَنما ولا وَثَنا الدنيا أفتنُ لهم من ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمِّي الدنيا أمّ ذَفَر‏.‏
والذفر‏:‏ النتن‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للضحَّاك بن سُفيان‏:‏ ما طعامُك قال‏:‏ اللحم واللبن قال‏:‏ ثم إلى ماذا يَصير قال‏:‏ يصير إلى ما قد علمت قال‏:‏ فإنّ الله عزّ وجلّ ضَرَب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا‏.‏
وقال المسيحُ عليه السلام لأصحابه‏:‏ اتخذوا الدنيا قَنطرة فاعبرُوها ولا تَعْمُروها‏.‏
وفي بعض الكتب‏:‏ أوحى اللهّ إلى الدنيا‏:‏ من خَدمني فاخدُميه ومَن خدمك فاستخدميه‏.‏
وقيل لنُوح عليه السلام‏:‏ يا أبا البَشر ويا طويل العُمر كيف وجدتَ الدنيا قال‏:‏ كَبَيْتٍ له بابان دخلتُ من أحدهما وخرجتُ من الآخر‏.‏
وقال لُقمان لابنه‏:‏ إنّ الدنيا بَحْرٌ عريض قد هلك فيه الأوَلون والآخِرون فإن استطعت فاجعل سَفِينتك تقوى اللّه وعدَتك التوكُّل على اللّه وزادك العملَ الصالح فإن نجوتَ فبرحمة اللّه وإن هلكت فبذنوبك‏.‏
وقال محمد بن الحنفيّة‏:‏ من كرُمت عليه نفسُه هانت عليه الدنيا‏.‏
وقال‏:‏ إنّ المُلوك خَلَّوْا لكم الحِكمة فَخلُوا لهم الدنيا‏.‏
وقيل لمحمد بن واسع‏:‏ إنك لترضى بالدُّون قال‏:‏ إنما رَضي بالدُون من رضي بالدنيا‏.‏
وقال المسيحُ عليه الصلاة والسلام للحواريين‏:‏ أنا الذي كفأتُ الدنيا علىِ وَجهها فليس لي زوجةٌ تموت ولا بَيْت يَخْرَب‏.‏
شكا رجل إلى يُونس بن عُبيد وَجَعاَ يَجده فقال له‏:‏ يا عبد الله هذه دار لا توافقك فالتمس لك داراً تُوافقك‏.‏
لقي رجلٌ راَهِباً فقال‏:‏ يا راهب صِف لنا الدنيا فقال‏:‏ الدنيا تُخْلِق الأبدان وتُجَدِّد الآمال وِتباعد الأمْنِيّة وتُقَرِّب المنيَّة قال‏:‏ فما حالُ أهلها قال مَنْ ظَفِرَ بها تَعِب ومن فاتْته نصِب قال‏:‏ فما الغِنى عنها قال‏:‏ قَطْعُ الرَّجاءِ منها قالت‏:‏ فأين المَخْرَج قال‏:‏ في سُلوك المَنْهَج قال‏:‏ وما ذاك قال بَذْل المجهود والرِّضا بالمَوْجود‏.‏
قال الشاعر‏:‏ ما الناسُ إلا مع الدنيا وصاحبها فحيثما انقلبت يوماً به انقلبوا يُعظِّمون أخا الدنيا وإن وَثَبت يوماً عليه بما لا يَشْتَهي وَثبوا وقال آخر‏:‏ يا خاطبَ الدنيا إلى نفسه تَنَحَ عن خطبتهْا تَسْلَم إنً التيَ تَخْطُبُ غَزَارَةٌ قريبةُ العُرْس من المَأْتَم داود بن المُحَبَّر قال‏:‏ أخبرنا عبدُ الواحد بن الخطاب قالت‏:‏ أقبلنا قافلين من بلاد الروم حتى إذا كُنَّا بين الرُّصافة وحِمْص سمعنا صوتاً من تلك الجبال تَسمعه آذاننا ولا تُبصره أبصارنا يقول‏:‏ يا مَسْتُوريا مَحْفوظ انظر في سترْ مَن ‏"‏ وحِفْظ مَن ‏"‏ أنت إنما الدنيا شَوْك فانظر أين تَضَع قدمَيْك منها‏.‏
وقال أبو العتاهية‏:‏ رَضيت بذي الدنيا كَكُل مُكاثر مُلِحّ على الدنيا وكلِّ مُفاخِر أَلم تَرَهَا تَسْقِيه حتى إذا صَبا فَرَت حَلْقَه منها بِشَفْرة جازر ‏"‏ ولا تَعْدلُ الدنيا جَناح بَعُوضة لدى الله أو مقدارَ نَغْبْةِ طائر ‏"‏ فلم يَرْضَ بالدنيا ثواباً لمُؤْمن ولم يَرْضَ بالدنيا عِقاباً لكافر وقال أيضاً‏:‏ هي الدنيا إذا كَمُلتْ وتَمَّ سرُورُها خَذَلتْ وتَفعل في الذين بَقوا كما فيمن مَضى فَعلتَ وقال بعضُ الشعراء يصف الدنيا‏:‏ لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّلُ فساخِطُ أَمْر لا يًبَدَّلُ غيرَه ورَاضٍ بأمر غيرَه سيبدلُ وقال هارون الرشيد‏:‏ لو قيل للدنيا صِفي لنا نفسك وكانت ممّن يَنْطق ما وَصفت نفسها بأكثر من قول أبي نُواس‏:‏ إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكَشَّفت له عن عدوٍّ في ثِياب صديقِ وما الناسُ إلا هالكٌ وابن هالكٍ وذو نسَبٍ في الهالكين عَريق وقال آخر في صفة الدنيا‏:‏ فَرُحْنا وراح الشَامِتون عَشِيَّةً كأَنَّ عَلَى أكتافنا فِلَق الصًخْرِ لحا الله دُنيا يَدْخل النارَ أَهْلُها وتَهْتك ما بين الأقارب من سِتر ولأبي العتاهية‏:‏ كُلَّنَا يُكثر الملامةَ للدن يا وكل بِحُبِّها مَفْتُون والمقاديرُ لا تناوَلُها الأوْ هام لُطْفاَ ولا تراها العُيون ولركب الفَناء في كلِّ يومٍ حَرَكات كَأنَّهنَّ سُكون ومن قولنا في وصف الدنيا‏:‏ ألا إنما الدُّنيا نضارة أَيْكةٍ إذا اخضرَّ منها جانبٌ جَفَّ جانبُ هِيَ الدَّار ما الآمالُ إلا فَجَائع عليها ولا اللَذًاتُ إلا مصائب فلا تَكْتَحلْ عَيْناك فيها بِعَبْرَة على ذاهب منها فإنك ذاهب وقال أبو العتاهية‏:‏ أَصْبَحَتْ الدنيا لنا فتنةً والحمد للّه على ذلِكَا قد أَجْمَعَ الناسُ على ذَمِّهَا ولا أرى منهمْ لها تارِكا وِّقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ نُرَقع دُنْيانا بِتَمْزيقِ دِيننا فلا دينُنا يَبقى ولا ما نُرَقِّع وما سمعتُ في صفة الدُنيا والسبب الذي يُحبها الناسُ لأجله بأبلغ من قول القائل‏:‏ نراع بِذْكر المَوت في حين ذِكْره وتَعْترض الدنيا فَنَلْهُو ونَلْعَبُ ونحن بنُو الدُّنيا خُلِقْنا لغَيرها وما كنتَ منه فهو شيء مُحبب فذكر أن الناس بنو الدنيا وما كان الإنسان منه فهو محبّب إليه‏.‏
واعلم أنّ الإنسانَ لا يُحبّ شيئاً إلاّ أن يُجانَسه في بعض طبائعه وأنّ الدنيا جانَسَت الإنسان في طبائعه كلها فأحبَّها بكل أطرافه‏.‏
وقال بعض ولد ابن شُبْرمة‏:‏ كنتُ مع أبي جالساً قبل أن يلي القضاء فمر به طارقُ بن أبي زياد في مَوْكب نبيل فلما رآه أبي تَنفَس الصُّعَدَاء وقال‏:‏ ثم قال‏:‏ اللّهم لي دِيني ولهم دُنياهم‏.‏
فلما ابتلى بالقْضاء قلتُ‏:‏ يا أبتِ أتذكر يومَ طارق فقال‏:‏ يا بُنِى إنهم يَجدون خَلَفاً من أبيك وإنّ أباك لا يَجد خَلَفاً منهم إنّ أباك خَطَب في أهوائهم وأكل من حَلْوائهم‏.‏
وقال الشَّعبي‏:‏ ما رأيتُ مَثَلَنا ومثِلَ الدنيا إلا كما قالت كُثَيِّر عَزَّة‏:‏ أسِيئي بنا أَوْ أَحْسني لاَ مَلومةَ لَدَينا ولا مَقْلِيةً إن تَقَلَّتِ وأحكُم بيتٍ قيل في تَمْثِيل الدنيا قولُ الشاعر‏:‏ ومَن يأمَن الدنيا يكن مثلَ قابض على الماء خانَتْه فُروجُ الأصابع وحَدّث العبّاس بن الفَرج الرِّيَاشي قال‏:‏ رأيت الأصمعيّ يُنْشد هذا البيتَ ويستحسنه في صفة الدنيا‏:‏ ما عذر مُرْضِعَةٍ بكا س الموت تَفْطِم مَنْ غَذَتْ ولقَطَهريّ بن الفُجاءة في وَصف الدُّنيا خُطْبَةٌ مجرَّدة تَقَع في جملة الخُطَب في كتاب الواسطة‏.‏
قولهم في الخوف سُئل ابن عباس عن الخائفين للّه فقال‏:‏ هم الذي صَدَقُوا الله في مَخَافَة وعيده فقلوبهم بالخَوْف قَرِيحة وأعينُهم على أنفسهم باكِية ودُموعهم على خدودهم جارية يقولون‏:‏ كيف نَفْرح والموتُ من ورائنا والقُبورُ من أمامنا والقيامة مَوْعدنا وعلى جهنَّم طريقُنا وبين يدي ربنا مَوْقفنا‏.‏
وقال عليّ كَرم الله وجهَه‏:‏ ألا إنّ للّه عباداً مُخْلصين كمَن رأى أهلَ الجنَّة في الجنَّة فاكهين وأَهْل النار في النار مُعذَّبين شرُورُهم مأمونة وقُلوبهم مَحزونة وأنفسُهم عفيفة وحوائجهم خَفيفة صَبَرُوا أيًاماَ قليلة لِعُقْبى راحة طويلة أمّا بالليل فَصَفُوا أقدامَهم في صَلاتهم تَجْري دُموعُهم على خُدُودهم يَجْأَرون إلى ربِّهم‏:‏ ربَّنا ربنا يَطلبون فَكاك قُلوبهم‏:‏ وأمَّا بالنهار فُعلماء حُلماء بَررة أَتْقياء كأنهم القِداح - القِداح‏:‏ السهام يريد في ضُمرتها - يَنْظر إليهم الناظرُ فيقول‏:‏ مَرْضىَ وما بالقوم من مَرض ويقول‏:‏ خُولطوا ولقد خالط القومَ أمرٌ عظيم‏.‏
وقال منصور بن عَمَّار في مجلس الزهد‏:‏ إن للهّ عباداً جعلوا ما كُتب عليهم من الموتِ مثالاً بين أعينهم وقطعوا الأَسباب المُتَّصلة بقلُوبهم من عَلائق الدنيا فهم أنضاءُ عبادته حُلفاء طاعته قد نَضَحوا خُدودهم بوابل دُموعهم وافترشوا جِبِاهَهم في مَحاريبهم يناجون ذا الكِبْرياء والعَظمة ودَخل قوم على عُمر بن عبد العزيز يَعودونه في مَرضه وفيهم شابٌّ ذابل ناحِل‏.‏
فقال له عُمر‏:‏ يا فتى ما بَلغ بك ما أَرى قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أمراضُ وأسقام‏.‏
قال له عمر‏:‏ لَتَصْدُقَنِّي‏.‏
قال‏:‏ بلى يا أمير المؤمنين ذُقت يوماً حلاوةَ الدنيا فوجدتُها مُرَّةً عواقُبها فاستوى عندي حَجَرُها وذَهَبُها وكأَنِّي أنظر إلى عَرْش ربِّنا بارزاً وإلى الناس يُسَاقون إلى الجنة والنار فأظمأْتُ نَهاري وأسْهَرْتُ ليلي وقليلٌ كلُّ ما أنا فيه في جنْب ثواب الله وخوف عقابه‏.‏
وقال ابن أبي اَلحَواريّ‏:‏ قلت لسُفيان‏:‏ بلغني في قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ إلاَ مَنْ أتىَ الله بِقَلْب سَلِيم ‏"‏ الذي يَلْقى ربَّه وليس فيه أَحَدٌ غَيْره‏.‏
فبكى وقال‏:‏ ما سمعتُ منذ ثلاثين سنةً أحسَنَ من هذا التفسير‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ إنّ خوفك حتى تلقى الأمنَ خيرٌ من أمنك حتى تَلقى الخوف‏.‏
وقال‏:‏ ينبغي أن يكوِن الخوفُ أغلبَ على الرجاء فإنّ الرجاء إذا غَلَب الخوفَ فَسَد القلبُ‏.‏
وقال‏:‏ عجباَ لمَن خافَ العِقَابَ ولم يَكُف ولمَن رَجا الثوابَ ولم يَعْمل‏.‏
وقال علي بن أبي طالب كرَّمَ الله وجَهه لرجل‏:‏ ما تَصْنع فقال‏:‏ أرجو وأخاف قال‏:‏ مَن رجا شيئاً طلبه ومَن خاف شيئاً هرب منه‏.‏
وقال الفضَيْل بن عياض‏:‏ إني لأسْتَحِي من الله أن أقول‏:‏ تَوَكلت على اللّه ولو توكلت عليه حقَّ التوكل ما خِفْتُ ولا رَجَوْتُ غيره‏.‏
وقال‏:‏ مَن خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومَن لم يَخف الله أخافَه الله من كل شيء‏.‏
وقال‏:‏ وعْد وقال عمر بن ذَرّ‏:‏ عبادَ اللّه لا تَغترُّوا بطول حِلْم الله واحذروا أَسَفَه فإنه قال عزِّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ فلمَّا آسُفونا آنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فأغْرَقْناهم أَجْمَعين‏.‏
فجعلناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخِرين ‏"‏‏.‏
وقال محمد بن سَلاّم‏:‏ سمعت يونس بن حَبيب يقول‏:‏ لا تأمن مَن قَطع في خمسة دراهم أشرَفَ عُضو فيك أن تكون عُقُوبته في الآخرة أضعافَ ذلك‏.‏
وقال الربيعُ بن خُثَيم‏:‏ لو أَنَّ لي نَفْسَين إذا غَلِقَتْ إحداهما سَعَت الأخرى في فَكاكِها ولكنها نفس واحدة فإن أنا أوثقتُها مَنْ يَفْكّها وفي الحديث‏:‏ مَن كانت الدنيا هَمَّه طال في الآخرة غَمُّه ومَن أُخْلِف الوعيدَ لها عما يُريد ومَن خاف ما بين يَدَيه ضاق ذَرْعاً بما في يديه‏.‏
وقال محموِد الورٍّاق‏:‏ يا غافلاَ تَرْنو بِعَيْنَي راقد ومُشَاهِداً للأمر غيرَ مُشَاهِدِ تَصِلُ الذُّنوب إلى الذُّنوب وَتَرْتَجيِ عَرَكَ الجنَان بها وفَوْزَ العَابِد ونسيتَ أَنّ الله أَخْرَجَ آدمَاَ منها إلى الدُنيا بِذَنبِ واحد وقال نابغة بني شَيْبَان‏:‏ إنّ مَنْ يَرْكَبُ الفواحشَ سِرَّاً حين يَخلو بسرِّه غيرُ خالي كيف يَخْلو وعنده كاتبَاه شاهدَاه وربُّه ذو الجَلال قال العلماء‏:‏ لا تشهد على أحد من أهل القِبْلة بجنة ولا بنار يُرْجَى للمُحْسن ويُخاف عليه ويخاف عليه المُسيء ويُرْجَى له‏.‏
وفي الحديث المرفوع‏:‏ إنّ الله يَغْفر ولا يُعيِّر والناسُ يعيَرون ولا يَغْفرون‏.‏
وفي حديث آخر‏:‏ لا تُكَفِّروا أهلِ الذنوب‏.‏
وتُوفِّي رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مُسرفاً على نفسه فرَفع برأسه وهو يجود بِنَفْسِه فإذَا أبواه يَبْكِيَان عند رأسه فقال‏:‏ ما يًبْكِيكما قالا‏:‏ نَبْكي لإسرافك على نفسك قال‏:‏ لا تَبْكيا فواللّه ما يَسُرُّني أن الذي بيد الله منٍ أمريٍ بأيديكما ثم مات‏.‏
فأتى جبريلُ عليه الصلاة والسلام النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن فتى تُوُفَي اليومَ فأَشهَده بأنه من أهل الجنة‏.‏
فسأل رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أبويه عن عَمله فقالا‏:‏ ما عَلِمنا عنده شيئاً من خَيْر إلا أنه قال لنا عند الموت كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مِنِ ها هنا أُوتي إنّ حُسن الظنّ باللّه من أفضل العَمل عنده‏.‏
وتُوفِّي رجل بجوِار ابن ذرّ وكان مُسرفاً على نفسه فتحامَى الناسُ من جنازته وبلغ ذلك عُمَرَ بن ذرّ فأوصى أهلَه‏:‏ إذا جهَزتموه فآذِنُوني ففعلوا فَشَهِدَه والناسُ معه فلما أُدْلِيَ وَقَف على قبره فقال‏:‏ رَحمك الله أبا فُلان فلقد صَحِبْتَ عُمْرَك بالتَّوحيد وعَفَّرْت وَجهك للهّ بالسجود فإنْ قالوا مُذْنِب وذو خَطايا فمن مِنَّا غيرُ مُذْنب و ‏"‏ غير ‏"‏ ذي خطايا هُو الموتُ لا مَنْجَى من الموت والذي نُحاذِر بعد الموت أَنْكَى وأَفْظَعُ ثمّ قال‏:‏ اللّهمّ فأقِل العَثرة واعفُ عن الزّلّة وعُدْ بِحلمِك على جهل من لم يَرْجُ غيرَك ولم يَثِق إلا بك فإنك واسع المَغفِرة‏.‏
يا رب أين لذي الخطأ مَهْرب إلا إليك‏.‏
قال داود بن أبي هِنْد‏:‏ فبلغنيِ أنّ سعيد بن المُسَيِّب قال حين بلغه ذلك‏:‏ لقد رغب إلى مَن لا مَرغب إلا إليه كَرْهاَ وإني أرجو من الله له الرحمة ‏"‏‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يقول في دُعائه واْبتهاله‏:‏ إلهي ما توهمتُ سَعة رحمتك إلا وكانت نَغْمة عَفْوك تَقْرَع مسامعي‏:‏ أن قد غَفَرتُ لك‏.‏
فصَدِّق ظني بك وحَقِّق رجائي فيك يا إلهي‏.‏
ومن أحسن ما قيل في الرجاء هذا البيتُ‏:‏ وإنّي لأرجو الله حتى كأنَّني أرَى بِجَميل الظنّ ما اللَهُ صانِعُ قولهم في التوبة مرَّ المسيح ‏"‏ بن مَريْم ‏"‏ عليه السلام بقَوْم من بني إسرائيل يَبكون فقال لهم‏:‏ ما يُبكيكم قالوا‏:‏ نَبْكيِ لذنوبنا قال‏:‏ اترُكوها تُغْفَر لكم‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه‏:‏ عجباَ لمَن يَهْلك ومعه النجاةُ‏!‏ قيل له‏:‏ وما هي قال‏:‏ التوبة والاستغفار‏.‏
وقالوا‏:‏ كان شابّ من بني إسرائيل قد عَبد الله عشرين حِجَّة ثم عصاه عشرين حجة فبينما هو في بَيْته يتراءَى في مرآته نَظَرَ إلى الشَّيْب في لِحْيته فساءَهُ ذلك فقال‏:‏ إِلهي أطعتُك عشرين سنةً وعَصيتك عشرين سنة فإن رجعتُ إليك تَقْبَلني فسَمع صوتاً من زاوية البيت ولم ير شَخْصأ‏:‏ أحْبَبْتنا فأحْبَبْناك وتَرَكْتنَا فتركناك وعَصَيتنا فأمْهَلْنَاك وإن رَجَعت إِلينا قَبلناك‏.‏
عبد الله بن العَلاء قال‏:‏ خرَجنا حُجّاجاً من المدينة‏.‏
فلمّا كُنّا بالحُلَيفة نَزَلنا فَوَقف علينا رجلٌ عليه أثوابٌ رثّة له منظر وهَيئة فقال‏:‏ مَنْ يَبغي خادماً مَن يَبْغي ساقياً مَن يملأ قِرْبة أو إدَاوَة فَقُلنا‏:‏ دونك هذه القِرَبُ فآملأها‏.‏
فأخذها وانطلق فلم يلبث إلا يسيراً حتى أقبل وقد امتلأت أثوابُه طيناً فَوَضعها وهو كالمسرور الضاحك ثم قال‏:‏ لكم غيرُ هذا قلنا‏:‏ لا وأَطْعَمْناه قارِصاً حازِراً فأخَذه وحَمِد اللهّ وشَكَرَه ثم اعتزل وقعد يأكل أكلَ جائع فأَدْرَكتْني عليه الرّقة فقمتُ إليه بطَعام طيِّب كثير وقلتُ‏:‏ قد علمتُ أنه لم يَقَعْ منك القارص موقعاً فدُونك هذا الطعامَ فكُلْه‏.‏
فَنَظر في وَجْهِي وتَبَسَّم وقال‏:‏ يا عبد الله إنّما هي فَوْرَةُ هذه النار قد أطفأتُها وضرَب بيده على بطنه‏.‏
فرجعتُ وقد انكسف بالي لما رأيتُ من هيبته‏.‏
فقال لي رجلٌ كان إلى جانبي‏:‏ أتعرفه قلت‏:‏ ما أعرفه قال‏:‏ هذا رجل من بني هاشم من وَلد العبّاس بن عبد المُطّلب كان يَسْكُنً البَصرةَ فتَاب وخَرَجَ منها فَفُقِدَ وما يُعرف له أثر‏.‏
فأَعْجبني قولُه ثم لحقتُ به وناشدتُه اللهّ وقلتُ له‏:‏ هل لك أن تعادلني فإن معي فَضْلاً من راحلتي وأنا رجل من بعض أَخْوَالك فجزاني خيراً وقال‏:‏ لو أردتُ شيئاً من هذا لكان لي مُعدّاً ثمّ أَنِسَ إليّ وَجَعَل يُحدّثني وقال‏:‏ أنا رجلٌ من ولد العبّاس كنت أَسكُنُ البَصرة وكنت ذا كِبْر شدِيد وجَبَرُوت وبَذَخ وإني أمرْتُ خادماً أن تَحْشُو لي فِراشاً ومِخَدةً من حرير بوَرْدٍ نَثير ففعلَتْ فإني لنائم إذ أَيْقَظتني قِمَع وَرْدة أغفلَته الخادمُ فقمتُ إليها فأوْجعتها ضَرْباً‏.‏
ثم عُدْت إلى مَضْجعي بعد أن خَرج ذلك القِمَع من المِخَدِّة فأتاني آتٍ في منامي في صُورة فَظِيعةٍ فنَهَرَني وَزَبَرَني وقال‏:‏ أَفِقْ من غَشْيَتِك وأَبْصر من حَيْرَتك ثم أنشأ يقول‏:‏ يا خَدُ إنّك إنْ تُوَسَّدْ لَينَاَ وسَدْتَ بعد المَوتِ صُمَّ الْجَنْدَلِ فامْهَدْ لِنَفسِكَ صَالحاً تَنْجُو به فَلَتَنْدَمَنَ غداً إذا لم تَفْعَل فانتبهتُ فَزِعاً وخرجتُ من ساعتي هارباً بِدِيني إلى ربَي‏.‏
وقالوا‏:‏ علامةُ التوبة الخروج من الجهل والندمُ على الذنب والتجافي عن الشَهْوَة وتَرْك الكذب والانتهاء عن خُلق السَّوء‏.‏
وقالوا‏:‏ التائب من الذنب كمن لا ذنبَ له وأولُ التوبة الندم‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ يا ويلَنا من مَوْقِفٍ ما به أخوفُ من أَنْ يَعدِلَ الحاكمُ يارَبّ غُفْرَانك عن مُذْنِب أَسرَف إلا أنّه نادم وقال بعض أهل التفسير‏:‏ في قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ يا أَيًّها الذين آمنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً ‏"‏‏:‏ إنّ التوبةَ النَّصوح أن يتوب العبدُ عن الذنب ولا يَنْوي أن يعود إليه‏.‏
وقال ابن عبّاس في قول الله عزَّ وجلّ ‏"‏ إنّما التَّوْبةُ علىِ اللًهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثم يَتُوبُون من قِريب ‏"‏‏:‏ إنّ الرجل لا يَرْكَبُ ذَنْباَ ولا يأتي فاحشةً إلا وهو جاهل‏.‏
وقوله‏:‏ ‏"‏ ثمّ يَتُوبون من قِريب ‏"‏ قال‏:‏ كلُّ ما كان دون المُعاينة فهو قريب والمُعاينة أن يؤخَذ بِكَظْم الإنسان فذلك قوله‏:‏ ‏"‏ إذا حَضَرَ أحدَهم المَوْتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن ‏"‏‏.‏
قال أهل التفسير‏:‏ هو إذا أُخِذ بكَظْمة‏.‏
وقال ابن شُبْرُمة‏:‏ إنِّي لأعجب ممن يَحْتَمى مخافةَ الضرر ولا يدعُ الذنوبَ مخافة النار‏.‏




المبادرة بالعمل الصالح
قال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وَسَارِعُوا إلى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم وجَنة ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والسَّابِقُونَ السَّابِقونَ أُولئك المُقرًبًون ‏"‏‏.‏
وقال الحسن‏:‏ بادروا بالعمل الصالح قبل حُلول الأجل فإنّ لكم ما أَمضيتم لا ما أَبْقَيتم‏.‏
وقالوا‏:‏ ثلاثة لا أناة فيهن‏:‏ المُبادرة بالعمل الصالح ودفْن الميّت وإنكاح الكُفء‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابن آدم اْغتنم خمَساً قبل خَمْس‏:‏ شبابك قبل هَرَمك وصِحَّتك قبل سَقَمك وفَراغك قبل شُغلك وحياتَك قبل مَوْتِك وغِناك قبل فَقْرِك‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ‏"‏ ابن آدم ‏"‏ صُمْ قبل أن لا تَقْدر على يومٍ تَصُومه كأنك إذا ظَمِئْت لمَ تَكُن رَوِيت وكأنك إذا رَوِيتْ لم تكن ظَمِئت‏.‏
وكان يزيد الرَّقاشيّ يقول‏:‏ يا يزيدُ مَن يَصُوم عنك أو يُصَلِّي لك أو يَتَرَضىَّ لك ربك إذا مِتّ وكان خالدُ بن مَعْدان يقول‏:‏ إذا أنتَ لم تَزْرَع وأَبصرْتَ حاصداً نَدِمْتَ عَلَى التَّفْريط في زَمن البَذْرِ وقال ابن المُبارك‏:‏ رَكِبْتُ مع محمد بن النَّضْر في سفينة فقلتُ‏:‏ بأي شيء أَسْتَخْرِج منه الكلامَ فقلتُ له‏:‏ ما تقول في الصَّوم في السفر فقال‏:‏ إنما هي المبادرة يا بن أخي‏.‏
فجاءني والله بفُتْيا غير فُتْيا إبراهيم والشعبي‏.‏
ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ بادرْ إلى التَّوْبِة الخَلْصَاء مُجْتهداً والموتُ وَيْحك لم يَمْدًد إليك يَدَا وأرقبْ من الله وَعْداً لَيْسَ يُخْلِفُه لا بُدَّ لله من إنجاز ما وَعَدَا وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه‏:‏ فيم أنتم قالوا‏:‏ نَرْجُو ونَخاف قال‏:‏ مَن رجا شيئاً طَلَبَه ومن خافَ شيئاً هَرَب منه‏.‏
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلم تَسْلُك مَسَالكها إنّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى اليَبس وقال آخر‏:‏ اعمل وأنتَ من الدُنيا على حَذَر وآعلم بأنكَ بعد المَوْت مَبْعُوثُ واعلم بأنك ما قَدَمْت من عَمَل يُحْصىَ عَليك وما خَلَّفْتَ مَوْرُوث وقَدَّمَت عائشةُ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم صَحْفَة فيها خُبز شَعِير وقطعة من كَرش وقالت‏:‏ يا رسولَ الله ذَبَحْنا اليوم شاةً فما أَمسكنا منها غيرَ هذا فقال‏:‏ بل كلًّها أمسكتم غير هذا‏.‏
العجز عن العمل قال رجلٌ لمُؤرِّق العِجْلي‏:‏ أشكُو إليك نفسي إنها لا تُريد الصلاة ولا تَسْتَطيع الصبرَ على الصّيام قال‏:‏ بئس الثناء أثنيت به على نفسك فإذا ضعًفَت عن الخير فاضْعُف عن الشرّ فإنّ الشاعر قال‏:‏ احْزَنْ عَلى أَنكَ لا تَحْزَنُ ولا تُسئ إن كُنْتَ لا تُحْسِنُ واضعُفْ عن الشر كما تدَعى ضَعْفاً عن الخير وقد يُمْكِنُ وقال بكرُ بن عبد الله‏:‏ اجتهدوا في العملِ فإن قَصرًّ بكمِ ضْعْفٌ فأمسكوا عن المعاصي‏.‏
وقال الحسنُ رحمه الله‏:‏ من كان قوياً فَلْيعتمد على قُوته في طاعة الله ومَن كان ضعيفاً فلْيَكُفّ عن معاصي الله‏.‏
وقال عليُ ‏"‏ بن أبي طالب عليه السلام ‏"‏‏:‏ لا تَكُنْ كمن يَعْجِزُ عن شُكر ما أُوِتي ويَبْتَغي الزيادة فيما بَقى وينْهَى الناسَ ولا ينتهي‏.‏
وكان الحسنُ إذا وَعظ يقول‏:‏ يا لها موعظةً لو صادفت من القلوب حياةً أَسْمَع حَسِيساً ولا أَرَى أنيساً ما لهم تَفاقدوا عقولَهم فَرَاش نار وذُباب طَمَع‏.‏
وكان ابن السمّاك إذا فَرَغ من مَوْعظته يقول‏:‏ أَلْسِنَة تَصِف وقلوب تَعْرف وأعمال تخالِف‏.‏
وقال‏:‏ الحسنة نورٌ في القَلْب وقُوَّة وقال بعض الحُكماءِ‏:‏ يا أيُّها المشيَخَة الذين لم يَتْرًكوا الذنوب حتى تَرَكتْهُم الذُّنوب ثمّ ظَنُّوا أنّ تَرْكها لهم توبة وليتهم إذ ذهبتْ عنهم لم يَتَمَنَوا عَوْدَها إليهم‏.‏
وكان مالكُ بن دينار يقول‏:‏ ما أشدَّ فِطَامَ الكبير ويُنشد‏:‏ وتَرُوض عِرْسَك بعدما هَرِمَت ومن العَناء رياضة الهَرِم ومن حديث محمد بن وَضّاح قال‏:‏ إذا بلغَ الرجلُ أربعين سنة ولم يَتُب مَسح إبليسُ بيده على وجهه وقال‏:‏ بِأَبي وَجْهٌ لا أفْلَح أبداً‏.‏
قال الشاعر‏:‏ فإذا رأى إبليسُ غُرَّةَ وَجْهِه حَيا وقال فَديتُ من لا يُفْلِحُ وقال رجل للحسن‏:‏ أبا سعيد أردتُ أن أُصَلِّي فلم أستطع قال‏:‏ قَيَّدَتْكَ ذنوبك‏.‏
قولهم في الموت قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه‏:‏ ما عندك من ذِكر الموت أبا حَفْص قال‏:‏ أُمْسي فما أرى أنّي أُصْبح وأُصبحِ فما أَرَى أني أُمْسي قال‏:‏ الأمر أَوْشك من ذلك أبا حَفْص أما إنّه يَخرُج عنّي نفسي فما أَرَى أنه يعود إليّ‏.‏
وقال عبد بن شَدَّاد‏:‏ أرى داعي الموت لا يُقْلِع و ‏"‏ أرى ‏"‏ مَن مَضى لا يَرْجع ومن بَقي فإليه يَنْزع‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ابن آدم إنما أنت عَدَد فإذَا مضى يومُك فقد مَضى بعضُك‏.‏
وقال أبو العتاهية‏:‏ الناس في غَفَلاتهمِ ورَحى المَنية تَطْحَنُ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ مَن أكثر من ذِكر الموت اكتفي باليسير ومَنْ عَلِم أَنّ الكلام عمل قلِّ كلامُه إلاّ فيما يَنفع‏.‏
وكان أبو الدَّرداء إذا رأى جِنَازة قال‏:‏ اغدي فإنا رائحون أو روحي فإنا غادون‏.‏
وقال رجل للحسن‏:‏ مات فلانٌ فجأة فقال‏:‏ لو لم يَمُتْ فجأةً لَمَرِض فجأة ثم مات‏.‏
وقال يعقوب صلواتُ الله عليه للبَشِير الذي أتاه بقمِيص يوسف‏:‏ ما أَدْرِي ما أُثيبك به ولكن هوَن الله عليك سكراتِ الموت‏.‏
وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ لقد جَلستُ إلى جَرِير وهو يُملي على كاتبه‏:‏ وَدِّعْ أُمَامَةَ حَان منك رَحِيلُ ثم طلعت جِنَازَةٌ فَأمْسك وقال‏:‏ شَيَّبَتْني هذه الجنائز قلت‏:‏ فَلِم تَسُبّ الناسَ قال‏:‏ يَبْدَءوني ثم لا أعفو وأَعْتدي ولا أَبْتَدي‏.‏
ثم أنشد يقول‏:‏ تُرَوِّعنا الجنائزُ مُقْبِلات فَنَلْهُو حين تذْهبُ مُدْبراتِ كَرَوْعَة هَجْمَةٍ لمُغار سَبْعِ فلما غابَ عادتْ راتعات وقالوا‏:‏ مَن جعل الموتَ بين عَيْنيه لَهَا عما في يَدَيه‏.‏
وقالوا‏:‏ اتخذ نوحٌ بيتاً من خُصّ فقيل له‏:‏ لو بَنيتَ ما هو أحسن من هذا قال‏:‏ هذا كثيرٌ لمَن يموت‏.‏
وأحكم بيتٍ قالْته العربُ في وَصْف الموت بيتُ أُمية بن أبي الصَّلت حيث يقول‏:‏ يُوشِك مَنْ فَر مِنْ مِنيَّته في بَعْض غِراته يُوَافِقُهَا مَنْ لم يمُتْ غَبْطَةً يَمُت هَرَماً للموت كأسٌ والمرء ذائقها وقال إصْبَغ بن الفَرَج‏:‏ كان بنَجْران عابد يَصِيح في كلِّ يوم صَيحتين بهذه الأبيات‏:‏ قَطَعَ البقاء مَطالعُ الشمسِ وغُدوًّها من حيث لا تُمْسي وطلوعُها حمراءَ قانيةَ وغُرِوبُها صفراءَ كالوَرْس اليومُ يُخبر ما يجيء به ومَضى بفَضْل قَضَائه أمس قال آخر‏:‏ زينت بيتك جاهلاً وعَمَرْتَه ولعلّ غيرَك صاحبُ البيتِ مَنْ كانت الأيامُ سائرةً به فكأنه قد حلّ بالموت والمرءُ مُرْتهنٍ بسوْفَ ولَيْتني وهلاكُه في السَّوف واللَّيْت للهّ دَرُّ فتى تَدَبّرَ أمرَه فَغَدَا وراح مُبَادِرَ الفَوْتِ كم رأينا من أناس هَلَكوا قد بَكَوْا أحْبَابَهُم ثم بُكًوا تَرَكُوا الدًّنيا لمَن بعدهُم وُدًّهم لو قَدّمُوا ما تَركوا كم رأينا من مُلوكٍ سُوقة ورأينا سُوقةً قد مَلَكوا وقال الصَّلَتان العَبْدِيّ‏:‏ أَشابَ الصغِيرَ وأَفْنى الكبي رَ كرُّ الغَداة ومَرُّ العَشي إِذا ليلة أَهْرَمت يومَها أتى بعدَ ذلك يومِ فَتِي نرُوح ونَغدو لحاجاتِنا وحاجةً مَن عاشِ لا تنقضي تَموت مع المرء حاجاتُه وتَبْقَى له حاجةَ ما بقي وكان سُفيان بن عُيينة يَسْتحسن قولَ عَدِيّ بن زَيْد‏:‏ أينَ أهلُ الدِّيارِ مِنْ قَوْم نُوح ثم عادٌ من بعدها وثَمود بينما هُمْ على الأسرة والآن ماطِ أَفضت إلى التُّراب الخُدود وصحيحٌ أَمْسى يعُودُ مريضاً وهو أَدنى للموت ممَّن يَعود ثم لم ينقض الحديثُ ولكنْ بعد ذا كلِّه وذاك الوَعِيد كأن قد صِرْتُ مُنْفَرِداً وحيداً ومُرْتَهناً هناك بما لَديّا كأنّ الباكياتِ عليّ يوماً ولا يُغنى البًكاء عليّ شَيَّا ذكرت مَنِيَّتِي فنعمتُ نفسي ألا أَسْعِدْ أُخَيك يا أُخَيّا وقال‏:‏ سَتَخلق جِدًةٌ وَتَجُود حالُ وعِنْد الحق تختبر الرجالُ وللدُنيا ودائعُ في قُلوب بها جَرَت القَطِيعة والوِصَال تَخَوَّفُ ما لَعَلَّكَ لا تَراًه وترْجُو ما لعلك لا تنال وقد طلع الهِلالُ لهَدْم عُمْري وأَفْرَحُ كًلَّما طَلع الهِلال وله أيضاً‏:‏ مَنْ يَعِيشْ يَكْبُرْ ومَنْ يَكْبُر يَمُتْ والمَنَايا لا تُبالي من أتَتْ نحن في دار بَلاءٍ وأذىً وشَقَاءٍ وعَناءٍ وعَنَت مَنزلٌ ما يَثْبُتُ المرءُ به سالماً إلا قليلاً إن ثَبَت أيها المَغْرور ما هذا الصِّبا لو نَهَيْتَ النفسَ عنه لانْتهت مَنْ لي إذا جُدْت بين الأهل والوَلَد وكان منِّيَ نحو المَوت قَيْد يَدِ والدَّمْعُ يَهْمُلُ والأنفاسُ صاعِدةٌ فالدًمْعُ في صَبَب والنفس في صُعُد ذاكَ القضاءُ الذي لا شيءَ يَصرِفه حتى يُفرِّقَ بينً الرُّوح والجَسَد ومن قولنا فيه‏:‏ أتْلهو بين باطِيَةٍ وزيرِ وأَنت من الهلاك على شَفِير فيا مَن غَرّهُ أملٌ طَوِيلٌ يُؤَدِّيه إلى أجل قَصِير أتَفْرَحُ والمَنِيِّة كلَ يوم تريك مكان قبرك في القبور هي الدّنيا فإنْ سَرتكَ يوماً فإنَّ الحُزْنَ عاقبةً السُرُور سَتسْلَبُ كلَّ ما جَمعْت منها كَعَارِيةٍ ترَدُّ إلى المُعِير وتَعْتَاضُ اليَقيِن من التَّظَنِّي وَدَارَ الحق من دار الغًرور ولأبي العتاهية‏:‏ وَليس مِن مَنزلٍ يَأْوِيه ذو نَفَس إلا وَللمَوْتِ سَيْفٌ فيه مَسْلُولُ وله أيضاً‏:‏ وله أيضاً‏:‏ أُؤمِّل أَنْ أخَلَّدَ والمَنايَا يَثِبْنَ عَليّ من كلِّ النًوَاحِي وما أدْرِي إِذا أمسيت حَيّاً لعَلِّي لا أعِيشُ إلى الصَّبَاح وقال الغَزّال‏:‏ أصبَحْتُ واللّه مَجْهُوداً على أمَلٍ مِنَ الحيَاة قَصِير غير مُمْتَدِّ وما أفارقً يوماً مَنْ أُفَارِقُه إِلا حَسِبْتُ فِرَاقي آخرَ اَلعَهْد انظرُ إليّ إذا أدرِجْتُ في كَفَنِي وانْظُرِ إليّ إذَا أدْرِجْت في اللِّحْد وأقعدْ قليلاً وعاينْ مَنْ يُقِيم معي ممن يُشيَعُ نَعْشي من ذَوِي وُدِّي هَيهات كلُّهُمُ في شَأْنِهِ لَعِبٌ يَرْمي الترابَ ويَحْثُوهُ على خَدِّي وقال أبو العتاهية‏:‏ نَعى لك ظلَّ الشًبَاب المَشِيبُ ونادتْكَ باسمٍ سِوَاكَ الخُطُوبُ فكُن مستَعِدّاَ لرَيْب المَنُون فإنَّ الذي هو آتٍ قريب وقَبْلَك داوى الطبيب المَرِيض فعاش المَرِيضُ ومات الطَّبِيب أخَيَّ ادخرْ مهما أستطع تَ ليَوم بَؤْسِكَ وافتقارِكْ فَلْتَنزلنّ بمَنْزِلٍ تَحْتاجُ فيه إلى ادّخارِك وقال أبو الأسود الدُّؤليّ‏:‏ أيُّها الأملُ ما ليسَ لَه ربما غَر ّسفيهاً أَمَلهْ رُبَّ من بات يُمَنَي نفسَه حالَ مِن دون مُنَاه أَجَلُه والفَتَى المُحتَال فيما نابَه ربما ضَاقَتْ عليه حِيَلُه قُلْ لمن مَثَّلَ في أشعَاره يَهْلِكُ المرء ويَبْقَى مَثَلُه نافِس المُحْسنَ في إحْسانهِ فَسَيَكْفيِك سَناء عَمَله وقال عدِيّ بن زيد العِبَاديّ‏:‏ أين كِسْرَى كِسرَى المُلوك أنوشر وَانَ أَمْ أيْن قبْلَه سابُورُ وبَنُو الأصفَر الكِرَام مُلُوك الرُّ وم لٍم يَبْق منهمُ مَذْكوُر وأخُو الحَصْرَ إذ بَناه وإذ دِجْ لةُ تجْبَي إليه والخَابُور شادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَه كلس ساً فللطيْر في ذَرَآه وُكُورُ سَرًهُ مالُهُ وكثْرةُ ما يم لكُ والبحرُ مُعْرضاً والسَّدِير فارْعوَي قلبُه وقال فما غِب طة حَيٍّ إلى المَمَات يَصِير ثم بعد الفَلاح والمُلك والنِّع مة وارتهُمُ هُنَاكَ القًبُور ثم صارُوا كأنهُم وَرَقٌ جَفَّ فأَلوَت به الصَّبَا والدَّبور وقال حُرَيث بن جَبلة العُذْري‏:‏ يا قلبُ إنّكَ في الأحْيَاء مَغرُورُ فاذكُر وهَل يَنْفَعَنَكَ اليومَ تَذْكِير حتى متَىِ أنتَ فيها مُدْنَفٌ وَلهٌ لا يَسْتفِزًنْكَ منها البُدَن الحُور قد بُحت بالجَهْل لا تُخْفيهِ عن أحَدٍ حتى جرَتْ بك أَطلاقاً محاضير ترِيد أمراً فما تَدْري أعاجِلُه خيرٌ لِنَفْسِك أم ما فيه تأخِير فاستَقْدِرْ الله خَيْراً وارضين به فبينما العُسْرُ إذ دارتْ مَيَاسير وبينما المرءُ في الأحْيَاء مُغْتَبطٌ إذ صار في الرمس تَعْفُوهُ الأعاصِير حتى كأنْ لم يَكُنْ إلاّ توهّمه والدَّهر في كل حالَيْه دَهَارِير قولهم في الطاعون قال أبو عُبيدة بن الجرّاح لعمر بن الخطّاب رضوانُ الله عليه لمّا بلغه أنَّ الطاعونَ وَقَع في الشام فانصرف بالناس‏:‏ أفرَاراً من قَدَرِ الله يا أميرَ المؤمنين قال عمر‏:‏ لو غيرك قالها يا أبا عُبيدة نعم نَفِرُّ من قدرِ الله إلى قدَر اللّه أرأَيت لو أنَّ لك إبلاً هَبَطْتَ بها وادياً له جِهتان إحداهما خَصِيبة والأخرى جَدِيبة أليسَ لو رعيتَ الخصيبة رعيتَها بقَدَر اللّه ولو رعيتَ الجديبة رعيتَها بقدَر اللّه وكان عبدُ الرحمن بن عَوْف غائباً فأَقبل فقال‏:‏ عِنْدي في هذا عِلْمٌ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا سمعتم به في أرض فلا تَقْدَموا عليها وإذا وَقع في أرض وأَنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرَاراً منه‏.‏
فَحَمِد الله عُمر ثم انصرَف بالناس‏.‏
وقيل للوليد بن عبد الملك حين فرَّ من الطاعون‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ قل لَنْ يَنْفَعَكم الفِرَارُ إن فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أَو القَتْل وإذَا لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قليلا ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ ذلك القليلَ نَطْلُب‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ وَقع الطاعونُ بالكُوفة فخرج صدِيق لِشُرَيح إلى النَّجَف فكتب إليه شُرَيح‏:‏ أما بعد فإنَ المَوْضع الذي هرَبْتَ منه لم يَسُق إلى أجلك تَمامَه ولم يَسْلُبْه أيّامَه وإنّ الموضع الذي صرت إليه لَبِعين مَنْ لا يُعجزه طَلَب ولا يَفُوتُه هرَب وأنا وإيّاك على بِسَاط مَلِك وإنّ النَّجَف لما وَقع الطاعون الجارفُ أطاف الناسُ بالحُسين فقال‏:‏ ما أحسنَ ما صنع بكم ربُّكم أَقْلَع مُذْنِبٌ وأَنْفَقَ مًمْسك‏.‏
وخرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فَلَدغَتْه أفْعى في طريقه فمات فقال أَخُوه يَرْثيه‏:‏ طافَ يَبْغِي نَجْوَةً من هَلاكٍ فَهلَكْ لَيْت شِعْري ضَلّةَ أيًّ شيءٍ قَتَلك أَجُحَاف سائلٌ من جِبالٍ حَمَلك والمَنَايا راصِدَات للفتى حيثُ سَلَك كلُّ شيءٍ قاتِل حين تَلْقى أجَلك حُكِيَ أن ماء المطر اتصل في وقت من الأوقات فَقَطع الحسنَ بن وَهْب عن لقاء محمد بن عبد الملك الزيّات فكتب إليه الحسن‏:‏ يُوضِّح العذْرَ في تَراخي الِّلقَاءِ ما توالى مِن هذه الأنْوَاءِ فَسَلامُ الإله أهْدِيه منِّي كُل يوم لسيِّد الوزراءِ لستُ ادري ماذا أَذُمُ وأَشْكو من سَماءٍ تعُوقني عن سَماءِ غَيْرَ أَنِّي أدْعُو لهاتِيك بالثُّك ل وأدْعُو لهِذِه بالبَقاءِ أحْسَنُ مِنْ تِسْعِينَ بَيْتاً سُدىً جٍمْعُكَ معناهنَّ في بَيْتِ ما أحْوَجَ الناسَ إلى مَطْرَةٍ تزيلُ عنهم وَضَرَ الزّيتِ فبلغ قولُه محمداً فقال‏:‏ يا أيُّها المأْفُون رَأْياً لقَدْ عرِّضْت لي نَفْسَك للْمَوْتِ قَيًرْتُم المُلْكَ فلم نُنْقِهِ حتى قلَعْنا القارَ بالزَّيت الزيت لا يزري بأَحْسَابنا أَحْسَابنا مَعْروفة البَيْت وقيل لابن أبي دواد‏:‏ لم لا تسأَل حوائجك الخليفةَ بحَضْرة محمد بن عبد الملك فقال‏:‏ لا أُحب أن أُعْلِمَه شأْني‏.‏
وقد حدّث أبو القاسم جَعْفَر أن محمداً الحَسَنيّ قال‏:‏ أخبرنا محمد بن زكريا الغَلاَبيّ قال‏:‏ حدثنا محمد بن نجيع النُّوبَخْتي قال‏:‏ حدثنا يحيى أن سُليمان قال‏:‏ حدثني أبي وكان ممن لَحِقَ الصحابة قال‏:‏ دخلت الكوفة فإذا أنا برجل يُحدِّث الناس فقلت‏:‏ من هذا قالوا‏:‏ بَكْر بن الطِّرِمّاح فسمعتُه يقول‏:‏ سمعتُ زَيد بن حُسَينْ يقول‏:‏ لما قُتِل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبى طالب عليه السلام أتى بنَعْيه إلى المدينة كُلْثوم بن عَمْرو فكانت تلك الساعة التي أتيَ فيها بنَعْيه أشْبَه بالساعة التي قُبضَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من باكٍ وباكِية وصارخ وصاَرخَةٍ حتى إذا هَدأت عَبْرَة البُكاء عن الناس قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعالوا حتى نَذْهبَ إلى عائشة زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم فَنَنْظًرَ حُزْنَها على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقام الناسُ جميعاً حتى أتَوْا منزلَ عائشة رضي اللهّ عنها فاستأذنوا عليها فوَجَدوا الخبرَ قد سبق إليها وإذا هي في غَمْرَة الأحْزَان وعَبْرَة الأشجان ما تفتر عن البكاء والنَّحيب منذ وَقْتِ سَمِعَتْ بخَبره‏.‏
فلما نَظَرَ الناسُ إلى ذلك منها انصرفوا‏.‏
فلما كان من غدٍ قيل إنها غَدَتْ إلى قبْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَبْق في المَسْجد أحدٌ من المهاجرين إلا استَقْبلها يُسلّم عليها وهي لا تُسَلِم ولا تَرُدّ ولا تُطِيق الكلامَ من غَزَارة الدَّمعة وغَمْرَة العَبرَة تَتخنق بعَبْرَتها وتتعَثر في أثوابها والناسُ من خَلْفها حتى أتت إلى الحُجْرةِ فأخذت بِعضَادة الباب ثم قالت‏:‏ السلامُ عليك يا نبيّ الهُدَى السلامُ عليك يا أبا القاسم السلام عليك يا رسول الله وعلى صاحبَيْك‏.‏
يا رسول اللّه أنا ناعيةٌ إليك أحظَى أحْبَابك ذاكرةٌ لك أكرمَ أودّائك عليك‏.‏
قُتل والله حبيبُك المُجْتَبَى وصَفِيك المُرْتَضى‏.‏
قُتِل والله مَن زوَجته خيرَ النِّساء‏.‏
قُتِل واللّه من آمَن ووَفى وإني لنادِبة ثَكْلَى وعليه باكيةٌ حرى‏.‏
فلو كُشِف عنك الثرى لقلتَ‏:‏ إنّه قُتل أكرمهم عليك وأحظاهم لديك‏.‏
ولو قُدِّر أن نَتَجَنَّب العِدَاء ما كان تعرَّضت له منذ اليوم واللّه يجري الُأمور على السَّداد‏.‏
قال المبرّد‏:‏ عزّى أحمد بن يوسف الكاتب ولدَ الرَّبيع فقال‏:‏ عُظِّمَ أجركم ورحم الله فقيدكم وجعل لكم من وَراء مُصيبتكم حالاً تجمع شَمْلكم وتَلُمّ شَعَثَكم ولا تُفَرِّق مَلأكم‏.‏
وقيل لأعرابية مات لها بَنُون عِدّة‏:‏ ما فعل بنوك قالت‏:‏ أكلَهم دهْرٌ لا يَشْبع‏.‏
وعزَى رجل الرشيدَ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كان لك الأجر لا بك وكان العزاء لك لاعَنك‏.‏
ومما رُوى أن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما نُعيت إليه ابنتُه وهو في السفَر فاسترْجع ثم قال‏:‏ عَوْرَةٌ سترَها اللهّ ومَؤونة كَفاها الله وأَجْرٌ ساقَه الله‏.‏
وقالَ أُسَامة بن زَيد رضي الله عنهما‏:‏ لمّا عُزِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بابنته رُقيَّة قال‏:‏ الحمد لله دَفْن البنات من المَكْرُمات‏.‏
وفي رواية‏:‏ من المكرُمات دفن البنات‏.‏
وقال الغَزَّال‏:‏ ماتت ابنة لبعض مُلوك كِنْدة فَوَضَعَ بين يديه بَدْرَةً من الذهب وقال‏:‏ مَنْ أبلغ في التَّعزية فهي له‏.‏
فدخل عليه أَعرابيّ فقال‏:‏ أعظم الله أجرَ الملك كُفِيتَ المؤونة وَسُتِرتَ العَورة ونعمَ الصِّهْر القَبر‏.‏
فقال له الملك‏:‏ أبلغْتَ وأوْجَزْت وَأَعْطَاهُ البَدْرَة‏.‏
من أحب الموت ومن كرهه في بعض الأحاديث‏:‏ لا يَتمَنَّى أحدُكم الموتَ فعسى أن يكون مُحْسناً فيزداد في إحسانه أو يكون مُسِيئاً فينْزع عن إساءَته‏.‏
وقد جاء في الحديث‏:‏ يقول الله تَبارك وتعالى‏:‏ إذا أَحَبَّ عَبْدي لِقائي أحْبَبْتُ لِقاءه وإذا كَرِه لِقائي كَرِهْت لقاءه‏.‏
وليس معنى هذا الحديث حُبَّ المَوْتِ وَكَرَاهِيَتَه ولكن مَعناه‏:‏ من أحبَّ اللهّ أحبَّه اللّه ومن كَرِه اللهّ كَرِهَه اللّه‏.‏
وقال أبو هُرَيرة‏:‏ كَرِه الناسُ ثلاثاً وأَحْبَبتُهنّ‏:‏ كَرهوا المرَض وأحببتهُ وكَرهوا الفقرَ وأحببتهُ وكَرِهوا الموتَ وأحببتهُ‏.‏
عبد الأعلى بن حمّاد قال‏:‏ دَخَلْنا على بِشر بن مَنْصور وهو في المَوْت وإذا هو من السُّرور في أمرٍ عَظِيم‏.‏
فقلنا له‏:‏ ما هذا السُّرور قال‏:‏ سُبْحان الله‏!‏ أخرُج من بين الظَّالمين والحاسدين والمَغْتابين والباغِين وأَقْدَمُ عَلَى أرْحَم الرَّاحمين ولا أُسَرّ‏!‏ ودخل الوليدُ بن عبد الملك المسجدَ فَخَرَج كلًّ من كان فيه إلاّ شيخاً قد حَنَاه الكِبَر فأرادًوا أن يُخْرِجُوه فأشار إليهم أن دَعُوا الشيخ ثم مضىَ حتى وَقف عليه فقال له‏:‏ يا شيخُ تًحِبُّ المَوْت قال‏:‏ لا يا أميرَ المؤمنين ذَهَبَ الشَّبَاب وشَرُّه وَأتى الكِبر وخيْرُه فإذا قمتُ حَمِدْتُ اللّه وإذا قعدتُ ذكرتُه فأنا أُحِب أن تَدُوم لي هاتان الخَلَّتان‏.‏
قال عبد الله بن عمر‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه مالي لا أُحِبًّ الموت قال‏:‏ هل لك مال قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فقدِّمه بين يديك قال‏:‏ لا أطِيق ذلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن المَرْء مع مالِه إن قدّمه أحبَّ أن يَلْحَقَه وَإِنْ أَخَرَّه أحبَّ أن يتخلّفَ معه‏.‏
وقالٍ الشاعر في كراهية الموت‏:‏ لا والَّذِي مَنَعَ الأبصَارَ رُؤْيَتَه ما يَشْتَهِي الموتَ عِنْدِي من له أدَبُ وقالت الحكماء‏:‏ الموت كريهٌ‏.‏
وقالوا‏:‏ أشدُّ من الموت ما إذا نزلَ بك أحببتَ له الموتَ وأطيبُ من العَيش ما إذا فارقتَه أبغضتَ له العِيش‏.‏



التهجد
المغِيرة بن شُعْبة قال‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى وَرِمت قَدَماه‏.‏
وقيل للحَسَن‏:‏ ما بال المتهجِّدِين أحسن الناس وجوهاً قال‏:‏ إنَّهم خَلَوْا بالرَّحمن فأسفر نورُهمِ من نُورِه‏.‏
وكان بعضهم يصلِّي الليلَ حتَى إذا نظرَ إلى الفَجْر قال‏:‏ عند الصباح يحْمَدُ القومُ السُرَى‏.‏
وقالوا‏:‏ الشِّتَاءُ ربيعُ المؤمنين يطولُ ليلُهم لِلقِيام ويَقْصُر نهارُهم للصيام‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أطْعِموا الطَّعام وأفْشوِا السلامَ وصَلُّو‏!‏ بالليل والناسُ نِيَام‏.‏
وقال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وبالأسْحَارِ هُمْ يَسْتغْفِرُون ‏"‏‏.‏
وهذا يُوَافق الحديثَ الذي رَوَاه أبو هُرَيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تبارك وتعالى يَنْزِل إلى سماءِ الدُّنيا في الثُّلث الأخير من اللَّيل فيقول‏:‏ هل من سائلٍ فأعْطِيَه هل من دَاعٍ فأسْتَجيبَ له هل من مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ له هل من مُسْتَغيث فأغِيثه أبو عَوَانة عن المغيرة قال‏:‏ قلتُ لإبراهيم النَّخَعيّ‏:‏ ما تقولُ في البكاء من خشية الله عز وجل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حَرَّم اللهّ عَلَى النار كلَّ عَين تَبْكي من خَشْيَة اللهّ وكلَّ عَيْنِ غُصَّت عن محارم اللّه‏.‏
وكان يزيد الرَّقاشي قد بكىَ حتى سقطت أشفارُ عينيه‏.‏
وقيلَ لغالب بن عبد اللّه‏:‏ أمَا تخاف على عَيْنَيْك من العَمَى من طُول البُكاء فقال‏:‏ شِفَاءَها أرِيد‏.‏
وقيل ليزيدَ بن مَزْيد‏:‏ ما بالُ عَيْنك لا تَجفّ قال‏:‏ أيْ أخي إن الله أوعدني إنْ عَصَيْتُه أن يَحْبِسَني في النار ولو أوْعدني أنَ يَحْبسني في الحمَّام لكنتُ حَرِيًّا أن لا تَجِفّ عيني‏.‏
وقال‏:‏ عمر بن ذَرّ لأبيه‏:‏ مالَك إذا تكلَّمتَ أَبْكَيْتَ النّاسَ فإذا تكلَّم غيرُك لم يُبْكِهم قال‏:‏ يا بني ليست النائحة الثَّكْلَى مثلَ النائحة المُسْتَأْجَرَة‏.‏
وقال اللهّ لنبيّ من أنبيائه‏:‏ هَبْ لي من قلْبِك الخًشوع ومن عَيْنَيك الدُّموع ثم ادعني أسْتَجِبَ لك‏.‏
ومن قولنا في البكاء ‏"‏ من خشية الله تعالى ‏"‏‏:‏ مَدَامِعٌ قد خَدَّدَتْ في الخُدُود وأعينٌ مَكْحولة بالهُجُودِ وَمَعْشرٌ أوْعدهم رَبُّهم فَبَادَروا خَشْيَة ذاك الوعيد فَهُم عُكًوفٌ في مَحاريبهم يَبْكون من خَوْفِ عِقاب المَجِيدِ وقال قيسُ بن الأصم في هذا المعنى‏:‏ صلَّى الإله عَلَى قَوْمٍ شَهِدْتُهُمُ كانوا إذا ذَكَرُوا أو ذُكِّرُوا شَهقُوا كانوا إِذا ذَكَرُوا نارَ الجحيم بَكوْا وَإِنْ تَلاَ بعضُهم تَخْوِيفها صعقوا من غير هَمْزٍ من الشّيطان يأخذهم عِند التِّلاوة إلا الخَوْف والشَفَق صَرْعى من الحُزن قد سَجّوا ثِيابَهم بقيَّة الرُّوح في أوداجهم رَمَقُ حتى تَخَالهم لو كنت شاهِدَهم من شِدَّة الخَوْفِ والإشْفَاقِ قد زَهِقُوا النهي عن كثرة الضحك في الحديث المَرْفوع‏:‏ كثرةُ الضَّحك تُميت القلب وتُذْهِب بَهاء المُؤمن‏.‏
وفيه‏:‏ لو علمتُمْ لَبَكَيْتُمْ كثيراً وضَحِكْتُمْ قَلِيلاً‏.‏
وفيه‏:‏ إِنّ الله يكره لكم العَبثَ في الصلاة والرَّفَث في الصِّيام والضَّحِك في الجنائز‏.‏
ومرَّ الحسنُ بقومٍ يَضْحكون في شَهْر رَمضان فقال‏:‏ يا قوم إنّ الله جعل رمضان مِضْماراً لِخَلْقِه يَتسَابقون فيه إلى رَحْمتِه فَسَبَق أقوامٌ ففازُوا وتخلَّف أقوامٌ فَخَابوا فالعَجب من الضاحِكِ اللاّهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المتخلِّفون أما واللّهِ لو كُشِف الغِطاء لَشَغَلَ مُحْسِناً إحسانُه ومُسِيئاً إساءتُه‏.‏
ونظر عبد الله إلى رجل يضحك مُسْتَغْرِقاً فقال له‏:‏ أتضحك ولعلّ أكفانَك قد أخِذَت من ‏"‏ عند ‏"‏ القَصَّار‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وكم مِنْ فتًى يُمْسي ويًصْبِحُ آمِناً وقد نُسِجَتْ أكْفَانُه وهو لا يَدْرِي النهي عن خدمة السلطان وإتيان الملوك ‏"‏ لقى أبو جعفر سفيانَ الثوريّ في الطواف فقال‏:‏ ما الذي يمنعك أبا عبد الله أن تأتينا قال‏:‏ إن الله نهانا عنكم فقال‏:‏ ‏"‏ وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذين ظَلَمُوا فَتَمَسَّكم النار‏"‏‏.‏
وقدِمَ هِشامُ بن عبد الملك المدينة لزيارة القَبر فدخل عليه أبو حازم الأعرج فقال‏:‏ ما يمنعك أبا حازم أن تأتينا فقال‏:‏ وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين إن أدْنيتني فَتَنْتَني وإن أقصيتني أخزَيْتني وليس عندي ما أخافك عليه ولا عندك ما أرجوك له ‏"‏‏.‏
قال عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ مَن دخل على المُلوك خَرج وهو ساخِطٌ على اللّه‏.‏
أرسل أبو جعفر إلى سُفْيانَ فلما دَخل عليه قال‏:‏ سَلني حاجتك أبا عبد الله قال‏:‏ وتَقْضيها يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فإنّ حاجتي إليك أن لا تُرْسِل إليَّ حتى آتيك ولا تُعْطِيني شيئاً حتى أسألك ثم خرج‏.‏
فقال أبو جعفر‏:‏ أَلْقَيْنا الحَبَّ إلى العُلماء فلَقَطوا إلا ما كان من سُفيان الثَّوْرِي وقال زِيادٌ لأصحابه‏:‏ مَنْ أغبطُ الناس عيشاً قالوا‏:‏ الأميُر وأصحابه قال‏:‏ كلاّ إِنّ لأعْواد المنْبَر لَهَيْبةً ولقَرْع لِجَام البريد لَفَزْعة ولكنَّ أَغبطَ الناس عيشاً رجلٌ له دار يَسْكُنُها وزَوْجَة صالحة يأوي إليها في كَفَاف من عَيْش لا يَعْرفنا ولا نَعْرفه فإن عَرَفنا وعرفْناه أَفْسَدْنا ‏"‏ عليه ‏"‏ آخرته ودُنياه وقال الشاعر‏:‏ إِنَّ الملوك بلاءٌ حيثُما حَلُّوا فلا يَكُنْ لك في أكنافِهم ظِلُّ ماذا تُريد بقَوْمٍ إِنْ هُمُ غَضبُوا جارُوا عليك وإن أَرْضَيْتهم مَلُّوا فاسْتَغْنِ باللّهِ عنَ إتْيَانهم أبداً إنّ الوُقوف على أبوابهم ذلُّ وقال آخر‏:‏ لا تصحبنَّ ذَوي السُّلطان في عَملٍِ تُصْبِح عَلَى وَجَلٍ تمسْي عَلَى وَجَل كُل الترابَ ولا تَعْملِ لهم عملاً فالشرُّ أَجْمَعُه في ذلك العَمَل وفي كتاب كليلة ودِمْنة‏:‏ صاحبُ السلطان مثلُ راكب الأسد لا يَدْرِي متى يَهيجُ به فَيَقْتُله‏.‏
دخل مالكُ بنُ دِينار على رَجُل في السِّجن يَزوره فنظر إلى رجل جُنْديّ قد اتّكأ في رِجلَيه كُبُول قد قَرَنت بين سَاقَيْه وقد أتِي بسُفْرة كثيرة الألوان فدعا مالكَ بنَ دِينار إلى طَعامه فقال له‏:‏ أخشى إن أكلتُ من طَعامك هذا أن يُطْرَح في رجليّ مثلُ كُبولك هذه‏.‏
وفي كتاب الهِنْد‏:‏ السلطانُ مثلُ النار إن تباعدتَ عنها احتجتَ إليها وإن دنوتَ منها أحْرقَتك‏.‏
أيوب السِّخْتياني قال‏:‏ طُلب أبو قِلابة لِقَضاء البَصْرة فهَرب منها إلى الشام فأقامَ حيناً ثم رَجع‏.‏
قال‏:‏ أيوب‏.‏
فقلتُ له‏:‏ لو وَليتَ القَضاء وعَدلْت كان لك أجران فقال يا أيّوب إذا وقعِ السابحُ في البحر كَم عسى أَنْ يَسْبح وقِال بَقيّة‏:‏ قال لي إبراهيم‏:‏ يا بَقِيّة كن ذَنبا ولا تَكن رَأْسا فإنّ الرأسَ يهلك والذَّنب ينجو‏.‏
ومن قولنا في خِدْمة السلطان وصُحبته‏:‏ تجَنَّب لِباس الخَزّ ِإنْ كنْت عاقلاً وَلا تَخْتَتِمْ يوماً بفَصِّ زَبَرْجَدِ ولا تتطيَّب بالغَوالي تَعَطُّرًا وَتَسْحَبَ أذْيَالَ المُلاَءِ المعضَّد وَلاَ تَتَخَيَّر صَيِّتَ النًعْل زَاهِيًا ولا تَتَصَّدر في الفِرَاش المُمَهَّد وكُنْ هَمَلاً في الناس أغْبَرَ شاعثاً تَرُوحُ وَتَغْدُو في إزارٍ وَبُرْجُد يَرَى جِلْد كَبْشٍ تحتَهُ كلما استوَى عليْه سِريراً فَوْقَ صَرْحٍ ممَرَّد ولا تَطْمَح العينَان منك إلى امرىءٍ له سَطَوَاتٌ باللِّسان وباليَد تراءَتْ له الدُّنيا بزِبْرج عَيْشِهِا وقادَتْ له الأطماع من غيره مقوَد فأسْمَنَ كَشَحَيْهِ وأهْزَلَ دِينه وَلم يَرتَقِب في اليوم عاقبةَ الغد فَيُرْحَم تاراتٍ وَبُحْسَدُ تارةً فذا شرُّ مَرْحُوم وَشرُّ مُحَسَّد القول في الملوك الأصمعِيّ قال‏:‏ بَلغني أنت الحسن قال‏:‏ يابن آدم أنتَ أسيرُ الجُوع صرَيع الشِّبع إنّ قوماَ لَبِسوا هذه المَطَارفَ العِتاق وِالعَمائم الرقاق وَوسَعوا دُورَهم وَضيَّقوا قُبورهم وأسْمَنوا دوابَّهم وأهزَلوا دِيَبهم يَتّكِىء أحدُهم على شِماله ويأكل ‏"‏ مِن ‏"‏ غير مالِه ‏"‏ فإذا أدركته الكِظّة ‏"‏ قال‏:‏ يا جارية هاتي هاضُومَك ويلك‏!‏ وهل تَهْضم إلا دينَك‏.‏
يحيى بنُ يحيى قال‏:‏ جَلسِ مالكٌ يوماً فأطرقَ مليّا ثم رَفع رأسَه فقال‏:‏ يا حَسْرةً على المُلوِك لأنهم تُركوا في نعِيم دُنياهم وماتُوا قبل أن يَموتوا حُزْناً على ما خلَفوا وجَزَعاً مما استقبلوا‏.‏
وقال الحسن وذُكِر عنده الملوك‏:‏ أما إنّهم وإنْ هَمْلَجت بهم البِغال وأطافت بهم الرِّجال وتعاقبت لهم الأموال إنِّ ذُلَّ المَعْصِية في قُلوبهم أبَى الله إلا أن يُذِلَّ مَن عَصاه‏.‏
الأصمعيًّ قال‏:‏ خَطَب عبد الله بن الحسَن على مِنْبر البَصرة فأنشد على المِنبر‏:‏ أينَ المُلوك التي عَن حَظِّها غَفِلت حتى سَقاها بِكأْس المَوْت ساقِيها بلاء المؤمن في الدنيا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ المُؤمن كالخامَة من الزّرع تَمِيلٍ بها الرّيح مرة كذا ومرّة كذا والكافر كالأرْزَة المُجْذية حتى يكون انجعافُها مرِّة‏.‏
ومعنى هذا الحديث‏:‏ تردُد الرزايا على المؤمن وتجافِيها عن الكافر ليزدادَ إثماَ‏.‏
وقال وَهْب بنُ مُنَبِّه‏:‏ قرأتُ في بعض الكُتب‏:‏ إني لأذودُ عبادي المخْلصين عن نَعيم الدُّنيا كما يَذُود الرَّاعي الشَّفِيقُ إبلَه عن مَوارد الهَلَكة‏.‏
وقال الفًضيل ابن عِيَاض‏:‏ ألا ترَوْنَ كيف يُزْوِي الله الدنيا عمن يُحب من خلْقه ويمرمرها عليه مرَّةً بالجوع ومرَّة بالعُرْي ومرَّة بالحاجة كما تصنع الأُمّ الشَّفيقة بولدها تَفْطِمه بالصًبْرِ مرَّة وبالحُضَض مرَّة وإنما تُريد بذلك ما هو خيرٌ له‏.‏
‏"‏ وفي الحديث‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أخبرني جبريل عن الله تبارك وتعالى أنه قال‏:‏ ما ابتليتُ عَبْدي ببليّة‏!‏ نفسه أو ماله أو ولده فتلقّاها بِصَبْر جميل إلا استحييت يوم القيامة أن أرفَع له ميزاناً أو أنشر له ديواناً ‏"‏‏.‏



كتمان البلاء إذا نزل
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ من ابتلي ببَلاء فكَتَمَه ثلاثة أيام صَبْراً واحتساباً كان له أجرُ شهيد‏.‏
وسَمِع الفُضَيْل بن عِيَاض رجلاً يشْكو بلاء نَزَل به فقال‏:‏ يا هذا تشكو مَنْ يَرْحَمُك إلى من لا يَرْحمك‏.‏
وقال‏:‏ مَن شكا مُصِيبةً نزَلت به فكأنما شَكا ربَّه‏.‏
وقال دُريد بن الصِّمة يَرْثي أخاه عبد الله بن الصِّمة‏:‏ قليلَ التَّشَكِّي للمصائب ذاكرًا من اليوم أَعقابَ الأحادِيث في غَدِ وقال تأبَّطَ شرًّا‏:‏ قليلَ التشكِّي للمُلًمَ يصيبه كثيرَ النوَى شتى الهوى والمسالِكِ الشيبَانيّ قال‏:‏ أخبرني صَديقٌ لي قال‏:‏ سَمِعَني شُريح وأنا أشْتَكي بعضَ ما غمني إلى صديق ‏"‏ لي ‏"‏ فأخذ بيدي وقال‏:‏ يا بن أَخي إياك والشَّكْوى إلى غير اللّه فإنه لا يَخلو من تشكو إليه أن يكون صديقاً أو عدوًّا فأما الصديق فتخْزُنه ولا يَنْفعك وأما العدوّ فَيَشْمَت بك انظُر إلى عيني هذه - وأشار إلى إحدى عَينيه - فواللّه ما أبصرت بها شخصاً ولا طريقاً منذُ خمسَ عشرةَ سنة وما أخبرتُ بها أحداَ إلى هذه الغاية أما سمعتَ قول العبد الصالح‏:‏ ‏"‏ إنما أَشْكو بَثِّي وحُزْني إلى اللهّ ‏"‏ فاجعلْه مَشْكاك ومَفْزَعك عند كل نائبة تَنُوبك فإنه أكرمُ مَسْئول وأقربُ مدعوٍّ إليك‏.‏
كتب عَقِيل إلى أخيه علي بن أبي طالب رضوانُ اللهّ عليهما يسألهُ عن حاله فكتب إليه‏:‏ عزيزٌ عليّ أنْ تُرَى بي كآبة فيَفْرَحَ وَاشٍ أَوْ يُسَاءَ حَبيب وكان ابن شُبْرمة إذا نزلتْ به نازلةٌ قالت‏:‏ سحابة ‏"‏ صَيْف عن قليل ‏"‏ تَقَشِّع‏.‏
وكان يُقال‏:‏ أَرْبع من كُنوز الجنَّة‏:‏ كِتْمان المُصيبة وكِتمان الصَّدقة وكِتمان الفاقة وكِتمان الوَجَع‏.‏



القناعة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أصبح وأَمسى آمناً في سربه مُعَافي في بَدنه عنده قوتُ يومه كان كمن حِيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرها‏.‏
والسِّرب‏:‏ المَسْلَك يقال‏:‏ فلان واسع السِّرب يعني المسلك والمذهب‏.‏
وقال قيسُ بيت عاصم‏:‏ يا بَنيّ‏:‏ عليكمِ بحِفْظ المال فإنه مَنْبَهةٌ للكريم ويُسْتَغْنى به عن اللئيم‏.‏
وإياكم والمَسْألَة فَإنها آخِر كسْب الرَّجُل‏.‏
وقال سعد ابن أبي وقّاص لابنه‏:‏ يا بُني إذا طلبتَ الغِنَى فاطلبه بالقَناة فإِنها مالٌ لا يَنْفَد وإياك والطمعَ فإنه فقْر حاضر وعليك باليأْس فإِنك لا تَيْأَس من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه‏.‏
وقالوا‏:‏ الغَنيُّ من استغنى باللّه والفقيرُ ما افتقر إلى الناس‏.‏
وقالوا‏:‏ لا غِنى إلا غني النّفس‏.‏
وقيلَ لأبي حازم‏:‏ ما مالُك قال‏:‏ مالان الغِنَى بما في يدي عن الناس وَاليأسُ عما في أيدي الناس‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما مالُك فقال‏:‏ التجمُل في الظاهر والقَصْد في الباطن‏.‏
وقال آخر‏:‏ لا بُد مما ليس منه بدّ اليَأْس حُرٌ والرجاءُ عَبْدُ وليس يُغْني الكَدَ إلا الجَدّ‏.‏
وقالوا‏:‏ ثمرةُ القناعة الرَّاحة وثمرةُ الحِرْص التعب‏.‏
وقال البُحْتريُّ‏:‏ إذا ما كان عندي قُوتُ يوم طَرَحْتُ الهمَّ عنّي يا سعيدُ ولم تَخْطرُ هُمِوم غدٍ ببالِيً لأنَ غَداً له رِزْقِّ جَدِيد وقال عُرْوَة بنُ أذَيْنَة‏:‏ وقد عَلِمتُ وخَيرُ القَوْل أصْدَقُه بأنَ رِزْقِي وَإنْ لم يَأْتِ يَأْتيني أسْعى إليه فيعييني تطلبه ولو قَعَدْتُ أتاني لا يُعَنِّيني وَوَفد عُروة بن أذَينة على عبد الملك بن مَرْوَان في رجال من أهل المدينة فقال له عبد الملك‏:‏ أَلستَ القائلَ يا عُرْوَة أسْعى إليه فَيُعْييني تَطلبه فما أراك إلا قد سعيتَ له فخرج عنه عُروة وشَخص من فَوْرِه إلى المدينة‏.‏
فأفتقده عبدُ الملك فقيل له‏:‏ توجّه إلى المدينة فبَعث إليه بألف دينار‏.‏
فلما أتاه الرسول قال‏:‏ قُلْ لأمير المؤِمنين‏:‏ الأمرُ على ما قلتُ قد سَعَيتُ له فأعياني تطلُّبه وقعدت عنه فأتاني لا يُعنيني‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنّ رُوح القُدس نَفَثَ في رُوعِي‏:‏ إِنَّ نفساً لن تموت حتى تَسْتَوْفي رِزْقَهَا فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب‏.‏
وقالَ تعالى فيما حكى عن لُقمان الحكيم‏:‏ ‏"‏ يا بنيَّ إنّها إِنْ تَكُ مِثْقًالَ حًبّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ في السَّمَوَاتِ أوْ في الأرْض يَأْتِ بها الله إِنّ الله لَطيفٌ خبِير ‏"‏‏.‏
وقال الحسنُ‏:‏ ابن آدمَ لستَ بسابقٍ أجلَك ولا ببالغٍ أمَلَك ولا مَغْلوب على رِزْقِكَ ولا بمرزوق ما ليس لك فعلامَ تَقْتل نفسَك وقال ابن عبد ربه‏:‏ قد أخذتُ هذا المعنى فنظمتُه في شعر فقلت‏:‏ لستُ بقاض أملِى ولا بعَادٍ أجَلي ولا بمَغْلُوب عَلَى الرًّزْ قِ الذي قُدِّرَ لَي ولا بِمُعطًىً رِزْقَ غَي ري بالشقا والعَمَلَ فليتَ شِعري ما الذي أدْخَلني في شُغُلي وقال آخر‏:‏ سيكون الذي قًضي غضب المرءُ أَمْ رَضي وقال محمودٌ الورَّاق‏:‏ وقد كفل اللهّ الوَفي برزقه فلم يَرْضَ والإنسانُ فيه عجائب عليمٌ بأنّ الله مُوفٍ بوَعْده وفي قَلْبِه شَكٌّ على القَلْبِ دائب أبَى الجهل إلا أن يَضرُّ بعلْمِه فلم يُغنِ عَنْه عِلْمُه والتجارب وله أيضاً‏:‏ أتطلُبُ رِزْقَ اللهّ من عند غيْره وتُصْبِحُ من خوْفِ العواقِبِ آمنا وترْضى بعَرّافٍ وَإِنْ كان مُشرْكَاً ضَميناً ولا تَرْضى بربِّكَ ضامنا وقال أيضاً‏:‏ غِنىَ النَّفْس يغْنيها إذا كنْت قانِعاً وليسَ بمُغْنِيك الكثيرُ من الحِرْص وإنّ اعتقادَ الهمِّ للخير جامعٌ وقِلْةَ هَمِّ المَرْءِ تَدْعًو إلى النَّقص وله أيضاً‏:‏ مَن كان ذا مالٍ كثير وَلم يَقْنَعْ فَذَاك المُوسِرُ المعْسِرُ وكل من كان قَنُوعاًً وإن كان مقلاً فَهُو المكثر الفَقْرُ في النفْس وفيها الغِنىَ وفي غِنَى النَفس الغِنى الأكبر ومنْ قسِمَ الأرزاق بين عِباده وفَضّلَ بَعضَ النَّاس فيها على بعض فمن ظَنَّ أنّ الحِرْص فيها يَزيده فقُولًوا له يزداد في الطول والعَرْض وقال ابن أبي حازم‏:‏ ومًنْتَظِر للموت في كل ساعةٍ يَشِيدُ وَيِبْني دائباً ويُحَصِّن له حينَ تَبْلُوه حقيقةُ مُوقِنِ وأفعالُه أفْعَالُ مَن ليس يُوقِن عَيانٌ كإِنكارٍ وَكالجهْل عِلْمُهَ يَشُكّ به في كلِّ ما يتيقن وقال أيضاً‏:‏ اضرع إلى اللهّ لا تَضْرعَ إلى النَّاس واقْنَعْ بِيأسٍ فإنّ العِزَّ في اليَاس واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رَحِم إنّ الغَنِيَّ مَنِ استغنى عن الناس وَله أيضاً‏:‏ فلا تَحْرِصَنّ فإنّ الأمور بكَفِّ الإله مقَاديرُها فليسَ بآتيك منْهيهاَ ولا قاصرٍ عنك مأمُورها وله أيضاً‏:‏ ما لما قد قَدَّرَ الل ه من الأمر مرد قد جرى بالشرِّ نَحْسٌ وجَرَى بالخير سعد وجرى الناسُ على جَر يهما قبل وبعد أَمِنوا الدهر وما للدَ هر والأيام عهد غالَهُم فآصطَلَم الجمْ ع وأفنى ما أعدوا إنّها الدنيا فلا تح فل بها جزرٌ ومد وقال الأضبَطُ بن قُرَيع‏:‏ ارْضَ من الدهر ما أتاك به مَنْ يَرْضَ يوماً بعَيشِهِ نَفَعَهْ قد يَجْمع المال غيرُ آكله وَيأكلُ المالَ غيرُ مَنْ جَمَعه وقال مُسلم بن الوليد‏:‏ لن يبطئ الأمرُ ما أمَلْتَ أوبتَه إذا أعَانَك فيه رِفْقُ مُتَّئِدِ والدَهْرُ آخِذُ ما أعطى مًكَدِّرُ ما أصْفي وَمُفْسِدُ ما أهْوَى له بيَد فلا يَغُرَّنْك من دهرٍ عَطيَّتُهُ فليس يترُكُ ما أعطى على أحد رَأتْ حولها النسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا مقَلَّدَةً أجيادُها بالقلائد يَسُرَكِ أني نِلْتُ ما نال جَعْفرٌ وما نال يحيى في الحياة ابن خالد وأنّ أمير المؤمنين أعضّني مُعَضهما بالمُرهفات الحدائد ذَرِيني تَجِئْني ميتتي مُطمَئنَّه ولم أتجشم هول تلك الموارد فإنّ الذي يَسْمو إلى الرتب العُلا سَيُرْمَى بألوان الدُّهى والمكايد وَجَدْتُ لَذَاذات الحياة مَشوبَةً بمُسْتودعات في بطون الأسَاوِد وقال‏:‏ حتّى متى أنا في حِلّ وتَرْحال وطُول شُغلٍ بإدْبار وإِقْبَال ونازح الدار ما ينفكُّ مُغتَرباً عن الأحَبِّة ما يَدْرُون ما حالي بِمَشْرق الأرض طوْراً ثم مَغْرِبَها لا يَخْطُر الموت من حِرْص على بالي ولوَ قَنعْتُ أتاني الرِّزْقُ في دَعَةٍ إنّ القُنُوع الغِنَى لا كثرةُ المال وقال عبدُ الله بن عباس‏:‏ القَناعة مال لا نَفَاد له‏.‏
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ الرِّزق رِزْقان‏:‏ فرِزْقٌ تطلبه ورِزْقٌ يطلبك فإن لم تأته أتاك‏.‏
وفي كتاب للهند‏:‏ لا ينبغي للمُلتمس أن يَلْتمس من العيش إلا الكفَافَ الذي به يَدْفع الحاجة عن نَفْسه وما سِوىَ ذلك إنما هو زيادة في تَعَبه وغَمِّه‏.‏
ومن هذا قالت الحكماء‏:‏ أقلُّ الدنيا يَكْفي وأكثرُها لا يَكفي‏.‏
وقال أبو ذُؤَيب‏:‏ والنَّفْسُ راغبة إذَا رغبتها وإذا تُرَدُّ إلى قليل تَقْنَعُ وقال المسيح عليه السلام‏:‏ عجباً منكم إنكم تعملون للدُّنيا وأنتم تُرزَقُون فيها بلا عمل ولا تَعْملون للآخرة و ‏"‏ أنتم ‏"‏ لا تُرْزَقون فيها إلا بالعمل‏.‏
وقال الحسن‏:‏ عَيَرَت اليهود عيسى عليه السلام بالفَقْر فقالت‏:‏ مِن الغِنَى أتيتم‏.‏
أخذ هذا المعنى محمودٌ الورَّاق فقال‏:‏ يا عائبَ الفَقْرِ ألاَ تَزْدَجِر عَيْبُ الغِنَى أكثَرُ لو تَعْتَبِرْ من شرًف الفَقْر ومن فَضْله عَلَى الغِنَى إن صَحَ منك النظر أنك تَعْصى كي تنالَ الغِنَى وليس تَعصى الله كي تَفْتقِر سُفيان عن مُغيرة عن إبراهيم قال‏:‏ كانوا يَكرِهون الطلب في أطارف الأرض‏.‏
وقال الأعمش‏:‏ أعطاني البُنَانيُّ مَضَارِبه أخرُج بها إلى ماهٍ فسألتُ إبراهيم فقال لي‏:‏ ما كان يَطْلبون الدنَيا هذا الطلب‏.‏
وبين ماهٍ وبن الكوِفة عشرةُ أيام‏.‏
الأصمعيُّ عن يُونس بن حَبيب قال‏:‏ ليس دون الإيمان غِنًىِ ولا بعده فقْر‏.‏
قيل لخالد بن صَفْوان‏:‏ ما أصْبرَك عَلَى هذا الثَوْب ‏"‏ الخَلَق قال‏:‏ رُبَ وكتب حكيم إلى حكيم يشكو إليه دهرَه‏:‏ إنه ليس من أحد أنْصَفه زمانُه فتصرفت به الحالُ حسب استحقاقه وإنك لا تَرَى الناسَ إلا أحدَ رجلين‏:‏ إمَا مُقدَّم أخّره حظه أو متأخِّر قدَّمَه جَدُّه فارضَ بالحال التِي أنت عليها وإن كانت دون أملك واستحقاقك اختياراً وإلا رضيت بها اضطراراَ‏.‏
وقيل للأحْنف بن قيس‏:‏ ما أصبرك على هذا الثوب ‏"‏ فقال‏:‏ أحقِ ما صُبِر عليه ما ليس إلى مُفارقته سَبيل‏.‏
‏"‏ قال الأصمعيُّ‏:‏ رأيت أعرابيةَ ذات جمال تسأل بمنى فقلت لها‏:‏ يا أمَة اللهّ تسألين ولك هذا الجمال قالت‏:‏ قدَرً الله فما أصنع قلت‏:‏ فمن أين معاشكم قالت‏:‏ هذا الحاج نَسْقيهم ونغسل ثيابهم قلت‏:‏ فإذا ذهب الحال فمن أين فنظرت إليّ وقالت‏:‏ يا صَلْت الجبين لو كنّا نعيش من حيث نعلم ما عِشْنا ‏"‏‏.‏
وقيل لرجلٍ من أهل المدينة‏:‏ ما أصْبرَك على الخُبْز والتَّمْر قال‏:‏ ليتَهما صبرَا عليّ‏.‏
الرضا بقضاء اللّه قالت الحُكماء‏:‏ أصلُ الزُهد الرِّضا عن اللّه‏.‏
وقال الفُضَيل بن عِياض‏:‏ استَخيروا الله ولا تتخيروا عليه فرُبما اختار العبدُ أمرًا هلاَكُه فيه‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ رُبَّ مَحْسود على رَخاء هو قد ينعِم الله بالبَلْوَى وإن عَظُمَت وَيبْتَلِى الله بَعْضَ القوم بالنِّعَم ‏"‏ وقال بعضُهم‏:‏ خاطَبني أخٌ من إخواني وعاتبني في طلب الرُتب فأنشدته‏:‏ كم افتقرتُ فلم أَقْعُد على كَمَدِ وكم غَنِيتُ فلم أكبر على أحدِ إنَي آمرؤ هانت الدنيا عليّ فما أشتاق فيها إلى مال ولا وَلَدِ وقالوا‏:‏ من طَلب فوق الكفاية رجع من الدَّهر إلى أبعد غاية ‏"‏‏.‏
من قتر على نفسه وترك المال لوارثه زِياد عن مالك قال‏:‏ مَن لم يَكًنْ فيه خَيْرٌ لنفسه لم يَكُنْ فيه خيرٌ لغيره لأنّ نفسَه أولَى الأَنْفُس كُلَها فإذا ضَيعها فهو لما سِوَاها أضْيَعِ ومن أحبَّ نفسَه حاطَها وأبقى عليها وتَجنَّب كل ما يَعيها أو يَنْقُصها فَجَنَّبها السَّرِقة مَخافةَ القَطْع والزِّنا مخافة الحَدّ والقَتْل خوفَ القِصاص‏.‏
علي بن داود الكاتِب قال‏:‏ لما افتتح هارون الرشيدُ هِرَقْلة وأباحها ثلاثة أيّام وكان بِطْرِيقها الخارج عليه بَسِيل الرُّوميّ فنظر إليه الرَّشيدُ مُقْبِلاً على جِدَار فيه كتابة باليُونانية وهو يُطِيل النظَر فيه فدَعا به وقال له‏:‏ ِ لمَ تركتَ النظرَ إلى الانتهاب والغَنيمة وأقبلت على هذا الجدار تنظر فيه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قرأتُ في هذا الجدار كتابًا هو أحبُّ إليّ من هِرَقْلة وما فيها قال له الرَّشِيد‏:‏ ما هو قال‏:‏ بسم اللهّ المَلِكَ الحقِّ المُبين‏.‏
ابن آدم غافِص الفُرْصة عند إسكانها وكِل الأمور إلى وَليِّها ولا تَحْمِل على قلبك هَمَّ يوم لم يأتِ بعدُ إِنْ يَكُن من أجَلِكَ يأْتِك الله بِرزْقك فيه ولا تَجعَلْ سَعْيَك في طلب المال أسوة بالمَغْرُورين فرُبَّ جامع لِبَعْل حَليلته واعلم أنّ تَقْتير المرء على نَفْسه هو تَوْفيرٌ منه على غيره فالسعيدُ من اتعظ بهذه الكلمات ولم يُضَيِّعها‏.‏
قال له الرَّشيد‏:‏ أَعِدْ عليَّ يابَسِيل فأعادَها عليه حتى حَفِظها‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ابن آدم أنتَ أسيرٌ في الدنيا رَضيتَ من لذّتها بما يَنْقضي ومن نَعِيمها بما يَمْضي ومن مُلْكها بما يَنْفد فلا تَجمْع الأوزار لِنَفْسك ولأهلك الأمْوال فإذا مِتّ حملتَ الأوزار إلى قَبْرك وتركتَ أموالَك لأهلك‏.‏
أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال‏:‏ أبْقَيْتَ مالَك مِيراثاً لوارِثه فليتَ شِعْرِيَ ما أبقى لك المالُ القومُ بَعدك في حالٍ تَسرُّهم فكيفَ بَعدهم دارت بك الحال مَلُّوا البُكاء فما يَبْكيك من أحد واستَحْكَم القِيلُ في الميراث والقَال وفي الحديث المرفوع‏:‏ أشدّ الناس حَسْرَةً يوم القيامة رجلٌ كَسب مالاً من غير حِلِّه فدخلَ به النارَ وورَّثه مَن عَمِل فيه بطاعة اللهّ فَدَخل به الجنة‏.‏
وقيل لعبد الله بن عُمر‏:‏ تُوُفي زَيدُ بن حارثة وترك مائة ألف قال‏:‏ لكنّها لا تتركه‏.‏
ودَخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يَعوده في مَرضه فرآه يُصَعِّد بصرَه في صُندوق في بَيْته ويُصَوَبه ثم التفت إلى الحسن فقال‏:‏ أبا سَعيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصُّندوق لم أؤَدً منها زكاة ولم أصِل بها رحماً فقال له‏:‏ ثَكِلَتْك أمك‏!‏ ولمن كنت تجمعها قال‏:‏ لِرَوْعة الزمان وجَفْوة السلطان ومُكاثرة العشيرة‏.‏
ثم مات فشَهِد الحسنُ جِنازَته فلما فرَغ من دَفنه ضرَب بيده القَبْر ثم قال‏:‏ انظرُوا إلى هذا أتاه شيطانُه فحَذّره رَوْعة زمانه وجفوة سُلطانه ومُكاثرة عشيرته عما استودعه اللّه واستعمره فيه انظُروا إليه يَخْرُج منها مَذْمُوماً مَدْحُوراً‏.‏
ثم قال‏:‏ أيها الوارث لا تُخْدَعَن كما خدِعَ صُوَيْحبك بالأمس أتاك هذا المالُ حَلالاً فلا يكونُ عليك وَبالا أتاك عَفْوًا صَفْوًا ممن كان له جَمُوعا مَنوعا من باطلٍ جَمَعه ومن حقٍّ مَنَعه قطع فيه لُجَج البِحار ومَفاوِز القِفار لم تَكْدَح فيه بَيمين ولم يَعْرِق لك فيه جَبِين إن يوم القيامة يومُ حَسْرَة وندامة وإن منِ أعظم الحَسَرَات غداً أن تَرى مالَك في ميزان غيرك فيالها حسرةً لا تُقال وتوبةَ لا تُنال‏.‏
لما حَضَرَتْ هِشامَ بن عبد الملك الوفاةُ نَظر إلى أهله يَبْكون عليه فقال‏:‏ جاد لكم هشام بالدًّنيا وجُدْتم له بالبُكاء وترك لكم ما جَمع وتركْتُمْ له ما عَمل ما أعظمَ مُنْقَلب هشام إن لم يَغْفر الله له‏!‏ نقصان الخير وزيادة الشر عاصم بن حُميد عن مُعاذ بن جَبَل قال‏:‏ إنكم لن تَرَوْا من الدنيا إلا بلاءً وفِتْنة ولا يزيد الأمر إلا شِدة ولا الأئِمّة إلا غِلَظا وما يأتيكم أمرٌ يَهُولًكم إلا حقّرَه ما بعده‏.‏
قال الشاعر‏:‏ الخَيرُ والشرُّ مُزْداد وُمنتقصٌ فالخير منتقص والشرُّ مُزدادُ وما أُسَائلُ عن قَوْم عرَفْتُهُمُ ذَوِي فَضَائلَ إلا قيل قد بادوا العزلة عن الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استأنسوا بالوُحدة عن جُلساء السَّوء‏.‏
وقال‏:‏ إنَّ الإسلام بدأ غريباً ولا تقوم الساعةُ حتى يعود غريباً كما بدأ‏.‏
وقال العتَّابي‏:‏ ما رأيتُ الراحةَ إلا مع الخَلْوَة ولا الأْنسَ إلا مع الوَحشة‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خَيركم الأتْقياء الأصْفياء الذين إذا حضروا لم يُعْرَفوا وإذا غابُوا لم يُفْتقَدُوا‏.‏
وقال‏:‏ لا تَدَعوا حَظَّكم من العزلة فإنَّ العُزْلة لكم عبادة‏.‏
وقال لُقْمان لابنه‏:‏ استعذ باللّه من شِرار الناس وكُن من خِيَارهم على حذَر‏.‏
وقال إبراهيم بن أدْهم‏:‏ فِر من الناس فِرَارَك من الأسد‏.‏
وقيل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ ِ لمَ تَجْتنب ارضَ بالله صاحبَا وَذَرِ الناس جانِبَا ‏"‏ قَلِّب الناسَ كيفا شِئت تَجدْهم عَقارِبا ‏"‏ وكان محمد بن عبد الملك الزيَّات يأنَسُ بأهل البَلادة ويسْتوْحش من أهل الذكاء فسُئِلِ عن ذلك فقال‏:‏ مَئونة التحفُّظ شديدة‏.‏
وقال ابن مُحَيْريز‏:‏ إن استطعتَ أن تعْرِف ولا تُعرَف وتَسأل ولا تُسأل وتمشي ولا يُمْشى إليك فافعل‏:‏ وقال أيوب السخْتياني‏:‏ ما أحب الله عبداً إلا أحب أن لا يُشْعَر به‏.‏
وقيل للعتَّابي‏:‏ من تُجالس اليوم قال‏:‏ من أبصُق في وجهه ولا يَغْضَب قيل له‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ الحائط وقيل لِدِعْبل الشاعر‏:‏ ما الوَحْشة عندك قال‏:‏ النظر إلى الناسِ ثم أنشأ يقول‏:‏ ما أكثر الناسَ لا بَلْ ما أَقلَّهم الله يَعْلَم أني لم أقُلْ فنَدَا إنِّي لأفْتَحُ عَيْني حين أفتَحُها على كَثير ولكن لا أرَى أحِدا وقال ابن أبيَ حازم‏:‏ طِبْ عن الإمْرة نفساً وارْضَ بالوَحْشَة أنساً ما عليها أَحدٌ يَسْ وى على الخِبْرة فَلْسَا وقال آخر‏:‏ صار َأَحلى الناس في الْع - ينْ إذا ما ذِيق مُرّا إعجاب الرجل بعلمه قال عمرُ بنُ الخطّاب‏:‏ ثلاثٌ مُهْلِكات‏:‏ شُحٌ مُطاع وهوًى مُتَّبع وإعجاب المَرْء بِنَفْسه‏.‏
وفي الحديث‏:‏ خيرٌ من العُجْب بالطاعة أن لا تأتي طاعةً‏.‏
وقالوا‏:‏ ضاحكٌ مُعْترف بذَنْبه خيرٌ من باكٍ مُدِلّ على ربه‏.‏
وقالوا‏:‏ سيّئة تُسيئك خيرٌ من حَسنة تُعْجِبك‏.‏
وقال الله تَبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تَرَ إلى الَذين يًزكَونَ أنْفُسَهم بَل الله يُزَكِّي مَنْ يشاء ‏"‏‏.‏
وقال الحسن‏:‏ ذمُ الرجل لنفسه في العَلاَنية مَدْحٌ لها في السريرة‏.‏
وقالوا‏:‏ مَن أظهر عَيْبَ نفسه فقد زَكاها‏.‏
وقيل‏:‏ أوحى اللهّ إلى عبده داود‏:‏ يا داود خالِقِ الناسَ بأخلاقهم واحتجزْ الإيمان بيني وبينك‏.‏
وقال ثابت البُنَانِيّ‏:‏ دخلتُ على داود فقال لي‏:‏ ما جاء بك قلت‏:‏ أزُورك قال‏:‏ ومَن أنا حتى تزُورَني أمن العُبّاد أنا لا والله أم من الزهاد لا واللّه‏.‏
ثم أقبل على نَفسه يُوبّخها فقال‏:‏ كنتُ في الشًبيبة فاسقا ثم شِبْتُ فَصِرْتُ مرائياً واللّه إنّ المُرائي شرٌ من الفاسق‏.‏
لقى عابدٌ عابداً فقال أحدُهما لصاحبه‏:‏ والله إني أحبُّك في الله قال‏:‏ واللّه لو اطلعت على سَريرتي لأبْغَضْتَني في اللهّ‏.‏
وقال مُعاوية بنُ أبي سُفيان لرجل‏:‏ مَن سيِّد قومك قال‏:‏ أنا قال‏:‏ لو كنتَ كذلك لم تَقُله‏.‏
وقال محمود الوراق‏:‏ تَعْصى الإله وأنت تُظْهِر حُبَّه هذا مُحالٌ في القياس بَدِيعُ لو كنتَ تضمر حبه لأطعته إنّ المُحِبّ لمن أحَبَّ مُطِيع ‏"‏ في كل يوم يَبْتليك بِنِعْمةٍ منه وأنت لشكر ذاك مُضِيع ‏"‏ وقال أبو الأشَعث‏:‏ دَخلنا على ابن سِيرين فوجدناه يُصلي فظَن أنا أعجبنا بصلاته ‏"‏ فأراد أن يَضع نفسه عندنا ‏"‏ فلما انفَتل منها التفت إلينا وقال‏:‏ كانت عندنا امرأة تضع يدها على فرجها وتقول‏:‏ حاجتكم تحت يدي‏.‏
الرياء زيادٌ عن مالك قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إياكم والشِّرْكَ الأصغر قالوا‏:‏ وما الشِّرك الأصغر يا رسول اللّه قال‏:‏ الرِّياء‏.‏
وقال عبدُ الله ابن مسعود‏:‏ سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا رِياءَ ولا سمعة من سَمَع سَمَّع الله به‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أسرًّ آمرؤٌ سريرةً إلا ألْبسه الله رِداءها إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر‏.‏
وقال لُقمان الحكيم لابنه‏:‏ احذَر واحدةً هي أهلٌ للحذر قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ إياك أن تُرِيَ الناسَ أنك تَخْشىَ اللهّ وقَلْبُكَ فاجر‏.‏
وفي الحديث‏:‏ من أصلح سريرَته أصلح الله علانِيَته‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ وإذا أظْهرتَ شيئاً حسناً فَلْيَكُن أحسَنَ منه ما تُسِرّ فَمُسِر الخير مَوْسومٌ به ومُسِرً الشرً مُوْسُوم بِشرّ صلّى أشعب فخفَّف الصلاة فقِيل له‏:‏ ما أخفَّ صلاتَك‏!‏ قال‏:‏ إنه لم يُخالِطْها رِياء‏.‏
وصلى رجلٌ من المُرائين فقيل له‏:‏ ما أحسنَ صلاَتك‏!‏ فقال‏:‏ ومع ذلك إني صائم‏.‏
وقال طاهرُ بنِ الحُسين لأبي عبد الله المَرْوزِيّ‏:‏ كم لك منذُ نزلتَ بالعِراق قال‏:‏ منذُ عشرين سنةَ وأنا أصوم الدهرَ منذ ثلاثين سنة‏.‏
قال‏:‏ أبا عبد الله سألتًك عن مسألة فأجبتني عن مسألتين‏.‏
الأصمعيُ قال‏:‏ أخبرني إبراهيمُ بن القَعقاع بن حَكيم قال‏:‏ أمر عمر بن الخطاب لرجلٍ بِكيس فقال الرجُل‏:‏ آخُذ الخَيْط قال عمر‏:‏ ضَع الكِيس‏.‏
قال رجل للحسن وكَتب عنده كِتاباً‏:‏ أتجعلني في حِل من تُراب حائِطك قال‏:‏ يا بن أخي وَرَعُك لا يُنْكر‏.‏
وقال محمود الوراق‏:‏ أظهرُوا للنَّاس دِيناً وعلى الدَينار دارُوا وله صامُوا وصلًّوا وله حَجوا وزَارُوا وقال مُساور الوَرَّاق‏:‏ شمر ثِيابَك واستعدَ لقائلٍ واحككْ جَبينَك للقَضاء بثُوم وعليك بالغَنَوِيّ فاجْلِسْ عنده حتى تُصِيب وَديعة لِيَتيمَ وإذا دَخَلْتَ على الرَّبيع مُسلِّماً فاخصُص سَيابةَ منك بالتَّسليم وقال‏:‏ تصوَّفَ كَيْ يُقال له أمين وما يَعْني التَّصوفَ والأمانَهْ ولم يُرِد الإله به ولكنْ أراد به الطريقَ إلى الخيانهْ وقال الغَزّال‏:‏ يقولُ لي القاضي مُعاذٌ مُشاوِراً ووَلّى آمرأً فيما يَرى من ذَوِي العَدْل قَعِيدَك ماذا تَحْسَب المرء فاعلاً فقلت وماذا يَفْعل الدَّبْر في النَّحْل يَدُقّ خَلاَياها ويَأْكُل شًهْدَها ويَترك للذِّبّان ما كان من فَضْل ‏"‏ وقال أبو عثمان المازنيّ لبعض من راءى فهتك الله عز وجل سِتره‏:‏ بَينا أنا في تَوْبتي مُستَعْبِرا قد شَبًهوني بأبي دُوَاد وقال ابن أبي العتاهية‏:‏ أرسلني أبي إلى صُوفيّ قد قَيّر إحدى عينيه أسأله عن المعنى في ذلك فقال‏:‏ النَّظرُ إلى الدنيا بكلتا عينيّ إسراف‏.‏
قال‏:‏ ثم بدا له في ذلك فاتصل الخبر بأبي فكتب إليه‏:‏ مُقَيرَ عينِه وَرَعَا أردتَ بذلك البِدَعا خَلَعْتَ وأخبثُ الثقلي ن صُوفي إذا خَلعا ‏"‏ يحيى بنُ عبد العزيز قال‏:‏ حدَّثني نُعيم عن إسماعيل رجل من ولد أبي بكر الصدِّيق عن وَهْب بن مُنَبِّه‏.‏
قال‏:‏ نَصب رجلٌ من بني إسرائيل فخًّا فجاءت عُصفورة فوقعت عليه فقالت‏:‏ مالي أَراك مُنْحنياً قال‏:‏ لكثرة صَلاتي انحنيتُ قالت‏:‏ فمالي أراك باديةً عِظامُك قال‏:‏ لكثرة صِيامي بَدَت عِظامي قالت‏:‏ فمالي أرى هذا الصوف عليك قال‏:‏ لِزَهادتي في الدُّنيا لَبِسْتُ الصُوف قالت‏:‏ فما هذه العصا عندك قال أتوكّا عليها وأقضي بها حوائجي قالت‏:‏ فما هذه الحبة في يَدِك قال‏:‏ قُرْبان إنْ مرّ بي مِسْكين ناولتُه إياه قالت‏:‏ فإني مِسْكينة قال‏:‏ فخُذيها‏.‏
فقَبَضت على الحبّة فإذا الفخ في عُنقها فجعلت تقول‏:‏ قَعِي قعِي‏.‏
قال الحسن‏:‏ تَفْسيره‏.‏
لا غَرني ناسكٌ مُراءٍ بعدك أبداً‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:09 AM

الدعاء
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الدُّعاء سِلاحُ المُؤمن والدُعاء يَرُدّ القَدر والبرُّ يزيد في العُمر‏.‏
وقالوا‏:‏ الدُّعاء بي الأذان والإقامة لا يُرد‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ استقبلوا البلاءَ بالدُّعاء‏.‏
وقال اللهّ تعالى‏:‏ ‏"‏ ادْعُوني أسْتَجبْ لَكُم ‏"‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلَوْلا إذْ جاءَهُم بَأسُنَا تَضَرّعُوا ولكِنْ قَسَتْ قُلُوبهم له‏.‏
وقال عبد الله بن عباس‏:‏ إذا دعوتَ الله فاجعل في دُعاثك الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة عليه مَقْبولة واللّه أكْرم من أن يَقْبل بعضَ دُعائك ويَرُد بعضاً‏.‏
وقال سعيدُ بن المسيب‏:‏ كنت جالساً بين القَبْر والمِنْبر فسمعت قائلاً يقول‏:‏ اللهم إني أسألك عملاً باراً ورِزْقاً دارًّاً وعَيْشاً قارًا‏.‏
فالتفتًّ فلم أرَ أحداً‏.‏ هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ كنت نائمةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ النًصف‏!‏ من شَعبان فلما ألْصِق جِلْدِي بجلده أغفيتُ ثم انتبهتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي فأدركني ما يُدرك النِّساء من الغَيْرة فلَفَفْت مِرْطي أما والله ما كان خَزًّا ولا قَزًا ولا دِيباجاً ولا قُطناً ولا كَتَاناً قيل‏:‏ فما كان يا أمّ المؤمنين قالت‏:‏ كان سَدَاه ومن شَعر ولُحْمته من أوبار الإبل‏.‏
قالت‏:‏ فنَحَوْتُ إليه أطلبُه حتى ألفيته كالثًوب الساقط على وَجهه في الأرض وهو ساجدٌ يقول في سُجوده‏:‏ سَجد لك خَيالي وسوادي وآمَن بك فُؤادي هذه يَدي وما جَنَيْتُ بها على نفسي ‏"‏ يا مَن ‏"‏ تُرَجَّى لكل عَظيم فاغفر لي الذنب العَظيم‏.‏
فقلتُ‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللهّ إنّك لفي شأن وإني لفي شأن‏.‏
فرَفع رأسَه ثم عاد ساجداً فقال‏:‏ أعوذ بوَجْهك الذي أضاءت له السمواتُ السَّبع والأرضون السبع من فجْاة نِقْمتك وتحوّل عافيتك ومن شرِّ كتاب قد سَبق وأعوذ برِضاك من سُخْطك وبعَفْوك من عُقوبتك وبك مِنْك لا أحْصى ثناءً عليك أنت كما أثْنيت على نفسك‏.‏
فلما انصرف من صَلاته تَقَدَّمتُ أمامه حتى دخلتُ البيت ولي نَفَس عال فقال‏:‏ مالك يا عائشة فأخبرتهُ الخَبر فقال‏:‏ وَيْح هاتين الرُّكبتين ما لَقِيتا في هذه اللَيلة‏!‏ وَمَسح عليهما‏.‏
ثم قال‏:‏ أتدْرين أيّ ليلة هذه يا عائشة فقلتُ‏:‏ الله ورسولُه أعلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه الليلةُ ليلةُ النِّصف من شعبان فيها تُؤَقَّت الآجال وتُثَبًت الأعمال‏.‏
العُتبيّ عن أبيه قال‏:‏ خرجتُ مع عُمَر بن ذرّ إلى مكة فكان إذا لَبَّى لم يُلَبِّ أحدٌ من حُسن صوته فلما جاء الحَرَم قال‏:‏ يا رب ما زِلْنا نَهْبط وَهْدةً ونَصْعد أكمة ونَعْلو نَشَزاً وَيَبْدُو لنا عَلَم حتى جِئْناك بها نَقِبَةً أخفافها دبرة ظُهورُها ذا بلةً أسْنِمَتُهَا وليس أعظمُ المَؤونة علينا إِتعابَ أبداننا ولكن أعظم المؤونة علينا أن تَرْجِعَنا خائبين من رحمتك يا خيرَ من نَزَل به وكان آخَرُ يدعو بعَرفات‏:‏ يا رب لم أعْصِك إذ عصيتُك جَهْلاً مني بحقك ولا استخفافاً بعقوبتك ولكن الثقة بعَفْوك والاغترار بِسَتْرِك المُرْخَى علي مع الشَقْوة الغالِبة والقَدَر السابق فالآن مِن عذابك مَنِ يَسْتَنقذني وبِحَبْل مَن أعْتَصِم إن قطعْت حَبْلك عَني فيا أسفي على الوُقوف غداَ بين يدَيْك إذا قِيل للمُخِفَين جُوزوا وللمُذْنِبين حُطّوا‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ كان عروة بن الزُّبير يقول في مُناجاته بعد أن قُطِعت رِجْلُه ومات ابنه‏:‏ كانوا أربعةً - يعنِي بنيه - فأخذتَ واحداً وأبقيتَ ثلاثة وكُنَّ أربعاً - يعنِي يدَيْه ورِجليه - فأخذتَ واحدةَ وأبقيتَ ثلاثاً فلئن ابتليتَ لطالما عافيتَ ولئن عاقبت لطالما أنعمتَ‏.‏
وكان داود إذا دَعا في جَوْف الليل يقول‏:‏ نامت العيون وغارت النجومُ وأنت حَيٌّ قَيوم اغفر لي ذَنبي العظيم فإنه لا يَغْفر الذنبَ العظيم إلا العظيم إليك رفعت رأسي نَظَر العَبْدِ الذليل إلى سيّده الجليل‏.‏
وكان من دُعاء يوسف‏:‏ يا عُدّتي عند كُرْبتي ويا صاحبيِ في غُربتي ويا غَايَتي عند شِدّتي ويا رَجائي إذا انقطعت حِيلتى اجعل لي فَرَجاَ وَمَخْرجاً‏.‏
وكان عبدُ الله بن ثعلبة البَصْريّ يقول‏:‏ اللهم أنت من حِلْمك تُعْصىَ وكأنك لا تَرى وأنت من جًودك وفَضْلك تُعطِي وكأنك لا تُعْطِيِ وأيّ زمان لم يَعْصك فيه سُكان أرْضك فكُنتَ عليهم بالعفو عوَاداً وبالفَضْل جَوَاداًَ‏.‏
وكان من دُعاء علي بن الحُسين رضي اللهّ عنه‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن تُحَسِّن في مَرأى العُيون عَلانِيَتي وتقَبِّح في خَفيات القُلوب سَرِيرتي اللهم وكما أسأتُ فأحسنتَ إليّ إذا عُدْتُ فعُدْ عليّ وارزقني مُواساة مَن قترَّت عليه ما وسَّعتَ عليَّ‏.‏
الشيبانيّ قال‏:‏ أصاب الناسَ ببغداد ريحٌ مُظْلمة فانتهيتُ إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سُجوده‏:‏ اللهم احفظ محمداً في أمته ولا تُشمِت بنا أعداءنا من الأمم فإن كنتَ أخذتَ العوام بذنبي فهذه ناصِيتي بين يديك‏.‏
وكان الفضيل بن عِيَاض يقول‏:‏ إلهي لو عَذَبتَني بالنار لم يَخْرُج حُبُّك من قَلبي ولم أنسَ أياديكَ عندي في دار الدنيا وقال عبد الله بنُ مسعود‏:‏ اللهم وَسِّع علي في الدنيا وزَهِّدني فيها ولا تُزْوِها عَني وتُرَغبني فيها‏.‏
مَرَّ أبو الدَّرداء برجل يقول في سُجوده‏:‏ اللهم إنيٍ سائلٌ فقير فأغْنِني من سِعَة فَضْلك خائفٌ مُستجير فأجِرْني من عَذابك‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كان عَطاءُ ابن أبي رَباح يقول في دُعائه‏:‏ اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتي وعند الموت صَرْعتي وفي القُبور وُحْدَتي ومَقامي غداً بين يديك‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ حدَّثني عبدُ الرحمن بن زياد قال‏:‏ اشتكي أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعوَ له فكتب إليه‏:‏ حُقَّ لمن عَمِل ذنبا لا عُذْر له فيه وخاف مَوتاً لا بُدَ له منه ‏"‏ أن يكون مُشْفِقاً ‏"‏ سأدعو لك ولستُ أرجو أن يُستجاب لي بقوةٍ في عَمل وبراءة من ذنْب‏.‏
العُتْبيّ قال‏:‏ كان عبد الملك بن مَرْوان يَدْعو على المِنْبر‏:‏ يا ربّ إن ذُنوبي قد كَثُرت وجَلّت عن كيف يكون الدعاء سفيان بن عُيَينة عن أبي مَعْبد عن عِكْرمة عن ابن عبّاس قالت‏:‏ الإخلاص هكذا وبَسط يدَه اليُسرى وأشار بإصْبعه من يده اليُمْنى والدعاء هكذا وأشار برَاحتيه إلى السَّماء والابتهال هكذا ورفع يديه فوق رأسه وظُهورهما إلى وجهه‏.‏
سُفيان الثَوريّ قال‏:‏ دخلتُ على جَعفر بن محمد رضي اللهّ عنهما فقال لي‏:‏ يا سُفيان إذا كثر ت هُمومك فأكْثِر من لا حَوْلَ ولا قُوّة إلا باللّه العليّ العَظيم وإذا تَداركتْ عليك النِّعم فأكْثِر من الحَمْد لله وإذا أبطأ عنك الرّزْق فأكثر من الاستغفار‏.‏
وقال عبد الله بن عبّاس‏:‏ لا كَبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصْرار‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه‏:‏ عجباً ممن يَهْلك والنجاة معه‏!‏ قيل له‏:‏ وما هي قال‏:‏ الاستغفارُ‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصِّديق وعمر رضوان الله عليهما
أم سَلمة قالت‏:‏ كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا مُقَلِّب القُلوب ثَبِّت قَلْبي على دِينك‏.‏
المًغِيرة بن شُعْبة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الصلاة يقول‏:‏ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له له المُلْك وله الحَمْد وهو على كلِّ شيء قدير‏.‏
وكان آخرُ دُعاء أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في خُطْبته‏:‏ اللهم اجعلْ خيرَ زَماني آخرَه وخيرَ عَملي خواتِمَه وخيرَ أيامي يومَ لِقائك‏.‏
وكان آخرُ دُعاء عمرَ رضي الله عنه في خُطبته‏:‏ اللهم لا تَدَعْني في غَمْرة ولا تَأخًذْني في غرة ولا تَجْعلني من الغافِلين‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif الدعاء عند الكرب
عبد الله بن مَسْعود قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ما مِن عَبدِ أصابه هَم فقال‏:‏ اللهم إنَي عبدك وابن عَبْدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حُكْمك عَدْل فيّ قضاؤك أسألك بكلِّ اسمٍ سَمَيت به نَفْسَك أو ذَكرْتَه في كتابك أو عَلًمته أحداً من خَلْقك أو استأثرت به في عِلْم الغَيْب عندك أن تجعل القرآن ضِياءَ صَدْري ورَبيعَ قَلْبي وجَلاء حُزْني وذهاب هَمِّي إلا اذهَب الله هَمَه وبدَّله مَكانَ حُزْنه فرحاً‏.‏
وقالوا‏:‏ كلماتُ الفَرَج من كُلِّ كرْب‏:‏ لا إله إلا الله الكريم الحَلِيم وسُبْحان اللّه رَبِّ العَرْش الكلمات التي تلقى آدم بها ربه اللهمّ لا إله إلا أنتَ سُبْحانك وبِحَمْدك عَمِلْتُ سُوءًا وظلمتُ نَفْسي فَتُبْ عليّ إنك أنتَ التوَّاب الرحيم‏.‏
اسم الله الأعظم عبد الله بنُ يَزيد عن أبيه قال‏:‏ سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول‏:‏ اللهمَّ إنِّي أسألك بأنَّك أنت الله الأحد الصَّمد الذي لم يَلِد ولم يُولد ولم يَكُن له كُفُواً أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب وإذا سُئِل به أعطى‏.‏
أسماءُ بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ اسم الله الأعظم فيما بي الآيتَيْن‏:‏ ‏"‏ وَإلهكُم إله واحِد لا إله إلا هُو الرَّحْمن الرَّحيم ‏"‏ وفاتحة آل عمران‏:‏ ‏"‏ الم الله لا إله إلا هو الحَيُ القَيوم ‏"‏‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif الاستغفار
شَدّاد بن أوْس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سَيد الاستغفار أن تقول‏:‏ اللهم أنت ربٌي لا إلهِ إلا أنْتَ خَلَقْتني وأنا عَبْدُك وأنا على عَهْدك وَوعْدك ما استطعتُ أعوذ بك من شر ما صَنَعْتُ أبوء لك بِنِعْمتك علي وأبوء بِذَنبي فاغفِر لي إنه لا يَغْفر الذنوب إلا أنت‏.‏
الأسْود وعَلْقمة قالا‏:‏ قال عبد الله بن مَسعود‏:‏ إنَّ في كتاب الله آيتَين ما أصاب عبدٌ ذَنباً فقرأهما ثم استغفر الله إلا غُفر له‏:‏ ‏"‏ والَّذين إذا فَعلُوا فاحشةً أو ظَلَموا أنْفُسهم ‏"‏ إلى آخر الآية ‏"‏ ومَنْ يَعْمَل سُوءًا أو يَظْلم نَفْسَه ثم يَسْتغْفر الله يجِد الله غَفُوراً رَحيماً ‏"‏ أبو سَعيد الخُدْرِيّ قال‏:‏ مَن قال‏:‏ أسْتغفر اللهّ الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم وأتُوب إليه خمس مَرّات غفِر له ولو فر من الزَّحف‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif دعاء المسافر
عِكْرمة عن ابن عبّاس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَراً قال‏:‏ اللهم أنت الصاحبُ في السفر والخَليفة في الحَضر‏.‏
اللهم إنَي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحوْر بعد الكوْر ومن سُوِء المنظر في الأهل والمال‏.‏
الشّعْبيُّ عن أمّ سَلَمة قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سَفر يقول‏:‏ اللهم إنِّي أعوذ بك أن أذِلّ أو أضلً أو أظلِم أو أُظْلَم أو أجهل أو يُجْهل عليّ‏.‏
وقالت‏:‏ مَن خرج في طاعة الله فقال‏:‏ اللهم إنَي لم أخرج أشراً ولا بَطَراً ولا رِيَاء ولا سُمعة ولكنّي خرجتُ اْبتغاءَ مَرْضاتك واتقاء سُخْطك فأسألك بحقك على جميع خَلْقك أن تَرْزُقني من الخير أكثر ممّا أرجو وتَصرْف عنّي من الشر أكثر مما أخاف‏.‏
استجيب له بإذن اللّه‏.‏
سعِيد بن جُبَير عن ابن عبّاس قال‏:‏ إذا دخلتَ على السلطان وهو مَهيبٌ تخاف أن يسْطو عليك فقُل‏:‏ الله أكْبر وأعزّ مما أخاف وأحذَر اللهم ربّ السَّموات السَّبع وربّ العرش العظيم كُنْ لي جاراً منِ عَبدك فلان وجنوده وأشياعه وأتباعه تبارك اسمك وجلَّ ثناؤك وعزّ جارًك ولا إله غيْرك أبو الحسن المدائنيّ قال‏:‏ لما حَجّ أبو جَعْفر المنصور مَر بالمدينة فقال للرَّبيع‏:‏ عليَّ بجعفر بن مُحمد قتلني الله إن لم أقتله‏.‏
فمُطِل به ثم ألَحَ فيه فحَضر‏.‏
فلما كُشِف السِّتْر بينه وبينه ومَثُل بين يدَيْه هَمَس جعفر بشَفَتيه ثم تقَرَب وسلّم فقال‏:‏ لا سلّم اللهّ عليك يا عدو الله تُعْمِل على الغوائلَ في مُلْكِي قَتلَني الله إن لم أقتُلك‏.‏
فقال له جعفر‏:‏ يا أمير المؤمنين إن سُليمان صلى الله عليه وسلم أعْطِيَ فشكر وإن أيوب ابتليَ فَصَبَر وإن يوسف ظُلِم فَغَفَر وأنت على إرْثٍ منهم وأحَقُّ من تأسىَّ بهم فنكس أبو جعفر رأسه مَليًّا ثم رفع إليه رأسه وقال‏:‏ إلي يا أبا عبد الله فأنتَ القريبُ القرابة وإنك ذو الرَّحم الواشِجة السَّليم الناحية القَليل الغائلة ثم صافحه بيَمينه وعانقه بِيَساره وأجْلسه معه على فِراشه وانحرف له عن بَعْضه وأقْبل عليه بوَجْهه يُسائله ويُحادثه ثم قال‏:‏ عجلوا لأبي عبد الله إذنه وكُسْوته وجائزته‏.‏
قال الرّبيع‏:‏ فلما خرج وأسْدل الستر أمسكتُ بثَوْبِه فارتاع وقال‏:‏ ما أرانا يا ربيع إلا قد حُبِسنا قلتُ‏:‏ هذه منِّي لا مِنْه قال‏:‏ فذلك أيْسر قلْ حاجتَك قلت‏:‏ إنِّي منذ ثلاثٍ أدافع عنك وأدَاري عليك ورأيتُك إذ دخلتَ هَمَسْت بِشَفَتيك ثم رأيتُ الأمرَ انجلى عنك وأنا خادم سُلطان ولا غِنى بي عنه فأًحِب منك أن تُعَلِّمَنيه قال‏:‏ نعم قُل‏:‏ اللهم احرسني بعَيْنك التي لا تنام واكنُفْني بكنَفَك الذي لا يُرام ولا أهْلِك وأنت رجائي فكم من نِعمة أنْعَمْتها عليّ قَلّ عندها شكْري فلمِ تَحْرِمْني وكم من بليَّة ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تَخْذًلْني اللهم بك أدْرأ في نحْره وأعوذ بخيْرك من شرِّه‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif الدعاء على الطعام
مَن قال على طعامه‏:‏ بسم اللهّ خير الأسماء في الأرض وفي السماء ولا يَضُر مع اسمه داء اللهم اجعل فيه الدَّواء والشِّفَاء لم يضُرّه ذلك الطعام كائناً ما كان‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال‏:‏ الحمد للّه الذي مَنَ علينا وهَدانا وأطعمنا وأرْوانا وكل بلاء حَسن أبْلانا‏.‏


الدعاء عند الأذان
مَن قال إذا سَمِع الأذان‏:‏ رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمّد نبيًّا غفر له ذنوبه‏.‏
وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا سَمِعْتّم الأذان فقُولوا مِثْل ما يقول المؤذِّن‏.‏

الدعاء عند الطيرة
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنْ رأى من الطيْر شيئا يَكرهه فقال‏:‏ اللهم لا طَيْر إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غَيرك لم يَضِره‏.‏
الساعة التي يستجاب فيها الدعاء الفُضَيل عن أبي حازم عن أبي سَلمة بن عبد الرحمن عن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى التعويذ أنس بن مالك قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اللهم إنّي أعوذ بك من علم لا يَنْفَع وقَلْب لا يَخشَع ودُعاء لا يُسمع ونَفْس لا تَشْبَع 0 ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من هذه الأربع ‏"‏‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قال إذا أمْسى وأصْبح‏:‏ أعوذ بكلمات اللهّ التامات المباركات التي لا يجاوزهن بَرٌ ولا فاجر من شرِّ ما يَنزل من السماء ومن شرِّ ما يعرُج فيها ومن شرِّ ما ذرَأ في الأرض وما يَخْرُج منها لم يضره شيء من الشياطين والهوامّ‏.‏
مَسْروق عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسن والحُسين رضي اللهّ عنهما بهذه الكلمات‏:‏ أعِيذكما بكلمات الله التامَّة من كل عَينٍ لامّة ومن كل شَيطان وهَامَة‏.‏
وكان إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ بها إسماعيل وإسحاق‏.‏
وقال أعرابي يصف دَعْوة‏:‏ وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتَغِي مَحَلاً ولم يَقْطَعْ بها البِيدَ قاطعُ ‏"‏ سَرَتْ حيث لم تَسْرِ الرِّكابُ ولم تُنخ لورْد ولم يَقْصرُ لها القَيْدَ مانع ‏"‏ تَظلُّ وَرَاء اللَيل والليلُ ساقِطٌ بأوْرَاقه فيه سميرٌ وهاجع إذا سألَتْ لم يَردد الله سُؤْلَها على أهْلِها والله راءٍ وسامع وإني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظنّ ما اللهّ صانع ومن قولنا في هذا المعنى‏:‏ بُنَيٌ لئن أعيا الطبيبَ ابن مُسلم ضَنَاك وأعْيا ذا البَيان المُسَجَّع لأبْتَهِلَنْ تحتَ الظلام بِدَعْوَةٍ متى يَدْعها داع إلى الله يُسمع يُقلقل ما بين الضلوعَ نَشيجُها لها شافِع من عَبْرَةٍ وتضرُّع إلى فارجِ الكَرْب المُجيب لمن دعا فَزَعْتُ بكَرْبي إنه خير مَفْزع فيا خير مَدْعُوّ دعوتُك فاسْتَمع ومالِي شَفيع غير فضلك فاشْفَع



كتاب الدرة في التعازي والمراثي
قال أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه‏:‏ قد مضى قولنا في الزُهد ورجاله المَشْهورين‏.‏
ونحن قائلون بعَون الله ‏"‏ وتوفيقه ‏"‏ في النَّوادب والمراثي والتَعازي بأبلغ ما وَجدناه من الفِطر الذكيّة والألفاظ الشجيّة التي تُرقّ القلوبَ القاسية وتذيب الدموع الجامدة مع اختلاف النَّوادب عند نزول المصائب فنادبة تُثير الحُزْن من رَبْضَته وتَبعث الوَجْدَ من رَقْدَته بصوتٍ كترجيع الطَير تُقَطًعِ أنفاسَ المآتم وتترك صدْعاً في القلوب الجلامد ونادبة تَخْفِض من نَشِيجها وتقْصِد في نحيبها وتَذهب مَذْهَب الصبر والاستسلام والثِّقة بجزيل الثواب‏.‏
قال عمر بن ذَرّ‏:‏ سألتُ أبي‏:‏ ما بالُ الناس إذا وعظتَهم بَكَوْا وإذا وَعظهم غيرُك لم يَبكوا قال‏:‏ يا بُني ليست النائحة الثَكلى مثلَ النائحة المُستأجَرَة‏.‏
وقال الأصمعيّ‏:‏ قلتُ لأعرابيّ‏:‏ ما بالُ المراثي أشرفُ أشعاركم قال‏:‏ لأنّا نقولُها وقلوبنا مُحْترقة‏.‏
وقالت الحكماء‏:‏ أعظم المصائب كلّها انقطاعِ الرّجاء‏.‏
وقالوا‏:‏ كلُّ شيء يَبدو صغيراً ثم يَعْظُم إلا المصيبةَ فإنها تبدو عظيمة ثم تصْغُر‏.‏
القول عند الموت الأصمعيّ عن مُعْتمر عن أبيه قال‏:‏ لقِّنوا مَوْتاكم الشَّهادة فإذا قالوها فدَعوهم ولا تُضْجروهم‏.‏
وقال الحسن‏:‏ إذا دخلتم على الرجل في المَوت فبَشِّروه لِيَلْقى ربّه وهو حسن الظنّ به وإذا كان حيًّا فخَوِّفوه‏.‏
ولَقِي أبو بكر طلحةَ بن عبيد الله فرآه كاسفَاً مُتَغَيراً لونُه فقال‏:‏ مالي أراك مُتَغَيِّراً لونُك قال‏:‏ لكلمة سمعتها منَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسأله عنها قال وما ذاك قال‏:‏ سمعتُه يقول‏:‏ إني أعلم كلمة مَن قالها عند الموت مَحَّصت ذُنوبَه ولو كانت مثلَ زَبَد البحر فأنْسِيت أن أسأله عنها‏.‏
قال أبو بكر‏:‏ أعَلِّمُكَها وهي‏:‏ لا إله إلا اللّه‏.‏
أبو الحُبَاب قال‏:‏ لما احتضر مُعاذ قال لخادمته‏:‏ وَيْحكِ‏!‏ هل أصْبَحْنَا قالت‏:‏ لا ثم تركها ساعةً ثم قال لها‏:‏ انظُري فقالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أعوذ باللهّ من صباحٍ إلى النار‏.‏
ثم قال‏:‏ مَرْحباً بالموت مَرْحباً بزائر جاء علىِ فاقة أفلح من نَدِم‏.‏
اللهم إنك تعلم أني لم أحِبّ البقاء في الدنيا لِجَرْي الأنهار وغرْس الأشجار ولكن لمُكابدة اللَّيل الطويل وظمأ الهَواجر في الحرّ الشديد ومُزاحمة العُلماء بالرًّكب في مجالس الذِّكر‏.‏
ولما حضرت الوفاةُ عمرَ بن عُتبه قال لرفيقه‏:‏ نَزَلَ بي الموتُ ولم أتأهّب له اللهم إنك تعلم أنه ما سَنح لي أمران لك في أحدهما رضاً ولي في الآخر هوًى إلا آثرْتُ رِضَاك على هَوَاي‏.‏
ولما حضرَت الوفاةُ عمَر بنَ الخطاب‏:‏ قال لوَلده عبد الله بنِ ابن السمَّاك قال‏:‏ دخلتُ على يزيد الرَّقاشي وهو في الموت فقال لي‏:‏ سَبَقَني العابدون وقُطع بي والهْفَاه‏!‏ موسى الأسْوارِيّ قال‏:‏ دخلتُ على أزْدامَرْد وهو ثَقيل فإذا هو كالخُفَّاش لم يَبْقَ منه إلا رَأْسُه فقُلْت له‏:‏ يا هذا ما حالُك قال‏:‏ وما حالُ من يُرِيد سفراً ‏"‏ بعيداً ‏"‏ بغير زاد ويَنطلق إلى ملك عَدْل بغير حُجَّة ويَدْخُل قبراً مُوحشاَ بغير مُؤْنس قال عمرُ بن عبد العزيز لأبي قِلاَبة وقد وَلي غَسْل ابنه عبد الملك‏:‏ إذا غَسّلته وكَفَّنتَه فآذنِّي قبل أن تُغَطِّي وجهه فَفَعل فنظر إَليه وقال‏:‏ رَحمك اللّه يا بُني وغَفَر لك‏.‏
ولما مات محمد بن الحجَّاج جَزع عليه جَزَعاً شديداً وقال‏:‏ إذا غسَّلتموه وكَفَّنتُموه فآذنوني ففعلوا فنظر إليه وِقال مُتمثّلاً‏:‏ الآن لما كنتَ أكملَ مَنْ مَشى واْفترّ نابُك عن شَباة القارِح وتكاملتْ فيك المُروءة كُلُّها وأعنت ذلك بالفعال الصالح فقيل له‏:‏ اتّق اللّه واسترجع فقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك‏:‏ كيف تجدك يا بُني قال‏:‏ أجِدُني في الموت فاحْتَبِسني فإنّ ثوابَ اللّه خيرٌ لك منّي قال‏:‏ واللَّه يا بُني لأن تكون في ميزاني أحب لي أن أكون في ميزانك قال‏:‏ وأنا واللهّ لأن يكون ما تُحب أحبَّ إليّ من أن يكون ما أحِب‏.‏
لما احتضر عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مَسْلمة بنُ عبد الملك فأذِن له وأمره أن يُخفِّف الوَقْفة فلما دخل وقف عند رأسه فقال‏:‏ جَزاك اللّه يا أميرَ المؤمنين عنّا خيراً فلقد ألنت لنا قُلوباً كانت علينا قاسية وجعلت لنا في الصالحين ذِكْراً‏.‏
حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنَس بن مالك قال‏:‏ كانت فاطمةُ جالسةً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فتراكبت عليه كُرَب الموت فرفع رأسه وقال‏:‏ واكَرْباه‏!‏ فبكت فاطمة وقالت‏:‏ واكَرْباه لكَرْبك يا أبتاه‏!‏ قال‏:‏ لا كَرْب على أبيك بعد اليوم‏.‏
الرِّياشي عن عثمان بن عُمَر عن إسرائيل عن مَيْسرة بن حبيب عن المِنْهال بن عمرو عن عائشة بنت طَلْحَةَ عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت‏:‏ ما رأيتُ أحداً من خَلْق الله أشبه حَدِيثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة وكانت إذا دخلتْ عليه أخذ بيدها فقبَّلها ورَحَب بها وأجْلسها في مَجْلسه وكان إذا دخلِ عليها قامت إليه ورَحَّبَت به وأخذت بيده فقبَّلتها‏.‏
فدخلتْ عليه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأسرَّ إليها فبكت ثم أسرّ إليها فضَحِكت‏.‏
فقلتُ‏:‏ كنتُ أحسَبُ لهذه المَرأة فضلاً على النِّساء فإذا هي واحدةٌ منهنّ بينما هي تَبكي إذا هي تَضْحك‏.‏
فلما تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها فقالت‏:‏ أسرّ إليّ فأخبرني أنه مَيِّت فبكيتُ ثم أسرَ إليَّ أني أولُ أهل بَيته لُحُوقاً به فَضَحكتُ‏.‏
القاسم بن محمد عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ عنها‏:‏ أنها دخَلَت على أبيها في مرضه الذي مات فيه فقالت له‏:‏ يا أبَتِ اعهد إلى خاصتك وأنْفذ رأيك في عامّتك واْنقُل من دار جهازك إلى دار مُقامك وإنك مَحْضُور ومًتَصِل بقلبي لوْعتُك وأرى تخاذل أطْرافك وانتفاع لَوْنك فإلى ‏"‏ اللّه ‏"‏ تَعْزيتي عنك ولديه ثوابُ صَبْري عليك أَرْقأ فلا أرْقأ وأشْكُو فلا أشْكَى‏.‏
فرفعِ رأسه فقال‏:‏ يا بُنيّة هذا يوم يُحَلّ فيه عن غِطائي وأعاين جزائي إنْ فرٍحاً فدائم وإنْ تَرَحاً فمُقيم‏.‏
إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعةً والحذر تَفْريطاً فشَهيدي اللّه ما كان بقلبي إلا إياه فتَبلَغت بصَحْفتهم وتعلّلت بدرّة لقْحَتهم وأقمت صَلاَي معهم لا مُخْتالاً أشِراً ولا مُكابِراً بَطِراً لم أعْدُ سَدَّ الجوْعة وتوْرية العَوْرة طَوًى مُمغص تَهْفُو له الأحْشاء وتَجِبً له الأمعاء واضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيف الآجن فإذا أنا مِتُّ فردِّي إليهم صَحْفتهم ولَقْحَتهم وعَبْدَهم ورحَاهم ودِثَارة ما فوقي اتقيت بها أذى البرد ووِثارة ما تحتي اتقيتُ بها أذىَ الأرْض كان حَشْوهُما قِطَع السَّعف‏.‏
ودخل عليه عمر فقال‏:‏ يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كلفتَ القومَ بعدك تَعَبا ووَلَّيتهم نَصَبا فهيهات مِن شقّ غُبَارك فكيف باللحاق بك‏.‏
وقالت عائشة وأبوها يُغمَّض‏:‏ وأبْيَض يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهه رَبيع اليَتامى عصمة للأرامِل عليه فقالت‏:‏ لَعمرك ما يغني الثّرَاء عن الفَتى إذا حَشْرَجَت يوماً وضاق بها الصَّدْرُ قالت‏:‏ فنظر إليّ كالغضبان وقال لي‏:‏ قُولي‏:‏ ‏"‏ وَجَاءَتْ سَكْرةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلِك ما كُنْتَ منه تَحِيد ‏"‏‏.‏
ثم قال‏:‏ انظروا مُلاءَتيّ فاغْسلوهما وكفِّنوني فيهما فإن الحيَّ أحوجُ إلى الجديد من الميّت‏.‏
وقال مُعَاوية حين حَضرَته الوفاة‏:‏ أَلا لَيْتَني لم أغنَ في المًلْكِ ساعةً ولم أَكُ في اللَّذّات أعْشىَ النواظِرِ وكنْتُ كذِي طِمْرَيْنِ عاش بِبُلْغَةٍ لياليَ حتى زار ضَنْك المَقابِر لما ثَقُل مُعاوية ويزيدُ غائبٌ أقبل يزيد فوجد عُثمان بنَ محمد بن سُفيان جالساً فأَخذ بيده ودخل على مُعاوية وهو يجود بنفسه فكلَّمه يزيدُ فلم يُكلِّمه فبكى يزيدُ وتَضَوَّر مُعاوية ساعةً ثم قال‏:‏ أي بُنى إنّ أعظم ما أخافُ الله فيه ما كنتُ أصنع لك‏.‏
يا بني إني خَرجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ أصبّ الماء على يَدَيه فنَظَر إلى قميص لي قد انخرِق من عاتقي فقال لي‏:‏ يا مُعاوية‏:‏ ألا أكسُوك قميصاً قُلت‏:‏ بلى فكَساني قميصاً لم ألبَسْه إلا لَبْسَةً واحدة وهو عندي واجتز ذات يوم فأخذتُ جُزازة شَعرِه وقُلامَة أظفاره فجعلتُ ذلك في قارُورة فإذا مِتِّ يا بُني فاغْسِلْني ثم اجعل ذلك الشّعر والأظفار في عَيْنَيَّ ومِنْخَري وفميِ ثم اجعل قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعَاراً من تحت كَفَني إن نَفَع شيء نفع هذا‏.‏
لما احتُضِر عمرو بن العاص جمع بَنِيه فقال‏:‏ يا بَني ما تغنون عني من أمر اللّه شيئاً قالوا‏:‏ يا أبانا إنه الموت ولو كان غيرُه لَوَقَيْناكَ بأنفسنا فقال‏:‏ أَسْنِدُوني فأسْنَدوه‏.‏
ثم قال‏:‏ اللهم إنك أمرتني فلم أأْتمر وزَجَرتني فلم أَزْدَجِر اللهم لا قَوِي فأنتصر ولا بَريء فأعتذر ولا مُسْتكبر بل مُسْتغفر أستغفرك وأتوب إليك لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين‏.‏
فلم يَزَل يُكَرِّرها حتى مات‏.‏
قال‏:‏ وأخبرنا رجالٌ من أهل المدينة أنَّ عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته‏:‏ إنيِّ لستُ في الشرِّك الذي لو مِتُّ عليه أدْخِلْتُ النار ولا في الإسلام الذي لو مِتُّ عليْه أدخِلت الجنَة فمهما قَصَرْتُ فيه فإنِّي مُستَمْسِك بلا إله إلا اللهّ وقَبَض عليها يده وقُبض لوقته‏.‏
فكانت يده تفْتَح تترَك فَتَنْقَبض‏.‏
وقال لبَنِيه‏:‏ إنْ أنا مِتُّ فلا تَبْكوا عليّ ولا يتبعني مادح ولا نائحٌ وشًنُّوا عليِّ التراب شَنًّا فليس جَنْبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر ولا تجعلوا في قَبري خَشبةً ولا حَجَراً وإذا وارَيْتموني فاقعدوا عند قَبري قَدْرَ نَحْر جَزُور وَتَفْصِيلها أسْتَأنس بكم‏.‏



الجزع من الموت
الفُضَيل بن عِيَاض قال‏:‏ ما جَزع أحدٌ من أصحابنا عند الموت ما جزع سُفْيان الثوريّ فقلنا‏:‏ يا أبا عبد الله ما هذا الجَزَع أليس تَذْهَب إلى من عَبَدْته وفَرَرْت ببدنك إليه فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ إني أسْلُك طريقاً لم أعرفه وأقْدم علِى ربٍّ لِم أره‏.‏
ولما تُوُفِّي سعيدُ بن أبي الحسن وجد عليه أخوه الحسن وَجْداً شديداً فكُلِّم في ذلك فقال‏:‏ ما رأيتُ الله جعل الحُزن عاراً على يَعْقوب‏.‏
وقال صالح المًرِّي‏:‏ دخلتُ على الحسن وهو في الموت وهو يُكثِر الاسترجاعَ فقال له ابنه‏:‏ أمثْلك يَسترجع على الدنيا قال‏:‏ يا بُني ما أسْتَرجع إلا على نفسي التي لم أُصَب بمثلها قَطًّ‏.‏
ولما أمر معاوية بقتل حجْر بن الأدْبَر وأصحابه بَعث إليهم أكفانهمِ وأمر بأن تُفْتح قبورهم ويُقْتلوا عليها‏.‏
فلما قُدِّم حُجْر بن الأدبر إلى السيف جزعِ جزَعاً شديداً فقيل له‏:‏ أمثلُك يَجزعٍ من الموت فقال‏:‏ وكيف لا أجزع وأرى سيفاً مشهوراً وكفناً منشوراً وقَبْراً مَحفوراً‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif البكاء على الميت
الشَّعبي عن إبراهيم قال‏:‏ لا يكون البُكاء إلا من فَضْلٍ ‏"‏ قُوة ‏"‏ فإذا اشتد الحُزن ذَهَبَ البكاء‏.‏
فلئن بَكَيْناهُ لَحُقّ لنا ولئن تَرَكْنا ذاك للصَّبرِ فَلِمِثْله جَرَت العُيونُ دماً ولمثله جَمَدت ولم تَجْرِ مر الأحنف بامرأة تبكي مَيتاً ورجل ينهاها فقال‏:‏ دَعْها فإنها تَنْدُب عَهْداً قريباً وسَفراً بعيداً‏.‏
قالوا‏:‏ لما توُفَي إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم بكى عليه‏.‏
فسُئِل عن ذلك فقال‏:‏ تدمع العينان ويحزن القلب ولا نَقُول ما يُسْخِط الرب‏.‏
ومَر النبي صلى الله عليه وسلم بنِسْوة من الأنصار يَبْكين مَيِّتاً فزَجَرهنَّ عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ دَعْهن يا عُمر فإن النفسَ مُصابة والعينَ دامِعة والعهدَ قريب‏.‏
ولما بكت نساء أهل المدينة على قَتْلى أُحد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لكنَّ حمزةَ لا باكيةَ له‏.‏
فسَمِع ذلك أهلُ المدينة فلم يَقُمْ لهم مأتم ‏"‏ أبعدها ‏"‏ إلى اليوم إلا ابتدأ ‏"‏ النّساء ‏"‏ فيه بالبكاء على حمزة قالت النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا أن يُشَقّ على صَفيَّة ما دفنتهُ حتى يُحْشرً من حواصل الطير وبُطون السِّباع‏.‏
ولما نُعي النًّعمان بن مُقَرَّن إلى عمر بن الخطاب وضع يدَه على رأسه وصاح يا أسفي على النعمان‏.‏
ولما استُشهد زيد بن الخطاب باليمامة وكا صَحبه رجلٌ من بني عَدِيّ بن كعب فرَجع إلى المدينة فلما رآه عمرِ دَمَعَت عيناه وقال‏:‏ وقال عمرُ بنُ الخطاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏‏:‏ ما هَبت الصَّبا إلا وجدتُ نَسيم زيد‏.‏
وكان إذا أصابته مصيبة قال‏:‏ قد فقدتُ زَيداً فصبرتُ‏.‏
ولما تُوفي خالدُ بن الوليد أيام عمرَ بن الخطاب وكان بينهما هجرة فامتنع النساء من البكاء عليه‏.‏
فلما انتهى ذلك إلى عمر قال‏:‏ وما على نساء بني المغيرة أن يُرِقْنَ من دمعهن على أبي سُليمان ما لم يكن لَغْواً ولا لَقْلَقة‏.‏
وقال معاوية وذُكر عنده النساء‏:‏ ما مَرَّض المَرضى ولا نَدَب الموْتى مِثْلهنَّ‏.‏
وقال أبو بكر بن عيّاش‏:‏ نزلت بي مصيبة أوْجعتني فذكرتُ قولَ ذي الرُّمة‏:‏ لعل انحدار الدَّمع يُعْقِبُ راحةً من الوَجْد أو يَشْفي شَجِيّ البَلاَبِل فَخَلوتُ فبكيتُ فسلوتُ‏.‏
وقال الفرزدق في هذا المعنى‏:‏ ألم تَرَ أنّي يومَ جَوِّ سُوَيْقة بَكيتُ فنادَتني هُنَيْدَةُ ماليَا فقُلتُ لها إنَّ البُكاء لراحةٌ به يَشْتَفي من ظَنً أن لا تلاقيَا قعيدَ كما الله الذي أنتما له ألم تَسْمعا بالبِيضَتين المُنَاديا حَبِيبٌ دعا والرمل بَيني وبينه فأسمعنى سَقْياً لذلك داعِياً يقال‏:‏ قعيدك اللّه وقِعْدَك اللهّ معناه‏:‏ سألتك اللّه‏.‏
قال بعضُهم‏:‏ خرجنا مع زَيْد بن عليّ نُريد الحجَّ فلما بلغنا النِّبَاج وصرنا إلى مقابرها التفتَ إلينا فقال‏:‏ لكُلِّ أًناس مَقْبَر بِفنائهم فهم يَنْقُصُون والقُبور تَزيدُ فما إنْ تَزالُ دارُ حَيٍّ قد اخْرِبَتْ وقَبْرٌ بأَفْنَاءِ البُيوت جديد هُمُ جِيرَةُ الأحياء أما مَزارُهم فدانٍ وأما المُلتقى فبَعِيد وقال‏:‏ مررتُ بيزيد الرَّقاشيّ وهو جالسٌ بين المدينة والمقبرة فقلت له‏:‏ ما أجْلسك ها هنا قال‏:‏ أَنْظُر إلى هذين العَسْكرين فعسكرٌ يَقْذِف الأحياء وعسكرٌ يلْتقم الموتى ثمِ نادى بأعلى صوته‏:‏ يأهلَ القُبور المُوحِشَةَ قد نطق بالخَرَاب فَناؤُها ومُهِّدَ بالتُّرَاب بِناؤُها فمحلُّها مُقْترَب وساكنها مغْتَرب لا يتواصلون تواصلَ الإخوان ولا يتزاورون تَزاور الجيران قد طَحَنهم بكَلْكَله البِلَى وأكلتهم الجنادل والثّرى‏.‏
وكان عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المَقبرة قال‏:‏ أما المنازل فقد سُكِنت وأما الأموال فقد قُسِّمت وأما الأزواج فقد نُكِحت فهذا خبر ما عندنا فليْتَ شِعْري ما عندكم ثم قال‏:‏ والذي نفسي بِيده لو أذِن لهم في الكلام لقالوا‏:‏ إن خير الزَّاد التَّقوى‏.‏
وكان عليُّ بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال‏:‏ السلامُ عليكم يأهل الدِّيار المُوحِشة والمَحالَ المقفرة من المؤمنين والمُؤمنات اللهم اغفرِ لنا ولهم وتجاوَز بعفوك عنّا وعنهم‏.‏
ثم يقول‏:‏ الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً والحمد للهّ الذي منها خَلَقنا و ‏"‏ جعل ‏"‏ إليها مَعَادنا وعليها محشرنا طوبى لمن ذكر المَعاد وعمل الحسنات وقَنع بالكفاف ورَضي عن الله عزّ وجلِّ‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دَخل المَقْبرة قال‏:‏ السلامُ عليكم دارَ قوم مُؤمنين وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون‏.‏
وكان الحَسَن البَصريّ إذا دخل المقبرة قال‏:‏ اللهم رَبّ هذه الأجساد البالية والعِظامٍ النّخرة التي خَرَجت من الدُّنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليها رَوحاً منك وسَلاماً منَّا‏.‏
وكان عليُّ ابن الفَضْل إذا دَخل المقبرة يقول‏:‏ اللهم اجعل وَفَاتهم نجاةً لهم مما يَكْرَهون واجعل حِسابهم زيادة لهم فيما يُحبون‏.‏
الوقوفْ على القبور وتأبين الموتى وقف أعرابيٌ على قَبْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قُلتَ فَقَبِلْنا وأمرتَ فحَفظنا وبلَغت عن ربك فسَمِعْنا‏.‏
‏"‏ ولَو أنهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم جاءُوك فاستَغْفرُوا الله واسْتَغْفر لهم الرَّسًولُ لَوَجَدُوا الله تواباً رَحيَماً ‏"‏‏.‏
وقد ظَلمنا أنفسنا وجِئْناك فاستَغفر لنا‏.‏
فما بَقِيت عينٌ إلا سالَتْ‏.‏
وقفت فاطمةُ عليهما السلام على قبر أبيها صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ فليتَ قَبْلَكَ كان الموتُ صادَفَنا لما نُعِيتَ وحالتْ دونك الكُتُبُ حمّاد بن سَلَمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال‏:‏ لما فَرغنا من دَفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلَتْ عليَّ فاطمةُ فقالت‏:‏ يا أنس كيف طابَتْ أنفسكم أن تَحْثُوا على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الترابَ ثم بَكت ونادت‏:‏ يا أبتاه‏!‏ أجاب ربًّا دعاه يا أبتاه‏!‏ مِن ربِّه ما أدناه يا أبتاه‏!‏ مَن ربُّه ناداه يا أبتاه‏!‏ إلى جبربل نَنْعاه يا أبتاه‏!‏ جَنَّة الفرْدَوْس مأواه‏.‏
قال‏:‏ ثم سَكَتتْ فما زادت شيئاً‏.‏
ولما دُفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقْبل عبدُ الله بن مَسعود وقد فاتَتْه الصلاةُ عليه فوَقَفَ على قَبره يبكي ويَطْرح رِداءه ثم قال‏:‏ واللّه لئن فاتَتْني الصلاةُ عليك لا فاتَني حُسْنُ الثّناء أما واللهّ لقد كنتَ سَخيا بالحقّ بخيلاً بالباطل تَرضى حين الرِّضا وتَسْخَط حين السُّخْط ما كنتَ عَياباً ولا مَدِّاحاً فجزاك الله عن الإسلام خَيْراً‏.‏
ووقف عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قَبْر خَبّاب فقال‏:‏ رَحم اللهّ خَبِّابا لقد أسْلم رَاغِباً وجاهد طائعاً وعاش زاهداً وآبتُلي في جسمه فَصَبر ولن يُضيِّعَ اللهّ أجرَ من أحسن عملاً‏.‏
ولما توُفي عليّ بن أبي طالب رضوان اللهّ عليه قام الحسنُ بن علي رضي اللهّ عنهما فقال‏:‏ أيها الناس إنه قُبِض فيكم الليلة رَجُلٌ لم يسبقه الأولون ولم يُدْركه الآخِرِون قد كان رسولُ للّه صلى الله عليه وسلم يَبْعثه فيَكتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيل عن شِماله لا يَنْثني حتى يَفْتح الله له ما تَرَك صَفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة دِرهم أعدَّها الخادم له‏.‏
عبدُ الرحمن بن الحسن عن محمد بن مُصْعَب قال‏:‏ لما مات داود الطائي تكلَّم ابن السّماك فقال‏:‏ إنّ داود نظر إلى ما بي يَدَيه من آخرته فأعشى بَصَرُ القَلْب بصرَ العيَنْ فكأنه لم ينْظر إلى ما إليه تَنْظرون وكأنًكم لم تَنْظروا إلى ما إليه نظر وأنتم منه تَعْجبون وهو منكم يَعْجَب فلما رآكم مَفْتُونين مَغرورين قد أذهَلت الدّنيا عًقُولكم وأماتت بحبِّها قُلوبكم آستوحش منكم فكنتَ إذا نظرتَ إليه حَسِبْتَه حيًّا وسْط أمْوات‏.‏
يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك‏!‏ أهَنت نَفْسك وإنما تُريد إكرامَها وأتْعبتها وإنما تُريد راحتها أخشَنْت المَطعم وإنما تُريد طيبَه وأخْشَنْت الملبس وإنما تُريد لينه ثم أمَتَّ نَفْسك قبل أن تموت وقَبرْتها قبل أن تُقْبَر وعذَّبتها قبل أن تُعَذَّب سَجَنْت نفسك في بَيْتك ولا مَحدِّث لها ولا جليس معها ولا فِرَاش تحتك ولا ستر على بابك ولا قُلّة تُبرَّد فيها ماءك ولا صَحْفة يكون فيها غَداؤُك وعشاؤك‏.‏
يا داود ما تشْتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيِّبه ولا من اللِّباس ليِّنه بلى ولكن زَهِدْت فيه لما بين يَدَيك فلا أصغر ما بذلتَ وما أحقرَ ما تَرَكْتَ في جَنْبِ ما رَغِبْت وأمًلت‏!‏ لم تقبل من الناس عَطيَّة ولا من الإخوان هدية فلما مِتّ شَهَرَك رَبًّك بفَضْلك وألبسك رِدَاء عملك فلو رأيت مَنْ حَضرَك وقف الأحنفُ بن قيسِ على قَبْر أخيه فأنشد‏:‏ فوالله لا أنْسى قَتيلا رُزِئْتُه بجانب قوسىَ ما مَشيَ على الأرض على انها تَعْفُو الكُلومُ وإنما نوَكَلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضي ووقف محمد بن الحَنَفية على قبر الحُسن بن علي رضي الله عنه فخَنَقَتْه العَبرَة ثم نَطقَ فقال‏:‏ يَرْحمك الله أبا أحمد فلئن عزّت حَياتُك فلقد هَدَّت وفاتُك ولَنِعْم الرُّوح روح ضَمّه بدَنك ولَنِعْمَ البدن بَدَنُ ضَمَّه كَفَنُك وكيف لا يكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء وسليل الهُدى وخامِس أصحاب الكِساء غَذَتْك أكُفّ الحقّ ورُبيت في حِجْر الإسلام فطِبْت حيّا وطِبْت مَيِّتاً وإن كانت أنفسنا غيرَ طيِّبة بفراقك ولا شاكة في الخِيار لك‏.‏
ووقَفت عائشة على قبر أبي بَكْر فقالت‏:‏ نَضَّر الله وَجْهَك وشكرَ لك صالح سَعْيك فقد كًنت للدنيا مُذِّلاً بإدبارك عنها وكنت للآخرة مُعِزاً بإقبالك عليها ولئن كان أجلَّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُزْؤُك وأعظم المصائِب بعده فقْدُك إنَّ كتاب الله لَيعِد بحُسْن الصبر فيك وحُسن العِوَض منك فأنا أنتجز موعد الله بحسن العزاء عليك وأستعيضه منك بالاستغفار لك فعليك السلامُ ورحمة اللهّ توديع غير قاليةٍ لك ولا زارية على القضاء فيك ثم انصرفت‏.‏
لما قُبض أبو بكر ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ سُجِّي بثَوب فارتَجَّت المدينة بالبُكاء عليه ودهش القوم كيوم قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عليٌّ ابن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وَقف بالباب وهو يقول‏:‏ رَحمك الله أبا بكر كنت واللهّ أولَ القوم إسلاماً وأخلصهم إيماناً وأشدهم يقيناً وأعظمهم عناء وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحربَهم كل الإسلام وأحناهم على أهله وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً وَفَضْلاً وَهَدْياً وصمتاً فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المُسلمين خيراً صدّقت رسول الله ‏"‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حين كَذًبه الناس وواسيتَه حين بَخِلوا وقمت معه حين قعدوا سمّاك اللهّ في كتابه صِدِّيقاً فقال‏:‏ ‏"‏ والَّذي جَاءَ بالصَدق وصَدق به ‏"‏ يريد محمداً ويُريدك‏.‏
كنت واللهّ للإسلام حِصْناً وعلى الكافرين عَذاباً لم تُفْلَل حُجَّتك ولم تَضْعُف بصيرتُك ولم تَجْبُن نفسك‏.‏
كنت كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف ولا تُزيله القَواصف كنت كما قال رسول الله ‏"‏ صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏:‏ ضعيفاَ في بدنك قويًّا في أمر الله متواضعاً في نَفْسك عَظيماً عند اللهّ قليلاً في الأرض كثيراً عند المؤمنين لم يَكن لأحد عِنْدك مَطْمَع ولا لأحدٍ عندك هَوَادة فالقويُّ عندك ضعيف حتى تأخذَ الحقّ منه والضعيفُ عندك قويُّ حتى تأخذ الحقّ له فلا حَرَمنا الله أجرَك ولا أضَلنا بعدك‏.‏
وَقف عبد الملك بن مَرْوان على قبر معاوية فقال‏:‏ تاللّه إن كنت إلا كما علمت يُنْطقك العِلم وما الدَّهر والأيام إلاّ كما ترى رَزِيّة مالٍ أو فِراقُ حَبِيب الهيْثم بن عدى قال‏:‏ لما هَلَك زياد استعمل مُعاوية الضحّاك على الكُوفة فلما دخلها سأل عن قبر زياد فدُلَ عليه فأتاه حتى وَقف به ثم قال‏:‏ أبا المُغِيرة والدنيا مُفجِّعة وإنّ من غرَّت الدُّنيا لَمَغْرُورُ قد كان عِنْدك لَلْمَعْروف مَعْرفةٌ وكان عِنْدك للنَّكْرَاء تَنْكير لو خَلَّدَ الخِيرُ والإسلامُ ذا قَدَم إذًا لَخَلِّدَك الإسلامُ والخير والأبيات لحارثة بنَ بَدْر يَرْثى زياداً‏.‏
المدائنيّ قال‏:‏ لما دَفن عليُّ بن أبي طالب كرَّم اللهّ وجهه فاطمة عليهما السلام تَمثّل عند قبرها فقال‏:‏ لكًلّ اجْتماع من خَلِيلَين فًرْقَةٌ وكل الذي دون الممات قَلِيلُ وإنّ آفتقادى واحداً بعد واحدٍ دليل على أن لا يَدُومَ خَليل لما مات الحسنُ بن عليّ عليهما السلامُ ضرَبت آمرأته فُسْطاطا على قبره وأقامت حَوْلاً ثم انصرفتْ إلى بَيتِّها فسمعَتْ قائلاً يقَول‏:‏ أدرَكوا ما طَلبوا‏.‏
فأجابه مُجيب‏:‏ بل مَلُّوا فانصرفوا‏.‏
ابن الكَلْبي قال‏:‏ وقفت نائلة بنتُ الفُرافِصَة الكَلْبية عَلى قبر عثمان فتَرحمت عليه ثم قالت‏:‏ ثم انصرفتْ إلى منزلها فقالت‏:‏ إني رأيتُ الحُزْنَ يَبْلى كما يَبْلى الثوبُ وقد خِفْت أن يَبْلى حُزْنُ عثمان في قلبي‏.‏
فَدَعَتْ بفِهْر فهشَمت فاها وقالت‏:‏ واللّه لا قَعد منّي رجل مَقعد عثمان أبدا‏.‏
لما هلك الإسْكندر قامت الخُطباء على رأسه فكان من قولهم‏:‏ الإسكندر كان أمس أنطقَ منه اليوم وهو اليوم أوعظُ منه أمس‏.‏
أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال عند دَفْنه ولداً له‏:‏ كَفي حَزَناً بِدَفْنِك ثم أني نفضتُ تُرَاب قَبْرك من يَديا وكنتَ وفي حًياتك لي عِظاتٌ فأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا وَقف أبو ذرّ الهَمْداني على قبر ابنه ذرّ فقال‏:‏ يا ذَرّ شغلني الحزن لك عن الحزْن عليك فليت شِعْري ما قُلتَ وما قيل لك‏.‏
ثم قال‏:‏ اللهم إنّي قد وهبتُ لك إساءته إلي فَهَبْ له إساءته إليك‏.‏
فلما انصرف عنه التفتَ إلى قبره فقال‏:‏ يا ذرّ قد انصرفنا وتَرَكْناك ولو أقمنا ما نَفعناك‏.‏
وقف محمد بن سُليمان على قبر ابنه فقال‏:‏ اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه فحقق رجائي وآمِنْ خوفي‏.‏
وَقفت أعرابيّة على قبر أبيها فقالت‏:‏ يا أبتِ إنَّ في اللهّ تبارك وتعالى من فَقْدِك عِوَضاً وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُصيبتك أسْوة ثم قالت‏:‏ اللهمٍ نَزل بك عبدُك مُقْفِراً من الزاد مخشَوْشِن المِهاد غَنِيًّا عما في أيدي العباد فقيراً إلى ما في يَدَيك يا جواد وأنت أي ربّ خيرُ من نزل به المؤًمِّلون واْسْتَغْنى بفَضْلِهِ المقِلًّون وولَجَ في سَعة رَحْمَته المُذْنبون‏.‏
اللهم فَليكن قِرَى عبدك منك رحمتَك ومِهادُه جنّتك ثم انصرفت‏.‏
قال عبد الرحمن بن عمر‏:‏ دخلْتُ على امرأة من نجد بأعلى على الأرض في خِباءٍ لها وبين يَدَيْها بُنَيّ لها قد نزلَ به الموتُ فقامتْ إليه فأَغْمضَته وعَصَبته وَسَجَّته وقالت‏:‏ يابن أخي قلتُ‏:‏ ما تشائين قالت‏:‏ ما أَحَقَّ من ألبس النِّعمة وأطِيلَت به النَظِرة أن لا يدع التوثّق من نَفْسه قبل حِل عُقْدته والحُلول بعَقْوَته والمحالة بينه وبين نَفْسه‏.‏
قال‏:‏ وما يَقطر من عينها دمعة صبراً وآحتسابأ‏.‏
ثم نظرت إليه فقالت‏:‏ واللهّ ما كان ‏"‏ مالُه ‏"‏ لبَطنه ولا أمره لعِرْسه ثم أنشدت‏:‏ رَحِيبُ ذِرَاعُ بالتي لا تشينه وإن كانت الفَحْشاء ضاق بها ذَرْعا وَقفَ عمرُ بن عبد العزيزِ على قبر ابنه عبد الملك فقال‏:‏ رَحمك الله يا بُنيّ فلقد كنت سارًّا مولوداً بارًّا ناشئاَ وما أَحْسِب أنّي لو دعوتُك أَجبْتني‏.‏
تُوفي رجل كان مُسْرِفاً على نفسه بالذُّنوب فتحامَى الناسُ جِنَازَته فبلغ عمرَ بن ذرّ خبره فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني ففعلوا وشهده عمر بن ذر وشهده الناسُ معه فلما فَرَغ من دفنِه وقفَ عمر بن ذر على قبره فقال‏:‏ يَرْحمك الله أبا فلان فلقد صَحِبت عُمرَك بالتَّوحيد وعَفَرْت لله سمع الحسنُ جارية واقفة على قبر أبيِها وهي تقول‏:‏ يا أبتِ مثلَ يومك لم أَرَه‏.‏
قال الذي والله لم يرَ مثلَ يومه أبوك‏.‏
وسمع عمر بن عبد العزيز خَصِيًّا للوليد بن عبد الملك واقفاً على قبر الوليد وهو يقول‏:‏ يا مولاي ماذا لَقِينا بعدك فقال له عمر‏:‏ أما واللّه لو أُذِن له في الكلام لأخبر أنه لَقي بعدكم أكثرَ مما لَقيتم بعده‏.‏
وقف مُعاوية على قَبْر أخيه عُتْبة فدعا له وِتَرَحّم عليه ثمِ التفت إلى مَن معه فقال‏:‏ لو أن الدُنيا بُنِيت على نِسْيان الأحِبة ما نسِيت عُتبة أبداَ‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:11 AM

المراثيّ من رثي نفسه ووصف قبره وما يكتب على القبر
قال قال ابن قتَيْبة‏:‏ بلغني أن أوّل مَنْ بكى على نفسه وذكرَ الموت في شِعْره يزيدُ بن خَذّاق فقال‏:‏ هَل للفتى من بنات الدهر مِن وَاقِي أم هل له من حِمام المَوْتِ من رَاقِي قد رَجَّلوني وما بالشَّعر من شَعَثٍ وألبَسوني ثِيَاباً غيرَ أخْلاق وطَيَّبوني وقالوِا أيما رَجُلٍ وأدرَجوني كأنّي طيّ مخْرَاق وأرسَلوا فِتْيَةً من خيْرِهِمْ حَسَباً لِيُسْنِدُوا في ضرَيح القَبْر أطباقي وقَسمُوا المال وارفضّت عوائدُهم وقال قائلُهُم مات ابن خَذّاق هَوِّن عليك ولا تُولَع بإشفاق فإنّما مالُنا للوارث الباقي وقال أبو ذُؤيب الهُذليّ يَصِفُ حُفرته‏:‏ مُطأْطَأةً لم ينبطوها وإنها لَيَرْضى بها فُرَّاطها أُمَّ واحدِ فكنتُ ذَنُوبَ البِئر لما تَبَسَّلت وأدرجتُ أكفاني ووُسَدْت ساعدي وقال عُروة بن حِزام لما نَزل به الموتُ‏:‏ مَن كان مِن أخَوَاتي باكياً أبداً فاليومَ إني أُراني اليوْمَ مَقْبُوضَا يُسْمِعْنَنِيه فإنّي غيرُ سامِعِه إذا علوتُ رِقابَ القول مَعْروضا وقال الطرمِّاح بن حَكِيم‏:‏ فيا رَبّ لا تَجعل وَفاتِيَ إن أتَتْ على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْر المَطَارفِ ولكنْ شهيداً ثاوياً في عِصابة يُصابون في فَجٍّ من الأرْض خائف إذا فارَقُوا دًنْياهُم فارَقُوا الأذىَ وصارُوا إلى مَوْعُود ما في الصَّحَائف فأقْتَلَ قَعْصاً ثم يُرْمى بأعْظُمِي مُفَرقةً أوصالُها في التَنَائف ويُصْبِحَ لَحْمِي بَطْنَ نَسْر مقيلُه بجَوَ السماءِ في نُسورعواكف وقال مالك بن الرّيْب يَرْثى نَفْسه ويصِف قَبْرَه وكان خرَج مع سَعيد بن عثمان بن عفّان لما وَليَ خُراسان فلما كان ببعض الطَّريق أراد أن يَلْبَس خُفَّه فإذا بأفعى في داخلها فلسعَتْه فلما أحسّ الموت استلقى على قَفاه ثم أنشأ يقول‏:‏ دَعاني الهَوَى من أهل أودَ وصُحْبَتي بذِي الطَّبَسينْ فآلتفتُّ ورَائِياً ألم تَرَني بِعْتُ الضلالةَ بالهدَى وأصبحتُ في جَيْش ابن عَفّان غازيا فللّه درِّى حين أَتْرُك طائعاً بَنيَّ بأعْلَى الرقْمَتين وماليا ودَرّ كبيرَىَّ اللذين كِلاهما علَيَّ شفيقٌ ناصح لو نهانيا ودرُّ الظِّبَاء السانحات عَشيةً يُخَبَرْن أني هالكٌ من أماميا تقول ابنتي لما رأت وَشْك رِحْلتي سِفَارُك هذا تارِكي لا أباليا ألا ليتَ شِعْري هل بَكتْ أمالك كما كنتُ لو عالَوْا نَعِيك باكيا على جَدَث قد جرَّت الرِّيح فوقَه تُرَابا كسَحْق المَرْنبانيّ هابيا فيا صاحَبيْ رَحْلِي دَنا الموت فاحفِرَا برابية إنّي مُقيم لياليا وخُطّا بأطراف الأسِنَّة مَضْجعِي ورُدَّا عَلَى عَيْني فَضْلَ رِدَائيا ولا تَحْسداني بارَك الله فيكما من الأرض ذاتِ العَرْض أن توسِعاليا خُذَاني فَجُراني بِبُرْدِي إليكما وقد كنت قبلَ اليوم صَعْباً قيَاديا تفَقَّدْت مَنْ يَبكى عليّ فلم أجد سوى السَّيف والرُّمح الردَيّنيِّ باكيا لعمري لَئِن غالت خُراسانُ هامتي لقد كنتُ عن بابَيْ خرَاسان نائيا تَحَمَّل أصحابي عِشَاءَ وغادَرُوا أخا ثِقَةٍ في عَرْصَة الدَار ثاوِيا يَقُولون لا تَبْعَد وهم يَدْفِنُونني وأينَ مَكان البُعْدِ إلا مَكانيا وقال رجُل من بني تَغْلب يقال له أفْنُون وهو لَقبه واسمه صُرَيم بن مَعْشر بن ذُهْل بن تَيْم بن عمرو بن مالك بن حَبيب بن عمرو بن عُثمان بن تَغْلِب ولَقِيَ كاهناً في الجاهلية فقال له‏:‏ إنك تموت بمكان يقال له إلاهَة‏.‏
فمكث ما شاء الله ثم سافر في رَكْب من قومه إلى الشام فأتَوْها ثم انصرفوا فضلّوا الطَّريق فمالوا لرجل‏:‏ كيف نَأخذ فقال‏:‏ سِيرُوا حتى إذا كنتم بمكان كذا وكذا ظَهَر لكم الطريق ورَأيتم إلاهة - وإلاهة قارة بالسّماوة - فلما أتَوْها نزل أصحابُه وأبى أن يَنْزل فبينما ناقتُه تَرْتعى وهو راكبها إذ أخَذتْ بمشْفر ناقته حَيَّة فاحتكت الناقةُ بمشْفرِها فلدغتْ ساقه فقال لأخيه وكان معه واسمَه مُعاوية‏:‏ احفر لي فإني ميّت ثَم تغنِّى قبل أن يموت يبكى نفسه‏:‏ فلستُ على شيء فُروحَنْ مُعاويا ولا المُشْفِقاتُ إذ تَبِعْنَ الحوَازيا ولا خَيْرَ فيما يَكْذِب المرْءُ نفسَه وتَقْوَالِه للشيء يا ليت ذا ليا وإن أعْجَبَتك الدهرَ حال من آمرىء فَدَعْه ووَاكلْ حاله واللّياليا فطأ مُعْرضاً إنِّ الحُتُوف كثيرةٌ وأنَّك لا تبْقى بنَفْسِك باقيا لعَمْرك ما يَدْري آمرؤ كيف يَتَّقىِ إذا هو لم يَجْعل له الله وَاقيا كفي حَزناً أن يَرحل الرَّكب غُدْوَةَ وأنزِلَ في أعلَى إلاهة ثاويا قال‏:‏ فمات فَدَفَنوه بها‏.‏
وقال هُدْبة العذُرِي لما أيْقن بالموت‏:‏ ألا عَلَلاني قبل نَوْح النوائح وقبلَ آطّلاع النَّفس بين الجَوَانح وقَبل غدٍ يالَهْفَ نفْسي على غَدٍ إذا راح أصحَابي ولستُ برائح إذا راح أصحابي بِفَيض دُموعهم وغُودِرتُ في لَحْدٍ عليّ صَفَائحي يَقولون هل أصلحتمُ لأخِيكُم وما الرمْس في الأرض القِوَاء بصالح وقال محمد بن بَشير‏:‏ ويلٌ لمن لم يَرْحَم الله ومَن تكون النار مثْوَاهُ والوَيل لي من كل يوم أتى يُذَكِّرُني الموتَ وأنسَاه كأنّه قد قيل في مَجْلًس قد كنتُ آتية وأغْشاه‏:‏ صار البَشيريّ إلى رَبّه يَرْحَمًنا اللهّ وإياه أذْنَ حَيّ تسمعي اسمعي ثم عِي وَعي أنا رَهْنٌ بمَضْجَعيِ فاحنَرِي مثلَ مَصْرَعي عِشْتُ تسعين حِجّةَ ثم وافيتُ مَضجَعي لي شيءٌ سِوى التُّقَى فخذِي منه أو دَعِي وعارَضه بعضُ الشعراء في هذه الأبيات وأوْصى بأن تُكتب على قَبره أيضاً فكُتبت وهي‏:‏ أَصبح القبرُ مَضْجَعي ومَحلِّي‏.‏
وِمَوْضِعي صَرَعَتْني الحُتوف في التُّرْب يا ذُلَ مَصْرَعي أين إخوانيَ الذي ن إليهم تَطلُّعي متُّّ وَحْدِي فلم يَمُتْ واحد مِنْهُمُ مَعي وُجِد على قَبْر جارية إلى جَنْب قبر أبي نُواس ثلاثةُ أبيات فقِيل إنها من قول أبي نواس وهي‏:‏ أقول لِقَبْر زُرْتُه مُتَلثِّماً سَقَى اللهّ بَرْدَ العفو صاحبة القبر لقد غَيَّبُوا تحت الثَّرَى قَمَرَ الدُّجى وشَمْس الضُحى بين الصَّفائح والعفْو إن كان لا يَرْجوك إلا مُحْسِنٌ فَبِمن يَلوذ ويستجير المُجْرِمُ أدْعُوك ربِّ كما أمرتَ تَضرُّعاً فإذا رَدَدْتَ يدِي فمن ذا يَرْحم مالي إليك وسيلةٌ إلا الرّجا وجَميلُ عَفوك ثم أني مُسْلِمُ الخُشنىّ قال‏:‏ أخبرنا بعضُ أصحابنا ممن كان يَغْشى مجلس الرِّياشي قال‏:‏ رأيتُ علي قبر أبي هاشم الإياديّ بواسط‏:‏ الموتُ أخْرَجَني من دار مَمْلكتِي والموتُ أضْرَعني من بَعد تَشْريفِي لله عَبْدٌ رَأى قَبري فأعْبرَه وخاف من دَهْره رَيْبَ التَصارِيف الأصمعي قال‏:‏ أخذ بيدي يحيى بن خالد بن بَرْمك فوقفني على قبره بالحِيرة فإذا عليه مكتوب‏:‏ إنَّ بَنِي المُنذر لما آنقضَوْا بحب شاد البَيْعة الراهب تنفَح بالمِسْك مَحاريبهم وعنبرٍ يقطبه قاطِبُ والخُبز واللَحم لهم راهنٌ وقهْوَة راوُوقها ساكِب والقُطْنُ والكَتّان أثوابُهم لم يَجْلِب الصُوفَ لهم جالِب فأَصْبَحوا قُوتاً لدُود الثَّرى والدَهرُ لا يَبْقى له صاحِب الشَيبانيّ قال‏:‏ وُجد مكتوباً على بعض القبور‏:‏ مَل الأحِبّةُ زَوْرتي فجفيت وسَكنتُ في دار البلَى فنسيتُ الحيّ يَكْذِب لا صَديقَ لِمَيِّتٍ لو كَان يَصْدُق مات حين يَمُوت يا مُؤْنِسا سَكن الثَّرى وَبَقِيتُ لو كنتُ أصدُق إذ بليتُ بَليت أو كان يعمَى للبكاء مُفَجًع من طُول ما أبكِي عليك عَمِيت وقال محمدُ بن عبد الله‏:‏ وعمّا قلَيلٍ لنْ تَرى باكياً لنا سَيَضْحك من يَبْكى وُيعْرض عن ذِكْري تَرى صاحبي يبكى قليلاً لِفًرْقتي ويَضْحك من طُول اللَيالي على قَبري ويُحْدِث إخواناً ويَنْسى مَودَتي وتَشْغله الأحباب عنّي وعن ذِكْري من رثى ولده‏:‏ فمن قولى في وَلدي‏:‏ بَلِيت عِظامُك والأسىَ يتجَدَد والصبْر يَنْفَد والبُكا لا يَنْفَدُ يا غائباً لا يُرْتَجَىِ لِإيَابه ولقائه دونَ القِيامة مَوْعد ومن قولي فيه أيضاً‏:‏ واكَبِدَا قد قُطعت كَبِدي وحَرَّقتها لواعجُ الكَمدِ ما مات حَيٌ لميِّتٍ أسَفآَ أعذر من والدِ على وَلد يا رَحْمةَ الله جاوِرِي جَدَثاً دفَنْتُ فيه حُشَاشتي بِيَدي ونَوِّري ظًلْمة القُبور على مَن لم يَصِلْ ظُلْمُه إلى أحد من كان خِلْواً من كل بائقِةِ وطَيِّبَ الرُّوح طاهرَ الجَسَد يا موت يَحيى لقد ذهبتَ له ليس بُزمَّيْلَةٍ ولا نَكِد يا مَوْتَه لو أقلتَ عَثْرته يا يومَه لو تركتَه لِغَدِ يا موتُ لو لم تَكُن تعاجله لكان لا شكّ بَيْضَة البَلد أو كنتَ راخيتَ في العِنان حاز العُلا واحتَوَى على الأمد أي حسام سلبت رَوْنَقه وأيَّ رُوح سًللت من جَسد وأيَ ساقٍ قطعت من قَدَم وأيَ كَفٍّ أزلْت من عَضدُ لو لم أَمُتْ عند مَوْته كمَداً لَحُقّ لي أن أموت من كَمَدي يا لَوْعةً ما يزال لاعِجُها يَقْدح نارَ الأسى على كَبِدي وقلت فيه أيضاً‏:‏ قَصَد المَنُون له فمات فَقِيدَا ومَضى على صَرْف الخطُوب حَمِيدا بأبي وأمِّي هالِكاً أفْرِدتُه قد كان في كلِّ العُلوم فَرِيدا سُود المقَابر أصبحتْ بِيضاً به وغَدت له بيضُ الضمائر سُودا لم نُرْزَه لما رزِينا وَحْدَه وإن استقلّ به المنون وَحِيدا لكنْ رُزِينا القاسمَ بنَ محمّد في فَضْله والأسْودَ بنَ يَزيدا وابن المُبارك في الرقائق مُخْبِراً وابن المُسيِّب في الحديث سَعِيدا والأخفَشيَنْ فَصاحةً وبلاغةً والأعْشَيَيْن رِوايةً ونشيدا كان الوَصيَّ إذا أردتُ وصيّةً والمُستفادَ إذا طلبتُ مفِيدا وَلَّى حَفيظاً في الأذمّة حافظا ومَضى ودودا في الوَرَى مَوْدُودا تأبَى القُلوب المسْتَكِينة للأسى مِن أن تَكون حجارةً وحَدَيدا إن الذي باد السُّرورُ بِموْته ما كان حُزني بعده لِيَبِيدا الآنَ لما أن حَوَيتَ مآثرِاً أعْيَت عَدُوّا في الوَرَى وحَسُودا ورأيتُ فيك من الصلاح شمائلاً ومن السَّماح دلائلاً وشُهودا أبْكِي عليك إذا الحمامة طَرَّبت وَجْهَ الصَّباح وَغَرِّدت تَغْريدا لولا الحَياء وأنْ أزَنّ بِبِدْعة مما يُعدِّده الوَرى تعْدِيدا لجعلتُ يومَك في المَنائح مَأتما وجعلتُ يومَك في الموالد عِيدا وقلت فيه أيضاً‏:‏ لا بَيْتَ يُسْكن إلا فارَق السكَنَا ولا امتلا فَرَحاً إلا امتلا حَزَنَا لَهْفِي على مَيِّت مات السُّرور به لو كَان حَيًّا لأحْيَا الدينَ والسُّنَنا واهاً عليك أبا بَكْرٍ مُرَدَّدةً لو سَكَّنتْ ولَهاً أو فَتَرت شَجَنا إذَا ذكرتُك يوماً قُلت واحَزَنا وما يَرُد عليّ القَوْلُ‏:‏ واحَزَنا لو كنتُ أعطَي به الدنيا مُعاوَضةً منه لما كانت الدُنيا له ثَمنا وقال أبو ذُؤيب الهُذلي وكان له أولادٌ سبعة فماتوا كلّهم إلا طفلا فقال يرثيهم‏:‏ أمِنَ المَنون وَرَيْبه نَتَوجع والدَهر ليس بمًعْتِب من يَجْزَعُ قالت أمَيمة ما لجسْمك شاحباً منذ ابتُذِلْت ومثلُ مالك يَنْفع أم ما لجسمك لا يُلائِم مَضْجَعاً إلا أقَضَّ عليك ذاك المَضْجع فأجبتُها أن ما لجسْمي أنّه أوْدىَ بنَي من البِلاَد فودَعوا أودى بَنيّ وأعقَبُوني حَسْرةً بعد الرُّقاد وعَبْرةً ما تُقلِع سَبَقُوا هًوىّ وأعْنَقُوا لهواهمُ فَتُخرِّموا ولكلِّ جَنْبٍ مَصرَع فَبقِيت بعدهُم بعَيْشٍ ناصِبٍ وإخَال أنِّي لاحقٌ مسْتتبِع ولقد حَرَصْت بأن أدافع عنهم وإذا المَنيّة أقبلتْ لا تُدْفَع وإذا المنيَّة أنْشَبت أظفارَها ألفيتَ كلَّ تَمِيمة لا تَنْفع فالعين بَعدهُم كأنّ حِدَاقها سُمِلت بشَوْك فهي عُورٌ تَدْمَع والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ وقال الأصمعي‏:‏ هذا أبْدَع بَيْت قالته العرب‏.‏
وقال أعرابيٌّ يَرْثى بَنِيه‏:‏ أسُكّان بَطْن الأرْض لو يُقْبَلُ الفِدَا فَدَينا وأعْطينا بكم ساكِني الظَّهْرِ فيا ليتَ مَن فيها عليها وليتَ مَن عليها ثَوَى فيها مُقِيماً إلى الحَشْر وقاسَمني دهرِي بَنيّ بِشَطْره فلما تَقَصىَّ شَطْرُه مالَ في شَطْري فصارُوا دُيوناً للمَنايا ولم يَكُن عليهم لها دَيْن قَضَوْه على عُسْر كأنهمُ لم يَعْرف الموتُ غيرَهم فثُكْلٌ على ثُكلِ وقبر إلى قَبْر وقد كنتُ حَيَّ الخَوْفِ قبل وَفاتهم فلما تُوفّوا مات خوْفي من الدَّهر فلله ما أعْطى وللّه ما حَوَى وليس لأيّام الرزَّية كالصَّبر وقيل لأعرابية مات ابنها‏:‏ ما أحسنَ عزاءَك قالت‏:‏ إن فَقْدي إياه امنَني كل فَقْدٍ سواه وإن مُصيبتي به هونت عليّ المصائب بعده‏.‏
ثم أنشأت تقول‏:‏ مَن شاء بعدك فَلْيَمُتْ فَعَليك كنت أحاذِرُ إنِّي وَغَيري لا محا لةَ حيثُ صِرْتَ لصائر أخذ الحسنُ بن هانئ معنى هذا البيت الأول فقال في الأمين‏:‏ طَوَى الموت ما بَيْني وبين محمد وليس لمَا تَطْوِي المِنيّة ناشر وكنتُ عليه أحذر الموتَ وحدَه فلم يَبْق لي شيءٌ عليه أحاذير لئن عَمَرت دُورٌ بمن لا أحبّه لقد عَمَرت ممّن أحبّ المقابر وقال عبدُ الله بن الأهتم يَرْثي ابنا له‏:‏ دَعوتُك يا بُنيِّ فلم تجِبْني فَرُدّت دَعْوِتي يأساً عليِّ بموتك ماتت اللّذات منّي وكانت حَيَّةَ ما دُمتَ حياً فيا أسفَا عليك وطُولَ شَوْقي إليك لو ان ذلك رَدّ شَيّا وأصيب أبو العتاهية بابن له فلما دَفنه وقَف على قبره وقال‏:‏ كَفي حَزَناً بَدَفْنك ثم أنِّي نَفَضْتُ تُراب قَبْرك مِن يَدَيّا وكانت في حياتك لي عِظاتٌ فأنت اليومَ أوْعظُ منك حَيّا ومات ابن لأعرابيّ فاشتد حُزْنه عليه وكان الأعرابيّ يُكْنى به فقيل له‏:‏ لو صَبرتَ لكان أعظمَ كيف السُّلوّ وكيف أنسى ذِكْره وإذا دُعِيت فإنما أدْعَي به خرج عمرُ بن الخطّاب رضي اللهّ عنه يوماً إلى بقيع الغَرْقد فإذا أعرابي بين يديه فقال‏:‏ يا أعرابيّ ما أدخلك دارَ الحق قال‏:‏ وَدِيعة لي ها هنا منذُ ثلاث سنين قال‏:‏ وما وَديعتك قال‏:‏ ابنٌ لي حين تَرَعْرع فقدتُه فأنا أنْدُبه قال عمر‏:‏ أسْمِعني ما قلتَ فيه فقال‏:‏ يا غائباً ما يؤوب من سَفَره عاجَله موتُه على صِغَره يا قُرّة العَين كُنْتَ لي سَكَناً في طُول لَيْلى نَعم وفي قِصرَه شَرِبْتَ كأساً أبوكَ شاربُها لا بدُ يوماً له على كِبرَه أشربُها والأنامِ كلهم مَن كان في بَدْوِه وفي حَضَره فالحَمْد لله لا شريك له الموتُ في حُكمه وفي قَدَره قد قَسَّم الموتَ في الأنام فما يَقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمرُه قال عمر‏:‏ صدقتَ يا أعرابي غَير أن الله خيرٌ لك منه‏.‏
الشَيباني قال‏:‏ لما مات جَعفر بن أبي جعفر اْلمَنصور اشتدّ عليه حزنه فلما فَرغ من دَفْنه التفت إلى الرَّبيع فقال‏:‏ يا ربيع كيف قال مُطيع بن إياس في يحيى بن زياد فأنشد‏:‏ يا هل دواء لِقَلْبيَ القَرِح وللدُّموع الذوارِفِ السُّفُح يا خير من يَحسُن البُكاءُ به الْيومَ ومَن كان أمس للمِدَح قد ظَفِر الحُزنُ بالسُّرِور وقد أديل مَكْروهُه مِنَ الفَرح وقالت أعرابيةً تَنْدُب ابناً لها‏:‏ ابنيّ غَيّبك المَحلّ المُلْحَدُ إمّا بَعُدت فأين من لا يَبْعُدُ أنت الذي في كل مُمْسىَ لَيْلةٍ تَبْلى وحُزْنك في الحَشىَ يتجدَّد وقالت فيه‏:‏ لئن كنتَ لهواً للعُيون وقُوَّةً لقد صِرْت سُقْماً للقُلوب الصَّحائح وهَوَّن حُزْني أنّ يومَك مُدْرِكي وأني غداً من أهل تلك الضَّرائح وقال أبو الخطّار يَرْثي ابنه الخَطّار‏:‏ ألا خَبِّراني بارك الله فِيكماِ مَتى العَهْدُ بالخَطّار يا فَتَيان فتى لا يَرى نَومَ العِشاء غَنِيمةً ولا يَنْثَني من صَوْلة الحَدَثَان وقال جرير يرْثي ولده سَوَادَة‏:‏ قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم كيف العزَاء وقد فارقتُ أشْبالي وقال أبو الشَّغْب يَرْثي ابنه شَغْباً‏:‏ قد كان شَغْبُ لو آن الله عَمّره عِزًّا تُزاد به في عِزّها مُضَرُ ليتَ الجبالَ تَدَاعت قبل مَصرعه دَكَّا فلم يَبْقَ من أحجارها حَجَر فارقتُ شَغْبا وقد قُوِّسْت من كِبَرٍ بِئْس الخلِيطان طولُ الحُزْن والكِبَر ولما تُوفي أيوبُ بن سُليمان بن عبد الملك في حياة سُليمان وكانَ ولِيّ عهده وأَكبر ولده رثاه ابن عبد الأعلى وكان من خاصّته فقال فيه‏:‏ ولقد أقولُ لذي الشَّماتة إذ رَأَى جَزَعي ومن يَذُق الحوادثَ يَجْزَع أَبْشِر فقد قَرَع الحوادِثُ مَرْوَتي وآفرحْ بِمَرْوَتك التي لم تُقْرَع إنْ عِشْتَ تُفجَع بالأحِبّة كلِّهم أو يُفْجَعوا بك إن بهم لم تُفْجَع أَيًّوبُ من يَشْمَت بِموْتك لم يُطِقْ عن نَفْسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع الأصمعيّ عن رجلِ من الأعراب قال‏:‏ كُنّا عشرةَ إخْوة وكان لنا أخ يقال له حسن فَنُعِي إلى أبينا فبقي سَنَتين يَبْكي عليه حتى كُفَّ بَصَرُه وقال فيه‏:‏ أَفلحتُ إن كان لم يَمُت حَسَنُ وكُفّ عنّي البُكاءُ والحَزَنُ بل أَكْذَب الله مَن نَعى حَسَناً ليس لتَكْذِيب قَوْله ثَمَن بُدِّلْتُهم منك ليتَ أنهمُ كانُوا وبَيْني وبَيْنهم مُدُن قد عَلِموا عند ما أنافرهم ما في قَناتي صَدْع ولا أُبَن قد جَرَّبوني فما ألاوِمُهم ما زال بَيني وبَينهم إحَن قد بُرى الجسمُ مذ نُعيتَ لنا كما بَرى فَرْع نَبْعة سَفَن فإن نَعِشِ فالمُنى حَياتُكَ وال خُلْد وأنت الحديثُ والوَسَن إن تَحْيَ نحْيَ بخير عَيْشٍ وإن تَمْض فتِلْك السَّبيلُ والسَّنن بَريدُك الحمدُ والسَّلامُ مَعاً فكُلّ حَيٍّ بالموت مُرْتَهَن يا ويح نَفْسي أن كنتَ في جَدَثٍ دونَك فيه الترابُ والكَفن علي للّه إن لقيتك من قَبْل الممات الصَيامُ والبُدُن أسوقُها حافياً مُجلَّلةً أدْما هِجَاناً قد كظَّها السِّمَن فلا نُبالي إذا بَقيتَ لنا من مات أو مَن أوْدى به الزَمن كُنتَ خليلَي وكنتَ خالِصتي لِكل حيٍّ من أهلْهِ سَكَن فإِن يَنْقَطع منك الرَّجاء فإنه سَيَبْقى عليك الحُزْن ما بَقِيَ الدَّهر وقال أعرِابِيّ يرثي ابنه‏:‏ بُنَيّ لئن ضنَّت جُفونٌ بمائها لقد قَرِحَتْ منّي عليك جُفُونُ دَفنتُ بكفّي بَعْضَ نفسي فأصبحتْ وللنفس منها دافِنٌ ودَفِين وهذا نظير قوِلِي في طِفل أصبْت به‏:‏ على مِثْلها من فجْعة خانني الصَّبْر فِراق حبيب دون أوْبته الحَشْرُ ولي كَبِدٌ مَشْطُورة في يَدِ الأسى فَتَحْتَ الثّرى شَطرٌ وفوق الثّرى شَطر يَقولون لي صَبِّر فُؤادَك بعدَه فقلتُ لهم مالي فؤادٌ ولا صَبر فُرَيخ من الحُمْر الحواصل ما اكْتَسى من الرِّيش حتى ضَمّه الموتُ والقَبْر إذا قلتُ أسْلو عنه هاجت بلابلٌ يُجدِّدها فِكْر يُجدِّده ذِكْر وأنظر حَوْلي لا أرى غير قَبْرِه كأنّ جَمِيعِ الأرْض عندي له قَبر أفَرْخ جِنَان الخُلْد طِرْتَ بمُهْجتي وليس سِوى قَعْرِ الضَّريح له وَكْر وقالت أعرابيّة تَرْثي ولدها‏:‏ أيقنتُ بعدكَ أنِّي غيرُ باقيةٍ وكيف يَبْقى ذراعٌ زال عن عَضُد تُوفي ابنٌ لأعرابيّ فَبكى عليه حينا فلما هَمّ أن يَسْلُو عنه تُوفيِّ له ابن آخر فقال في ذلك‏:‏ إنْ أُفِقْ مِن حَزَنٍ هاج حَزَنْ فَفُؤادي ما له اليومَ سَكَنْ وكما تَبْلَى وُجوهٌ في الثَّرى فَكذا يَبْلَى عليهنّ الحَزَن وقال في ذلك‏:‏ عُيون قد بَكَيْنَك مُوجَعاتٍ أضرَّ بها البُكاء وما يَنِينَا إذا أنْفَذْن دَمْعاً بعد دمْعٍ يُرَاجِعْن الشُؤونَ فيستقينا أبو عبد الله البَجَلي قال‏:‏ وقفتْ أعرابيةٌ على قبر ابن لها يقال له عامر فقالت‏:‏ أقمتُ أَبْكِيه على قَبْرِه مَنْ ليَ مِن بَعْدك يا عامرُ تَرَكْتَني في الدّار لي وَحْشَةٌ قد ذلَّ مَن ليس له ناصِر وقالت فيه‏:‏ هو الصَّبْرُ والتَسْلِيم للِهّ والرضّا إِذ نَزلتْ بي خُطَّة لا أَشاؤُهَا إذا نحنُ أُبْنا سالمِينَ بأنْفُسٍ كِرَام رَجَتْ أمْراً فَخاب رجاؤُها هو ابنىَ أَمْسى أجره ‏"‏ لي ‏"‏ وعَزَّني على نَفْسِه رَبُّ إليه وَلاَؤُها فإنْ احْتَسِب أوجَر وإن أبكِه أكنْ كباكيةٍ لم يُحْي مَيّتَاً بُكاؤُها الشَيبانيّ قال‏:‏ كانت امرأة من هُذَيل لها عَشرة إخْوة وعَشْرَة أعمام فَهَلكوا جمعياً في الطاعون وكانت بِكْراً لم تَتزوّج فَخَطبها ابن عمّ لها فتزوّجها فلم تَلْبث أنْ اشتملت على غُلام فولدتْه فنَبت نباتاً كأنما يُمد بناصِيَته وبلغ فزوّجتْه وأخذتْ في جَهازه حتى إذا لم يَبْق إلا البِنَاء ‏"‏ بأهْله ‏"‏ أتاه أجلُه فلم تَشُقِّ لها جَيْباً ولم تَدْمَع لها عَين فلما فَرغوا من جَهازه دُعِيت لتوديعه فأكبَّت عليه ساعةَ ثم رَفعت رأسَها ونظرت إليه وقالت‏:‏ ألا تلك المَسَرَّة لا تَدُوم ولا يَبْقَى على الدَّهر النَّعيمُ ولا يبقى على الحَدَثان غُفْر بشَاهِقَةٍ له أمٌّ رءُوم ثم اكبَّتْ عليه أخرى فلم تقطع نَحيبها حتى فاضت نَفسُها فَدُفِنا جميعاً‏.‏
خَليفة بن خَيّاط قال‏:‏ ما رأيت أشدَّ كَمَداً من آمرأة من بني شَيبان قُتِل ابنها وأبوها وزَوجُها وأمّها وعَمَّتها وخالتُها معِ الضَّحّاك الحَرُورِيّ فما رأيتُها قطُّ ضاحكةً ولا مُتَبَسِّمَةَ حتى فارقت الدنيا وقالت ترثيهم‏:‏ مَنْ لِقَلْبٍ شَفَّه الحَزَنُ ولنَفْس ما لها سَكَن مَعْشر قضَوْا نُحوبهم كل ما قد قدَّموا حَسَن صَبَرُوا عند السّيُوف فلم يَنْكلُوا عنها ولا جَبُنُوا فِتْيةٌ باعُوا نًفوسَهُم لا وَرَبِّ البَيْتِ ما غُبِنُوا فأصاب القومُ ما طَلَبوا مِنَّةً ما بعدها مِنَن وقال عبدُ الله بن ثَعلبة يَرْثي ولداً له‏:‏ أأخْضِب رَأسي أم أطَيِّبُ مَفْرِقي ورَأْسُك مَرْموسٌ وأنتَ سلِيبُ نَسِيبُك من أمْسى يُناجِيك طَرْفُه وليس لمن تحت التراب نَسِيب غَرِيبٌ وأطْرافُ البُيوت تُكِنّه ألاَ كلّ مَن تحت التراب غريب قال العُتْبِيّ - محمدُ بن عُبيد اللّه - يرثِي ابنا له‏:‏ أَضْحَتْ بخدي للدُّموع رُسُومُ أسَفاً عليك وفي الفؤاد كُلُومُ والصَّبْر يُحمد في المَوَاطن كلِّها إلاّ عليك فإنّه مَذْمُوم خَرج أعرابيّ هارباً من الطاعون فبينما هو سائر إذْ لدغته أفعَى فمات فقال أبوه يَرْثيه‏:‏ طافَ يَبْغِي نَجْوَة مِنْ هَلاَكٍ فَهَلَكْ كلُّ شيءٍ قاتِلٌ حين تَلْقى أجلَك لما قَتل عبد الله المأمون أخاه محمدَ بنَ زبيدة أرسلت أمه زُبيدة بنت جَعْفر إلى أبي العَتاهية أن يقول أبياتاً على لسانها للمأمون فقال‏:‏ ألا إن رَيْبَ الدّهر يُدْنىِ ويًبْعِد وللدَّهْرِ أيَّام تُذَمّ وتُحْمَدُ أَقول لرَحيب الدَّهر إن ذَهبتْ يدٌ فقد بَقِيتْ والحمدُ للهّ لِي يَد إذا بَقِيَ المأمونُ لِي فالرَّشِيدُ لِي وليِ جَعْفَرٌ لم يَهْلِكَا ومحمّد وكَتبت إليه من قوله‏:‏ لخير إمام مِن خَير مَعْشَر وأكرم بَسَّام على عُودِ مِنْبَرِ كَتبتُ وَعينىِ تستهلُّ دُموعُها إليْك ابن يَعْلي من دمُوعي ومحْجري فُجِعْنا بأدنىَ الناس مِنك قَرَابةً ومَن زلَّ عن كِبْدي فقَلّ تَصبُّري أتىَ طاهرٌ لا طهَّر الله طاهراً وما طاهرٌ في فِعْله بمُطَهَّر فأبْرزَني مَكْشوفَة الوَجْه حاسِراً وأنْهَب أمْوالِي وخَرَّب أدْوُرِي وعَزَّ على هارونَ ما قد لَقِيتُه وما نابني مِن ناقِص الخَلْق أعْوَرِ ذلك الوقت وقَبِلتْ منه ما وجّه ‏"‏ به ‏"‏ إليها‏.‏
فلما صارتْ إليه بعد ذلك قال لها‏:‏ مَن قائل الأبيات قالت‏:‏ أبو العَتاهية قال‏:‏ وبكم أمرْتِ له فقالت‏:‏ بعشرين ألفَ دِرْهم قال المأمون‏:‏ وقد أمرنا له بمثل ذلك‏.‏
واعتذر إليها من قَتْل أخيه محمد وقال ‏"‏ لها ‏"‏‏:‏ لستُ صاحبَه ولا قاتِلَه‏.‏
فقالت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ لكما يوماً تَجْتمعان فيه وأرْجو أنْ يَغْفِر اللهّ لكما إن شاء اللّه‏.‏
أبُو شَأس يَرثي ابنه شأسا‏:‏ ورَبيَّتُ شأساً لِرَيْب الزمان فلله تَرْبيتي والنَّصبْ فلَيتَك يا شأسُ فيمن بَقِي وكنتُ مكانَك فيمنْ ذَهَب ‏"‏ من رثى إخوته الرِّياشي قال‏:‏ صَلَّى مُتَمِّم بن نوَيْرة الصُّبح مع أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه ثم أنشد‏:‏ نِعْم القَتِيلُ - إذا الرِّياحُ تَنَاوَحَتْ بين البيُوت - قَتَلْت يا بنَ الأزْور أدعَوْتَه باللّه - ثم قَتَلْتَه لو هو دَعاكَ بِذِمَّة لم يَغْدِر لا يُضْمِر الفَحْشاءَ تحت رِدَائه حلْوٌ شمائلُه عَفِيفٌ المِئزَر قال‏:‏ ثمّ بكى حتى سالت عَينُه العَوْراء‏.‏
قال أبو بَكر‏:‏ مَا دعوتُه ولا قتلتُه‏.‏
وقال مُتَمِّم‏:‏ ومُسْتَضْحِكٍ منّي أدّعى كَمصيبتي وليس أخو الشَّجْو الحَزِين بضاحكِ يَقُول أتَبكي مِن قُبُور رأيتَها لِقَبْر بأطْراف المَلاَ فالدَّكادك فقلتُ له إنّ الأسى يَبْعَث الأسىَ فَدَعني فَهذِي كلُّها قَبْرُ مالك وقال مُتَمّم يَرْثي أخاه مالكاً وهي التي تُسمَّى أمَّ المَراثي‏:‏ لَعَمْرِي وما دَهْرِي بتأبين هالكٍ ولا جَزَع ممّا أَلمّ فَأوْجَعَا لقد غَيَّب اْلمِنْهَالُ تحت رِدَائه فَتىً غَيرَ مبطَانِ العَشِيّات أَرْوعَا تَراه كنَصْل السّيف يهتز للنَّدَى إذا لم تَجد عند امرىء السَّوء مَطْمَعا فَعَيْنىّ هلا تَبْكيان لمالكٍ إذا هَزَّت الرِّيحْ الكَنِيفَ المُرفَّعا وأرملَة تَمْشي بأَشْعَثَ مُحْثَل كَفَرْخ الحُبَاري ريشهُ قد تَمَزَّعا وما كان وَقّافا إذا الْخَيْل أحْجَمت ولا طالباً من خَشْية اْلمَوِت مَفْزَعا ولا بكهامٍ سَيْفُه عَن عدوّه إذا هو لاقَى حاسراً أو مُقَنَّعا أبى الصَّبرً آياتٌ أراها وأنّني أرى كُلَّ حَبْل بعد حَبْلِك أقْطَعَا وأنّي متى ما أدْعُ باسمك لم تُجب وكُنت حَرِيًّا أن تُجيب وتسمعا تَحِيَّتَه منّي وإن كان نائيَاً وأمسى تُراباً فوِقهَ الأرضُ بَلْقَعا فإن تَكُنِ الأيّام فَرقْن بَيْننا فقَد بان مَحْموداً أخِي حِين وَدَّعا فَعِشْنا بِخيْر في الحَياة وقَبْلَنا أصاب المَنايا رَهْطَ كِسْرَى وتُبَّعا وكُنَا كَنَدْمَاًني جَدِيمة حِقْبَةً من الدَهر حتى قِيل لن يَتَصَدًعا فلمّا تَفَرَّقْنا كأنِّي ومالِكا لِطُول اجتماع لم نَبِت ليلةً معا سَقى الله أرضاً حَلَّها قَبْرُ مالك ذِهابُ الغَوَادي المُدْجنات فأمْرَعا قيل لعمرو بن بَحْر الجاحظ‏:‏ إنّ الأصمعيّ كان يُسَمِّي هذا الشعرَ أمَّ المَراثي فقال‏:‏ لم يَسمع الأصمعيًّ‏:‏ أي القلوب عليكم ليس يَنْصَدعُ وأي نَوْم عليكم ليس يَمْتَنعً وقال الأصمعيُّ‏:‏ لم يَبْتدى أحدٌ مَرْثِية بأحسنَ من ابتداء أوس بن حَجَر‏:‏ أيتُها النَّفْسً أجملِي جَزَعا إِنّ الذي تَحْذرين قد وَقَعا وبعدها قولُ زُمَيل‏:‏ أجارتَنَا مَن يجتمع يَتَفَرَّقِ ومَن يَكُ رَهْنَاً للحوادث يَعْلَقِ قال ابن إسحاق صاحبُ المغازي‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفْراء - وقال ابن هشام‏:‏ الأثيل - أمَر عليَّ بن أبي طالب بضَرْب عُنق النضر بن الحارث بن كَلَدَة بن عَلْقمة بن عبد مَناف صَبْراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أُخته قُتَيْلة بنت الحارث تَرْثيه‏:‏ يا راكباً إنّ الأثَيل مَظَّنَة من صُبْح خامسةٍ وأنت مُوَفَّقُ أبْلغْ بها مَيْتاً بأنْ تَحيَّةً ما إن تَزال بها النَّجائِبُ تَخْفِقً هل يَسْمَعنِّي النَضْر إن ناديتُه أم كيف يَسْمع مَيِّتٌ لا يَنْطِق أمحمدٌ يا خير ضِنْء كريمةٍ في قومها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِق ما كان ضَرَّك لو مَنَنْتَ وربما مَنَّ الفتى وهو المَغِيظُ المُحْنِق فالنَّضر أَقْرَبُ مَنْ أسَرْتَ قَرَابَةً وأحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّت سُيوف بني أبيه تَنْوشه للّه أرحام هُناك تشقَّق صَبْراً يًقَاد إلى المنيَّة مُتْعَباً رَسْفَ المُقَيد وهو فانِ مُوثَق قال ابن هشام‏:‏ قال النبي الصلاُة والسلام لما بلغه هذا الشًّعر‏:‏ لو بلغني قبلَ قَتْله ما قتلتُه‏.‏
الأصمعيًّ قال‏:‏ نَظر عمرُ بن الخَطاب إلى الخَنساء وبها نًدوب في وَجْهها فقال‏:‏ ما هذه النُدوب يا خَنْساء قالت‏:‏ من طُول البُكاء على أخَوَيّ قال لها‏:‏ أخَواك في النار قالت‏:‏ ذلك أطْول لِحُزني عليهما إني كنتُ أشْفِق عليهما من النار وأنا اليوم أبْكي لهما من النار وأنشدتْ‏:‏ وقائلةٍ والنَّعشُ قد فات خَطْوَها لِتًدْرِكه‏:‏ يا لَهْفَ نفسي عَلَى صَخْرِ ألا ثَكِلت أُمُ الذين غَدَوْا به إلى القَبرِ ماذا يَحْمِلون إلى القَبر دخلت خَنساء على عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ تعالى عنها وعليها صِدَار من شَعَر قد استشعرته إلى جِلْدِها فقالت لها‏:‏ ما هذا يا خَنساء فوالله لقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لَبِسْتُه قالت‏:‏ إنّ له مَعْنى دَعاني إلى لِباسه وذلك أنّ أبي زَوَجني سيّد قومه وكان رجلاً مِتْلافاً فأسْرف في ماله حتى أنْفده ثم رَجِع في مالي فأنْفده أيضاً ثم التفت إليّ فقال‏:‏ إلى أين يا خَنْساء قلتُ‏:‏ إلى أخي صَخر‏.‏
قالتَ‏:‏ فأتيناه فَقَسَّم مالَه شَطْرَين ثم خَيَّرنا في أحْسن الشَّطْرين فَرَجْعنا من عنده فلم يَزَل زَوْجي حتى أذْهَبَ جَمِيعَه‏.‏
ثم التفت إليّ فقال لي‏:‏ إلى أينِ يا خَنْساء قلت‏:‏ إلى أخي صَخْر‏.‏
قالت‏:‏ فَرَحَلْنا إليه ثمٍ قَسَّم ماله شَطْرين وخيَّرنا في أفضل الشَّطْرين‏.‏
فقالت له زوجتُه‏:‏ أما تَرْضى أن تشَاطِرهَم مالك حتى تُخَيِّرهم بين الشَطرين فقال‏:‏ واللّه لا أمْنَحها شِرَارَها فلو هَلَكْت قَدَّدَتْ خِمَارَها واتخذَتْ من شَعَر صِدَارَها ‏"‏ وهي حَصَان قد كَفتْني عارها ‏"‏ فآليت أن لا يُفارق الصِّدارُ جَسَدي ما بَقِيت‏.‏
قيل للخَنْساء‏:‏ صِفِي لنا أخَوَيك صَخْراً ومُعاوية قالت‏:‏ كان صَخْرٌ واللّه جُنةَ الزمان الأَغْبر وزُعافَ الخَميس الأحمر وكان واللّه مُعاوية القائلَ والفاعل‏.‏
قيل لها‏:‏ فأيهما كان أسْنَى وأفْخَر قالت‏:‏ أمّا صَخْر فَحَرُّ الشِّتاءِ وأما مُعاوية فَبَرْد الهواء‏.‏
قيل لها‏:‏ فأيهما أوْجع وأفْجَع قالت‏:‏ أسَدان مُحْمَرَّا المَخالب نَجْدَةً بَحْران في الزَمن الغَضُوب الأمْمرٍ قمرَان في النَّادِي رَفِيعا مَحْتدٍ في المَجْدِ فَرْعا سُودَدٍ مُتَخَير وقالت الْخنساء تَرْثِي أخاها ‏"‏ صَخْر بن الشرِيد ‏"‏‏:‏ قَذىً بعَيْنِك أمْ بالْعَينْ عُوَّارُ أم أقْفَرت إذ خَلَتْ من أهْلها الدًارُ كأنَّ عَيْني لذِكْراه إذا خًطَرتْ فَيْضٌ يَسِيلُ على الخَدَّين مِدْرار فالعَينْ تَبكِي على صَخْر وحُق لها ودُونه من جَديد الأرض أسْتار بُكاءَ والهةٍ ضَلَّت أليفَتها لها حَنينان إصْغار وإكبار ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبالٌ وإدبار وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ديُّ الطريقة نفاع ضرار وقالت أيضاً‏:‏ ألا ما لعيني ألا مالها لقد أخضل الدمع سربالها أمن بعد صخرٍ من آل الشريد حلت به الأرض أثقالها سأحمل نفسي على خطة فإما عليها وإما لها وقالت أيضاً‏:‏ أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجواد ألا تبكيان الفتى السيدا طويال النجاد رفيع العما د ساد عشيرته أمردا يحمله القوم ما غالهم وإن كان أصغرهم مولدا جموع الضيوف إلى بابه يرى أفضل الكسب أن يحمدا وقالت أيضاً‏:‏ فما أدركت كف امرئ متناولاً من المجد إلا والذي نلت أطول وما بلغ المهدون للمدح غاية ولول جهدوا إلا الذي فيك إفضل وما ألغيث في جعد الثرى دمث الربى تعبق فيها الوابل المتهلل بأفضل سيباً من يديك ونعمةً تجود بها بل سيب كفيك أجزل من القوم مغشي الرواق كأنه إذا سيم ضيماً خادرٌ متبسل أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العز إلا من التقى ولا المال إلا من قناً وسيوف ولا الذخر إلا كل جرداء صلدمٍ وكل رقيق الشفرتين حليف فقدناه فقدان الربيع فليتنا فديناه من سادتنا بألوف خفيفٌ على ظهر الجواد إذا عدا وليس على أعدائه بخفيف عليك سلام الله وقفاً فإنني أرى الموت وقاعاً بكل شريف وقال آخر يرثي أخاه‏:‏ أخٌ طالما سرني ذكره فقد صرت أشجى إلى ذكره وقد كنت أغدو إلى قصره فقد صرت أغدو إلى قبره وكنت أراني غنيا به عن الناس لو مد في عمره وكنت إذا جئته زائراً فأمري يجوز على أمره وقالت الخنساء ترثى أخاها صخراً‏:‏ بكت عيني وعاودها قذاها بعوار فما تقضي كراها لئن جزعت بنو عمرو عليه لقد رزئت بنو عمرو فتاها له كف يشد بها وكفٌ تجود فيما يجف ثرى نداها ترى الشم الغطارف من سليم وقد بلت مدامعها لجاها أحامِيَكم ومُطْعِمَكم تركتُم لَدَى غَبْرَاءَ مُنْهَدم رَجاها فَمن للضَّيْف إِن هَبَّت شَمَالٌ مُزَعْزعة تُنَاوِحها صَبَاها وأَلْجأ برْدُها الأشْوالَ حُدْباً إلى الحُجُرات بادِيةً كُلاها هنالك لو نَزلْت بباب صَخْرِ قَرَى الأضيافَ شَحْماً من ذُرَاها وخَيْل قد دَلَفْتَ لها بِخَيْل فَدَارَتْ بين كَبْشَيْها رَحاها تُكَفْكِفُ فَضْلَ سابِغَة دِلاصٍ على خَيْفانةٍ خَفِقٌ حَشاها ‏"‏ وقال كعب يرثي أخاه أبا المِغْوار‏:‏ تقول سُلَيْمى ما لِجِسْمك شاحباً كأنَّك يَحْمِيكَ الطَّعامَ طَبِيبُ فقُلتُ شجُون من خُطُوبٍ تَتابعت عليّ كِبَارٌ والزَّمانُ يَريب أخٌ كان يَكْفِيني وِكان يُعِيننِيِ على نائباتِ الدَّهْرِ حين تَنوب هو العَسَل الماذيُّ لِيناً وشِيمةً وليثٌ إذا لاقى الرجالَ قَطُوب هَوَتْ أُمُّه ما يَبْعَثُ الصُّبحُ غادِياً وماذا يَرُدّ الليلُ حين يؤوب كعالِية الرُّمْح الرُّدَيْنيّ لم يَكًن إذا ابتدر الخيلَ الرجالُ يَخيب وَدَاعٍ دَعَا يا مَن يُجيب إلى النَّدا فلم يَسْتَجبه عند ذاك مُجِيَب فقلت ادعُ أخرى وارفَع الصوت ثانيا لعلّ أبي المغْوَار منْك قَرِيب يُجبْك كما قد كان يَفْعَل إنّه بأمْثالها رَحْبُ الذّراع أريب وحًدّثتُماني أنّما المَوْتُ بالقُرى فكيفَ وهاتي هَضْبة وكئِيبُ فلو كانت المَوْتى تُباع اشتريتُه بما لم تَكُن عنه النُّفوس تَطيب بِعَيْني أو يمنى يَدَيّ وخِلْتُني أنا الغانمُ الجَذْلانُ حين يؤوب لقد أفسد الموتُ الحياةَ وقد أتى على يَوْمِهِ عِلْقٌ إليّ حَبيب أتى دون حُلْو العَيْش حتى أمَرَّه قُطُوبٌ على آثارهن نُكًوب أَلا يا عَين جُودي لي شَنينَا وبَكِّي للملوك الذَّاهبينا مُلُوك مِن بني صَخر بن عمرو يُقَادُون العَشِيَّة يقْتَلونا فلم تُغْسَل رُؤوسُهم بِسِدْر ولَكنْ في الدِّمَاءِ مُزَمَّلينا فَلَو في يَوْم مَعْرَكة أصِيبُوا ولكنْ في ديَار بَني مَرِينا وقال الأبَيْرد بن المُعذَّر الرياحي يَرْثي أخاه بُرَيداً‏:‏ ‏"‏ تَطَاوَل لَيلي ولم أنمهُ تَقَلّباً كأنَّ فِرَاشي حالَ من دونه الجَمْرُ أراقب من ليل التِّمام نُجومَه لَدُن غاب قَرْنُ الشمس حَتَّى بدا الفجر تَذَكَّرَ عِلْق بَانَ منّا بنَصرِه ونائله يا حَبَّذا ذلك الذِّكْر فإن تَكُن الأيّام فَرَّقْن بَينَنا فقد عَذَرَتْنا في صَحابته العُذْر وكنتُ أرى هَجْراً فِراقك ساعةً ألا لا بَلِ الموتُ التفرُّق والهَجْرُ أحَقًّا عبادَ الله أَنْ لستُ لاقيا بُرَيْداً طَوَالَ الدَّهْرِ ما لألأ العُفْر فَتًى ليس كالفِتْيان إلاّ خِيارَهم مِن القَوْم جَزْلٌ لا ذَليلٌ ولا غُمْر فَليتَك كُنت الحيَّ في الناس باقياً وكنتُ أنا المَيْتَ الذي ضَمَّه القَبْر قتًى يَشتَري حُسْن الثَّناء بماله إذا السَّنَةُ الشَّهْباء قَلَّ بها القَطْر كأنْ لم يُصَاحِبْها بُرَيد بِغبْطةٍ ولم تَأْتنا يَوْماً بأَخْباره البُشْر لَعَمْري لَنِعْم المرءُ عالىَ نَعِيَّهُ لَنا ابنْ عَرِيْنٍ بعد ما جَنَح العَصْر تَمَضَّتْ به الأخْبار حتى تَغَلْغَلت ولم تَثْنِه الأطْباعُ عَنّا ولا الجُدْر فلمّا نَعى النّاعي بُرَيْداً تَغَوَّلَت بي الأرْض فَرْطَ الحُزْن وانْقَطَع الظَّهر عَساكِرُ تَغْشَى النَّفْس حتى كأنني أَخو نَشْوَةٍ ارت بهامَته الخَمْر إلى الله أشكُو في بُرَيْدٍ مُصِيبتي وبَثِّي وأحْزاناً يَجيش بها الصّدر وقد كُنتُ أَستَعفي الإله إذا اشتكى من ألأجر لي فيه وإِن سَرَّني الأجر وما زال في عَيْنَيّ بَعدُ غِشاوةٌ وسَمْعيَ عما كنتُ أَسْمعه وَقْر عَلى أنَّني أقنَى الحياءَ وأتَّقي شماتة أقوام عُيونُهم خُزْر فحيَّاكَ عَنّي اليلُ والصبحُ إذ بدا وهُوجٌ من الأرْواح غُدْوَتُها شَهْر ومُجْتَمع الحُجّاج حيث تَوَاقفَت رِفاقٌ من الآفاق تَكْبيرها جَأر ‏"‏ يَمينَ امريءٍ آلى وليسَ بكاذبٍ وما في يَمين بتَّها صادقٌ وِزْرُ لَئن كان أَمْسَى ابنُ المُعَذَّر قد ثَوَى بُرَيْدٌ لِنعْم المَرْء غَيَّبَه القَبْر هو المَرْء للمَعْرُوف والدِّين والنَّدَى ومِسْعَر حَرْب لا كَهَامٌ ولا غُمْر أَقام ونادَى أهلُه فَتَحَمَّلوا وصُرِّمَتِ الأسْباب واختَلفت النَّجْر فأيّ امريء غادرتُم في بُيوتكم إذا هي أَمْسَتْ لونُ آفاقِها حُمْر إذا الشَّول أَمْسَتْ وهي حُدْبٌ ظُهورها عِجَافا ولم يُسْمَع لِفَحْل لها هَدْر كَثِير رَماد النَّار يُغْشَى فِنَاؤه إذا نُودي الأيْسار واحْتُضِر الجُزْر فَتًى كان يُغلي اللحمَ نِيئاً ولحمُه رَخِيصٌ بكَفّيه إذا تَنْزِل القِدْر يُقَسِّمه حتى يَشِيع ولم يَكُن كآخَر يُضْحى من غيبته ذُخْر فَتى الحيِّ والأضياف إنْ رَوَّحَتْهم بَلِيلٌ وزادُ القَوم إن أَرْمَل السَّفْر إذا جَهَد القومُ المَطِيَّ وأَدْرَجَتْ من الضُّمْر حتى يَبْلغ الحقَبَ الضَّفْر وإن خَشَعتْ أبصارهم وتَضَاءَلت من الأيْن جلى مثلَ ما يَنْظُر الصَقْر وإنْ جارةٌ حَلَت إليه وَفي لها فباتت ولم يُهْتك لجارته سِتر عَفِيفٌ عن السوآت ما التَبَسَت به صليبٌ فما يُلفي بِعُودٍ له كَسْر سَلَكْت سبيلَ العاَلمين فما لَهم وراءَ الذي لاقَيْت مَعْدًى ولا قَصر وكلًّ امرىء يوِماً مُلاَقٍ حِمَامه وإن دَانت الدُّنْيا وطال به العُمْر فأبليت خيراً في الحياة وإنما ثوابُك عِنْدي اليومَ أن يَنْطِق الشَّعر لِيَفْدِك مَوْلًى أو أخٌ ذو ذِمامَةٍ قليل الغناء لا عطاءٌ ولا نصرْ لِشبْل بن مَعْبَد البَجَلى‏:‏ أتى دون حُلْوِ العَيْش حتى أمرَّه نُكُوبٌ على آثارهنّ نكُوبُ تَتَابَعْنَ في الأحْبَاب حتى أبَدْنَهم فلم يَبْقَ فيهمْ في الدِّيار قَريبُ بَرَتني صُروف الدَّهْرِ من كلّ جانب كما يَنبري دون اللحَاء عَسِيب فأصبحتُ إلا رحمةَ الله مُفْرَدًاً لَدَى الناس طُرًّا والفُؤاد كَئِيب فقلتْ لأصْحابي وقد قَذَفَتْ بنا نَوَى غُربةٍ عمن نُحِب شَطُوب مَتَى العهدُ بالأهْل الذين تَرَكْتُهم لهم في فُؤادي بِالعِرَاق نَصِيب فَما تَرَك الطاعونُ من ذِي قَرابة إليه إذا حانَ الإيابُ نَؤُوب فقد أصبحوا لا دارهمِ منك غرْبَةٌ بعد ولاهُمْ في الحياة قَريب وكُنْتَ تُرَجَّى أنْ تؤُوب إليهمُ فغالَتْهمُ من دون ذاك شَعُوب مَقادِير لا يُغْفِلن مَن حان يَوْمُه لهنّ على كلِّ النُّفوس رَقيب سَقَينْ بكَأس المَوْت مَن حان حَيْنُه وفي الحَيِّ مِن أنفاسِهنَّ ذَنًوب وإنَّا وإيّاهمْ كَوَارِد مَنْهَلٍ على حَوْضِه بالتَّاليات يُهِيب إِلَيه تَنَاهِينا ولو كان دُونه مياهٌ رَوَاء كلّهن شرُوب فهوَّن عني بَعْضَ وَجْدِيَ أنَّني رأيْتُ المَنايا تَغْتَدِي وَتَؤُوب ولَسْنا بأحْيَا مِنْهُم غيرَ أننا إلى أجَلٍ نُدْعَى له فَنجِيب وِإني إذا ما شِئْت لاقيتُ أسْوَةً تَكاد لها نَفْس الحَزِين تَطِيب دُمُوع مَرَاها الشجْوُ حتى كأنها جَدَاوِلُ تَجْري بَيْنَهن غروب إذا ما أردْتُ الصبرَ هاج لِيَ البُكا فُؤادٌ إلى أهل القًبُور طَرُوب بكَى شَجْوه ثم ارْعَوى بعد عَوْله كما واتَرَتْ بين الحنين سَلُوب دَعَاها الهَوَى من سَقْبها فَهِيَ والِهٌ ورُدّت إلى الألاَّفِ فَهي تَحُوب فَوَجْدِي بأهلِي وَجْدُها غيرَ أنهم شَبَابٌ يَزِينون النَّدى ومَشِيب من رثت زوجها قالت أسماء بنتُ أبي بكر ذاتُ النِّطاقين ‏"‏ رضي الله عنها ‏"‏ تَرْثي زَوْجَها الزُّبير بن العَوَّام وكان قَتله عَمْرو بن جُرْمُوز المُجاشِعيّ بوادي السِّباع وهو مًنْصَرف من وَقْعة الجَمَل‏.‏
‏"‏ وتروى هذه الأبيات لزوجته عاتكة التي تَزوّجها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ‏"‏‏:‏ غَدَر ابن جُرْمُوز فارس بهُمِةٍ يَومَ الهِيَاِج وكان غَيْر َمُعَرِّد يا عَمْرُو لو نَبَّهْتَه لوَجَدَتْه لا طائشاَ رَعِشَ الجَنَانِ ولا اليَد ثَكِلْتك أمًّك إن قَتَلْت لمُسْلِماً حَلَّت عليك عُقوبة المُتَعَمِّد الهلاليّ قال‏:‏ تَزَوّج محمد بن هارون الرشيد لُبانة بنت علي بن رَيْطة وكانت من أجمل النّساء فقُتل محمد عنها ولم يَبْنِ بها فقالت تَرْثيه‏:‏ أبْكِيكَ لا لِلنعِيم والأنُسٍ بل للمَعَالي والرُّمْح والفَرَس يا فارساً بالعَرَاء مطَّرَحاً خانَتْه قواده مَع الحرس أَبْكِي على سَيِّدٍ فجِعْتُ به أرْمَلَني قَبْل ليلة العُرُس أمْ مَن لِبِرِّ أمْ مَن لعائدة أم مَن لِذكْر الإله في الغَلَس وقالت أعرابيّة تَرْثي زَوْجَها‏:‏ كُنَا كغُصنَين في جُرْثومةٍ بَسَقَا حِيناً على خير ما يَنْمِي به الشَّجَر حَتّى إذا قِيلَ قد طالت فُرُوعُهما وطابَ قِنْواهُما واسْتُنْظِر الثَّمر أخْنَى على واحد رَيْبُ الزَمان وما يُبْقِي الزمانُ على شيء ولا يَذَر كُنِّا كأنْجمُ ليلٍ بينها قَمَر يَجْلو الدُجَى فَهَوَى مِن بَينها القَمر الأصْمعيّ قال‏:‏ دخلتُ بعضَ مَقابر الأعراب ومعي صاحبٌ لي فإذا جاريةٌ على قبر كأنها تِمثال وعليها من الحَلْى والحُلَل ما لم أر مِثْلَه وهي تَبْكي بعين غَزيرة وصوت شَجيّ‏.‏
فالتفتُّ إلى صاحبي‏.‏
فقلتُ‏:‏ هل رأيتَ أعجَب من هذه قال‏:‏ لا والله ولا أحسَبني أراه‏.‏
ثم قلتُ لها‏:‏ يا هذه إني أراك حَزِينة وما عليك زِيّ الحُزْن‏:‏ فانشأت تقول‏:‏ فإن تَسْألاني فِيم حُزْني فإننّي رَهِينةُ هَذا القَبْر يا فَتَيانِ وإني لأسْتَحْييه والترْب بيننا كما كنْتُ أستَحْييه حين يَرَاني أهابُك إجلالاً وان كُنتَ في الثرى مَخافَة يومٍ أن يَسُوك لِسَاني ثم اندفعت في البُكاء وجعلت تقول‏:‏ يا صاحبَ القَبْر يا مَنْ كان يَنْعَم بي بالاً ويُكثر في الدًنْيا مُوَاساتِي أردْتُ آتِيكَ فيما كنت أعرفُه انْ قد تُسَرُ به من بَعض هَيْئَاتي فمَن رَآني رأى عَبْرى مُوَلَهَةً عَجيبةَ الزِّيِّ تَبْكي بَينَ أمْوات وقال‏:‏ رأيتُ بصحراء جاريةً قد ألْصقت خدَّهَا بقَبْر وهي تَبْكي وتقول‏:‏ خدَي تَقيك خشُونةَ اللَّحْدِ وقَلِيلةٌ لك سَيِّدي خَدِّي يا ساكنَ القَبر الذي بوَفاته عَمِيتْ عَليَّ مسالِكُ الرُّشد اسْمَع أبثك علَتي فلعلَّني أطْفِي بذلك حُرْقَة الوَجْد من رثى جاريته كان لمُعلّى الطائِي جارية يُقال لها وَصْف وكانت أديبةً شاعرة فأخبرني محمد بن وَضّاح قال‏:‏ أدركتُ معلَّى الطائي بمصر وأعْطِي بجاريته وَصْف أربعةَ الآف دينار فباعها‏.‏
فلما دَخل عليها قالت له‏:‏ بِعْتني يا مُعلى‏!‏ قال نعم قالت‏:‏ واللّه لو مَلَكْتً منك مثلَ ما تَمْلك مني ما بِعْتك بالدُّنيا وما فيها‏.‏
فَردَ الدَّنانير واستقال صاحبَه فأصيب بها إلى ثمانية أيام فقال يَرْثيها‏:‏ يا موتُ كيفَ سَلَبْتَنيِ وَصْفَا قَدَّمْتها وتَرَكْتَني خَلْفَا هَلا ذَهَبْتَ بنا معاً فَلَقد ظَفِرَتْ يَدَاك فسُمْتَني خَسْفا فَعَلَيك بالباقي بلا أجَل فالموتُ بعد وفاتها أعفي يا موتُ ما بَقّيت لي أحداً لما زَفَفْت إلى البِلَى وَصْفا هَلاّ رَحِمْت شَبَابَ غَانِيةٍ رَيَّا العِظام وشَعْرَها الوَحْفا ورَحِمْت عَيْني ظَبْية جَعَلت بين الرّياض تُناظِر الخِشْفا تُغْفي إذا انتصبت فرائصه ولَظَلُّ تَرْعاه إذا أغفى فإذا مَشىِ اختلفت قوائمهُ وَقْت الرَّضاع فَيَنْطَوِي ضعْفا متحيراً في المَشيْ مُرْتَعِشاً يَخْطو فَيَضْرِب ظِلْفُه الظّلْفا فكأَنها وَصْفٌ إذا جَعَلت نحوي تُدِير مَحَاجِراً وُطْفا يا مَوْتُ أنت كذا لكلِّ أخِي إلفٍ يَصُون ببرِّه الإلْفا خَلَّيتني فَرْداً وبِنْت بها ما كنتُ قَبْلَك حافلا وكفا فَتَرَكْتُها بالرَّغْم في جَدَث للرّيح يَنْسِف تُرْبَه نَسْفا دون المُقَطَّم لا ألبسها من زينةٍ قُرْطاً ولا شَنْفا فكأَنّها والنفسُ زاهِقةٌ غُصْن من الرَّيْحانِ قد جَفّا يا قبرُ أبْقِ على محاسنها فلقد حويت النور والظرْفا لما هُزِم مَرْوان بن محمد وخَرج نحو مِصرْ كتب إلى جارية له خَلَّفها بالرَّمْلة‏:‏ وما زَال يَدْعُوِني إلى الصَّبر ما أَرى فآبى ويَثْنِيني الذي لكِ في صَدْري وكانَ عزيزاَ أنّ بَيْني وبينها حِجاباً فقد أَمسيتُ منك على عَشر وأنْكاهما لِلْقَلْب واللّه فاعلمي إذا ازددتُ مِثلَيها فَصِرْتُ على شَهْر وأعظمُ من هَذَينِ واللّه أنني أخاف بأن لا نَلْتَقي آخرَ الدَّهر سأَبْكِيك لا مُستَبْقِياَ فَيْض عَبْرة ولا طالباً بالصبر عاقبةَ الصَّبر وَجدوا على قبر جارية إلى جَنب قَبر أبي نُواس أبياتاً ذكروا أنَ أبا نُواس قالها وهى‏:‏ أَقُولُ لقبْرٍ زُرْتُه مُتَلَثِّما سَقَي اللهّ بَرْدَ العَفْو صاحبَة القَبْر لقد غيَّبوا تَحت الثّرَى قَمر الدُّجَى وشَمْس الضًّحَى بين الصَّفائح والعَفر عَجِبتُ لِعَينْ بَعدها مَلَت البُكا وقلْب عَلْيها يَرْتَجي راحَة الصَّبر وقال حَبِيب الطائي يَرثِي جارِية أصِيب بها‏:‏ وألبسنى ثوباً من الحُزْن والأسيَ هِلاَلٌ عليه نَسْجُ ثَوْب من التُّرب وكنتُ أرَجِّي القُرْبَ وهي بعيدة فقد ثقُلَت بَعْدي عن الًبُعدِ والقُرْب أقول وقد قالوا استراح بموتها من الكرب رَوْح المَوْت شَرٌّ من الكَرْب لها مَنزل تحت الثَّرَى وعَهدتُها لها منزلٌ بين الجَوانِح والقَلْب وقال يرْثيها‏:‏ ألم تَرَني خَلَيتُ نَفْسي وشانَها ولم أحفِل الدُّنيا ولا حَدَثانَها لقد خوَفَتْني النائباتُ صُرُوفَها ولو أَمَّنَتْني ما قِبِلتُ أمانَها وكيف على نارِ اللًيالي مُعرَّسي إذا كان شَيْبُ العارِضَين دُخانَها أُصِبْتُ بِخَوْد سوف أَعْبُر بعدها حليفَ أسى أبكى زماناً زمانَها عِنَانٌ من اللَذَّات قد كان في يَدِي فلما قَضىَ الإلْفُ استردت عِنَانَهَا مَنَحْتُ المَهَاهَجْرِي فَلاَ مُحْسِناتها أَوَدُّ ولا يَهْوىَ فُؤَادِي حِسانَها يقولون هَلْ يبكي الفَتَىِ لِخَريدةٍ إذا ما أراد اعتاض عَشْراً مَكانَها أمُنْفَصِلٌ عن ثَدْي أم كريمةٍ أم العاشقُ النَّابي به كلُّ مَضْجَع وقال محمود الورّاق يَرْثي جاريتَه نَشْو‏:‏ ومنتصح يُرَدِّد ذِكْر نَشْوٍ على عَمْدٍ لِيَبْعَثَ لي اْكتئاباً أقول - وَعَدَّ - ما كانت تُسَاوي سَيَحْسُبُ ذاك مَن خَلَقَ الْحِسابا عَطِيَّته إذا أعطَى سُرور وإن أخذ الذي أعطَى أَثَابَا فأيُ النِّعمتينْ أعمُّ نَفْعاً وأحسَنُ في عَواقِبها إيابا أنعِمْته التي أهْدت سروراً أم الأًخْرى التي أهدت ثَوَابا بل الأخرى وَإِنْ نَزَلَت بحُزْن أحَقُ بِشُكْرِ مَن صَبَرَ احتسابا أبو جَعفر البغداديّ قال‏:‏ كان لنا جارٌ وكانت له جاريةٌ جَميلة وكان شَديد المحبَّة لها فماتت فَوَجد عليها وَجْداً شديداً فبينا هو ذاتَ لَيْلة نائمٌ إذ أتتْه الجاريةُ في نَوْمه فأنشدتْه هذه الأبيات‏:‏ جاءت تَزور وسادِي بعدما دُفِنتْ في النَّوْم ألْثِمُ خَدًّا زَانَه الجيدُ فقلتُ قُرَّةَ عيني قد نُعيتِ لنا فكيفَ ذا وطَريقُ القبر مسدود فانتبه وقد حَفِظها وكان يحدّث الناس بذلك ويُنشدهم‏.‏
فما بَقي بعدَها إلا أيَّاماً يَسيرة حتى لَحِق بها‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:11 AM

من رثى ابنه
قال البُحْتريّ في رثاء ابنة لأحد بَني حُمَيد‏:‏ ظَلَم الدَّهْرُ فِيكم وأساءَ فَعَزاءَ بَني حُمَيْد عَزَاءَ أنفْسٌ ما تَزَالُ تَفْقِدُ فَقْداً وصُدُورٌ ما تَبْرَح البُرَحَاءَ أصْبَحَ السيفُ دَاءَكم وهو الدَّاء الّذِي ما يزال يُعْي الدَّوَاءَ وانتحى القَتْلَ فيكم فَبَكَيْنا بِدمَاء الدُّمُوع تلك الدِّماء يا أبَا القاسم المُقَسَّم في النَّج دِة والجُودِ والنًّدَى أجزاء والهزَبْر الذي إذا دارت الحَر بُ به صرًف الرَّدىَ كيف شَاء الأسىَ واجبٌ على الحُرّ إمّا نِيَّةً حُرَّةً وإما رِياء وسَفَاها أن يَجْزَع الحُرّ مما كان حَتماً على العِبَاد قَضَاء أتُبكّى من لا يُنازل بالسَّيْفِ مُشيحاً ولا يَهُزّ اللِّوَاء والفَتى مَن رأى القُبورَ لمن طاب به مِر بَناته أكفَاء لَسْنَ مِن زينة الْحَياة لعِدّ اللَّ ه منها الأموال والأبناء لم يَئِدِتِرْ بهَنّ قَيْسُ تَمِيم عَيْلةً بل حَمِيَّةً وإبَاء وتَغَشى مُهلهلَ الذلُّ فيه ن وقد أعْطَى الأديم حِبَاء وشقيق بنُ فاتكٍ حَذَرَ العار عليهنّ فارَقَ الدَّهْناء وعَلَى غَيْرهنّ أحْزِن يَعْقو بُ وقد جاءَه بَنوه عِشاء وشعَيْب من أجلهنّ رَأَي الوُح دة ضعْفاً فاستَأجر الأَنبياء وَتَلَفَّتْ إلى القبائِل فانظُرْ أمهات ينسبن أَمْ أباء واستْزَلَّ الشَّيطانُ آدَم في الجنَّ ة لما أَغْرَى به حَوَّاء ولعمْري ما العَجْز عِندِيَ إلا أن تَبيتَ الرجالُ تَبْكي النِّساء مراثي الأشراف قال حَسّان بنُ ثابت يَرْثي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بَكر وعمر رضوانُ اللهّ عليهم‏:‏ ثَلاثَةٌ بَرَزُوا بِسَبْقِهمُ نَضرَهم ربُّهم إذا نُشرُوا عاشُوا بلا فُرْقة حَياتَهم واجْتَمعوا في المَمات إذ قُبِروا فَلَيْس مِن مُسْلِمٍ له بَصرٌ يُنْكِرهم فَضْلَهم إذا ذُكِروا إذا تَذَكرتَ شَجْواً من أخي ثِقَةٍ فاذْكُر أخاكَ أبا بكْرٍ بما فَعَلا خَيْرَ البرّية أتقَاها وأعْدَلها بعد النبي وأوفاها بما حَمَلا الثّانيَ اثنينِ والمَحْمُودَ مَشْهَدُه وأوّل الناس طُرا صَدَّق الرُّسُلا وكان حب رسول الله قد عَلِموا مِن البرية لم يَعْدِلْ به رَجُلا وقال يَرْثِي عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ عليك سَلامٌ من أمير وبارَكَتْ يَدُ اللهّ في ذَاك الأدِيم المُمَزَّقِ فمَن يَجْرِ أو يَرْكَبْ جَناحَيْ نَعامةٍ لِيُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بالأمْس يُسْبَق قَضَيْتَ أُموراً ثم غادرتَ بعدها نَوَافِجَ في أكمامِها لم تُفَتَّق وما كنتُ أخْشى أن تكونَ وفاتُه بَكَفَّيْ سَبَنْتي أَزْرَقِ العَينْ مُطْرِق وقال يَرْثي عثمان بنِ عفّان رضي الله عنه‏:‏ مَن سَرَّه الموتُ صِرْفاَ لا مِزَاج له فَلْيأْتِ ما سَرَّه في دار عُثْمانَا إنّي لمنهُمْ وإن غابوا وإن شَهِدُوا ما دمتُ حيًّا وما سُمِّيت حَسَّانَا يا ليت شِعْري وليت الطّيرِ تُخْبرني ما كان شَأْنُ علّيِ وابن عفّانَا وقال الفرزدق في قَتْل عثمان رضي الله تعالى عنه‏:‏ إنَّ الخِلاَفَةَ لما أظْعِنت ظَعَنتْ مِن أهْل يَثْربَ إذ غَيرَ الهُدَى سَلَكوا صارتْ إلى أهْلها منهم ووارثِها لما رأى الله في عثمانَ ما انتَهكوا السافِكي دَمِه ظُلْماً ومَعْصيةً أيَّ دَم لا هُدُوا من غَيهِمْ سفَكوا وقال السيّد الْحِميريّ يَرْثي عليَّ بن أبي طالب كًرَّم الله وَجْهه ويَذكر يومَ صِفِّين‏:‏ إنّي أدين بما دان الوَصي به وشاركتْ كفُه كَفِّي بصِفِّينا في سفْكِ ما سَفكَتْ فيها إذا احتُضِروا وأبرز اللّهُ للقِسطِ المَوازِينا تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقي ثم اسْقِني مثلَها آمينَ آمينا آمين من مِثْلهم في مِثْل حالِهمُ في فِتْيَة هاجَرُوا للهّ سارينا لَيْسُوا يريدون غيرَ اللهّ رَبِّهم نعم المُراد تَوَخَّاه المُرِيدونَا أنشد الرِّياشي لرجل مِن أهل الشام يرثي عمرَ بن عبد العزيز رضي اللهّ عنه‏:‏ قد غَيّب الدَّافنون اللحدَ إذ دَفَنُوا بدَيْرِ سِمْعان قِسْطاس المَوازينِ من لم يَكُنْ همُّه عَيْنًا يُفجِّرها ولا النَخيلَ ولا رَكْضَ البَراذِين ظَلُّوا على قَبْره يَسْتغْفِرون له وقد يَقُولون ثاراتٍ لنا العبَرُ يُقَبِّلون تُرابا فوق أعْظُمه كما يُقَبًل في المَحجُوجة الحَجَر للّه أرضٌ أجَنَّته ضَريحتُها وكيف يُدْفن في المَلْحُودة القَمَر إنّ المَنابر لا تَعْتاض عن مَلِك إليه يشخصُ فوق المِنْبر البَصر وقال جريرٌ يرثي عمرَ بنَ عبد العزيز‏:‏ يَنْعَى النُّعاة أميرَ المُؤمنين لنَا يا خير منْ حَجّ بيتَ الله واعتمرا حُمِّلتَ أمراً عظيماً فاصْطَبرتَ له وقُمْتَ فيه بأمْرِ اللهّ يا عُمَرا فالشمسُ طالعةٌ ليستْ بكاسفةٍ تَبْكي عليك نُجوم الليل والقمرا وقال جرير يَرْثي الوليدَ بن عبد الملك‏:‏ إنّ الخَلِيفة قد وَارَتْ شمائلَه غَبْراءُ مَلْحُودةٌ في جُولها زَوَرُ أمْسى بنو وقد جَلَّت مُصِيبتهم مثلَ النُجُوم هَوَى من بينها القَمَر كانوا جَميعاً فلم يَدْفَع مَنَّيتَه عبدُ العزيز ولا روْحٌ ولا عُمَر وقال غيره يرثي قَيْس بن عاصم المنقريّ‏:‏ فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ولكنّه بُنْيان قَوْم تَهدَّما وقال أبو عَطَاء السِّنْدي يَرْثي يزيد بن عمر بن هُبَيرة لما قُتل بوَاسط‏:‏ ألا إنّ عيناً لم تجُد يومَ واسطٍ عليكَ بِجَارِي دمْعِها لَجَمُودُ عَشِيّةَ راحَ الدَّافِنُون وشُقِّقتْ جُيوب بأيدي مأتم وخُدود فإن تك مَهْجُورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوُفود وُفود وإنك لم تَبْعد على متعهِّد بَلى إنّ مَن تحت التراب بَعيد وقال منصور النَّمري يَرْثي يزيد بن مَزْيد‏:‏ مَتى يَبْرُد الحُزْن الذي في فُؤاديا أبا خالدٍ من بعد أن لا تَلاَقِيَا أبا خالدٍ ما كان أدهَى مُصِيبةً أصابت مَعدًا يومَ أصْبَحْت ثاويا لَعَمْرِي لئن سُرّ الأعادي وأظهَروا شَمَاتاً لقد سُّرُوا برَبْعِكَ خالِيا وأوْتار أقْوَام لَدَيْكَ لَوَيْتَها وزُرْتَ بها الأجْداثَ وهِي كما هيا نُعَزِّي أميرً المؤمنين ورَهْطَه بسَيْفٍ لهم ما كان في الحَرْب نابيا على مِثْل ما لاقَى يزيدُ بن مَزْيد عليه المَنايا فالْقَ إن كنْتَ لاقِيا سأبكيكَ ما فاضت دموعي فإن تَغِضْ فَحَسْبُكَ منّي ما تّجنّ الجَوانِحُ كأن لم يَمُتْ حَيٌّ سِواك ولم تَقُم على أحدٍ إلا عليكً النَّوائح لئن حَسُنت فيك المَرَاثي وذِكْرُها لقد حَسُنَت من قبلُ فيك المَدَائحُ فما أنا مِن رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازعٌ ولا بسُرورٍ بعد مَوْتك فارِح وقال زِياد الأعجم يرثي المُغيرة بن المهلًب‏:‏ إنَ الشَّجاعهَ والسَّماحةَ ضُمَنا قَبْرًا بِمَرْوَ على الطَّريق الواضِح فإذا مَرَرْتَ بقبره فاعقرْ به كُومَ الهِجَان وكل طِرْفٍ سابح ‏"‏ وانضح جوانبَ قَبْره بدمائها فلقد يكون أخا دَم وذَبائح ‏"‏ والآن لما كنْتَ أكملَ مَنْ مَشىَ وافتر نابُكَ عن شَبًاةِ القارِح وتَكامَلَت فيك المروءةُ كلُّها وَأعَنْتَ ذلك بالفَعَال الصَالح للمهلًبي من مَرْثيته للمتوكل‏:‏ لا حُزْنَ إلا أراه دُونَ ما أَجدُ وهَلْ كمن فَقَدَتْ عَيْناي مَفتَقَدُ لا يَبْعدَنْ هالكٌ كانت مَنِيته كما هَوَى من غِطاء الزُّبْية الأسد هلاَّ أَتَتْهُ أعاديه مُجاهرةً والحَربُ تَسْعَر والأبطال تَجْتلد فخَر فوق سرَير المُلْكِ مُنْجدلاً لم يَحْمه مُلكُه لما آنقضىَ الأمد قد كان أنصارُه يَحْمُون حَوْزتَه وللردىَ دون أرْصاد الفَتَى رَصَد وأصْبَح الناس فَوْضىَ يَعْجَبون له لَيثاً صريعاً تَنَزَّى حوله النَّقَد علَتْكَ أسيافُ من لا دونه أحدٌ وليسَ فوقك إلا الواحد الصمد جاءُوا عظيماً لدُنيا يَسْعدون بها فقد شَقُوا بالذي جاءُوا وما سَعِدوا ضَجَّت نِساؤًك بعد العزَ حين رأتْ خدًّا كريماً عليه قارِت جَسِد أضحى شهيدُ بني العبّاس مَوْعِظةً لكلّ ذي عِزّة في رأسه صَيَد خَليفةٌ لم ينل ما ناله أحدٌ ولم يكن مثله رُوِح ولا جَسَد كم في أديمك من فَوْهاء هادرة من الجَوَائف يَغْلى فوقها الزَّبَد إذا بَكيتُ فإنّ الدمع مُنْهملٌ وإن رَثيتُ فإنَ القولَ مُطَرد قد كنتُ أسرف في مالي ويُخْلِف لي فعلَّمتْني الليالي كيف أقْتَصِد ‏"‏ إذا قُرَيْشَ أرادوا شَدِّ مُلكهمُ بغير قَحْطان لم يَبْرَح به أوَد ‏"‏ من الألى وَهَبوا للمَجد أنْفًسَم فما يبالون ما نَالوا إذا حُمدوا قد وتُر الناسُ طرًّا ثم صَمَتُوا حتى كأنَّ الذي يَبْلونه رَشَد وقال آخر‏:‏ وِفتًى كأنّ جَبينَه بَدْرُ الدُّجا قامت عليه نَوَادِبٌ ورَوَامِس غرَسَ الفَسِيلَ مُؤَمّلاً لِبَقائه فنَما الفَسِيلُ ومات عنه الغارس وقال الأسود بن يَعْفُر‏.‏
ماذا أؤَمِّلُ بعد آل مُحَرق تَرَكُوا منازلَهم وبَعد إيَادِ أهل الخَوَرْنَقِ والسَّدير وبارقٍ والقَصْر ذي الشّرفات مِن سِنْداد نَزَلوا بأَنقِرة يَسِيلُ عليهمُ ماءُ الفرات يَجىء مِن أطواد جَرَت الرِّياحُ على محلِّ دِيارهم فكأنما كانوا عَلَى مِيعاد ولقد غَنُوا فيها بأنعِم عِيشةٍ في ظِل مُلْكٍ ثابتِ الأوتاد وإذا النَّعيم وكلًّ ما يلْهَى به يوماَ يصِيرُ إلى بِلًى ونَفَاد يا حار ما طَلَعت شمسٌ ولا غَرَبتْ إلا تُقَرَبُ آجالا لميعاد هل نحن إلا كأرْواح يُمر بها تحت التراب وأجسادٌ كأجساد لما مات أسماء بن خارجة الفَزَاري قال الحجاج‏:‏ ذلك رجل عاش ما شاء ومات حين شاء‏.‏
وقال فيه الشاعر‏:‏ إذا مات ابن خارجةَ بنِ زَيْدٍ فلا مَطَرَتْ على الأرض السماءُ ولا جاء البَريدُ بغُنْم جَيْشٍ ولا حُمِلت على الطهر النساء فَيَومٌ منْك خيرٌ من رِجالٍ كثيرٍ عندهم نَعَمٌ وَشَاء وقال مسلم بن الوليد الأنصاري‏:‏ أمَسْعود هل غادَاكَ يومٌ بفَرْحَةٍ وأمْسَيْتَ لم تَعْرِضْ لها التَّرَحَاتُ وهل نحْنُ إلاّ أنفسٌ مُستعارةٌ تَمر بهما الرَّوَحات والغدوات بكيتَ وأَعْطَتْكَ البكاءَ مُصيبة مَضَتْ وَهْيَ فَرد ما لها أخَوَات كأنك فيها لم تَكن تَعْرِفُ العَزَا ولم تَتعمَّد غيْرَك النَّكَبات سَقَى الضاحكُ الوَسْميُ أعظُمَ حُفْرَةٍ طَواها الردَّى في اللّحْدِ وَهْي رُفات وقال أيضاً‏:‏ أمَّا القُبورُ فإنَّهُنَّ أوانسٌ بِجِوار قَبْرِك والدِّيار قُبُورُ عًمَتْ فَوَاضِلُه وعَمَّ مُصابه فالناسُ فيه كُلّهم مَأجور رَدَّت صنائعه إليه حياتَه فَكانه من نَشْرِها منْشور وقال أشجع بن عمرو السُّلَمي يرثي منصور بن زِياد‏:‏ يا حُفْرةَ الملك المُؤَمَّل رِفدُهُ ما في ثَرَاكِ مِن النَدَى والخِير لا زِلْتِ في ظِلَّين ظِلِّ سَحابةٍ وَطْفَاَءَ دانيةٍ وظِل حبُور وسَقَى الوليُّ على العِهاد عِراصَ ما وَالاكِ من قَبْرٍ ومن مَقْبور يا يومَ مَنصورٍ أبَحْتَ حِمَى النَدى وَفَجَعْته بِوليّه المَذكور يا يومَه أعْرَيْتَ راحلةَ النَّدَى من رَبِّها وحَرَمْتَ كل فَقير يا يومه ماذا صنَعت بِمُرْمل يرْجُو الغِنى ومُكبّل مأسور يا يومَه لو كنت جِئتَ بِصيْحَةٍ فَجَمَعت بين الحيِّ والمقبور للهّ أوْصال تقسمها البِلى في اللحد بين صَفائحٍ وصخور ذَلَتْ بمصرعه المكارِمُ والندى وذُبابُ كلِّ مُهَنَّد مأثُور أَفَلتْ نجوم بَني زِيادٍ بَعدما طَلَعَت بنوِر أهلَّة وبُدُور لولا بقاءُ محمد لتصدَعت أكبادُنا أَسفاً على منصور أبقى مَكارِمَ لا تَبِيدُ صفَاتُها ومَضىَ لِوَقت حِمَامه المَقْدُور أصْبحتَ مَهْجوراً بحُفرتك التي بُدِّلْتها من قَصرْك المَعْمُور بَلَيت عِظَامُك والصفاحُ جَديدة ليس البلى لفَعَالك المَشْهور إِنْ كُنْت ساكِنَ حفْرةٍ فلقد تُرى سَكناً لعُودي مِنْبرٍ وسرَير وقال يرثي محمد بن مَنْصور‏:‏ أنْعَى فَتِىَ الجُودِ إلى الجود ما مِثلُ مَن أنْعَى بِمَوْجُودِ أنْعَي فَتَى مَصَّ الثَّرى بعده بَقِية الماءِ مِنَ العُود فانْثَلم المَجْدُ به ثَلمَةً جانِبُها ليس بِمَسْدُود أنْعَي ابن مَنْصور إلى سَيِّدٍ وأيِّدٍ ليسَ برِعْدِيد أوْرَده يومٌ عَظِيمٌ ثَأى في المجد حوضاَ غير محمود كُلُّ آمرىءٍ يَجرى إلى مٌدَّة وأجَل قد خُطّ مَعْدُود سَيَنْطَق الشِّعُرُ بأيامه على لِسانٍ غَيْرِ مَعْقُود فكل مَفْقودٍ إلى جَنْبِه وإنْ تعالى غَير مَفْقُود يا وافِدَيْ قومهما إنّ مَن طَلَبتما تحت الْجَلاميد طَلَبتما الجودَ وقد ضَمَه محمدٌ في بطن مَلْحُود فاتَكما الموت بمعْرُوفِه وليس ما فات بِمَرْدُود يا عَضداً لِلْمَجْدَ مَفْتوتةً وساعِداً ليس بمَعْضود أوْهَن زَنْدَيْها وَأكْباهما قَرْعُ المنايا في اَلصنَّاديد وهدَّت الرُكْنَ الذي كان بالأمْس عِمَاداً غَيْرَ مَهْدُود وقال حبيبٌ الطائيًّ يَرثي خالدَ بن يَزيد بن مَزيد‏:‏ أشَيْبان لا ذاك الهِلالُ بطالعٍ عَلَينا ولا ذاك الغَمَام بعائدِ وأنشد أبو محمد التّيْمي في يَزيد بن مَزْيد‏:‏ أحقاً أنّه أودى يَزِيدُ تَبَينَّ أيها النَّاعي المُشِيدُ أتدْرِي من نَعَيت وكيف فاهتْ به شَفَتَاكَ واراك الصَّعِيد أحامي المُلْكِ والإسْلام أوْدى فَما للأرْض وَيْحَكَ لا تَمِيد تَأمَّلْ هل تَرَى الإسْلامَ مالتْ دَعائمُهُ وهل شَابَ الوَليد وهَلْ شِيمَتْ سُيوف بني نِزَارٍ وهَل وُضِعت عن الخَيْل اللُّبُود وهَلْ نَسْقِي البِلادَ عِشَارُ مُزْنٍ بدرَّتها وهَلْ يَخْضَرُ عُود أما هُدَّت لمَصرَعه نِزَار بَلَى وتقوّض المجد المَشِيد وحلَّ ضَرِيحَه إذ حَلَّ فيه طَرِيفُ المَجْدِ والحَسَبُ التَّلِيد وهُدَّ العِزُّ والإسْلامُ لما ثَوَى وخَلِيفة اللهّ الرَّشيد لقد أوْفي رَبِيعَةَ كُلُّ نحْسٍ لمهْلِكه وغُيِّبت السُّعُود وأنْصِلَت الأسِنّة مِن قَنَاهاً وأشْرعت الرِّمَاح لِمَن يَكِيد فمِن يَحْمي حِمَى الإسْلام أمْ مَن يَذُبّ عن المَكارم أو يذُود ومَن يَدْعُو الإمامُ لكلّ خَطْبِ يخاف وكُلِّ معضلة تَؤُود ومَن تُجْلَى به الغَمَراتُ أم مَنَ يَقُوم لها إذا اعوج العنيد ومن يحمي الخميس إِذا تعَايا بحيلة نَفْسه البَطَل النَّجِيد وأين يَؤُمِّ منْتَجع وَلاجٍ وأين تَحُطّ أرْحُلَها الوُفُود لقد رُزِئتْ نِزَارٌ يوْمَ أودْىَ عمدٌَ ما يقاسُ به عَمِيد فلو قُبِلَ الفِدَاءُ فَدَاهُ منّا بِمُهْجَته المُسَوَّدُ والمَسُود أبَعْدَ يَزيد تَختَزن البَوَاكِي دُمُوعاً أو تُصَان لها خُدُود أما واللّه لا تَنْفَكُّ عَيْنِي عليه بدَمْعِها أبداً تجود وإنْ تَجْمُد دُمُوعُ لَئيم قَوْم فليس لِدَمْع ذي حَسَب جُمود وإن يك غالَه حَينٌ فأَوْدَىً لقد أودىَ وليس لهًُ نَدِيد وإنْ يَعْثر بهِ دهرٌ فكم قَد تَفَادىَ من مخافته الأسُود ألم تَعْلَم أخِي أن المَنايا غَدَرْنَ به وهُنَّ له جُنود قَصَدْنَ له وكُنَّ يَحدْنَ عنه إذا ما الحَرْبُ شبّ لها الوَقُود فهلا يوْمَ يَقْدُمهَا يَزِيدُ إلى الأبطال والخُلان حِيد ولو لاقى الحُتُوف عَلى سِوَاه للاقاها به حتْفٌ عَنِيد أضَرَاب الفوارس كل يوْم ترَى فيه الحُتُوفُ لها وَعِيد فمن يُرْضى القَواطع والعَواليً إذا ما هَزّها قَرْعٌ شَديد لِتَبْكِكَ قبَّةُ الإسلام لمَّاَ وَهتْ أطنابُها وَوَهى العَمُود وًيبْكِك مُرْهَقٌ تتْلُوهُ خَيْلٌ إبَالَةُ وهو مَجْدُول وَحِيد وَيَبْكِكَ خاملٌ ناداك لمَّا تَوَا كَلَهُ الأقارِبُ والبعيد وَيَبْكِكَ شاعرٌ لم يُبْقِ دَهرٌ له نَشبَا وقد كَسَدَ القَصِيد تَرَكْتَ المَشرفيَّة والعَوَالي مُحَلاةً وقد حانَ الوُرُود وغادَرْتَ الجِيَاد بكُلِّ لُغْزٍ عَوَاطِلَ بَعْدَ زِينتها تَرُود لَقَد عَزَّى ربيعةَ أَنَّ يوماً عليها مثلُ يَوْمك لا يعود ومِثْلُك من قَصَدْن له المنايا بأسْهُمها وهُنَّ له جُنود فيا للدهر ما صَنَعَتْ يَدَاهُ كأنَّ الدهر منها مستقيد سَقَى جَدَثاً أقامَ به يزيدُ من الوَسْمِيِّ بَسَّام رَعُود فإن أَجْزَعْ لمَهْلِكة فإنّي على النَّكَبات إذ أوْدىَ جَلِيد لِيَذْهَبْ مَن أَراد فَلَسْت آسىَ على مَن مات بعدك يا يزيد وقال مَرْوان بن أبي حَفْصَة يَرْثي مَعْنَ بن زائدة‏:‏ زار ابن زائدةَ المَقابِر بَعْدَ ما أَلْقَتْ إليه عُرَى الأمور نِزَارُ إنَّ القبائلَ مِنْ نزَارٍ أصْبَحَتْ وقلُوبُها أسفاً عليه حَرَارُ وَدَّتْ رَبِيعَةُ أنَّها قسمتْ لَهُ منها فعاشَ بِشَطْرِها الأعمار فَلأبْكِينًّ فَتَى رَبِيعَة ما دَجَا ليلٌ بِظُلْمَته ولاح نَهَار لا زال قَبْرُ أبي الوَليد تَجُوده بِعِهادها وبوَبْلِهِا الأمْطَار لهفاً عليك إذا الطِّعَانُ بمأزِق تَرَكَ القَنَا وطِوالُهُنَ قِصَار خلَّى الأعنة يومَ مات مشَيعٌَ بَطَلُ اللِّقَاءِ مُجَربٌ مِغْوَار يُمْسي وَيُصْبِحُ مُعْلَماً تًذْكَى بِه نَارٌ بمُعْتَرَكٍ وَتُخْمَدُ نَار مهما يُمرَّ فليس يَرْجُو نقْضَهُ أحدٌ وليس لِنَقْضِهِ إمْرَارُ لو كان خَلْفَكَ أو أمامَكَ هائباً أحداً سِوَاك لَهَابَكَ المِقْدَار وقال يرثيه‏:‏ بَكى الشامُ مَعْناً يومَ خَلَى مكانَه فكادت له أرض العِرَاقين تَرْجُفُ ثَوَى القائدُ المَيْمُون والذائد الذي به كان يُرْمَى الجانبُ المتَخَوَف أتى الموتُ مَعْناً وهو للعِرْض صائنٌ وللمجدِ مُبْتَاعٌ وللمالِ مُتلِف وما مات حَتَّى قّلدَتْهُ أمُورَها ربيعةُ والحيَّان قيْسٌ وخِنْدِف وحتىَ فَشَا في كلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبِ أيادٍ له بالضرُِّ والنفْع تُعْرَف وكم مِن يدٍ عنْدِي لِمَعنٍ كَريمةٍ سأشْكُرُها ما دامت العين تَطْرِف جَرَت جَوَارٍ بالسَّعد والنَّحس فنحن في وحْشَةٍ وَفي أنْس العينُ تَبْكىِ والسنُّ ضاحكةٌ فنحن في مأتمٍ وفي عُرْس يُضْحِكُنا القائم الأمِينُ ويُب كِينا وفاة الإمام بالأمْس بدْرَانِ بَدْرٌ أَضْحَى ببَغْداد في ال خُلْدِ وبَحْرُ بطُوس في الرّمْس وأنشد العُتْبي‏:‏ والمرءُ يجمع مآلَهُ مُسْتَهْتِراً فَرٍحاً وليس بآكِلِ ما يجمعُ وليأتينّ عليك يومٌ مرَّةً يُنكَى عليك مُقَنَّعاً لا تَسْمَع وقال حارثه بن بَدْر الغُدانيّ يرثي زياداً‏:‏ صَلّى الإلهُ علي قبرٍ وطهَرَه عند الثَّويِّة يَسْفِي فوقه المُورُ زَفَّتْ إليه قُرَيْشٌ نعْشَ سيِّدها فثَمَّ كلّ التُّقَى والبر مقبور أبا المغيرَة والدُّنْيَا مُغَيِّرَةٌ وإنَ من غرّت الدُّنيا لمغرُور قد كان عندكِ للْمعْرُوف معرفةٌ وكان عندك للنَّكْراء تَنْكير لوْ خلَّدً الخيرُ والإسلامُ ذا قَدَم إذاً لخلَّدَك الإسْلاَمُ والخِير ألا ذَهَبَ الغَزْو المُقَرِّبُ لِلغِنَى ومات النَّدَى والحَزْم بعد المهلَّبِ أقاما بمَرْو الرّوذ رَهْن ضرَيحه وقد غيبَا من كلِّ شرق ومَغْرِب وقال المهلْهل بنُ رَبيعة يرْثي أخاه كًلَيْب وائل وكان كُلَيب إذا جَلس لم يِرْفَع أحد بحضْرتِه صوتَه‏:‏ ذَهَبَ الخِيار من المَعاشر كلِّهم واستْبَّ بعدك يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ وَتناولُوا من كُلِّ أمرِ عظيمةٍ لو كنتَ حاضرِ أمرِهم لم يَنْبسوا وقال عبد الصَّمد بن المُعذَّل يَرْثِي سَعيد بن سَلم‏:‏ كم يتيم جَبَرْتَه بعد يُتْمٍ وعَدِيمٍ نعَشْتَه بعد عُدْم كلما عض بالحوادث نادى رَضيَ اللهّ عن سعيد بنِ سَلمَ وقال ابن أخت تأبطَ شرا يرْثي خاله تأبطَ شرّا الفَهْمي وكانت هُذَيل قتلته‏:‏ إنْ بالشَعْب الذي دونَ سَلْع لقتيلاً دمه ما يُطَل قَذف العَبءَ عليَّ ووَلّى أنا بالعِبْء له مستَقِل وَوراء الثأرِ منيَ ابن أختٍ مَصعٌ عُقْدَتُهُ ما تُحَل بَزَّني الدَّهر وكان غَشوماً بأَبّي جارُهُ ما بُذَلُّ شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ذَكَتِ الشِّعري فَبَرْدٌ وَظِلُّ يابِسُ الجَنْبَينْ من غير بُؤسٍ وندِيُّ الكَفَّين شَهْمٌ مُدِلّ ظاعِن بالْحَزم حتًى إذا ماَ حَل حَلَّ الحزْمُ حيْثُ يَحلُّ وله طَعْمانِ أَرْيٌ وَشَرْيٌ وكلا الطعْمَينْ قد ذاقَ كل رائحٌ بالمَجْدِ غادٍ عليه من ثيابِ الحمْدَ ثَوْبٌ رِفَلّ أفْتَحُ الراحة بالجُودِ جَواداً عاش في جَدْوَى يدَيْه المُقِلُّ مُسْبِلٌ في الحَيّ أَحْوَى رِفَل وإذا يَغْزُو فسِمْع أزَلُّ يرْكَبُ الهوْلَ وَحيداً يَصحَبُه إلا اليماني اقَلّ ولا فاحتَسوا أنفاسَ يوم فلمّا هَوَّموا رُعْتَهُمْ فاشْمَعَلّوا كلُّ ماض قد تَردَّى بمًاض كسَنَا البَرْق إذا ما يُسَل فَلئِنْ فَلّت هُذَيْلٌ شَبَاه لَبِمَا كان هُذَيْلاً يَفُلّ تَضْحًكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هُذيلِ وتَرَى الذِّئْبَ لها يَستهل وعِتَاقُ الطَّير تَغْدُو بِطاناًَ تَتَخَطَّاهمُ فما تستقلّ وفُتُوّ هَجَّروا ثم أسْرَوْا ليْلَهم حتَّى إذا آنجاب حَلُّوا فاسْقِنِيها يا سوادَ بن عَمْروٍ إِنّ جِسْمي بعدَ خالِي لَخَلُّ وقال أُمَية بن أبي الصلت يَرْثى قَتلَى بَدْر ‏"‏ من قُريش ‏"‏‏.‏
ألاّ بَكّيْتِ عَلَى الكِرام بَني الكِرام أولِى المَمَادحْ كَبُكا الحَمام على فُروع الأيْكَ في الغُصنُِ الجوانح ‏"‏ يبكين حَرَّى مُستكي ناتٍ يَرُحْن مع الروَائح ‏"‏ أَمْثالَهنَّ الباكِيا ت المُعْوِلات من النوائح مَنْ يَبكهِم يَبْكى على حُزْنٍ وَيَصدُق كُلَّ مادح من ذا بِبَدْر فالعقن قل من مَرازِبة جَحَاجِح شُمْطٍ وَشُبَّانٍ بَهَا ليل مَناوير وَحَاوح دُعْمُوص أبواب المُلو ك وجائِب لِلخَرْق فاتح ومن السرَّاطِمَة الحَلا جمةَ المَلاًزِبة المنَاجِح القائِلين الفاعلي ن الآمِرين بكُلِّ صالح المُطْعِمينَ الشَحْم فوقَ الخُبْزِ شَحْماً كالأنافح نُقُل الجفَانِ مع الجفَا ن إلى جِفَانَ كالمنَاضِح ليست باَّصْفارٍ لِمَنْ يَعْفُو ولا رَح رَحارِح ‏"‏ للضيْف ثُمَّ الضَيْف بعد الضَّيْفِ والبُسْط السَّلاطح ‏"‏ وُهُب المِئين من المِئين إلى المِئين من اللواقح سَوْقَ المُؤَبَّلِ للمؤبَّل صادِرَاتِ عن بَلاَدِح لِكِرامهم فوق الكرا م مزَيّة وَزْن الرَّواجح كتثاقل الأرطال بالقسطاس في الأيدي الموائح للّه در بني عليّ أيّم منهم وناكح وُيلاقِ قِرْن قِرْنَهُ مَشي المُصَافح للمُصَافح بزُهاءِ ألْفٍ ثُمَ أل ف بين ذي بَدنٍ ورَامح الضَّارِبين التَقْدُمِيَّة بالمُهنَّدَة الصفائح روى الأخفش لسَهل بن هارون‏:‏ ما للحوادث عنْكَ مُنصَرِف إلاّ بنَفْس ما لهَا خَلَفُ فَكأَنّها رَامٍ عَلَى حَنقٍ وَكأنَّنى لِسَهَامِها هَدَف دهرٌ سُرِرْت به فأَعْقَبَني جَرَيانه ما عِشْتُ ألْتَقف فابْكِ الّذي وَلِّى لمَهْلِكهَ عنك السُّرورُ خُلِّفَ الأسف إذ لا يَردّ عليك ما أخذَتْ منك الحوادثُ دَمْعةٌ تَكِف قَبْرٌ بمُخْتَلف الرِّياح به مَنْ لَسْتُ أبلغه بما أَصِف أنسَ الثرى بمحَلِّه وله قد أوحَشَ المُسْتَأْنَس الألِف فالصبر أحسن ما اعْتَصَمْتَ به إذ ليس منه لدَيّ منتصف تَجْري المَجَرّة والنِّسْرَان بَيْنهما والشمسُ والقمرُ الساري بمقدَار لقد علمتُ وخَيرُ العِلْم أنْفعه أن السَّيَدَ الذي ينْجُو منَ النار وقال يرْثى قَوْمَه‏:‏ همُ نَصَبُوا الأجْسَاد للنَبْل والقَنَا فلم يَبْق منها اليومٍ إلا رَميمُها تَظلّ عِتاقُ الطير تحجلُ حَوْلهم يُعلِّلن أجساداً قليلا نَعيمها لِطَافاً بَرَاها الصَّوْمُ حتى كأنَها سيوفٌ إذا ما الخَيلُ تَدْمى كلومُها التعازي قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يُعزِّيه في ابنه أيوب وكان وليّ عهده وأكبر ولده‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه من طال عمره فَقَدَ أحبَّتَهُ ومن قَصر عُمره كانت مُصيبته في نفسه‏.‏
فلو لم يكن في مِيزانك لكُنْتَ في ميزانه‏.‏
وكَتَب الحسنُ بن أبي الحسن إلى عُمَر بن عبد العزيز يُعزِّيه في ابنه عبد الملك‏:‏ وعوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلاَ يَكُنْ فَقِيدُكَ لا يَأتي وأَجْركَ يَذْهَبُ العُتْبىِ قال‏:‏ قال عبدُ الله بن الأهْتَم‏:‏ مات لي ابن وأنا بمكة فجزِعْتُ عليه جَزَعاً شديداَ فَدَخَل عليَّ ابن جُرَيجٍ يُعَزِّيني فقال لي‏:‏ يا أبا محمد اسْلُ صَبراً واحْتِساباً قبْلَ أن تَسْلُو غفلة ونسْياناً كما تَسْلو البهائم‏.‏
وهذا الكِلامُ لعليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهَه يُعزِّي به الأشْعَتَ بن قيْس في ابن له ومنه أخذه ابن جُرَيْج‏.‏
وقد ذكَرَه حبيب في شعره فقال‏:‏ وقال عليّ في التعازي لأشْعَثٍ وخاف عليه بعضَ تلك المآثِم أتَصْبِرُ لِلْبلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً فَتُؤْجَرَ أَمْ تَسْلُو سًلُوَّ البهائم أتى عليُّ أبي طالب كَرَّم الله وجهه لأشْعَث يُعَزِّيه عن ابنه فقال‏:‏ إن تَحْزَنْ فقد آستحقًتْ ذلك مِنك الرّحم وإن تَصْبر فإن في الله خَلَفاً من كلِّ هالك مع أنّك إن صَبَرت جرَى عليك القَدَر وأنت مَأجُور وإن جَزِعْت جَرَى عليك القَدَر وأنت آثِم‏.‏
وعزَّى ابن السمَّاك رجلاً فقال‏:‏ عليك بالصَّبْر فبه يَعْمل من احتَسَب وإليه يَصير مَن جزع واعلم أنه ليست مُصيبة إلا ومعها أعظمُ منها من طاعة الله فيها أو مَعْصيته بها‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ عزّى صالحٌ المُرِّي رجلاً بابنه فقال له‏:‏ إنْ كانت مُصيبتك لم تُحْدِث لك مَوْعظةً فمُصِيبتك بنَفْسك أعظمُ من مُصيبتك بابنك واعلم أنّ التَّهْنِئَة على آجِل الثَّوَاب أولَى من التَّعزِية على عاجل المصيبة‏.‏
العُتْبىّ قال‏:‏ عزَى أبي رجلاً فقال‏:‏ إنما يَسْتوجب على اللهّ وَعْده من صبر لحقه فلا تجْمَع إلى ما فُجِعت به الفَجيعةَ بالأجر فإنها أعظمُ المصيبتن عليك ولكلّ اجتماعٍ فُرْقة إلى دار الحُلولِ‏.‏
عزّى عبدُ الله بن عبَّاس عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه في بُنى له صَغير فقال‏:‏ عوَّضك الله منه ما عوّضه الله منك‏.‏
وكان عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه إذا عزَّى قوماً قال‏:‏ عليكم بالصَّبر فإنّ به يأخُذ الحازم وإليه يَرْجع الجازع‏.‏
وكان الحسنُ يقول في المُصيبة‏:‏ الحمدُ لله الذي آجَرَنا على ما لو كلَّفنا غيرَه لعَجَزْنا عنه‏.‏
أما بعد فإنَ أحق مَن تعزَّى وأوْلى مَنْ تأسى وسلّم لأمر اللّه وقَبِلَ تأديبَه في الصَبر على نَكبَات الدنيا وتجرع غُصَص البَلْوى مَن تَنجَز من الله وعده وفَهِم عن كتابه أمرَه وأخْلص له نفسَه واعترف له بما هو أهلُه‏.‏
وفي كتاب اللّه سَلوَة من فَقْدَ كل حَبيب وإن لم تَطب النفسُ عنه وأنْسٌ من كلِّ فقيد وإن عَظًمت اللوعةُ به إذ يقول عزَّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ كلُّ شيءَ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَه لَهُ الحُكم وَإلَيْهِ تُرْجَعُون ‏"‏ وحيث يقول‏:‏ ‏"‏ الذِين إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا للّه وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُون أولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وأولئِكَ هم المُهُتَدُون ‏"‏‏.‏
والموتُ سبيل الماضِين والغابرين ومورِد الخَلاَئق أجْمعين وفي أَنبياء الله وسالفِ أوليائه أفضلُ العِبْرة وأحْسن الأسوة فهل أحد منهم إلا وقد أخذ من فجائع الدُّنيا بأَجْزل العطاء ومن الصبر عليها باحتساب الأجْر فيها بأوْفر الأنصِبَاء فِجع نبيّنا عليه الصلاةُ والسلام بابنه إبراهيم وكان ذخْرَ الإيمان وقُرَّة عَين الإسلام وعَقِب الطٌهارة وسَلِيل الوحي ونَتِيج الرَّحمة وحَضِين الملائِكة وبِقيّة آل إبراهيم وإسماعيل صلوات اللهّ عليهم أجمعين وعلى عامة الأنبياء والمُرْسلين فعمَت الثقلَين مُصِيبتُه وخَصَّت الملائكةَ رَزِيتَّهً ‏"‏ ورضى صلى الله عليه وسلم من فراقه بثواب الله بدلاً ومنِ ‏"‏ فِقْدَانه عِوَضاً فشكَرَ قَضَاه واتبع رِضَاه فقال‏:‏ يَحْزَن القَلب وتَدْمَع العين ولا نقول ما يُسْخِط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لَمَحْزونون‏.‏
وإذا تأمَّل ذو النّظَر ما هو مُشْفٍ عليه من غَير الدُّنيا وانْتَصح نفسه وفِكْرَه في غِيرَها بتنقُّل الأحوال وتقارُب الآجال وانقطاع يسير هذه المُدَّة ذَلَّت الدُّنيا عنده وهانت المصائبُ عليه وتَسهًّلت الفجائعُ لديه فأخَذ للأَمر أُهْبته وأعدَّ للموت عًدَّته‏.‏
ومن صَحِب الدُّنيا بحُسْن رَويَّة ولاحَظَها بعين الحقيقة كان على بَصِيرة من وَشْكِ زوالها‏.‏
قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أذكُرُوا الموت فإنه هادم اللذات ومُنَغِّص الشَّهَوَات‏.‏
وليس شيء مما اقتصصتُ إلا وقد جعلك اللهّ مُقَدَّماً في العِلْم به‏.‏
ولَعْمري إن الخَطْبَ فيما أصِبْتَ به لَعَظيم غير أن تَعوّصه من الأجْر والمَثُوبة عليه بحُسْن الصَّبر يُهَوِّنان الرَّزِيِّة وإن ثَقُلَت ويُسَهِّلاَن الخَطْب وإن عَظُم‏.‏
وهب الله لك من عِصْمة الصَّبر ما يُكمل لك به زُلْفي الفائزين ومزيد الشاكرين وجعلك من المُرتَضين قَوْلاً وفِعلا الذين أعطاهم ‏"‏ الحُسْنَى ‏"‏ ووفَّقهم للصَّبْر والتَّقْوَى‏.‏
محمد بن الفَضل عن أبي حازم قال‏:‏ مات عُقْبة بن عِيَاض بن غَنْم الفِهْريّ فعزَّى رجلٌ أباه فقال‏:‏ لا تَجْزع عليه فقد قُتِل شهيداً فقال‏:‏ وكيف أجزع على من كان في حَيَاته زينةَ الدُّنيا وهو اليومَ من الباقيَات الصَّالحات‏.‏
ابن الغاز قال‏:‏ حَدَّثنا عيسى بن إسماعيل قال‏:‏ سمعتُ الأصمعيّ يقول‏:‏ دخلتُ على جعفر بن سُليمان وقد ترك الطعامَ جَزَعاً على أخيه محمد بن سليمان فأنشدته بيتين فما برحتُ حتى دعا بالمائدة‏.‏
فقلتُ للأصمعيّ‏:‏ ما هما فسكت فسألتهُ فقال‏:‏ أتدري قد زادهُ كلَفاً بالحُبِّ إذ مَنَعت أحبُ شيء إلى الإنسان ما مُنِعاَ قال أبو موسى‏:‏ والأبيات لأراكة الثقفي يرْثى بها عمرو بن أراكَة ويُعزِّى نفسه حيث يقول‏:‏ لَعَمْري لئن أَتْبَعْتَ عينك ما مضى به الدَّهْرُ أو ساق الحِمَامُ إلى القَبر لتستنفدن ماءَ الشُّئون بأَسْره وإنْ كُنْتَ تَمريهنَ من ثَبَج البَحْر تَبَيّنْ فإنْ كان البُكا ردّ هالِكاً على أَحَدٍ فاجْهَد بُكاك على عَمْرو فلا تَبْكِ مَيْتاً بعد مَيت أَجَنَّة عليُّ وعبَّاس وآل أبي بَكْر أبو عمر بن يزيد قال‏:‏ لما مات أخو مالكَ بن دِينار بكى مالك وقال‏:‏ يا أخي لا تَقَرُّ عيْني بعدك حتى أعْلم أفي الجنِّة أنت أم في النَّار ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك‏.‏
وقالت أعرابية ورأت ميتاً يُدْفَن‏:‏ جافي الله عن جَنْبَيْه الثَّرَى وأعانه على طول البِلَى‏.‏
وعَزَّى أعرابيَ رجلاً فقال‏:‏ أوصيك بالرِّضا من الله بقَضائه والتنجًّز لما وعد به من ثوابه فإنَ الدُّنيا دار زوال ولا بد من لقاء اللهّ‏.‏
وَعزَّى أيضاً رجلاً فقال‏:‏ إنّ من كان لك في الآخرة أجراً خيرٌ لك ممن كان لك في الدُّنيا سرُوراً‏.‏
وجَزع رجلٌ على ابن له فشكا ذلك إلى الحسن فقال له‏:‏ هل كان ابنك يَغيب عنك قال‏:‏ نَعم كان مَغيبُه عنِّي أكثر من حضوره قال‏:‏ فاترًكه غائباً فإنه فإنه لم يَغِب عنك غيبةً الأجر لك فيها أعظمُ من هذه الغَيْبة‏.‏
وعزّى رجلٌ نصرانيٌّ مسلماً فقال له‏:‏ إنّ مِثْلي وكان عليُّ بن الحُسين رضى الله عنه في مجلسه وعنده جماعةٌ إذ سمع ناعيةً في بَيْته فنَهض إلى منزله فَسَكّنَهم ثم رجَعَ إلى مجلسه فقالوا له‏:‏ أَمِنْ حَدَث كانت الناعية قال‏:‏ نعم‏.‏
فعَزَّوه وعَجِبوا من صَبْره فقال‏:‏ إنا أهل بيت نُطيع الله فيما نُحب ونَحْمَدُه على ما نَكره‏.‏
تعزية - التمس ما وَعد الله من ثَوَابه بالتّسليم لقضائِه والانتهاء إلى أمره فإن ما فات غير مُسْتَدْرَك‏.‏
وعزى موسى المَهْدِيّ إبراهيمَ بن سَلْم على ابن له مات فَجَزع عليه جزعاً شديداً فقال له‏:‏ أَيسرُّك وهو بلية وفِتْنَة ويَحْزُنك وهو صَلَوات ورحمة سُفيان الثّوْري عن سعيد بن جُبير قال‏:‏ ما أعْطِيَتْ أمّة عند المُصِيبة ما أعْطِيَت هذه الأمة من قولها‏:‏ ‏"‏ إنّا للّه وإنّا إليه رَاجِعُون ‏"‏‏.‏
ولو أعْطِيها أحدٌ لأعْطيها يَعْقوب حيثُ يقول‏:‏ ‏"‏ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ‏"‏‏.‏
وعَزَى رجلٌ بابن له فقال له‏:‏ ذَهب أبوك وهو أصلُك وذَهب ابنك وهو فَرْعك فما بَقَاء مَن ذهب أصلُه وفرعه تعازى الملوك العُتْبى قال‏:‏ عَزّى أكثَم بن صَيْفيّ عمرو بنَ هِنْد ملكَ العرب على أخيه فقال له‏:‏ أيها الملك إنّ أهلَ الدار سَفْرٌ لا يَحُلّون عُقَد الرحال إلا في غَيْرها وقد أتاك ما ليس بمردود عنك وارتحل عنك ما ليس براجع إليك وأقام معك مَن سَيَظْعَنِ عنك ويَدَعك‏.‏
واعلم أنّ الدُنيا ثلاثة أيام‏:‏ فأمس عِظَة وشاهدُ عَدْل فَجَعَك بِنفْسه وأبْقَى لك عليه حُكْمَك واليوم غَنيمة وصَدَيق أتاك ولم تَأته طالت عليك غَيْبَتُه وستُسْرع عنك رِحْلته وغَد لا تَدري من أهلُه وسيأتيك إنْ وَجَدك‏.‏
فما أحسَن الشُّكر للمُنْعم والتسليمَ للقادر‏!‏ وقد مَضت لنا أصولٌ نحن فُروِعها فما بَقَاء الفُروع بعد أصُولها‏!‏ واعلم أنّ أعظم من المُصيبة سوءُ الخَلف منها وخيرٌ من الخير مُعْطيه وشرٌ من الشرّ فاعله‏.‏
لما هَلك أميرُ المؤمنين المَنصور قَدِمَت وُفود الأنصار على أمير المؤمنين المهديّ وقَدِمَ فيهم أبو العَيْناء المُحَدَث فَتَقَدَّمَ إلى التّعْزية فقال‏:‏ آجَر الله أميرَ المؤمنين على أمير المؤمنين قبلَه وبارك لأمير المُؤمنين فيما خَلِّفه له فلا مُصِيبةَ أعظمُ من مُصيبة إمام والد ولا عُقْبَى أفْضَلُ من خِلافة الله على أوليائه فاْقبل من الله أفضلَ العطية واصْبر له على الرزيّة‏.‏
ولما مات معاويةُ بن أبي سفيان ويزيدُ غائب صلَّى عليه الضحّاك بن قيس الفِهْري ثم قَدِمَ يزيد من يومه ذلك فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته حتى دخل عليه عبدُ الله بن همّام السلوليّ فقال‏:‏ اصْبرْ يزيدُ فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ واشكُر حِبَاءَ الذي بالمُلْك حاباكَا لا رُزْءَ أعظمُ في الأَقْوَام قد عَلِمُوا مما رُزِئْتَ ولا عُقْبَى كعُقْبَاكا أصبحتَ رَاعى أهل الأرض كلِّهمُ فأنت تَرعاهُم واللّه يَرْعاكا وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلف إذا بقيتَ فلا نَسْمَع بِمَنْعاكا فافتتح الخُطباء الكلام‏.‏
عَزى شَبيبُ بن شَيْبَة المنصورَ على أخيه أبي العبّاس فقال‏:‏ جَعل الله ثوابَ ما رُزِئت به لك أَجراً وأعْقَبك عليه صبرا وخَتَم لك ذلك بعافية تامّة ونعْمة عامّة فثوابُ الله خير لك منه وما عند الله خير له منك وأحقُّ ما صُبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سبيل‏.‏
وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخُلَفاء يُعَزِّيه‏:‏ إنّ أحَقَّ مَن عَرف حقَ اللهّ فيما أَخَذ منه مَن عَرف نِعْمَته فيما أبقَى عليه‏.‏
يا أميرَ المؤمنين إِنّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك والباقيَ بعدك هو المأجور فيك وإِنّ النِّعمة على الصابرين فيما ابتُلوا به أعظمُ منها عليهم فيما يُعَافَوْنَ منه‏.‏
دخل عبدُ الملك بن صالح دار الرّشيد فقال له الحاجبُ‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أصِيب بابن له ووُلد له آخر‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَك ولا ساءَك فيما سرّك وجَعل هذه بهذه مَثُوبةً على الصبر وجزاءً على الشكر‏.‏
ودخل المأمونُ عَلَى أم الفَضْل بن سَهل يُعَزِّيها بابنها الفَضْل بن سهل فقال‏:‏ يا أُمّه إنك لم تَفْقِدِي إلا رؤيته وأنا ولدُك مكانَه فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ رجلا أفادني ولداً مثلك لَجَدير أن أَجْزع عليه‏.‏
لما مات عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب عمر إلى عُمّاله‏:‏ إِنَّ عبد الملك كان عبداً من عَبيد اللهّ أَحْسَنَ الله إليه وإليّ فيه أعاشه ما شاء وقَبَضَه حين شاء وكان - ما علمتُ من صالِحِي شباب أَهْل بَيْته قراءةً للقرآن وتَحَرِّياً للخير وأعوذ باللّه أن تكون لي مَحَبّة أخالف فيها محبة اللّه فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليّ وتتابُع نَعمه عليّ ولأعلمنّ ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة قد نَهينا أهلَه الذين هم أحقُّ بالبكاء عليه‏.‏
دخل زيادُ بن عثمان بن زياد على سُليمان بن عبد الملك وقد تُوفي ابنه أيُّوب فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ عبدَ الرحمن ابن أبي بكر كان يقول‏:‏ من أَحبّ البقاء - ولا بقاء - فَلْيُوَطِّن نفسه على المصائب‏.‏
لما مات مُعاوية دخل عَطاء بن أبي صيْفِيّ على يزِيد فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أصبحتَ رُزِئْت خليفةَ اللّه وأعطيت خلافةَ اللّه فاحْتسِب على الله أعظم الرزيّة واشكُره على أحسن العَطية‏.‏
عزّى محمدُ بن الوليد بن عتبة عُمَر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أعِدّ لما تَرَى عُدَّةً تكنِ لك جُنّة من الحُزن وسِتْراً من النار‏.‏
فقال عمر‏:‏ هلِ رأيتَ حُزْناً يُحْتَجّ به أو غَفْلة يُنبّه عليها قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين لو أن رجلاً ترَك تعْزية رجل لِعِلْمِه وانتباهه لكُنَته ولكن الله قضى أن الذِّكرى تنفع المؤمنين‏.‏
وتُوُفِّيَت أخْتٌ لعمر بن عبد العزيز فلما فرغ من دَفْنها دَنا إليه رجل فعزَّاه فلم يَرُدّ عليه شيئاً ثم دنا إليه آخرُ فعزَّاه فلم يرُدَّ عليه شيئاً فلما رأى الناسُ ذلك أمسكوا عنه ومَشَوْا معه‏.‏
فلما بلغ البابَ أقبل على الناس بوجهه وقال‏:‏ أدركتُ الناس وهم لا يُعَزون بامرأة إلا أن تكون أًمًّا انقلبوا رحمكم اللهّ‏.‏
وُجد في حائط من حيطان تُبَّع مكتوب‏:‏ اصبِرْ لِدَهْرٍ نال من ك فهكذا مضت الدهور فرح وَحُزْنٌ مرةً لا الحزن دام ولا السرور وهذا نظيرُ قول العتَّابي‏:‏ وقائلة لمَّا رَأَتْني مسهداً كَأَنّ الحَشَا مِنِّي تُلَذِّعُه الجَمُرْ أباطِنُ داءٍ أم جَوَى بك قاتلٌ فقلتُ الذي بي ما يَقوم له صبر تَفرّق ألافٍ وموتُ أَحِبّة وفَقْدُ ذَوى الإفْضَال قالت كذا الدهر كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى المُتوكل يُعزيه بابن له‏:‏ ليس المُعزى ببعد ميته بباق بعد مَيِّته ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حِين وقال أبو عُيَينة‏:‏ فإنْ أَشكُ من لَيلى بجُرْجان طُولَه فقد كنت أشكو منه بالبَصرة القِصَرْ وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهمُ فقلت لها لا عِلْم لي فَسَلِي القَدَر وقال بعض الحُكماء لسُليمان بن عبد الملك لما أصِيب بابنه أيّوب‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ مثلَك لا يُوعَظ إلا بدون عِلْمه فإن رأَيتَ أن تًقَدِّم ما أخَّرَت العَجَزة من حُسن العَزاء والصَّبر على المُصيبة فتُرضي ربَّك وتُرِيح بدنك فافعل‏.‏
وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيزُ يعزِّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر وهو‏:‏ وعُوِّضْتُ أَجْراً مِن فَقيد فلا يكُن فَقِيدُك لا يَأتي وأَجْرُك يَذْهَبُ ولما حَضرت الإسكندرَ الوفاةُ كَتب إلى أمِّه‏:‏ أن اصنَعي طعاماً يحضُره الناسُ ثم تَقدّمي إليهم أن لا يَأكل منه مَحْزون ففَعلت‏.‏
فلم يبْسُط إليه أحدٌ يده فقالت‏:‏ ما لكم لا تَأكلون فقالوا‏:‏ إنك تقَدّمت إلينا أن لا يأكلَ منه مَحْزون وليس منَّا إلا من قد أصيب بِحَميم أو قرِيب فقالت‏:‏ مات واللّه ابني وما أَوْصى إِليّ بهذا إلا ليُعَزِّينَى به‏.‏
وكان سهل بن هارون يقول في تَعْزِيته‏:‏ إن التَهْنِئَة بآجل الثَوَاب أوجبُ من التَّعزية على عاجل

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:14 AM

كتاب اليتيمة في النسب
كتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب قال أحمدُ بنُ محمّد بن عبد ربّه‏:‏ قد مَضى قولُنا في النّوادب والمَراثي ونحنُ قائلون بعَوْن الله وتوفيقه في النَّسب الذي هو سبب التعارُف وسُلّم إلى التَّواصل به تتعاطف الأرحام الواشجة وعليه تحافظ الأوَاصر القَريبة‏.‏
قال اللهّ تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ يا أيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأنْثَى وَجَعلْنَاكُم شُعُوبَاً وقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا ‏"‏‏.‏
فمن لم يَعْرف النسب لم يعرف الناسَ ومَنِ لم يَعْرف الناسَ لم يُعَدّ من الناس‏.‏
وفي الحديث‏:‏ تَعلَّموا من النَّسَب ما تَعْرِفون به أحسابَكم وتَصِلون به أرحامَكم‏.‏
وقال عمرُ بن الخطّاب‏:‏ تَعلّموا النَّسَب ولا تَكونوا كَنبِيط السَّواد إذا سُئِل أحدُهم عن أَصْله قال‏:‏ من قَرْية كذا وكذا‏.‏
أصل النسب معاوية بن صالِح عن يحيى عن سَعيد بن المُسيِّب قال‏:‏ وَلَد نُوحٍ ثلاثة أولاد‏:‏ سام وحام ويافِث‏.‏
فوَلد سام العَرَب وفارس الرُّوم وَوَلَد حامٌ السّودان والبربر والنبط وَوَلد يافثُ التركَ والصًقَالبة ويَأجوِج ومَأجوج‏.‏
أصل قريش - كانت قُرَيش تُدْعى النضرَ بن كِنَانة وكانوا مُتَفرِّقين في بَنِي كِنانة فَجَمَعهم قُصيَّ بن كِلاب بن مُرّة بنِ كعْب بن لؤىّ بن غالب بن فِهْر بن مالك من كلِّ أَوْب إلى البيت فَسُمُّوا قُرَيشاً‏.‏
والتّقَرش‏:‏ التّجَمُّع وسُمِّي قُصىَّ بن كِلاب مُجَمِّعاً فقال فيه الشاعر‏:‏ قُصيَّ أبوكم كان يُدْعى مُجَمِّعاً به جَمَّع الله القبائلَ من فِهْرِ وقال حبيب‏:‏ غَدَوْا في نواحي نَعْشِه وكأنما قُرَيشٌ يوم مات مُجَمِّعُ يُريد بمُجَمِّع قُصيًّ بن كِلاب وهو الذي بَنى المَشْعَر الحَرَام وكان يقوم عليه أيام الحج فسمَّاه اللهّ مَشْعَراً وأمر بالوقوف عنده‏.‏
وإنما جمع قًصيَّ إلى مكة بني فِهْر بن مالك فجِذْم قُرَيش كلّها فِهْر بن مالك فما دُونه قُريش وما فوقه عَرب مثل كِنانة وأسد وغيرهما من قبائل مُضر وأما قبائل قُرَيش فإنما تَنْتهي إلى فِهر بن مالك لا تُجاوزه‏.‏
وكان قُريش تُسَمَّى آلَ اللهّ وجِيران اللّه وسكّان حرم اللهّ وفي ذلك يقول عبدُ المطلب ابن هاشم‏:‏ نحن آل الله في ذِمَّتِه لم نَزَلْ فيها على عَهْدٍ قَدُمْ إنَّ للبيتِ لَرَبًّا مانِعاً مَن يُرِد فيه بإثْمٍ يُخْترَم لم تَزَلْ للّه فينا حُرْمةٌ يَدْفَعُ الله بها عَنَا النِّقَم إذا اشْتَعَبَ الناسُ البيوتَ فأنتُمُ أولو الله والبيتِ العَتِيق المُحَرَّم نسب قريش - أبو المنذر هِشام بن محمد بن السائب الكَلْبي‏:‏ تَسمِيةُ من انتهى إليه الشرَّف من قُرَيشِ في الجاهلية فَوَصله بالإسلام عَشرة رَهْط من عشرة أبْطُنٍ وهم‏:‏ هاشم وأمَيَّةُ ونوْفل وعبد الدار وأسد وتَيْم ومَحْزوم وعَدِيّ وجُمَح وسَهْم‏.‏
فكان من هاشم‏:‏ العبَّاس بن عبد المُطلب يَسْقِي الحَجِيج في الجاهليَّة وبقى له ذلك في الإسلام ومن بني أمية‏:‏ أبو سُفيان بن حَرْب كانت عنده العُقاب رايةُ قُرَيش وإذا كانت عند رَجُل أخرجها إذا حَمِيَت الحرب فإذا اجتمعت قُريشِ على أحد أعْطَوْه العُقَاب وإن لم يَجْتمعوا على أحد راَسوا صاحبَها فقَدَّموه ومن بني نوْفَل‏:‏ الحارثُ بن عامر وكانت إليه الرِّفادة وهي ما كانت تُخْرجه من أموالها وتَرْفُد به مُنْقَطِع الحاج ومن بني عبد الدار‏:‏ عثمان ابن طَلْحة كان إليه اللِّواء والسِّدانة مع الحِجابة ويقال‏:‏ والنَّدْوة أيضاً في بَني عبد الدَّار ومن بَني أَسَد‏:‏ يزيدُ بن زَمْعة بن الأسود وكان إليه المَشُورة وذلك أن رُؤَساء قُريش كانوا لا يجتمعون على أمر حتى يَعْرِضُوه عليه فإن وافَقه والاهم عليه وإلا تَخَيَّر وكانوا له أعواناً واستُشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطَّائف ومن بني تَيْم‏:‏ أبو بكر الصِّديق وكانت إليه في الجاهليّة الأشْناق وهي الدِّيات والمَغْرَم فكان إذا احتمل شيئاً فسأل فيه قُريشاً صدَقوه وأمْضوا حمالة مَنْ نَهض معه وإن احتملها غيرُه خَذَلوه ومن بني مَخْزوم‏:‏ خالدُ ابن الوليد كانت إليه القُبَّة والأعِنَّة فأما القُبة فإنهم كانوا يضرْبونها ثم يجمعون إليها ما يُجَهِّزون به الجَيش وأما الأعِنَّة فإنه كان على خَيْل قُرَيش في الحَرْب ومن بَني عَدِيّ‏:‏ عمر بن الخطاب وكانت إليه السِّفارة في الجاهليَّة وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حَرْب بعَثوه سفيراً وإن نافرهم حي لمُفاخرة جَعَلوه مُنَافِراً ورَضُوا به ومن بني جمح‏:‏ صَفْوان بن أمية وكانت إليه الأيسار وهي الأزْلام فكان لا يُسْبَق بأمْر عام حتى يكون هو الذي تَسْييره على يَدَيْه ومن بني سَهْم‏:‏ الحارث بن قَيس وكانت إليه الحكومة والأموال المُحَجَّرة التي سمَوها لآلهتهم‏.‏
فهذه مكارم قُريش التي كانت في الجاهليَّة وهي السِّقاية والعِمارة والعُقاب والرِّفادة والسِّدانة والحِجابة والنَّدوة واللِّواء والمَشُورة والأشناق والقُبَّة والأعِنَة والسِّفارة والأيسار والحكومة والأموال المحجَّرة إلى هؤلاء العَشَرة من هذه البُطون العَشرة على حال ما كانت في أولِيتهم يتوارثوِن ذلك كابراً عن كابر وجاء الإسلامُ فوَصَل ذلك لهم وكذلك كلُّ شرف من شرف الجاهليَّة أدْركَه الإسلام وَصله فكانت سِقاية الحاجّ وعِمارة المَسْجِد الحَرَام وحلْوان النَّفْر في بَني هاشم‏.‏
فأما السِّقاية فمَعْروفة وأما العِمارة فهو أن لا يتكلم أحد في المَسْجد الحَرَام بهُجْر ولا رَفَث ولا يرفعٍ فيه صوتَه كان العبَّاس ينْهاهم عن ذلك‏.‏
وأما حُلْوان النَّفْر فإن العَرب لم تَكُن تملك عليها في الجاهليَّة أحداً فإن كان حَرب أَقْرعوا بين أهل الرِّياسة فمَنْ خَرَجت عليه القُرْعة أَحْضروه صَغيراً كان أو كبيراً فلما كان يوم الفِجار أقرَعوا بين بني هاشم فخَرَج سَهْم العبّاس وهو صَغير فأجلسوه على المِجَن‏.‏
أبو الطاهر أحمدُ بن كَثير بن عبد الوهّاب قال‏:‏ حدَّثني أبو ذَكْوان عن أحمد بن يَزِيد الأنطاكيّ أنّه سَمع المأمون يقول لأبي الطّاهر الذي كان على البَحْرين‏:‏ من أيّ قُرَيش أنت قال‏:‏ من بَني سامَة بن لُؤَيّ فقال المأمون‏:‏ ما سَمِعنا بسامةَ بن لُؤَي نَسَباً في بُطوننا العَشرة لو عَلِمنا به على بعْدِه لكُنَّا به بَررَة‏.‏



فضل بني هاشم وبني أمية
قيل لعليّ بن أبي طالب‏:‏ أَخبرْنا عنكم وعن بني أمية فقال‏:‏ بنو أمية أَنْكَر وأمْكَر وأَفْجَر ونحنُ أصْبَح وأنصح وأَسْمح‏.‏
وسأل رجلٌ الشَّعْبي عن بني هاشم وبني أمية فقال‏:‏ إن شِئْت أخبَرْتُك ما قال عليّ بن أبى طالب فيهم قال‏:‏ أما بنو هاشم فأطْعَمها للطَّعام وأضْرَبُها للهَام وأما بنو أمية فأسدّها حِجْراً وأَطْلبها للأمر الذي لا يُنال فَيَنالونه‏.‏
قيل لمُعاوية‏:‏ أخْبرْنا عنكم وعن بني هاشم قال‏:‏ بنو هاشم أشْرَف واحداً ونحن أشرف عدداً فما كان إلا كَلا وَبَلى حتى جاءوا بواحدةٍ بَذَّت الأوَّلين والآخرين يريد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وبقوله ‏"‏ أشْرَف واحداً ‏"‏‏:‏ عبدَ المطلب بن هاشم‏.‏
الرِّياشي عن الأصمعي قال‏:‏ تَصَدّى رجلٌ من بني أمية لهارون الرّشيد فأنشده‏:‏ يا أمينَ الله إني قائلٌ قَول ذِي فَهْم وعِلْمٍ وأَدَبْ عَبْدُ شَمْس كان يَتْلُو هاشماً وهُما بعدُ لأُمٍّ ولأبْ فاحْفظِ الأرحام فينا إنما عبدُ شَمْسٍ جَدُّ عَبْد المُطَّلِب لكُم الفَضْلِ علينا ولنا بكُمُ الفَضْلُ علَى كلِّ العَرَبْ فأَحسن جائزنه وَوَصلَه‏.‏
سُفْيان الثَّوْريّ يرفَعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنّ الله خَلق الخَلْقَ فجَعَلنِي في خَيْر خَلْقه وجَعلهم أفْراقاً فَجَعلني في خيْر فِرْقة وجَعلهم قبائل فَجَعلني في خيْر قَبِيلة وجَعَلهمِ بيُوتاً فَجَعلني في خَيْر بَيْت فأَنَا خَيْرُكم بَيتاً وخَيْرُكم نَسَباً‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلُّ سَبب ونسَب مُنْقَطع يومَ القيامة إلا سَبَبي ونسبي‏.‏
جماعة بني هاشم بن عبد مناف وجماعة قريش - عبدُ المُطّلب بن هاشم ولدُه عَشرْ بَنين وهم‏:‏ عبد الله أبو محمّد صلى الله عليه وسلم وأبو طالب والزُّبير أُمهم فاطمة بنت عمر المَخْزومية والعبّاس وضِرَار أمهما نُتَيلة النَّمريّة وحَمزَة والمُقَوَّم أمّهما هالةُ بنت وَهْب وأبو لَهَب أُمّه لُبْنى خُزَاعيَّة والحارث أمه صَفِيّة من بني عامر بن صَعْصعة والغَيْداق أمه خُزَاعية‏.‏



جماعة بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
- وهو أمية الأكبر‏:‏ حَرْب بن أمية وأبو حَرْب وسُفْيان وأبو سُفيان وعَمْرو وأبو عَمْرو وهؤلاء يقال لهم العَنابس لعاصي وأبو العاصي والعِيص وأبو العيص وهؤلاء يقال لهم الأعْياص ومِنهم مُعاوية بن أبي سُفيان وعثمان بن عَفَّان بن أبي العاص بن أمية وسعيد بن العاص بن أميَّة ومَروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية‏.‏



جماعة بني نوفلِ
- الحارث بن عامر صاحب الرِّفادة ومُطعم بنِ نَوْفل ومنهم عَدِيّ بن الخِيَار بن نوْفل ومنهم نافع بن ظُريب بن عمرو بن نوْفل وهو كاتب المصاحف لعمر بن الخطّاب ومُسلم بن قَرَظَة قُتِلَ يوم الجَمَل‏.‏
جماعة بني عبد الدار - عثمان بن طَلْحَة صاحب الحِجابة وشَيْبة بن أبي طَلْحَة والحارث بن عَلْقمَة بن كَلَدَة كان رَهِينة قريش عند أبي يَكْسوم والنَّضْر بن الحارث بن عَلْقمة بن كَلَدة بن عبد مَناف بن عبد الدار‏.‏
قَتَله النبي صلى الله عليه وسلم صَبْراً أمر عليّ بن أبي طالب فَقَتله يوم الأثَيل‏.‏
جماعة بني أسد بن عبد العزى - منهم‏:‏ الزُّبير بن العَوَّام بن خوَيْلد بن أسَد وأمّه صَفية بنت عبدُ المطلب ويزيد بن زَمْعَة بن الأسود صاحب المَشُورة وأبو البَخْتري واسمه العاصي بن هِشام بن الحارث بن أسَد وَوَرقَة ابن نوفل بن أسد وهو الذي أدرك الإيمان بعقله وبَشر خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
جماهير بني تيم بن مرة - منهم‏:‏ أبو بكر الصِّديق وطَلْحَة بن عُبيد اللهّ وعمر بن عبيد اللهّ بن مَعْمر وعبد الله بن جُدْعان وعليّ بن يَزيد ابن عبد الله بن أبي مُلَيكة والمُهاجر بن قنْفُذ بن عُمير بن جُدْعان ومحمد بن المنكدر بن عبد اللهّ بن الهَدير‏.‏
جماهير مخزوم بن مرة - منهم‏:‏ المغيرة بن عبد اللهّ بن عُمَر بن مخزوم وخالدُ بن الوليد بن المُغيرة وعبد الرَّحمن بن الحارث وعَمرو بن حُرَيث وأبو جَهْل بن هِشام بن المُغيرة وعياش بن أبي رَبيعة الشاعر وعبدُ اللهّ بن المهاجر وعُمارة بن الوليد بن المُغيرة وإسماعيلِ بن هِشام بن المُغيرة ولي ابنه هشامُ ابن إسماعيل بن هشام بن المغيرة المدينة وضرَب سَعيد بن المُسَيِّب بن أبي وَهْب الفَقيه‏.‏



جماهير عدي بن كعب
- منهم‏:‏ عمر بن الخطَّاب وسعيدُ بن زَيْد ابن عَمْرُو بن نُفَيْل وهو من أصحاب حِرَاء وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زَيْد بن الخطّاب وَلي الكوفة لِعمر بن عبد العزيز وسُرَاقة بن المُعْتمر والنحام بن عبد الله بن أسِيد والنُّعمان بن عَدِيّ بن نَضْلة‏.‏
استعمله عُمَر على مَيْسان وعبد اللهّ بن مُطيع وأبو جَهْم بن حُذَيفة وخارجةُ بن حُذافة وكان قاضياً لِعَمرو بن العاصي بمصر فقَتَله الخارجي وهو يظُنّه عمرو بن العاصي وقال فيه‏:‏ أردتُ عَمْراً وأراد اللّه خارجة‏.‏
جماهير جمح - منهم‏:‏ صَفْوان بن أًمية من المُؤَلَّفة قلوبهُم وأمية بن خَلَف قُتِل يومَ بَدْر وأبيّ بن خلَف ومحمد بن حاطب وجَميل بن مَعْمر بن حُذافة وأبو عَزَّة وهو عَمرو بن عبد الله وأبو مَحْذُورة مؤَذّن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
جماهير بني سهم - منهم‏:‏ الحارث بن قَيْس صاحبُ حكومة قرَيش وعَمرو بن العاصي وقَيْس بن عَدِيّ وخُنَيْس بن حُذَافة ومُنَبِّه ونُبَيه ابنا الحَجّاج ومنهم العاصي بن مُنَبِّه قُتِل مع أبيه قَتله عليّ يوم بَدْر وأخذ سَيفَه ذا الفقَار فصار إلى النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
جماهير عامر بن لؤى - ومنهم‏:‏ سُهيل بن عَمْرو من المُؤلَّفة قلوبهُم ومنهم ابن أبي ذِئْب الفَقِيه واسمُه محمد بن عبد الرَّحمن وحُوَيطب بن عبد العُزَّى من المُؤلفة قلوبهُم وعبدُ اللهّ بن مَخْرَمة بَدْرِي ونَوْفل بن مُسَاحق وأبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة الفَقيه‏.‏
وعبد الله بن أبي سَرْح بدريّ‏.‏
ومنهم‏:‏ ابن أمِّ مَكتوم مُؤذِّن النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
جماهير بني محارب بن فهد بن مالك - منهم‏:‏ الضحّاك بن قَيْس الفِهْري وحَبيب بن مَسْلمة‏.‏
جماهير بني الحارث بن فهد بن مالك - منهم‏:‏ أبو عُبيدة بن الجَرَّاح أمن هذ الأمة‏.‏
وسُهيل وصفْوان ابنا وَهْب وعِياض بنُ غَنْم بن زُهَير وأبو جَهْم بن خالد‏.‏
وبنو الحارث هؤلاء من المُطَيَّبن الذي تحالفوا وغَمَسوا أيديَهم في جَفْنة فيها طيب‏.‏
قريش الظواهر وغيرها من بطون قريش - بنو الحارث وبنو مُحارب ابنا فِهْر بن مالك وهم قُرَيش الظواهر لأنهم نزلوا حول مكة وما والاها‏.‏
فمن بنى الحارث بن فِهْر‏:‏ أبو عُبيدة بن الجَرَّاح واسمه عامر بن عبد الله بن الجَرّاح من المُهاجرين الأوّلين‏.‏
ومن بني مًحَارب بن فِهْر‏:‏ الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْريّ صاحِب مَرْج راهِط‏.‏
وما سوى هؤلاء من بُطون قُرَيش يقال لهم قُرَيش البِطَاح لأنهم سَكَنُوا بَطْحَاء مكة وهم البُطون العشرًة التي ذَكَرناها قبل هذا الباب‏.‏
ومن بطون قريش‏:‏ بنو زُهْرة بن كِلاب بن كَعْب بن لُؤَيّ‏.‏
منهم‏:‏ عبد الرَّحمن بن عوف خال النبي عليه الصلاة والسلام ومنهمِ بنو حَبيب ابن عبد شَمْس‏.‏
ومنهم عبدُ الله بن عامر بن كُرَيز بن حَبِيب بن عبد شمْس صاحِب العِرَاق ومنهم بنو أمية الاصغر بنِ عبد شمْس بن عبد مَناف وأمه عَبْلة فيقال لهم العَبَلات‏.‏
وبنو عبد العُزَّى بن عَبْد شَمْس منهم أبو العاصي بن الرَّبيع صهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّج ابنته التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ولكنَّ أبا العاصي لم يَذْمُم صِهْره‏.‏
ومنهم‏:‏ بنو المُطّلب بن عبد مَناف ومنهم محمد بن إدريس الشافعيّ‏.‏
ومن بني نَوْفل بن عبد مناف‏:‏ المُطعِم بن عَدِيّ‏.‏
ولعبد شَمْس بن عبد مَناف ونَوْفَل بن عبد مناف يقول أبو طالب‏:‏ فيا أَخَوَيْنَا عبد شَمْسٍ ونَوْفَلا أًعِيذُ كما أن تَبْعثا بيننا حَرْبَا وَوَلَد أُميةُ الأكبْر العاصيَ وأبا العاصي والعيص وأبا العيص فهؤلاء يقال لهم الأعياص وحرباً وأبا حَرْب‏.‏
وهذه البُطون التي ذَكرْناها كلّها من قرَيش ليست من البطون العَشَرَة التي ذكَرْناها أولا وذَكَرْنا جماهيرها‏.‏



فضل قريش
قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ الأئمة من قُريش‏.‏
وقال‏:‏ وقَدِّموا قُريشاً ولا تَقْدًموها‏.‏
ولما قتل النضر بن الحارث بن كَلَدة بن عَبْد مناف قال‏:‏ لا يُقْتَل قُرَشيٌّ صَبْرًا بعد اليوم‏.‏
يُرِيد أنه لا يُكَفّرُ قرَشي فَيُقْتَل صبْراً بعد هذا اليوم‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ قال مُعاوية‏:‏ أي الناس أفْصَح فقال رجل من السِّماط‏:‏ يا أمير المؤمِنين قوم ارتفعوا عن رُتَة العِرَاق وتياسرُوا عن كَشكَشَة بَكْرِ وتيامنوا عن شَنشَنة تغلب ليست فيهم غَمْغَمَة قُضَاعَة ولا طمطمانِيّة حِمْير قال‏:‏ مَنْ هُم قال‏:‏ قَوْمُك يا أمير المُؤمنين قال‏:‏ صدَقْتَ قال‏:‏ فمِمّن أنت قال‏:‏ من جَرْم‏.‏
قال الأصمعيّ‏:‏ وجَرْم فُصْحى العَرَب‏.‏
قدم محمد بن عُمَير بن عُطارد في نَيِّف وسَبعين راكباً فاستزارهم عَمْرو بن عُتْبَة‏.‏
قال‏:‏ فسمعتُه يقول‏:‏ يا أبا سُفْيَان ما بالُ العَرب تُطِيل كلامَها وأنتُمْ تَقْصرُونه مَعاشرَ قُريش فقال عمرٍ و بن عُتْبة‏:‏ بالجَنْدَل يُرْمى الجَنْدَل إن كلامَنَا كلام يَقِلّ لَفْظُهُ وَيَكثر مَعْناه ويُكتَفي بأولاه ويُسْتَشْفي بأخْراه يَتَحَحِّر تَحَدُر الزُلال على الكَبِد الحَرَّى ولقد نَقَصُوا وأطال غيرُهم فما أخلُوا ولله أقوامٌ أدرَكْتُهم كأنّما خُلِقوا لتَحْسين ما قَبحت الدنيا سهُلَت ألفاظُهم كما سهُلت عليهم أنفاسُهم فآبتذلوا أموالَهم وصانوا أعراضَهم حتى ما يجد الطاعنُ فيهم مَطعنا ولا المادحُ مَزِيدا ولقد كان آل أبي سُفْيان معِ قلّتهم كثيراً منه نِصِيبُهم وللّه درُّ مَوْلاهم حيث يقول‏:‏ وَضعَ الدهرُفيهمُ شَفْرتيه فَمَضى سالماً وأمْسَوْا شًعُوِبَا شَفْرتَان واللّه أفْنَتا أبدانَهم وأبقتا أخبارَهم فَتَركتَاهم حديثاً حسناً في الدنيا ثوابُه في الآخرة احسنُ وحديثاً سيّئاً في الدُّنيا عقابُه في الآخرة أسوأ فيَا مَوعوظاً بمَنْ قَبْلَه مَوْعُوظاً به من بعده ارْبَحْ نَفْسَك إذا خَسرَها غيرُك‏.‏
قال‏:‏ فظننتُ أنه أَرَاد أن يُعْلمه أنّ قُريشاً إذا شاءت أن تتكلّم تكلّمَت‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ شَهِدْتُ مجلس عمرو بن عُتْبَة وفيه ناسٌ من القُرَشييّن فتشاحُّوا في مَواريث وتجاحدوا فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال‏:‏ إن لِقُرَيش دَرَجاً تَزْلَقُ عنها أقدامُ الرجال وأفعالاً تَخْضَع لها رقاب الأقوال وغاياتٍ تَقْصرٌ عنها الجِيَاد المَنْسوبة وألسنةً تَكِلُّ عنها الشَفار المَشْحُوذة ولو آحتفلت الدنيا ما تَزَيَّنَت إلا بهم ولو كانت لهم ضاقت عن سَعة أحلامهم‏.‏
ثم إنّ قوماً منهم تَخَلَّقُوا بأخلاق العَوَام فصار لهم رٍفق باللْؤم وخُرْق في الحِرْص ولو أمكنهم لقاسَمُوا الطيرَ أرزاقها وإن خافُوا مَكْرُوهاَ تَعًجّلوا له الفَقْر وإن عجلت لهم النِّعم أخروا عليها الشُّكر أولئك ‏"‏ أنْضَاء ‏"‏ فكرة الفَقْر وعَجَزَة حَمَلَة الشُّكر‏.‏
قال أبو العَيْناء الهاشميّ‏:‏ جَرى بين محمد بن الفَضل وبين قَوْم من أهل الأهْوَاز كلام فلما أَصبح رَجع عنه‏.‏
قالوا له‏:‏ ألم تَقُل أمس كذا وكذا قال‏:‏ تَخْتلف الاقوالُ إذا اختلفت الأحوال‏.‏
ودخَل محمد بن الفَضْل على وَالي الأهْوَاز فَسَمِعَه يقول‏:‏ إذا كان الحقُّ استوى عندي الهاشِمِيُّ والنَّبَطِيِّ‏.‏
فقال محمد بن الفضل‏:‏ لئن استوت حالتاهما عندك فما ذلك بزائد النّبطيَّ زينةَ ليست له ولا ناقص الهاشميَّ قَدْراً هو له وإنما يَلْحَقُ النقصُ المُسَوِّيَ بينهما‏.‏
العُتبي قال‏:‏ قال عمرو بن عُتبة‏:‏ اْختصم قوْمٌ من قُرَيش عند مُعاوية فمنعوا الحقَّ‏.‏
فقال مُعاوية‏:‏ يا معشرَ قُرَيش ما بال القَوْم لِأمّ يَصلون بينهم ما انقطع وأنتم لعَلاَّت تَقْطعون بينكم ما وَصَلَ اللّه وتُباعدون ما قرب بلِ كيف تَرْجُون لغيركم وقد عَجَزتم عن أنفسكم‏!‏ تقولون‏:‏ كَفانا الشَّرَفَ من قَبْلنا فعِنْدَها لَزِمَتْكم الحُجة فآكفوه مَن بعدكم كما كفاكم مَن قبلكم‏.‏
أَوَ تعلمون أنكم كنتم رِقاعاً في جُنوب العَرَب وقد أُخْرجتم من حَرَم ربكم ومُنِعتبِم ميراث أبيكم وبَلَدِكم فأخَذَ لَكم اللّه ما أُخِذَ مِنكمِ وسمّاكم باجتماعكم اسماً به أبانَكم من جميع العرَب وردَّ به كيد العَجَم فقال جل ثناؤُه‏:‏ ‏"‏ لإيلاَفِ قُرَيش إيلاَفهِمْ ‏"‏ فآرْغَبُوا في الائتلاف أَكْرَمَكم اللهّ به فقد حَذرَتْكم الفُرْقَةُ نَفْسَهَا وكفي بالتَّجْربة وَاعِظاً‏.‏



مكان العرب من قريش
يحيى بن عبد العزيز عن أبي الحجَّاج رِياح بن ثابت عن أبكر بن خُنَيس عن أبي الأحوص عن أبي الحَصِن عن عبد الله بن مَسْعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قُرَيش الجُؤْجُؤ والعرب الجناحان والجؤجؤ لا يَنْهض إلا بالجنَاحَنْ‏.‏
قال عمرو بن عُتبة‏:‏ ما آستدَرّ لعمّي كلامٌ قطّ فَقَطَعه حتى يَذكر العرَب بفضل أو يُوصى فيهم بخير‏.‏
ولقد أنْشَده مروَان ذات يوم بيتاً للنابغة حيث يقول‏:‏ فهم درْعي التي آسْتلأمْتُ فيها إلى يوم النِّسَار وهُمْ مِجنى فقال معاوبة‏:‏ أَلا إن دُرُوع هذا الحيّ من قُرَيش إخوانُهم من العرَب المُتَشَابِكة أرْحَامُهم تَشَابُك حَلَقِ الدِّرْع التي إن ذَهَبت حَلْقة منه فرقت بين أربع ولا تَزَال السيوفُ تَكْره مَذاق لُحُوم قُرَيش ما بَقِيَت دُرُوعها معها وشَدَّتْ نُطُقَها عليها ولم تَفُكَّ حَلَقها منها فإذا خَلَعتْها من رِقابها كانت للسُيُوف جَزَرًا‏.‏
العُتبي عن أبيه عن عَمْرو بن عُتْبة قال‏:‏ عَقُمت النِّساءُ أن يَلِدْن مثلَ عَمِّي شَهدْتُه يوماً وقد قَدِمَتْ عليه وفودُ العَرب فقضى حوائجَهُم وأحسن جوائزَهم فلما دخلوا عليه ليَشْكروه سَبَقَهم إلى الشُّكْر فقال لهم‏:‏ جَزاكم الله يا مَعْشرَ العرَب عن قُرَيش أفضل الجَزاء بتَقَدُّمِكم إياهم في الحَرْب وتَقْدِيمكم لهم في السَّلْم وحَقْنِكم دِماءَهم بِسَفْكِهَا منكم أمَا واللهّ لا يُؤثِركم على غيركم منهم إِلا حازمٌ كريم ولا يرْغَب عنكم منهم إلا عاجزٌ لئيم شجرة قامت على ساقٍ فتفرَّعِ أعلاها وآجتمع أصلُها عضَّدَ اللهّ من عَضَّدَها‏.‏
فيالها كلمةً لو آجتمعت وأيدياَ لو آئتلفت ولكن كيف بإصلاح ما يُرِيد الله إفسادَه‏.‏



فضل العرب
يحيى بن عبد العزيز قال حدَّثنا أبو الحجّاج رِياح - بن ثابت قال حدَّثنا بكرُ بن خُنَيس عن أبي الأحْوص عن أبي الحَصِين عن عبد الله بن مَسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا سألتم الحوائج فاسألوا العرَب فإنها تُعْطى لِثَلاَث خِصال‏:‏ كَرَم أحسَابها واستحياء بَعْضها من بعض والمُواساة للّه‏.‏
ثم قال‏:‏ من أَبْغَض العرَب أبغضه اللهّ‏.‏
ابن الكَلْبي قال‏:‏ كانت في العرب خاصةً عَشْرُ خِصَال لم تكن في أُمَّةٍ من الأمم خمْسٌ منها في الرأس وخمس في الجَسَد‏.‏
فأما التي في الرأس‏:‏ فالفَرْق والسِّوَاك والمضْمَضة والاستِنْثار وقَصُّ الشارب‏.‏
وأما التي في الجَسد‏:‏ فتَقليم الأظفار ونَتْفُ الإبط وحَلْق العانَة والخِتَان والاسْتِنْجاء‏.‏
وكانت في العرب خاصةً القِيَافة لم يَكُن في جميع الأمم أحدٌ ينْظُر إلى رجُلَين أحدُهما قَصِير والآخر طويل أو أحدهما أسْود والآخر أبيَض فيقول‏:‏ هذا القَصِير ابن هذا الطويل وهذا الأسود ابن هذا الأبيض إلا في العَرب‏.‏
أبو العَيْناء الهاشميّ عن القَحْذَميّ عن شَبِيب بن شَيبة قال‏:‏ كنّا وُقوفاً بالمِرْبد - وكان المِرْبد مَأْلف الأشرَاف - إذْ أَقْبلِ ابن المًقَفَّع فَبشَشْنا به وبَدَأناه بالسلام فرَدَّ علينا السلامَ ثم قال‏:‏ لو مِلتم إلى دار نيْرُوز وظلها الظَّليل وسُورها المديد ونَسِيمها العَجيب فَعَوَّدْتم أبدانَكم تَمْهِيد الأرْض وأَرَحتُم دَوابَّكم من جَهْد الثِّقل فإنّ الذي تَطْلًبونه لن تُفَاتوه ومهما قضى الله لكم من شيء تَنالوه‏.‏
فَقَبِلْنا ومِلنا فلما اسْتَقرّ بنا المكانُ قال لنا‏:‏ أيّ الأمم أَعْقَل فنظرَ بعضُنا إلى بَعْض فقُلْنا‏:‏ لعلَّه أَرَاد أصلَه من فارسِ قُلنا‏:‏ فارس فقال ليسوا بذلك إنهم مَلكوا كثيراً من الأرض ووجَدُوا عظيماَ من المُلْك وغَلَبُوا على كَثِير من الخَلق ولَبِثَ فيهم عَقْد الأمر فما استَنْبَطوا شيئاً بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حِكَم بنفُوسهم قلنا‏:‏ فالروم قال‏:‏ أصحابُ صَنعة قلنا‏:‏ فالصِّين قال‏:‏ أصحابُ طُرْفة قلنا‏:‏ الهند قال‏:‏ أصحابُ فَلسفة قُلنا‏:‏ السُّودان قال‏:‏ شرُّ خَلْق اللّه قُلنا‏:‏ التُّرْك قال‏:‏ كلاب ضالّة قُلنا‏:‏ الخزَرُ قال‏:‏ بقر سائمة قلنا‏:‏ فقُل قال‏:‏ العرَب‏.‏
قال فَضَحِكنا‏.‏
قال‏:‏ أما إنِّي ما أردت مُوافَقَتكم ولكنْ إذا فاتَنى حظِّي من النِّسْبة فلا يَفُوتني حظِّي منِ المَعْرفة‏.‏
إنّ العرَب حَكمت على غير مِثال مُثَل لها ولا آثارٍ أثِرَت أصحاب إِبل وغنَم وسًكان شَعَر وأَدَم يَجودُ أحدُهم بقُوته ويتَفضَّل بمَجْهوده ويُشَارِك في مَيْسوره ومَعْسوره ويَصِف الشيء بعَقْله فيكون قُدْوَة ويَفْعَله فَيَصِيرحُجّة ويُحَسِّن ما شاءَ فَيَحْسُن ويُقَبِّح ما شاء فَيَقْبُح أَدَّبَتْهُمْ أنْفُسُهم ورَفعتهم هِممهم وأعْلتهم قُلوبُهم وأَلْسِنتهم فلم يزل حِبَاء اللهّ فيهم وحِبَاؤهم في أنْفُسُهم حتى رَفع ‏"‏ الله ‏"‏ لهم الفَخرِ وبلغ بهم أشرف الذكر خَتم لهم بمُلكهم الدُنيا على الدَّهر وافتتحِ دينَه وخلافته بهم إلى الحَشرْ على الخَيْر فيهم ولهم‏.‏
فقال ‏"‏ تعالى ‏"‏‏:‏ ‏"‏ إنَّ الأرْض لله يُورِثًهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَاده والعَاقبَةُ للمُتَّقِين ‏"‏‏.‏
فمن وَضَع حَقَّهم خَسِر ومَنْ أنْكَر فضلَهم خصِم ودَفع الحقِّ باللَسَان أَكْبَتُ للجَنان‏.‏
ذَكر الأصمعي عن ذي الرُّمة قال‏:‏ رأيتُ عبْداً أسودَ لبني أسد قَدِم علينا من شِق اليمامة وكان وَحْشِيًّا لطُول تَعزُّبِه في الإبل وربما كان لَقِي الأكَرة فلا يَفْهمٍ عنهم ولا يَسْتَطيع إفهامَهم فلما رآني سَكن إليَّ ثم قال لي‏:‏ يا غَيْلان لعن الله بلاداً ليس فيها قَريب وقاتل الله الشاعرَ حيثُ يقول‏:‏ حُرُّ الثرى مُسْتَغْرَب التُراب وما رأيتُ هذِه العرَب في جميع الناس إلا مِقْدار القَرْحة في جِلْد الفَرَس ولولا أنَ الله رَقَّ عليهم فَجعَلهم في حَشاه لطمَست هذه العجْمان آثارَهم‏.‏
والله ما أمر الله نَبِيًه بقَتْلِهم إلا لضنّه بهم ولا ترَك قَبُول الجزْية ‏"‏ منهم ‏"‏ لا لِتَرْكِها لهم‏.‏
الأكَرَة‏:‏ جمع أكار وهم الحُرَّاث‏.‏
وقوله‏:‏ جعلهم في حَشَاه أي آستَبْطَنهم يقول الرجل للعربيّ إذا آستَبْطنه‏:‏ خَبَأْتُك في حَشَاي‏.‏
وقال الراجز‏:‏ وصاحبٍ كالدُمَّل المُمِدِّ جَعَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلْدي وقال آخر‏:‏ يَوَدونَ لو خاطُوا عليك جُلودهم ولا يدفع الموتَ النفوسُ الشَّحَائح علماء النسب كان أبو بكر رضي الله عنه نَسَّابة وكان سَعيد بن المُسيِّب نَسابة وقال رجل‏:‏ أريد أن تعلِّمني النسبَ قال‏:‏ إنما تُريد أن تُسَابَّ الناس‏.‏
عِكْرمة عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْرض نفسَه على القبائل خَرج مرًة وأنا معه وأبو بكر حتى رُفِعنا إلى مجلس من مجالسِ العرب فتقدَّم أبو بكر فسلّم - قال عليّ‏:‏ وكان أبو بكر مُقَدَّماً في كل خبر وكان رجلاَ نسَّابة - فقال‏:‏ ممَّن القوم قالوا‏:‏ من رَبيعة قال‏:‏ وأيّ ربيعة أنتم أمن هامَتها قالوا‏:‏ من هامتها العُظمى قال‏:‏ وأي هامَتها العُظمى أنتم قالوا‏:‏ ذهل الأكبر قال أبو بكر‏:‏ فمِنْكم عَوْف بن محلِّم الذي يقال فيه‏:‏ لا حُرَّ بوادِي عَوْف قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فمنكم جَسّاس بن مرة الحامي الذِّمار والمانعُ الجار قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فمنكم أخوالُ المُلوك من كِنْدة قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فمنِكم أصْهار المُلوك من لَخْم قالوا‏:‏ لا قال أبو بكر فلستم ذُهلاً الأكبر أنتم ذهل الأصْغر‏.‏
فقام إليه غلام من شَيْبان حين بَقَل وَجْهه يُقال له دَغفل فقال‏:‏ إِنّ على سائلنا أن نَسْالَه والعِبْ‏!‏ لا تَعْرِفه أو تَحْمِلَه يا هذا إنّك قد سألتَنا فأخْبرناك ولم نكْتُمْكَ شيئاً فممَّن الرجل قال أبو بكر‏:‏ من قُريش قال‏:‏ بَخٍ بَخٍ أهل الشَرف والرياسة فمن أيّ قُريش أنت قال‏:‏ من ولدَ تَيْم بنِ مُرَّة قال‏:‏ أمكنتَ واللّه الرامي من سَوَاء الثُّغرة أفمنكم قُصىَّ ابن كلاب الذي جمع القبائل فسمي مجمعاً قال‏:‏ لا قال‏:‏ أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف قال‏:‏ لا أفمنكم شَيْبة الحَمْدِ وعبدُ المطلب مُطعم طَيْر السماء الذي وَجْهه كالقَمر في الليلة الظَّلماء قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن أهل الإفاضة بالنَّاس أنت قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن أهل السقاية أنت قال‏:‏ لا‏.‏
فاجتذب أبو بكر زِمام الناقة ورَجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغلام‏:‏ صادف دَرُّ السيل دراً يدفعه يَهيضُه حيناً وحِيناً يَصْدَعه قال‏:‏ فتبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
قال عليّ‏:‏ فقلتُ له‏:‏ وقعتَ يا أبا بكر من الأعرابيّ على بائقة قال‏:‏ أجل ما من طامَّة إلا وفوقها أخرى والبلاء مُوَكَّل بالمَنْطق والحديث ذو شجون‏.‏
قال ابن الأعرابي‏:‏ بَلغني أنَّ جماعةً من الأنصار وَقفوا على دَغْفَل النسابة بعدما كَفً فسلموا عليه فقال‏:‏ مَن القوم قالوا‏:‏ سادةُ اليَمن فقال‏:‏ أمن أهل مَجْدها القديم وشَرفها العَمِيم كِندة قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فأنتم الطِّوال ‏"‏ أقَصَباً ‏"‏ المُمَحصَّون نَسباً بنو عبدالمَدَان قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فأنتم أقودُها للزُّحوف وأخْرقُها للصفوف وأضرَبُها بالسُّيوف رهطُ عمرو بن مَعْد يكرب قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فأنتم أحضرها قَراء وأطيبُها فِنَاء وأشدُّها لِقاءً ‏"‏ رَهْط ‏"‏ حاتم ابن عبد الله قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فأنتم الغارسون للنّخْل والمُطْعِمُون في اْلمَحْل والقائلون بالعَدْل الأنصار قالوا‏:‏ نعم‏.‏
مَسلَمة بن شَبِيب عن المِنقريّ قال‏:‏ ذَكروا أنّ يزيدَ بن شَيبان بن عَلْقمة ابن زُرارة بن عُدَسِ قال‏:‏ خرجتُ حاجاً حتى إذا كنتُ بالمحصَّب من مِنًى إذا رجل على راحلة معه عَشرة من الشباب مع كل رجل منهم مِحْجَن يُنَحُّون الناس عنه وُيوسعون له فلما رأيتُه دنوتُ منه فقلت‏:‏ ممّن الرجلُ قال‏:‏ رجلٌ من مَهْرَة ممن يَسْكن الشَحْر‏.‏
قال‏:‏ فكرهتُه ووَلَّيتُ عنه فناداني من ورائي‏:‏ مالَك فقلتُ‏:‏ لستَ من قومي ولستَ تعرفني ولا أعرفك قال‏:‏ إن كنتَ من كِرام العرب فسأعرفك قال‏:‏ فكَرِرْتُ عليه راحلتي فقلت‏:‏ إني من كِرام العرب قال‏:‏ فممن أنت قلت‏:‏ مِنِ مضر قال‏:‏ فمن الفُرْسان أنتَ لم من الأرْحاء فعلمتُ أن أراد بالفُرْسان قَيْساَ وبالأرحاء خِنْدفاً فقلت‏:‏ بل من الأرحاء قال‏:‏ أنت آمرءٌ من خِنْدف قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ من الأرنبة ‏"‏ أنت ‏"‏ أم من الجُمْجمة فعلمتُ أنه أراد بالأرنبة مُدْركة وبالجُمْجمة بَني أدّ بن طابِخة قلتُ‏:‏ بل من الجُمجمة قال‏:‏ فأنت آمرؤ من بني أد بن طابخة قلت‏:‏ أجل قال‏:‏ فمن الدَّوَاني أنت أم من الصَّمِيم قال‏:‏ فعلِمتُ أنه أراد بالدَواني الرَّباب وبالصَّميم بَني تميم قلتُ‏:‏ من الصَّميم فأنت إِذاً من بني تَمِيم قلت‏:‏ أجل قال‏:‏ فمن الأكثريَنَ أنت أم الأقلّيِن أو من إخوانهم الآخرين فعلمتُ أنه أراد بالأكثرين وَلَد زَيْد ‏"‏ مَناة ‏"‏ وبالأقلِّين ولد الحارث وبإخوانهم الآخرِين بَني عمرو بن تَمِيم قلتُ‏:‏ من الأَكْثرين قال‏:‏ فأنت إذاً من وَلد زَيْد قلتُ‏:‏ أجل قال‏:‏ فمن البُحور أنت أم من الجُدود أم من الثِّماد فعلمت أَنه أراد بالبُحور بني سعد وبالجُدود بني مالك بن حَنْظلة وبالثَماد بني امرئ القَيْس ابن زيد قلت‏:‏ بل من الجُدود قال‏:‏ فأنت من مالك بن حنظلة قلتُ‏:‏ أجل قال‏:‏ فمن اللِّهاب أنت أم من الشِّعاب أم من اللِّصاب فعلمتُ‏:‏ أنه أراد باللِّهاب مُجاشعاً وبالشِّعاب نَهْشَلاً وباللِّصاب بني عبد الله بن دارم فقلتُ له‏:‏ من اللِّصاب قال‏:‏ فأنت من بني عبد الله بن دارم قلتُ‏:‏ أجل قال‏:‏ فمن البُيوت أنت أم من الزِّوافر فَعَلِمْتُ أنه أراد بالبُيوت ولدَ زُرَارة وبالزَّوافر الأحْلاف قلت‏:‏ من البُيوت قال‏:‏ فأنت يزيدُ بن شَيْبان ابن عَلْقمة بن زُرَارة بن عُدَس وقد كان لأبيك امرأتان فأَيتهما أمّك‏.‏
قول دغفل في قبائل العرب - الهَيثم بن عَدِيّ عن عوَانة قال‏:‏ سأل زِيادٌ دَغْفلاً عن العَرَب فقال‏:‏ الجاهليّة لليَمن والإسلامُ لِمُضر والْفَينة ‏"‏ بينهما ‏"‏ لرَبيعة قال‏:‏ فأخْبرْني عن مُضر قال‏:‏ فاخِرْ بِكنانة وكاثر بتَميم وحارِبْ بِقَيْس ففيها الفُرسان والأنجاد وأما أَسَد ففيها دَلٌّ وكِبْر‏.‏
وسأل مُعاوية بن أبي سُفيان دَغْفلاً فقال له‏:‏ ما تقولُ في بني عامر بن صَعْصعة قال‏:‏ أعْناق ظِبَاء وأعجاز نِساء قال‏:‏ فما تقول في بني أسد قال‏:‏ عافَة قَافَة فُصحاء كافَة قال‏:‏ فما تقول في بني تميم قال‏:‏ حَجَر أَخْشَن إن صادفْتَه آذاك وإن تركتَه أَعْفاك قال‏:‏ فما تقول في خُزاعة قال‏:‏ جُوع وأحاديث قال‏:‏ فما تقول في اليَمن قال‏:‏ شِدَّة وإباء‏.‏
قال نَصرْ بن سيّار‏:‏ إنّا وهذا الحيَّ من يَمَن لَنا عِنْد الفَخَار أَعِزَّةٌ أَكْفَاءُ قومٌ لهم فينا دماءٌ جَمَّةٌ ولنا لديهم إِحْنَةٌ ودِمَاء وَربيعة الأذْنابِ فيما بَيْننا لا هُم لنا سَلْمٌ ولا أعْداء إن يَنْصرٌونا لا نَعِزُّ بنَصرْهم أو يَخْذُلونا فالسَّماء سَماء مفاخرة يمن ومضر - قال الأبرش الكَلْبي لخالد بن صَفْوان‏:‏ هَلُمّ أفاخرك وهما عند هشام بن عبد الملك فقال له خالد‏:‏ قُل فقال الأبْرش‏:‏ لنا رُبْع البَيْت - يُريد الرّكْن اليماني - ومنّا حاتمُ طَيِّىء ومنا المُهلَب بن أبي صُفْرة‏.‏
قال خالدُ بن صَفْوان‏:‏ منّا النبي المُرْسَل وفينا الكِتَاب المنَزَل ولنا الخليفةُ المُؤَمَّل قال الأبْرش‏:‏ لا فاخرتُ مُضرياً بعدك‏.‏
ونزل بأبي العبّاس قَوْمٌ من اليمن مِن أخواله مِن كَعْب فَفَخروا عنده بقدِيمهم وحَدِيثهم فقال أبو العبّاس لخالد بن صَفْوان‏:‏ أجب القومَ فقال‏:‏ أخوالُ أمير المُؤمنين قال‏:‏ لا بُدَ أنْ تقول قال‏:‏ وما أَقول لقوم يا أميرَ المؤمنين هم بين حائك بُرْد وسائس قِرْد ودابغ جِلْد دَلَ عليهم هُدْهد ومَلَكَتْهم امرأة وغَرَّقتهم فَأرة فلم مفاخرة الأوس والخزرج - الخُشنى يَرْفعه إلى أنس قال‏:‏ تفَاخرت الأوسُ والخَزْرج فقالت الأوْس‏:‏ منا غَسِيلُ المَلائكة حَنْظلةُ بن الرَّاهب ومنَّا عاصم بن ‏"‏ ثابت بن أبي ‏"‏ الأقْلح الذي حَمَت لَحْمَه الدَبْر ومنا ذو الشَّهادتين خُزَيمة بن ثابت ومنّا الذي اْهتز لمَوْته العرشُ سعدُ بن مُعاذ‏.‏
قالت الخزرجُ‏:‏ منّا أَرْبعة قرأوا القُرآن على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأه غيرُهم‏:‏ زيدُ بن ثابت وأبو زَيد ومُعاذ بن جَبل وأبيّ بن كَعْب سيّد القُرّاء ومنّا الذي أيَّده الله برُوح القُدس في شِعْره حَسَّان بنُ ثابت‏.‏



البيوتات
قال أبو عُبيدة في كتاب التاج‏:‏ آجتمع عند عبد الملك بن مَرْوان في سَمَره عُلماء كثيرون من العرب فَذَكروا بُيوتات العرب فاتفقوا على خَمسة أبْيات بيت بني مُعاوية الأكْرمين في كِنْدة وبَيْت بني جُشَم بن بكر في تَغْلب وبيتِ ابن ذي الجَدَّين في بَكْر وبيت زُرارة بن عُدَس في تميم وبيت بني بَدْر في قَيْس‏.‏
وفيهم الأحْرز بن مُجاهد التِّغلَبي وكان أعلمَ القَوْم فَجعل لا يَخُوض معهم فيما يَخُوضون فيه فقال له عبدُ الملك‏:‏ مالك يا أحَيرز ساكتاً منذُ الليلة فواللّه ما أنت بدون القوم عِلماً قال‏:‏ وما أقولُ سَبق أهلَ الفَضْل ‏"‏ في فضلهم أهلُ النقص ‏"‏ في نقُصانهم واللِّه لو أن للناس كلَهم فَرساً سابقاً لكانت غُرتَه بنو شَيبان ففيم الإكْثار‏.‏
وقد قالت المُسيب بن عَلَس‏:‏ تَبِيت المُلوكُ على عتْبها وشَيْبانُ إنْ عَتبت تُعتِبِ فكا لشُهْد بالرَّاح أخْلاقُهم وأحلامُهم مِنْها أعْذَب وكالمِسك تُرْب مَقَاماتهم وتُرْب قبورِهُم أطيَب بيوتات مضر وفضائلها جُمْجُمتها وفيها العَيْنان وأسَد لسانُها وتميم كاهلُها‏.‏
وقالوا‏:‏ بيتُ تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زُرارة وبيتُ قيس فَزَارة ومَركزه بنو بَدْر ‏"‏ بن عمرو ‏"‏ وبيتُ بَكْر بن وائل شَيْبان ومركزه بيتُ بني ذي الجَدّين‏.‏
وقال مُعاوية للكَلْبي حين سأله عن أخْبار العَرب قال‏:‏ أخبرْني عن أعزِّ العَرب فقال‏:‏ رجلٌ رأيته بباب قُبته فَقَسَّم الفيء بين الحَلِيفين أسد وغَطفان معاً قال‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ حِصْن بن حُذَيفة بن بَدْر‏.‏
قال‏:‏ فأخْبرني عن أشرف بيت في العرب قال‏:‏ واللّه إني لأعْرفه وإني لأبْغضه قال‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ بيتُ زُرارة بن عُدَس‏.‏
قال‏:‏ فأخْبرْني عن أفْصح العرب قال‏:‏ بنو أسد‏.‏
والمُجْتمع عليه عند أهل النُسب وفيما ذكره أبو عُبيدة في التاج أن أشرف بيت في مُضر غَير مُدافَع في الجاهليِّة بيتُ بَهْدَلة بن عَوْف بن كعب ابن سَعد بن زَيْد مَنَاة بن تَمِيم‏.‏
وقال النعمان بن المُنذر ذاتَ يومٍ وعنده وُجوه العرب ووفُود القبائل ودَعا بُبْرديْ مُحرِّق فقال‏:‏ لِيَلْبس هذين البردين أكرمُ العَرب وأشرفُهم حَسَباً وأَعزُهم قَبيلة فأَحْجم الناس فقال الأحَيْمِر بن خَلَق بن بَهدلة بن عَوف بن كَعْب بن سَعْد بن زَيد مَناة فقال‏:‏ أنا لهما فائْتزَر بأحدهما وآرتدى بالاخر‏.‏
فقال له النعمان‏:‏ وما حُجُّتك فيما آدّعيتَ قال‏:‏ الشرفُ من نِزار كلَها في مَضرَ ثم في تَميم ثم في سَعْد ثمّ في كَعْب ثمّ في بَهْدَلة قال‏:‏ هذا أنتَ فِي أَهلك فكيف أنت في عَشِيرتك قال‏:‏ أنا أبو عَشرَة وعَئُم عَشرَة وأخو عَشَرة وخالُ عَشرة فهذا أنت في عَشِيرتك فكيف أنت في نَفْسك فقال‏:‏ شاهدُ العيَنْ شاهدي ثم قام فَوَضع قَدَمه في الأرض وقال‏:‏ مَن أزالها فله من الإبل مائة‏.‏
فلم يَقُم إليه أَحدٌ ولا تَعاطَى ذلك‏.‏
ففيه يقول الفَرزدق‏:‏ فما ثَمّ في سَعْدٍ ولا آل مالك غلامٌ إذا سِيلَ لم يَتَبَهْدل لهم وَهَب النعمانُ بُردىَ مُحرِّق بمَجد مَعدّ والعَديدِ المُحَصَّل ومن بيت بَهْدلة بن عوف كان الزِّبْرقان بن بَدْر وكان يُسمَّى سعد ‏"‏ بن زيد مناة بن تميم‏:‏ سعدَ ‏"‏ الأَكْرِمين وفيهم كانت الإفاضة في الجاهليَّة في عُطارد بن عَوْف بن كَعْب بن سعد ثم في آل كَرِب بن صَفْوان بن عُطار وكان إذا آجتمِع الناسُ أيامَ الحج بمنى لم يَبْرح أحدٌ حتى يَجوز آلُ صَفْوان ومَن وَرِث ذلك عنهم ثم يمرّ الناسُ أرسالاً‏.‏
وفي ذلك يقولُ‏:‏ أوسُ بنُ مَغْراء السّعديّ‏:‏ ولا يَريمون في التَّعْريف مَوْقِفهم حتى يُقال أجيزُوا آلَ صَفْوَانَا ما تَطْلُع الشمسُ إلا عند أوّلنا ولا تَغِيبنَّ إلاّ عند أُخْرَانا وقال الفَرَزْدق‏:‏ ترى الناسَ ما سرنا يَسيرون خَلْفَنَا وإنْ نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأجدُ نفس رَبكم من قِبل اليمن‏.‏
معناه واللّه أعلمِ‏:‏ أن الله يُنفِّس عن المُسلمين بأهل اليمنِ يريدُ الأنْصار ولذلك تقول العرب‏:‏ نفسني فلانٌ في حاجتي إذا رَوَّح عنه بعض ما كان يَغُمًّه من أمر حاجته‏.‏
وقال عبد الله بن عباس لبعض اليمانيّة‏:‏ لكم مِن السماء نَجْمُها ومِن الكَعْبَة رُكبُها ومن الشَّرف صَمِيمه‏.‏
وقال عمرُ بن الخطاب‏:‏ مَنْ أجودُ العَرَب قالوا‏:‏ حاتم طيء قال‏:‏ فَمَن فارسُها قالوا‏:‏ عَمْرو بن مَعْدِ يكرب قال‏:‏ فَمَن شاعرُها قالوا‏:‏ آمرؤ القَيْس بن حُجْر قال‏:‏ فأيّ سُيوفها أَقْطَع قالوا‏:‏ الصَّمْصامة قال‏:‏ كَفي بهذا فَخْراً لليمن‏.‏
وقال أبو عُبيدة‏:‏ مُلوك العَرب حِمْير ومَقَاولُها غَسّان ولَخْم وعَدَدُها وفُرسانها الأَزْد وسِنانُها مَذْحج ورَيْحانتها كِنْدة وقُرَيْشها الأنصار‏.‏
وقال ابن الكَلْبي‏:‏ حِمْير مُلُوكٌ وأَرْداف المُلوك والأزْد أُسْد ومَذْحج الطُّغَان وهَمْدان أَحْلاس الخَيْل وغَسان أَرْباب المُلوك‏.‏
ومن الأزْد‏:‏ الأنْصار وهم الأوْسٍ والخَزْرج ابنا حارثة بن عمرو بن عامر وهم أعزُّ الناس أَنْفُساً وأشرفُهم هِمَما لم يُؤَدَّوا إتاوةَ قطّ إلى أحد من المُلوك‏.‏
وكتب إليهم أبو كَرِب تُبًع الآخِر يَسْتَدْعيهم إلى طاعته ويتوعّدهم إنْ لم يَفْعلوا أنّ يَغْزُوَهم فَكتبوا إليه‏:‏ العَبْدُ تُبَّعكم يُريد قِتالَنا ومكانُه بالمَنْزِل المُتذَلَل إنّا أُناس لا يُنامُ بأرْضنا عَضَ الرَّسُولُ بِبَظْر أمِّ المُرْسِل قال‏:‏ فَغزاهمٍ أبو كَرِب فكانوا يُحاربونه بالنَّهار ويَقْرُونه باللَّيل فقال أبو كرب‏:‏ ما رأيتُ قوما أكرمَ من هؤلاء يُحاربوننا بالنَهار ويُخْرجون لنا العَشَاء باللِّيل آرْتحِلُوا عنهم فارتحلًوا‏.‏
ابن لَهِيعة عن ابن هُبيرة عن عَلْقمة ابن وَعْلة عن ابن عبّاس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سَبأ ما هو أبلدٌ أم رَجُل أمٍ امرأة فقال‏:‏ بل رَجُل وُلد له عَشرة فَسَكن اليمنَ منهم ستةٌ والشامَ أربعةٌ أمّا اليمانيّون فكِنْدة ومَذْحج والأزد وأنمار وحِمْير والأشعريون وأمّا الشاميُون فَلَخْم وجُذَام وغَسّان وعامِلة‏.‏
ابن لهيعة قال‏:‏ كان أبو هُريرة إذا جاء الرسولُ سأله ممّن هو فإذا قال‏:‏ من جُذام قال‏:‏ مَرْحباً بأصهار مُوسى وقوم شُعَيب‏.‏
ابن لَهيعة عن بَكْر بن سَوَادة قال‏:‏ أتى رجلٌ من مَهْرَة إلى عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ ممن أنت قال‏:‏ من مَهْرَة قال‏:‏ ‏"‏ وَآذْكُرْ أَخَا عادٍ إذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحْقَافِ ‏"‏‏.‏
وقال ابن لَهِيعة‏:‏ قَبْرُ هُود في مَهْرَة‏.‏
تفسير القبائل والعمائر والشعوب قال ابن الكَلْبيّ‏:‏ الشَّعب أكبرُ من القَبيلة ثم العِمَارة ثم البَطْن ثم الفَخِذ ثم العَشِيرة ثم الفَصِيلة‏.‏
وقال غيرُه‏:‏ الشّعوبُ العَجَم والقبائل العرب وإنما قيل للقَبيلة قبيلة لتقابُلها وتناظرُها وأن بعضَها يُكافئ بعضاً‏.‏
وقيل للشَّعْب شَعْب لأنه انشَعب منه أكثر مما آنشعب من القَبيلة وقيل لها عَمائر من الاعتمار والاجتماع وقيل لها بُطون لأنها دون القبائل وقيل لها أفخاذ لأنها دون البُطون ثم العَشيرة وهي رَهط الرجل ثم الفَصيلة وهي أهلُ بيت الرجل خاصة‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وفَصِيلتِهِ التي تُؤويه ‏"‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِينَ ‏"‏‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:16 AM

تفسير الأرحاء والجماجم
- وقال أبو عُبيدة في التَاج‏:‏ كانت أَرْحاء العَرَب سِتَاً وجَماجمها ثمانياً فالأرحاء الست بمُضَر منها اثنتان ولرَبيعة اثنتان‏.‏
ولليمن اثنتان واللتان في مضَر تَميبمِ بن مُرّ وأسد بن خُزَيمة واللتان في اليمنِ كَلْب ابن وَبْرة وطيئ بن أدد وإنما سُميت هذه أَرْحاء لأنها أَحْرزت دوراً ومِياهاَ لم يكن للعرب مثلُها‏.‏
ولم تَبْرح من أَوْطانها ودَارت في دورها كالأرْحاء على أَقْطابها إلأ أَنْ يَنتجع بعضها في البُرَحاء وعامَ الجَدْب وذلك قليلٌ منهم‏.‏
وقيل للجَماجم جماجم لأنها يَتفرع من كلّ وَاحدة منها قبائل اكتفت بأسمائها دون الانتساب إليها فصارت كأنها جَسَد قائم وكلّ عُضْو منها مُكْتَفٍ باسمه مَعْروف بمَوْضعه والجماجمُ ثمانٍ‏:‏ فاثنتان منها في اليَمن واثنتان في رَبيعة وَأَرْبع في مُضرَ‏.‏
فالأربع التي في مُضر‏:‏ اثنتان في قَيْس واثنتان في خِنْدف ففي قَيْس‏:‏ غَطَفان وهَوَازن وفي خِنْدف‏:‏ كنانة وتَميم واللتان في رَبيعة‏:‏ بكر ابن وائل وعبدُ القَيْس بن أَقصىَ واللتان في اليمن‏:‏ مَذْحج وهو مالك بن أدد ابن زَيْد بن كَهلان بن سَبَأ وقُضاعة بن مالك بن زيد بن مالك بن حِمْير بن سبأ‏.‏
أَلا تَرَى أَن بَكْراً وَتَغْلِب ابني وائل قبيلتان مُتكافِئتان في القدر والعَدد فلم يَكُنْ في تَغْلِب رجال شُهِرَت أسماؤهم حتى انتُسِب إليهم واستجزئ بهم عن تَغْلِب فإذا سألتَ الرجلَ من بني تَغْلب لم يَسْتَجْزِئ حتى يقول تَغْلَبي‏.‏
ولبَكْر رجالٌ قد اشتَهرت أسماؤهم حتى كانت مثلَ بكر فمنها شَيبان وعِجْل ويشْكُر وقَيْس وحنيفة وذُهْل ومثلُ ذلك عبد القَيْس ألا ترى أن عَنَزة فوقها في النّسب ليس بينها وبين رَبيعة إلا أَبٌ واحد عَنَزة بن أسد بن ربيعة فلا يَسْتجزئ الرِجلُ منهم إذا سُئل أن يقول عَنَزِيّ والرجل من عبد القَيْس يُنْسب شَيبانيًاً وجَرْمِيَّاَ وبَكْريَّاً‏.‏
ومثلُ ذلك أن ضَبَّة بن أد عم تميم فلا يَسْتجزئ الرجلُ منهم أن يقول ضبّي والتَّمِيميّ قد ينتسب فيقول مِنْقَرِيّ وَهُجَيْمِيّ وطْهوِيّ ويَرْبُوعِيّ ودارميّ وكَلْبيّ وكذلك الكِناني يَنْتَسب فيقول لَيْثي ودُؤَلِيٌ وَضمْريٌ وَفِرَاسيّ وكل ذلك مَشْهور مَعْروف وكذلك الغَطَفَاني ينتسب فيقول عَبْسي وذُبْياني وَفَزَارِيّ ومُرّي وأَشْجعي وَبَغِيضيّ‏.‏
وكذلك هَوَازن منها ثقيف والأعْجَاز وعامِر بن صَعْصَعة وقُشَير وَعقيل وجَعْدة وكذلك القبائل من يَمن التي ذكرنا فهذا فرق ما بني الجماجم وغيرها من القبائل والمعنى الذي به سميت جماجم‏.‏
وجمرِات العَرب أَرْبعة وهمْ‏:‏ بنو نُمير بن عامر بن صَعْصعة وبنو الحارث بن كَعْب وبنو ضبَّة وبنو عَبْس بن بَغِيض وإنما قيل لها الجَمَرات لاجتماعهم والجَمْرة الجَماعة أسماء ولد نزار قال أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الخُشَنى‏:‏ لما احتضِر نِزار بن مَعدِّ ابن عَدْنان تَرك أربعةَ بنين‏:‏ مُضَر ورَبيعة وأنمار وإياد وأَوْصىَ أن يُقَسَم ميراثَهم بينهم سَطِيحٌ الكاهِن‏.‏
فلما مات نِزار صَفَّهم سَطيح بين يَدَيه ثم أعطاهم على الفِرَاسة فأَعْطى ربيعةَ الخَيْلَ فيُقال له رَبيعة الفَرَس وأَعْطَى مُضر الناقَة الحمراء فيُقال له مُضَر الحَمْراء‏.‏
وأَعْطى أَنماراً الحِمارَ وأَعْطى إياداً أثاثَ البيت‏.‏
قال‏:‏ فقِيل لسَطِيح‏:‏ مِن أين عَلِمْت هذا العِلْم قال سَمِعْتُه من أخي حين سَمِعه من مُوسى يومَ طورِ سيناء‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ أخبرني شيخٌ من تَغْلب قال‏:‏ أَرْدَفني أبي فلمّا أَصْحَر رَفَع عَقيرَته فقال‏:‏ رأتْ سِدْرةً مَن سِدر حَوْمَلَ فابتَنَت به بيتها أَلا تُحاذِرَ راميَا إذا هي قامتْ فيه قامتْ ظَلِيلةً وأَدْرك روْقَاها الغُصونَ الدَّوانيا تَطَلَعُّ منه بالعَشيّ وبالضُحَى تَطَلّعَ ذاتِ الخِدْر تَدْعو الجَوارِيا ثمّ قال‏:‏ أَتَدْري من قائلُ هذه الأبيات يا بُني قلت‏:‏ لا أَدري قال‏:‏ قالها رَبيعةُ بن نِزَار فقلت‏:‏ وما يَصِف قال‏:‏ البَقرة الوَحْشيَّة‏.‏
ولد مضرَ بن نِزَار إلياس والناس وهو عَيْلان أمهما الرباب بنت حَيْدة بن مَعدّ‏.‏
فَولَد الناس الذي هو عَيْلان بن مُضَر قَيْسَ بن عَيْلان بنِ مُضر وولد إلياس بن مُضر عَمْراً وهو مُدْركة وعامراً وهو طابخة وعُميراَ وهو القَمَعة‏.‏
ويقال إن القَمَعة هو الجُزَعة وأُمهم خِنْدف وِهي لَيْلَى بنت حُلْوان بنِ عمْران بن الحاف بن قُضاعة فَجَميع ولد إلياس بن مُضر بن نِزار من خِنْدف ولذلك يُقال لهم خِنْدف لأنها أمهم وإليها يُنسبون‏.‏
فَجَميع ولد مُضر بن نِزار قيس وخِنْدف‏.‏
ومن بُطون خِنْدف‏:‏ بنو مُدْركة بن إلياس بن مُضر وهم هُنَيل بن مُدْركة وكِنانة بن خُزَيمة بن مُدْركة وأَسَد بن خُزَيمة بن مُدْركة والهُوِن بن خُزيمة بن مُدْرِكة وهم إخْوة أَسد‏.‏
ومن بني طابخة بن إلياس من مُضَر ضبة بن أدبن طابخة ومُزَينة وهما بنو عمرو بن أُدّبن طابخة نُسبوا إلى أمهم مُزينة بنت كَلب بن وَبْرة والرباب بنو أدبن طابخة وهم عَدِيّ وتَيْم وثَوْر وعُكْل وإنما سُمِّيت الرباب لأنها اجتَمعت وتحالفت فكانت مثل الربابة‏.‏
ويقال إنهم كانوا إذا تحالفوا وَضعوا أَيْديهم في جَفْنة فيها رُبّ‏.‏
وصُوفة وهو الرٌبيط بن الغَوْث بن أُدّبن طابخة وكانوا أصحابَ الإجازة ثم انتقلت في بني عُطارد بن عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زَبْد مَنَاة بن تَمِيم و تَميم ابن مُرّ بن أُدّ ابن طابخة‏.‏
فجميع قبائل مُضر تجمعها قَيْس وخِنْدف وقد تنسب ربيعة في مُضر وإنماهم إخوة مُضر لأن ربيعة ابن نُزار ومُضرَ ابن نزار‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif بطون هذيل وجماهيرها
منهم لِحْيان بن هُذَيل بَطْن‏:‏ وخُنَاعة بن سَعد بن هُذَيل بَطْن وحرَيث بن سَعد بن هُذَيل بَطْن وصاهِلة بن كاهل بن الحارث بن سَعْد بن هُذيل بطن وصُبح بن كاهل بطن وكَعْب بن كاهل بطن‏.‏
فمن بَنى صاهلة‏:‏ عبد الله بن مَسْعود صاحِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شَهد بدراً‏.‏
ومن بني صُبْح بن كاهل‏:‏ أبو بكر الهُذَليّ الفَقيه ومنهم‏:‏ صَخْر بن حَبيب الشاعر الذي يقال له صَخْر الغَيّ وأبو بكر الشاعر واسمه ثابت بن عبد شَمْس ومنهم‏:‏ أبو ذُؤَيب الشاعر وهو خُوَيلد بن خالد‏.‏
وبُطون هُذَيل كلّها لا تَنْتَسب إلى شيء منها وإنما تَنْتَسب إلى هُذَيل لأنها ليست جُمْجُمَة‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif بطون كنانة وجماهيرها
كِنانة بن خُزَيمة بن مُدْركة منهم‏:‏ قُريش وهم بنو النَضْر بن كِنانة ومنهِم‏:‏ بَكْربن عبد مَناة بَطْن وجُنْدُع بن لَيْث بن بكر بن عبد مَناة بَطْن ومنهم‏:‏ نصْر بن سَيَّار صاحب خُراسان وغِفَار بن مُلَيْل بن ضَمْرة بطن ومنهم‏:‏ أبو ذَرّ الغِفَاريّ صاحب النبي عليه الصلاة والسلام ومُدْلج بن مُرّة بن عبد مَناة بطن ومنهم‏:‏ سُرَاقة ‏"‏ بن مالك ‏"‏ بن جُعْشُم المُدْلِجيّ الذي تَصوَرَ إبليسُ في صُورته يومِ بَدْر وقال لقُريش‏:‏ إني جارٌ لكم وبنو مالك من كِنانة بَطْن ومنهم‏:‏ جِذْل الطعان وهو عَلْقمة بن أَوْس بن عَمْرو بن ثَعْلبة بن مالك بن كِنانة ومن ولد جِذْل الطِّعان‏:‏ رَبيعة بن مُكدم وهو أشجَع بيت في العَرَب وفيهم يقول عليُّ بن أبي طالب لأهل الكُوفة‏:‏ وددْتُ واللّه لو أن لي بمائِة ألفٍ منكم ثلثَمائةٍ من بني فِرَاس بن غَنْم بن ثَعْلبة وبنو الحارث بن مالك بن كِنانة منهم‏:‏ القَلَمَّس وهو أبو ثمامَة الذي كان يُنْسئ الشُّهور حتى أَنْزل الله فيه‏:‏ ‏"‏ إنّما النسيءُ زيادة في الكُفْر ‏"‏ وبنو مُخْدِج بن عامر بن ثعلبة بَطْن‏:‏ وبنو ضَمْرة بن بكر في كِنانة ومنهم‏:‏ البرّاض بن قَيْس الذي يُقال فيه‏:‏ أَفْتك من البرّاض وعُمارة بن مَخَشيّ الذي عاقَد النبي عليه الصلاة والسلام على بني ضَمْرة‏.‏
ومن بني كِنانة‏:‏ الأحابيش‏:‏ مَبْذُول وعَوْف وأَحْمر وعَوْن وهم بنو الحارث بن عبد مَناة ومنهم‏:‏ الحُلَيْس بن عَمرو بن الحارث وهو رئيس الأحابيش يوم أُحد وبنو سعد بن لَيْث ومنهم‏:‏ أبو الطّفيل عامر بن وَائِلة ووَائلة بن الأسْقع كانت له صُحْبة مع النبي عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
بطون أسد وجماهيرها أَسَد بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر منهم دودَان الذي يقول فيه امرؤ القَيس‏:‏ ومنهم‏:‏ كاهل بن عَمْرو بنِ صَعْب وحُلْمة‏.‏
فأمّا بنو حُلْمة فأَفناهم امرؤ القيس ابن حُجْر بأبيه ومنهم‏:‏ غنْم بن دُودان وثَعْلبة بن دُودان ومنهم‏:‏ قعَيْس بن الحارث بن ثَعْلبة بن دودان بن أَسد ومنهم‏:‏ بنو الصَّيْداء بن عَمْرو بن قُعَيْس ومِنهم فَقْعس بن طَرِيف بن عَمْروِ بن قُعَيس ومنهم‏:‏ جَحْوان بن فَقْعسٍ ودِثَار ونوْفل ومُنْقذ ‏"‏ وهو ‏"‏ حَذْلم بنو فقعس‏.‏
فمن بني جَحْوان‏:‏ طُلَيْحة بنُ خوَيلد الأسديّ ومن بَني الصَيْداء‏:‏ شَيْخ بن عُمَيْرة القائدِ والصامت بن الأفْقم الذي قَتل رَبيعةَ بن مالك أبا لَبيد بن رَبيعة الشاعر يوم ذي عَلَق‏.‏
وفي بني الصَّيْداء يقول الشاعر‏:‏ يا بَني الصَّميْداء ردُّوا فَرَسي إنّما يُفْعل هذا بالذِّلِيلْ ومن بني قُعَيْس‏:‏ العَلاءُ بن محمد بن مَنْظُور ولي شُرْطة الكُوفة ومنهم‏:‏ ذُؤَاب بن رُبَيِّعة الذي قتل عُتَيْبة بن الحارث بن شهاب اليَرْبُوعيّ ومنهم‏:‏ قَبِيصة بن بُرْمَة ومنهم‏:‏ بِشْر بن أبي خازم الشاعر‏.‏
ومن بني سَعْد بن ثَعْلبة ابن دودان‏:‏ سُوَيد بن رَبيعة وعَبيد بن الابْرص وعَمرو بن شَأَسْ أبو عِرَار والكُمَيت بن زيد ومنهم‏:‏ ضرِار بن الأًزْور صاحب المُخْتار ومنهم‏:‏ بنو غاضرَة بن مالك بن ثَعْلبة بن دودان ومَن بَني غاضرَة‏:‏ زِرُّ بن حُبَيش الفَقيه ومنهم الحَسْحَاس بن هِنْد الذي يُنْسب إليه عَبْد بَني الحَسْحاس ومن أسد‏:‏ بنو غَنْم بن دُودان ومنهم‏:‏ زَيْنب بنت جَحْش زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم‏:‏ أيمَن بن خُرَيم الشاعر والأًقَيْشِر الشاعر وأَفْلَتهنّ عِلْبَاءٌ جَريضاً ولو أدْرَكْنَه صَفِر الوِطابُ الهون بن حزيمة بن مدركة - منهم القَارَة وهم عائذة وبَيْثَع بنو الهُون ابن خُزَيمة بن مُدْركة والقارَة أَرْمى حَيّ في العرب ولهم يُقال‏:‏ قَد أَنْصَف القَارَةَ من رَامَاها فهذه قبائل بن مُدْركة بن إلياس وهي‏:‏ هذَيل بن مُدْركة وكِنَانة بن خُزَيمة بن مُدْركة وأَسد بن خُزيمة بن مُدْركة والهونُ بن خُزَيمة بنِ مُدركة‏.‏
ومن قبائل طابخة بن إلياس بطوِن ضبّة وجماهيرها‏:‏ ضبّة بن أُدّ بن طابخة ابن إلياس‏.‏
وَلَدَ ضبّةُ بنُ أد سَعْدا وسَعِيداً وباسلاً وله المثلُ الذي يقالُ فيه‏:‏ أَسَعْدٌ أَمْ سَعِيد‏.‏
فَقُتل سعيد ولم يعْقِب ولَحِق باسلٌ بأرض الدَيلم فتزوّج امرأةً من أرض العَجَم فَوَلدت له الدَيلم‏.‏
فيُقال إن باسلَ بنَ ضَبّة أبو الدَّيلم‏.‏
ويا ذلك يَقول أبو بجَير يَعِيب به العَرب‏:‏ زَعمتم بأنّ الهِند أَوْلادُ خِنْدف وبَينكُم قُرْبىَ وبين البَرابِر وديْلمَ مِن نَسْل ابن ضَبَّةَ باسلٍ وبُرْجانَ من أولادِ عَمْرو بن عامر فقد صار كلُّ النَّاس أولادَ واحدٍ وصارُوا سَواءً في أصول العَناصر بنو الأصفر الأمْلاك أكرمُ منكمُ وأوْلَى بقُربانَا مُلوك الأكاسر فمن بني سَعْد بن ضَبّة‏:‏ بنو السيِّد بن مالك بن بَكْر بن سَعْد بن ضَبّة بَطن وبنو كُوز بن كَعْب بن بَجَالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سَعْد بن ضَبّة بطن وبنو زَيد بن كعب بن بَجَالة بن ذهل بن مالك بن بَكْر بطن‏:‏ وبنو عائذة بن مالك بن بكر بن سَعْد بن ضَبّة بطن ومنهم‏:‏ عبدُ مناة بن سَعْد بن ضَبّة وبنو ثَعْلبة بن سَعْد بن ضبّة‏.‏
فمن بني كُوز‏:‏ المُسيِّب بن زُهَير بن عَمْرو ومن بني زيد‏:‏ ‏"‏ ضرار بن ‏"‏ عمرو بن مالك بن زَيْد بن كَعْب وكان سيِّداً مُطاعاً ووُلد له عبدُ الحارث وحصين وعَمْرو وأَدهم ودُلْجَة وعامر وقَبيصة وحَنْظلة وخِيَار وحارث وقيس وشَيْبَة ومنْذر كل هؤلاء شريف قد رَأس ورَبَع - يعني قد أخذ المِرْباع - وكان الرئيس إذا غَنم الجيشُ معه أَخذ الرُّبع ومن ولد الحُصين بن ضِرار‏:‏ زَيْد الفوارس وله يقول الفَرزْدق‏:‏ زَيْدُ الفَوارِس وابن زَيْد منْهُم وأبوِ قَبيصة والرئيسُ الأوَّلُ الرئيس الأوَّل‏:‏ مُحلِّم بن سُوَيْط رَبع ضبّة وتميم والرِّباب ومن بني زَيد الفوارس‏:‏ ابن شُبْرمة القاضي ومن بني عائذة بن مالك‏:‏ شرحاف بن المُثلَّم الذي قَتل عُمارة بن زِيَاد العَبْسي ومن السِّيد بن مالك‏:‏ زيد بن حُصَين وَلي أصْبهان وعبدُ الله بن عَلْقمة الشاعر الجاهليّ ومنهم عُمَيرة بنُ اليثربي قاضي البَصرة وهو الذي قتل عِلْباء وهِنْد الجَمليّ وقال في قَتْلهما يوم الجمل‏:‏ إني أنا عُمَيرة بن اليَثْربيّ قتلتُ عِلْباء وعِنْد الجَمليّ مزينة - مُزَينة بن عَمْرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس نُسبوا إلى أُمهم مُزينة بنت كلب بن وَبْرة‏.‏
منهم النّعمان بن مُقَرِّن ومنهم‏:‏ مَعْقل بن سِنَان ‏"‏ بن نُبَيشة ‏"‏ صَاحب النبي عليه الصلاة والسلام وزُهَير بن أبي سُلْمى الشاعر ومَعْن بن أَوْس الشاعر ومنهم إيَاسُ بن مُعاوية القاضي‏.‏
وإنّما مُزَينة كلّها بنو عُثمان وأَوْس ابني عمرو بن أدّ بن طابخة‏.‏
وفي ذلك يقول كَعْب بن زُهير‏:‏ متى أَدْعُ في أَوسٍ وعُثمانَ تَأْتني مَساعِيرُ قَوْمٍ كلّهم سادةٌ دِعَمْ هم الأسْد عند البَأْس والحَشْد في القُرَى وهم عند عَقْد الجار يُوفون بالذِّمم الرِّباب - وهم‏:‏ عَدِيّ وتَيم وثَوْر وعُكْل‏.‏
وإنّما سُمِّيت هذه القبائل الرِّبَاب لأنهم تحالفوا فَوَضعوا أيديهم في جَفْنة فيها رُبّ‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ إنما سمُّوا الرِّباب لأنهمِ إذا تَحَالفوا جَمعوا أقداحاً من كلّ قَبيلة منهم قَدَح وجَعلوها في قِطْعة أَدَم وتُسَمَّى تلك القطعة الرُّبة فسُمُّوا بذلك الرِّباب‏.‏
فمن بني عَدِيّ بن عَبْد مَناة بن أدّ بن طابخة‏:‏ ذو الرُّمة الشاعر وهو غَيْلان بن عقْبة‏.‏
ومن بني تَيم بن عبد مَناةَ‏:‏ عُمَر بن لَجَأ الشاعر الذي كان يُهاجِي جريراً‏.‏
ومن بني عُكْل بن عبد مناة‏:‏ النَّمِرُ بن تَوْلَب الشاعر‏.‏
ومن بني ثَوْر بن عَبد مَناة‏:‏ سفْيان الثَّوْري الفَقيه‏.‏
فهذه الرِّباب وهم بنو عَبْد مَنَاة‏.‏
صُوفة - هم بنو الغَوْث بن مُرِّ بن أُدِّ طابخة وفيهم كانت الإجازةُ في الجاهلية هم كانوا يَدْفعون بالناس من عَرَفات ثم انتقلت الإجازة في بني عُطَارد بن عَوْف بن كَعْب بن سَعْد بن زيد مَناة بن تميم‏.‏
فمن الغَوْث‏:‏ شُرَحْبِيل بن عبد العُزّى الذي يقال له‏:‏ شُرَحْبيل بن حَسَنة‏.‏
بطون تميم وجماهيرها تَمِيم بن مُرّ بن أُدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر‏.‏
كان لتميم ثلاثةُ أولاد‏:‏ زَيْدُ مَناة وعمرو والحارث بنو تميم‏.‏
فمن الحارث بن تميم‏:‏ شَقِرة واسمه مُعاوية بن الحارث بن تميم وإنما قِيل له شَقِرَة لبيتٍ قاله وهو‏:‏ وقد أًحْمل الرُّمح الأصمَّ كُعُوبه به من دِماء النَوْم كالشَّقِرَاتِ والشَّقِرِات‏:‏ هي شَقائقِ النُّعمان شَبَّه الدّماء بها في حُمْرتها ومن بني شَقِرة المُسَيِّب بن شريك الفقيه ونصر بن حَرْب بن مَخْرمة‏.‏
ومن عمرو بن تميم‏:‏ أُسَيِّد بن عمرو بن تَمِيم ومنهم أكثم بن صَيْفي حَكِيم العَرَب وأبو هالة زَوْج ‏"‏ خديجة زَوْج ‏"‏ النبي صلى الله عليه وسلم وأَوْس بن حَجَر الأسَيْديّ الشاعر وحَنْظلة بن الرَّبيع صاحب النبيّ عليه الصلاة والسلام الذي يقال له‏:‏ حَنْظلة الكاتب‏.‏
بنو العنبر بن عمرو بن تميم
- منهم‏:‏ سَوَّار بن عَبد اللهّ القاضي وعُبيد اللهّ ابن الحَسَن القاضي وعامر قيس الزاهد‏.‏
ومنهم‏:‏ بنو دُغَة بنت مِغْنَج التي يُقال فيها‏:‏ أحمق من دُغَة وهي من إيَاد بن نِزَار تَزَوَّجها عَمْر بن خِنْدِف ابن العَنْبر فولدت له بنو الهُجَيم بن عمرو بن تَمِيم ويقال لهم‏:‏ الْحِبَال‏.‏
بنو مازن بن عمرو بن تميم - منهم عَبّاد بن أَخْضَرَ وحاجِب بن ذُبْيان الذي يعرف بحاجب الفِيل ومالك بن الريْب الشاعر ومنهم‏:‏ قَطَرِيّ ابن الفُجاءة صاحب الأزارقة وسَلْم وأخوه هِلال بن أَحْوَز‏.‏
الْحَبَطات - وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم وذلك أن أباهم الحارث أكل طَعَاماً فَحَبَطَ ‏"‏ منه أي وَرِمَ ‏"‏ بطنه‏.‏
منهم‏:‏ عَبّاد بن الحُصَين من فُرْسان العَرَب كان على شُرْطة مُصْعب بن الزُّبير‏.‏
غَيْلان وأَسْلَم وحِرْماز بنو ‏"‏ مالك ‏"‏ بن عمرو بن تميم - ‏"‏ فمن بني غَيْلان‏:‏ أبو الجَرْباء شَهِدَ يوم الجمل مع عائشة وقُتل يومئذ‏.‏
ومن بني حِرْماز‏:‏ سَمُرة بن يزيد كان من رجال البصرة في أول ما نزلها الناس ‏"‏‏.‏
بنو سَعد بن زيد مَناة بن تَميم - الأبناء وهم ستَّة من ولد سَعْد بن زيد مناة يقال لهم‏:‏ عَبد شمس ومالك وعَوْف وعُوافة وجُشم و ‏"‏ كعب ‏"‏‏.‏
فبنو سَعد بن زيد مناة‏.‏
وأولاد كَعْب بن سَعد يسمَّوْن مُقاعس والأجارب إلا عَمراً وعوفاً ابنيْ كعب‏.‏
فمن بني عبد شَمْس بن سَعْد - نُمَيْلة بن مُرَّة صاحب شرطة إبراهيم ابن عبد الله بن الحسن وإياس بن قَتَادة حامل الدِّيات في حرب الأزْد لتميم وهو ابن أخت الأحْنف بن قَيْس وعَبَدة بن الطَّبيب الشاعر ‏"‏ و ‏"‏ حِمَّان وهو عبد العُزَّى بن كعب بن سَعْد‏.‏
الأجارب - هم بَطْنان في سَعد وهم‏:‏ ربيعة بن كعب بن سعد وبنو الأعْرج ابن كعب بن سعد وفيهم يقول أَحْمَر بن جَنْدل‏:‏ ذُودا قليلاً تُلْحَق الجلائبُ يَلْحقنا حِمّان والأجارِبُ فمن بني الأجارب‏:‏ حارثةُ بن قَدامة صاحبُ شرْطة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعَمْرو بن جُرْمُوز قاتل الزُّبير بن العَوْام‏.‏
مُقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كَعْب بن سَعْد‏.‏
ومن أفخاذ مُقاعس‏:‏ مِنْقر بن عُبَيد بن مُقاعس ومنهم‏:‏ قيس بن عاصم سيِّد الوَبر وعمرو بن الأهتم وخالد بن صَفْوان بن عَمْرو بن الأهتم وشَبِيب بن شَيْبة بن عبد اللهّ بن عمرو بن الأهتم‏.‏
ومن بني عُبيد بن مقاعس وهم إخوة مِنْقر‏:‏ الأحْنف بن قيس وسَلاَمة بن جَنْدل والسُّلَيك بن السُّلَكة‏.‏
رَجَليُّ العرب‏.‏
ويقال له الرِّئبال لأنه كان يُغير وحدَه ومنهم عبد الله بن صفَّار اَلذي تُنسب إليه الصُّفْرِية وعبد الله بن إباض الذي تُنسب إليه الإباضيّة‏.‏
فهذه مُقاعس وجَماهيرُها‏.‏
بنو عُطَارد بن عَوْف بن كَعْب بن سعد - منهم‏:‏ كَرِب بن صَفْوان بن حُباب صاحب الإفاضة إفاضة الحاج يَدْفعِ بهم من عَرَفات وله يقول أوسُ ابن مَغْراء‏:‏ ولا يَرِيمون في التَعْريف مَوْقِفهم حتى يُقالَ أجيزُوا آلَ صَفْوانَاً قُرَيع بن عَوف بن كَعب بن سَعد - منهم الأضْبط بن قُرَيع رئيس تَمِيم يومَ مَيْط وبنو لُؤَى بن أنْف الناقة الذين مَدَحهم الحُطيئة فقال فيهم‏:‏ قَوْمٌ هُم الأنْف والأذْنابُ غَيرُهم ومن يُسَوِّي بأنْف النَّاقة الذَّنبَا ومنهم‏:‏ أوْس بن مَغْراء الشاعر وهذا أشرفُ بَطْن في تَمِيم‏.‏
بَهْدلة بن عَوْف بن كَعب بن سَعد - منهم الزِّبْرقان بن بَدْر واسمه حُصَين ومنهم‏:‏ الأحَيْمر بن خَلَف بن بَهْدلة صاحب بُرْدَيْ مُحرِّق والذي يقول فيه الفَرزدق‏:‏ فيا بنةَ عبد الله وابنةَ مالك ويا ابنةَ ذي البُرْدَيْن والفَرَس النِّهْدِ جُشَم بن عَوْف بن كَعب بن سَعد - يقال لبني جُشم وعُطارد وبَهْدلة‏:‏ الجذَاع‏.‏
حَنظلة بن مالك الأحْمق بن زَيْد مَناة - البَراجم خَمْسة من بني حَنْظَلة ابن مالك بن زَيْد مَناة وهم‏:‏ غالب وعمرو وقَيْس وكُلْفة ‏"‏ وظُلَيم ‏"‏ بنو حَنْظلة ابن مالك الأحمق بن زَيْد منَاة بن تميم منهم‏:‏ عُمَير بن ضَابئ الذي قَتله الحجّاج‏.‏
يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - منِ ولده‏:‏ رِبَاح بن يَربوع بن حَنْظلة منهم‏:‏ عَتّاب بن وَرْقاء الرِّياحيّ إلى أصبهان وأحَدُ أجْواد الإسلام ومَطَر بن ناجية الذي غَلَب على الكوفة أيام ابن الأشْعث‏.‏
وسُحَيم بن وَثيل الشاعر والحارث بن يَزيد صاحب الحَسن بن عليّ وأبو الهنْدِيّ الشاعر واسمه أزهر بن عبد العزيز وَمَعْقِل بن قَيْس صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأُبَيرد بن قُرّة‏.‏
عُدَانة بن يَرْبوع - منهم‏:‏ وَكيع بن أبي سُود وحارِثة بن بَدْر وكان فارساً شاعراً‏.‏
ثَعْلبة بن يَرْبوع - منهم مالك ومُتمِّم ابنا نُوَيرة وعُتَيبة بن الحارث بن شِهاب الذي يُقال له صَيِّاد الفوارس‏.‏
بنو سَلِيط بن يَرْبوع - منهم‏:‏ المُساور بن رِئَاب‏.‏
كَلب بن يَرْبوع - منهم‏:‏ جَرير بن الخَطَفي الشاعر‏.‏
العَنْبر بن يَرْبوعِ - منهم‏:‏ سَجَاع بنت أَوْس التي تَنَبأت في تميم‏.‏
زَيْد بن مالك وكعْب الضَّرَّاء بن مالك ويَرْبوع بن مالك بن حَنْظلة ابن مالك بن زَيْد مَنَاة أُمهم العَدَوِيَّة وبها يُعْرَفون ويقال لهم بنو العَدويّة وطُهيّة وهم بنو أبي سُود بن مالك وعَوْف بن مالك أمهم طهيّة وبها يُعْرفون ويقال لبني طُهَيِّة وبني العدَوِيّة الجمَار ومن بني طُهية‏:‏ بنو شَيْطان‏.‏
ومنهم دَارم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فولدُ دارم بن مالك‏:‏ عبد الله ومُجاشع وسَدُوف وخَيْبريّ ونَهْشل وجَرير وأبَان ‏"‏ ومَناف ‏"‏‏.‏
فمن وَلَد عبد الله بن دارم - حاجبُ بنُ زرارة بن عدَس بن عبد الله بن دارم وهو بَيْت بني تميم وصاحب القوس ومحمد بن ‏"‏ جُبير بن ‏"‏ عُطارد وهِلاَل بن وَكيع بن ‏"‏ بِشْر ‏"‏‏.‏
مُجاشع بن دارم - منهم‏:‏ الفَرزدق الشاعر والأقرع بن حابس وأعينَ ابن ضُبَيعة بن عِقَال والحتات بن يزيد والحارث بن شرَيح بن زيد صاحب خُراسان والبَعِيت الشاعر واسمه خِدَاش بن بِشْر والأصْبغ بن نُباتة صاحب عليّ‏.‏
نَهشَل بن دارم - منهم‏:‏ خازم بن خزَيمة قائد الرَّشيد وعبَّاس بن مَسْعود الذي مَدَحه الحُطيئة وكُثَيِّر عَزَّة الشاعر والأسود بن يَعْفُر الشاعر‏.‏
أَبَان بن دارم - منهم‏:‏ سَوْرة بن بَحْر كان فارساً صاحب خُراسان وذو الخِرَق بن شُرَيح الشاعر‏.‏
سدوس بن دارم - ‏"‏ وهؤلاء بادواً ‏"‏‏.‏
ورَبيعة بن مالك بن زَيد مَناة ورَبيعةُ بنِ حَنْظلة بن مالك بن زيد مَناة ورَبيعة بن مالك بن حَنْظلة يُقال لهم الرَّبائع‏.‏
فمِنْ رَبيعة بن حَنْظلة‏:‏ أبو بِلال الخارجيّ واسمه مِرْداس بن جُدَير ومن ربيعة بن مالك بن زيد مَناة‏:‏ عَلْقمة بن عَبَدَة الشاعر وأخوه شَأْس ومن رَبِيعة بن مالك بن حَنْظلة‏:‏ الْحُنَيف بن السِّجْف جِشَيْش بن مالك - وأُمه حُطَّى على مثال حُبْلى وبها يُعْرَفون‏.‏
منهم‏:‏ حُصَين بن تميم الذي كان على شرطة عُبيد الله بن زياد ويقال لجُشَيش ورَبيعة ودارم وكعب بني مالك بن حنظلة بن مالك‏:‏ الخِشَاب انقضى نسب الرِّباب وضبّة ومزينة وتميم بطون قيس وجماهيرها نسب قيس بن عيلان بن مضر - قَيس بن الناس وهو عيْلان بن مُضر‏.‏
فَمِنْ بطون قيس‏:‏ عَدْوَان وفَهْم ابنا عمرو بن قيس بن عيلان وأمهما جَدِيلة بنت مُدْركة بن إلياس بن مُضر نسِبوا إليها‏.‏
فمن عَدْوان‏:‏ عامر بن الظَّرب حَكَم العرب بعكاظ ومنهم‏:‏ أبو سَيَّارة وهو عُمَيلة بن الأعْزل‏.‏
ومنهم‏:‏ تأبَّطَ شراً وهو ثابت ابن عَمَيْثل غَطفان بن قيس بن عيْلان - وأعصُر بن سعد بن قَيس بن عيلان‏.‏
فمن بطونِ غَطفان‏:‏ أشْجع بن رَيْث بن غَطفان‏.‏
وأشجع بن ريث بن غطفان منهم‏:‏ نصْر بن دُهْمان وكان من المُعمَّرين عاش مائتي سنة ومنهم فَرْوَة بن نَوْفل‏.‏
عَبْس بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان - وهي إحدى جَمَرات العرب منهم‏:‏ زُهَير بن جَذِيمة كان سيِّد عَبْس كلِّها حتى قَتله خالدُ بن جعفر الكِلاَبي وابنه قيس بن زُهَير فارس داحس وعَنْترة الفوارس والحُطيئة وعُرْوَة بن الوَرْد والرَّبيعِ بن زياد وإخوتُه الذين يقاد لهم الكَمَلة ومروان بن زِنْباع الذي يُقال له مرْوَان القَرَظ وخالد بن سِنَان الذي ضَيّعه قومُه‏.‏
ذُبْيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطفان - منهم‏:‏ فَزَارة بن ذُبْيان بن بغيض وفيهم الشرف ومنهم حُذَيفة بن بَدْر ومنهم‏:‏ مَنْظور بن زبّان ابن سَيَّار وعُمر بن هُبَيرة وعَدِيّ بن أرْطأة‏.‏
مُرَّة بن عَوْف بن سَعْد بن ذُبيان - منهم‏:‏ هَرِم بن سِنَان المُرِّي الجَوَاد الذي كان يَمْدَحه زُهَير ومنهم‏:‏ زِياد النَّابغة الشاعر ومنهم الحارث بن ظالم الذي يُقال فيه‏:‏ أمنع من الحارث ومنهم‏:‏ شَبِيب بن البرْصاء وأرْطَأة بن سُهَيَّة وعَقيل بن عُلَّفة المرِّيّ وابن مَيّادة الشاعر ومُسلم بن عُقْبة صاحب الحَرَّة وعثمان بن حَيَّان وهاشم بن حَرْملة الذي يقول فيه الشاعر‏:‏ أحيَا أباه هاشمُ بنُ حَرْملة يَقْتُل ذا الذَّنْبِ ومَن لا ذَنْبَ لَهُ والشمَّاخ الشاعر وأخوِه مُزَرِّد ابنا ضِرَار‏.‏
ومن بطون أعصر‏:‏ غنِي بنِ أعصُر بن سعد بن قيس بن النَّاسِ بن مُضر منهم‏:‏ طُفَيل الخَيْل وقد رَبَع غَنِياً ومنهم‏:‏ مَرْثد بن أبي مَرْثد وقد شهِدَ بَدْراً‏.‏
باهلة - هم بنو مَعْن بن أَعْصر نُسِبوا إلى أمهم باهلة وهم قُتَيْبة ووائل وأوْد وجِأَوَة أمهم باهلة وبها يُعْرَفون‏.‏
منهم‏:‏ حاتم بن النُّعمان وقُتيبة بن مُسْلم وأبو أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَلْمان بن رَبيعة وَلاّه أبو بكر الصِّدِّيق وزَيْد ابن الحُباب‏.‏
بنو الطفاوَة بنِ أَعْصُر - وهم ثَعْلَبة وعامر ومُعاوية أمهم الطُّفاوة إليها يُنْسَبون وهم إخوة غنِيّ بنو خصَفة بن قَيس بن عيْلان - مُحارب بن زِياد بن خصَفة بن قيس بن عيْلان منهم‏:‏ الحَكَم بن مَنِيعِ الشاعر وبَقِيع بن صَفّار الشاعر الذي كان يُهاجي الأخْطل‏.‏
ووَلدَ مُحارب‏:‏ ذهل وغنْم وهم الأبناء والخُضْر وهم بنو مالك بن مُحارب‏.‏
سُليمٍ بن مَنْصور بن عِكْرمة بن خَصَفة - منهم‏:‏ العبّاس بن مِرْداس كان فارساً شاعراً وهو من المُؤَلِّفة قلوبهم والفُجَاءة الذي أحْرقه أبو بكر في الرِّدّة‏.‏
ومنهم صَخْر ومُعاوية ابنا عَمْرو بن الحارث بن الشَّريد وهما أخوَا الخَنْساء وخُفَاف بن عُمير الشاعر ونُبَيْشة بن حَبيب قاتل ربيعة بن مُكَدِّم ومُجَاشع بن مَسْعود من أهل البَصرة وعبد الله بن خازم صاحب خُرَسان‏.‏
ذَكْوان وبهز وبُهْثة بنو سُليم - منهم‏:‏ أبو الأعْوَر السُّلَمي صاحب مُعاوية وعُمير بن الحُباب قائد قيس والجَحَّاف بن حُكَيمْ‏.‏
فهذه بطون سُليم ومُحَارِب‏.‏
قبائل هوازن هو هَوازن بن مَنْصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قيس بن عيْلان‏:‏ سَعد بن بكر بن هَوازن - فيهم استرْضع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
جُشم بن معاوية بن بكر - منهم دُرَيد بن الصِّمّة فارس العَرَب‏.‏
ثَقيف - وهو قَسيّ بن مُنَبِّه بن بكر بن هَوازن‏.‏
منهم‏:‏ مَسْعود بن معتِّب والمُخْتار بن أبي عُبَيد‏.‏
ومنهم‏:‏ عُرْوَة بن مَسْعود عظيم القَرْيتين والمُغيرة ابن شُعْبة وعبدُ الرحمن بن أمّ الحَكَم‏.‏
عامر بن صَعْصعة بن مُعاوية بن بَكْر بن هَوَازن - فمن بطون عامر‏:‏ بنو هِلال بن عامر بن صَعْصعة منهم‏:‏ مَيْمونة زوجِ النبي عليه الصلاة والسلام ومنهم‏:‏ عاصمُ بن عبد الله صاحبُ خراسان وحُميد بن ثَوْر الشاعر وعَمْرو ابن عامر بن ‏"‏ ربيعة بن عامر ‏"‏ فارس الضَّحْياء ومن وَلده‏:‏ خالدٌ وحَرْملة ابنا هَوْذة صَحِبَا النبي صلى الله عليه وسلم وخِدَاش بن زُهير‏.‏
نميرَ بن عامر بن صَعصعة - منهم‏:‏ الرَّاعي الشاعر وهو عُبيد بن حُصَين وهَمَّام بن قَبِيصة وشرَيك بن خُبَاشة الذي دَخل الجنَّة في الدُّنيا في أيام عُمَر ابن الخطّاب‏.‏
بنو كَعْب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - وهم ستة بُطون منهم‏:‏ عَقيل بن كعب - رَهْط تَوْبة بن الحُمَيّر صاحب لَيْلَى الأخْيَلية ومنهم‏:‏ بنو المنْتَفق‏.‏
بنو الحَريش بن كَعْب - رَهْط سَعِيد بن عُمر وَلِيَ خراسان وهو صاحبُ رأس خاقان‏.‏
بنو العَجْلان بن كَعْب - رهط تميم بن مُقْبِل الشاعر‏.‏
ومنهم‏:‏ بنو قُشَير بن كعب - رهط مالك بن سَلَمة الذي أسر حاجبَ ابن زُرارة‏.‏
ومنهم‏:‏ بنو جَعَدة‏.‏
بن كعب - رهطُ النابغة الجَعْدي وهو أبو لَيْلَى‏.‏
فهذه بطون كعب بن رَبيعة بن عامر بن صَعصعة‏.‏
ومن أفْخَاذ ربيعة بن عامر بن صَعصعة‏:‏ كِلاَب بن رَبيعة بن عامر بن صَعصعة منهم‏:‏ المُحلِّق بن حَنْتَم بن شَدَّاد ومنهم‏:‏ زُفَر بن الحارث الكِلاَبي ويزيد بن الصَّعِق ووَكيع بن الجَرّاح الفقيه‏.‏
جَعْفر بن كِلاَب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - منهم‏:‏ الطُّفيل فارس قَرْزَل وعامر بن الطُّفَيل وعَلْقمة بن عُلاثة وأبو بَرَاء عامرُ بن مالك ومُلاعب الأسنّة‏.‏
الضِّبَاب بن كِلاَب - منهم‏:‏ شَمِر بن ذي الجَوْشن‏.‏
هؤلاء بنو عامر بن صعصعة‏.‏
بنو سَلول - وهم‏:‏ بنو مُرَّة بن صعصعة نُسِبوا إلى أمهم سَلُول‏.‏
غاضرة - وهم‏:‏ بنو مُرَّة بن صعصعة نُسِبوا إلى أُمهم سَلُول‏.‏
غاضرة - وهم‏:‏ غالب بن صعصعة ومالك ورَبيعة وغوَيضرة وحارث وعبد الله وهما عادية وعَوْف وقَيْس ومُساود وسيَّار وهو غَزِيّة‏.‏
لَوْذان وجَحْوش وجَحَّاش وعَوْف وهم الوَقَعة بنو مُعاوية بن بكر بن هَوازن‏.‏
وبنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال لهم الأبناء‏.‏
هذا آخر نسب مُضر بن نِزار‏.‏
نسب ربيعة بن نزار وَلَدُ رَبِيعة بن نِزَار‏:‏ أسَد وضُبَيعة وعائشة وهم ‏"‏ باليمن ‏"‏ في مُرَاد وعَمْرو وعامر وأَكْلُب وهم رَهْط أنس بن مُدْرِك‏.‏
فمن قبائل ربيعة بن نزار‏:‏ ضبَيْعة بن رَبيعة بن نزار - وفيهم كان بيت ربيعة وشَرفها ومنهم‏:‏ الحارث الأضجم حَكَم ربيعة في زُهْرة وفيه يقول الشاعر‏:‏ قَلوص الظلامةِ مِن وَائلٍ تُرَدُّ إلى الحارثِ الأَضجَم فَمَهْمَا يَشَأْ يأتِ منه السدَادُ ومَهما يَشَأ مِنْهُم يَهْضِم ومنهم المُتلمّس وهو جَرِير بنُ عبد المَسِيح الشاعر صاحب طَرَفة بن العَبْد الذي يقول فيه‏:‏ أودىَ الذي عَلِقَ الصَّحيفةَ منهما ونَجَاحِذَارَ حَمَامه المُتلمِّسُ ومنهم‏:‏ المُسيِّب بن عَلَس الشاعر ومنهم‏:‏ المُرَقِّش الأكبر والمُرَقِّش الأصغر وكان المُرَقِّش الأكبر عَمَّ المَرَقِّش الأصغر والمرَقِّش الأصغر عمّ طَرَفة ابن العَبد بن سُفيان بنِ سَعد بن مالك بن ضُبَيعة‏.‏
عَنزة بن أسد بن رَبيعة بن نِزَار - له وَلَدان‏:‏ يَقْدُم ويَذْكُر فمنهما تَفَرَّقت عنَزَة‏.‏
فمِن يَذْكُر‏:‏ بنو جِلّان بن عَتِيك بن أَسْلم بن يَذْكر وبنو هِزّان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يَذْكر وبنو الدُّول بن صُبَاح بن عتيك ابن أسلم بن يَذْكر وهم الذين أسرُوا حاتم طَيِّء وكَعب بن مامة والحارث ابن ظالم وفي ذلك يقول الحارثُ بن ظالم‏:‏ أبْلِغ سَراة بني غَيْظٍ مُغَلْغَلَةً أنيِّ أُقَسِّم في هِزَّان أَرْباعاَ ومنهم‏:‏ كِدَام بن حَيّان ومن بني هُمَيم كان من خِيَار التابعين وكان من خِيار أصحاب عليّ عبد الرحمن بن حسان من بني هميم وكان من أصحاب عليّ عليه السلام‏:‏ ولهما يقول عبد اللهّ بن خَليفة‏:‏ فيا أخَوَيَّ مِن هُمَيمِ هُدِيتُما ويسِّرْتُما للصالحات فأبِشرَا ومن بني يَقْدُم بن عَنزَة‏:‏ رشيد بن رميض الشاعر وعِمْران بن عِصام الذي قَتله الحجّاج ‏"‏ بدَيْر الجمَاجم ‏"‏‏.‏
عَبْد القَيْس بن دُعمِيّ بن جَدِيلة بن أسد بن رَبيعة - وُلد لعبد القيس أفْصى والّلبُؤ‏.‏
ووُلد لأفْصيى عبدُ القَيْس وشَنّ ولُكَيْز‏.‏
الّلبُوء بن عبد القَيْس‏:‏ منهم رِئَاب بن زَيد بن عَمرو بن جابر بن ضُبَيْب كان ممن وَحّد الله في الجاهليّة وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْد القَيس وكان يسْقى قَبْر كلّ مَن مات ومنَّا الذي المَبْعوث يَعْرف نَسْلَه إذا ماتَ منهم مَيّتٌ جيد بالقَطْرِ رِئاب وأنّي للبرّية كلّها بمثل رئاب حين يُخْطَر بالسُّمْر لُكيْز بن عَبد القَيس - منهم‏:‏ بنو نُكْرة بن لُكيز بن عَبْد القَيس ومنهم‏:‏ الممزّق الشاعر‏.‏
وهو شَأس بن نَهار بن أسْرج الذي يقول‏:‏ فإنْ كنْتُ مَأكولاً فكُن خَيْرَ آكلٍ وإلا فأدْرِكْني ولمّا أُمَزِّقِ وصُبَاح بن لُكَيز - منهم‏:‏ كَعْب بن عامر بن مالك كان ممن وَفَد على النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
وبنو غَنْم بن وَدِيعة بن لُكيز - منهم‏:‏ حَكِيم بن جَبَلة صاحب علي بن أبي طالب كَرّم اللهّ وَجْهَه‏.‏
وفيه يقول‏:‏ دَعا حَكِيمٌ دَعْوَةً سَمِيعَه نالَ بها المَنْزِلة الرفيعَه وبنو جَذِيمة بن عَوْف بن بكر بن أنمار بن وَدِيعة بن لُكيز - منهم‏:‏ الجارود العَبْدِيّ وهو بِشر بن عَمْرو‏.‏
وعَصَر بن عَوْف بن بَكْر بن عَوْف بن أنْمار بن وَدِيعة بن لُكيز‏.‏
منهم‏:‏ عمرو بن مَرْجُوم الذي يمدحه المُتلمِّس‏.‏
وعامر بن الحارث بن عمرو بن أنمار بن وديعة بن لُكيز‏:‏ منهم مِهْزم بن الفِزْر الذي يقول فيه الحِرْ مازِيّ‏:‏ يَحْمِلن بالمَوْماة بَحراً يَجْري العامرَ بن المِهْزم بن الفِزْر العُمُور من عَبْد قيس‏:‏ الدِّيل وعِجْل ومُحارب بنو عمرو بن وَديعة بن لُكيز‏.‏
فمن بني الدِّيل‏:‏ سُحْيم بن عبد الله بن الحارث كان أحدَ السبعة الذين عَبروا الدّجلة مع سَعْد بن أبي وقاص‏.‏
ومن بني مُحارب‏:‏ عبد الله بن هَمام بن امرىء القيس بن رَبيعة وَفد على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن بني عِجْل‏:‏ صَعْصَعة ابن صُوحان وزَيد بن صُوحان من أصحاب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏
فهذه عبدُ القَيس وبطونها وجماهيرها‏.‏
النمر بن قاسط النَّمر بن قاسط بن هِنْب بن أَفْصى بن دعْميّ بن جَدِيلة بن أَسد بن رَبيعة ابن نِزَار‏:‏ فمن ولد النَّمر بن قاسط‏:‏ تَيْم الله وأوْس مَناة وعبدُ مَناة وقاسِط وَمنبِّه بنو النَّمر بن قاسط‏.‏
أوس مَناة بن النمر - منهم‏:‏ صهيَب بن سِنَان بن مالك صاحب النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ كان أصابه سِباء في الرُّوم ثم وافَوا به المَوْسم فاشتراه عبدُ اللهّ بن جُدْعان فأعْتقه وقد كان النًّعمان بن المنذر استعمل أباه سِنانا على الأبلّة‏.‏
ومنهم‏:‏ حُمْران بن أَبان الذي يقال له مَوْلى عثمان بن عَفْان‏.‏
ومن تَيم الله بن النمر‏:‏ الضِّحْيان واسمه عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم اللّه بن النمر‏.‏
فتى بني شَيْبان‏.‏
وإنما سُمى الضحْيان لأنه كان يَجْلس لهم وقت الضُّحى فَيَقْضي بينهم وقد رَبع رَبيعة أربعين سنة وأخوه عَوْف بن سَعْد ومن ولده ابن القِرِّيةَ البَلِيغ واسمه أيِّوب بن زيد وكان خَرج مع ابن الأشْعث فقتله الحجّاج ومنهم‏:‏ ابن الكَيِّس النَّسابة وهو عُبيد بن مالك بن شراحيل بن الكَيِّس‏.‏
فهذا النّمر بن القَاسِط‏.‏
تغلب بن وائل تغلب بن وائل بن قاسط بن هِنْب بن أَفصى بن دُعْمِيّ بن جديلة بن أَسَد بن رَبيعة بن نِزَار - فمن بطونِ تَغلب‏:‏ الأراقم وهم جُشَم وعَمْرو وثَعْلبة ومُعاوية والحارث بنو بَكْر بن حَبِيب بن غَنْم بن تَغْلب وإنما سُمُّوا الأراقم لأنّ عُيونهم كَعُيون الأراقم‏.‏
ومن بطون تَغْلب‏:‏ كلَيب وائل الذي يقال فيه أعزُّ من كُلَيب وائل وهو كلَيب بن رَبيعة بن الحارث بن زُهَير بن جُشم وأخوه مُهَلْهِل بن رَبيعة‏.‏
ومن بني كنانة بن تيم بن أُسامة‏:‏ إياس بن عَيْنان بن عَمْرو بن مُعاوية قاتل عُمَير بن الحُباب وله يقول زُفر بن الحارث‏:‏ ألا ياكَلْب غيرُكِ أَرْجَفُوني وقد أَلصقتُ خَدَّك بالتَّرابِ ألا يا كَلْب فانتِشري وسُحِّي فقد أودَي عُمير بن الحُبَاب رِمَاح بني كِنَانة أَقْصَدَتْني رماحٌ في أعاليها اضطرابُ ومن بني حارثة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب‏:‏ الهُذَيل بن هُبَيرة وهو الذي تقول فيه نَهِيشة بنت الجَرّاحِ البَهْراني تُعيِّر قُضاعة‏:‏ إذا ما مَعْشرٌ شرِبُوا مُدَاماً فلا شَربتْ قضاعةُ غَيْرَ بَوْل فإمّا أن تَقُودوا الخيلَ شُعْثاً وإمّا أن تَدِينُوا للهُذَيْل وتَتَّخِذوه كالنُّعمان رَبّاً وتُعْطُوه خُرَاج بني الدُّمَيْل الدُّميلُ ابن لَخْم‏.‏
ومن عَدِيّ بن معاوية بن غنم بن تَغْلب‏:‏ فارس العَصَا وهو الأخْنَس ابن شهاب‏.‏
ومن بني الفَدَوْكس بن عمرو بن الحارث بن جُشَم‏:‏ الأخْطل الشاعر النَّصراني‏.‏
ومنهم‏:‏ قَبيصة بن والق له هجْرة قَتله شَبيب الحَرُوريّ وكان جواداً كريماً فقال شبيب حين قتله هذا أعظمُ أهل الكُوفة جَفْنة فقال له أصحابُه‏:‏ أَتُطْرِِى المُنافقين فقال‏:‏ إن كان مُنافقاً في دِينه فقد كان شريفاً في دنياه‏.‏
ومن الأوس بن تغلب‏:‏ كعب بن جُعَيل الذي يقول فيه جَرير‏:‏ وسُمِّيت كَعْباً بسَتْر الطَّعام وكان أبوك يُسمَّى الجُعَل وكان مَحلُّك من وائل محلَّ القراد من اسْت الجمَل فهذه تَغْلب ليس لها بطون تُنْسَبَ إليها كما تُنْسب إلى بطون بكْر بن وائل لأن بكراً جُمْجمة وَتَغْلب غير جُمْجمة‏.‏
بكر بن وائل القبائل من بكْر بن وائل‏:‏ يَشْكر بن بكر بن وائل وعِجْل وحَنيفة ابنا لُجيْم بن صَعْب بن عَليّ بن بَكر بن وائل وشَيْبان وذُهَل وقَيس بنو ثَعْلبة بن عُكَابة بن صَعْب بن عليّ بن بَكْر بن وائل وأُمهم البَرْشاء من تَغْلب‏.‏
يَشْكُر بن بكر - منهم‏:‏ الحارث بن حِلّزة الشّاعر ومنهم‏:‏ شِهَاب بن مَذْعور بن حِلّزة وكان من عُلماء الأنْساب ومنهم‏:‏ سُوَيد بن أبي كاهل الشاعر‏.‏
عِجْل بن لُجيم - منهم‏:‏ حَنظلة بن ثَعْلبة بن سَيّار كان سيّد بني عِجْل يوم ذي قار ومنهم‏:‏ الفُرات بن حَيّان‏.‏
له صُحْبة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم‏:‏ إدريس بن مَعْقِل جَدّ أبي دُلف ومنهم شَبَابة بن المُعْتمر بن لَقِيط صاحب الدِّيوان ومنهم‏:‏ الأغلب الرَّاجز ومنهم‏:‏ أبْجر بن جابر بن شريك وَفَد على عُمَر بن الخطّاب رضي الله عنه‏.‏
حَنِيفة بن لُجيم - وُلد له الدِّيل وعَدِيّ وعامر‏.‏
فمن بني الدِّيل بن حَنِيفة‏:‏ قَتَادةُ بن مَسْلمة كان سيّداً شريفاً ومنهم‏:‏ ثُمامة بن أثال بن النُّعمان بن مَسْلمة ومنهم‏:‏ هَوْذة بن عليّ بن ثمامة الذي يقول فيه أعْشى بَكْر‏:‏ مَن يَلْق هَوْذة يَسْجُد غيرَ مَتَّئبٍ إذا تَعَصَّب فَوقَ التاج أو وَضَعَا ومن بني الدِّيل بن حنيفة‏:‏ شَمِر بن عَمْرو الذي قَتل المُنذرَ بن ماء السماء يومَ عَينْ أُبَاغ ومنهم‏:‏ بنو هِفّان بن الحارث بن ذُهْل بن الدِّيل وبنو عُبَيد بن ثَعْلبة ويَرْبوع بن ثَعْلبة بن الدِّيل‏.‏
وبنو أبي ربيعة في شَيْبان سيّدهم هانئ بن قَبِيصة‏.‏
شَيْبان بن ثَعْلبة بن عُكابة - منهم‏:‏ جَسّاس بن مُرّة بن دهل بن شَيْبان قاتل كُلَيب بن وائل وهَمّام بن مُرّة بن ذهْل بن شَيْبان وقَيس بن مسعود بن قَيْس بن خالد وهو ذو الجَدّين وابنه بِسْطام بن قَيْس فارس بني شَيبان في الجاهليّة وقد رَبَع الذُّهْلَين والِّلهازم اثنى عشر مِرْباعا ومنهم‏:‏ هانِيء بن قَبِيصة بن هانئ بن مَسْعود بن المُزْدلف عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شَيبان الذي أجار عِيَال النُعمان بن المُندر ومالَه عن كِسْرى وبِسَببه كانت وَقْعة ذِي قَار ومنهم‏:‏ مَصْقلة بن هُبَيرة كان سيّداً شريفاً وفيه يقول الفَرزدق‏:‏ وبَيْت أبي قابُوس مَصْقَلَة الذي بَنى بيت مَجْدٍ إسمه غير زائل وفيه يقول الأخْطل‏:‏ دع المُغمَّر لا تقْتل بمَصرْعه وسَلْ بمَصْقلة البَكْرِيّ ما فَعَلاَ بمتلفٍ ومُفيدٍ لا يَمنَّ ولا يُعنِّف الَنفسُ فيما فاتَه عَذَلا إنّ ربيعة لا تَنْفك صالحةً مادَافع الله عن حَوَبائك الأجلا ومن ذهل بن شَيبان‏:‏ عَوْف بن مُحلَم الذي يُقال فيه‏:‏ لاحرّ بوادي عَوْف والضّحّاك بن قَيس الخارجيّ والمُثَنَى بنُ حارثة ويَزيد بن رُزَيم ومنهم‏:‏ الغَضْبان بن القَبَعْثَري ويَزيد بن مِسْهَر أبو ثابت الذي ذكره الأعْشى والحَوْفَزَان وهو حارثهُ بن شريك ومَطَر بن شريك ومن وَلده‏:‏ مَعن بن زائدة وشَبِيب الحَروري‏.‏
ذُهل بن ثَعلبة بن عُكَابة - منهم الحارثُ بن وَعْلة وكان سيِّداً شَريفاً ومن وَلده‏:‏ الحُضَيْن بن المنْذر بن الحارث بن وَعْلة صاحب راية رَبِيعة بِصفّين مع عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى لمِن رايةٌ سَوْدَاءُ يَخْفِق ظِلُّها إذا قِيلِ قَدِّمها حُضَيْنٌ تَقَدَمَا ومنهم‏:‏ القَعْقَاع بن شَوْر بن النُّعمان كان شر يفاً ومنهم‏:‏ دَغْفَل بن حَنْظلة العَلاّمة كان أعلمَ أهل زَمانه وهؤلاء من بني ذهل بن ثَعْلبة بن عُكابة أمهم رَقَاشٍ وإليها يُنسبون ومنها - يقال - الحضَيْن بن المنذِر بن الحارث بن وَعْلة الرقاشي‏.‏
قيس بن ثَعلبة بن عُكابة - منهم‏:‏ الحارث بن عَبّاد بن ضُبَيعة بن ثَعْلبة ابن حارثة كان على جَماعة بَكْر بن وائل يوم قِضَة فأسر مُهلهل بن رَبيعة وهو لا يَعْرفه فَخَلّى سبيلَه ومنهم‏:‏ مالك بن مِسْمَع بن شَيبان بن شهاب يُكْنَى أبا غَسّان ومنهم‏:‏ الأعشى أعشى بكر وهو من بني تَيْم اللات من قَيس بن ثعلبة بن عُكابة ومن بني تيم اللات أيضاً‏:‏ مَطر بن فِضة وهو الجَعْد بن قَيس كان شريفاً سيداً وهو الذي أسر خاقان الفارسيّ بالقادسيَّة ومن ولده‏:‏ عُبيد الله زياد بن ظَبْيَان‏.‏
سَدُوس - منْ شَيبان بن ذُهْل بن ثَعْلبة بن عُكابة‏.‏
منهم‏:‏ خالد بن المعمَر ومَجْزأَة بن ثَوْر وأخوه شَقِيق بن ثَوْر وابن أخيه سُوَيد بن مَنْجُوف ابن ثَوْر وعِمْران بن حِطَّان‏.‏
اللهازم‏:‏ وهم عَنَزَة بن أسد بن ربيعة‏.‏
وعِجْل بن لُجَيم وتَيْم الله وقيس ابنا ثَعْلَبة بن عُكابة بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل وهم حُلفاء‏.‏
والذَّهلان‏:‏ شَيبان وذهل ابنا ثَعْلبة بن عُكابة‏.‏
إذا قالتْ حَذَام فَصَدِّقوها فإنّ القَوْل ما قالت حَذام انقضى نسب رَبيعة بن نِزَار‏.‏
إياد بن نزار وَلَد إيادُ بن نزار زهْراً ودُعْمِياً ونمَارة وثَعْلبة‏.‏
فولد نِمَارةُ الطمَاحَ ولهم يقول عَمْرو بن كُلْثوم‏:‏ أَلا أَبْلِغ الطَّمِّاح عَنَّا ودُعْمِيَّاً فكيف وَجَدْتُمُونا ووَلدَ زُهر بن إياد خذافةَ رَهْط أبي دُوَاد الشاعر‏.‏
وأمَّا أنْمَار بن نزار بن مَعَدّ فلا عِقب له إلا ما يقال في بَجيلة وخَثْعم فإنه يقال‏:‏ إنهما ابنا أنمار بن نِزَار وتَأْبىَ ذلك بَجِيلة وخثْعم ويقولون‏:‏ إنّما تَزوَج إراش بنُ عَمْرو بن الغَوْث ابن أخِي الأزْد بن الغَوْث سَلامَة بنت أنمار فوَلدت له أنمار بن إراش فَنَحن وَلده وقال حَسّان بن ثابت‏:‏ وَلَدنا بَني العَنْقاء وَابن مُحَرِّق أراد بالعَنْقاء ثَعلبة بن عمرو مُزيْقِيَاء سُمِّى العنقاء لطُول عنقه ومُحَرِّق هو الحارث بن عمرو مُزِيقياء وكان أول الملوك أَحْرق الناس بالنَار والوِلادة التي ذَكرَها حَسّان أنّ هِنْداً بنت الخَزرج بن حارثة كانت عند العَنْقاء فَوَلدت له وَلَدَه كلَهم وكانت أختُها عند الحارث بن عَمْرو فَوَلدتْ له أيضاً‏.‏
انقضى نَسب بني نِزَار بن مَعدّ‏.‏
القبائل المشتبهة الدُّئِل في كِنانة والدُّئل بن حَنِيفة في بكر بن وائل منهم‏:‏ قتادة ابن مَسْلمة وهَوْذة بن عليّ صاحب التاج الذي يَمدحه أَعشى بَكْر بن وائل‏.‏
سَدُوس في ربيعة وهو سَدُوس بن شَيْبان بن بَكْر بن وائل منهم‏:‏ سُويد ابن مَنْجُوف وسُدُوس مرفوعة السين في تميم وهو سُدُوس بن دارم‏.‏
مُحارب بن فِهْر بن مالك في قريش ومُحَارب بن حَصَفَة في قَيس ومُحارب ابن عَمْرو بن وَدِيعة في عبد القَيس غاضِرَة في بني صَعصعة بن مُعاوية وغاضرة في ثَقِيف‏.‏
تَيم بن مُرَّة في قريش رَهْط أبي بكر وتيم بن غالب بن فِهْر في قريش أيضاً وهم بنو الأدرَم وتَيم بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة في مُضر وتيم بن ذهل في ضَبَّة وتيم في قيس بن ثَعْلبة وتيم في شَيبان‏.‏
وتيم الله بن ثعلبة ابن عُكابة في النمِر بن قاسط‏.‏
كِلاب بن مُرّة في قُرَيش وكِلاَب بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَة في قَيس‏.‏
عَدِيّ بن كَعْب في قُرَيش رَهْطُ عُمر ابن الخَطّاب وعَدِيّ بن عَبْد مَناة من الرباب رَهْط ذي الرمة وعَدِيّ في فَزَارة وعَدِيّ في بني حَنِيفة‏.‏
ذهْلِ بن ثَعْلبة بن عُكابَة وذُهْل بن شيْبان وذهل بن مالك في ضبَّة‏.‏
ضُبَيْعة في ضبّة وضُبَيعة في عِجْل وضبَيعة في قَيس بن ثَعْلبة وهم رَهْط الأعشى‏.‏
مازِن في تَميم ومَازِن في قيس عَيْلان وهم رَهْط عُتْبة بن غَزْوان ومازن في بني صَعْصعة بن مُعاوية ومازن في شَيْبان‏.‏
سَهْم في قُرَيش وسَهْم في باهلة‏.‏
سَعْدُ بن ذبْيان وسَعْد بن بَكر في هَوَازن أظْآر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَعْد في عِجْل وسَعْد بن زَيْد مناة في تميم‏.‏
جُشم في مُعاوية بن بَكْرِ وجُشْم في ثَقِيف وجُشم في الأراقم‏.‏
بنو ضَمْرة في كِنانة وبنو ضَمْرة في قُشيْر‏.‏
دُودَان في بني أَسد ودُودان في بني كِلاب‏.‏
سُلَيم في قَيْس عَيْلان وسُليم في جُذام من اليمن‏.‏
جَدِيلة في رَبيعة وجَدِيلة في طيّئ وجَدِيلة في قَيس عَيْلان‏.‏
الخَزْرج في الانْصار والخَزْرجِ في النَمر بن قاسط‏.‏
أسَد‏:‏ ابن خُزَيمة بن مُدْركة وأَسَد‏:‏ ابن رَبيعة بن نِزَار‏.‏
شقْرة بن ربيعة في ضَبة وشَقِرة في تَميم ربيعة‏:‏ رَبيعة الكُبرى وهو رَبيعة بن مالك بن زَيْد مَناة ويُلَقب رَبيعة الجُوع وربيعة الوُسْطى وهو رَبيعة بن حَنْظلة بن مالك بن زَيد مَناة ورَبيعة الصُّغْرى وهو رَبيعة بن مالك بن حَنْظلة وكل واحد منهم عَمُّ الآخر‏.‏
مفاخرة ربيعة قال عبدُ الملك بن مَرْوان يوماً لجُلسائه‏:‏ خَبَروني عن حَيّ من أحياء العَرب فيهم أشدُّ الناس وأَسْخَى الناس وأَخْطب الناس وأَطْوع الناس في قومه وأَحْلم الناس وأَحْضَرهم جواباً قالوا‏:‏ يا أميرَ المؤمنين ما نَعْرف هذه القبيلَة ولكنْ يَنْبَغي لها أن تكون في قريش قال‏:‏ لا قالوا‏:‏ ففي حِمْير ومُلوكها قال‏:‏ لا قالوا‏:‏ ففي مُضر قال‏:‏ لا قال‏:‏ مَصْقلة بن رُقَيّة العَبْدي‏:‏ فهي إذا في رَبيعة ونحن هم قال‏:‏ نعم‏.‏
قال جلساؤه‏:‏ ما نَعْرِف هذا في عَبْد القَيس إلا أن تُخْبرنا به يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ نعم أمّا أشدُّ الناس فَحَكِيم بن جَبَل كان مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقُطعت ساقُه فضمَّها إليه حتى مَر به الذي قَطعها فرماه بها فجدَّله عن دابته ثم جَثا عليه فقتله واتّكأ عليه فمرّ به الناسُ فقالوا له‏:‏ يا حَكِيم مَن قطع ساقك قال‏:‏ وِسَادي هذا وأَنشأ يقول‏:‏ يا ساقُ لا تُرَاعِي إنّ معي ذِرَاعِي أَحْمِي بها كُرَاعِي وأمّا أَسْخَى الناس‏:‏ فعبدُ الله بن سَوّار استعمله مُعاوية على السِّنْد فسار إليها في أَرْبعة آلافٍ من الجُند وكانت تُوقد معه نارٌ حيثُما سار فَيُطْعم الناس فبينما هو ذاتَ يوم إذ أَبْصر ناراً فقال‏:‏ ما هذه قالوا‏:‏ أَصْلح الله الأمير اعتلّ بعضُ أصحابنا فاشتهى خَبِيصاً فَعَمِلْنا له فأمر خَبّازه أن لا يُطْعِم الناس إلا الخبيصَ حتى صاحُوا وقالوا‏:‏ أَصْلح الله الأميرَ رُدَّنا إلى الخُبْز واللَحم فسُمَّى‏:‏ مُطْعِم الخَبِيص‏.‏
وأما أطوع الناسُ في قَوْمه‏:‏ فالجارُود بِشْر بنُ العَلاء إنّه لما قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وارتدّت العربُ خَطب قومَه فقال‏:‏ أيها الناس إنّ كان محمد قد مات فإن الله حَيٌّ لا يموت فاسْتَمْسِكوا بدِينكم فمَن ذَهب له في هذه الردة دِينار أودرهم أو بَعير أو شاة فله عليّ مِثْلاه فما خالفَه منهم رجل‏.‏
وأمّا أحْضر الناس جواباً فَصَعْصعة بن صُوحان دَخل على مُعاوية في وَفْد أهل العِرَاق فقال مُعاوية‏:‏ مَرحبا بكم يا أهلَ العراق قدِمْتم أرض الله المُقدَّسة منها المنشر وإليها المَحْشر قَدِمْتم على خير أمير يَبر كَبيركم ويَرحم صَغِيركم ولو أنّ الناسَ كلَهم ولدُ أبي سُفيان لكانوا حُلَماء عُقَلاَء‏.‏
فأشار الناسُ إلى صَعْصعة فقام فَحِمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ أما قولُك يا مُعاوية إنّا قَدِمنا الأرضَ المُقَدسة فَلَعَمْري ما الأرضُ تقدَّس الناسَ ولا يُقَدِّس الناسَ إلاّ أعمالُهم وأمّا قولُك المَنَشر وإليها المَحْشر فَلَعمري ما يَنْفَع قُرْبُها ولا يَضُرّ بُعْدها مُؤِمِناً وأمَّا قولك لو أنّ الناس كلَهم وَلد أبي سفيان لكانوا حُلماء عقلاء فقد وَلَدهم خيْرٌ من أبي سُفْيان آدمُ صَلَواتُ الله عليه فمنهم الحليم والسَّفيه والجاهلُ والعالم‏.‏
وأمَّا أحلم النَّاس فإنّ وَفْدَ عبد القَيْس قَدِموا على النبىِّ صلى الله عليهم وسلم بصَدَقاتهم وفيهم الأشجّ ففرّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو أول عَطاء فرّقه في أصحابه ثم قال‏:‏ يا أشج ادنُ منِّي فَدَنا منه فقال‏:‏ إنَّ فيك خَلِّتين يُحبهما الله الأناة والحِلْم وكَفي برسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً‏.‏
ويُقال إنّ الأشج لم يَغْضَبْ قَطّ‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif جمرات العرب
وهم بنو نُمَير بن عامر بن صعصعة وبنو الحارث بن كَعْب بن عُلة بن جَلْد وبنو ضَبّة بن أُدّ بن طابخة وبنو عَبْس بن بَغِيض وإنما قيل لهذه القبائل جَمَرات لأنها تجمّعت في أَنْفُسها ولم يُدْخِلوا معهم غيرَهم‏.‏
والتَّجْمير‏:‏ التَجْمِيِعِ ومنه قيل‏:‏ جَمْرة العَقبة لاجتماع الحَصىَ فيها ومنه قيل‏:‏ لا تُجمّروا المُسلمين فتفتِنوهم وتَفْتِنوا نساءهم يعني لا تَجْمعوهم في المَغازي‏.‏
وأبو عُبيدة قال في كِتاب التاج‏:‏ أُطْفِئت جَمْرتان من جَمَرات العرب‏:‏ بنو ضَبَّة لأنها صارت إلى الرِّباب فخالَفتها وبنو الحارث لأنها صارت إلى مَذْحج فحالَفتها وبَقيت بنو نُمير إلى الساعة لم تُحالف ولم يَدْخلِ بينها أحد‏.‏
وقال شاعرُهم يَردّ على جَرِير‏:‏ نُميرٌ جَمرَةُ العرب التي لمٍ تَزَلْ في الْحَرب تَلْتَهِبُ آلْتِهابَا وإنّي إذْ أَسُبّ بها كليباً فتحتُ عليهمُ للخَسْفِ بابا رَغِبْنا عن هِجاء بَني كُلَيب وكيف يُشاتم الناسُ الكِلابا أنساب اليمن قَحْطان بن عابَر وعابَر هو هُود النبي صلى الله عليه وسلم ابن شالخ بن أَرْفَخْشَذ بن سام بن نٌوح عليه السلامُ ابن لَمْك بن مَتوشَلَخِ بن أَخْنُوخ وهو إدريس النبي عليه السلامُ ابن يَرْد بن مَهْلاَبيل بن قَيْنان بن أنُوش ابن شِيث وهو هِبَة الله ابن آدم أبي البَشر صلى الله عليه وسلم فولد قَحْطان‏:‏ يَعرُب وهو المُرعف‏.‏
وسَبَأ والمسلف والمِرْداد ودِقْلى وتَكْلا وأبيمال وعُوبال وأُزَال وهَدُورام وهو جُرهم‏.‏
وأُوفير وهُوَيلا ورَوْح وإرَم ونُوبت فهؤلاء ولد قَحْطان فيما ذَكر عبدُ الله بن مَلاذ‏.‏
وقال الكَلْبي محمد بن السَّائب‏:‏ وَلَد قَحْطان المُرعف وهو يَعْرُب ولأي وجابر والمُتَلَمِّس والعاصي والمُتَغَشّم وعاصِب ومُعوِّذ وشِيم والقُطامي وظالم والحارث ونُباته فَهَلك هؤلاء إلا ظالماً فإنه كان يَغزو بالجُيوش‏.‏
وقال الكلبي‏:‏ وَلَد قَحْطان أيضاً جُرْهُماً وحَضرموت فمن أشراف حَضرموت بن قَحْطان‏:‏ الأسود ابن كَبِير وله يقول الأعشى قصيدته التي أولها‏:‏ ما بُكاء الكَبير بالأطْلالَ ومنهم‏:‏ مَسروق بن وائل وفيه يقول الأعشى‏:‏ فولد يَعْرب بن قَحْطان‏:‏ يَشْجُب ووَلَد سَبَأ‏:‏ حِمْيراً وكَهْلان وصَيْفِيا وبِشْراً ونَصْرِاً وأَفْلَح وزَيْدَان والعَوْد ورُهما وعَبد الله ونُعمان ويَشْجُب وشدّاداً ورَبيعة وِمالكاً وزَيْداَ فيُقال لبني سَبَأ كلهم‏:‏ السبِئيّون إلا حِمْيراً وكَهْلان فإنّ القبائل قد تفَرّقت منهما فإذا سألتَ الرجلَ‏:‏ ممن أنت فقال‏:‏ سَبَئيّ فليس بِحِمْيريّ ولا كَهْلانيّ‏.‏
حمير حِمْير بن سَبَأ بنِ يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان‏.‏
فَوْلد حِمْير بن سَبأ مَسرُوحاً ومالكاً والهَمَيْسَع وزَيْداَ وأَوْساً وعَرِيباً ووائلاً ودِرْميّاً وكَهْلان وعَميكرب ومَسْروحاً ومُرة رَهْط مَعْدِيكري بن النُّعمان القَيْل الذي كان بحضَرموت‏.‏
فمن بطون حِمْير‏:‏ مَعْدان بن جُشَم بن عبد شَمْس بنِ وائل بن الغَوْث بن قَطن بن عَرِيب ومِلْحان بن عَمْرو بن قَيْس بن مُعاوية بن جُشم بن عَبد شَمس بن وائل رَهْطُ عامر الشعْبي الفقِيه وعِدَاد بن ملحان وشَيبان في هَمْدان فمَن كان مِنْهم باليَمن فهو حِمْيري ويُقال له شَيْباني‏.‏
ومن بطون حِمْير‏:‏ شَرْعَب بن قَيسْ بن مُعاوية بن جُشَم بن عَبْد شَمْس وإليه تًنْسب الرِّماح الشَرْعَبية‏.‏
ومن بطون حِمْير‏:‏ الدُّرون وقد يُقال لهم الأذواء‏.‏
وأيضاً‏:‏ رَمْدد فمنهم‏:‏ بنو فَهْد وعبدُ كُلال وذو كَلاَع - وهو يَزِيد بن النُّعمان وهو ذو كَلاَع الأكبر‏.‏
يقال‏:‏ تكَلَّع الشيء‏:‏ إذا تَجَمَّع - وذو رُعَين وهو شرَاحيل بن عَمْرو القائل‏:‏ فإن تَكُ حِمْيرغَدَرَت وخانَتْ فمعذرةُ الإله لِذِي رُعَيْنِ ذو أَصبح‏:‏ واسمه الحارث بن مالك بن زَيْد بن الغَوْث وهو أوَّل من عُمَلت له السِّياط الأصبْحَية‏.‏
ومن وَلده‏:‏ أبْرهة بن الصبّاح كان مَلِك تِهامة وأُمه رَيْحانه بنت أَبْرهة الأشرم ملك الحَبْشة وابنه أبو شَمِر قتِل مع عليّ بن أبي طالب يوم صِفِّين وأبو رُشْدين كُرَيب بن أَبْرهة كان سيِّد حِمْير بالشام زَمَن مُعاوية ومنهم‏:‏ يَزِيد بن مُفرِّغ الشاعر‏.‏
ذو يَزَن واسمه عامر بن أَسْلم بن زَيْد بن الغَوْث بن قَطَن بن عَرِيب ومنهم‏:‏ النُعمان بن قَيْس بن سَيْف بن ذِي يَزَن الذي نَفي الحَبشة عن اليَمن وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اشترى حُلّة ببضْع وعشرين قَلُوصاً فأَعطاها إلى ذي يَزَن وإلى ذي يَزَن تنْسب الرِّماح اليَزَنية‏.‏
ذو جَدَن وهو عَلَس بن الحارث بن زَيْد بن الغَوْث‏.‏
ومن وَلده‏:‏ عَلْقمة بن شرَاحِيل ذو قَيْفَان الذي كانت له صَمْصامة عَمْرو بن مَعْدِيكري وقد ذكره عَمْرو في شِعْره حيث يقول‏:‏ حَضُور بن عَدِيٍ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل بن عَمرو بن قَيْس بن معاوية وهم في هَمْدان‏.‏
فمن حَضور‏:‏ شُعَيب بن ذي مِهْذَم النبي الذي قَتله قومُه فسلَّط الله عليهم بُخْتَنصَر فقَتَلَهم فلم يَبْقِ منهم أحد فاصطلمت حَضُور ويقال‏:‏ فيهم نزلت‏:‏ ‏"‏ فَلًمّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ خَامِدِينَ ‏"‏‏.‏
فيقال إن قبر شُعَيب هذا النبي في جَبل باليمن في حَضُور يقال له ضِين ليس باليَمن جَبل فيه مِلْح غيرُه وفيه فاكهة الشام ولا تَمُرّ به هامَة من الهَام‏.‏
الأوزاع - وهو مَرْثد بن زَيْد بن زُرعة بن سبَأ بن كَعْب وهم في هَمْدان إلاّ جُرَش بن أَسْلم بن زَيْد بن الغَوْث الأصغر بن أَسْعد بن عوف‏:‏ شُجَيج بن عَدِيّ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل بن عَمْرو وصَيْفي بن سَبأ الأصغر ابن كَعْب بن زيد بن سَهْل بن تُبَّع وهو أسعد أبو كَرِب‏.‏
التبابعة - تُبَّع الأصغر أسعد أبو كَرِب واسمه تِبان بن مَلْكِيكَرِب وهو تُبَّع الأكبر بن قَيس بن صَيَفي ومَلْكِيكَرِب تُبَّع الأكبر يُكنى أبا مالك وله يقول الأعشى‏:‏ وخان الزمانُ أبا مالكٍ وأيُّ امرءٍ لم يَخُنْهُ الزَّمَنْ ومن بني صَيفي بن سبَأ بِلْقيس وهي بَلْقَمة بنت آل شرخ بن ذي جَدَن ابن الحارث بن قيس بن سَبأ الأصغر ومنهم‏:‏ التَبابعة وهم تسعة منهم‏:‏ تُبَّع الأصغر وتُبَّع الأكبر ومنهم المَثامِنة وهم ثمانية رَهْط وُلاة العهود بعد الملوك ومن المَثامِنة أربعة آلاف قَيل والقَيل الذي يكلِّم الملِك فيَسمع كلامَه ولا يكلَم غيرَه ومنهمِ أبو فُرَيْقِيش بن قيس بن صَيفي الذي آفتتح إفريقية فسُمِّيت به ويَوْمئذ سُميت البرابرة وذلك أنهم قالوا‏:‏ إنه قال لهم‏:‏ ما أكثر بَربَرَتكُم‏.‏
قضاعة - هو قُضاعة بن مالك بن عَمْرو بن مُرٌة بن زَيْد بن مالك ابن حِمْير واسم قُضَاعة عمرو‏.‏
فمن قبائل قضَاعة وبطونها وجماهيرها‏:‏ كلبْ ابن وَبْرة بن ثعلب بن حُلْوان بن عْمِران بِن الحاف بن قُضَاعة وذلك أنّ وبْرَة وُلد له كَلْب وأسد ونَمِر وذِئْب وثَعْلَب وفَهْد وضبُع ودُبّ وسِيد وسِرْحان‏.‏
فمن أشراف كَلْب‏:‏ الفُرافِصة بن الأحْوص بن عَمْرو بن ثَعْلبة وهو الذي تَزَوِّج عثمانُ بن عَفّان ابنته نائلةَ بنت الفُرافصة ومنهم‏:‏ زُهير بن جَناب بن هُبل بن عبد الله بن كِنانة ومن أسلافهم في الإسلام دِحْية بن خَليفة الكَلْبي وهو الذي كان جبريلُ عليه السلام يَنْزِل في صُورته ومنهم‏:‏ حَسان بن مالك بن جَذِيمة‏.‏
ومن قضَاعة‏:‏ القَينْ بنُ جَسْر بن شَيْع اللات بن أسَد بن وَبْرة‏.‏
فمن أشراف القَينْ‏:‏ دَعْج بن كُثَيف وهو الذي أسر سِنَان بن حارثة المُرِّي ومنهم‏:‏ نديما جَذِيمة وهما‏:‏ مالك وعَقِيل ابنا فارج ولهما يقول المُنخَّل‏:‏ ألم تَعْلَمي أن قد تَفَرَّق قَبْلَنَا خَلِيلا صَفاءِ مالكٌ وَعَقِيلُ ومن قضاعة تَنُوخ وهم ثلاثة أبطُن منهم‏:‏ بنو تَيم الله بن أسد بن وبرة ومنهم مالك بن زًهير بن عَمْرو بن فَهْم بن تَيم الله بن ثَعْلبة بن مالك ابن فَهْم ومنهم‏:‏ أُذَينة الذي يقول فيه الأعشى‏:‏ أزالَ أذَيْنَةَ عن مُلْكه وأخْرَج من قَصره ذا يَزَن ومن بني قضاعة‏:‏ جَرْم وهو عَمْرو بن عِلاَف بن حُلْوَان بن عِمْران بن الحاف بن قُضاعة وإلى عِلاف تُنْسب الرِّجال العِلافيّة وقال الشاعر‏:‏ مَجوُف عِلافيّ ونطْع ونُمرُق ومن جَرْم الرَّعْل بن عُرْوَة وكان شريفاً ومنهم‏:‏ عِصام بن شَهْبَر بن الحارث وكان شُجَاعاً شديداً وله يقول النَابغة‏:‏ فإني لا ألُومك في دُخُولٍ ولكنْ ما وراءَك يا عِصامُ وله قيل‏:‏ نَفْسُ عصامٍ سَوَّدت عِصامَا وعَلمته الكر والإقْدَامَا وجعلته مَلكاً هُمامَا ولجَرْم أربعة من الوَلد‏:‏ قُدامة وجُدَّة ومِلْكان وناجية‏.‏
فمن بني قُدامة كِنانة بن صَرِيم الذي كان يُهاجي عمرو بن معد يكرب ووَعْلة بن عبد الله بن الحارث الذي قَتَل الحارث بن عَبْد المَدَان ومنهم‏:‏ بنو شَنَّ وهم باليمامة مع بنى هِزَّان بن عَنَزة ومنهم‏:‏ أبو قُلابة الفَقِيه عبد الله بن زَيْد والمُسَاور بن سَوَّار وَلي شرْطة الكوفة لمحمد بنِ سُليمان ومن بني جُدَّة بن جَرْم‏:‏ بنو راسب وهم بنو الخَزْرَج بن جُدّة بن جرم‏.‏
ومن قُضاعة سَلِيح وهو عمرو بن حُلوان بن عِمْران‏.‏
ومن بني سَعْد بن سَلِيح‏:‏ الضَّجَاعمة الذين كانوا مُلوِك الشّام قبل غَسّان‏.‏
ومن بني النّمر بن وَبْرَة‏:‏ خُشين منهم‏:‏ أبو ثَعْلبة الخُشني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن بني النَمر بن وَبْرَة‏:‏ غاضِرَة وعاتِبة ابنا سُليم بن مَنْصور‏.‏
ومن بني أَكْثم بن النّمر‏:‏ مَشْجعة بن الغَوْث‏:‏ منهم مُعاوية بن حِجَار الذي يُقال له ابن قارب وهو الذي قَتل داود بن هَبُولة السَّليحيِ وكان مَلِكاً‏.‏
بَهْراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة فوَلد بهْراء‏:‏ أهْوَدَ وقاسِطاً وعَبَدة وقَسْرَاً وَعَدِياً بًطون كلّها ومنهم‏:‏ قيس وشَبيب بَطْنان عظيمان ومنهم‏:‏ المِقْدَاد ابن عمرو صاحبُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يُقال له المِقْدَاد بن الأسود لأن الأسْود بن عبد يَغُوث كان تَبناه وقد انتسب المقْداد إلى كنْدة وذلك أَنَّ كنْدة سَبَته في الجاهلية فأقام فيهم وانْتَسَب إليهم‏.‏
ومن قضاعة بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة‏:‏ منهم المُجذّر بن ذِياد قاتل أبي البَخْتَرِيّ بَشر بيُتْم من أبيه البَخْتَري أو بَشِّرنْ بمثلها مِنِّي أبي أنا الذي أزعُم أصْلي من يَلِي أضرب بالهِنْديَ حتى يَنْثَني وفيهم‏:‏ بنو إرَاشة بن عامر منهم‏:‏ كَعْب بن عُجْرة الأنصاريّ صاحب النبي عليه الصلاة والسلام وسَهْل بن رافع صاحبُ الصَّاع وفيهم‏:‏ بنو العِجْلان ابن الحارث منهم‏:‏ ثابت بن أرقم شهد بدراً وهو الذي قَتله طَلْحة في الرِّدة ومنهم‏:‏ بنو وائلة بن حارثة أخي عِجْلان منهم‏:‏ النُعمان بن أعْصر شَهد بدراً‏.‏
ومن قضاعة‏:‏ مَهْرَة بن حَيْدان بن عمرو بن الحافِ بن قضاعة وهو الذي تُنْسب إليه الإبل المَهْرِيّة ومنهم‏:‏ كُرْز بن رُوعان من بني المنسم الذي صار إلى مَعْد يكرب بن جَبلة الكِنْدي وهو الذي يقول‏:‏ تقول بًنَيَّتي لما رأتْني أَكُرّ عليهمُ وأذبّ وَحْدي لَعَمْرك إِنْ وَنَيْتَ اليومَ عنهم لتنقلبنَّ مصرُوعاً بخَدِّ ومنهم ذَهْبن بن فِرْضِم بن العُجَيل وهو الذي كان وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كِتاباً وردَّه إلى قومه‏.‏
جُهينَة بن لَيْت بن سُوّد بن أسْلَم بن الحافِ بن قضاعة - منهم‏:‏ سُوَيد بن عَمْرو بن جَذِيمة بن سَبْرَة بن خُديج بن مالك بن عَمْرو بن ثَعْلبة بن رفاعة بن مُضر بن مالك بن غَطَفان بن قَيْس بن جُهينة وكان شريفاً‏.‏
ومن قُضاعة‏:‏ نَهْد بن زَيْد بن سُود بن أسلم بن الحافِ بن قُضاعة‏:‏ منهم الصَّعِق وهو جُشم بن عَمرو بنِ سَعْد وكان سيّد نهد في زَمانه وكان قَصِيراً أسْود دميماً وكان النُّعمان قد سَمِع شرَفه فأتاه فلما نَظر إليه نَبَتْ عنه عينُه قال‏:‏ تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خَيْرٌ من أَن تَراه فقال‏:‏ أبَيتَ اللعن إنّ الرجال ليست بُمسوك يُسْتَقى فيها الماء وإنما المرء بأصْغَريه قلبِه ولسانِه إذا نَطق نَطق بِبَيان وإن صال صال بجنَانَ قال‏:‏ صدقتَ ثم قال له‏:‏ كيف عِلْمك بالأمور قال‏:‏ أبْغض منها المَقْبول وأبْرم المَسْحول وأحيلها حتى تَحول وليس لها بصاحب مَن لم يَنْظر في العواقب‏.‏
ومنهم‏:‏ وَدَعة بن عَمرو صاحب بَسْبَسَ طَلِيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
عُذْرة بن سَعْد هُذَيم بن زَيْد بن لَيْث‏:‏ منهم خالد بن عَرْفطة ولاّه سَعْد بن أبي وقّاص مَيْمنة الناس يوم القادسية ومنهم عُرْوة بنِ حِزام صاحب عَفْراء ومنهم رَزَاح بن رَبيعة أخو قُصيّ لأمه وهو الذي أعان قُصَيّاَ حتى غلب على البَيْت ومنهم جَميل بن عبد الله بن مَعْمر بن نَهِيك صاحب بُثَينة وبنو الحارث بن سَعْد إخوة عُذْرة‏.‏
فهؤلاء بُطون قُضاعة بن مالك بن عُمر بن مُرة وهؤلاء أولاد حِمْير بن سَبأ‏.‏
كهلان بن سبأ الأزد بن الغَوْث بن نَبْت بن زَيْد بن كَهْلان‏.‏
فمن قبائل الأزْد‏:‏ الأنصار وهم الأوْس والخَزْرج ابنا حارثة بن ثَعلبة بن عَمرو بن عامر وأمهما قَيْلة وهؤلاء الأوس والخَزرج ابنا حارثة بن ثَعلبة وهو العَنْقاء بن عَمرو بن ثعلبة وهو المُزَيقْياء بن عامر وهو ماء السّماء‏.‏
فمن بطون الأوس والخزرج وجماهيرها‏:‏ عَمرو بن عَوْف بن مالك بن أوس وهم بنو السِّمْعِية بها يُعْرفون وهم عَوْف وثَعلبة ولَوْذَان بنو عَمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوس‏.‏
ضبَيعة بن زيد بن عمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس - منهم‏:‏ عاصم ابن أبي الأفْلح الذي حَمت لَحْمَه الدَّبْر والأحْوص بن عبد الله الشاعر وحَنْظلة بن أبي عامر غَسِيل الملائكة وأبو سْفيان بن الحارث بَدرِيّ وأبو مُلَيل بن الأزْعر بدريّ‏.‏
حَبيب بن عمرو بنِ مالك بن الأوس - ومنهم‏:‏ سُويد بن الصّامت قَتله المجذَّر ابن ذِيَاد في الجاهلية فوثب أبوه على المُجذّر فَقَتله في الإسلام فَقَتله النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
عَبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخَزْرج بن عَمرو بن مالك بن الأوْس - منهم‏:‏ سَعْد بن مُعاذ الذي اهتزّ لموته العَرش بدريّ حَكم في بني قُرَيظة والنَضر بن عَمرو أخو سعد بن مُعاذ شَهِد بَدْراً وقُتل يوم أحد والحارث بن أنس شهد بَدْراً وقُتل يوم أحد وعَمّار بن زِياد قُتل يوم بَدْر وأسَيْد بن الحُضَير بن سِمَاك شَهِد العقَبة وبَدْراً ورَبِيعة بن زَيد شهد العَقَبة وبَدْراً‏.‏
رَبيعة بن عَبد الأشْهل بن جُشم بن الحارث بن خزْرج بن عَمرو بن مالك ابن الأوس - منهم‏:‏ رِفاعة بن وَقش قُتل يوم أحد وسَلَمة بن سَلامة ابن وَقْش شَهِد بَدْراً وقُتل يوم أُحد وأخوه عَمرو بن سلامة قُتل يوم أحد ورَافع بن يزيد بَدْري‏.‏
زَعُوراء بن جُشم بن الحارث بن خَزْرج بن عمرو بن مالك بن الأوس منهم‏:‏ مالكُ بن التَهِّيان أبو الهيثم نَقيب بَدْري عَقَبي وأخوه عُتْبة بن التَّهيان بَدْري قتل يومَ أحد‏.‏
خَطْمة هو عبد الله بن جُشم بن مالك بن الأوْس - منهم‏:‏ عديّ بن حرَشة وعمرو بن حَرَشة وأوْس بن خالد وخُزيمة بن ثابت ذو الشَّهادتين وعبد الله بن زَيْد القارئ وَلي الكُوفة لابن الزُّبير‏.‏
واقفَ هو مالك بن امرئ القَيْس بن مالك بن الأوس - منهم‏:‏ هِلاَل بن أمية وعائشة بن نُمير الذي يُنْسب إليهم بئر عائشة بالمَدينة وهَرِم بن عبد الله‏.‏
والسلْم بن امرئِ القَيْس بن مالك بن الأوس - ومنهم‏:‏ سَعْد بن خَيْثمة بن الحارث بَدريّ عَقَبي عامرة همُ أهل رابخ ابن مُرّة بن مالك بن الأوْس - منهم‏:‏ وائل بن زَيْد بن قَيْس بن عامرة وأبو قيس بن الأسْلت‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:21 AM

الخزرج
فمن بُطون الخَزْرج‏:‏ النجّار بن ثَعْلبة بن عَمْرو بن خَزْرج وغَنْمِ بن مالك ابن النجار بن ثَعْلبة بن عَمْرو بن الخَزْرج منهم‏:‏ أبو أيّوب خالدُ بن زيْد بَدْري وثابت بن النعمان وسُراقة بن كعب وعُمارة بن حَزْم وعَمْرو بن حَزْم بدرِي عَقبي وزَيْد بن ثابت صاحب القُرآن والفَرائض بَدْرِي ومُعاذ ومعوذ وعَوْف بنو الحارث بن رِفاعة وأمهم عَفْراء بها يُعرفون شَهِدوا بدراً وأبو أمامة أسعد ابن زُرارة نقيب عَقَبِيٌ بدريّ وحارثة بن النعمان بدريّ‏.‏
مَبذول - اسمه عامر بن مالك بن النجار بن ثَعلبة بن عَمرو بن خَزْرج منهم‏:‏ حَبِيب بن عَمْرو قُتل يومَ اليمامة وأبو عَمْرة وهو بَشِير بن عَمْرو قُتل مع علي بن أبي طالب بصِفِّين والحارث بن الصمة بَدْري وسَهْل بن عَتِيك بَدْري‏.‏
حُدَيلة - هو مُعاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن الخَزْرج أمه حُدَيلة وبها يُعرفون منهم‏:‏ أُبيّ بن كَعْب بن قَيْس بن عُبيد ابن مُعاوية وأبو حَبِيب بن زَيد بدريّ‏.‏
مَغَالة - هو عَدِي بن عمرو بن مالك بن النجّار منهم‏:‏ حَسّان بن ثابت بن المُنذر بن حَرام شاعر النبي عليه الصلاة والسلام وأبو طَلْحة وهو زَيد بن سَهل بن الأسْود بن حَرَام‏.‏
مِلحان بن عدي بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن خَزرج - منهم‏:‏ سُليم بن مِلْحان وحرَام بن مِلْحان بدريّان قتلا يوم بئر مَعُونة‏.‏
‏"‏ غَنم بن عدي بن النجار ‏"‏ - ومنهم صرمْة بن أنس بن صِرْمة صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم ومُحْرِز بن عامر بدريّ وعامر بن أُمية بدري قُتل يوم أحد وأبو حَكيم وهو عمرو بن ثَعْلبة بدري وثابت بن خَنْساء بدريّ قُتل يوم أحد وأبو الأعور وهو كعب بن الحارث بدري وأبو زَيد أحد الستَة الذين جَمعوا القرآن على عهَد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو الحَسْحَاس الذين ذَكرهمِ حسّان في قوله‏:‏ دِيارٌ مِن بَني الحَسْحاس قفْرُ مازن بن النجّار بن ثَعلبة بن عمرو بن خَزرج - منهم‏:‏ حَبِيب بن زَيْد قَطع مُسيلمة يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليه وعبدُ الرحمن بن كَعْب من الذين تولّوا وأعْينهم تفَيض من الدّمع بَدْرِيّ وقَيْس بن أبي صَعْصعة بدريّ وغَزِيّة بن عمرو عَقَبى‏.‏
بنو الحارث بن الخَزرج - منهم‏:‏ عبد الله بن رَوَاحة الشاعر بَدْرِيّ عَقَبى نَقيب وخَلاد بن سُوَيد بَدْرِيّ قُتل يوم قُرَيظة وسَعد بن الربيع بدريّ عَقبى نَقِيب قُتل يوم أُحُد وخارجة بن زَيد بدريّ عَقبى نَقِيب قُتل يوم أحد وابنه زَيْد بن خارجة الذي تكلم بعد موته وثابتُ ابن قيس بن شَمَّاس خَطِيب النبي صلى الله عليه وسلم قُتل يوم اليمامة وهو على الأنصار وبَشِير بن سَعد بدريّ عَقبى وابنه النُّعمان بن بَشير وزَيْد بن أرْقم وابن الإطْنَابة الشاعر ويَزيد بن الحارث الشاعر بدري وأبو الدَرداء وهو عُويمر بن زَيد وعبد الله بن زَيد الذي أُرِى الأذان وسُبَيعُ بن قيس بَدْريّ وعامر بن كَعْب الشاعر‏.‏
بنو خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخَزرج - منهم‏:‏ أبو مَسْعود عُقْبة ابن عمرو بدريّ عَقَبى وعبد الله بن الرّبيع بَدْري وأبو سَعيد الخُدريّ وهو سَعْد ابن مالك‏.‏
بنو ساعدة بن كَعْب بن الخزرج - منهم‏:‏ سعدُ بن عُبادة بن دُليم كان من النُّقباء وِهو الذي دَعا إلى نفسه يوم سَقِيفة بني ساعدة والمنذر بن عَمْرِو بدريّ عَقبى نقِيب قُتل يومَ بئر مَعُونة وأبو دُجَابة وهو سِماك بن أوس بن خرَشة وسَهْل بن سَعْد وأبو أسِيد وهو مالك بن رَبيعة قُتل يومَ اليمامة ومَسْلمة بن مَخْلد‏.‏
سالم بن عَوْف بن الخَزْرج - منهم‏:‏ الرمَق بن زَيد الشاعر جاهليّ ومالك بن العَجْلان بن زَيْد بنِ سالم سيّد الأنصار الذي قتل الفِطْيَون‏.‏
القوقل هو غنْم بن عَمرو بن عَوْف بن الخَزْرج - منها‏:‏ عُبادة بن الصَّامت بَدْريّ نَقِيب ومالك بن الدُّخْشُم بدريّ والحارث بن خزَيمة بدري‏.‏
بنو بَياضة بن عامر بن زُريق - منهم‏:‏ زياد بن لَبيد بدريّ وفَرْوة بن عَمْرو بدريّ عَقَبى وخالد بن قَيْس بَدْري وعَمرو بن النُعمان رأس الخَزْرج يومَ بُعاث وابنه‏:‏ النُّعمان صاحبُ راية المُسْلمين بأحد‏.‏
العَجْلان بن زيد بن سالم بن عَوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج - ومن بني العَجْلان‏:‏ عبد الله بن نَضْلة بن مالك بن العَجْلان البدريّ قُتل يوم أحد وعَيّاش بن عُبادة بن نَضلة ومُلَيل بن وَبَرَة بدري وعِصْمة ابن الحصين بن وَبَرة بدريّ وأبو خَيْثمة وِهو مالك بن قَيْس‏.‏
الحُبْلى وهو سالم بن غنْم بن عَوف بن عمرو بن عَوف بن الخزرج سُمي الحُبْلى لعِظم بطنه - منهم‏:‏ عبد الله بن أُبيّ بن سَلول رأسُ المنافقين وابنه عبدُ الله بن عبد الله شَهد بدراً وقُتل يومَ اليمَامة وأوْس بن خَوْلي بدريّ‏.‏
بنو زُريق بن عامر بن زُرَيق بن حارثة بن مالك بن عَضْب بن جُشَم بن الخَزْرج - منهم‏:‏ ذَكْوان بن عَبْد قَيْس بَدْري عَقَبيّ قُتل يومَ أحد وأبو عُبادة سَعْد بن عثمان بَدريّ وعُتْبة بن عثمان بدريّ والحارث بن قَيْس بدريّ وأبو عَيّاش بن مُعاوية فارس جُلْوة بدريّ ومَسْعود بن سَده بَدْريّ ورِفَاعة بن رافع بدريّ وأبو رَافع بن مالك أول من أسْلم من الأنصار‏.‏
بنو سَلْمة بن سَعْد بن عليّ بن أسد بن شارِدة بن جُشَم بن الخَزْرج - منهم‏:‏ جابر بن عبد الله صاحبُ النبي عليه الصلاة والسلام ومُعاذ بن الصمة بدريّ وخِرَاش بن الصِّمة شهد بدراً بفَرَسين وعُتْبة بن أبي عامر بدرى ومُعاذ بن عمرو بن الجَمُوح بدريّ وهو الذي قَطع رجل أبي لهَب وأخوهُ مُعَوَذ بن عمرو قُتلا يومَ بدر وأبو قَتَادة واسمُه النُعمان بن رِبْعيّ وكَعْب بن مالك الشاعر وأبو مالك بن أبي كَعْب الذي يقول‏:‏ لعَمْر أبيها ما تَقُول حَلِيلتي إذا فَرّعنها مالكُ بن أبي كَعْبِ وبشرْ بن عبد الرحمن والزبير بن حارثة وأبو الخطّاب وهو عبد الرحمنَ بن عبد الله ومَعْن بن وَهْب هؤلاء الخمسة شُعراء وعبد الله بن عَتِيك قاتلُ ابن أبي الحُقيق‏.‏
هذا نسب الأنصار‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif خزاعة
هو عمرو بن رَبيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وإنما قيل لها خُزاعة لأنهم تَخزّعوا من وَلد عمرو بن عامر في إقبالهم من اليمن وذلك أن بَني مازن من الأزد لما تفرفت الأزد منِ اليَمن في البلاد نَزَل بنو مازن على ماء بين زَبيد ورِمِع يُقال له غَسّان فمن شرب منه فهو غسانيّ وأقبل بنو عمرو فانخزَعوا من قومهم فنزلوا مكةَ ثم أقبل أسْلَم ومالك ومَلَكان بنو أفْصى بن حارثة فانخزَعوا فسُموا خُزاعة وافترق سائرُ الأزد فالأنصار وخُزاعة وبارق والهُجُن وغَسّان كلّها من الإزد فجميعُهم من عمرو بن عامر وذلك أنّ عمرو بن عامر وُلد له جَفْنة والحارث وهو مُحرق لأنه أوّل من عَذّب بالنار وثَعْلبة العَنْقاء وهو أبو الأنصار وحارثة وهو أبو خُزاعة وأبو حارثة ومالك وكَعْب ووَدَاعة وهو في هَمْدان وعَوْف وذهل وهو وائل وعِمْران فلم يشرب أبو حارثة ولا عِمْران ولا وائل من ماء غَسّان فليس يُقال لهم غَسّان‏.‏
بطون من خزاعة حُليل بن حُبْشية بن سَلول بن كَعب بن رَبيعة بن خَزاعة وهو كان صاحبَ البيت قبل قُريش - منهم‏:‏ المُحترش بن حُلَيل بن حُبْشية الذي باع مِفتاح الكَعبة من قُصيّ بن كِلاَب وهِلال بن حُليل وكُرْز بن عَلْقمة الذي قَفا أثر النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل الغار وهو الذي أَعاد معالمَ الحَرم في زمن مُعاوية فهي إلى اليوم وطارق بن باهِية الشاعر‏.‏
قَمير بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن رَبيعة بن خزاعة - فمن بني قَمير‏:‏ بُسْر بن سُفْيان الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وجَلْجلة بن عمرو الذي ذكره أبو الكَنُود في شِعْره ومن ولده‏:‏ قَبيصة بن ذُؤَيب بن جَلْجَلة ومالك بن الهَيْثم بن عَوْف‏.‏
كُليب بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن ربيعة بن خزاعة - منهم‏:‏ السَّفَّاح‏.‏
ابن عَبْد مَناة الشاعر وخِرَاش بن أُمية حَليف بني مَخْزوم وهو الذي حَلَق النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
ضاطِر بن حُبشية بن سَلُول بن كَعْب بن رَبيعة بن خزاعة - منهم‏:‏ حَفْص ابن هاجِر الشاعر وقُرة بن إيّاس الشاعر وكان ابنه يحيى بن قُرّة سيد قومه وطَلْحة بن عبيد الله بن كُرَيزة وابن الحُدَادِيّة الشاعر واسمه قَيْس بن عمرو‏.‏
حَرَام بن عمرو بن حُبشية بن سَلول بن كَعب بن رَبيعة بن خُزاعة - منهم‏:‏ أكتم بن أبي الجَوْن وسُليمان بن صُرَد بن الجَوْن ومُعتِّب بن الأكْوع الشاعر وأم مَعْبد وهي عاتكة بنت خُليف التي نَزل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مُهاجرته إلى المدينة‏.‏
غاضرة بن عمرو بن حُبشية بن سَلول بن كعب بن ربيعة بن خُزاعة - منهم‏:‏ عِمْران بن حُصين صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام وسَعيد بن سارية وَلِي شُرطة عليّ بن أبي طالب وأبو جُمعة جدّ كُثيِّر عَزّة وجَعْدَة وأبو الكَنود ابنا عبد العُزّي‏.‏
مُلَيح بن خُزاعة - منهم عبد الله بن خَلف قُتل مع عائشة يومَ الجمل وأخوه سليمان بن خَلَف كان مع عليّ يومَ الجمل وابنهُ طَلحة بن عبد الله بن خَلف يُقال له طَلحة الطَّلحات وهو أجْود العَرب في الإسلام وعَمرو بن سالم الذي يقول‏:‏ لا هُمّ إنّي ناشدٌ مُحمَّدَا حِلْفَ أبِينا وأبيه الأتلدا ومنهم‏:‏ كُثيِّر عَزّ الشاعر وكُنيته أبو عبد الرحمن‏.‏
عَدِي بن خزاعة - منهم‏:‏ بَدِيل بن وَرْقاء الذي كَتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام وابنه عبد الله بن بَدِيل ونافعُ بن بَديل قُتل يوم بئر مَعونة ومحمد بن ضمْرة كان شريفاً والحَيْسُمان بن عمرو الذي جاء بقَتْلَى أهل بدر إلى مكة وأسْلم بعد ذلك‏.‏
سَعد بن كَعْب بن خُزاعة - منهم‏:‏ مَطرود بن كعب الذي رَثى بني عَبْد مَنَاف وعَمرو بن الحَمِق صاحب النبي عليه الصلاة والسلام وأبو مالك القائد وهو أسد بن عَبد اللة والحُصين بن نَضْلة كان سيّد أهل تهامة ماتَ قبلَ الإسلام والحارث بن أسد صَحِب النبي صلى الله المصْطلِق بن سَعد بن خُزاعة - منهم‏:‏ جُويرية بنت الخَزْرج زَوْج النبي عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
وإخوة خُزاعة وهم يُنْسبون في خزاعة‏:‏ أسلم بن أفصىَ بن حارثة بن عمرو بن عامر - منهم‏:‏ بُريدة بن الحَصَيب صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام وسَلَمة بن الأكوع صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
ومَلَكان بن أفصى بن حارثة بن عمر بن عامر - ومنهم‏:‏ ذو الشّمالين وهو عُمَير بن عبد عَمرو شَهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالك بن الطُّلاطِلة كان من المُسْتهزئين من النبي صلى الله عليه وسلم ونافع بن الحارث وَلي مكة لعمرَ بن الخطّاب‏.‏
مالك بن أفْصىَ بن عَمْرو بن عامر - منهم‏:‏ عوَيمر بن حارثة وسُليمان ابن كُثيّر من نُقباء بني العبَّاس قَتله أبو مُسلم بخُراسان‏.‏
سَلاَمان بن أسلم بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر - منهم‏:‏ جَرْهَد بن رِزَاح كان شريفاً وأبو بُرْدة صاحب النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏
فرغت خزاعة بارق والهجن وَلد عديّ بن حارثة بن عمرو بن عامر سَعدا وهو بارق وعَمرا وهم الهُجن فخُزاعة فمن بارق‏:‏ سُراقة بن مِرْداس الشاعر وجَعْفر بن أوْس الشاعر ومنهم‏:‏ النُعمان بن خَمِيصةِ جاهليّ شريف‏.‏
وبارق والهُجُن لا يقال لها غسّان وغسّان ماء بالمُشلَل فمن شرب منه من الأزد فهو غسّاني ومن لم يشرب منه فليس بِغَسّاني‏.‏
وقال حسان‏:‏ إمّا سالْت فإنّا مَعشر نُجُبٌ الأزْد نسبتنا والماءُ غسّانُ ومن الهُجْن‏:‏ عَرْفجة بن هَرْثمة الذي جَنَّدَ الموصل وعِداده في بارق ومنهم‏:‏ رَبْعة ومُلادِس وثَعلبة وشَبيب وألمَع بنو الهُجن‏.‏
حُجر بن عمرو بن عامر حارثة بن ثَعلبة بن امرئ القيْس بن مازن بن الأزد - ومنهم‏:‏ أبو شجَرَة بن حُجْنة هاجَر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم‏:‏ صَيْفيّ بن خالد بن سَلَمة بن هُرَيم‏.‏
والعَتِيك هو ابن الأزْد بن عِمْران بن عَمْرو - منهم‏:‏ المُهلَّب بن أبي صفْرة واسم أبي صُفرة ظاِلم بن سُرَاقة وجُدَيع بن سَعيد بن قَبيصة ومن العَتِيك عمرو بن الأشْرَف قُتل مع عائشة يومَ الجَمل وابنه زِياد بن عمرو كان شريفاً وثابتَ قُطْنة الشاعر‏.‏
ويقال‏:‏ إنَ العَتِيك بنُ عِمْران بن عمرو بن أسد بن خزَيمة فهؤلاء بنو عِمْران بن عَمْرو بن عامر وهم الحُجْر والأزْد والعَتِيك‏.‏
بطون الأزد بنو ماسخَة بن عبد الله بن مالك بن النّصر بن الأزد إليهم تُنسب القِسىّ الماسِخيّة كان أولَ مَن رَمى بَها زَهْرانُ بن كَعْب بن الحارث بن كعب بْن عبد الله بن مالك بن نَصر من الأزد‏.‏
ومنهم‏:‏ حُمَمة بن رافِع‏.‏
وفيهم‏:‏ بنو النَّمِر بن عُثمان بن النَّصر بن هوازن‏.‏
ومنهم‏:‏ أبو الكَنُود صاحب ابن مَسْعود قُتلِ يوم الفجار وأبو الجَهْم بن حبيب كان والياً لأبي جَعْفر وأبو مَرْيم وهو حُذيفة بن عبد الله صاحبُ رايتهم يوِمَ رُستم والحارث بن حَصِيرَة الذي يُحدَّث عنه ومخْلَد بن الحسن كان فارساً بخُرَاسان وفَهم ابن زَهْرَان بَطن وحُدَّان بَطْن وزِيادة بطْن ومَعْولة بنو شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نَصر بن هوازن‏.‏
فمن بني حُدّان‏:‏ صَبْرَة بن شَيْبان كان رأسَ الإزْد يومَ الجمل وقُتل يومئذ‏.‏
ومن بني مَعْولة بن شمس‏:‏ الجُلَنْدي بن المُسْتكين صاحبُ عُثمان وابنه جَيْفر وكَتب النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى جَيْفر وعُبيد ابني الجُلَنْدِي‏.‏
ومنهم‏:‏ الغِطْريف الأصْغَر والغِطْرِيف الأكْبَر منْ بني دُهمان بن نصر بن زَهْران ومنهم‏:‏ سُبَالة وحُدْرُوج ورَسْن بنو عَمْرو بن كعب بن الغِطْرِيف بطون كلّهم وبنو جِعْثِمة بن يشكر بن مَيْسر بن صعب بن دُهمان‏.‏
بنو راسب بن مالك بن مَيْدعان بن مالك بن نصر بن الأزد - منهم‏:‏ عبد الله بن وَهْب ذو الثَّفِنات رئيس الخوارج قَتله عليّ بن أبي طالب يوم النَّهْرَوَان‏.‏
ومن الناس من يَنْسب بني راسِب في قضاعة‏.‏
ثُمالة وهو عَوْف بن أسْلم بن أبجر بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزْد وثُمالة مَنْزلهم قَريب من الطَّائف وهم أهلُ روية وَعُقول‏.‏
منهم‏:‏ محمد بن يزيد النَّحْوي المَعْروف بالمُبرَد صاحبُ الروْضة‏.‏
وقال فيه بعض الشعراء‏:‏ سَألْنا عن ثُمالة كلَّ حَيٍّ فقال القائلونَ وَمَنْ ثُمالَه فقلتُ محمدُ بنُ يزيدَ مِنْهم فقالُوا الآن زِدْتَ بهم جَهاله بنو لِهْب بن أبْجر بن كَعْب بن الحارث بن كَعْب وهم أعيف كلّ حيّ في العَرَب - العائف الذي يَزْجُر الطيرَ - ولهم يقول كُثَيِّر عزة‏:‏ تَيمَمْتُ لِهْبا أَبْتَغي العِلْم عِنْدهم وقد رُدّ عِلْم العائِفين إلى لِهْبِ دَوْس بن عًدْثان بن عبد الله بن زَهْران - ومنهم‏:‏ حُممة بن الحارث بن رافع كان سَيّد دَوْس في الجاهليّة وكان أسْخَى العَرَب وهو مُطْعِم الحجّ بمكة‏.‏
ومنهم‏:‏ أبو هُرَيرة صاحب النبي عليه الصلاةُ والسلام واسمه عُمَير بن عامر‏.‏
ومنهم‏:‏ جَذِيمة الأبْرش بن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس وجَهْضم بن عَوْف ابن مالك بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس‏.‏
ومنهم‏:‏ الجَرَاميز جَمْع جُرْموز والقَراديس جَمْع قُردُوس والقَسامِل جمع قَسْملة والأشَاقِر جمع أشقر وهم بنو عائذ بن دَوْس وفيهم يقول الأعجم‏:‏ قالُوا الاشَاقر تهجوكم فقلتُ لهم ما كنتُ أحسَبهم كانُوا ولا خًلِقُوا وهم من الحَسَب الزَاكي بمنزلةٍ كطُحْلب الماء لا أصْلٌ ولا وَرَق لا يَكْبرُون وإ نْ طالَت حياتُهمُ ولو يَبُول عليهم ثَعْلب غَرِقُوا عَكّ بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهْران‏.‏
وعَكّ أخو دوْس بن عدثان بن عبد الله بن زَهْران عند مَن نَسبهم إلى الأزد ومَن قال غيرَ ذلك فهو عَكُّ بن عُدْثان أخو مَعَدّ بن عُدْثان‏.‏
وفي عَكِّ‏:‏ قَرْن وهو بَطْن كَبير منهم‏:‏ مُقاتل ابن حَكيم كان من نُقَباء بني هاشم بخُراسان‏.‏
غسّان وهم بنو عَمْرو بن مازن - وفيهم‏:‏ صُرَيم وبنو نُفَيل وهم الصَّبْر سمَوا بذلك الِصَبرهم في الحَرْب‏.‏
وفي بني صُرَيم‏:‏ شَقْران ونَمْران ابنا عمرو بن صُرَيم وهما بَطْنان في غَسّان‏.‏
وبنو عَنَزة بن عمرو بن عَوْف بن عمرو بن عَدِيّ بن عمرو بن مازن بن الأَزْد منهم‏:‏ الحارث بن أبي شَمِر الأعْرج ملك غسّان الذي يُقال فيه الجَفني وليس بجَفْني ولكنّ أمه من بني جَفْنة‏.‏
ومن بني عَمْرو بن مازن‏:‏ عبدُ المَسِيح بن عمرو بن ثَعْلبَة صاحبُ خالد بن الوليد ومنهم‏:‏ عبدُ المَسيح الجِهْبِذ ومنهم‏:‏ سَطِيح الكاهن وهو رَبيعة ابن ربيعة‏.‏
ومن بني غَسّان‏:‏ بنو جَفنة بن حارثة بن عَمرو بن عامر بن حارثة بن ثَعلبة بن امرئ القيس بن مازن بنِ الأزد ومنهم‏:‏ مُلوك غسّان بالشام وهم سَبْعة وثلاثون ملكاً مَلَكوا ستّمائة سنة وست عشرةَ إلى أن جاء الإسلام‏.‏
بَجِيلة وهم عَبْقر والغَوْث وصُهَيب ووَدَاعة وأشْهل نُسبوا إلى أمهم بَجيلة بنت صَعْب بن سَعْد العَشيرة وهم بنو أنمار بن إِرَاش بن عمرو بن الغَوْث أخى الأَزْد بن الغَوْث‏.‏
منهم‏:‏ جَرير بن عبد الله صاحبُ النبي عليه الصلاةً والسلام وكان يُقال لجرير‏:‏ يُوسف هذه الأمة لحُسْنه‏.‏
وفيهم يقول الشاعر‏:‏ لولاجَريرٌ هَلَكت بَجِيله نِعْم الفَتى وبِئْست القَبِيلَه ومنهم الضَّبين بن مُضَر الذي وقع ببني كِنَانة ومنهم‏:‏ القاسم بن عُقَيل أحد بني عائذة بن عامر بن قُدَاد كان شَريفاً وهو الذي ابتدأ مُنَافرةَ بَجِيلة وقُضاعة‏.‏
وفي بَجِيلة‏:‏ قَسْرى عَبْقر منهم‏:‏ خالد بن عبد الله القسْرى صاحبُ العِرَاق‏.‏
ومنهم‏:‏ بنو أَحْمس وهم بنو عَلقمة بن عَبْقر بن أنمار بن إرَاش بن عَمرو بن الغَوْث وبنو زَيد بن الغَوْث بن أنمار وبنو دهن بن مُعاوية بن أسْلم بن أَحْمس رَهْط عمّار الدَّهْنِي‏.‏
ومن قبائل بَجِيلة‏:‏ هُدْم وهَدِيم وأحمس وعادِية وَعَدِيّة خثعم هوِ خَثْعم بن آَنمار بن إِراش بن عَمرو بن الغَوْث أخى الأزْد ابن الغَوْث - ففي خثْعم‏:‏ عِفْرِس وناهِس وشَهْران فيها الشرفُ والعَدد‏.‏
فمن بني شَهْران‏:‏ بنو قُحافة بن عامِر بن رَبيعة منهم‏:‏ أسماءُ بنت عُمَيس ومالكُ ابن عبد الله الذي قاد خَيْل خثْعم للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن رَبيعة بن عِفْرِس‏:‏ نُفيل بن حبيب دليل الحبشة على الكَعْبة وهو القائل‏:‏ وكلّهمُ يُسائل عن نُفَيل كأنّ عليّ للحُبْشان دَيْنَا وما كانَت دَلالتهم بِزَيْن ولكنْ كانَ ذاك عليَّ شَيْنَا فإنّكِ لو رأيتِ ولم تَرَيْه لَدَى جَنْب المحصَب ما رَأْيْنَا إذاً لم تفرحي أبداً بشيءٍ ولم تأْسيَ على ما فات عَيْنَا حَمِدتِ الله إذ أبصرتِ طَيْراً وحُصْبَ حِجارة تُرْمَي علينَا ومن خَثْعم‏:‏ عَثْعث بن قحافة وهو الذي هَزَم هَمْدان ومَذْحج وله يقول الشاعر‏:‏ وجُرْثومة لم يَدْخل الذُّلُّ وَسْطها قَرِيبة أنساب كثير عدِيدُها مُلمْلَمَة فيها فَوَارِسُ عَثْعَثٍ بَنُوه وابناء الأقَيصر جِيدُها ومنهم‏:‏ حُمْران الذي يقول‏:‏ أقْسمتُ لا أَمُوت إلا حُرِّاً وإنْ وجدتُ الموتَ طَعْماً مرّاً ويقال‏:‏ إنّ خَثعم اسمه أفْتَل وإنما خثعم جَمل كان لهم نُسبوا إليه‏.‏
هَمْدان وهو هَمدان بن مالك بن زَيد بنِ أَوْسَلة بن ربيعة بن الخِيَار بن مالك بن زَيد بن كَهلان‏.‏
فولد هَمدان حاشِداً وبَكِيلاً ومنهما تَفَرَّقت همدان‏.‏
فمن بُطون هَمْدَان‏:‏ شِبَام وهوِ عبد الله بن أسعد بن حاشد ومنهم‏:‏ ناعط وهو رَبيعة بن مَرْثد بن حاشِد بن جُشم بن حاشد ومنهم‏:‏ وَدَاعة بن عمرو ابن عامر رهْط مَسْروق بن الأجْدع ومن الناس من يَزْعُم أنه وَدَاعة بن عمرو بن عامر بن الأزد ولكنَّهم انتسبوا إلى هَمدان‏.‏
ومن هَمْدان‏:‏ بنو السُّبَيِع ابن الصّعْب بن مُعاوية بن كَثِير بن مالك بن جُشَم بن حاشِد منهم‏:‏ سَعِيد بن قيْس بن زَيْد بن حَرْب بن مَعْدِ يكرب بن سَيْف بن عَمْرو السّبيعي‏.‏
ومن بني ناعظ‏:‏ الحارث بن عُمَيرة الذي يَمْدحه أعشى هَمدان بقوله‏:‏ إلى ابن عُمَيرَةَ تُخْدَى بنَا على أنها القُلُص الضُّمَّرُ ومن بني بَكِيل بن جُشَم بن خَيوان بن نَوْف بن هَمدان‏:‏ بنو جَوْب - وهم الجَوْبيون - ابن شِهاب بن مالك بن رَبيعة بن صَعْب بن دوْمان بن بكيل وبنو أرْحب بن دُعام بن مالك بن مُعاوية بن صَعْب وبنو شاكر وهم أبو ربيعة بن مالك بن مُعاوبة بن صعب وهم الذين قال فيهم عليُّ بن أبي طالب رضي عنه يوم الجمل‏:‏ لو تَمَّت عدتَهم ألفاً لعبد الله حقَّ عبادته‏.‏
وكان إذا رآهم تَمثل بقول الشاعر‏:‏ ناديتُ هَمدان والأبوابُ مُغلقهٌ ومِثْل هَمدان سَنَّى فَتْحَة البابِ كالهُنْدوانيّ لم تُفْلَل مَضارِبهُ وجْةٌ جَمِيل وقَلْب غيرُ وَجّاب وقال فيهم عليّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه‏:‏ لَهَمْدَان أخلاقٌ ودينٌ يَزِينهم وأنسٌ إذا لاقَوْا وحُسْنُ كلام فلو كنتُ بَوْاباً على باب جَنَّة لقلتُ لِهَمْدَان ادْخلوا بِسَلام ومن أشراف هَمْدان‏:‏ مالك بن حُرَيم الدّألاني وكان فارساً شاعراً‏.‏
ومنهم‏:‏ مُحمد بن مالك الخَيْوانيّ وكان يُجير قُريشاً في الجاهليّة على اليَمن‏.‏
وفي هَمْدان‏:‏ جُشَم وهم رَهْط أَعْشى هَمْدان وفيهم‏:‏ خَيْوان وهو مالك بن زيد بن جُشم بن حاشد وفيهم‏:‏ دألان بن سابقة بن ناشِج بن دافع منهم‏:‏ مالك بن حَريم الذي يقول‏:‏ وكُنْت إذا قَوْمٌ غَزَوْني غَزَوْتُهمٍ فهَل أنا في ذا يا لَهَمدان ظالمُ مَتَى تَجْمَع القَلْب الذَّكي وصارِماً وأَنْفاً حَمياً تَجْتَنِبْك المَظَالم ومنهم‏:‏ أَرْحب بن دُعام بن مالك بن معاوية بن صَعْب بن دَوْمان بنِ بَكِيل منهم‏:‏ أبو رُهمْ بن مُعطم الشاعر الذي هاجرَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمسين ومائة سنة‏.‏
وفي هَمْدان‏:‏ الهان بن مالك وهو أخو هَمْدان ابن مالك منهم حَوْشب قُتل بصفِّين مع مُعاوية‏.‏
كنْدة كندة بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أدد بن زَيد بن يَشْجُب ابن عَريب بن زَيد بن كَهَلان‏.‏
فمن بُطون كِنْدة‏:‏ الرَّائش بن الحارث بن مُعاوية بنِ كِنْدة منهم‏:‏ شرُيح بن الحارث القاضي ومنهم‏:‏ بنو مُعاوية الأكْرَمِين الذين مَدَحهم الأعْشى‏.‏
ومنهم‏:‏ الأشْعث بن قَيْس بن مَعْد يكرب والصّباح بن قَيْس وشُرَحْبيل بن السِّمْط وَلي حِمْص وحُجْر بن عَدِيّ الأدبر صاحب عليّ وهو الذي قَتله مُعاوية صَبْراً‏.‏
ومنهمِ‏:‏ بنو مُرّة بن حُجْر لهم مَسجْد بالكوفة ومنهم‏:‏ الأسْود بن الأرقم ويَزيد بن فرْوة الذي أجار خالدَ بن الوليد يوم قَطع نخل بني وَليعة‏.‏
وفي كِنْدة‏:‏ مُعاوية الوَلادة سُمِّي بذلك لكثرة وَلَده‏.‏
ومنهم‏:‏ حُجْرا الفرْد سُمِّي بذلك لُجوده وأهلُ اليمن يُسمُّون الجَوَاد الفَرْد‏.‏
ومنهم‏:‏ مُعاوية مُقطّع النُّجد كان لا يَتقلّد أحدٌ معه سَيفاً إلا قطع نِجَاده‏.‏
فمَن بنى حُجر الفَرْد الملوك الأربعة‏.‏
مِخْوس ومِشرح وجَمْد وأبْضعة وأُختهم العَمَرّدة نحن قَتلنا بالنُّجَير أَرْبعة مِخْوَس مِشْرَحا وَجَمْداً أَبْضَعه ومن بني امرئ القيس بن مُعاوية‏:‏ رَجَاءُ بن حَيْوة الفَقيه وامرؤ القَيس بن السّمْط‏.‏
ومن أشراف بني الحارث بن مُعاوية بن ثَوْر‏:‏ امرؤ القَيْس الشاعر بن حُجْر بن عمرو بن حُجْر آكِل المُرار بن عَمرو بن مُعاوية بن الحارث بن ثَوْر وهم مُلوِك كِندة‏.‏
ومنهم‏:‏ حُجْر بن الحارث بن عمرو وهو ابن أم قَطَام بنت عَوْف بن مُحلّم الشيباني‏.‏
ومن بُطون كِنْدة‏:‏ السَّكاسك والسَّكون ابنا أَشرْس بن كنْدة ومنهم‏:‏ مُعاوية بن خُدَيج قاتِل محمد بن أبي بَكْر‏.‏
ومنهم‏:‏ الجَوْن بن يَزيد وهو أَوّل مَن عَقَد الحِلْف بن كِنْدة وبين بَكر بن وائل‏.‏
ومنهم‏:‏ حُصَين بن نُمير السكونيّ صاحب الجيش بعد مُسلم بن عُقبة صاحب الحَرّة‏.‏
ومن السكون‏:‏ تُجيب وهما عَدِيّ وسَعْد ابنا أَشْرس بن شبِيب بن السَّكون وأمها تُجِيب بنت ثَوْباَن بن مَذْحِج إليها يُنْسبون‏.‏
فمن أَشراف تُجيب‏:‏ ابن غَزَالة الشاعر جاهلي وهو رَبيعة بن عبد اللهّ وحارثة بن سَلَمة كان على السَّكون يوم مُحياة وهو يومَ اقتتلت مُعاوية بنِ كِنْدة وكِنانةُ بن بشْر الذي ضَرَب عثمان يوم الدَار‏.‏
والسكاسك بن أَشْرَس بن كندة - منهم‏:‏ الضَحًاك بن رَمْل بن عبد الرَّحمن وحُوَيّ بن مانع الذي زَعمِ أهلُ الشام أنه قَتل عَمَّار بن ياسِر ويزيد بن أبي كَبْشَة صاحب الحجَّاج‏.‏
انقضى نسبُ كِنْدة‏.‏
ومن بني أدد بن زَيد بن يَشْجب بن عَريب بن زَيْد بن كَهْلان بن سَبأ بن يَشْجب بن يَعْرب بن قَحْطان‏:‏ مالك بن أُدد وهو مَذْحج وطَيء ابن أُدد والأشْعر بن أُدد‏.‏
وقال ابن الكلبيّ‏:‏ إن مَذْحج بن أُدد هو ذو الأنعام وله ثلاثةُ نَفر‏:‏ مالك بن مَذْحج وطيء بن مَذحج والأشْعر بن مَذحج‏.‏
فمن قبائل مَذحج‏:‏ سَعْد العَشِيرة بن مالك بن أدَد وولده الحَكَم بن سَعد العِشيرة وهو قَبيل كَبِير منهم‏:‏ الجَرّاح بن عبد الله الحَكَمي قَتله الترك أيامَ عمر بن عبد العزيز وهم موالي أبي نُواس‏.‏
وفي بَعْضهم يَقول‏:‏ يا شَقِيقَ النَّفس من حَكَم نِمْتَ عن لَيْلَى ولم أَنَم وإنّما سُمِّي سعدَ العشيرة لأنه لم يَمتْ حتى رَكِب معه من وَلده وَوَلد ولده ثلثُمائة رجل‏.‏
ومنهم‏:‏ عُمَير بن بِشر ومنهم‏:‏ بُنْدُقة بن مَظَة‏.‏
ومن بطون سَعد العشيرة‏:‏ جُعف بن سَعد العشيرة بن مالك بن أُدد وصَعْب بن سَعد العَشيرة دَخل في جُعْف وجَزْء بن سعد العشيرة‏.‏
فمَن وَلد جَزْء بن سعد‏:‏ العَدْل والحَمْد وكان العدل على شُرْطَة تبع وكان إذا أَراد قَتْل رجل قال‏:‏ يُجْعل على يَدي عَدْل وهو قولُ النّاس فلان على يَدَيّ عَدْل إذا كان مُشْرفاً على الهَلاك‏.‏
ومن أَشْراف جُعف‏:‏ أبو سَبْرة وهو يَزيد بن مالك كان وَفَد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَدَعا له ومنهم‏:‏ شَراحيل بن الأصْهب كان أبعدَ العَرب غارةً كان يَغْزو من حَضْرَموت إلى أَرَحْنَا مَعدَّاً مِن شَراحيَل بعدما أراها مع الصُّبح الكَواكب مَظْهَرا وعَلْقَمَة الحَرَّاب أَدْرك رَكْضُنا بذي الرمْث إذا صام النهارُ وهجا وعَلْقمة الحرَّاب كان رأس بني جُعْف بعد شراحيل ومن بني جُعْف‏:‏ زَحْر بن قَيْس صاحب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏
ومنهم‏:‏ الأشعْر بن أبي حُمْران الذي يقول‏:‏ أريد دِمَاء بني مازن وراقَ المُعَلّي بَيَاضُ اللَّبنْ خَلِيلان مُخْتلف بيننا أرِيد العَلاَء ويَبْغي السِّمن ومنهم‏:‏ عبيد الله بن مالك الفاتك الجُعْفي‏.‏
ومن بني سَعْد العَشيرة‏:‏ أَوْد وزبيد واسمه مُنبّه وهما أيضاً صَعْب بن سَعْد العَشيرة وزُبيد الأصغر وهو منبِّه الأصغر بن ربيعة بن سَلَمة بن مازن بن ربيعة بن زُبيْد بن صَعْب بن سَعْد العشيرة ومنهم‏:‏ أبو المَغْراء الشاعر ومنهم‏:‏ الزَعافر وهو عامر بن حَرْب ابن سعد بن مُنبَّه بن أود ومنهم‏:‏ عبد اللهّ بن إدريس الفقيه ومنهم‏:‏ الأفْوَه الشاعر واسمه صَلاءة بن عمرو ومنهم‏:‏ بنو رَمّان بن كعب بن أود من وَلده‏:‏ عافِيةُ بن يزيد القاضي وبنو قَرْن لهم مَسْجد بالكوفة‏.‏
زُبيد بن صَعْب بن سعد العشيرة واسمه مُنبه وهو زُبيد الأكبر من ولده‏:‏ زُبيد الأصغر وهو زُبيد بن رَبيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن زبيد ابن صَعْب‏.‏
ومن بني زُبيد الأصغر عمرو بن مَعْدِ يكرب وعاصِم بن الأصْقَع الشاعر ومُعاوية بن قَيْس بن سَلَمة وهو الأفكل وكان شريفاً وإنما سمّي الأفكل لأنه كان إذا غضب أرعد ويقال‏:‏ الأفَكل من بني زُبيد الأكبر ومنهم‏:‏ الحارث بن عمرو بن عبد اللّة بن قَيْس بن أبي عمرو بن رَبيعة ابن عاصم بن عمرو بن زُبيد الأصغر‏.‏
فهذه سعدُ العَشيرة‏.‏
ومن مَذْحج جَنْب وصُدَاء ورُهاء فمن بني جَنْب مُنبّه والحارث والغَليّ وشَيْحان وشِمْران وهِفّان‏.‏
فهؤلاء الستة - وهم جَنْب - بنو يَزيد بن حَرْب بن عًلَة بن جَلْد بن مالك بن أُدد وإنما قيل لهم جَنْب لأنهم جانَبوا أخاهم صُداء وحالفوا سَعْدَ العَشِيرة وحالفت صُداء بني الحارث بن كَعْب‏.‏
فمن جَنْب‏:‏ أبو ظَبْيان الجَنْبيّ الفَقيه ومنهم‏:‏ مُعاوية الخَيْر بن عَمْرو بن مُعاوية صاحب لواء مَذْحج وهو الذي أجار مُهلهِلَ بن ربيعة التَّغلبي على بكر بن وائل فتزوَّج ابنة مهلهل وفي ذلك يقول مُهلَهل بن رَبيعة أخو كُلَيب وائل‏:‏ هانَ على تَغْلب بما لَقِيَتْ أُختُ بني الأكْرمين من جُشَم أَنْكَحها فَقْدُها الأرَاقَم في جَنْب وكان الحِبَاء من أَدَم لو بأَبانيَنْ جاء يَخْطُبها رُمِّل ما أَنفُ خاطبِ بِدَم قوله‏:‏ وكان الحباء من أدم أي أنه ساق إليها في مَهْرها قُبًة من أدَم‏.‏
صُدَاء بن يزيد بن حَرْب بن عُلَة بن جَلْد بن مالك بن أُدد وهم حُلفاء بني الحارث بن كعب بن مَذْحج رُهاء بن مُنبّه بن عُلة بن جَلْد بن مالك ومنهم‏:‏ هِزَّان بن سعيد بن قَيْس بن سرمح كان من أَشْراف أهل الشّام‏.‏
بنو الحارث بن كعب بن حَرْب بن عُلة بن جَلْد بن مالك بن أًدد وهو بيت مَذْحج منهِم‏:‏ زَعْبل بطن في بني الحارث وهو الذي يقال فيه‏:‏ لا يُكَلّم زَعبْل وكان شريفاً ومنهم‏:‏ المُحجّل بن حَزْن ومنهم‏:‏ بنو حِمَاس ابن رَبيعة منهم‏:‏ النّجاشي واسمُه قَيْس بن عَمْرو ومنهم‏:‏ بنو المَعْقِل بن كَعْب بن رَبيعة منهم‏:‏ مَرْثد ومُرَيثد ابنا سلَمة بن المعقل قيل لهم المَراثد ومنهم‏:‏ المأمون بن مُعاوية اجتمعت عليه مذَحج ومُزَاحم بن كعب ومنهم‏:‏ اللجْلاج وأخوه مُسهر الذي فَقأ عينْ عامر بن الطّفيل يوم فَيْف الرِّيح وعَبد يَغُوث بن الحارث الشاعر قَتيل التَّيم يومَ الكُلاَب وهو القائل‏:‏ أقولُ وقد شَدُوا لِسَاني بِنسْعة ألا يا آلَ تَيمْ أَطْلُقوا من لِسانيَا وتَضْحك مِنّي شَيْخة عَبْشَمِيَّة كأنْ لم تَرَيْ قبلي أَسيراً يَمانياً ومنهم‏:‏ بنو قُنان بن سَلَمة منهم‏:‏ الحُصَين ذو الغصّة بن مَرثد بن شَدّاد بن قُنان وهو رأس بني الحارث عاش مائة سنة وكان يُقال لأبنائه‏:‏ فوارس الأرباع قتلته هَمْدانُ من ولده‏:‏ كَثير بن شِهَاب بن الحُصين ومنهم‏:‏ محمد بن زُهرة بن الحارث وفي بني الحارث بن كَعْب‏:‏ الضبَاب منهم‏:‏ هِنْد ابن أَسْماء الذي قَتل المنتشر الباهليّ وفيهم‏:‏ بنو الديان وفيهم‏:‏ زياد بن النّضر صاحب عليّ والرَّبيع بن زياد وَلِي خُراسان أيامَ مُعاوية والنابغة الشاعر واسمه يزيد بن أبَان هؤلاء بنو الحارث بن كَعْب‏.‏
الضباب في بني الحارث بن كَعب مفتوحة الضّاد وفي عامر بن صَعصعة مكسورة الضاد‏.‏
ومن بُطون مَذْحجِ‏:‏ مُسْلِية بن عامر بن عَمْرو بن عُلة بن جَلْد بن مالك فولد مُسْلية كِنانة وأَسداً منهما تَفرّقت مُسْلية‏.‏
كنانة وأسد ابنا مُسْلية - فمن بني كِنانة بن مُسلية‏:‏ بنو صُبح وثعلبة ابنا ناشرة وأُمهما حَبابَة بها يُعرَفون منهم‏:‏ أُبَيّ بن معاوية بن صُبح الذي يقول له عمرو بن معديكرب‏:‏ تَمنَاني لِيَلْقاني أُبيٌّ ودِدتُ وأَيْنما منِّي وِدَادِي ومن بني حَبابة‏:‏ عامر بن إسماعيَل القائد وابن الحَبَابة الشاعر جاهليّ‏.‏
ومن مَذْحج‏:‏ النَّخَع بن عمرو بن عُلة بن جلْد بن مالك أُدد‏.‏
فمن بُطون النَخع‏:‏ عَمْرو بطن وصُهبان بطن ووَهْبيل بطن وعامر بَطن وجذَيمة بطن وحارثة بطن وكعب بَطن‏.‏
فمن بني جَذيمة بن سعد بن مالك بن جلد بن النَّخع الأشتر واسمه مالك ابن الحارث وثابت ومن بني حارثة بن سَعد بن مالك بن النَّخع‏:‏ إبراهيم بن يَزيد الفقيه والحجَّاج بن أَرطاة‏.‏
ومن بني وَهْبيلِ بن سَعد بن مالك بن النَخَع‏:‏ سِنان بن أَنَس الذي قَتل الحُسين بن علي وشريك بن عَبْد الله القاضي‏.‏
ومن بني صُهْبان بن سعد بن مالك بن النَخع‏:‏ كُميْل بن زِياد صاحب عليّ بن أبي طالب قَتله الحجّاج‏.‏
وفي النَّخع‏:‏ جُشم وبكر‏.‏
فمن بني جُشم‏:‏ العُرْيان بن الهَيْثم بن الأَسْود‏.‏
ومن بني بَكْر بن عَوْف بن النَّخع‏:‏ يزيد بن المكَفف وعَلْقمة بن قَيْس وأخوه أُبَيّ بن قَيْس قُتل مع عليّ بِصفّينْ وأخوهما يَزيد بن قَيْس وابنه الأسود بن يَزيد العابد‏.‏
ومن مَذْحج‏:‏ عَنَس بن مالك بن أُدَد‏.‏
فولد عَنَس سَعْدا الأكبر وسَعْدا الأصغر ومالكاً وعَمراً ومخامراً ومُعاوبة وعَريباً وعَتِيكاً وشِهَاباً والقِرِّيّة وياماً‏.‏
فمن بني مالك بن عَنَس الأسود بن كعب الذي تَنَبّأ باليَمن ومن بني يام ابن عَنَس‏:‏ عمّار بن ياسر صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
ومن بني سَعْد الأكبر‏:‏ الأسود بنِ كَعْب تبنّاه سعد الاكبر وكان كاهناً‏.‏
ومن أَشراف عَنَس‏:‏ عامر بن رَبيعة شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو حَليف لِقُريش‏.‏
ومن بُطون مَذْحج‏:‏ مُراد بن مالك بن مَذْحج بن أُدد ويُسمى يَحابر‏.‏
فمن بطون مُراد‏:‏ ناجية وزاهر وأَنْعَم‏.‏
فمن بني ناجية بن مُراد‏:‏ فَرْوة بن مُسْيك كان والياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نَجْران‏.‏
ومن بني زاهر بن مُراد‏:‏ قيس بن هُبيرة بن عبد يغوث ومنهم‏:‏ أُويس القُرَنيّ بن عمرو بن مالك بن عمْرو بن سَعْد بن عَمْرو بن عُصْوان بن قَرْن بن رُدْمان بن ناجية بن مُراد وهو الذي يُقال إنِّ النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه‏:‏ يدخل بشفاعته الجنة مثلُ رَبيعة ومُضرَ وكان من التابعين وقد أَتىَ عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه‏.‏
وفي ناحية بن مُراد‏:‏ بنو غُطَيف بن عَبد اللهّ بن ناجية ويُقال إنّهم من الأزْد‏.‏
ومنهم‏:‏ هانىء بن عُرْوة المَقتول مع مُسلم بن عَقِيل‏.‏
وفي ناجية بن مُراد‏:‏ بنو جَمَل بن كِنانة بن ناجية منهم‏:‏ هِنْد بن عَمْرو قَتله عبدُ الله بن اليَثْرَبي يوم الجمل وقال في ذلك‏:‏ إنِّي لمَن يَجْهلني ابن اليثربي قتَلْتُ عِلْباءَ وهِنْد الجَمَلي أوابناً لصَوْحانَ على دين عَلي ومن بني زَاهر بن مُراد‏:‏ قَيْس بن هُبَيرة بن عبد يغوث وهو قيس ابن مَكشَوح‏.‏
طيء هو طَيّء بن أُدد بن زَيد بن يَشْجُب بن عَريب بن زَيْد بن كَهْلان أخو مَذْحج ويُقال‏:‏ ابن مَذْحِج في رواية ابن الكَلْبي‏.‏
فَوَلد طيّء الغَوْثَ وفُطْرة والحارث‏.‏
فمن بُطون طيِّء‏:‏ جَدِيلة وهم بنو جُنْدب وبنو حُور وأمهما جديلة وبها يُعْرفون وهي جَدِيلة طيء فأما بنو حُور بن جَدِيلة فسُهْلِيّون ولَيْسوا من الجَبليين وأما بنو جُندب بن جَدِيلة فهم من الجَبليين وفيهم الشَّرف والعَدَد وفيهم الثَّعالب وهم بنو ثَعْلبة بن جَدْعاء بن ذهل بن رُومان بن جُنْدُب‏.‏
فمن بني ثعْلبة بن جَدْعاء‏:‏ المُعلّى بن تيْم بن ثَعْلبة بن جَدْعاء عليه نزل امرؤ القَيْس بن حُجْر الشاعر إذ قُتل أبوه حُجْر بنِ الحارث وقال في المُعلّى‏:‏ كأنِّي إذ نَزلتُ على المُعلَّى نزلتُ على البَواذخ من شَمَام فما مُلْك العِرَاق على المُعَلّى بمقْتَدَرِ ولا مُلْك الشآمَ أَقَر ّحَشا امرىء القَيْس بنِ حُجْر بنو تَيْم مَصابيحُ الظَّلام فسُمِّي بنو تيْم بن ثَعلبة مصابيحَ الظَّلام‏.‏
فمن ثَعْلبة بن جدْعاء‏:‏ الحُرّ بن مَشْجعة بن النًّعمان كان رئيس جَدِيلة يوم مُسَيْلمة الكَذَّاب‏.‏
ومنهم‏:‏ أَوْس بن حارثة بن لأم سيّد طيّء ومنهم‏:‏ حاتم بن عبد اللهّ الجَوَاد وابنه عديّ بن حاتم وَفَد علىٍ النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له وِسادةً وأجلسه عليها وجَلس هو على الأرض‏.‏
قال عديّ‏:‏ فما رِمْت حتى هَداني الله للإسلام وسَرّني ما رأيتُ من إكْرام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بني عَمْرو بن الغَوْث بن طَيء‏:‏ ثُقَل بطن ونَبْهان بَطْن وبَوْلان بَطْن وسَلامان بطن وهَنيِّ بطن‏.‏
فمن هَنِيّ إياسُ بن قَبِيصة وأبو زَبيد الشاعر واسمه حَرْملة بن المنذر‏.‏
ومن بني سَلاَمان‏:‏ بنو بُحْترُ بَطْن في طَيء‏.‏
ومن بني بُحتر‏:‏ مُعرِّض بن صالح اجتمعت عليه جَدِيلة والغَوْث‏.‏
ومن بني ثَعل‏:‏ عمرو بن المُسبِّح كان أرمى العرَب وإيّاه يَعْني امرؤ القَيس بقوله‏:‏ رُبَّ رام من بَني ثُعَل مخْرجٌ كَفَيه من قترَه وأدركً النبي عليه الصلاةُ والسلام وهو ابن خمس ومائة سنة فأسْلم‏.‏
ومن بني ثُعَل أيضاً‏:‏ أبو حَنْبل الذي يُعد في الأوفياء نزَل به امرؤ القَيْس ومَدَحه ومنهم‏:‏ زَيد الخَيْل وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم فسمّاه زيد الخَيْر وقال‏:‏ ما بلغني عن أحد إلا رأيتُه دون ما بَلغني إلا زَيدَ الخَيْل‏.‏
وفي طَيء‏:‏ سُدُوس وهي مَضمومة السِّين والتي في رَبيعة مفتوحة السّن‏.‏
هو الأشْعر بن أُدد أخو مَذْحج ويقال ابن مَذْحج في رِواية ابن الكَلْبي‏.‏
فَوَلد الأشْعر الجُماهِر والأرْغَم والأدْغم والأتْغَم وجُدَّة وعبد شمس وعبد الثُّريّا‏.‏
فمن بُطن الأشْعرِيين‏:‏ مُرَاطة وصنُامة وأسد وسَهْلة وعُكَابة والشَراعبة وعُسَامة والدَّعَالج ومن أشْراف الأشْعريّين‏:‏ أبو مُوسى الأشْعريّ عبد الله بن قَيس صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام ومنهم‏:‏ مالك بن عامر بن هانيء بن خِفَاف وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم وشَهِد القادسية وهو أول مَن عَبر دِجلة يومَ المَدائن وقال في ذلك‏:‏ امضُوا فإنّ البَحْر بَحرٌ مَأْمُور والأوّل القاطعُ منكم مَأجوُر قد خاب كِسْرى وأبوه سابُور ما تَصْنَعون والحديث مَأْثُور وابنه سَعْد بن مالك كان من أشراف أهل العراق ومنهم‏:‏ السائبُ بن مالك كان على شُرْطة المُختار وهو الذي قَوّى أمره ومنهم‏:‏ أبو مالك الأشْعري زَوّجه النبي عليه الصلاة والسلام إحْدى نساء بني هاشم وقال لها‏:‏ مارَضِيتِ أن زَوّجتُك رجلاً هو وقومُه خَير من طلعت عليهم الشمس‏.‏
وقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا بني هاشم زَوّجوا الأشْعريين وتَزوجوا إليهم فإنهم في الناس كصرّة المِسْك وكالأترج الذي إِن شَممته ظاهراً وجدتَه طيباً وإن اخْتبرت باطنَه وجدْتَه طَيباً‏.‏
فهؤلاء بنو أُدد وهم مَذْحج وطَيء والأشْعر بنو أُدد بن زَيد بن يَشْجُب ابن لخم هو مالك بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أدد‏.‏
فَوَلد لَخم جَزِيلة ونمارة ومنهما تفَرقت بُطون لَخْم‏.‏
فمن بني نُمارة‏:‏ بنو الدِّار وهو هانِيء بن حَبيب ابن نُمارة منهم‏:‏ تميم الداريّ صاحبُ النبي عليه الصلاةُ والسلام‏.‏
وفي نُمارة‏:‏ الأجْوَد وهم بنو مازن بن عَمرو بن زياد بن نُمارة رَهْط الطِّرِمَّاح بن حَكيم الشاعر‏.‏
ويقال‏:‏ إن الطّرمّاح من طَيّء‏.‏
ومنهم‏:‏ قَصِير بن سَعد صاحب جَذِيمة الأَبرش‏.‏
ومِن بي نُمارة‏:‏ مُلوك الحيرة الَّلخْمِيون رَهْط النُّعمان بن المُنْذر بن امرىء القَيس بن النعمان‏.‏
وفي جَزِيلة بن لَخْم بُطون كثيرة منهم‏:‏ إراش وَحُجْر ويشْكُر وأدب وخالفِة وهو راشِدة وغَنم وجَدِيس بطن عَظِيم‏.‏
وفي جَزِيلة بن لخم أيضاً‏:‏ العَمَرَّط وفيهم‏:‏ عِبَاد الحيريّ منهم‏:‏ رَهْط عَدِيّ بن زيد العباديّ ومنهم‏:‏ بنو مَنَارة وفيهم‏:‏ جَدَس بن إدريس بن جَزِيلة بن لَخْم ومنهم‏:‏ مالك بن ذُعْر بن حُجْر ابن جَزيلة بن لَخْم يقال‏:‏ إنه الذي استخرج يُوسف بن يَعقوب صَلوات الله وسلامُه عليه من الجُبّ‏.‏
جذام هو جُذَام بن عَدِيِّ بن الحارث بن مُرَّة بن أًدَد‏.‏
فَوَلدَ جُذَام حَرَاما وحِشْما منهما تفَرّقت جذام‏.‏
فمن بني حِشْم بن جُذام‏:‏ بنو عُتَيب بن أَسْلم بن خالد بن شَنوءة ابن تَدِيل بن حِشْم بن جُذَام وهم الذين يُنْسبون في بني شَيْبان‏.‏
وفي حَرَام ابن جُذام‏:‏ بنو غَطَفان وأفصى ابنا سَعْد بن إياس بن حَرَام وفيهما عَدد جُذام وشرفُها ويُقال إنّ غَطَفان بن سَعْد بن قَيْس بن عَيْلان هو هذا‏.‏
فمن بني أفصى بن سَعْد‏:‏ رَوْح بن زِنْباع وَزير عبد الملك بن مَرْوان وقَيْس بن زيد وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومن بني غَطَفان بن سَعْد‏:‏ عَنْبس ونضرْة وأُبَامة وعَبدة وحَرْب ورَيْث وعَبد اللهّ بُطون كلّهم‏.‏
فانتَسب رَيْث وعَبد الله في غَطفان بن قَيْس وغيرُهم في جُذَام‏.‏
عاملة هم بنو الحارث بن عَدِيّ بن الحارث بن مُرة بن أُدد بن زَيْد بن يَشْجُب ابن عَرِيب بن زَيْد بن كَهْلان بن سَبَأ‏.‏
ولد الحارث الزُّهد ومُعاوية وأمهما عاملة بنت مالك بن رَبيعة بن قُضاعة فنُسبا إلى أمهما‏.‏
ويُقال‏:‏ عاملة هو الحارث نفسهُ‏.‏
فمن بني مُعاوية بن عامِلة‏:‏ شَعْل وسَلَبة وعِجْل بُطون كلّهم ومن أشراف عالمة‏:‏ قَوّال بن عَمرو وشِهَاب بن بُرْهم وكان سَيّداً وهَمّام بن مَعْقل وكان شرَيفاً مع مَسْلمة بن عبد الملك ومنهم‏:‏ عَدِيّ بن الرِّقاع الشاعر ومنهم‏:‏ قُعَيْسيس الذي أسر عديّ بن حاتم الطائيّ فأخذه منه شُعَيب بن الرَّبيعِ الكَلْبي فاطْلقه بغير فِدَاء‏.‏
فهؤلاء بنو عَدِيّ بن الحارث بن مُرّة بن أُدد بن زَيْد بن يشْجُب بن عَرِيب بنِ زَيْد بن كَهلان بن سَبأ وهم لَخْم وجُذَام وعامِلة بنو عَدِيّ بن الحارث وكِنْدة بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث‏.‏
خولان هو خَوْلان بنِ عَمْرو بن يَعْفُر بن مالك بنِ الحارث بن مُرّة بن أُدَد فَولد خَوْلان حَبِيباً وعَمْراً والأصْهب وقَيْسا ونَبْتاً وبَكْراً وسَعْداً‏.‏
منهم‏:‏ أبو مُسْلم عبد الرحمن بن مِشْكم الفقيه‏.‏
جرهم هو من القبائل القَدِيمة وهو جُرْهم بن يَقْطَن بن عابَر وعند عابر تَجْتمعُ يمن ومُضر لأنّ مُضر كلها بنو فالَغ بن عابَر واليمَن كلها بنو قَحْطان بن عابر‏.‏
حضرموت هو ابن عَمْرو بن قيس بن مُعاوية بن جُشم بن عَبْد شَمْس بن وائل بن الغَوْث بن حَيْدان بن قُصيَّ بن عَرِيب بن زُهير بن أيمن بن الهَمَيْسِع بن حِميْر‏.‏
منهم‏:‏ ذو مَرْحب وذو نَحْو ومنهم‏:‏ قول الشعوبية وهم أهل التسوية ومن حُجّة الشُعوبية على العَرَب أن قالت‏:‏ إنا ذَهبنا إلى العَدْل والتّسوية وإلى أنّ الناس كلَّهم من طِينة واحدة وسُلالة رَجُل واحد واحتججنا بقول النبي عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ المُؤمنون إخْوة تَتكافأ دِماؤُهم وَيسْعَى بذمتهم أدناهمِ وهمُ يد على مَن سواهم‏.‏
وقوله في حِجة الوَداعِ - وهي خُطبته التي ودع فيها أمته وختم بها نُبوته‏:‏ أيها الناس إنّ اللهّ أذهب عنكم نخْوة الجاهليّة وفَخْرها بالآباء كلّكم لآدم وآدم من تُراب ليس لعربيّ على عَجَمي فَضْل إلا بالتَّقْوى‏.‏
وهذا القولُ من النبي عليه الصلاةُ والسلام مُوافق لقَوْل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنّ أكرمَكم عِنْد الله أتقاكم ‏"‏‏.‏
فأبَيتمِ إلا فَخْراً وقُلتم لا تُساوينا العَجمُ وإن تَقدَّمتْنا إلى الإسلام ثم صَلّت حتى تصِير كأحناء وصَامت حتى تصير كأوتار ونَحن نُسامحكم ونُجيبكم إلى الفَخْر بالآباء الذي نَهاكم عنه نَبينا و نبيّكم صلى الله عليه وسلم إذ أبيتم إلا خِلاَفه وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حَديثه وما أمر به صلى الله عليه وسلم فنرُد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول‏:‏ أخْبرونا إن قالت لكم العجم‏:‏ هل تَعدون الفخر كلّه أن يكون مُلْكاً أو نُبُوة فإن زعمتم أنه مُلك قالت لكم‏:‏ فإن لنا مَلوكَ الأرض كلهم من الفَراعنة والنَّماردة والعَمالقة والأكاسرة والقَياصرة وهل يَنْبغي لأحد أن يكون له مِثْل ملْك سُليمان الذي سُخرت له إلإنْس والجْنْ والطًير والريح وإنما هو رَجل منَا أم‏.‏
هل كان لأحد مثلُ مُلك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبَلغَ مَطْلع الشَمس ومَغْربها وبَنىَ ردْماً من حَدِيد ساوَى به بين الصَدَفين وسَجَن وراءَه خَلْقاً من الناس ترْبِي على خَلْق الأرض كلها كثر ة‏.‏
يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ حتّى إذا فُتِحَت يَأْجُوج ومَأْجُوج وهُمْ مِن كلّ حَدَب يَنْسِلون ‏"‏‏.‏
فليس شيء أَدلَّ على كثر عَدَدهم من هذا وليس لأحد من وَلد آدم مثلُ آثاره في الأرض ولو لم يكن له إلا مَنارة الإسكندرية التي أسهها في قَعْر البَحر وجعَل في رَأْسها مِرآة يَظْهر البحر كله في زُجاجتها لكَفي وكيف ومنّا مًلوك الهِنْد الذين كتب أحدهم إلى عُمر بن عَبد العزيز‏:‏ من مَلك الأمْلاك الذي هو ابن ألف مَلك والذي تَحته بِنْت ألف مَلك والذي في مَرْبطه ألف فِيل والذي له نَهرْان يُنْبِتان العُود والفُوه والْجَوْز والكافور والذي يُوجد رِيحه علي اثنى عَشر ميلاً إلى ملك العرَب الذي لايشرْك باللّه شيئاً‏.‏
أما بعد فإني أردتُ ان تَبْعث إلي رجلاً يُعَلِّمني الإسلام ويُوقّفني على حُدوده والسلام‏.‏
وإن زَعَمْتم أنه لا يكون الفَخْر إلا بنُبوّة فإنِّ منّا الأنبياء والمُرْسلين قاطبةً من لدن آدم ماخَلا أربعة‏:‏ هُوداً وصَالحاً وإسماعيل ومُحمداً ومنا المُصْطَفَون من العالمين‏:‏ آدم ونُوح وهما العُنْصران اللّذان تَفرَّع منهما البَشر فنحن الأصل وأنتم الفَرْع وإنما أنتم غصْن من أغصاننا فقُولوا بعد هذا ما شِئْتم وادّعوا ولم تَزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شَقّ من الأرض ملُوك تَجْمعها ومدائن تَضمّها وأحكام تَدِين بها وفَلْسفة تُنْتجها وبَدائع تَفْتقها في الأدوات والصّناعات مثل صَنْعة الدّيباج وهي أبْدع صَنعة ولَعب الشَطرنج وهي أشْرف لِعْبة ورُمّانة القَبْان التي يوزن بها رِطْل واحد ومائة رِطْل ومثلُ فَلْسفة الرُّوم في ذات الخالق والقَانون والأْسْطرلاب الذي يُعدّل به النّجوم ويُدْرك به عِلْم الأبْعاد ودوَران الأفْلاك وعلم الكُسوف‏.‏
ولم يكن للعرب مَلِك يَجْمع سَوادَها ويَضُم قواصِيَها ويقْمع ظالمَها وينْهي سَفِيهها ولا كان لها قَطُّ نَتِيجة في صِناعة ولا أثر في فَلْسفة إلا ما كان من الشّعر وقد شاركَتْها فيه العَجم وذلك أن للرّوم أشْعاراً عجيبة قائمة الوَزْن والعَرُوض‏.‏
فما الذي تَفْخر به العَرب على العجم وإنما هي كالذّئاب العادية والوُحوش النَّافرة يَأْكل بعضُها بعضاً ويُغير بعضها على بَعْض فرجالُها مَوْثوقون في حَلَق الأسْر ونساؤها سَبايا مُرْدَفات على حَقائب الإبلِ فإذا أدركهنَّ الصَّريخ فاستُنْقِذن بالعشيّ وقد وُطِئْن كما تُوطأ الطَّريقُ المَهيْع فَخر بذلك الشاعر فقال‏:‏ وأَلْحق رَكْب المُرْدفات عَشِيّة فقيل له‏:‏ وَيْحك وأي فَخْر لك في أن تَلْحقهن بالعشى وقد نُكِحْن وامْتُهِنَ‏.‏
وبَرحْرحان غَداة كُبِّل مَعْبدُ نُكِحت نِساؤُكم بغير مُهُورِ وقال عَنترة لامرأته‏:‏ إنَّ الرِّجال لهم إليكِ وَسيلةٌ إِنْ يَأخذُوك تَكحًلي وتَخضَّبِي وأنا امرؤ إن يَأخذُوني عَنْوَةً اَقْرَنْ إلى سَيْر الرِّكاب وأجْنَب ويكونُ مَرْكبَك القَعود ورحلُه وابن النَّعامة عند ذلك مَرْكبي أراد بابن النعامة‏:‏ باطنَ القَدم‏.‏
وسَبى ابن هَبُولة الغَسَّاني آمرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة وقد كان نالَ منها فقال لها‏:‏ هل كان أصابَك قالت‏:‏ نعم واللّه فما اشتملت النِّساء على مِثْله فأوْثقَها بين فَرَسين ثم استَحْضَرَهما حيث قَطّعاها وقال في ذلك‏:‏ كل أنْثى وإنْ بدَالك مِنها آيةُ الوُدِّ عَهدُها خَيْتَعورُ إنَّ مَن غَره النساءُ بوُد بعد هِنْد لجاهلٌ مَغْرور وسَبَت بنو سًليم رَيحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب فقال فيها عمرو‏:‏ أمن رَيْحانة الدَاعِي السَّمِيعُ يُؤرِّقني وأصْحابي هُجُوعُ وفيها يقول‏:‏ وأغار الحَوْفزان على بَنِي سَعْد بن زَيْد مَناة فاحتمل الزرْقاءَ من بَني ربيع بن الحارث فأعْجبته وأعجبها فوَقع بها ثم لَحقه قَيْس بن عاصم فاستَنْقَذها ورَدّها إلى أهلها بعد أن وُقِع بها‏.‏
فهذا كان شأنُ العَرَب والعَجم في جَاهليتها فلما أتى الّله بالإسلام كان للعجم شَطْر الإسلام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الأحْمر والأسْود من بني آدم وكان أوَل من تَبعه حُرّ وعَبْد واختلف الناس فيهما فقال‏:‏ قَوم‏:‏ أبو بَكْر وبلال وقال قوم‏:‏ عليّ وصُهَيب‏.‏
ولما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَدّم صُهَيبَاً على المهاجرين والأنصار فصلّى بالناس وقيل له‏:‏ استخلف فقال‏:‏ ما أجد من أَسْتخلف فذُكر له السّتة من أهل حِراء فكُلّهم طَعن عليه ثم قال‏:‏ لو أَدركت سالماً مولى أبي حُذيفة حيّاً لما شَكَكْت فيه فقال في ذلك شاعر العرب‏:‏ هذا صُهَيب أمّ كُلَ مُهاجر وعَلاَ جَميعَ قبائل الأنْصار لم يَرْضَ مِنهم واحداً لصَلاتنا وهمٍ الهُداة وَقادةُ الأخْبار هذا ولو كان المُثَرّم سالمٌ حيّا لنَال خِلافة الأمْصار ما بال هذي العُجْم تَحْيا دوننا إن الغَوِيّ لَفي عَمًى وخَسَار وقال بُجير يُعيِّر العرب باختلافها في النَّسب واستلْحاقها للأدْعياء‏:‏ زَعمتم بأنِّ الهِنْد اولاد خِنْدفٍ وبينكم قُرْبى وبين البرابرِ فقد صَار كلُّ الناس أولادَ واحد وصاروا سواءً في أصول العنَاصر بنو الأصْفر الامْلاك أكرمُ مِنكمٍ وأولى بقُرْبانا مُلوك الأكاسِر أتُطْمِع بي صِهْراً دَعيّاً مُجاهراً ولم تَر سِتْراً من دَعيّ مُجاهر وَتَشتم لُؤما رَفطَه وقَبيله وتَمْدَح جهلاً طاهِراً وابن طاهر وقد ذكرتُ هذا الشعر تامّاً في كِتاب النِّساء والأدْعياء والنُّجباء‏.‏
وقال الحسن بن هانيء على مَذهب الشعوبية‏:‏ وجاورت قوماً ليس بَيْني وبَيْنهم أَوَاصرُ إلا دَعْوةٌ وظُنونُ إذا ما دَعا باسمي العريفُ أجبتُه إلى دَعْوة ممّا عليَّ تَهُون لأزْد عُمَان بالمُهلّب نَزْوةٌ إذا افتخر الأقوامُ ثُمَّ تَلِين وبَكْرٌ تَرى أن النُبوة أنْزِلت على مِسْمَع في البَطْن وهو جَنِين وقالت تَمِيم لا نَرى أن واحداً كأحْنَفِنا حتى المماتِ يَكُون فلا لًمْتُ قَيْساً بعدها في قُتيبة إذا افتخروا إنّ الفَخار فُنون رد ابن قتيبة على الشعوبية قال ابن قتيبة في كتاب تَفْضِيل العرب‏:‏ وأما أهلُ التّسْوية فإنَّ منهم قوّماً أخذوا ظاهر بَعْض الكِتاب والحديث فَقَضَوا به ولم يُفتشوا عن مَعناه فَذَهبوا إلى قَوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ إنَّ أكْرَمَكم عِنْد الله أتقاكم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إنّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ فأصْلِحُوا بَين أخَويكم ‏"‏ وإلى قول النبي عليه الصلاةُ والسلامُ في خُطبته في حِجّة الوَداع‏:‏ أيها الناس إنَّ الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهليّة وتَفَاخرها بالآباء ليس لِعرَبيّ على عَجميّ فَخْر إلا بالتَّقوى كُلّكم لآدمَ وآدمُ من تُراب‏.‏
وقوله‏:‏ المُؤمنون تَتَكافأ دِماؤُهم ويَسْعى بذِمّتهم أدناهم وهم يدٌ على من سِوَاهم وإنما المَعنى في هذا أنَ الناس كلَّهم مِن المؤمنين سَواء في طريقِ الأحكام والمنزلةِ عند الله عزّ وجلّ والدَّار الآخرة ولَو كان النِّاس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فَضْل إلا بأمر الآخرة لم يكن في الدُنيا شر يف ولا مَشْروف ولا فاضِل ولا مَفْضول‏.‏
فما مَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا أتاكم كريمُ قَوْم فأكْرِموه وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقيلوا ذَوِي الهيئات عَثَراتهم وقوله صلى الله عليه وسلم في قَيْس بن عاصم‏:‏ هذا سيّد الوَبَر‏.‏
وكانت العرِب تقول‏:‏ لا يَزال الناسُ بخير ما تَباينوا فإذا تَساوَوْا هَلَكوا‏.‏
وتقول‏:‏ لا يَزالون بخيْر ما كان فيهم أشْراف وأخْيار فإذا جُمّلوا كلهم جملة واحدة هَلَكوا‏.‏
وإذا ذَمَّت العربُ قوماً قالوا‏:‏ سَواسية كأسْنان الحِمار‏.‏
وكَيف يَستوي الناسُ في فَضَائلهم والرجلُ الواحد لا تَسْتوي في نَفسه أعضاؤه ولا تَتكافأ مَفاصِله ولكنْ لبعضها الفضلُ على بعض وللرأس الفضل على جميع البَدَن بالعَقْل والحواس الخمس‏.‏
وقالوا‏:‏ القلبُ أمير الجَسَد ومن الأعضاء خادمُه ومنها مَخْدومه‏.‏
قال ابن قُتيبة‏:‏ ومن أعظم ما ادّعت الشّعوبية فَخْرُهم على العَرب بآدم عليه السلام وبقول النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا تفُضلوني عليه فإنما أنا حَسنة من حَسناته ثم فَخْرُهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العَجم غيرَ أربعة‏:‏ هُود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام واحتجّوا بقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ إنَّ الله اصطفي آدم ونُوحاً وآل إبْراهيمَ وآلَ عِمْران على العَاَلمين‏.‏
ذُرّيَةً بَعضُها مِنْ بَعْض واللّهُ سَمِيعٌ عَليم ‏"‏‏.‏
ثم فَخَروا بإسحاق بن إبراهيم وأنه لِسَارة وأن إسماعيل لأمَة تُسمَى هاجَر‏.‏
وقال شاعرهم‏:‏ في بَلدة لم تَصل عُكْلٌ بها طُنُباً ولا خِبَاء ولا عَكّ وهمْدانُ ولا لجَرِم ولا بَهراء من وَطَن لكنّها لِبَني الأحرار أوطان أرضٌ يُبني بها كِسْرى مسَاكِنَه فما بها من بَني اللَّخْناء إِنْسان فَبنو الأحرار عندهم العَجم وبنو اللخناء عندهم العَرب لأنهم من وَلد هاجَر وهي أمة‏.‏
وقد غَلطوا في هذا التأويل وليس كل أمة يقال لها اللخناء إنما اللخناء من الإماء المُمْتَهنة في رَعْي الإبل وسَقْيها وجمع الحَطب‏.‏
وإنما أخذ من اللَّخَن وهو نَتن الرِّيح يُقال‏:‏ لَخنُ السقاء إذا تَغيّر ريحُه‏.‏
فأما مِثْلُ التي طَهّرها الله من كل دَنس وارتضاها للخليل فِرَاشا وللطِّيبَينْ إسماعيل ومحمدٍ أمّاً وجَعلهما لها سُلالة فهل يجوز لِمُلحد فضلاً عن مُسلم أن يُسمِّيها لَخْناء‏.‏
رد الشعوبية على ابن قتيبة قال بعضُ مَن يَرى رَأْيَ الشعوبية فيما يَرُد به على ابن قتيبة في تَبايُنِ الناس وتفاضلهم والسّيد منهم والمَسود‏:‏ إننا نحن لا نُنكر تَباين الناس ولا تَفاضلهم ولا السيد منهم ولا المسود ولا الشَّريف ولا المَشرْوف ولكنا نزْعم أن تَفاضل الناس فيما بَينهم ليس بآبائهم ولا بأحْسابهم ولكنه بأفْعالهم وأخلاقهم وشرَف أنْفسهم وبُعْد هِمَمهم ألا تَرى أنّه من كان دنيء الهمَّة ساقِطَ المرُوءة لم يَشْرُف وإنْ كان مِن بني هاشم في ذُؤَابتها ومن أمية في أرُومتها ومن قَيْس في أشْرف بَطْن منها إنَّما الكَرِيم مَن كَرُمت أفعالُه والشَّريف مَن شَرُفت همَّته وهو مَعْنى حديثِ النبيّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ إذا أتاكم كَرِيمُ قَوْم فأكْرموه وقوله في قيس بن عاصم‏:‏ هذا سيّد أهْل الوَبَر‏.‏
إنما قال فيه هذا لسُؤدَده في قَوْمه بالذبّ عن حَرِيمهم وَبَذْلِه رِفْدهُ لهم ألا تَرى أن عامر بن الطُّفيل وكان في أشْرف بَطْن في قيس يقول‏:‏ فما سَوَّدتني عامرٌ عن وراثةٍ أبىَ الله أنْ أسْمُو بأمِّ ولا أب ولكنّني أحمي حِمَاها وَأتَّقي أَذاها وأرمي مَن رَماها بِمنْكب وقال آخر‏:‏ إِنّا وإنّ كرُمت أوائلنا لَسْنَا على الأحْسَاب نَتَّكِلُ نبْني كما كانت أوائلُنا تَبْني ونَفْعل مثلَ مافَعَلُوا وقال قَيْس بن ساعدة‏:‏ لأقْضين بين العَرب بقضيَّة لم يَقْض بها أحدٌ قَبلي ولاَ يردّها أحدٌ بعدي أيُّما رجلٍ رَمَى رجلاً بِمَلأمة دُونها كَرم فلا لُؤم عليه وأيّما رجل أدّعي كَرماً دونه لُؤم فلا كرم له‏.‏
ومثله قولُ عائشة أم المؤمنين‏:‏ كُل كَرم دُونه لُؤم فاللُّؤم أولى به وكُل لُؤم دونه كرم فالكرمُ أوْلى به تَعني بقولها‏:‏ أن أوْلى الأشياء بالإنسان طَبائعُ نَفْسه وخِصالُها فإذا كَرُمت فلا يَضُرُّه لؤم أوَّليته وإذا لَؤُمت فلا يَنْفعه كرم أوليَّته‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ نَفس عِصَامٍ سوَّدت عِصَامَا وعَلَّمته الكرَّ والإقْدَامَا وصَيَّرتْه مَلِكاً هُمامَا وقال آخر‏:‏ ما ليَ عَقْلي وهِمَّتي حَسَبي ما أنا مَوْلًى ولا أنا عرَبي وتكلَّم رجلٌ عندي عبد الملك بن مَرْوان بكلام ذَهب فيه كل مَذْهب فأعجب عبدَ الملك ما سمع منه فقال‏:‏ ابن مَن أنت يا غلام قال‏:‏ ابن نَفْسي يا أميرَ المؤمنين التي نِلت بها هذا المَقعد منك قال‏:‏ صدقتَ‏.‏
وقال النبي عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ حَسَب الرجل مالُه وكَرمُه دِينه‏.‏
وقال عُمر بن الخطَّاب‏:‏ إن كان لك مالٌ فلك حَسَب وإِن كان لك دِين فلك كَرَم‏.‏
وما رأيتُ أعجبَ من ابن قُتيبة في كتاب تَفْضِيل العَرِب إنه ذَهب فيه كُلّ مَذهب من فَضائل العرب ثم ختم كتابه بمَذْهب الشُّعوبية فنقَض في آخره كل ما بَنى في أوًله فقال آخر كلامه‏:‏ وأعدلُ القول عندي إنَّ الناس كلّهم لأب وأمّ خُلِقوا من تُراب وأعيدوا إلى التراب وجَرَوْا في مَجْرى البَوْل وطُوُوا على الأقْذاء فهذا نَسبهُم الأعلى الذي يُردْع به أهلُ العُقول عن التّعظم والكِبْرياء والفَخر بالآباء ثم إلى الله مَرْجعهم فَتَنْقطع الأنساب وتَبْطًل الأحْساب إلاّ من كان حَسبُه التَّقوى أو كانت ماتّتة طاعةَ الله قالت الشُعوبية‏:‏ إنما كانت العَرب في الجاهليَّة يَنْكح بعضُهم نِساء بعض في غاراتهم بلا عَقْدِ نكاح ولا اسْتِبراء من طَمْث فكيف يَدْري أحدُهم مَن أَبوه وقد فَخَر الفرزدقُ ببني ضبَّة وأنهم يَبتزُّون العِيال في حُروبهم في سَبيَّة سَبَوْها من بني عامر بن صَعْصعة‏:‏ فَظَلّت وظلُّوا يَرْكبون هَبِيرَها وليس لهم إلاَّ عوالِيهم سِتْرُ والهَبِير‏:‏ المُطمئن من الأرض وإنما أرادها هنا فَرْجها وهو القائل في بَعْض ما يَفْخر به‏:‏



باب المتعصبين للعرب
قال أصحابُ العصبيَّة من العَرب‏:‏ لو لم يكن منّا على الموْلَى عَتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكُفر وإخراجنا له من دار الشّرك إلى دار الإيمان كما في الأثر‏:‏ إنَّ قَوْماً يُقادون إلى حُظوظهم بالسَّوَاجير‏.‏
وكما قالوا‏:‏ عَجِب ربُّنا مِن قَوم يقادون إلى الجنَة في السلاسل‏.‏
يريد إخراجهم من أرض الشرك إلى أرض الإسلام لَكَفي‏.‏
على أنَّا تَعَرَّضنا للقَتْل فيهم‏.‏
فمن أعْظَم عليك نعمةً مِمَّن قَتل نفسَه لحياتك فاللّهُ أمرنا بقتالكم وفرض علينا جِهادَكم ورَغَّبنا في مُكاتبتكم‏.‏
وقدَّم نافعُ بن جُبير بن مطْعِم رجلاً من أهل الموالي يُصلِّي به فقالوا له في ذلك فقال‏:‏ إنَّما أردتُ أن أتواضع لله بالصَّلاة خلفَه‏.‏
وكان نافعُ بن جُبير هذا إذا مَرَّت به جِنازة قال‏:‏ من هذا فإِذا قالوا‏:‏ قُرشي قال‏:‏ واقَوْماه‏!‏ وإذا قالوا‏:‏ عربيّ قال‏:‏ وابلدَتاه‏!‏ وإذا قالوا‏:‏ مَوْلى قال‏:‏ هو مالُ الله يَأخذ ما شاء ويَدَع ما شاء‏.‏
قال‏:‏ وكانوا يَقُولون‏:‏ لا يَقْطع الصلاةَ إلا ثلاثة‏:‏ حِمار أو كَلب أو مَوْلى‏.‏
وكانوا لا يَكْنُونهم بالكُنَى ولا يَدْعُونهم إلا بالأسماء والألْقاب ولا يَمْشون في الصَّف معهم ولا يُقَدِّمونهم في المَوْكب وإن حَضَروا طَعاماً قاموا على رؤوسهم وإن أطْعموا المولَى لسنّه وفَضله وعِلْمه أَجْلسوه في طَرف الخِوَان لئلا يَخفي على الناظر أنه ليس من العَرب ولا يدعونهم يُصلّون على الجَنائز إذا حَضر أحد من العرب وإن كان الذي يَحُضر غَرِيراً‏.‏
وكان الخاطب لا يَخطب المرأَةَ منهم إلى أَبيها ولا إلى أخيها وإنما يَخْطُبها إلى مَواليها فإن رَضيَ زُوِّج وإلا رُدَّ فإنْ زَوّج الأب والأخ بغير رَأي مَواليه فُسخ النِّكاح وإن كان قد دَخل بها وكان سِفاحاً غيرَ نِكاح‏.‏
وقال زِياد‏:‏ دعا مُعاوِية الأحْنف بن قَيْس وسَمُرة بن جُنْدب فقال‏:‏ إنِّي رأيتُ هذه الحَمْراء قد كَثُرت وأَراها قد طعنت على السَّلف وكأني أنظر إلى وَثْبة منهم على العَرب والسُّلطان فقد رأيتُ أن أقتل شَطْراً وأدع شَطْراً لإقامة السُّوق وعِمَارة الطريق فما تَرَوْن فقال الأحنف‏:‏ أَرى أنَّ نَفْسي لا تَطِيب يُقْتل أخِي لأمي وخالي وَمَوْلاي‏!‏ وقد شارَكْناهم وشاركونا في النّسب فظننتُ أنِّي قد قُتلتُ عنهم وأطرق‏.‏
فقال سَمُرة بن جُنْدب‏:‏ أجعلها إلي أيها الأمير فأنا أتولّى ذلك منهم وأبْلُغ إلى ما تريد منه‏.‏
فقال‏:‏ قوموا حتى أنْظر في هذا الأمر‏.‏
قال الأحْنف‏:‏ فَقُمْنا عنه وأنا خائفٌ وأتيت أهْلي حَزِيناً‏.‏
فلما كان بالغَداة أرسل إليَّ فعلمتُ أنه أخذ برَأيي وتَركَ رَأي سَمُرة‏.‏
ورُوي أنَّ عامرَ بن عبد القَيْس في نُسْكه وزُهده وتَقشُّفه وإخباته وعبادته كَلَّمه حُمْران مولى عثمان بن عَفّان عند عبد الله بن عامر صاحب العِراق في تَشْنِيع عامر على عثمان وطَعْنه عليه فأَنكر ذلك فقال له حُمْران‏:‏ لا كَثَّر الله فينا مِثلَك فقال له عامر‏:‏ بل كَثَّر الله فينا مثلك فَقِيل له أَيدعو عليك وتَدعو له قال‏:‏ نعم يَكْسَحون طُرَقنا ويَخْرِزون خِفافنا ويَحُوكون ثِيابنا‏.‏
فاستوى ابن عامر جالساً وكان مُتّكئاً فقال‏:‏ ما كنتُ أظنُّك تَعْرِف هذا البابَ لِفَضْلك وزَهادَتك فقال‏:‏ ليس كلُّ ما ظننتَ أنّي لا أعرفُه لا أَعرفه‏.‏
وقالوا‏:‏ إنّ خالد بن عبد الله بن خالد بن أَسِيد لما وجّه أخاه عبدَ العزيز إلى قتال الأزارقة هَزموه وقَتلوا صاحَبه مُقاتِلَ بنَ مِسْمعٍ وسَبَوُا امرأته أُمِ حَفْص بنت المنذر بن الجارود العَبْدي فأقاموها في السّوق حاسرَةً بادية المحاسن غَالَوْا فيها وكانت من أَكمَل الناس كمالاً وَحُسْناً فتَزَايدت فيها العَرب والمَوالى وكانت العَرب تَزيد فيها على العَصبيَّة والموالى تزيد فيها على الوَلاء حتى بَلّغتها العربُ عِشرين ألفاً ثم تزايدوا فيها حتى بَلَّغوها تسعين ألفاً فأقبل رجلٌ من الخوارج من عبد القَيْس من خَلْفها بالسيفِ فضرَب عُنقها فأخذوه ورَفَعوه إلى قَطريّ بن الفُجاءة فقالوا‏:‏ يا أمير المُؤمنين إن هذا استهلك تَسْعين ألفاً من بَيْت المال وقَتل أَمَة من إماء المؤمنين فقال له‏:‏ ما تقول قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني رأيتُ هؤلاء الإسماعيلية والإسحاقية‏.‏
قد تنازعوا عليها حتى ارتفعت الأصوات وِاحمرّت الحَدق فلم يَبْق إلاّ الخَبْط بالسّيوف فرأيتُ أَنَّ تسعينَ أَلفاً في جَنب ما خشِيت من الفِتنة بين المسلمين هَيّنة‏.‏
فقال قطريّ‏:‏ خَلُّوا عنه عَينْ من عُيون الله أصابتها‏.‏
قالوا‏:‏ فأَقِدْ منه قال‏:‏ لا أُقيد من وَزَعَة الله ثم قَدِم هذا العَبْديّ بعد ذلك البَصرةَ وأتى المُنذَر بن الجارود قال أبو عُبيدة‏:‏ مَرّ عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النَّحو فقال‏:‏ لئن أصلحتموه إنَّكم لأولُ مَنْ أفسده‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ ليته سَمِع لحن صَفْوان وحاقان ومُؤمّل بن خاقان‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ قَدِمَ أبو مَهْدِيَّة الأعرابي من البادية فقال له رجل‏:‏ أبا مَهْدِية أتَتَوضأون بالبادية قال‏:‏ والله يا بن أخي لقد كُنّا نتوضأ فيكفينا التَّوضُّؤ الواحد الثلاثة الأيام والأربعة حتى دخلت علينا هذه الحمراء يعني المَوَالي فَجَعَلت تًلِيق أَستاهها بالماء كما تُلاق الدَّوَاة‏.‏
ونظرَ رجلٌ من الأعراب إلى رجل من الموالي يَسْتَنْجي بماء كثير فقال له‏:‏ إلى كَم تَغْسِلها ويلك‏!‏ أَتُريد أن تَشْرَب بها سَوِيقاً وكان عَقِيل بن عُلَّفة المريَّ أشدَّ الناس حَمِيَّة في العرب وكان ساكناً في البادية وكان يصْهِر إليه الخلفاء‏.‏
وقال لعبد الملك بن مَرْوَان إذ خطب إليه ابنته الجَرْباء‏:‏ جَنِّبْني هُجْناء وَلدك‏.‏
وهو القائل‏:‏ كُنَّا بني غَيْظٍ رجالاً فأَصْبَحت بنو مالك غَيْظاً وصِرْنا لمالك لحَى اللَهُ دهراً ذَعْذَعَ المال كُلَّه وسوَّدَ أَشْباه الإماء العَوَارك وقال ابن أبي لَيلى‏:‏ قال لي عيسى بنُ موسى وكان جائراً شديد العَصَبيّة‏.‏
مَن كان فَقيه البَصْرة قلتُ‏:‏ الحسنُ بن أبي الحسن قال‏:‏ ثمّ مَن قلت‏:‏ محمد بن سيرين قال‏:‏ فما هما قلت‏:‏ مَوْليان قال‏:‏ فمَن كان فقيه مكة قلت‏:‏ عَطاء بن أبي رَباح ومُجاهد بن جَبْر وسَعِيد بن جُبير وسُليمان بن يسار قال‏:‏ فما هؤلاء قلتُ‏:‏ موإلى قال‏:‏ فمن فقهاء المدينة قلت‏:‏ زَيْد بن أَسْلم ومحمد ابن المُنكدر ونافع بن أبي نَجيح قال‏:‏ فما هؤلاء قلت‏:‏ مَوالى‏.‏
فتغيّر لونه ثم قال‏:‏ فمن أفقه أهل قُباء قلتُ‏:‏ رَبيعة الرأي وابن الزّناد قال‏:‏ فما كانا قلت‏:‏ من الموالي‏.‏
فاربدّ وجهه ثم قال‏:‏ فمَن كان فقيه اليمن قلت‏:‏ طاووس وابنه وهَمّام بن مُنبّه قال‏:‏ فما هؤلاء قلت‏:‏ من الموالي‏.‏
فانتفخت أوداجُه وانتصب قاعداً ثم قال‏:‏ فمن كان فقيه خُراسان قلت‏:‏ عطاء بن عبد الله الخُرِاساني قال‏:‏ فما كان عطاء هذا قلت‏:‏ مَولى‏.‏
فازداد وجهُه تربّداً واسودّ اسوداداً حتى خِفْته ثم قال‏:‏ فمَن كان فقيه الشام قلت‏:‏ مَكْحول قال‏:‏ فما كان مكحول هذا قلت‏:‏ مولى‏.‏
فازداد تغيظاً وحَنقاً ثم قال‏:‏ فمَن كان فقيه الجزيرة قلت‏:‏ ميمون بن مِهْران قال فما كان قلت‏:‏ مولى‏.‏
قال‏:‏ فتنفَّس الصُّعداء ثم قال‏:‏ فمَن كان فقيه الكوفة قال‏:‏ فواللّه لولا خوفه لقلت‏:‏ الحَكم بن عُيَينة وَعمَّار بن أبي سليمان ولكن رأيتُ فيه الشرَّ فقلت‏:‏ إبراهيم والشَّعبي قال‏:‏ فما كانا قلتُ عَربيَّان قال‏:‏ الله أكبر وسكَن جأشه‏.‏
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب المَوالي والعرب‏:‏ أن الحجَّاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبدُ الله بن الجارود ولَقي ما لقي من قُرَى أهل العراق وكان أكثر مَن قاتله وخَلعه وخرج عليه الفُقهاء والمُقاتلة والمَوالى من أهل البصرة فلمّا عَلِم أنهم الجمهور الأكبر والسَّواد الأعْظم أَحَبَّ أَنْ يُسْقِط ديوانَهم ويفرَّق جماعتهم حتى لا يتألَّفوا ولا يَتعاقدوا فأقبل على الموالي وقال أنتم عُلوج وعَجم وقُراكم أَوْلى بكم ففرَّقهم وفَضَّ جَمْعهم كيف أَحَبَّ وسَيَّرهم كيف شاء ونَقش على يد كلِّ رجل منهم اسمَ البَلْدة التي وَجَّهه إليها وكانَ الذي تولًى ذلك منهم رجلٌ من بني سَعْد بن عِجْل بن لُجَيم يقال له خِرَاش بن جابر‏.‏
وقال شاعرهمِ‏:‏ وأَنْت مَنْ نَقَش العِجْليُّ رَاحتَه فَرَّ شيخًك حتى عاد بالحَكَم يُريد الحَكم بن أيوب الثَّقَفي عامل الحجَّاج على البَصرة‏.‏
وقال آخر وهو يعني أهل الكوفة وقد كان قاضيَهم رجلٌ من الموالي يقال له نوح بن دَرَّاج‏:‏ إنّ القيامة فيما أَحسب اقتربتْ إذ كان قاضِيَكُمْ نوحُ بن دَرَّاج لو كان حيّا له الحجّاج مابَقِيَتْ صحيحةً كفُّه من نَقْش حَجَّاج وقال آخر‏:‏ جاريةٌ لم تَدْرِ ما سَوْقُ الإبل أخْرَجَها الحجَّاجُ من كِنّ وظلّ لو كان شاهداً حذَيف وَحَمَل ما نُقِشَتْ كَفّاك من غير جَدَلْ ويرْوَى أنِّ أعرابياً من بني العَنْبر دخل علىِ سَوَّار القاضيِ فقال‏:‏ إنّ أبي مات وتركني وأخاً لي وخَطَّ خَطَّيْن ثم قال‏:‏ وهَجِيناً ثم خط خَطّاً ناحية فكيف يُقَسم المال فقال له سوَّار‏:‏ ها هنا وارثٌ غيركم قال‏:‏ لا قال‏:‏ فالمالُ أثلاثاً قال‏:‏ ما أَحْسَبُك فهمت عنّي إنه تَرَكني وأخي وَهجيناً فكيْف يأخذ الهجينُ كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي قال‏:‏ أجَل فغضب الإعرابيِّ ثم أقبل على سَوّار فقال‏:‏ واللّه لقد علمت أنك قليل الخالات بالدّهناء قال سَوّار‏:‏ لا يَضرّني ذلك عند الله شيئاً‏.‏
كلام العرب قال أحمدُ بن محمد بن عبدِ ربِّه‏:‏ قد مَضى قولُنا في النَّسب الذي هو سَبَب إلى التعارف وسُلمٌ إلى التواصل وفي تَفضيل العَرب‏.‏
وفي كلام بعض الشًّعوبية ونحن قائلونِ بعَون اللّه وتوفيقه في كلام الأعراب خاصَةً إذ كان أَشرفَ الكلام حَسَباً وأكثرَه رَوْنقاً وأحسنَه دِيباجاً وأَقلَهُ كلْفَة وأَوْضَحَه طريقة وإذ كان مَدَارُ الكلام كلِّه عليه ومنتسبة إليه قال رجل من مِنْقر‏:‏ تكلَّم خالدُ بن صَفْوان بكلام في صُلْح لم يَسْمع الناسُ كلاماً قبلَه مِثْله وإذا بأَعرابيّ في بَتّ ما في رِجْليه حِذَاء فأجابه بكلام وَدِدْت أبي مِتُّ قبل أَنْ أَسمعه فلمّا رأى خالدٌ ما نزل به قال لي‏:‏ وَيْحك‏!‏ كيف نُجَاريهم وإنما نَحْكِيهم أم كيف نُسَابقهم وإنما نَجْري بما سَبق إلينا من أَعْرَاقهم قلتُ له‏:‏ أبا صَفْوان واللّه ما ألومك في الأولى ولا أَدع حَمْدك على الأخرى‏.‏
وتكلّم رَبيعةُ الرَّأي يَوْماً بكلام في العِلْم فأكثر فكأَنَّ العُجبَ دَاخَلَه فالتفت إلى أعرابيّ إلى جَنْبه فقال‏:‏ ما تَعُدون البلاغة يا أعرابيّ قال‏:‏ قِلّة الكلام وإيجاز الصوَّاب قال‏:‏ فما تَعُدون العِيّ قال‏:‏ ما كُنتَ فيه منذ اليوم فكأنما أَلْقَمَه حَجَراً‏.‏
قول الأعراب في الدعاء قال عمرُ بن عبد العزيز رَضي الله عنه‏:‏ ما قَوْم أَشْبَه بالسلف من الأعراب لولا جَفَاء فيهم‏.‏
وقال غَيْلان‏:‏ إذا أَردتَ أن تَسْمع الدُّعاء فاسمع دُعاء الأعراب‏.‏
قال أبو حاتم‏:‏ أَمْلَى علينا أَعرابي‏!‏ يقال له مرثد‏:‏ اللهم اغْفِر لي والجلْدُ بارد والنَّفْس رابطة واللَسان مُنْطَلِق والصُحف مَنْشورة والأقلام جارية وَالتوبة مَقْبولة والأنْفُس مُريحة والتَضرع مَرْجُو قبل أَز العُروق وحَشَكِ النًفْس وعلز الصَّدر وتَزَيُّل الأوْصال ونُصول الشَعَر وتَحيًّف التُّراب‏.‏
وقبل ألّا أقدرَ على استغفارك حين يَفْنى الأجَل ويَنْقَطع العَمَل أَعِنِّي على الموت وكُرْبَته وعلى القَبْر وغُمَّته وعلى الميزان وخِفّته وعلىِ الصِّراط وزَلَّته وعلى يوم القيامة ورَوْعته اغفِر لي مَغْفرة واسعة لا تُغادر ذَنْباً ولا تَدَع كَرْباً اغْفِر لي جميع ما افْتَرَضْتَ عليَّ ولم أُؤده إليك اغفر لي جميعَ ما تُبْتُ إليك منه ثم عدْتُ فيه‏.‏
يا رب تظاهرَتْ عليّ منك النِّعم وتداركتْ عندك منّي الذنوب فلك الحمد على النِّعم التي تظاهرَتْ وأستغفرك للذنوب التي تَدَاركت وأَمْسيتَ عن عذابي غَنِيّا وأصبحتُ إلىِ رحمتك فقيراً اللهم إنِّي أسألك نَجَاح الأمَل عند انقطاع الأجل اللهم اجعل خيْرَ عَمَلي ما وَلي أجَلي اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتَهم شَكَرِوا وإذا ابتليتَهم صبروا إذا هم ذكرتهم ذكروا واجعل لي قلباً توَّاباً أواباًً لا فاجراَ ولا مُرْتاباً اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا وإذا أساءوا استغفروا اللهمِ لا تُحَقِّق عليَّ العَذاب ولا تَقْطَع بي الأسباب واحفظني في كل ما تًحِيط بن شفَقتي وتأتي من ورِائه سُبْحَتي وتَعْجِز عنه قُوَّتيِ أَدْعوك دُعاء خَفيفٍ عمله مُتَظاهرةٍ ذُنوبهُ ضنينٍ على نفسِه دُعاءَ مَن بدنه ضعَيف ومُنَّته عاجزة قد انتهت عُدَّته وخَلُقَت جِدَّته وتمَّ ظِمْؤهُ‏.‏
اللهم لا تُخَيِّبني وأنا أَرْجوك ولا تُعَذِّبني وأنا أدعوك والحمدُ للّه على طُول النَّسيئة وحُسن‏!‏ التِّباعة وتَشنُج العُروق وإساغة الرِّيق وتأخّر الشَّدائد والحمدُ لله على حَلْمه بعد عِلْمه وعلى عَفْوه بعد قُدْرَته والحمد للهّ الذي لا يودي قتيلُه ولا يَخيب سُولُه ولا يرَدّ رسولُه اللهم إنّي أَعوذ بك من الفقر إلّا إليك ومن الذُل إلّا لك وأعوذ بك أن أقول زُوراً أو أغشى فُجوراً أو أكون بك مَغْروراً أعوذ بك من شماتة الأعداء وعُضال الداء وخَيْبة الرَّجاء وزَوال النَّعمِة أو فجاءة النِّقمة دعا أعرابيّ وهو يَطوف بالكَعْبة فقال‏:‏ إلهي مَنْ أَوْلى بالتَقْصير والزّلَل منّي وأَنتَ خَلَقتني ومَن أَوْلى بالعَفْو منك عَنّي وعِلْمكُ بي مُحيط وقَضاؤك فيّ ماض‏.‏
إلهي أطعْتًك بقُوَّتك والمِنَّة لك ولم أحْسِن حين أَعْطَيْتَني وعَصَيْتك بِعلْمك فَتَجَاوز عن الذُّنوب التي كَتبتَ عليَّ وأسألك يا إلهي بوجوب رَحْمَتك وانقطاع حُجتّي وافتقاري إليك وغِنَاك عنّي أن تَغفِر لي وتَرْحمني‏.‏
اللهم إِنّا أطعناك في أحبِّ الأشياء إليك شَهادِة أنْ لا إله إلّا أنت وَحْدَك لا شريكَ لك ولم نَعْصِك في أبغض الأشياء إليك الشَّرْكِ بك فأغفر لي ما بين ذلك‏.‏
اللهم إنّك انسُ المُؤنسين لأوليائك وخَيْر المعنيين للمُتوكلين عليك‏.‏
إلهي أنت شاهدُهم وغائبهم والمُطلع على ضمائرهم وسرِّ ي لك مَكشوف وأنا إليك مَلهوف إذا أَوْحشتني الغُرْبة انسني ذِكرُك وإذا أكَبَّتْ عليَّ الهُموم لجأْتُ إلى الاستجارة بك عِلْماً بأن أزِمَّة الأمور كُلِّها بيدك ومَصْدَرَها عن قَضائك فأَقلّني إليك مَغْفُوراً لي مَعْصوماً بطاعتك باقيَ عُمري يا أَرْحَم الراحمين‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ حَجَجْتُ فرأيتُ أعرابياً يَطوفُ بالكَعْبة ويقول‏:‏ يا خَير مَوْفود إليه سَعَى إليه الوَفْد قد ضَعُفَت قوَتي وذَهَبَتْ مُنَّتى وأَتيتُ إليك بذنُوب لا تَغْسِلها الأنهار ولا تَحْملها البحار أَسْتَجير برضاك من سخطك وبعَفْوك من عقوبتك‏.‏
ثم التفت فقال‏:‏ أَيها المُشَفَّعون ارحموا من شَمِلته الخطايا وغَمَرَته البَلايا ارحموا من قَطَع البلاد وخَفَف ما مَلك من التِّلاد ارحموا عمن رَنَحته الذنوب وظهرت منه العُيوب ارحموا أسَير ضُرّ وطَرَيد فَقْر أسأَلكم بالذي أَعملتكم الرغبةُ إليه إلّا ما سألتم اللّه أن يَهَب لي عظيم جُرْمي‏.‏
ثم وَضع في حَلْقة الباب خَدَّه وقال‏:‏ ضَرَع خَدِّي لك وذَلّ مَقامي بين يديك ثم أنشأ يقول‏:‏ عَظِيم الذَّنْب مَكْرُوبُ مِن الخيْرَات مَسْلوبُ وقد أَصْبحتُ ذَا فَقْر وما عِنْدك مَطْلوب العُتْبي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً بعَرفات عَشية عَرَفة وهو يقول‏:‏ اللهم إنِّ هذه عَشِية من عَشَايا مَحَبَّتك وأحَدُ أيام زُلْفَتك يأْمُل فيها مَن لجأ إليك من خَلْقك لا يُشرك بك شيئَاً بكل لِسان فيها تدْعى ولكل خير فيها تُرجى أتَتْك العُصاة من البلد السّحيق ودَعَتك العُناة من شُعَب المَضِيق رجاءَ مالا خلْف له من وَعْدك ولا انقطاع له من جَزيل عَطائك أبْدَت لك وُجوهها المَصُونة صابرِةً على لَفْح السمائم وبَرْد الليالي تَرْجو بذلك رِضْوانَك يا غفار يا مستزاداً من نِعَمه ومُستعاذاً من كل نِقَمِهِ ارحم صوتَ حزين دَعاك بزَفِير وشَهِيق‏.‏
ثم بَسَط كِلْتا يدَيْه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم إنْ كنتُ بَسَطتُ يديّ إليك راغباً فطالما كُفِيت ساهياً بنعمك التي تظاهرتْ عليّ عند الغَفْلة فلا أيأس منها عند التَّوبة فلا تَقْطَع رجائي منك لما قَدّمتُ من اقتراف وَهَبْ لي الإصلاح في الوَلد والأمْن في البَلد والعافية في الجَسد إنك سميع مُجيب‏.‏
ودَعا أعرابيّ فقال‏:‏ يا عماد من لا عِماد له ويا رُكْن من لا رُكْنَ له ويا مجير الضُّعفاء ويا مُنْقذ الغَرْقى ويا عَظيم الرَّجاء أنت الذي سَبَّح لك سَوَاد الليل وبيَاضُ النهار وضَوْء القَمر وشعاع الشمس وحَفِيف الشَجَر ودَويّ الماء يا مُحْسن يا مُجمل يا مُفْضِلِ لا أسألك الخيرَ بخير هو عندي ولكني أسألك بِرْحمتك فاجعل العافية لي شِعَاراً ودِثاراً وجُنَّة دون كل بلاء‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ خرجت أعرابيّة إلى مِنى فقًطع بها الطريقُ فقالت‏:‏ يا ربّ أخذتَ وأعْطيتَ وأنعَمْت وسَلبت وكل ذلك مِنْك عَدْل وفَضْل والذي عًظم على الخلائقِ أمرك لا بسطتُ لِساني بمسألة أحدٍ غَيْرك ولا بذلتُ رَغْبَتي إلا إليك يا قُرّة أَعًين السائلين أغثني بجُود منك أتبحبحْ فيَ فَراديس نِعْمَته وأتقلَبُ في رَاوُوق نَضرْته احملني من الرُّجلة وأغْنني من العَيْلة وأسدل على ستْرك الذي لا تَخْرِقه الرماح ولا تزيله الرِّياح إنَّك سميع الدعاء‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً في فَلاة من الأرض وهو يَقول في دُعائه‏:‏ اللهم إنّ استغفاري إياك مع كثرة ذنُوبي لَلُؤم وإنَّ تَرْكي الاستغفار مع مَعْرِفتي بسعَة رَحمَتك لَعَجْز‏.‏
إلهي كم تَحَببْتَ إليّ بنعمك وأنت غَني عنِي وكم أتبغض إليك بذُنوبي وأنا فقيرٌ إليك‏.‏
سُبحان من إذا تَوعَد عفا وإذا وَعَد وَفي‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول في دُعائه‏:‏ اللهم إنَّ ذُنوبي إليك لا تَضرّك وإن ر حمتك إياي لا تنقصك فاغفر لي ما لا يَضرُك وهَب في ما لا يَنْقصك‏.‏
قال‏:‏ وسمعت أعرابياً وهو يقول في دُعائه‏:‏ اللهم إني أسألك عَمل الخائفين وخوفَ العاملين حتى أتَنَغَم بتَرْك النَعيم طَمعاً فيما وَعدت وخَوْفاً مما أوْعدت‏.‏
اللهم أعِذْني من سَطَواتك وَأجِرْني من نِقْمَاتك سَبَقت لي ذُنوب وأنتَ تَغْفِر لمن يتوب إليك بك أتَوَسَّل ومِنْك إليك أفِرّ‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ اللهم إنَ أقواماً آمنوا بك بألسنتهم ليَحْقِنُوا دماءَهم فأدْرَكوا ما أمَّلوا وقد آمَنّا بك بقِلوبنا لتُجِيرَنا من عَذابك فأدرك بنا ما أمَّلنا‏.‏
قال‏:‏ ورأيتُ أعرابياً متَعَلِّقاً بأستار الكَعْبة رافعاً يَديه إلى السماء وهو يقول‏:‏ رَبّ أتُرَاك مُعَذِّبَنا وتَوْحِيدُك في قَلوبنا وما إخالك تفَعل ولئن فعلتَ لَتَجمعننا مع قوم طالما أبْغضناهم لك‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يقول في صَلاَته‏:‏ الحمدُ للّه حَمْداً لا يَبْلَى جَدِيدُه ولا يُحمى عَدِيدُه ولا تُبْلغ حُدوده‏.‏
اللهم اجعل الموتَ خيرَ غائب نَنْتظره واجعل القبرَ خير بَيْت نَعْمُره واجعل ما بعده خيراً لنا منه‏.‏
اللهم إنّ عينيّ قد اغْرَوْرقتا دُموعاً من خَشْيتك فاغفر الزلَّة وعُدْ بِحِلْمك على جَهل مَن لم يَرْجُ غيرَك‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ وَقف أعرابيّ في بَعض المواسم فقال‏:‏ اللهم إنّ لك عليّ حُقوقاً فَتَصدّق بها علِىّ وللناس قِبلى تَبِعاتٍ فتَحمّلها عنّي وقد وَجَب لكل ضَيْف قِرَى وأنا ضَيفُك الليلة فاجعل قِراي فيها الجنَّة‏.‏
قال‏:‏ ورأيتُ أعرابياً أخذ بِحَلْقَتي باب الكَعْبة وهويقول‏:‏ سائلُك عَبْد ببابك ذهبت أيامُه وبقيت آثامه وانقطعت شَهوتُه وبقيت تَبِعته فارضَ عنه وإن لم تَرْضَ عنه فاعفُ عنه فقد يعفو المولى عنِ عبده وهو عنه غيرُ راض‏.‏
قال‏:‏ ودعا أعرابيّ عند الكعبة فقال‏:‏ اللهم إنه لا شرَف إلا بفَعال ولا فعال إلا بَمال فأعْطِنيِ ما أسْتعين به على شرَف الدُّنيا والآخرة‏.‏
قال زيدُ بن عُمر‏:‏ سمعت طاووساً يقول‏:‏ بينا أنا بمكة إذ رُفعتُ إلى الحجّاج بن يوسف فَثَنَى لي وساداً فجَلستُ فبينا نحن نتحدّث إذ سمعتُ صوتَ أعرابيّ في الوادي رافعاً صوتَه بالتَّلبية فقال الحجّاج‏:‏ عليّ بالمُلبِّي فآُتي به فقال‏:‏ ممن الرجل قال‏:‏ مِن أفناء الناس قال‏:‏ ليس عن هذا سألتُك قال‏:‏ فعمّ سألتَني قال‏:‏ من أيّ البُلدان أنت قالت‏:‏ من أهل اليمن قال له الحجّاج‏:‏ فكيف خَلّفت محمدَ بن يوسف يعني أخاه وكان عاملَه على اليمَن‏.‏
قال‏:‏ خَلَّفته جَسيماً خرّاجاً ولاّجا قال‏:‏ ليس عن هذا سألتُك‏.‏
قالت‏:‏ فعمّ سألتني قال‏:‏ كيف خلًفت سيرتَه في الناس قال‏:‏ خلفتُه ظَلُوماً غَشُوماً عاصياً للخالق مُطيعاً للمَخْلوق‏.‏
فازْورَّ من ذلك الحجاج وقال‏:‏ لما أقدمك على هذا وقد تعلم مكانه مني فقال له الأعرابي‏:‏ أفتراه بمكانه منك أعز مني بمكاني من اللّه تبارك وتعالى وأنا وافدٌ بَيْته وقاضٍ دَيْنه ومُصدّق نبيّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فوجَم لها الحجّاج‏!‏ ولم يدر له جواباً حتى خَرج الرجل بلَا إذن‏.‏
قال‏:‏ طاووس‏:‏ فتبعتُه حتى أتي المُلتزَم فتعلق بأستار الكعبة فقال‏:‏ بك أعوذ وإليك ألُوذ فاجعل لي في اللهف إلى جوارك الرِّضا بضمانك مندوحةً عن مَنْع الباخليين وغنى عما في أيدي المُستأثرين‏.‏
اللهم عُد بِفَرجك القريب ومَعْروفك القديم وعادَتك الحَسَنة‏.‏
قال طاووس‏:‏ ثم اختفى في الناس فألفيتُه بعَرفات قائماً على قَدَميه وهو يقول‏:‏ اللهِم إن كنتَ لم تَقْبل حَجِّي ونَصَبي وتَعبي فلا تَحْرِمنيِ أجر المُصاب على مُصيبته فلا اعلم مصيبةً أَعْظَمَ ممّن وَرَد حَوْضك وانصرف مَحْروماً من سَعة رَحمتك الأصمعي قال‏:‏ رأيتُ أعرابياً يَطُوف بالكَعبة وهو يقول‏:‏ إلهي عَجّت إليك الأصواتُ بضروب من اللُّغات يَسْألونك الحاجات وحاجَتي إليك إلهي أنْ تَذْكرني على طُول البلاء إذ نَسِيَني أهلُ الدنيا‏.‏
اللهم هَب لي حَقّك وأَرْض عنّي خَلْقك‏.‏
للهم لا تُعْيني بطَلب ما لم تقُدّره لي وما قَدَرْته لي فَيَسِّرِه لي‏.‏
قال‏:‏ وَدَعَتْ أعرابية لابن وَجّهته إلى حاجة فقالت‏:‏ كان اللّه صاحبَك في أمرك وخَلِيفَتك في أهلك ووليَّ نُجْح طَلِبتك امْض مُصاحَباً مَكْلًوءاً لا أشْمت اللهّ بك عَدوّا ولا أرى مُحبّيك فيك سُوءاً قال‏:‏ ومات ابنٌ لأعرابي فقال‏:‏ اللهم إني وهبتُ له ما قَصّر فيه مِن بِرّى فَهب له ما قَمرّ فيه من طاعتك فإنك أجْود وأكرم‏.‏
قولهم في الرقائق العُتْبيّ قال‏:‏ ذَكر أعرابيّ مُصيبةً فقال‏:‏ مُصيبةٌ واللّه تركتْ سُود الرؤوس بيضاً بيضَ الوجوه سُوداً وهَوَّنت المصائبَ بعدها أخذ هذا المعنى بعضً الشعراء فقال يرْثي آلَ أبي سًفيان‏:‏ رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آل حَرْب بِمقْدار سَمَدْنَ له سُمُودا فَرَدّ شُعورهن السُّود بيضاً ورَدَّ وُجوههن البيضَ سُودا بكيت بكاء مُوجَعة بحُزْن أصاب الدَّهْرُ واحدَها الفريدا قال‏:‏ وقِيل لأعرابيّة أُصيبت بابنها‏:‏ ما أحسن عَزاءَك قالت‏:‏ إن فقدي إياه أمنني كل فقد سواه وإن مَصيبتي به هَونت علي المصائبَ بعده ثم أنشأت تَقول‏:‏ مَن شاء بَعدك فَلْيمُت فَعَليك كنتُ أُحاذرُ أكُنْتَ السوادَ لمُقلتي فعليك يَبْكي الناظِر ليتَ المنازلَ والدِّيا رَ حَفائرٌ ومَقابر وقيل لأعرابيّ‏:‏ كيف حُزنك على وَلدك قال‏:‏ ما ترك هَمُّ الغَداة والعِشاء لي حُزْناً‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ ما أذْهب شبابَك قال‏:‏ مَن طال أمدًه وكثُر ولدُه وذَهب جَلَده ذَهَب شبابُه‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ ما أنحل جِسْمَك قال‏:‏ سُوء الغِذاء وجُدوبة المَرْعى واعتلاجُ الهُموم في صَدْري ثم أنشأ يقول‏:‏ الهمُّ ما لم تُمْضه لسبيله داءٌ تَضَمَّنُه الضُّلوعُ عَظِيمُ ولربما استيأستُ ثم أقول لا إنّ الذي ضَمِن النجاحَ كريمُ وقيل لأعرابي قد أخذته السنُّ‏:‏ كيف أصبحْتَ قال‏:‏ أصبحتُ تُقيّدني الشِّعرة وأعثًر في البعرة قد أقام الدَّهرُ صَعَري بعد أن أقمتُ صَعَره‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ لقد كنتُ أُنكر البَيضاء فصرتً أُنْكر السوداء فيا خيرَ مَبْدول ويا شَرَّ بَدل‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ إذا الرجالُ ولدتْ أولادُها وَجعلت أسْقامُها تَعْتادَها واضطربت من كِبَرِ أعضادها فهي زُروع قد دَنا حَصادها وذَكر أعرابيّ قَطِيعة بعض إخوانه فقال‏:‏ صَفِرت عِيَاب الوُدّ بعد امتلائها واكفهرّت وجوهٌ كانت بمائها فأدبر ما كان مُقْبلاً وأقْبل ما كان مُدْبراً‏.‏
وذكرَ أعرابيّ منزلًا بادَ أهلَه فقال‏:‏ منزل واللّه رَحلَتْ عنه رَبّات الخُدُور وأقامت فيه أثافيّ القُدر وقد اكْتَسى بالنَّبات كأنه أُلْبس الحُلَل‏.‏
وكان أهْلُه يَعْفون فيه آثار الرِّياح فأصبحت الرِّيح تَعْفو أثارهم فالعَهد قريب والمُلتقى بَعِيد‏.‏
وذَكر أعرابي قوماً تغيرت أحوالهم فقال أعينٌ والله كُحِلَت بالعَبْرَة بعد الحَبْرة وأنفُسٌ لَبِسَت الحُزْن بعد السرور‏.‏
وذكر أعرابيّ قوماً تغيَّرت حالُهم فقال‏:‏ كانوا واللّه في عَيْشِ رَقيق الحَوَاشي فطَوَاه الدَّهرُ بعد سَعَة حتى يَبِست أبدانُهم من القُرّ ولم أرَ صاحباً أغرَّ من الدنيا ولا ظالماً أغشمَ من المَوت ومَن عَصَف به الليلُ والنهارُ أرْدَياه ومن وُكِّل به الموتُ أفناه‏.‏
وقَف إعرابيٌّ على دار قد بادَ أهلُها فقال‏:‏ دارٌ واللّه مُعْتَصِرة للدّموع حَطَت بها السحابُ أثقالها وجرّت بها الرِّياح أذيالَها‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً تغيرت حالُه فقال‏:‏ طُوِيت صحيفتُه وذهب رِزْقُه فالبَلاء مُسْرعٌ إليه والعَيش عنه قابضٌ كَفيه‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً ضاق عيشُه بعد سَعة فقال‏:‏ كان واللّه في ظِلّ عيش مَمْدُود فَقَدحت عليه من الدَّهر يدٌ غير كابية الزَّند‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ أَنشدَني العُقيْلي لأعرابيّة ترْثي ابنها‏:‏ خَتلتْه المَنونُ بعد اختيال بين صَفّين مِن قناَ ونصَال في رداء من الصفيح صَقِيل وقميص من الحديد مُذَال كُنت أَخْبؤك لاعتداء يَد الدَّهر ولم تَخْطُر المَنون ببالي وقال أعرابيّ يَرِثي ابنه عند دَفْنه‏:‏ دَفنت بكفِّي بعض نَفْسي فأَصْبحتْ وللنفس منها دَافِن وَدَفِينُ وقال أعرابيّ‏:‏ إنّ الدُّنيا تَنطق بغير لسان فتُخبر عما يكون بما قد كان‏.‏
خرج أعرابيّ هارباً من طافَ يَبْغِي نَجْوَةً من هلاكٍ فَهَلَكْ والمَنايا رَصَدٌ للفتى حيثُ سَلَك كُلّ شيء قاتلٌ حينَ تَلْقَى أجلَك وذَكَر أعرابي بلداً فقال‏:‏ بلد كالتُّرس ما تمشي فيه الرِّياح إلّا عابراتِ سَبِيل ولا يمر فيها السَّفْر إلّا بأَدَلّ دليل‏.‏
قولهم في الإستطعام قَدِمَ أعرابيّ من بني كِنانة على مَعْن بن زائدة وهو باليمن فقال‏:‏ إني واللّه ما أعرف سبباً بعد الإسلام والرّحم أقْوى من رِحْلة مِثْلِى من أهل السِّنّ والحَسَب إليك مِن بلاده بلا سَبب ولا وَسِيلة إلّا دُعاءَك إِلى المكارم ورَغْبَتك في المَعْروف فإنْ رأَيْتَ أَنْ تَضَعَني مِن نَفْسِك بحيثُ وضعتُ نفْسي من رَجائك فافعل‏.‏
فَوَصله وأَحْسن إليه‏.‏
الرَّبيع بن سُليمان قال‏:‏ سمعتُ الشافعيّ رَضيَ الله تعالى عنه يقول‏:‏ وَقف أعرابيٌّ على قَوْم فقال‏:‏ إنّا - رَحِمَكم اللّه - أبناءُ سَبِيل وأَنْضاء طَريق وفُلال سَنَة رَحِم اللّه امرأً أعْطَى عَن سَعة ووَاسى من كفاف‏.‏
فأَعْطاه رَجًلٌ دِرْهماً فقاٍل‏:‏ آجَرَك الله من غير أن يَبْتْلِيك‏.‏
ووَقف أعرابيّ بقوم فقال‏:‏ يا قوم تَتابعت علينا سِنون جِماد شِدَاد لم يَكُنْ للسماء فيها رَجْع ولا للأرض فيها صَدْع فَنَصَبَ العِدّ ونَشِفَ الوَشَل وأمْحَل الخِصْب وَكَلَح الجَدْب وشَفّ المال وكَسَف البال وشَظِف المَعاش وذَهبت الرِّياش وطرَحَتْني الأيام إليكم غريبَ الدَّار نائيَ المحلّ ليس لي ما لم أَرْجع إليه ولا عَشيرة ألْحَق بها فَرَحِم اللّه امرأً رَحِم اغترابي وجعل المعروف جَوابي‏.‏
خَرج المهديّ يَطُوف بعد هَدْأَة من اللّيل فَسَمِعِ أعْرَابيّة من جانب المسجد وهي تقول‏:‏ قوم مًعوزون نَبَت عنهم العُيُون وفدَحَتْهم الدُّيون وعَضَّتهم السِّنون باد رجالُهم وذهبت أموالهم أبناء سَبيل وأَنْضاء طريق وصيّةَ الله ووصية رسوله فَهل من أمر بخَيْر كَلأه اللّه في سفره وخَلفه في أهله‏.‏
فأمر نُصَيراً الخادم فدفع إليها خَمْسمائة درهم‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ أُغير على إبل خُزَيمة فَرَكب بَحيرةً فقِيل له‏:‏ أَتَركب حراماً قال‏:‏ يَرْكب الحرامَ من لا حَلال له‏.‏
وقال أعرابي‏:‏ يا ليتَ لي نَعْلين من جِلْد الضَّبُع كل الحِذَاء يَحْتذي الحافي الوَقِعْ أبو الحسن قال‏:‏ اعترض أعرابيّ لِعُتبة بن أَبي سُفْيان وهو على مكَة فقال‏:‏ أيها الخَلِيفة قال‏:‏ لستُ به ولم تَبْعُد قال‏:‏ فيا أخاه قال‏:‏ أسْمعتَ فقُل قال‏:‏ شك من بني عامر يَتقرّب إِليك بالعُمومة ويَخْتص بالخُئولة ويَشْكو إليك كَثْرة العِيال ووَطأة الزّمان وشِدّة فقْر وتَرادفَ ضُرّ وعندك ما يَسعه ويَصرف عنه بُؤسَه‏.‏
فقال عُتبة أسْتغفر اللّه مِنك وأَسْتَعينه عليك قد أمرنا لك بِغناك فليتَ إسرْاعَنا إليكَ يَقُوم بإبطائنا عنك‏.‏
وسأل أعرابيّ فقال‏:‏ رَحم اللهّ مُسلماً لم تَمُجَّ أُذناه كلامي وقَدّم لِنَفسه مَعاذاً من سُوء مَقامي فإن البِلاد مُجْدبة والدَّارَ مُضَيّعة والحيَاءَ زاجر يمنع مِنِ كلامكم والعُدْمَ عاذِر يَدْعو إلى إخْباركم والدعاء إحدى الصَّدَقتين فرَحم اللّه آمِراً بمَيْر وداعياً بخير‏.‏
فقال له بعضُ القوم‏:‏ ممّن الرجل فقال‏:‏ ممن لا تَنْفعكم مَغرفته ولَا تَضركم جهالَته ذل الاكتساب يَمْنع من عِزّ الانتساب‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ قَدِم علينا أعرابيّ في فِشّاشٍ قد أَطْردت اللِّصَاصُ إبلَه فَجَمعتُ له شيئاً من أهل المسجد فلمّا دفعتُ إليه الدراهم أنشأ يقول‏:‏ لا والَّذي أنا عَبْد في عِبادته لولا شَماتُه أعداء ذَوِي إحَنِ ما سرًّني أنّ إبلي في مَبارِكها وأنّ أمراً قضاه اللهّ لم يَكُن أخذ هذا المعنى بعض المُحْدَثين فقال‏:‏ لولا شَمَاتَةُ أعداء ذَوِي حَسَدٍ وأنْ أنال بنَفْعِىِ مَنْ يُرَجِّينِي لما خَطَبْتُ إلى الدُّنيا مَطالَبها ولا بذلتُ لها عِرْضي ولا دِيني لكنْ مُنافسة الأكفاء تَحْمِلني على أُمور أرَاها سَوْف تُرْدِيني العُتبى قال‏:‏ دخل أعرابيّ على خالد بن عبد اللّه القَسْرى فلمّا مَثل بين يديه أنشأ يقول‏:‏ أَصْلَحَك الله قَلّ ما بيَدي فما أُطِيق العِيَالَ إذ كَثُروا أناخ دَهْرٌ ألْقى بِكَلْكِلِه فأَرْسَلُوني إليكَ وانتظروا قال‏:‏ أرسَلوك وانتظرِوا‏!‏ والله لا تَجْلِس حتى تعودَ إليهم بما يَسُرهم فأَمر له بأربعة َأَبْعِرة مَوْقُورة بُرَّاً وتَمْراَ وخَلع عليه‏.‏
الشّيْباني قال‏:‏ أقبل أعرِابيٌّ إلى مالِك بن طَوْق فأقام بالرَّحْبة حيناً وكان الأعرابيّ من بني أسد صُعْلوكاً في عَبَاءة صُوف وشَمْلة شَعَر فكلّما أراد الدُّخول منعه الحُجَّاب وشَتَمه العَبيد وضربه الأشْرَاط فلمّا كان في بَعض الأيام خَرج مالكُ بن طَوْق يُريد التنزّه حول الرِّحْبة فعارَضه الأعرابي فضربوه ومَنعوه فلم يَثْنِه ذلك حتى أخذ بِعِنان فَرسه ثم قال‏:‏ أيها الأمير إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء فقال مالك‏:‏ دَعوا الأعرابي هل من حاجة يا أعرابيّ قال‏:‏ نعم أصلح الله الأمير أنْ تَصْغِي إليَّ بَسَمْعك وَتَنظَر إليّ بطَرفك وتَقبَل إلي بوجهك قال‏:‏ نعم فأنشأ الأعرابيّ يقول‏:‏ ببابك دون الناس أنزلتُ حاجَتي وأقبلتُ أَسْعَى حولَه وأَطُوفُ وَيمْنعني الحُجِّابُ والسِّتر مُسْبَلٌ وأنتَ بَعِيد والشًّروط صُفوف يدُورون حَوْلي في الجُلوس كأنهم ذِئابٌ جيِاعٌ بَينهَنّ خَرُوف وما لي من الدنيا سِواك ولا لمن تركتُ ورائي مَرْبَعٌ ومَصِيف وقد عَلِم الحَيَّان قيسٌ وخِنْدِفٌ ومَنْ هو فيها نازل وحَلِيف تَخَطيَّ أَعْناقَ المُلوك ورٍحلتي إليك وقد أخنت عليَّ صرُوف فجِئْتُك أَبغي اليُسْرَ منك فمَر بي ببابك مَن ضَرْب العَبيد صُنوف فلا تجعَلنْ في نحو بابل عَوْدة فَقَلْبيِ مِن ضَرْب الشرًّوط مَحًوف فاستضحك مالك حتى كاد أن يَسْقَط عن فرَسه ثم قالت لمَن حوله‏:‏ مَن يُعْطِيه دِرْهماً بِدِرْهَمين وثَوْباً بثَوْبين فوقعت عليه الثِّياب والدَراهم من كل جانب حتى تَحَيَّر الأعرابيّ ثم قال له‏:‏ هل بَقيتْ لك حاجة يا أعرابي قال‏:‏ أمّا إليك فلا قال‏:‏ فإلى مَن قال‏:‏ إلى اللّه أن يُبْقِيَك للعرب فإنها لا تزال بخير ما بَقِيتَ لها‏.‏
دخل أعرابي على هِشام بن عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أَتَتْ علينا ثلاثةُ أعوام‏:‏ فعام أذاب الشَّحْم وعامٌ أكل اللَّحْم وعام انْتَقى العَظْم وعندكم أموال فإنْ تَكُنْ للّه فَبُثُّوها في عباد اللهّ وإن تكُن للناس فلِمَ تُحْجَب عنهم وإن تكن لكم فَتَصَدَّقُوا إن اللّه يَجْزِي المُتَصدقين‏.‏
قال هشام‏:‏ هل من حاجة غير هذه يا أعرابيّ قال‏:‏ ما ضربتُ إليك أكبادَ الإبل أَدَّرع الهَجير وأخُوض الدُّجا لخاصٍّ دون عام ولا خَير في خير لا يَعُم فأمر له هِشام بأموال فُرِّقت في الناس وأمرَ للأعرابيّ بمال فَرقه في قومه‏.‏
طلب أعرابيّ من رجل حاجةً فوَعده قضاءها فقال الأعرابي‏:‏ إنّ مَن وَعد قَضى الحاجةَ وإن كَثًرت والمَطْل من غير عُسر آفةُ الجود‏.‏
وقال‏:‏ أتي أعرابيّ رجلاً لم تَكُن بينهما حُرْمة في حاجة له فقال‏:‏ إني امتطيت إليك الرَّجاء وسِرْت على الأمل وَوَفْدت بالشُّكر وتوصَّلت بحُسْن الظنّ فَحَقِّق الأمل وأَحْسنْ المَنْزلة وأَكْرِم القَصْد وأتِمّ الوُدَّ وعَجِّل المُراد‏.‏
وقف أعرابيّ على حَلْقَة يُونس النحويّ فقال‏:‏ الحمد للّه وأعوذ بالله أن أُذَكِّر به وأنساه إنّا أناس قَدِمْنا هذه المدينة ثلاثون رجلاً لا نَدْفن ميتاً ولا نتحوّل من مَنزل وإن كَرِهْنا فرحم اللهّ عبداً تصدَّق على ابن سبيل ونضْو طريق وفَلّ سنة فإنه لا قليل من الأجر ولا غِنىِ عن اللهّ ولا عَمل بعد الموت‏.‏
يقول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ مَن ذَا الَّذي يُقْرِضُ الله قَرْضاَ حسَنًا‏.‏
إن اللّه لا يَسْتقْرض مِن عَوَز وِلكن لِيَبلو خِيَار عباده‏.‏
وقف أعرابيّ في شهر رمضان على قَوْم فقال‏:‏ يا قوم لقد ختمتْ هذه الفريضةُ على أفواهنا من صُبح أمس ومَعي بِنْتان لي واللّه ما عَلِمْتهما تخلَّتا بِخلال فهل رجلٌ كريمٌ يَرْحَم اليوم ذلنا وَبرُد حُشاشتنا مَنعه اللهّ أن يقوم مَقامنا فإنه مَقام ذل وعار وصَغار‏.‏
فافتَرق القومُ ولم يُعْطوه شيئاً فالتفت إليهم حتى تأمَّلهم جميعاً ثم قال‏:‏ أَشدُّ واللّه عليَّ من سوء حالي وفاقتي توهُّمي فيكم المُواساة انتعلوا الطريقَ لا صَحِبكم الله‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ وَقف أعرابيّ علينا فقال‏:‏ يا قومُ تتابعت علينا سنون بتغيير وإنتقاص فما تركت لنا هُبَعاً ولا رُبَعاً ولا عافطة ولا نافطة ولا ثاغِيَة ولا راغية فأماتت الزَّرْع وقَتلت الضَّرْعَ وعندكم من مال اللّه فَضْلُ نِعْمة فأعينوني مِن عَطِية للّه إياكم وأرحموا أبا أيتام ونضْوَ زمان فلقد خَلّفتُ أقواماً ما يمرضون مريضهم ولا يُكفِّنون مَيِّتهم ولا يَنْتقلون من منزل إلى منزل وإن كرهوه‏.‏
ولقد مَشيت حتى انتعلتُ الدِّماء وجعْتُ حتى أكلتُ النَّوَى‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ وقفتْ أعرابيّة من هَوَازن على عبد الرحمنِ بن أبي بَكر الصِّدِّيق رضي اللهّ تعالى عنهما فقالت‏:‏ إني أتيتُ من أرض شاسعة تهبطني هابطة وتَرْفَعني رافعة في بواد بَرَيْنَ لَحْمي وهِضْن عَظمي وتْرَكْنَني والهة قد ضاق بي البَلد بعد الَأهْل والولد وكَثْرَة من العَدد لا قَرَابة تُؤْوِيني ولا عشيرةَ تَحْمين فسألتُ أحياء العرب‏:‏ المُرْتَجى سَيْبه المأمون غَيْبه الكثير نائلُه المَكْفيّ سائلُه فَدُلِلْت عليك وأنا امرأة هَوَازن فَقَدْتُ الوَلد والوالد فاصنَع في أمري واحدةً من ثلاث‏:‏ إمّا أنْ تُحْسِن صفدي وإمّا أن تُقِيمَ أوَدي وإمّا أن تَرُدِّني إلى بلدي قال‏:‏ بل أَجْمَعُهن لك‏.‏
ففعل ذلك بها أجمع وقال أعرابيّ‏:‏ يا عمر الخَيْر رُزِقت الجنّة اكْسُ بُنَيّاتي وأُمَّهنَّه وكُن لنا من الَرمان جُنّة وارْدُد عَلينا إنّ إنِّ إنّه أَقْسمتُ باللّه لتَفْعلنّه الأصمعي قال‏:‏ وقفتْ أعرابيّة بقوم فقالت‏:‏ يا قوم سَنَة جَرَدت وأَيْدٍ جَمدت وحال جَهَدَت فهل من فاعل خَيْر وآمر بِمَيْر رَحِم اللّه من رَحِم وأَقْرَض مَنْ يُقْرض‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ أصابت الأعرابَ أعوام جَدْبة وشِدّة وجهد فدخلت طائفةٌ منهم البَصرة وبين أيديهم أعرابيّ وهو يقول‏:‏ أيها الناس إخوانُكم في الدّين وشرُكاؤكم في الإسلام عابرُو سَبيل وفُلاّل بُؤْس وصَرْعى جَدْب تَتابعت علينا سنون ثلاث غَيّرت النِّعم وأَهكت النَّعم فأَكلنا ما بَقي من جُلودها فَوق عِظَامها فلم نَزل نُعلِّل بذلك أَنْفسنا ونُمنّي بالغَيْث قُلُوبنا حتى عاد ُمخّنا عِظاماً وعاد إشراقنا ظَلاماً وِأَقبلنا إليكم يَصرعنا الوَعْر ويَنكُبنا السَّهل وهذه آثار مَصائبنا لائحة في سِمَاتنا فرَحم اللّه مُتصدِّقاً مِن كَثير ومُواسياً من قَلِيل فلقد عَظُمت الحاجة وكَسَف البال وبَلَغ المجهود واللهّ يَجْزي المًتصدِّقين‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كنتُ في حَلْقة بالبَصرة إذ وَقف علينا أعرابي سائلاً فقال‏:‏ أيها الناس إنّ الفَقْر يَهْتِك الحِجاب ويُبْرز الكَعاب وقد حَمَلتنا سِنُو المَصائب ونَكَبات الدهور على مَرْكبها الوَعْر فَواسُوا أيا أيتام ونضْو زمان وطَريد فاقة وطَرِيح هَلكة رَحمكم اللّه‏.‏
أتي أعرابيّ عُمَرَ بن عبد العزيز فقال‏:‏ رجلٌ من أهل البادية سَاقَتْه إليك الحاجة وبَلغت به الغاية واللّه سائلك عن مَقامي هذا‏.‏
فقال عمر‏:‏ ما سمعتُ أبلغ مِن قائل ولا أَوْعظ لمُقول له من كلامك هذا‏.‏
سَمِع عديّ بن حاتم رجلاً من الأعراب وهو يقول‏:‏ يا قوم تَصدَقوا على شَيْخ مُعِيل وعابر سَبِيل شَهِد له ظاهرهُ وسَمِع شَكْواه خَالِقُه بَدنه مَطْلوب وثوْبُه مَسْلوب فقال له‏:‏ مَن أنت قال‏:‏ رجلٌ من بني سعد سْعَى في دِيَة لَزمَتْني قال‏:‏ فَكم هي قال‏:‏ مائةُ بَعير قال‏:‏ دُونكها في بَطن الوادي‏.‏
سأل أعرابيّ رجلاً فأعطاه فقال‏:‏ جَعل الله للمَعْروف إليك سَبِيلاً وللخَيْر عليك دَليَلاً ولا جَعلِ حَظّ السائل منك عِذْرة صادقة‏.‏
وقف أعرابي بقوم فقال‏:‏ أَشْكو إليكم أيها الملأ زَماناً كَلَح لي وجهُه وأَناخ عليّ كَلْكلُه بعد نَعْمة من البال وثَرْوة من المال وغِبْطة من الحال اعْتَورتْني شدائدُه بِنَبْل مصائبه عن قسِيّ نَوائبه فما تَرَك لي ثاغية أَجْتدى ضَرْعَها ولا راغية أَرْتجى نَفْعها فهل فيكم من مُعين على صرَفة أو مُعْدٍ على حَيْفه فَرَدّه القومُ ولم يُنيلوه شيئاً‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ قد ضَاع مَن‏.‏
يَأْمُل مِن أَمثالكم جُوداً وليس الجُود من فَعالكمْ لا بارك اللّه لكم في مالكم ولا أَزاح السُّوء عن عِيَالكم فالفقرُ خَيرٌ مِن صلاح حالكم الأصمعي قال‏:‏ سأل أعرابي فلم يُعْطَ شَيئاً فرفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ يا ربّ أنتَ ثِقَتي وذخْري لصِبْيةٍ مثل صغار الذَرّ جاءهمُ البَرْدُ وهُمْ بِشرَ بغير لُحْفٍ وبغير أزْرِ وكلّهم مُلْتَصِق بصدْري فاسْمَع دُعائي وتَوَلّ أَجْري سأل أعرابيّ ومعه ابنتان له فلم يُعْطَ شيئاً فأنشأ يقول‏:‏ أيَا ابنتيّ صابِرَا أباكما إنكما بِعين من يَراكما اللّه مَوْلاي وهُو مَوْلاكما فأَخْلِصا للّه مِن نَجْواكما تَضرَّعَا لا تَذْخَرا بُكاكما لعلّه يرْحَم مَن أَوَاكما إِنْ تَبْكِيا فالدَّهرُ قد أبكاكما العُتبي قال‏:‏ كانت الأعراب تنتجع هِشامَ بن عبد الملك بالخُطَب كلَّ عام فتقدَّم إليهم الحاجبُ يأمرهم بالإيجاز فقام أعرابيّ فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ياِ أميرَ المؤمنين إنَّ اللّه تبارك وتعالى جعل العَطاء مَحبَّة والمَنْع مَبْغضة فَلأن نُحبك خيْر من أن نُبغضك‏.‏
فأعطاه وأجزل له‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ وَقف أعرابيّ غَنويّ على قوم فقال بعد التَّسليم‏:‏ أيها الناس ذهب النَّيْل وعَجُف الحَيْل وبُخِس الكَيْل فمن يرحم نضْو سفر وفَلّ سَنَة ويُقْرض اللّه قَرْضاً حسَناً‏.‏
لا يَسْتقرض اللّهُ من عُدْم ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ثم أنشأ يقول‏:‏ هَل من فَتًى مُقْتدر مُعِين على فَقير بائس مِسْكين أبي بناتٍ وأبي بَنينٍ جَزاه ربِّي بالذي يُعْطِينيَ الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يقول لرجل‏:‏ أطعمك اللّه الذي أطعمتَني له فقد أحييتني بقَتل جُوعي ودفعت عنّى سُوء ظَنّي بيومي فحفظك اللّه على كل جَنْب وفَرِّج عنك كل كَرْب وغَفَر لك كل ذَنب‏.‏
وسأل أعرابيّ رجلاً فاعتلّ عليه فقال‏:‏ إنْ كنتَ كاذباً فجعلك اللّه صادقاً‏.‏
وقال أعرابيّ للمأمون‏:‏ قلْ للِإمام الذي ترجَى فَضائُله رأس الأنام وما الأذْنابُ كالرّاس إنّي أعوذ بهارونٍ وخفْرِته وبابن عَمّ رَسول اللّه عبّاس مِن أن تُشد رِحالُ العِيس راجعةَ إلى اليمامة بالحِرْمان واليَاس الأصمعي قال‏:‏ أصابت الأعرابَ مَجاعةٌ فمررتُ برجل منهم قاعدٍ مع زَوْجته بقارعة الطريق وهو يقول‏:‏ يا ربّ إنّي قاعدٌ كما تَرَى وزَوْجتي قاعِدةٌ كما تَرَى والبَطن منّي جائع كما ترى فَمَا ترى يا ربَّنا فيما تَرَى الأصمعي قال‏:‏ حَدّثني بعضُ الأعراب قال‏:‏ أصابتنا سَنة وعِنْدنا رجلٌ من غَني وله كَلْب فَجَعل كلبُه يَعْوي جُوعاً فأنشأ يقول‏:‏ تَشَكَّى إليّ الكْلبُ شِدَّةَ جُوعه وبي مِثلُ ما بالكلب أو بيَ أكثَرُ كأنّي أميرُ المُؤمنين من الغِنَىِ وأنتَ من النُّعْمى كأنّكَ جَعْفر الأصمعي قال‏:‏ سأل أعرابيّ رجلاً يقال له عمرو فأعطاه دِرْهمين فردّهما عليه وقال‏:‏ تَركتُ لعمرو درهميه ولم يكن لِيُغنِيَ عنّي فاقَتي دِرْهما عَمْرِو وقلتُ لعمرو خُذْهما فاصْطَرِفهما سرَيعين في نَقْص المروءة والأجْر أبو الحسنِ قال‏:‏ وقف علينا أعرابي فقال‏:‏ أخٌ في كِتاب اللّه وجارٌ في بلاد اللّه وطالبُ خيْر من رِزْق اللّه فهل فيكم من مُواسٍ في اللّه الأصمعي قال‏:‏ ضَجِر أعرابيّ بكثرة العِيَال والوَلد وبَلغه أنّ الوَباء بِخَيْبر شَدِيد فَخَرج إليها يُعرِّضهم للموت وأنشأ يقول‏:‏ قلتُ لحُمّى خَيْبرَ استعدي هاكِ عِيالي فاجْهَدِي وجِدِّي وباكِري بصالبٍ ووِردِ أعانك اللّه على ذِي الجُنْد فأخذته الحُمى فمات هو وبَقي عيالُه‏.‏
سأل أعرابي شيخاً من بني مَرْوان وحوله قوم جُلوس فقال‏:‏ أَصابتنا سَنة ولي بِضيم عَشرَة بِنْتاً فقال الشيخُ‏:‏ أما السّنة فَوَدِدْت واللّه أنّ بينكم وبين السماء صَفائحَ مِن حديد ويكون مَسِيلها مما يلي البحر فلا تَقْطر عليكم قطرة وأمّا البنات فليت اللّه أَضْعفهنّ لك أضْعافاً كثيرة وجَعلك بينهن مَقْطوع اليدين والرّجلين ليس لهن كاسب غيرك قال‏:‏ فنظر إليه الأعرابي ثم قال‏:‏ واللّه ما أَدْري ما أَقول لك ولكن أَراك قبيحَ المنظر سيء الخُلق فأعَضك اللّه ببُظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك‏.‏
وقف أعرابيّ على رجل شيخ منِ أهل الطائف فذكرَ لهٍ سنة وسأله فقال‏:‏ وَدِدْتُ واللّه أن الأرض لا تُنبت شيئاً قال‏:‏ ذلك أيْبَس لجَعْر أمك في آسْتها‏.‏
قولهم في المواعظ والزهد أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ دَخل أعرابيّ على هِشام بن عبد الملك فقال له‏:‏ عِظْني يا أعرابيّ فقال‏:‏ كَفى بالقرآن وَاعظاً أَعُوذ باللّه السميع العَليم من الشيطان الرَّجيم بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم ‏"‏ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين الذين إذا اكْتَالًوا على النَّاس يَسْتَوْفُون‏.‏
وإذا كالًوهم أَوْ وَزَنُوهم يُخْسِرُون أَلَا يَظُنّ أولئك أنَّهُمْ مَبْعُوثون لِيَوْم عَظِيم‏.‏
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَاَلمِين ‏"‏ ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا جزاء من يُطّفف في الكَيْل والمِيزان فما ظَنُّك بمن أخذه كلّه‏.‏
وقال أعرابيّ لأخيه‏:‏ يا أخي أَنت طالب ومَطلوب يَطلبك مَن لا تَفُوته وتَطلب ما قد كُفِيته فكأن ما غاب عنك قد كُشف لك وما أنت فيه قد نُقلت عنه فأمْهَدْ لِنَفْسِك وأعِدّ زادك وخُذْ في جِهَازكَ‏.‏
وَوَعظ أعرابي أخاً له أَفسد مالَه في الشّراب فقال‏:‏ لا الدَّهر يَعظك ولا الأيام تُنْذِرك ولا الشّيب يَزْجُرُك والساعاتُ تُحصى عليك والأنْفاس تُعَدّ منك والمَنَايا تُقَادُ إليك وأحبّ الأمور إليك أعْوَدها بالمَضرَة عليك‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ ما لك لا تَشْرب النَّبيذ قال‏:‏ لثلاث خِلال فيه لأنه مُتْلف للمال مُذْهِبٌ للعقل مُسْقِط للمروءة‏.‏
وقال أعرابي لرجل‏:‏ أيّ أخي إنّ يَسَار النَّفس أفضل من يَسار المال فإن لم ترْزَق غِنىًِ فلا تُحْرَم تَقْوى فرُب شَبْعان من النِّعم غَرْثان من الكَرم واعلم أنَّ المؤمن على خيْر تُرَحِّب به الأرض وتَسْتبشر به السماء ولنِ يُسَاء إليه في بَطْنها وقد أحْسَن على ظَهْرها‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ الدّرَاهم مَيَاسمِ تَسِم حَمْداً أو ذَمّاً فمن حَبَسها كان لها ومن أنفقها كانت له ما كان من أعطى مالاً أُعْطِي حَمْداً ولا كلُّ عَديم ذَميم‏.‏
أخذ هذا المعنى الشاعر فقال‏:‏ أنت للمال إذا أَمْسَكْتَه فإذا أنْفَقْتَهُ فالمالُ لَكْ وهذا نظير قول ابن عبّاس ونظر إلى دِرْهم في يد رجل فقال‏:‏ إنّه ليس لك حتَّى يَخْرج من يدك‏.‏
وقال أعرابي لأخٍ له‏:‏ يا أخي إِنَّ مالَك إن لم يَكُن لك كنتَ له وإن لم تُفْنه أفناك فكُلْهُ قبل أن يَأْكُلك‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ مَضى لنا سَلف أهْلُ تواصل اعتقدوا مِنَناً واتخذوا الأيادي ذَخيرة لمن بَعدهم يَرَوْن اصطناع المَعْرُوف عليهم فَرْضاً لازماً وإظهارَ البر واجباً ثم جاء الزَّمان ببنين اتخذُوا مِنَنَهم بضاعةً وبِرَّهم مُرَابحة وأياديهم تجارة واصطناع المعروف مُقارضة كنقد السوق خُذ منيِ وهات‏.‏
وقال أعرابيّ لولده‏:‏ يا بُنّي لا تكُن رأْساً ولا تكن ذَنَباً فإن كنت رأساً فتهيَّأْ للنطاح وإن كنت ذنَبا فتهيَّأ للنِّكاح‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول لابن عمّه‏:‏ سأتخطَّى ذَنْبَك إلى عُذرك وإن كنتُ من أحدهما على شَكّ ومن الآخر على يَقين ولكن ليَتمّ المعروفُ منِّي إليك ولتقوم الحُجَّةُ لي عليك‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ إنَّ المُوفَّق مَن تَرك أَرْفق الحالات به لأصلحها لدينه نظَراً لنفسه إذا لم تنظر نفسُه لها‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ الله مُخْلف ما أتلف الناس والدهر مُتْلِف ما اخْلفوا وكم من مِيتة عِلَّتها طَلب الحياة وكم من حياة سَببها التعرُّض للموت‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ إنّ الآمال قطعت أعناق الرِّجال كالسرَاب غَر من رآه وأخْلَف مَن رَجاه‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ لا تَسْأَل مَن يِفِرّ من أن تسأله ولكن سَل مَن أمرك أن تَسأله وهو اللّه تعالى‏.‏
وقيل لأعرابيّ في مَرضه‏:‏ ما تشتكي قال‏:‏ تَمام العدّة وانقضاء المُدَّة‏.‏
ونظَر أعرابي إلى رجل يَشْكو ما هو فيه من الضِّيق والضر فقال‏:‏ يا هذا أتشكو مَن يَرْحمك إلى مَن لا يَرْحمك‏.‏
وقالت أعرابيّة لابنها‏:‏ يا بُنَيَّ إن سُؤالك الناس ما في أيديهم مِن أشدِّ الإفتقار إليهم ومن افتقرتَ إليه هُنت عليه ولا تزال تُحْفظ وتُكرم حتى تَسْأل وتَرْغب فإذا ألحّت عليك الحاجةُ وَلَزِمك سُوء الحال فأجعل سُؤالك إلى من إليه حاجةُ السائل والمَسْئول فإنه يُغنيِ السائل ويَكفي العائل‏.‏
وقالت أعرابيَّة تُوصي ابناً لها أراد سفراً‏:‏ يا بُنيَّ عليك بتقْوى الله فإنها أجْدَى عليك من كثير عَقْلك وإياك والنَّمائم فإنها تُورث الضغائن وتُفَرِّق بين المُحبين ومَثَل لنفسِك مثالاً تَسْتَحْسِنه من غيرك فاحْذُ عليه واتخذه إماماً واعلم أنَّه مَن جَمَع بين السَّخاء والْحَياء فقد أجاد الحُلّة إزارها ورداءها‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ لا تكون الْحلة إلا ثوبين‏:‏ إزاراً ورِداء‏.‏
أنشد الحسن لأعرابيّ كان يَطوف بأمه على عاتقه حول الكعبة‏:‏ في بَطْنك المُطَهَرَ المُطَيَّب كم بين هذاك وهذا المَرْكَبَ وأنشد لآخر كان يَطوف بأمه‏:‏ ما حجَّ عَبْد حَجَّةً بأمِّه فكان فيها منْفِقاً من كَدّه إلاّ استَتم الأجْرَ عند ربِّه وقال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ ما بَقاء عُمْر تَقْطعه الساعات وسلامة بَدَنٍ مُعَرَّض لِلآفات‏.‏
ولقد عجِبتُ من المُؤمن كيف يكْره الموت وهو يَنقله إلى الثّواب الذي أحيا له لَيْلَهُ وأظمأ له نهارَه‏.‏
وذُكر أهلُ السّلطان عند أعرابيّ فقال‏:‏ أما واللّه لئن عَزُّوا في الدنيا بالجَوْر فقد ذَلّوا في الآخرًة بالعَدْل ولقد رَضُوا بقليل فإن عوضاً عن كثير باقٍ وإنما تَزلّ القدم حيثُ لا يَنْفع الندم‏.‏
ووصف أعرابيّ الدنيا فقال‏:‏ هي رَنقِة المشارب جمَّة المصائب لا تُمَتِّعك الدهرَ بصاحب‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ مَن كانت مطيَّتاه الليلَ والنهار سارَا به وإن لم يَسِرْ وبَلَغا به وإن لم يَبْلُغ‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ الزِّهادة في الدنيا مِفتاح الرَّغبة في الآخرة والزَّهادة في الآخرة مِفْتاح الرغبة في الدُّنيا‏.‏
وقيل لأعرابيّ وقد مَرِض‏:‏ إنك تموت قال‏:‏ وإذا مِتّ فإلى أين يُذهب بي قالوا‏:‏ إلى اللّه قال‏:‏ فَما كراهتي أن يُذهَب بي إلى مَن لم أرَ الخير إلّا منه‏.‏
وقال أعرابِي‏:‏ مَن خاف الموت بادر الفَوْت ومن لم يُنَحِّ النّفس عن الشهوات أسرعت به إلى الهَلَكات والجنَّة والنار أمامك‏.‏
وقال أعرابي لصاحب له‏:‏ والله لئِن هَمْلَجْتَ إلى الباطل إنك لَعطُوف عن الحق ولئن أبطأت ليُسر عنَّ إليك وقد خسِر أقوام وهم يَظنُّون أنهم رابحون فلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنيا فإن الآخرًة من ورائك‏.‏
وقال أعرابيُّ‏:‏ خَيْرٌ من الحياة ما إذا فقدتَه أبغَضْتَ له الحياة وشرُّ من الموت ما إذا نَزَلَ بك أحببتَ له الموت‏.‏
وقال أعرابي‏:‏ حَسْبك مِن فساد أنَّكَ تَرَى أسْنِمَة تُوضع وأخفافاً تُرْفع والخَيْرَ يُطْلَبُ عند غير أهله والفقيرَ قد حَلَّ غيرَ مَحلّه‏.‏
وقُدَم أعرابي إلى السلطان فقال له‏:‏ قُل الحق وإلا أوجعتُك ضربا قال له‏:‏ وأنت فاعمل به فواللّه لَمَا أوعدك الله على تَرْكه أعظم مما توعِدني به‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ من أحَقُّ الناس بالرحمة قال‏:‏ الكريمُ يُسَلّط عليه اللئيم والعاقلُ يُسلط عليه الجاهل‏.‏
وقيل له‏:‏ أيّ الداعِين أحقّ بالإجابة قال‏:‏ المَظلوم الذي لا ناصرَ له إلا اللّه قيل له‏:‏ فأيّ الناس أَغْنَى عن الناس قال‏:‏ مَن أفرد اللّه بحاجته‏.‏
ونَظر عُثمان إلى أعرابي في شَمْلة غائر العَيْنين مُشْرف الحاجبين ناتيء الجَبْهة فقال له‏:‏ يا أعرابي‏.‏
أين ربُّك قال‏:‏ بالمرصاد‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ إذا أَشْكل عليك أمْران فانظر أيّهما أقربً مِن هواك فخالِفْه فإنَّ أَكثر ما يكونُ الخطأ عليك مع مُتابعة الهوى‏.‏
قال‏:‏ وِسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ منِ نَتَجِ الخير أنْتَج له فِرَاخاً تَطِير بأجْنِحَة السُّرُور ومَن غرَس الشر أنْبت له نَبَاتاً مُرّاً مَذاقه قُضْبَانه الغَيْظ وثَمرته النَّدَم‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ الهَوَى عاجلُه لذيذ وأجلُه وَخيم‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ إنك لَحَسن الشَّارة قال‏:‏ ذلك عُنوان نِعمة اللّه عندي‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ ورأيتُ أعرابياً أمامه شاءٌ فقلت له لمن هذا الشاء قال‏:‏ هي للّه عندي‏.‏
وقيل لأعْرابيّ‏:‏ كيف أنت في دِينك قال‏:‏ أخرقه بالمَعاصي وأرقَعه بالاستغفار‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ مَن كَساه الحياءُ ثوبَه خَفِيَ على الناس عَيْبُه‏.‏
وقال‏:‏ بِئْس الزادُ التعدِّي على العِباد‏.‏
وقال‏:‏ التلطف بالحِيلة أنْفَع من الوَسيلة‏.‏
وقال‏:‏ مَنْ ثَقُل على صديقه خَفَّ على عَدوّه ومَن أسرع إلى الناس بما يَكْرهون قالوا فيه بما لا يَعْلَمون‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول لابنه وهو يُعاتبه‏:‏ لا تَتَوهمنَّ على مَن يَستدلّى على غائب الأمور يشاهدها الغَفْلَة عن أمُور يُعاينها فَتكونَ بنفسك بدأت وحظًك أخطأتَ‏.‏
ونَظر أعرابي إلى رجُلٍ حَسَن الوَجْه بَضّه فقال‏:‏ إنّي أرَى وجهاً ما عَلقَه بَرْد وضُوء السحر ولا هو بالذي قال فيه الشاعر‏:‏ مِنْ كلِّ مًجتهدٍ يَرَى أَوْصالَه صَوْمُ النَّهَارِ وسَجْدة الأسْحَارِ الأصمعي قال‏:‏ سمعتً أعرابياً يُنْشد‏:‏ وإذا أظْهَرْت أمراً حَسَناً فَليَكُنْ أَحْسَنَ منه ما تسِرّ فَمُسرُ الخَيْر مَوْسُوم به ومُسِرُّ الشَّرّ مَرسُوم بِشرّ وقَوْل الَأعرابيّ هذا علىِ ما جاء في حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أسر امرؤ سريرةً إلا ألبسه اللهّ رداءَها إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر قال‏:‏ وأنشدني أعرابيِّ‏:‏ فإنّكَ لا تَدْرِي بأيِّة بلدةٍ تَمُوتُ ولا ما يُحْدِثُ الله في غَد يقولون لا تَبْعَد ومَنْ يَكُ مُسْدَلاًَ على وَجْهه سِتْرٌ من الأرض يَبْعُد وقال أعرابي‏:‏ أعجز الناس مَنْ قَصَرَ في طلب الإخوان وأعجز منه مَنْ ضَيع مَنْ ظفرِ به منهم‏.‏
وقال أعرابي لإبنه‏:‏ لا يَسُرّك أن تَغلب بالشرّ فإن الغالب بالشرّ هو المغلوب‏.‏
وقال أعرابي لأخ له‏:‏ لقد نَهيتُكَ أن تُرِيق ماءَ وجهك عند من لا ماء في وَجْهه فإنّ حَظَّكَ من عَطِيَّته السؤال‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ إنّ حُبَّ الخيْر خير وإن عجزتْ عنه المَقْدِرة وبُغْضَ الشرِّ خير وإن فعلتَ أكثرَه‏.‏
وشهد أعرابي عند سَوَّار القاضي بشهادة فقال له‏:‏ يا أعرِابي‏:‏ إِنّ ميْداننا لا يَجْري من العِتاق فيه إلا الجياد قال‏:‏ لئن كشفتَ عني لتجدَني عَثوراً فسأل عنه سَوار فأخْبر بفضل وصَلاح فَقال له‏:‏ يا أعرابي إنك ممنْ يَجري في ميْداننا قال‏:‏ ذلك بستْر اللّه‏.‏
وقال أعرابي‏:‏ واللّه لولا أن المُرُوءَة ثَقِيل مَحْمَلها شديدة مؤونتها ما تَرك اللئام للكِرام شيئاً‏.‏
احتُضر أعرابي فقال له بَنوه‏:‏ عِظْنا يا أبانا فقال‏:‏ عاشِرُوا الناس مُعاشرة إن غِبْتم حنُّوا إليك وِإن مُتُّم بَكَوْا عليكم‏.‏
ودخل أعرابي على بعض الملوك في شَمْلة شَعَر فلما رآه أعرض عنه فقال له‏:‏ إن الشَّملة لا تُكلِّمك هانما يُكلِّمك مَنْ هو فيها‏.‏
ومرَّ أعرابي بقوم يَدْفِنون جاريةً فقال‏:‏ نِعم الصِّهْرُ ما صاهرتم وأنشد‏:‏ وقال أعرابي‏:‏ رُبَّ رَجل سِرّه مَنْشور على لسانه وآخرً قد التَحَف عليه قَلبَه التحافَ الْجَنَاح على الخَوَافي‏.‏
ومرَّ أعرابيان برجل صَلَبه بعضُ الخُلفاء فقال أحدُهما‏:‏ أنْبَتته الطاعةُ وحَصَدتَه المَعْصِية‏.‏
وقال الآخرً‏:‏ من طلَّق الدُّنيا فالآخرًةُ صاحبته ومَن فارق الحقّ فالْجذْع راحلتُه‏.‏
العُتْبيُّ عَن زَيد بن عُمارة قال‏:‏ سمعت أعرابياً يقول لأخيه وهو يَبْتني منزلًا‏:‏ يا أخي أنتَ في دار شَتَاتٍ فتأهَّبْ لِشَتاتِكْ واجعل الدُّنيا كَيَومْ صمته عن شَهَوَاتك واطْلُب الفَوزَ بِعَيْش الزُّ هْد من طُول حَياتك ثم أطرق حيناً ورَفع رأسَه وهو يقول‏:‏ قائِدُ الغَفْلة الأمَلْ والهَوَى قائدُ الزَللْ قَتَلَ الجَهْل أهْلَه ونَجَا كل مَنْ عَقَل فاغْتنِم دَولة السَّلا مة واسْتَانِف العمَل أيُّها المُبْتَني القُصوِرَ وقد شابَ وَاكْتَهَلْ أخبر الشيب عَنْك أن ك في آخرً الأجَل فَعَلامَ الوُقُوفُ في عَرْصة العَجْز والكَسَل مَنزلٌ لم يزَلْ يَضِي قُ وَينْبو بِمَنْ نَزَل فتأهَّب لِرِحْلةٍ ليس يَسْعَى بها جمل رِحْلةٍ لم تَزل على الدّهْر مَكْرُوهةَ القَفَل وقيل لأعرابي‏:‏ كيف كِتْمانك للسر قال‏:‏ ما جَوْفي له إلا قَبْر‏.‏
وقال أعرابيِّ‏:‏ إذا أردتَ أنْ تَعْرف وَفاءَ الرَّجل ودَوَام عَهْدِه فانظُر إلى حَنِينه إلى أوْطانِه وشَوْقه إلى إخوانه وبُكائه على ما مضى من زَمانه‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ إذا كان الرأي عند مَن لا يُقْبَل منه والسِّلاح عند من لا يَسْتعمله والمالُ عند مَن لا يُنفِقه ضاعت الأمور‏.‏
وسُئل أعرابي عن القَدَر فقال‏:‏ الناظرُ في قَدَر اللّه كالناظر في عَيْن الشّمس يَعْرِف ضَوْءها ولا يَقِف على حدُودها‏.‏
وسُئل آخرً عن القَدر فقال‏:‏ عِلْم اختصمت فيه العُقول وتَقاوَل فيه المُخْتلفون وحق علينا أن نَرُدما التَبس علينا من حُكْمِه إلى ما سَبَق من عِلمه‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ تَكْوير اللَيل والنَّهار لا تَبْقى عليه الأعمار ولا لأحَد فيه الخِيار‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ خَرج الَحَجّاج ذات يوم فأصحر وحَضَر غَداؤه فقال‏:‏ اطلُبوا من يَتَغدَّى مَعَنا فَطلبوا فلم يَجدُوا إلا أعرابياً في شَمْلة فأتَوْه به فقال له‏:‏ هَلُمّ قال له‏:‏ قد دعاني من هو أكرمُ مَنك فأجَبتُه قال‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ اللّه تبارك وتعالى دعاني إلى الصَّيام فأنا صائم قال‏:‏ صَوْم في مثل هذا اليوم على حَرّ قال‏:‏ صُمْت ليوم هو أحرُّ منه قال‏:‏ فأفطر اليوم وصُم غداً قال‏:‏ ويَضْمن لي الأميرُ أن أعيشَ إلى غد قال‏:‏ ليس ذلك إلي قال‏:‏ فكيف تَسألني عاجلًا بآجل ليس إليه سَبيل قال‏:‏ طَعام طَيّب قال‏:‏ والله ما طَيَّبَه خَبَّازك ولا طَبَّاخك ولكن طَيِّبَته العافية قال الحجاج‏:‏ تاللّه ما رأيت كاليوم أخرجوه عنِّي‏.‏
أبو الفَضل الرّياشي قال‏:‏ أنشدنا أعرابي‏:‏ أباكية رُزَينةٌ أن أتاها نَعِيٌ أم يكون لها اصطبارُ إذا ما أهْلُ وُدّي وَدَعُوني وراحوا والأكُف بها غُبار وغُودِر أَعْظُمي في لَحْدِ قَبْر تَعاورُه الجَنَائبُ والقِطَار تَظَل الريح عاصفةً عليه ويَرْعَىِ حوله اللَّهِقُ النَّوَار فَذَاكَ النَّأي لا الهِجْران حَوْلاً وحَولاً ثم تَجْتمع الدِّيار وهذا نظير قول لَيْلَى الأخْيَلِية‏:‏ لعَمْرُكَ ما الهِجْران أنْ تَشْحطَ النًوَى ولكِنَّما الهجْران ما غيب القَبْرُ ونظيرُ قول الخنساء‏:‏ حسْبُ الخَلِيلَين كَوْنُ الأرض بينهما هذا عليها وهذا تَحْتها رِممَا وأنشد لآخرً‏:‏ الرياشي قال‏:‏ مرَ عمرُ بن الخطَّاب بالجَبّانة فإذا هو بأعرابي فقال له‏:‏ ما تصْنع هُنا يا أعرابيّ في هذه الدِّيار المُوحشة قال‏:‏ وَديعة لي هاهنا يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ما وَديعتك قال‏:‏ بنُي لي دَفنتُه فأنا أخرجُ إليه كلّ يوم أنْدُبه قال‏:‏ فانْدُبه حتى أسمَع فأنشأ يقول‏:‏ يا غائباً ما يَؤوب مِن سَفَره عاجَلَهُ موتُه على صِغَرِهْ يا قُرة العَينْ كأسا كُنتَ لي سَكَناً في طول ليلي نعم وفي قصره شَرِبْتَ كأساً أبوك شاربُها لا بد يوماً له على كبره يَشْرَبها والأَنَامُ كُلُّهمُ من كان في بدوه وفي حضره فالحمدُ للهّ لا شريك له الموت في حكمه وفي قدره قد قُسِّم العُمر في العباد فما يقْدِر خَلْقٌ يَزِيد في عُمُره قولهم في المدح ذَكر أعرابيّ قوماً عُبِّادا فقال‏:‏ تَركوا واللّه النعيم ليتنعَّموا لهم عَبرات مُتدافعة وزفرَات مُتتابعة لا تَراهم إلا في وَجْه وَجيه عند اللهّ‏.‏
وذكر أعرابي قوماً فقال‏:‏ أدبتهم الحِكْمَة وأحْكمتهم التجارب فلم تَغُرهم السلامة المنْطوية على الهلَكة ورَحل عنهم التسْويفُ الذي به قَطع الناسُ مسافة آجالهم فَذَلَت ألسنتُهم بالوَعد وانبسطت أيديهم بالوَجْد فأحْسنوا المقال وشَفعوه بالفَعال‏.‏
وسُئل أعرابيّ عن قَومه فقالت‏:‏ كانوا إِذا اصطفِّوا سَفرت بينهم السهام وإذا تصافَحُوا بالسُّيوف فغَرت المنايا أفواهَها فرُبّ يوْم عارم قد أحْسَنوا أدبه أو حَرْب عَبُوس قد ضاحكَتْها أسنّتهم إِنما قوْميِ البَحر ما ألقمْته التَقَم‏.‏
وذكر أعرابيّ قوماً فقال‏:‏ ما رأيتُ أسرَع إلى داع بلَيْلٍ على فرس حسِيب وَجَمَل نَجَيب منهم ثم لا ينتظر الأولُ السابقُ الآخرً اللاحق‏.‏
وذكر أعرابيّ قوماً فقال‏:‏ جَعلوا أموالهم مناديل أعراضهم فالخيرُ بهم زائد والمعروف لهم شاهد فيُعطونها بطيبة أنفُسهم إذا طُلبت إليهم ويباشرون المَعروف بإشراق الوُجوه إذا بُغي لديهم‏.‏
وذكر أعرابيّ قوماً فقال‏:‏ واللهّ ما نالوا شيئَاً بأطراف أناملهم إلا وَطِئناه بأخماص أقدامنا وإن أقصى هِمهم لأدنى فَعالنا‏.‏
وذَكرَ أعرابيّ أميراً فقال‏:‏ إذا وَلى لم يُطابق بين جُفونه وأرسل العُيون على عيونه فهو غائب عنهم شاهد معهم فالمُحْسن راج والمُسيء خائف‏.‏
ودَخل أعرابي على رجل من الوُلاة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير اجعلني زِماماً من أزمتّك لم التي تَجُر بها الأعداء فإن مِسْعر حَرب ورَكْاب نُجب شديد على الأعداء لَينٌّ على الأصدقاء مُنْطَوِي الحَصِيلة قليل الثَّمِيلة نوميِ غِرَار قد غَذَتني الحربُ بأفاويقها وحَلبتُ الدَّهر أشطُرَه ولا تَمْنعك عني الدَمامة فإنّ من تحتها شَهامة‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً ببراعة المنطق فقال‏:‏ كان واللّه بارع المنطق جَزْل الألفاظ عربيّ اللّسان فَصِيح البَيان رَقيق حواشي الكلام بَلِيلِ الرِّيق قليل الحَرَكات ساكِنِ الإشارات وذكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ رأيتُ رجلاً له حِلْم وأناة يُحَدَثك الحديث على مَقاطعه ويُنشدك الشعر على مَدَارجه فلا تسمع له لحناً ولا إحالة لعُتْبىٍ قال‏:‏ ذَكر أعرابي قوماً فقال‏:‏ آلتْ سُيوفهم ألاّ تَقْضي ديناً عليهم ولا تُضَيّع حقَا لهم فما اخِذ منم مَرْدود إليهم وما أخذوا مَتْرُوك لهم‏.‏
ومَدَح أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ما رأيتُ عيناً قطّ أخرًق لظُلْمة الليل مِن عينه ولَحْظة أشْبَه بِلَهيب النار من لَحْظته له هِزَة كهِزَّة السِّيف إذا طرِب وجُرْأة كجرأة الليث إذا غَضِب‏.‏
ومَدح أعرابي رجلاً فقال‏:‏ كان الفَهْمُ منه ذا أذنينِ والجواب ذا لِسانين لم أر أحداً أرْثَق لخَلل الرأي منه بَعِيد مَسافة العقل ومَراد الطَّرف إنما يَرْمي بهمَّته حيث أشار إليه الكرم‏.‏
ومدحِ أعرابي رجلاً فقال‏:‏ ذاك واللّه فَسِيح النّسب مُسْتَحكم الأدب من أيّ أقطاره أتيته انتهى إليك بكرم فَعال وحُسْن مَقال‏.‏
ومدحِ أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ كانت ظُلْمة ليله كضَوْء نهاره آمراً بإرشاد وناهياً عن فساد لحديث السّوء غيرَ مُنْقاد وقال أعرابي‏:‏ إنّ فلاناً خُلِقت نعم للسانه قَبل أن يًخْلق لسانُه لها فما تَراه الدهرَ إلاّ وكأنّه لا غِنى له عنك وإن كُنت إليه أحْوَج إذا أذنبت إليه غَفَر وكأنّه المُذنب وإذا أسأتَ إليه أحسن وكأنّه المُسيء‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ اشترى واللّه عِرْضه من الأذى فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرَأى بعدها عليه حُقوقاً وكان مِنْهاجاً للأمور المُشْكلة إذا تَناجز الناسُ باللاّئمة‏.‏
ومدح أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ كان واللّه يَغْسِل من العار وُجوهاً مُسْوَدَّة ويفْتحِ من الرأي عُيوناً مُنْسَدًة‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً فقالت‏:‏ ذاك والله يَنْفَع سِلْمه ولا يَسْتمِرّ ظُلْمه إن قالت فَعل وإن وَلي عَدَل‏.‏
ومدح أعراب رجلاً فقال‏:‏ ذاك واللّه يُعْنَى في طَلب المَكارم غيرَ ضالٍّ فيَ مَسالك طُرقها ولا مُشْتَغل عنها بِغَيْرها‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ يُسدِّد الكلمة إلى المعنى فَتَمْرُق مُروق السَّهم من الرميّة فما أصابَ قَتل وما أخْطأ أشْوَى وما عَظْعَظ له سَهْمٌ منذ تَحرّك لسانُه في فيه‏.‏
وذكر أعرابي أخاه فقال‏:‏ كان واللّه رَكوباً للأهْوال غيرَ ألوف لربات الحِجَال إِذا أرْعد القومُ منِ غير كرّ يُهين نفساً كريمة على قَوْمها غير َمُبْقِية لغدٍ ما في يَوْمها‏.‏
ومدَح رجلٌ رجلاً فقال‏:‏ كانّ الألْسُن رِيضت فما تَنْعقد إلاّ على وُدّه ولا تَنْطق إلا بثَنائه‏.‏
ومدح أعرابي رجلاً فقال كان واللّه للإخاء وَصُولاً وللمال بَذولاً وكان الوَفاء بهما عليه كَفِيلا فَمَنْ فاضَله كان مَفْضولاً‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ التباعُد من حَشْو الكلام والدَّلالة بالقليلِ على الكَثير‏.‏
ومدح أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ يُصم أذنيه عن استماع الخَنَا ويُخْرٍس لسانه عن التكلّم به فهو الماء الشرَّيب والمِصْقع الخَطيب‏.‏
وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ذاك رجال سَبق إليَّ مَعْروفُه قبل طَلَبي إليه فالعِرْض وَافِر والوَجْه بمائه وما استقل بنعمة إلا أثْقلني بأخرى‏.‏
وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ذاك رَضيع الجُود والمَفْطُوم به عَييّ عن الفَحْشاء مًعْتَصِم بالتَقوى إذا خَرِست الألسن عن الرأي حَذَفَ بالصَواب كما يَحْذف الأريب فإِن طالت الغايةُ ولم يكن مِن دُونها نِهاية تَمّهل أمام القوم سابقاً‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ إنّ جَليسه لِطيب عِشْرَته أطربُ من الإبل على الحُدَاء والثَّمِل على الغِنَاء‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ كان له عِلْم لا يُخالطه جَهْل وصِدْقٌ لا يَشُوبه كَذِب كأنه الوَبْل عند المَحْل‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ذاك واللهّ من شجر لا يُخلف ثمره ومن بَحر لا يُخاف كدره‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً فقالت‏:‏ ذاك واللّه فتى ربّاه الله بالخير ناشئاً فَأحْسن لِبْسَه وزين به نفسه‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ما رأيتُ أعشق للمعروف منه وما رأيتُ النكر أبغضَ لأحَدٍ منه‏.‏
وقَدِم أعرابيّ البادِية وقد نال من بني بَرْمك فَقِيل له‏:‏ كيف رأيتَهم قال‏:‏ رأيتُهم وقد أنِسَتْ بهم النّعمة كأنها من بناتهم‏.‏
قال‏:‏ وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ المُلوك فقال‏:‏ إنَّ جهلاَ أن يقول المادحُ بخلاف ما يَعْرِف من المَمْدُوح وإنّي واللّه ما رأيتُ أعشق للمكارم في زَمانِ اللؤم منك ثم أنشد‏:‏ مالي أرى أبْوَابهم مَهجُورةً وكأنَ بابَك مَجْمَع الأسْوَاقِ حابَوك أم هابُوك أم شامُوا النَّدَى بيدَيْك فاجتمعوا مِن الآفاق إنّي رأيتُك للمكارم عاشقاً والمَكْرُمات قليلة العُشاق وأنشد أعرابي في مثل هذا المعنى‏:‏ بَنت المكارمُ وَسْطَ كفّك بَيْتَها فَتِلادُها بك للصديق مباح وإذا المَكارمُ أغْلقت أبوابَها يوماً فأنت لقفها مفتاح وأنشد أعرابيٌّ في بني المُهلّب‏:‏ قَدِمت على آل المهلب شاتِياً قَصياً بعيد الدار في زمن المحل فما زال بي إلْطافُهم وافتقادُهم وبِرُّهُم حتى حسبتهم أهْلِي وأنشد أعرابيّ‏:‏ كأنك في الكتاب وَجَدْتَ لاءً مُحرمةً عليك فما تَحِل وما تَدْرِي إذا أعْطِيتَ مالاً أتكثِر مِن سَماحك أمْ تُقِلّ وقال أعرابي في مَدْح عُمر بن عبد العزيز‏:‏ مُقَابَل الأعْراق في الطاب الطاب بين أبي العَاص وآل الخَطَابْ وأنشد أعرابي‏:‏ لنَا جَواد أعار النَيْلَ نائلَه فالنيلُ يَشْكر منه كثرَْة النَّيْل إن بارز الشمسَ ألْفي الشمسَ مُظْلِمةً أو أزحم الصم ألجاها إلى الميل أهْدَى من النجْم إنْ نابته مُشْكلةٌ وعند إمضائه أمضي من السيل والموت يرهب أن يَلْقى مَنيّته في شَدّه عند لَفّ الخَيْل بالخَيْل قولهمَ في الذم الأصمعي‏:‏ قال‏:‏ ذكر أعرابي قوماً فقال‏:‏ أولئك سُلِخت أَقْفاؤُهم بالهجاء ودُبغت وجُوههم باللُّؤم لباسُهُم في الدُّنيا الملامة وزادُهم إلى الآخرًة النَّدامة‏.‏
قالَ‏:‏ وذَكر أعرابي قوماً فقال‏:‏ لهم بُيوت تدْخل حَبْواً إلى غير نمارق وَلا وَسائد فُصُح الأْسن برَدِّ السائِل جُعْد الأكُف عن النّائل‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ لقد صَغر فلاناً في عيني عظمُ الدًّنيا في عَينه وكأنما يَرى السائلَ إذا أتاه مَلَكَ الموت إذا رآه وسئل أعرابي عن رجل فقال‏:‏ ما ظَنُّكم بِسكِّير لا يًفيق يَتّهم الصَّديق ويعصي الشفيق في موضع إلا حرمت فيه الصلاة ولو أفلتَت كلمة سُوء لم تصر إلا إليه ولو نزلت لعنة من السماءِ لم تَقَع إلّا عليه‏.‏
وذكر أعرابيّ قوماً فقال‏:‏ أقلُّ الناس ذنوبا إلى أعدائهم وأكثرهم جُرما إلى أصدقائهم يَصُومون عن المعروف ويَفطِرون على الفحشاء‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ إِنَّ فلانا ليُعْدِي بإثمه من تَسمَّى باسمه ولئن خَيَّبني فلرُبّ قافية قد ضاعت في طَلب رجل كريم‏.‏
وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ تَغْدو إليه مواكب الضَّلالة فَتَرْجع من عنده بِبُدُور الآثام مُعْدِم مما تُحِب مُثْرِ مما تَكْره وصاحبُ السُّوء قِطْعة من النار‏.‏
وقال أعرابيّ لرجل‏:‏ أنت واللّه ممن إذا سأل ألحف وإذا سُئِل سَوّف وإذا حدَث حَلف وإذا وَعَدَ أخْلف تَنْظُر نَظَر حَسُود وتُعْرِض إعْراض حَقُود‏.‏
وسافر أعرابيّ إلى رجل فَحَرَمه فقال لما سُئل عن سَفره‏:‏ ما رَبحْنا في سَفَرنا إلا ما قصَرنا من صَلاَتنا فأما الذي لَقِينا من الهواجر ولَقِيتْ منا الأباعر فَعُقوبة لنا فيما أفْسدنا من حُسنْ ظَنِّنا ثم أنشأ يقول‏:‏ رَجَعنا ساِلمِينَ كما خَرَجنا وما خابت سريّة سالمينَا وقال أعرابيّ يهجو رجلاً‏:‏ ولمّا رأيتُك لا فاجراً قَويًّا ولا أنت بالزَّاهدِ ولا أنت بالرَّجُل المُتَّقِي ولا أنتَ بالرَّجل العَابد عرضْتُك في السوقِ سوقِ الرَّقيقِ وناديتُ هل فيك مِنْ زائدِ على رَجُل خائن للصَّديق كَفُور بأنْعُمه جاحِد فما جاءني رجلٌ واحدٌ يَزيد على دِرْهم واحد سِوَى رَجُل زَادَني دَانَقاً ولم يك في ذَاك بالجًاهد فَبعْتك منه بلا شاهد مخافَة رَدّك بالشَّاهد وأبتُ إلى منزلي غانماً وحَلَّ البَلاَءُ على الناقد وذَكر أعرابي رجلاً فقَال‏:‏ كان إذا رآني قَرَّب من حاجب حاجباً فأقول له لا تُقبِّحٍ وَجهك إلى قُبحه فواللّه ما أتيتُك لِطَمع راغباً ولا لِخَوفً راهباً‏.‏
وذَمّ أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ عَبْد الفَعال حُرِّ المَقال عَظيم الزُّواق دنيء الأخلاق الدَّهر يَرفعه ونَفْسُه تَضَعه‏.‏
وذَمَّ أعرابي رجلاً فقال‏:‏ ضَيِّق الصَّدر صَغير القَدْر عَظِيم الكِبْر قَصِير الشِّبر لَئيم النَّجْر كَثِير الفَخْر‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ دخلتُ البصرةَ فرأيت ثِياب أحْرار على أجساد عَبِيد إِقبالُ حظِّهم إِدْبار حَظّ الكِرام شَجَر أصوله عند فُروعه شَغَلهم عن المعروف رَغْبتهم في المنكر‏.‏
وذَكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ ذاك يَتيم المجالس أعْيا ما يكون عند جُلسائه أبلَغُ ما يكون عند نَفْسه‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ ذلك إِلى مَن يًداوي عقلَه من الجهل أحوجُ منه إلى من يداوي بدنه من المرض إنه لا مرضَ أوجع من قلة عَقْل‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً لم يُدْرك بثأره فقال‏:‏ كيف يُدْرك بثأره مَن في صَدْره من اللُّؤْم حَشْوً مرْفقيه ولو دُقّت بوجهه الحِجارة لرَضّها ولو خَلا بالكَعبة لَسَرَقها‏.‏
وذَكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ تَسهر والله زوجتُه جُوعا إذا سَهِر الناسُ شِبَعا ثم لا يَخاف مع ذلك عاجل عار ولا آجل نار كالبهيمة أكلَت ما جَمَعت ونَكحت ما وجدت‏.‏
وسمع أعرابي رجلاً يَدْعو فقال‏:‏ وَيحك‏!‏ إنما يُستجاب لمُؤمن أو مَظلوم ولستَ بواحدٍ منهما وأراك يَخفّ عليك ثِقل الذُّنوب فَتَحْسُنِ عنْدك مَقَابح العُيوب‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً بِضَعْفٍ فقال‏:‏ سيء الرَّويّة قليل التَّقِيَّة كثير السِّعاية ضَعِيف النّكاية‏.‏
وذكر أعرابي رجلاً فقال‏:‏ عليه كلَّ يوم من فِعْله شاهد بفِسْقه وشهاداتُ الأفعال أعدل من شهادات الرّجال‏.‏
وذَكَر أعرابي رجلاً بذِلّة فقال‏:‏ عاش خاملاً ومات مَوْتوراً‏.‏
وذَكَر قوماً ألْبِسُوا نِعمة ثم عُرًّوا منها فقال ما كانت النّعمة فيهم إلا طَيْفا لما انتبهوا لها ذهبت عنهم‏.‏
وذَمَّ أعرابي رجلاً فقال‏:‏ هو كالعَبْد القِنّ يَسُرُّك شاهداً ويسوءك غائباً‏.‏
ودَعت أعرابية على رجل فقال‏:‏ أمْكنِ اللّه منك عدوّا حُسودا وفَجعِ بك صَدِيقاً وَدُودا وسَلَّط عليك هَمًّا يُضنِيك وجَاراَ يُؤذِيك‏.‏
وقال أعرابيّ لرجُل شريف البَيْت دنيء الهمّة‏:‏ ما أحْوَجَكَ إلى أن يكون عِرْضُك لمن يَصُونه فتكونَ فوقَ مَن أنتَ دُونه‏.‏
وذَكر أعرابيّ رجلاً‏.‏
فقال‏:‏ إنْ حَدثته سابقك إلى ذلك الحَدِيث وإن سَكَتّ عنه أخذ في التُرهات‏.‏
وذكرَ أعرابي أميراً فقال‏:‏ يَصِل النَّشْوَة ويَقْضي بالعَشْوَة ويَقْبَل الرِّشْوةَ‏.‏
وذكر أعرابيّ رجلاً راكباً هواه فقال‏:‏ لهو واللهّ أسْرع إلى ما يهوَاه من الأسَن إلى راكد المياه أفقره ذلك أو أغنَاه‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ ليتَ فلاناً أقَالَني من حُسْن ظَنِّي به فأخْتِمَ بصَوَاب إذ بدأتُ بخطأ ولكنْ من لم تُحْكِمْهُ التَجَارب أسْرَع بالمَدْح إلى مَنْ يَسْتوجب الذّم وبالذّم إلى مَن يَسْتوجب المَدْح‏.‏
وقال أعرابيّ لرجل‏:‏ هل أنتَ إلا أنتَ لم تتغيّر ولو كُنت من حدِيد ووُضعتَ في أتُون مَحْمِيّ لم تَذُب‏.‏
وسمعتُ أعرابياً يقول لأخيه‏:‏ قد كنتُ نَهيتُكَ أن تُدَنِّس عِرْضك بعِرْض فلان وأعلمتُك أقْبَل أعْراب‏!‏ إلى سَوَار فلم يصَادف عنده ما أحب فقال فيه‏:‏ رأيتُ لي رُؤيا وعَبَّرْتُها وكنتُ للأحْلام عبّارَا بأنني أخبِطَ في لَيْلَتي كَلبًا فكان الكَلْبُ سَوَّارا وقال أعرابي في ابن عم له يُسَمَّى زِيَاداً‏:‏ مَنْ يُقَادِرْ مَن يُطَافِس مَن يُناذل بِزِياد مَن يُبادلني قريباً ببعيد مِن إيَادِ وقال سَعِيد بن سَلْم الباهليّ‏:‏ مدَحَني أعرابي فاسْتَبطأ الثواب فقال‏:‏ لكلِّ أخِي مَدْحٍ ثوابٌ يعده وليسِ لِمَدْح الباهلي ثَوَابُ مَدَحْتُ سَعِيداً والمَدِيحُ مهَزَةٌ فكان كَصَفْوَانٍ عليه ترَابُ وقاد أيضاً‏:‏ وإنّ مِن غايةِ حِرْص الفَتَى طِلاَبُه المَعْروفَ في باهِلَهْ كبِيرُهم وَغد وَمَوْلودهم تَلْعَنُه من قُبْحِه القابِلَه وقال أيضاً‏:‏ سَبَكْنَاهُ ونَحْسَبه لُجَيْنًا فأبْدَى الكير عن خبَثِ الحديدِ لما رَآنا فَرَّ بوَّابُه وانسَد َمن غير يَدٍ بابُه وعِنْده مِن مَقْته حاجب يَحْجُبه إن غاب حُجَّابُه دَخَل أعرابيّ على المُساور بن هِنْد وهو على الري فلم يُعْطِه شيئاً فخرج وهو يقول‏:‏ أتيتُ المُساوِرَ في حاجَةٍ ما زَالَ يَسْعُل حتى ضَرَطْ وَحَكً قَفَاه بِكًرْ سُوعِه ومسحَ عُثْنُونه وامْتَخَط فأمْسكتُ عن حاجَتي خِيفة لأخرى تُقَطّعُ شَرْجَ السَّفَط فأقسم لوعُدْت في حاجَتي للطَّخ بالسًلْح وَشي النَّمَط وقال غَلِطْنَا حِسَاب الخَرَاج فقلتُ من الضّرْط جاء الغَلَط وكان كلما ركب صاح الصِّبيان‏:‏ من الضّرْط جاء الغلط حتى هَرَب من غير عَزْل إلى بلاد أَصْبهان‏.‏
أبو حاتِم عن أبي زَيْد قال‏:‏ أنشدنا أعرابيّ في رجل قَصِير‏:‏ يَكاد خَلِيلي من تَقارُب شَخْصِه يَعَضُ القُرَادُ باسْته وهو قائمُ وذَكَر أعرابيّ امرأة قَبيحة فقال‏:‏ تُرْخِى ذَيْلها على عُرْقوبي نَعامة وتَسْدِل العُتْبي قال‏:‏ سَمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ لا تَرك اللهّ مخًّا في سُلامَى ناقة حَمَلتْني إليك والدَّاعي عليها أحقُّ بالدَعاء عَليك إذ كلَّفها المسيرَ إليك وقال أعرابي لابن الزبير بوركت ناقة حملتني إليك‏.‏
قال‏:‏ إنّ وصاحبها‏.‏
قوله‏:‏ إن يُريد‏:‏ نعم‏.‏
قال ابن قيس الرقيّات‏:‏ ويَقُلْن شَيْبٌ قد عَلا ك وقد كَبِرْتَ فقلتَ إنَّه يريد‏:‏ نعم‏.‏
وذَكر أعرابيّ رجلاً فقال‏:‏ لا يُؤْنِسُ جارًا ولا يُؤهل دارا ولا يُثْقِب نارا‏.‏
وسأل أعرابيّ رجلاً فَحَرمه فقال له أخوه‏:‏ نزلتَ واللهّ بوادٍ غير مَمطور وبرجُل غير مَبْرورِ فارتحِل بنَدَم أو أقِمْ بعَدَم‏.‏
ودخلت أعرابية على حَمدونة بنت المهديّ فلما خرجت سُئلت عنها فقالت‏:‏ والله لقد رأيتُها فما رأيتُ طائلا كأنَّ بطنها قِرْبة وكأنَّ ثَدْيها دَبّة وكأن استها رقعة وكأن وَجْهها وَجْه ديك قد نفَش عِفْرِيَتَه يُقاتل ديكا‏.‏
وصاحَبَ أعرابي امرأة فقال لها‏:‏ واللّه إنك لمُشْرفة الأذنين جاحظة العَيْنين ذات خَلْق مُتضائل يُعْجبكِ الباطل إنْ شَبِعتِ بَطِرْت وإن جُعْت صَخِبْت وإن رأيتِ حَسنًا دَفَنْته وإن رأيتِ سَيِّئا أذعْتِه تُكْرمين من حَقَرك وتُحَمّرين مَن أكْرَمكِ‏.‏
وهَجَا أعرابيّ امرأته فقال‏:‏ يا بِكْرَ حَوَّاء من الأولاد وأمَ آلافٍ مِنَ العِبَادِ عُمْرك مَمْدُود إلى التَّنادي فحدِّثينا بحديث عاد إني من شخصك في جهاده وقال أعرابيّ في امرأة تَزَوَّجها وذُكِر له أنها شابة طريّة ودَسوا إليه عَجوزاً‏:‏ عَجوز تُرَجِّى أن تكون فَتِيّة وقد نَحَل الجَنْبَان واحدودب الظَّهْر تَدُسىّ إلى العطّارِ سِلعة أهلها وهل يُصْلِح العطار ما أفْسَدَ الدهر تَزوّجتها قبل المِحَاق بلَيْلةٍ فكان مَحاقاً كلُه ذلك الشَهر وما غرَّني إلاخِضَابٌ بكفِّها وكُحْل بعَيْنَيْها وأثْوَابُها الصُفْر وقال فيها‏:‏ ولا تستطيع الكُحْلَ من ضِيق عَيْنها فإن عالَجتْه صار َفوق المحَاجِر وفي حاجبَيها حَزَّة كغِرارة فإن حُلِقا كانت ثلاثُ غَرَائر وثَدْيان أما واحدٌ فهو مِزْوَد وآخرً فيه قِرْبة لمُسافر وقال فيها‏:‏ لها جِسم بُرْغوث وساقا بَعُوضة ووَجْه كَوَجْه القِرْد أو هو أقْبَحُ تُبَرِّقُ عَيْنيها إذا ما رَأيتها وتَعْبِس في وَجْهِ الضَّجيع وتَكْلح إذا عاينَ الشيطان صُورة وَجْهها تَعَوَذ منها حين يُمْسى وُيصْبح وقال أعرابي في سَوْداء‏:‏ كأنها والكُحْل في مِرْوَدها تَكْحَل عَيْنَيها ببعض جِلْدِها وقال فيها‏:‏ أشْبَهك المِسْكُ وَأشْبَهته قائمةً في لَوْنه قاعِدَهْ لاشَكّ إذ لَوْنُكما وَاحدٌ أنكما من طِينَة واحده ولآخر في عجوز‏:‏ عجوز تُطَيِّب لي نَفسَها وقد عَطَلَ الدهرُ مِسْواكها فمن ناكها أبداً طائعاً فناك أباه كما ناكها وقال كُثَيّر في نُصَيْب بن رَباح وكان أسْود‏:‏ رأيتُ أبا الحَجْنَاء في الناس حائرا ولونُ أبي الحَجْناء لوْن البَهائم تَرَاه على ما لاحَه من سَوَاده وإن كان مَظْلوما له وَجْه ظالم وقال رجل من العُمّال لأعرابيّ‏:‏ ما أحْسبك تَعْرف كم تُصَلّي في كل يوم وليلة فقال له‏:‏ فإن عرفتُ أتجعل لم على نَفْسك مسألة قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ثم صَلاة الفَجْر لا تُضيَّعِ قال‏:‏ صدقت‏.‏
هات مسألتك قال له‏:‏ كم فِقارُ ظَهْرك قال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ أفتَحْكم بين الناس وتجهل هذا من نَفسك‏!‏ قولهم في الغزل ذَكر أعرابي امرأة فقال‏:‏ لها جلد من لؤلؤ مع رائحة المِسْك وفي كل عُضْو منها شَمْس طالعة‏.‏
وذَكَر أعرابيّ امرأة وَدَعها للمسير‏:‏ واللهّ ما رأيْتُ دَمْعة تَرقرق من عين بإثمد على دِيباجة خَدّ أحسنَ من عَبْرة أمْطرتْها عينُها فأعْشب لها قَلبي‏.‏
وسمعت أعرابياً يقول‏:‏ إنّ لي قَلْباً مَروعاً وعَيْنا دَمُوعا فماذا يَصنعُ كلّ واحد منهما بصاحبه مع أن داءَهما دَواؤهما وسُقْمَهما شِفاؤهما وقال أعرابي‏:‏ دخلتُ البصرةَ فرأيتُ أعْيُنًا دُعْجا وحواجبَ زُجّا يَسْحَبن الثّيَاب ويَسْلُبن الألباب‏.‏
وذكر أعرابيّ امرأة فقال‏:‏ خلوتُ بهما ليلةً يُرينيها القَمر فلما غاب أرَتْنِيه قلتُ له فما جرى بَينكما فقال‏:‏ أقرب ما أحلَّ اللّه مما حرَّم الإشارةُ بغير باس والتقرّب من غير مَساس‏.‏
وذكر أعرابي امرأة فقال‏:‏ هي أحسنُ من السماء وأطيبُ من الماء‏.‏
قال‏:‏ وسمعت أعرابياً يقول‏:‏ ما أشدّ جَوْلةَ الرأي عند الهَوَى وفِطامَ النَّفس عن الصَبا ولقد تقطعتْ كَبدي للعاشقين لَوْمُ العاذلين قِرَطة في آذانهم ولَوْعات الحُبّ حِبَرات على أبدانهِم مع دُموع على المغاني كغًروب السَّواني‏.‏
وذكر أعرابي امرأة فقال‏:‏ لقد نعِمَتْ عينٌ نَظَرتْ إليها وشَقِيَ قلْب تَفَجَّع عليها ولقد كنتُ أزورها عند أَهْلها فَيُرحِّب بي طَرْفُها ويَتَجهمنىِ لِسَانُها قيل له‏:‏ فما بلغ من حُبّك لها قال‏:‏ إني لذاكرٌ لها وبيني وبينها عَدْوة الطائر فأجد لذِكرها ريح المِسْك‏.‏
وذَكرَ أعرابيّ نِسْوة خَرَجنَ متنزّهات فقال‏:‏ وُجوه كالدّنانير وأعناق كأعْناق اليَعَافير وأوْساط كأوساط الزَّنابير أَقْبلن إلينا بحُجُول تَخْفِق وأوْشحة تَقْلَق فكم من أَسير لهنّ وكم مُطْلق‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ أتبعتُ فلانة إلى طَرَابُلْس الشام والحَريص جاهِد والمُضِلّ ناشِد ولو خُضْت إليها النار ما ألمتهَا‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ الهَوَى هَوَان ولكنْ غُلِط باسمه وإنما يَعْرف ما أقول مَن أبْكَتْه المنازلُ والطلول‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ كنتُ في شبَابي أعَضّ على المَلام عَضّ الجَواد على اللِّجام حتى أخذ الشَّيْب بعِنَان شَبَابي‏.‏
وذكر أعرابيّ امرأة فقال إنّ لسَاني بذِكْرها لَذَلول وإنّ حُبّها لِقَلْبي لَقَتُول وإِنّ قصير اللّيل بها لَيَطُول‏.‏
وَصَف أعرابي نساءً ببلاغة وجَمال فقال‏:‏ كلامُهنَ أقتلُ من النّبْل وأو وْقع بالقَلْب من الوَبْل بالمَحْل وفُرُوعهنّ أحْسن من نروع النَخْل‏.‏
ونَظَر أعرابي إلى امرأة حَسْناء جميلة تُسمَى ذَلْفَاء ومعها صَبِيْ يَبكي وكلما بكى قبلته فأنشأ يقول‏:‏ يا لَيتَني كنتُ صَبِيّا مُرضَعَا تَحْمِلُني الذَلْفَاءُ حَوْلا اكْتَعَا إذا بَكَيْتُ قبلتني في أرْبعا فلا أزال الدَهر أبْكي أجْمَعا وأنشد أبو الحسن عليُّ بن عبد العزيز بمكة لأعرابي‏:‏ قد أعصرت أو قد دنا إعْصَارُها يَطِيرُ من غُلْمتها إزارُها العُتْبي قال‏:‏ وَصف أعرابيّ امرأة حَسْناء فقال‏:‏ تَبْسم عن حُمْش اللثات كأقاحي النَبَات فالسعيدُ مَن ذاقه والشقيّ مَن أراقه‏.‏
وقال العُتْبيّ‏:‏ خرجت ليلةً حين انحدرت النجومُ وشالت أرْجلها فما زِلْتُ أصْدع الليلَ حتى إنصدع الفجرُ فإذا بجارية كأنّها عَلَم فجعلتً أغازلها فقالت‏:‏ يا هذا أما لك ناهٍ من كرَم إنْ لم يكن لك زاجر من عَقْل قلت‏:‏ والله ما ترانا إلا الكواكبُ قالت‏:‏ فأين مُكَوْكبها ذَكر أعرابيّ امرأة فقال هي السُّقم الذي لا برء منه والبُرء الذي لا سُقْم معه وهي أقربُ من الحَشىَ وأبعد من السَّما‏.‏
قال أعرابي‏:‏ وقد نظر إلى جارية بالبَصْرِة في مأتم‏:‏ وبَصْرِيةٍ لم تُبْصر العينُ مِثلَها غدَتْ بِبَياضٍ في ثِيَاب سَوَادِ غَدَوْتِ إلى الصَّحراء تَبْكين هالكا فأهْلكتِ حيًّا كُنْتِ أشْأَمَ عاد فيا ربّ خُذْ لي رَحْمَةً من فُؤادِها وحُلْ بين عَيْنَيها وبين فًؤادي وقال في جارَية وَدّعها‏:‏ مالتْ توَدّعني والدمعُ يَغْلبها كما يَميلُ نَسِيم الرّيح بالغُصنِ ثم استمرًت وقالت وهي باكيةٌ يا ليتَ مَعْرفتي إياك لم تَكُن يا زَيْنَ من وَلدت حَوَاءُ من وَلد لولاك لم تَحْسُن الدنيا ولم تطِبِ أنتِ التي مَن أراه اللّهُ رُؤيَتها نال الخلود فلم يَهْرَم ولم يَشِبِ وأنشد الرّياشي لأعرابيّ‏:‏ من دمْنَةٍ خُلِقَتْ عَيْناكَ في هَتَنِ فما يَرُدّ البُكا جَهْلاً على الدِّمَنِ ما كُنت للقَلْب إلا فِتْنةً عَرَضت يا حبذَا أنتِ من مَعْروضة الفِتن تسُيءُ سَلْمى وأجزِيها به حَسَناً فَمَنْ سِواي يُجازي السوء بالحَسَن قال‏:‏ وسمعتُ أعرابياً يصف امرأة فقال‏:‏ بَيضاء جَعْدة لا يمَس الثوبُ منها إلا مُشاشة كَتفيها وحَلَمة ثَدْييها ورَضْفَتي رُكبتيها ورانفتي ألْيتيها وأنشد‏:‏ أَبت الرَّوادفُ والثُّديّ لقُمْصها مَسَّ البُطون وٍ أَنْ تَمسّ ظُهورَا وإذا الرّياح مع العَشي تنَاوحت نَبَّهْنَ حاسدة وهِجْنَ غَيُورا وقال أعرابيّ‏:‏ ليت فلانة حَظِّي من أَمَلِي ولرُبّ يوم سِرْتُه إليها حتى قَبض الليلُ بَصري دونها وإنَ منِ كلام النَساء ما يقوم مَقام الماء فيَشْفي من الظمأ‏.‏
وذكر أعرابيّ امرأة فقال‏:‏ تلك شمْس باهتْ بها الأرضُ شمسَ سمائها‏.‏
وليس لي شفيع في اقتضائها وإنَّ نفسي لَكَتُومٌ لدائها ولكنها تَفِيض عند امتلائها‏.‏
أخذ هذا المعنى حبيب فقال‏:‏ شكَوْتُ وما الشَكوى لمثليَ عادةٌ ولكنْ تَفيضُ النفسُ عند امتلائها وقيل لأعرابيّ‏:‏ ما بالُ الحَبّ اليومَ على غير ما كان عليه قبلَ اليوم قال‏:‏ نَعم كان الحبّ في القَلْب فانتقل إلى المَعدة إن أطْعمْتَه شيئاً أحَبّها وإلا فلا‏.‏
كان الرجُل يُحب المرأة يُطيف بدارها حَوْلاً ويَفْرح إن رأى مَن رآها وإن ظفِر منها بمَجلس تَشَاكيا وتناشدا الأشعار وإنه اليومَ يُشير إليها وتشير إليه ويَعِدها وتَعِدُه فإذا اجتمعا لم يَشكُوا حُبًّا ولم يُنْشِدا شعرا ولكنْ يَرْفع رِجْلَيها ويَطْلُب الوَلد‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ شكَوتُ فقالتْ كلّ هذا تَبَرُّمًا بحُئيِ أراح اللّه قَلبَك من حُبِّي فلما كتمتُ الُحَبّ قالت لَشَدما صَبَرْت وما هذا بِفِعْل شَجِي القَلْب وأدْلُو فتقصيني فأبعد طالباً رضاها فَتَعْتَدّ التَباعُدَ مِن ذَنْبي فشكْوَاي تُؤذِيها وصَبْري يَسُوءها وتَجْزع مِنْ بُعْدِي وتَنْفِر من قُرْبي فيا قوم هَلْ من حِيلَة تَعْلَمونها أشِيرُوا بها واسْتَوْجبوا الشكر من رَبي قولهم في الخيل الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يقول‏:‏ خرَجَتْ علينا خَيْلٌ مُسْتَطيرة النَّقع كأنّ هَوادِيهَا أعلام وآذانَها أطرافُ أقْلاَم وفُرْسانَها أسُود آجام‏.‏
أخذ هذا المعنى عَدِيّ بن الرِّقاع فقال‏:‏ تَخرُجْن فُرُجات النَّقْع داميةً كأنّ آذانَها أطرافُ أقْلاَم وقال أعرابي‏:‏ خَرَجْنا حُفَاة حين انتعل كُلُّ شيء بِظلِّه وما زادُنا إلا التوكل وِلا مَطايانا إلا الأرْجل حتى لَحِقْنا القومَ‏.‏
وذَكَر أعرابيّ فَرَسا وسُرْعته فقال‏:‏ لما خرَجت الخيلُ أقبل شَيْطانٌ في أشْطان فلما أرْسِلت لمَع لَمْع البَرْق فكَان أقربَها إليه الذي تَقع عَيْنه عليه‏.‏
وقال أعرابي في فَرَس الأعْور السُّلَميّ‏:‏ مر َكلَمْع البَرْق سام ناظرُه تَسْبَحُ أولاه وَيَطْفو آخرًه فمّا يَمَسُّ الأرْضَ منه حافِرُه سُئِل أعرابيّ عن سوابق الخيل فقال‏:‏ الذي إذا مَشى رَدى وإذا عدا دَحا وإذا استُقْل أقْعى وإذا استُدْبر جَبِّى وإذا اعتُرض استوَى‏.‏
وذكرَ أعرابيّ خيلاً فقال‏:‏ واللّه ما انحدرت في وادٍ إلا ملأتْ بَطنه ولا رَكِبت بطْنَ جَبَل إلا أسْهَلت حَزْنه‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ خَرَجتَ على فَرَس يَخْتال قولهم في الغيث الأصمعي قال‏:‏ قلتُ لأعرابيّ‏:‏ أي الناس أوْصَفُ للغَيْث قال‏:‏ الذي يقول - يعني امرأ القيس -‏:‏ دِيمةٌ هَطْلاَء فيها وَطَفٌ طبقَ الأَرْضَ تَحَرّى وَتَدِرّ قلتُ‏:‏ فَبعده مَات قال الذي يقول - يعني عَبِيد بن الأبرص -‏:‏ يا مَنْ لِبَرْق أبيتُ الليلَ أرقُبه في عارضٍ مُكْفَهِرّ المُزنِ دَلّاح دَان مُسِفّ فُوَيْقَ الأَرْض هَيْدَبُه يَكادُ يَدْفَعه مَن قام الراح ودَخل أعرابيّ على سُليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ أصابتك سَماءٌ في وَجهك يا أعرابيّ قال‏:‏ نعم يا أميرَ المؤمنين غيرَ أنها سَحَّاء طَخْياء وَطْفَاء كأنّ هواديَها الدِّلاء مُرْجَحنَّة النَواحي موصولة بالآكام تَمسّ هامَ الرِّجال كَثِير زَجَلها قاصفٌ رَعْدُها خاطف بَرْقها حَثِيث وَدْقها بطىء سَيْرها مُتَفجّر قَطْرها مُظلم نَوْؤها قد ألجأت الوحشَ إلى أوطانها تَبْحث عن أصولها بأظْلافها مُتَجمّعة بعد شَتاتها فلولا اعتصامُنا يا أميرَ المؤِمنين بعِضاه الشَجر وتعلُقنا بقنَن الجبال لكُنّا جُفَاء في بَعْض الأودية وَلَقَم الطَريق فأطال الله لأمّة بقاءك ونَسألها في أجلك فهذا ببركتك وعادة اللهّ بك على رعيّتك وصلّى اللهّ على سيدنا محمد‏.‏
فقال سُليمان‏:‏ لَعَمْرُ أبيك لئن كانت بديهةً لقد أحسَنت وإن كانت مُحَبَرة لقد أجدت قال‏:‏ بل مُحَبّرة مًزَوّرة يا أميرَ المؤمنين قال‏:‏ يا غلام أعطه فوالله لصِدْقُه أعجبُ إلينا من وَصْفه‏.‏
قيل لأعرابي‏:‏ أي الألوان أحسَن قال‏:‏ قصور بيض في حدائق خضر‏.‏
وقيل لآخرً‏:‏ أيّ الألوان أحْسن قال‏:‏ بَيْضة في رَوْضة عن غِبِّ سارية والشمسُ مُكَبِّدة‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ لقد رأيتَ بالبَصرة بُرُودا كأنها صبُغت بأنوار الرَّبيع فهي تَرُوع واللاِّبس لها أرْوع‏.‏
العُتبي قال‏:‏ سَمِعْتُ أعرابياً يقول‏:‏ مَررت ببلدة ألقى بها الصَّيَفُ بَعاعه فأظهر غديراً يَقْصُر الطرفُ عن أرجائه وقد نَفت الريحُ القَذَى عن مائه فكأنه سَلاسل دِرْع ذاتِ فُضُول‏.‏
وأنشد أبو عثمان الجاحظ لأعرابيّ‏:‏ أينَ إخْوَانُنا على السرَاء أين أهْلُ القِبَاب والدَهْناءِ جاورًنا والأرضُ مُلْبَسةٌ نَوْ رَ الأقاحي يُجاد بالأنْوَاء كل يوم بأقْحُوان جديد تَضحك الأرض من بُكاء السماء قال ابنُ عِمْران المَخْزوميِّ‏:‏ أتيتُ مع أبي والياً على المَدِينة من قُرَيش وعنده أعرابي يقال له ابن مُطَير وإذا مَطر جَوْد فقال له الوالي‏:‏ صِفْه فقال‏:‏ دَعْني أشرف وأنظر‏.‏
فأشرف ونظر ثم نزل كَثُرَت لِكثرة وَدْقِه أطباؤه فإذا تُحُلِّبَ فاضَت الأطْبَاءُ وله رَبابٌ هَيْدَبٌ لرقيقه قبل التَّبَعُّق دِيمة وَطْفاءُ وكأنَّ بارقه حَريقٌ تَلْتَقي ريحٌ عليه وعَرْفَجٌ وألاءُ وكأنَّ رَيِّقه ولمّا يَحْتَفِل دُونَ السَّماء عَجَاجةٌ طَخْيَاء مُسْتَضْحِك بِلوامعٍ مُسْتَعْبِر بمَدَامع لم تُمْرِها الأقْذَاء فله بلا حَزَن ولا بمَسَرَّة ضَحِك يُؤَلف بينه وبُكاء حَيْرَان مُتَّبعِ صَبَاه تَقودُه وجَنُوبه كَفٌّ له وَرْهاء ثَقُلت كُلاَه فبَهَّرَت أصلابَه وتَبعَجَت عن مائه الأحْشاء غَدق تَبَعّج بالأباطِح مُزِّقت تلك السُّيُولُ ومالها أشْلاء غُر مَحَجًلة دوالحُ ضُمنت حَمْل اللِّقَاح وكُلُّها عَذْرَاء سُحْم فَهُنَّ إذَا عَبَسْن فَوَاحِم سُود وهُنّ إذا ضَحِكْن وِضَاء لو كان مِن لجَج السوَاحل ماؤه لم يَبْقَ في لُجَج السَّوَاحل ماء قولهم في البلاغة والإيجاز قيل لأعرابيّ‏:‏ مَنْ أَبلَغُ الناس قال‏:‏ أحْسنُهم لفظاً وأسْرعُهم بديهة‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ خَطَبَ رَجلٌ في نِكاح فأَكثر وطوَل فقيل مَن يُجيبه فقال أعرابيّ‏:‏ أنا قيل له‏:‏ أنت وذاك فالتفت إلى الخاطب فقال‏:‏ إني واللهّ ما أنا من تَخْطيطك وتَمْطيطك في شيء قدمَتَتّ بحُرْمة وذَكَرت حقّا وعَظُّمْت مَرْجُوًّا فَحَبْلُك مَوْصُول وفَرْضكَ مَقْبول وأنت لها كُفء كَرِيم وقد أنْكَحْناك وسلّمنا‏.‏
وتكلم رَبيعةُ الرَّأي يومًا فأكْثر فكأَنّ العُجْب دَاخَله وأعرابيّ إلى جَنْبه فأقبل على الأعرابيّ فقال ما تَعُدُّون البلاغةَ يا أعرابيّ قال‏:‏ قلّةُ الكلام وإيجاز الصواب قال فما تَعُدًّون العيّ قال‏:‏ ما كنتَ فيه منذُ اليوم فكأَنما ألقمه حجرًا‏.‏
شبيب بن شَيْبة قال‏:‏ لقيتُ أعرابياً في طريق مكة فقال لي‏:‏ تَكتب قلتُ‏:‏ نعم قال‏:‏ ومعك دَوَاة قلتُ‏:‏ نعم‏.‏
فأخرج قطعةَ جِراب من كُمِّه ثم قال‏:‏ اكتُب ولا تَزِد حَرْفاً لا تَنْقُص‏:‏ هذا كِتاب كتبه عبد اللّه بن عُقَيل الطائي لأَمَته لُؤلؤة‏:‏ إنّي أعْتِقك لوجه اللّه واقتحام العَقَبة فلا سَبيل لي ولا لأحد عليك إلا سبيلً الوَلاء والمِنَّة عليَّ وعليكِ من اللّه وحدَه ونحنِ في الحقّ سواء ثم قال‏:‏ اكتب شهادَتك‏.‏
رُوي أنَّ أعرابياً حضرَ مجلس ابن عباس فسَمِع عنده قارئَاً يَقْرأ‏:‏ ‏"‏ وكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأَنْقَذَكُمْ مِنها ‏"‏‏.‏
فقال الأعرابيّ‏:‏ واللّه ما أنقذكم منها وهو يَرْجِعُكم إليها‏.‏
فقال ابن عباس‏:‏ خُذوها من غير فَقيه‏.‏
قولهم في حسن التوقيع وحسن التشبيه قيل لأعرابيّ‏:‏ مالك لا تُطيل الهجاء قال‏:‏ يَكفيك من القِلادة ما أحاط بالعُنق‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ كم بين بلد كذا وبلد كذا قال‏:‏ عُمْر ليلة وأديم يوم‏.‏
وقال آخرً‏:‏ سَوَاد ليلة وبياض يوم‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ كيف كِتمانك للسرّ قال ما صَدْرِي له إلا قبْر‏.‏
قال مُعاوية لأعرابيًة‏:‏ هل من قِرًى قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ وما هو قالت‏:‏ خُبز خَمِير ولبن فَطِير وماء نَمير‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ فيم كنتم قال‏:‏ كًنَّا بين قِدْر تَفُور وكأس تَدُور وحديث لا يَحُور‏.‏
وقيل لأعرابيّ‏:‏ ما أعددتَ للبرد قال‏:‏ شِدَّة الِرِّعْدة وقُرْفُصاء القِعْدة وذَرَب المِعْدَة‏.‏
وقيل لإعرابيّ‏:‏ مالك من الوَلد قال‏:‏ قَلِيل خبِيث قيل له‏:‏ ما معناه قال‏:‏ إنه لا أقلَّ من واحد ولا أخبث من أُنثى‏.‏
وقال‏:‏ أضَلّ أعرابيّ الطريق ليلاً فلما طَلع القمرُ اهتدى فَرَفَع رأسَه إليه مُتشكِّرًا فقال‏:‏ ما أدرى ما أقول لك وما أقول فيك أقول‏:‏ رَفَعك اللّه فقد رَفعك أم أقول‏:‏ نوَّرك اللّه فقد نَوَرك أم أقول‏:‏ حَسَّنك اللهّ فقد حَسَّنك أم أقول‏:‏ عَمَرك الله فقد عمَرك ولكنِّي أقول‏:‏ جَعلني اللّه فِدَاك‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ ما تَقول في ابن العم قال‏:‏ عَدوُّك وعَدوّ عدوّك‏.‏
وقيل لأعرابيّ وقد أدخل ناقَته في السُّوق ليبيعَها‏:‏ صِفْ لنا ناقَتك قال‏:‏ ما طلبتُ عليها قطّ إلا أدركت وما طُلِبتً إلا فُتّ قيل له‏:‏ فَلِمَ تبيعها قال‏:‏ لقول الشاعر‏:‏ وقد تخرِج الحاجاتُ يا أمَّ عامر كرائمَ من رَبٍّ بهَنّ ضنِين وقيل لأعرابيّ‏:‏ كيف ابنك - وكان له عاقًّاً - قال‏:‏ عذابٌ لا يُقاومه الصًّبْر وفائدة لا يَجب في الشُّكر فليتَني قد استودعتُه القَبْر‏.‏
قيل لشُرَيح القاضي‏:‏ هل كلّمك أحد قطّ فلم تُطِق له جواباً قال‏:‏ ما أعلمه إلا أن يكونَ أعرابياً خاصَم عندي وجعل يُشير بيديه فقلتُ له‏:‏ أمْسِك فإن لِسَانك أطولُ من يدك قال‏:‏ أسامِريٌّ أنتَ لا تُمَسّ وقيل لأعرابي‏:‏ ما عِنْدَكمٍ في البادية طَبيب قال‏:‏ حُمر الوَحْش لا تحتاج إلى بَيْطار‏.‏
وقال أعرابي يَصف خاتَما‏:‏ سُيّف تَدْوير حَلْقته ودُوِّرَ كُرسي قِضّته وأحْكِم تَرْكِيبه وأتْقِنَ تَدْبِيرُه فبه يتمّ المُلك ويَنْفُذ الأمر ويَكْرُم الكِتَاب ويَشْرف المَكْتوب إليه‏.‏
وقال آخرً يَصف خاتَماً‏:‏ ولم يُكْتَسَب إلا لتَسكن وَسْطه بَزيعة رأْس ما عليه خِمَار لها أخَوَاتٌ أَرْبعٌ هُنَّ مثلُها ولكنَّها الصًّغْرى وهُنَّ كِبَار قولهم في المناكح يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن الحَكَم عن الشافعيّ قال‏:‏ تَزَوَّج رجلٌ من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة وكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة فتقول‏:‏ وما تَسْتوي الرجلاًن رِجْلٌ صحيحة ورِجْلٌ رَمى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ ثم مرَّت بعد أيام فقالت‏:‏ وما يَسْتَوِي الثَّوْبان ثَوْبٌ به البِلَى وثَوْبٌ بأيْدِي البائعين جَدِيدُ فخرجت إليها جاريةُ القديمة فقالت‏:‏ نَقِّلْ فُؤادك حيثُ شِئْتَ من الهَوى ما القَلْبُ إلّا لِلحَبيبِ الأوَّل كم مَنْزِلٍ في الأرْض يأْلَفُه الفَتَى وحنينه أَبداً لأوًّل مَنْزِل الأصمعي قال‏:‏ أخبَرني أعرابيّ قال‏:‏ خَطَبَ منا رجلٌ مَغْموز امرأة مَغْموزة فَزوجوِه فقال رجل لوليّ المرأة‏:‏ تَعمَم لكم فلان فزوِّجتُموه فقال‏:‏ ما تَعَمَّم لنا حتى تَبرْقعنا له‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ قالت أعرابيّة لبنات عمّ لها‏:‏ السعيدةُ منكنّ يتزوجها ابنُ عمّها فيَمْهرها بِتَيْسينْ وكَلْبيْن وعَيْرَين ورَحَيَينْ فيَنِبّ التَّيسان ويَنْهقَ العَيْرَان ويَنْبَح الكلْبان وتَدُور الرَّحَيان فَيَعِجّ الوادي والشقَيّة مِنْكُنَ مَن يَتزوّجها الحَضَريِّ فَيَكسوها الحريرَ ويُطْعِمها الخَمير ويَحْمِلها ليلَة الزفاف على عود تعنى سَرْجا‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ أعرابياً يُشَارّ امرأته فقالت لها أخْتُه‏:‏ أما واللهّ أيام شَرْخه إذ كان يَنْكتُكِ كما يَنْكت العَظْم عن مخّه لقد كنتِ له تَبُوعا ومنه سَمُوعاً فلما لان منه ما كان شديدا وأخلق منه ما كان جديدا تَغَيَّرتِ له وايمُ اللهّ لئِن كان تغيّر منه البعضُ لقد تغيّر منكِ الكل‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ كيف حُبّك لزَوْجتك قال‏:‏ ربما كنتُ معها على الفِراش فمدَّتْ يدها إلى صدري فَوَدَدْتُ والله أن آجُرَّة خَرت من السَّقف فقدَّت يدها وضِلْعين من أضْلاع صَدْري ثم أنشأ يقول‏:‏ لقد كنتُ مُحْتاجاً إلى موت زَوْجتي ولكنْ قرينُ السُّوء باقٍ معَمِّرً فيا ليتها صارت إلى القَبْر عاجلا وعَذَّبها فيه نَكِيرٌ وَمُنْكَر وتزوج أعرابي امرأة فطالت صُحْبتها له فتغيَّر لها وقد طعَنت في السنّ فقالت له‏:‏ ألم تكن تُرْضى إذا غَضِبْت وتُعْتِب إذا عَتَبْت وتَشْفى إذا أبيْت فما بالُك لآن قال‏:‏ ذَهب الذي كان يُصْلح بيننا‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كنتُ أختلف إلى أعرابي أَقْتبس منه الغَريب فكنت إذا استأذنتُ عليه يقول‏:‏ يا أمامة ائذني له فتقول‏:‏ ادخُل‏.‏
فاستأذنتُ ليه مِراراً فلم أسمعه يذكر أمامة فقلت له‏:‏ يَرْحمك اللهِ ما أَسْمَعك تَذْكًر أمامة منذُ حين قال‏:‏ فَوَجَمَ وَجْمة نَدِمْت معها على ما كان مني ثم قال‏:‏ ظَعنت أمامة بالطلاقِ ونجوت من غُلّ الوَثاقِ بانَتْ فلم يَأْلم لها قَلْبي ولم تَدْمَع مآقِي وَدَوَاءُ ما لا تشته يه النفسُ تعجيل الفِراق والعيشُ ليس يَطيب بي ن اثنين من غير اتفاق لو لم أرَح بفراقها لأرَحْت نفسي بالإباق الأصمعي قال‏:‏ تَزَوَج أعرابيٌّ امرأة فآذتْه وَافْتدى منها بِحِمار وجُبة فَقَدِم عليه ابن عمٍّ له من البادية فسأله عنها فقال‏:‏ خَطَبْتً إلى الشَّيْطان للحَينْ بنْته فأدْخلها من شِقْوَتي في حِبَاليَا فأنْقَذني منها حِمَاري وجبتي جَزَى الله خيراً جبتي وحِمَاريا الأصمعي قال‏:‏ خاصم أعرابيّ امرأته إلى زياد فشَدّد على الإعرابيّ فقال‏:‏ أصلح اللهّ الأمير إِنّ خَيْرَ عُمْر الرجل آخرًه يَذْهب جهلُه وَيَثوبُ حِلْمه ويَجْتمع رأيه وإن شرَّ عُمْر المرأة آخرًهُ يَسُوء خُلقها ويحتدّ لسانها وتَعَقم رَحِمها‏.‏
قال له صدقتَ اسفَع بيدها‏.‏
قال‏:‏ وذكرَتْ أعرابيّة زوجها وكان شيخاً فقالت‏:‏ ذَهَبَ ذَفره وبَقي بَخَرِه وفٍتَر ذَكَرُه‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ كان أعرابي قبيح طويل خطب امرأة فقيل له‏:‏ أيّ ضرْب تريدها قالت أريدها قَصِيرة جميلة فيأتي ولدُها في جَمَالها وطُولي فتزوجها على تلك الصِّفة فجاء ولدُها في قِصَرِها وقُبْحه‏.‏
قَدِمَ أعرابيّ من طيء فاحتلب لَبَناً ثم قعد مع زَوْجته يَنْتجعان فقالت له‏:‏ مَن أنعم عيشاً أنحن أم بنو مَرْوَان فقال لها‏:‏ بنو مروان أطيبُ منا طعاماً إلا أنّا أرْدَأ منهم كُسوة وهم أظهر منَّا نهاراً إلاّ أنَّا أظهر منهم ليَلاً‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ خاصَم أعرابيّ امرأته إلى السلطان فقيل له‏:‏ ما صنعتَ قال خيراً أكبها اللّه لوجهها ولو أمر بي إلى السجن‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ استشارت أعرابيّة في رجل تتزوَجهُ فقيل لها‏:‏ لا تفعلي فإنه وُكَلَة تُكَلَة يأكل خَلَلَه أي يأكل ما يَخْرُج من بين أسنانه إذا تخلَّل‏.‏
قال أبو حاتم‏:‏ هو الخُلالة ووُكلَة تُكَلة إذا كان يَكل أمره إلى الناس ويَتَكِل عليهم‏.‏
العُتبى قال‏:‏ خَطب إلى أعرابيّ رجلٌ مُوسِر إحدى ابنتيه وكان للخاطب امرأة فقالت الكبرى‏:‏ لا أريده‏.‏
قال أبوها‏:‏ ولم قالت‏:‏ يومٌ عِتَاب ويومٌ اكتئاب يَبلى فيما بين ذلك الشباب‏.‏
قالت الصغرى زَوِّجْنيه قال لها‏:‏ على ما سَمِعْتِ من أختك قالت‏:‏ نعم يومٌ تَزَيُّن ويومٌ أحِبُّه حُبَّ الشَّحيح مالَه قد كان ذاق الفَقْر ثم نالَه إذا أرادَ بَذله بَدَا له الأصمعي قال‏:‏ هلك أعرابي فأدْمنت امرأته البكاء عليه فقال لها بعض بنيها أتَفْقدين من أبينا غيرَه أتفقْدِين نَفْعَه وخَيْرَه أرَاكِ ما تَبْكِين إلِّا أيره قال‏:‏ فأمْسكت عن البُكاء‏.‏
جلس أعرابيّ إلى أعرابيَّة فعلمتْ أنه ما جلس إلا لِيَنْظُر إلى محاسنها فأنشأت تقول‏:‏ وما نِلْتَ منها غَيْرَ أنًكَ نائِكٌ بعَيْنَيك عَيْنَيها وأيرُكَ خائِبُ الرِّياشي قال‏:‏ أنشدني العُتبي لأعرابي‏:‏ ماذا تَظُنّ بسَلْمَى إن ألمّ بها مُرَجَّل الرّأْس ذو بُرْدَين مَزَّاحُ حُلو فًكاهَتُه خَزّ عِمَامته في كَفّه من رُقى إبليس مِفْتَاح أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ خَطَبَ أعرابيّ امرأة فقالت له‏:‏ سَلْ عَني بَني فلان وبَنىِ فُلان قال لها‏:‏ وما عِلْمهم بذلك قالت‏:‏ في كلهم نُكِحْت قال‏:‏ أراك جَلَنْفعة قد خَزَمَتْك الخزائم قالت‏:‏ لا ولكن جوَالة بالرحْل عَنْتَريس‏.‏
تزوّج رجل من الأعراب امرأة منهم عجوزاً ذاتَ مال فكان يَصْبر عليها لمالِها ثم مَلَّها وترَكها فكتبت إليه تَسْترده فكتب إليها يقول‏:‏ لَيس بيني وبين قَيْس عِتَاب غيرُ طَعْن الكُلاَ وضَرْب الرِّقاب فكتبت إليه‏:‏ إنّه واللهّ ما يُريد قيسٌ غَيْر طَعْن الكلا‏.‏
المًفَضَل الضَّبي قال‏:‏ خَطَبَ أعرابي امرأة فجَعَل يَخْطبها ويُنْعِظ فضَرَب ذَكَرَه بيده وقال‏:‏ مَه إليكِ يُساق الحديث فأرسلها مَثلا‏.‏
عليّ بن عبد العزيز قال‏:‏ كان أبو البَيْدَاء عِنّينا وكان يتجلّد ويقول لقومه‏:‏ زَوِّجوني امرأتين فيقال له‏:‏ إنّ في واحدة كفاية فيقول‏:‏ أمّا لي فلا فقالوا نُزَوِّجك واحدة فإن كَفَتْك وإلا زَوَجناك أخرى فزوّجوه إعرابيَّة فدما دَخَل بها أقام معها أسبوعاً فلما كان في اليوم السابِع أتوه فقالوا له‏:‏ يا أبا البَيْداء ما كان أمْرُك في اليوم الأوَل قال‏:‏ عَظيم جدا قالوا‏:‏ ففي الثاني قال‏:‏ أجَلّ وأَعظم قالوا‏:‏ ففي الثالث قال‏:‏ لا تسألوا‏.‏
فأجابت المرأة مِن وراء الستر فقالت‏:‏ كان أبو البَيْداء يَنْزُو في الوَهَقْ حتى إذا أدْخِلَ في البيت أبقْ فيه غَزَال حَسن الدَّلّ خَرِق مارَسه حتى إذا ارفضّ العَرَق كانت لأعرابيّ امرأة لا تَرُدِّ يَد لامس فقيل له‏:‏ مالك لا تُفارقها قال‏:‏ إنها حسناء فلا تُفْرَك وأمِّ بَنين فلا تترك‏.‏
قال شَيْخ من الإعراب‏:‏ أنا شَيْخٌ ولي امرأة عَجُوزُ تُرَاودني على ما لا يَجُوزُ تريد أنيكها في كل يَوْم وذلك عند أمثالي عَزيز وقالت رَقَ إيْرُك مُذ كَبِرْنا فقلت لها بل اتسع القَفِيز الأصمعي قال‏:‏ قال أعرابيّ في امرأة تَزوّجها وقد تَزوّجتْ قبله خمسةً وتَزوّج هو قبلها أربعاً فلاحَتْه يوماً فقال فيها‏:‏ لو لابس الشيطانُ ما ألاَبِس أو مارس الغُولَ التي أمارِسُ لأصبح الشيطانُ وهو عابسُ زَوَجها أربعةٌ عَمارِس فانْفَلتوا منها ومات الخامسُ وساقني الحَيْنُ فها أنا السّادس وقال فيها‏:‏ بُوَيْزِل أعوام أذاعتْ بخمسة وتَعْتَدُّني - إن لم يَق اللّه - ساديا ومِنْ قَبْلِها غَيبْت في التُّرْب أَرْبعاً وَأَعْتَدُّها مُذ جِئْتُها في رَجائيا كِلانا مُطِلّ مُشْرِف لِغَنيمة يَرَاها وَيقُضي اللهّ ما كان قاضيا أشْكو إلى اللّه عِيَالاً دَرْدَقَا مُقَرْقَمِينَ وعجوزاً شَمْلَقَا الدَّرْدَق‏:‏ الصِّغار‏.‏
والمُقَرْقَم‏:‏ البَطيء الشَّبَاب‏.‏
والشَّمْلَق‏:‏ السيئة الخُلق‏.‏
قولهم في الإعراب الأصمعي قال‏:‏ قلت لأعرابي أتَهْمِز إسرائيل قال‏:‏ إنّي إذاً لرجلُ سَوْء قلت له‏:‏ أفتجرّ فِلسْطين قال‏:‏ إنّي إذاً لقويّ‏.‏
وسَمع أعرابيّ إماماً يقرأ‏:‏ وَلاَ تَنْكِحوا المُشرْكين حتَى يُؤمِنُوا‏.‏
قال‏:‏ ولا إن آمنوا أيضاً لن نَنْكحهم فقيل له‏:‏ إنه يَلْحَن وليس هكذا يُقرأ فقال‏:‏ أخرًوه قَبٌحَه الله لا تَجْعَلوه إماماً فإنه يُحِلُّ ما حرَّم الله‏.‏
وسمع أعرابيّ أبا المكْنُون النَحْوِيّ وهو يقول في دُعائه يَسْتَسْقي‏:‏ اللهم ربنا وإلهنا وسيدنا ومولانا فصلِّ على محمد نبيّنا ومَن أراد بنا سوءاً فأحِطْ ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الوَلائد ثم أرسِخْه على هامته كرُسوخ السجًيل على هام أصحاب الفيل اللهم اسْقِنا غَيْثاً مريئاً مريعاً مُجَلْجِلاً مُسْحَنْفِراً هَزِجاً سَحًّا سَفُوحاً طَبَقاً غَدَقا مُثْعَنْجِرا صَخِباً نافعاً لعامّتنا وغيرَ ضارّ بخاصّتنا‏.‏
فقال الأعرابي‏:‏ يا خليفة نُوح هذا الطُّوفان وربِّ الكعبة دَعني حتّى آوىَ إلى جَبلِ يَعْصِمني من الماء‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ أصابت الأرضَ مجاعة فلقيتُ رجلاً منهم خارجاً من الصَحراء كأنه جِذْع مُحْترق فقلت له‏:‏ أتقرأ مني كتاب اللهّ شيئاً قال‏:‏ لا قلتُ‏:‏ فأعلمك قال‏:‏ ما شئتَ قلت‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ قُل يَا أيها الكافِرُون ‏"‏ قال‏:‏ كُلْ يا أيها الكافرون قلتُ‏:‏ ‏"‏ قُلْ يا أيها الكافرون ‏"‏ كما أقول لك قال‏:‏ ما أجد لساني يَنْطلق بذلك‏.‏
قال‏:‏ ورأيتُ أعرابياً ومعه بُنيّ له صَغير مُمْسِك بفَم قِرْبة وقد خاف أن تَغْلِبه القِرْبةُ فصاح‏:‏ يا أبتِ أدْرِك فاها غَلبَني فوها لا طاقة لي بفيها‏.‏
قولهم في الدين قال أعرابي‏:‏ الدَّيْن ذلٌ بالنهار وهَمّ بالليل‏.‏
وقال أعرابيّ في غُرَماء له يَطْلبونه بدَيْن‏:‏ جاءوا إليَّ غِضاباً يَلْغَطون معاً فقلت موعد كم ابن هبار وما أوَاعدُهم إلا لأدْرَأهم عني فيحرجني نقضي وإمراري وما جَلبتُ إليهم غَيرَ راحلة تَخْدِي بِرَحْلى وسيفٍ جَفنُه عارِي إنّ القضاء سَيأتي دًونه زمن فاطْوِ الصَّحيفة واحفظها من النًار الأصمعي قال‏:‏ كان لرجل مِنْ يَحْصًب على رجل من باهِلَة دَيْن فلما حًلَ دَيْنُه هَرَب الأعرابيّ وأنشأ يقول‏:‏ ذا حًلّ دَين اليَحْصُبيّ فَقُلْ له تَزوَدْ بزادٍ واستَعِنْ بدلِيل سَيُصْبِحُ فَوقي أقتُم الريش واقعاً بقالي قَلَا أو من وراء دَبيل الأصمعي قال‏:‏ فأخبرني رجلٌ أنه رآه مَقْتُولاً بقالي قَلا وعليه نَسْر أقْتم الرِّيش‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ اختصمَ أعرابياًن إلى بعض الوُلاة في دَيْن لأحدهما على صاحبه فجعل المًدَّعَى عليه يحلف بالطّلاق والعِتاق فقال له المدَعِي‏:‏ دَعني من هذه الأيمان واحْلف بما أقول لك‏:‏ لا تَرك اللّه لك خُفّا يتبع خُفّا ولا ظِلْفا يتبع ظِلفا وحَتّك من أهلك حَتّ الوَرَقَ من الشّجر إن لم يكن لي هذا الحقّ قِبلك‏.‏
فأعطاه حَقَه ولم يَحْلِف له‏.‏
الهَيْثَم بن عَدِيّ قال‏:‏ يَمين لا يَحْلِف بها أَعرابيّ أبداً‏:‏ لا أَوْرد اللّه لك صادرة ولا أَصْدَر لك واردة ولا حَطَطْتَ رَحْلك ولا خَلَعتَ نَعْلَك‏.‏
قولهم في النوادر والملح الشيباني قال‏:‏ خَرَجِ أبو العبّاس أميرُ المؤمنين مُتَنَزِّها بالأنبار فأَمْعن في نُزْهَته وانتبذ من أصحابه فوافى خِبَاءً لأعرابيّ فقال له الأعرابي‏:‏ ممَّن الرَّجل قال‏:‏ من كِنانة قال‏:‏ من أيّ كِنانة قال‏:‏ مِنْ أبغض كِنانة إلى كِنانة قال‏:‏ فأنتَ إذاً من قُريش قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فمن أي قُرَيش قال‏:‏ مِن أبغض قُريش إلى قُريش قال‏:‏ فأنت إذاً من ولد عبد المطلب قال نعم قال‏:‏ فمن أي ولد عبد المطلب قال‏:‏ من أبغض ولد عبد المطلب إلى عبد المُطلب قال‏:‏ فأنت إذاً أمير المؤمنين وَوَثب إليه فاستحسن ما رأَى منه وأَمر له بجائزة‏.‏
الشِّيبانيّ قال‏:‏ خرج الحجَّاج مُتَصيِّداً بالمدينة فوقف على أَعرابيّ يرعى إبلًا له فقال له‏:‏ يا أعرابيّ كيف‏.‏
رأيتَ سِيرَة أَميركم الحجَّاج قال له الأعرابيّ‏:‏ غَشوم ظَلُوم لا حيّاه اللّه فقال‏:‏ فَلِم لا شَكَوْتموه إلى أمير المًؤمنين عبد الملك قال‏:‏ فأظْلم وأغشم‏.‏
فبينما هو كذلك إذ أحاطت به الخيل فأومأ الحجّاج إلى الأعرابي فأخذ وحُمِلَ فلما صار معهم قال‏:‏ مَن هذا قالوا له‏:‏ الحجاج فحرَّك دابته حتى صار أعرابي قال‏:‏ السرّ الذي بيني وبينك أحِبُّ أن يكون مكتوماً قال‏:‏ فَضَحك الحجًاج وأمر بتَخْلِية سَبيلِه‏:‏ الأصمعي قال‏:‏ وَلى يُوسُف بن عُمَر صاحبُ العِرَاق أعرابياً على عمل له فأصاب عليه خِيَانةً فعَزَلَه فلما قَدِمَ عليه قال له‏:‏ يا عدوً اللهّ أكلتَ مال اللّه قال الأعرابيّ‏:‏ فمالَ مَنْ آكُلْ إذا لم آكل مال اللهّ لقد راودتُ إبليس أن يُعطيني فَلْساً واحداً فما فَعل‏.‏
فَضحِك منه وخلِّى سبيله‏.‏
الشّيْبَانيِّ قال‏:‏ نزل عبدُ اللهّ بن جعفر إلى خيمة أعرابيّة ولها دَجاجة وقد دَجَنت عندها فَذَبحتها وجاءتها بها إليه فقالت‏:‏ يا أبا جعفر هذه دَجاجة لي كنت أدْجنها وأعْلِفها من قُوتي وألمَسها في آناء الليل فكأنما ألمَس بِنْتى زَلَّت عن كَبِدي فَنَذرتُ للّه أن أدفنها في أكرم بُقعة تكون فلم أجد تلك البُقعة المباركة إلا بَطنك فأرَدت أن أدْفنها فيه‏.‏
فَضَحِك عبدُ اللهّ بن جعفر وأمر لها بخمسمائة دِرْهم‏.‏
ونظر أعرابيّ إلى قَوْم يلتمسون هِلالَ شهر رَمضان فقال‏:‏ واللهّ لئنِ أريتموه لتُمْسِكُن منه بذِناب عَيْش أغبر‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ رأيتُ أعرابياً واقفاً على رَكيّة مِلْحة فقلتُ‏:‏ كيف هذا الماء يا أَعرابيّ قال‏:‏ يُخْطِيءُ القلبَ ويُصيب الأستَ‏.‏
ونظر أَعرابيّ إلى رجل سَمِين فقال‏:‏ أرى عليك قطيفةً من نَسْج أضرْاسك‏.‏
قال‏:‏ وسمعت أعرابياً يقول‏:‏ اللهم إنّي أسألك مِيتة كمِيتة أبي خارجة أكل بَذَجاً وشَرِبَ مُعَسَّلا ونام في الشَمس فمات دَفيئاً شبْعان رَيّان‏.‏
محمد بن وَضّاح يرفعه إلى أبي هُريرة رضي اللّه عنه‏.‏
قال‏:‏ دخلِ أعرابيّ المسجد والنبي جالسٌ فقام يُصلّي فلما فرغ قال‏:‏ اللهم ارْحَمني ومحمداً ولا تَرْحَم معنا أحداً فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ لقد حجرْت واسعاً يا أعرابيّ‏.‏
قال‏:‏ وسمعت أعرابياً وهو يقول في الطواف‏:‏ اللهم اغفر لأمي فقلتُ له‏:‏ مالك لا تَذْكر أباك فقال أبي رجلٌ يَحتال لنفسه وأما أُمي فبائسة ضعيفة‏.‏
أبو حاتم عن أبي زَيد قال‏:‏ رأيتُ أعرابياً كأنّ أنفَه كُوز من عِظَمه فرآنا نَضحك منه فقال‏:‏ ما يُضْحِكُكم فوالله لقد كنتُ في قوم ما كنتُ فيهم إلا أفْطس‏.‏
قال‏:‏ وجيء بأعرابيّ إلى السُّلطان ومعه كِتاب قد كَتب فيه قصَته وهو يقول‏:‏ هاؤُم اقرؤا كِتابيه‏.‏
فقيل له‏:‏ يُقال هذا يومَ القيامة قال‏:‏ هذا والله شر من يوم القيامة إنّ يوم القيامةِ يُؤتي بحَسَناتي وسيّأتي وأنتم جِئتم بسيآتي وتركتم حسناتي‏.‏
قيل لأبي المِخَشّ الأعرابي‏:‏ أيسرك أنك خَليفة وأن أمَتك حُرَّة قال‏:‏ لا والله ما يَسُرُّني قيل له‏:‏ ولمَ قال‏:‏ لأنها كانت تَذْهب الأمَة وتُضِيع الأمَّة‏.‏
اشترى أعرابيّ غُلاماً فقيل للبائع‏:‏ هل فيه منِ عَيْب قال‏:‏ لا إلا أنه يَبُول في الفِراش قال‏:‏ هذا ليس بعيب إن وَجَدَ فِراشاَ فَلْيَبُل فيه‏.‏
أخذ الحجَّاج أعرابياً لِصًّا بالمدينة فأمر بِضَرْبِه فلما قرَعه بسَوْط قال‏:‏ يا ربّ شُكْراً حتى ضَرَبه سَبْعمائة سَوْط قال‏:‏ لماذا قال‏:‏ لكَثرة شُكرك إنَّ اللهّ تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ لئن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكم ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ وهذا في القرآن قال‏:‏ نعم‏.‏
فقال الأعرابي‏:‏ يا ربّ لا شكْرَ فلا تَزِدْني أسَأتُ في شُكْرِيَ فاعْفُ عَني باعِد ثَوَاب الشَّاكرين مِني مرَّ أعرابيّ بقوم وهو يَنْشد ابنَاَ له فقالوا له‏:‏ صِفْه قال‏:‏ كأنه دُنَيْنير قالوا‏:‏ لم نَره‏.‏
ثمِ لم يَلْبث القومُ أن أقبل الأعرابيّ وعلى عُنقه جُعَل فقالوا‏:‏ هذا الذي قلت فيه كأنه دُنينير فقال‏:‏ القَرَنْبي في عَين أمها حَسناء‏.‏
والقَرَنْبي دُوَيبة من خَشاش الأرض إذا مَسَّها أحد تقبَّضت فصارت من الكرة‏.‏
قيل لأعرابي‏:‏ ما يمنعك أن تَغْزو قال‏:‏ واللّه إني لأبْغِضُ الموتَ على فِرَاشي فكيف أمضي إليه رَكْضاً‏!‏ وغزا أعرابيٌّ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ ما رَأيتَ مع رسول اللهّ في غَزاتك هذه قال‏:‏ وَضع عنا نصفَ الصلاة وأرجو في الغَزاة الأخرى أن يضع النصفَ الباقي‏.‏
جَلس أعرابيّ إلى مجلس أيوب السختياني فقيل له‏:‏ يا أعرابيِّ لعلك قَدَرِيّ قال‏:‏ وما القَدَري فذكر له مَحاسن قولهم قال‏:‏ أنا ذاك ثم ذكر له ما يَعِيب الناسُ من قَوْلهم فقال‏:‏ لستُ بذاك قال‏:‏ فلعلّك مُثبت قال‏:‏ وما المثبت فذكر مَحاسنَهم فقال‏:‏ أنا ذاك ثم ذكر له ما يَعِيب الناسُ منهم فقال‏:‏ لستُ بذاك‏!‏ قال أيوب‏:‏ هكذا يفعل العاقلُ يأخذ من كلِّ شيء أحْسنه‏.‏
الأصمعيُ قال‏:‏ سمع أعرابيّ جريراً يُنْشد‏:‏ كاد الهَوَى يَوْمَ سَلمانين يَقْتُلني وكاد يَقْتُلني‏.‏
يوْماً بنَعْمانِ وكاد يَقْتُلني يوماً بذي خُشُب وكاد يقتلني يوماً بسلمان فقال‏:‏ هذا رجل أفلت من الموًت أربعَ مَرَّات لا يموت هذا أبداً‏.‏
الشَّيبان قال‏:‏ بلغني أنَ أعرابيًين ظريفَين من شياطين العَرب حَطَمتهما سَنةٌ فانحدرا إلى العِرَاق فبينما هما يَتماشيان في السُّوق واسم أحدهما خُنْدان إذا فارس قد أوطأ دابَّته رِجْلَ خُنْدان فَقَطَع إصْبعاً من أصابعه فتعلقا به حتى أخذا أرش الإصبع وكانا جائعين مَقْرُورَين فلما صار المال بأيديهما قصدا إلى بعض الكرابج فابتاعا من الطَّعام ما اشتهيا فلما شَبع صاح خُنْدان أنشأ يقول‏:‏ فلا غَرْثةٌ ما دام في الناس كُربَج وما بَقِيَتْ في رِجْل خُنْدَان إصْبَعُ وهذا شبيه قول أعرابيًة في إبنها وكان لها ابنٍ شديد العُرام كثيرُ القِتال للناس مع ضٍعْف أَسْر ورقَّة عَظْم فوَاثَب مرة فتىً من الأعراب فَقَطَع الفتى أنفَهُ فأخذت أمّه دِيَة أنفه فَحَسُن حالها بعد فَقر مُدْقِع ثم وَاثَب آخرً فَقَطع شَفَته ثم أخذت دِية شَفَته فلما رأت ما صار عندها من الإبل والبَقر والغنم والمتاع بجوارح ابنها ذكرته في أرْجوزة لها تقوِل فيها‏:‏ أحلِفُ بالمَرْوَةِ حِلْفاً والصَفَا أنّكَ خيرً من تَفاريق العَصَا فقلت لأعرابي‏:‏ ما تفاريق العصا قال‏:‏ العصا تُقطع ساجوراً ثم يُقطع السَّاجور أوتاداً ثم تُقطَعِ الأوتاد أشِظه‏.‏
الأصمعيّ قال‏:‏ خرج أعرابيّ إلى الحَجّ مع أصحاب له فلما كان ببعض الطريق راجعاً ُيريد أهلَه لَقِيه ابنُ عمّ له فسأله عن أهله ومنزله فقال‏:‏ أعلم أنّك لما خرَجتَ وكانت لك ثلاثةُ أيام وَقع في بَيْتك الحريقُ‏.‏
فرَفعِ الأعرابي يديه إلى السماء وقال‏:‏ ما أحسن هذا يا ربّ‏!‏ تَأْمرنا بعِمارة بيتك وتخرب أنت بُيوتنا‏.‏
وخرجتْ أعرابيّة إلى الحجّ فلما كانت ببعض الطريق عَطِبت راحلتُها فرَفعت يديها إلى السَّماء وقالت‏:‏ يا ربّ أخرجتني من بيتي إلى بيتك فلا بيتي ولا بيتك‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عُرضت السُّجُون بعد هلاك الحجَّاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يَجب على واحد منهم قَتْل ولا صَلْب وفيهم أعرابي أخِذ وهو يبول في أصل سُور مدينة واسط فكان فيمن أطلق فانشأ يقول‏:‏ إذا ما خرَجنا من مدينة وَاسطٍ خَرِينا وبُلْنا لا نَخَاف عِقَابَا ذُكر عند أعرابي الأولادُ والانتفاع بهم فقال‏:‏ زوِّجوني امرأةً أولدها ولداً أعَلِّمه الفُروسية حتى يحوى الرِّهان والنَّزْعَ عن القوس حتى يُصيب الحَدق وروايةَ الشِّعْر حتى يُفْحِم الفًحُول‏.‏
فزوَجوه امرأة فولدت له ابنةً فقال فيها‏:‏ قد كنتُ أرْجو أن تكوني ذكرَا فَشَقَّك الرحمنُ شَقًّا مُنكَرَا شَقًّا أبى اللهّ له أن يُجْبَرَا مثلِ الذي لامها أو أكْبَرَا ثم حَمَلت حَمْلا آخرً فدخل عليها وهي في الطَلق وكانت تسَمَّى رَباباً فقال‏:‏ أَيا رَبابى طَرِّقى بخَيْر وطَرِّقى بخصيه وأيْرِ ولا ترِيناَ طَرَف البُظَيْر ثم ولدت له أخرى فَهَجَر فِراشَها‏.‏
وكان يأتى جارةً لها فقالت فيه وكان يُكنى أبا حَمْزة‏:‏ ما لأبى حمزة لا يأتينا يَظَلّ في البيت الذي يَلِينَا غضْبانَ أن لا نَلِدَ البنينا وإنما نَأخُذ ما أعْطِينا فألانَهً قولها ورَجع إليها‏.‏
وقال سعيد بن أبي الفرج‏:‏ سَمِعتً أعرابياً يطوف بالبيت وٍ هو يقول‏:‏ لا هًمَّ ربَّ النِّاس حين لَبَّبُوا وحين راحوا من مِنى وَحَصَّبُوا فقلت‏:‏ يا أعرابي ما لهذه المَوَاضع تَدْعو عليها في هذا الموضع فنَظر إليِّ كالغَضْبان وقال‏:‏ من أجل حُمّاهنَ ماتت زَيْنَبُ قولهم في التلصص أبو حاتم قال‏:‏ أنشدنا أبو زَيد لأعرابيّ وكان لصّاً‏:‏ ثلاثُ خلال لستُ عنهنّ تائباً وإن لاَمَني فيهنَّ كُلُّ خَلِيل فمنهن أني لا أزال مُعَانِقاً حمائلَ ماضي الشفْرتين صَقِيل به كنتُ أستَعْدي وأعْدى صَحابتي إذا صَرَخ الزَحْفانِ باسم قتِيل ومنهنّ سَوْق النًهب في ليلة الدُّجى يَحَارُ بها في اللَيل كُلًّ مَمِيل وهذا المعنى سبقه إليه الأوَّل‏:‏ فلولا ثلاثٌ هُن عِيشة الفَتى وَجدِّك لم أحْفِلْ متى قام رامِس فمنهنَّ سَبْقي العاذلات بشربة كأنّ أخاها مَطْلَعَ الشمْس ناعِس ومنهنّ تَقْريطُ الجَرَاد عِنَانَه إذا ابتدر الشَخْص الصَّفِيَّ االَفوَارس ومنهنَّ تَجْرِيدُ الكوَاعب كالدُّمَى إذا ابتز عن أكفالهنَّ الملابس وأوَّل من قال هذا المعنى طَرفة حيث يقول‏:‏ فلولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفَتى وجدِّك لم أَحْفِل متى قام عًوَدِي وكَرِّي إذا نادى المُضَافُ مُحنَّباً كَسِيد الغَضىَ نَبَهْتَهُ المًتَوَرِّد وتَقْصيرُ يوم الدَجن والدَجْنُ مُعْجَب بِبَهْكَنَة تحت الخِبَاء المُعَمّد قولهم في الطعام الأصمعي قال‏:‏ اصطحب شَيخ وحَدَث في سَفَر وكان لهما قُرْص في كلّ يوم وكان الشيخُ مًنْخلع الأضراس بَطيء الأكل‏.‏
وكان الحَدَث يَبْطِش بالقُرْص ثم يجلس يَشْتكي العِشْق ويتضوّر الشيخُ جُوعاً وكان الحَدَث يُسَمَى جَعْفَرا فقال الشيخ‏:‏ لقد رابني من جعفر أنِّ جعفراً بَطِيشٌ بقرْصي ثم يَبْكي على جُمْل فقلتُ له لو مًسَك الحرب لم تَبِت بَطِينًاَ ونَسّاكَ الهوى شِدَّةَ الأكْل الأصمعي قال‏:‏ أنشدني أعرابي لنفسه‏:‏ ألا ليت لي خُبْزاً تسَربل رائباً وخَيْلاً مِن البر في فُرْسانها الزُّبْدُ فاطْلُب فيما بينهنَّ شهادةً بِمَوْت كَرِيم لا يُعَدُّ له لَحْد الشِّيباني عن العُتبيّ عن أبيه قال‏:‏ قال أعرابي‏:‏ كنت أشْتهي ثريدة دَكْناء من الفُلفُل رَقْطَاء من الحِمص ذات حِفَافين من اللَّحْم لها جَناحان من العُراق أضْرب فيها كما يَضْرب وَلي السُّوء في مال اليتيم‏.‏
وقال رجل لأعرابيّ‏:‏ ما يسرّني لو بِتُ ضيفاً لك فقال له الأعرابي‏:‏ لو بِتّ ضيفاً لي لأصبحتَ أبطنَ من أمك لبل أن تَلدك بساعة‏.‏
حضر أعرابي سُفرة سُليمان بن عبد الملك فجعل يمرِّ إلى ما بين يديه فقال له الحاجب‏:‏ مما يَلِيك فكُلْ يا أعرابي فقال‏:‏ مَن أجْدَب انتجع‏.‏
فَشَقَّ ذلك على سُليمان فقال للحاجب‏:‏ إذا خرج عَنَّا فلا يَعُد إلينا‏.‏
وشهد بعد هذا سُفْرته أعرابيّ آخرً فمر إلى ما بين يديه أيضاًً فقال له الحاجب‏:‏ مما يَليك فكُلْ يا أعرابيّ قال‏:‏ مَن أخصَبَ تَخيَّر‏.‏
فأعجب ذلك سليمانَ فقرَّبه وأكرمه وقَضى حوائجه‏.‏
مرَّ أعرابي بقوم من الكَتَبة في مُتَنزه لهم وهم يأكلون فسلم ثم وَضع يده يأكل معهم فقالوا‏:‏ أعرفت فينا أحداً قال‏:‏ بلى عرفتُ هذا وأشار إلى الطّعام‏.‏
فقال بعض الكُتَاب يَصِف أكله‏:‏ لم أرَ مِثْلَ سرطه ومَطّه قال الثاني‏:‏ وأكله دَجاجة بِبطّه قال الثالث‏:‏ ولَفّه رُقاقه بإقْطِه‏.‏
قال الرابع‏:‏ كأنّ جالينوس تحت إبْطه‏.‏
فقالوا للرابع‏:‏ أما الذي وَصفنا من فِعْله فمعلومِ فما يصنع جالينوس من تحت إبطه قال‏:‏ يًلْقِمه الجَوارش كلما خاف عليه التّخمة يهْضم بها طعامه‏.‏
وقال رجل من أهل المدينة لأعرابي‏:‏ ما تأكلون وما تَعافون قال له الأعرابي‏:‏ نأكُل كل ما دَبّ وهَبّ إلا أمّ حُبَين‏.‏
قال المَدني‏:‏ تَهْنيء أمً حُبَين العافية‏.‏
قال رجل من الأعراب لولده‏:‏ اشتروا لي لَحْماً فاشتَرَوْا وطَبَخه حتى تَهَرَأ فأكلَ منه حتىِ انتهت نفسه ولم يبُق إلا عَظْمه وشرَعت إليه عيون ولده فقال‏:‏ ما‏.‏
أنا مُطْعمه أحداً منكم إلّا من أحْسن أكله‏.‏
فقال له الأكبر‏:‏ ألوكه يا أبَتِ حتى لا أدَعَ فيه للذرة مَقِيلاً قال‏:‏ لستَ بصاحبه قال الآخرً‏:‏ ألوكه حتى لا تَدْري ألعامه هو أم لعام أول قال‏:‏ لستَ بصاحبه‏.‏
قال له الأصغر‏:‏ أدقّه يا أبت وأجعل إدامه المخ قال‏:‏ أنت صاحبه وهو لك‏.‏
بلغنيِ عن محمد بن يزيد بن مُعاوية أنه كان نازلاً بحلب على الهَيْثم بن عديِّ فَبَعث إلى ضيف له من عُذْرة أعرابي فقال له‏:‏ حَدِّث أبا عبد اللهّ بما رَأيْتَ في حَضر المسلمين من الأعاجيب قال‏:‏ نعم رأيتُ أمُوراً مًعْجبة منها‏:‏ أنني دخلتُ قرْية بكر بن عاصم الهلاليّ وإذا أنا بدُورٍ متباينة وإذا خِصَاص بِيض بعضها إلى بعض وإذا بها ناسٌ كثير مُقْبلون ومُدْبرون وعليهم ثياب حَكَوْا بها أنواعَ الزَّهر فقلت لِنَفْسي‏:‏ هذا أحد العِيدين الفِطْر أوِ الأضْحَى ثم رَجع إليَ ما عَزُبَ من عقلي فقلت‏:‏ خرجتُ من أهلي في عَقِب صَفر وقد مضىِ العِيدان قبل ذلك‏.‏
فبينا أنا واقفٌ أتعجب إذ أتاني رجلٌ‏:‏ فأخذ بيدي فأدْخلني بيتاً قد نُجِّد وفي وَجهه فُرُش مُمَهَّدَة وعليها شابّ ينال فَرْعُ شَعره كتفيه والناسُ حولَه سماطين فقلت في نفسي‏:‏ هذا الأميرُ الذي يُحكى لنا جلوسُه وجلوسُ الناس حولَه فقلتُ وأنا ماثلُ بين يديه‏:‏ السلامُ عليك أيها الأمير ورحمة اللّه قال‏:‏ فجَذب رجلٌ بيدي وقال‏:‏ ليس بالأمير اجلِس قلتُ‏:‏ فمن هو قال‏:‏ عَرُوس قلت‏:‏ واثُكْل أمّاه‏!‏ لرُبَّ عَرُوس بالبادية قد رأيتُه أهون على أصحابه من هَن أمه‏.‏
فلم ألبث أن أدْخلَت الرجالُ علينا هَنَات مُدوّرات من خَشب أمّا ما خَف منها فتُحْمل حَمْلاً وأما ما ثقُل فَيُدَحْرج فوُضعت أمامنا وحًلّق القوم عليها حَلَقاً ثم أتينا بِخِرَق بيض فألْقيت عليها فهممتُ والله أن أسأل القومَ خِرْقة منها أرْقع بها قميصي وذلك أني رأيتُ لها نَسْجاً مُتلاحماً لا تتبين له سَدى ولا لحْمة فلما بَسَط القومُ أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً وإذا صِنْف من الخُبْز لا أعرفه‏.‏
ثم أتِينا بطعام كثير من حُلو وحامض وحار وبارد فأكثرتُ منه وأنا لا أعلم ما في عَقِبه من التُّخم والبَشم‏.‏
ثم أتينا بشراب أحْمر في عِسَاس بِيض فلما نظرتُ إليه قلتُ‏:‏ لا حاجة لي به لأني أخاف أن يَقْتلني وكان إلى جانبي رجلٌ ناصح لي أحْسن الله عني جَزاءه كان يَنْصحني بين أهل المَجلس فقال لي‏:‏ يا أعرابي إنك قد كثرت من الطعام فإن لضربتَ الماء هَمى بطنك‏.‏
فلما ذَكر البطنَ ذكرتُ شيئاً أوصاني به الأشْياخ قالوا‏:‏ لا تزال حيًّا ما دام بَطْنُك شديداً فإذا اختلف فأوْصِ فلم أزل أتداوى بذلك الشرَّاب ولا أملّه حتى داخلني به صَلف لا أعرفه من نفسي ولا عهْد لي به ولا اقتدار على أمري وكان إلى جانبي الرجلِ الناصح لي فجعلتْ نفسي مُحدّثني بهَتْم أسنانه مرة وَهَشْم أنفه أخرى وأهُمّ أحياناً أن أقول له‏:‏ يا بن الزَّانية‏.‏
فبينا نحن كذلك إذ هَجَم علينا شياطين أرْبعة‏:‏ أحدُهم قد عَلَّق جُعْبة فارسيّة مُفَتَّحة الطّرفين قد شُبِّكت بالخُيوط وقد ألْبست قطعة فَرْو كأنهم يخافون عليهِا القُر ثم بَدَا الثاني فاستخرج من كفه هنة كفَيْشلة الحِمار فوَضعٍ طَرفها في فِيه فضرًط فيها ثم جَسَّ على حُجْزَتها فاستخرج منها صوتاً مُشاكِلاً بعضهُ بعضاً ثم بدا الثالثُ وعليه قميصٌ وَسخ وقد غَرَّق رأسه بالدهن معه مرآتان فجعل يُمر إحداهما على الأخرى ثم بَدَا الرًابع عليه قَميص قَصِير وسَرَاويل قصيرة‏.‏
فجعل يَقْفِزِ صُلْبه ويهزُ كَتِفيه ثم التَبط بالأرض فقلتُ‏:‏ مَعْتوه وربِّ الكعبة ثم ما بَرح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي‏.‏
ثم أرسلت إلينا النساء أن أمْتعونا من لَهْوكم فبَعثوا بهم إليهنَّ وبقيتْ الأصواتُ تَدور في آذاننا‏.‏
وكان مَعنا في البيت شابّ لا آبه له فعَلَت الأصوات له بالدُّعاء فخرج فجاء بِخَشبة في يده عينُها في صَدْرها فيها خُيُوط أربعة فاستخرج من جوانبها عُوداً فوضَعه على آذنه ثم زَمّ الخيوط الظاهرة فلما أحْكمها عرَك أذنها فنطق فُوها فإذا هي أحسن قَيْنة رأيتُها قط فاستخفَّني حتى قُمتُ - من مجلسي فجلستُ إليه فقلتُ‏:‏ بأبي أنتَ وأمّي ما هذه الدَّابة قال‏:‏ يا أعرابيّ هذا البَرْبط قلت‏:‏ ما هذه الخُيُوط قال‏:‏ أما الأسفل فزير والذي يَليه مثنى والذي يليه مثلث والذي يليه بَمّ فقلتُ‏:‏ آمنت باللهّ‏.‏
وقال أعرابيّ‏:‏ تَمْرنا خُرس فُطْس يغيب فيهنَ الضِّرْس كأنّ فاها ألسن الطَّير تقع التمرة منها في فيك فتجد حَلَاوَتها في كَعْبِك‏.‏
وحضر أعرابيّ سُفْرة سُليمان بن عبد الملك فلما أتي بالفالوذج جَعَل يُسْرع فيه فقال سليمان‏:‏ أتَدْري ما تأكْل يا أعرابي فقال‏:‏ بلى يا أمير المؤمنين إني لأجد رِيقاً هنيئاً ومُزْدَرَداً ليناً وأظنه الصراطَ المُستقيم الذي ذَكره الله في كتابه‏.‏
قال‏:‏ فَضَحك سليمان وقال‏:‏ أريدك منه يا أعرابي فإنهم يذكرون أنّه يزيد في الدَماغ قال‏:‏ كذَبوك يا أمير المؤمنين لو كان كذلك لكان رأسك مثلَ رأس البَغْل‏.‏
قال‏:‏ ومررت بأعرابي يأكل في رَمضان فقلت له‏:‏ ألا تَصُوم يا أعرابي فقال‏:‏ وصائمٍ هب يَلْحَاني فقلتُ له أعْمِد لِصَوْمِك واتْرُكْني وإفطاري واظمأ فإني سأرْوى ثم سوف تَرى من ذا يصير إذا مِتْنا إلى النار وحَضر سُفْرةَ سليمان أعرابيّ فنظر إلى شَعرة في لُقْمة الأعرابي فقال‏:‏ أرى شعرة في لُقْمتك يا أعرابي قال‏:‏ وإنك لَتُراعيني مُرَاعاة من يُبْصِرُ الشَّعرة في لُقمتي واللهّ لا واكلتُك أبداً فقال اسْترها عليٌ يا أعرابي فإنها زلّة ولا أعود إلى مثلها أبداً‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:23 AM

أخبار أبي مهدية الأعرابي
أبو عثمان المازني قال‏:‏ قال أبو مَهْدئة‏:‏ بلغنيِ أن الأعراب والأعزاب هجاؤها واحد قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فاقرأ الأعزاب أشدّ كُفْراً ونفاقاً ولا تقرأ‏:‏ الأعراب ولا يَغُرُّك العَزَب وإن صام وصلَّى‏.‏
وتُوفّي بُني لأبي مهدية صغير فقيل له‏:‏ أبشر أبا مَهدية فإنا نرجو أن يكون شَفِيع صِدْق يومَ القيامة قال‏:‏ لا وَكلنا اللّه إلى شَفاعته إذاً واللّه يَكون أعيانا لساناً وأضعَفَنا حُجة ليته المِسْكينَ كَفَانا نَفْسه‏.‏
وقيل لأبي مهديّة‏:‏ أكُنتم تتوضئون بالبادية قال‏:‏ نعم واللّه لقد كُنا نتوضّأ فتكفي التَوْضئة الرجل منّا الثلاثة الأيام والأربعة حتى دخلتْ علينا هذه الحمراء - يعني الموالي - فجعلت تُليق أستاهها كما تُلاق الدَّواة‏.‏
وقيل لأبي مَهديّة‏:‏ أتقرأ من كتاب اللهّ تعالى شيئاً قال‏:‏ نعمِ ثم افتتح يقرأ‏:‏ ‏"‏ والضُّحَى واللَيْل إذا سَجَى ‏"‏ حتى انتهى إلى ‏"‏ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهَدَى ‏"‏ فالتفت إلى صاحب له فقال‏:‏ إنَ هؤلاء العُلوج يقولون‏:‏ وَوَجدك ضَالاً فهدى واللّه لا أقولها أبداً‏.‏
ولما أسَن أبو مهديّة وَلي جانباً من اليمامة وكان به قَوْمٌ من اليهود أهلُ عَطاء وجِدَة فأرسل إليهم فقال‏:‏ مَا عندكم في المَسِيح قالوا‏:‏ قَتلناه وصَلَبْناه قال‏:‏ فهل غَرِمْتُم دِيَته قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إذاً واللهّ لا تَبْرحوا حتى تَغْرموا دِيتَه فأرْضوه حتى كَف عنهم‏.‏
وقيل لأبي مهدية ما أصْبَرَكم معشرَ العرب على البَدْو قال‏:‏ كيف لا يَصْبر على البدو مَن طعامُه الشمس وشرابه الرٌيح‏.‏
ونظر أبو مَهْديّة إلى رجل يسْتَنجي ويُكثر من الماء فقال له‏:‏ إلى كم تَغْسلها ويحك‏!‏ أتريد أن تَشرَب فيها سَويقاً‏.‏
ومات طفل لأبي مهدية فقيل له‏:‏ اصبر يا أبا مهديّة فإنه فَرَط افترطته وخير قدَمته وذُخْر أحْرزته فقال‏:‏ بل وَلد دفنته وثُكل تُعجِّلته واللّه لئن لمِ أجْزع للنَّقص لا أفْرَح بالمَزيد‏.‏
قال أبو عُبيدة‏:‏ سمع أبو مَهْدِيَّة رجلاً يقول بالفارسيَّة‏:‏ ذود ذود فقال‏:‏ ما يقول هذا فقيل له‏:‏ يقول عَجِّل عَجِّل فقال‏:‏ أفلا يقول‏:‏ حَيّهَلاَ خبر أبي الزهراء المُعلى بن المُثَنَّى الشّيبانيّ قال‏:‏ حَدّثنا سُويد بن مَنْجوف قال‏:‏ أقبل أعرابيّ من بنى تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جَيّانة السُّبيع تحته أتان له تَخُبّ وعليه ذلاذل وأطمار من سَحْق صُوف وقد اعتمّ بما يًشْبه ذلك من أشْوه الناس مَنْظراً وأقْبحهم شَكلاً وهو يَهْدر كما يَهْدر البعيرُ وهو يقوله‏:‏ ألا سَبَد ألا لَبَد ألا مُؤْوٍ ألا سَعْديّ ألا يَربوعي ألا دارمي هَيهات هَيهات وما يُغْنى أصْلُ حَوْض الماء صادياً مُعَنّى قال سُويد‏:‏ فَدَخل علينا في دَرْب الكُنَاسة فلم يجد مَنْفذاً وقد تَبعه صِبْيان كثيرون وسَواد من سَواد الحيّ فسمعتُ سوادياً يقول له‏:‏ يا عَماه يا إبليس متى أذن لك بالظِّهور فالتفت إليهم فقال‏:‏ منذ سَرَق آباؤكم وفَسَقت أمهاتكم‏.‏
قال‏:‏ وكانَ معنا أبو حمَاد الخيَّاط وكانَ من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي يدخل علينا وكان مع ذلك مَوْلى لبني تميمٍ فأتيتُه فأخبرته فخرج مبَادراً كأنّي قد أفدتُه فائدة عظيمة وقد نَزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحِيطان وأخذ قَوْسَه بيده فتارة يُشير بها إلى الصبيان وتارةً يَذُب بها الشَذا عن الأتان وهو يقول لأتانه‏:‏ قد كُنتِ بالأمْعَز في خِصْب خَصِبْ ما شِئْتِ من حَمْض وماء مُنْسَكِبْ فرَبُّكِ اليومَ ذليل قد نَصِب يَرَى وجوهاً حوله ما تُرْتَقب ولا عليها نُورُ إشراق الحَسَب كأنها الزَنج وعُبْدان العَرَب إلى عُجَيْل كان كالرَّغْل السرَّب ولو أمنْتُ اليومَ من هذا اللَجَبْ رَمَيْتُ أفواقاً قَوِيماتِ النصُب الريشُ أولاها وأخراها العَقَب قال‏:‏ فلم يزل أبو حمّاد يُلْطِفه ويتَلطَف به ويُبخله إلى أن أدخله منزله فمهَّد له وحطَه عن أتانه ودعا بالعَلَف فجعل الأعرابيّ يقول‏:‏ أين اللَيف والنَّئِيف والوِساد والنِّجاد‏.‏
يعني باللِّيف‏:‏ الحَصير وبالنَّئِيف‏:‏ عُشبَة عندهم يقال لها البُهْمَى‏.‏
وبالوِساد‏:‏ جِلْد عَنْز يُسْلخ ولا يُشَق ويُحْشى وَبراً وشَعراً ويُتّكأ عليه وبالنِّجَاد مِسْح شَعر يستظل تحته‏.‏
قال‏:‏ فلما نَزَع القَتب عن إن تُنْحَضي أو تَدْبَرِي أو تَزْحَرِي فذاك من دُؤوب ليل مُسْهِرِ أنا أبو الزهراء من آل السري مُشَمَّخ الأنْفِ كريم العُنْصُرِ إذا أتيت خُطَة لم أفسَرِ وكان يُسَمى الأعرابيّ صَلَتان بن عَوْسجة من بني سَعْد بن دارم ويُكْنَى بأبي الزَهرِاء‏.‏
وما رأيتُ أعرابياً أعجبَ منه كان أكثر كلامه شِعْراً وأمْثَلَ أعرابي سمعتُه كلاماً إلا أنه ربما جاء باللَفظة بعد الأخرى لا نَفهمها وكان من أضْجَر الناس وأسْوأهم خُلقاً وإذا نحن سألناه عن الشيء قال رُدوا عليّ القَوس والأتان يظُنّ أنا نَتلاعب به وكُنّا نجتمع معه في مجلس أبي حمّاد وما مِنا إلا من يأتيه بما يشتهيه فلا يُعْجبه ذلك حتى أتيناه يوماً بخِرْبِز وكانت أمامه فلما أبصرها تأمّلها طويلاً وجعل يقول‏.‏
بُدِّلْتً والدَهْرُ قديماً بَدّلَا من قَيْض بَيْض القفْر فَقْعاً حَنْظلا أخْبَثُ ما تُنْبت أرْضٌ مأكلا فكنا نقول له‏:‏ يا أبا الزًهراء إنه ليس بحَنْظَل ولكنه طعام هنيء مريء ونحن نَبْدؤك فيه إنْ شئتَ قال‏:‏ فخُذوا منه حتىِ أرى‏.‏
فبدأنا نأكل وهو يَنظر لا يَطْرف فلما رأى ذلك بَسَط يده فأخذ واحدةً فنزع أعلاها وقوَّر أسْفَلها فقُلنا لها‏:‏ ما تُريد أن تَصْنع يا أبا الزهراء فقال‏:‏ إن كان السم يا بنِ أخي ففيما تَرَوْن‏.‏
فلما طَعِمه استخفّه واستعذبه واستَحلاه فلم يكن يُؤْثِرُ عليه شيئاً وما كنا نأتيه بعدُ بغَيره وجَعل في خِلال ذلك يقول‏:‏ هذا طَعام طَيِّب يَلينُ في الجَوْف والحَلْق لهُ سُكُونُ الشَّهدُ والزّبد به مَعْجُونُ فلما كان إلى أيام قلتُ له‏:‏ يا أبا الزهراء هل لك في الحَمّام دال‏:‏ وما الحمام يا بن أخي قلنا له‏:‏ دارٌ فيها أبيات حارّ وفاتر وبارد تكون في أيها شئت تُذْهب عنك قَشَفَ السَّفَر ويَسْقط عنك هذا الشَّعر‏.‏
قال‏:‏ فلم نَزل به حتى أجابنا فأتينا به الحمَّام وأمرنا صاحب الحمّام أن لا يُدْخل علينا أحداً فَدَخل وهو خائف مترقّب لا يَنزع يده من يد أحدنا حتى صار في داخل الحمَّام فأمرنا مَن طَلاه بالنّورة وكان جِلْده أشْعَر كجِلد عَنْز فَقَلِق ونازَعَ للخُروج وبدأ شَعره يَسْقط فقلنا‏:‏ أحين طاب الحمَّام وبدأ شعرك يسقط تخرُج قال‏:‏ يا بن أخي وهل بقي إلا أن أنْسَلخ كما يَنْسلخ الأديم في احتدام القَيْظ وجعل يقول‏:‏ وهل يَطيب الموتُ يا إخْواني هل لكُم في القَوْس والأتانِ خذُوهما مِنِّي بلا أثمان وخَلَصوا المًهْجَة يا صِبياني فاليومَ لو أبْصَرَني جيراني عُرْيان بل أعرَى من العرْيان قال‏:‏ ثم خرج مُبادراً وأتْبعَه أحداثٌ لنا لولاهم لَخَرَج بحاله تلك ما يستره شيء ولحقناه في وَسط البيوت فأتيناه بماء بارد فشرب وصبَ على رأسه فارتاح واستراح وأنشأ يقول‏:‏ الحمدُ للمُستَحْمد القهار أنْقَذَني من حَر بيت النَّارِ إلى ظَليل ساكن الأوَار من بعد ما أيقنت بالدَمار قال‏:‏ فدعونا بكُسوة غير كُسوته فألبسناه وأتينا به مجلس أبي حماد وكان أبو حَماد يبيع الحِنْطة والتمرِ وجميع الحبوب وكان يُجاوره قومٌ يَبيعون أنبِذَة التمر وكان أبو الحسن التمّار ماهراً فإذا خُضنا في النحو وذكرنا الرُّواسي والكِسائي وأبا زيد جعل يَنْظر بفقه الكلام ولا يفهم التأويل فقلنا له‏:‏ ما تقول يا أبا الزَّهْراء فقال‏:‏ يا بن أخي إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له فقال أبو الحسن‏:‏ إن بهذا تعرف العرب صوابَها من خَطئها فقال له‏:‏ ثَكلْتَ وأثْكلت وهل تُخْطىء العرب قال‏:‏ بلى قال‏:‏ على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتَقوا مثلَك قال سُويد‏:‏ وكنت أحدثَهم سنًّاً قالت‏:‏ فقلت‏:‏ جُعِلت فداك أنا رجل من بني شَيْبان وربيعة ما نعلم أنِّا على مثل الذي أنتَ عليه من الإنكار عليهم فقال فيهم‏:‏ يُسائلني بيَّاع تَمْرٍ وَجَرْدقٍ ومازِج أبْوَال له في إنائِه عن الرَّفع بعد الخَفْض لا زال خافضاً ونَصْب وجَزْم صِيغ من سُوء رائه فقال بهذا يُعْرَف النحْو كلُّه يرى أنّني في العُجْم من نُظرائه فأما تَميم أو سُلَيم وعامر ومَن حَل غَمْر الضَال أو في إزائه ففيهم وعنهم يُؤثر العلم كُلُّه ودَع عنك من لا يهتدي لخطائه فمن ذا الرُّؤاسيّ الذي تَذْكرونه ومن ذا الكِسَائي سالحٌ في كِسائه ومَن ثالثٌ لم أسمع الدهرَ باسمه يُسمونه من لُؤمه سيبوائه فكيف يُحيل القوم من كان أهلَه ويهْدِي له من ليس من أوْليائه فَلَستُ لبيَّاع التُّميرات مُغْضِياً على الضيم إن واقفتُ بعد عَشائه ولقد قلنا له‏:‏ يا أبا الزَّهراء هل قرأتَ من كتاب الله شيئاً قال‏:‏ أي وأبيك آيات مُفَصلات أرَدِّدهن في الصَلوات أباء وأمهات وعمات وخالات ثم أنشأ يقول‏:‏ قرأتُ قَوْلَ اللّه في الكتاب ما أنزل الرحمنُ في الأحزاب لعُظم ما فيها من الثوَابِ الكُفْر والغِلْظة في الأعراب وأنا فاعلم من ذوي الألباب أومن بالله بلا ارتياب وجاحِم يَلْفح بالتهاب أوْجُه أهل الكُفْرو والتَّباب ودَفْع رَحْل الطارق المنتاب في ليلة ساكنة الكِلاب ولما أحضرناه ذات يومٍ جِنازة قلنا له‏:‏ يا أبا الزهراء كيف رأيت الكوفة فقال‏:‏ يا بن أخي حَضَراً حاضراً ومَحلاً أهلاً أنكرتُ من أفعالكم الأكيال والأوزان وشَكْل النِّسوان ثم نظر إلى الجبَّانة فقال‏:‏ ما هذه التِّلال يا بن أخي قلت له‏:‏ أجداثُ الموتى‏:‏ فقال‏:‏ أماتوا أم قُتلوا فقلت‏:‏ قد ماتوا بآجالهم مِيتات مخُتلفات قال‏:‏ فماذا نَنْتظر نحن يا بن أخي قلت‏:‏ مثل الذي صاروا إليه فاستعبر وبَكى وجعل يقول‏:‏ يا لَهفَ نَفسي أنْ أموتَ في بَلَد قد غابَ عنِّي الأهْلُ فيه والوَلدْ وكل ذي رحْم شفيق مُعْتَقدْ يكون ما كنتُ سقيماً كالرمد يا ربّ يا ذا العرْش وَفِّق للرشدْ وَيسرِ الخيرَ لشيخ مُنْحَصِدْ ثم لم يَلْبث إلا يسيراً حتى أخذتْه الحُمَّى والبِرْسام فكنًا لا نُبارحه عائدين متفقدين فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كَرْبه وأيقنى بالموت جعل يقول‏:‏ أبْلِغ بناتي اليومَ أبلغ بالصُّوَى قد كُنَّ يأمُلْنَ إيَابي بالغِنَى وقر تَمنَّينَ وما تُفْنى المنى بأنّ نَفْسي وردت حَوْض الرَّدى ومن صلاتي في صباح ومِسَا فَعُدْ على شيخ كبير ذي انحِنا كفاه ما لاقاه في الدُنيا كَفى قلنا له‏:‏ يا أبا الزَهراء ما تأمرنا في القَوْس والأتان وفيما قَسَم الله لك عندنا من رزق فقال‏:‏ يا بن أخي أما ما قَسم اللّه لي عندكم فمردود إليكم وأما القَوْس والأتان فَبِيعوها وتَصدَقوا بثمنهما في فقراء صَلِبَة بني تميم وما بَقي ففي مَوَاليهم ثم جعل يقول‏:‏ اللهم اسمع دُعاء عَبدك إليك وتضرعه بين يديك وأعرف له حَقَّ إيمانه بك وتَصْديقه برُسلك الذين صَليت عليهم وسلمْت اللهم إني جانٍ مُقْترف وهائبٌ مُعْترف لا أدَعي بَراءة ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي وتجاوزك عنَي اللهم إنك كتبت علي في الدنيا التّعب والنَّصب وكان في قَضَائك وسابق علمك قبضُ روحي في غير أهلي وولدي اللهم فبدِّل لي التَّعب والنَّصب رَوْحاً وريحانا وجنة نعيم فْضل كريم‏.‏
ثم صار يتكلم بما لا نَفْقَهه ولا نَفْهمه حتىِ مات رحمه اللّه‏.‏
فما سمعتُ دُعاء أبلغ من دُعائه ولا شهدتُ جنازة أكثرَ باكياَ وداعياً من جنازته رحمه الله‏.‏



عودة إلى كلام الأعراب
َن كان ذابتً فهذا بَتِّي مقيِّظٌ مُصَيِّف مُشَتي َسَجْتُه من نَعجاتٍ سِت وقال أعرابي‏:‏ قالت سُلَيْمى ليت ليَ بَعْلاً بِمَنّ يَغْسِلُ أسي ويسلبني الحَزَنْ حاجة ليس لها عِنْدي ثَمَنْ مشهورة قضاؤُها منه وَهَن قالت جواري الحي يا سلمى وإنْ كان فقيراً معدماً قلت وإن قال الإعرابي‏:‏ جاريتان حَلَفتْ أماهما وأن ليس مغبوناً من أشتراهما والله لا أخْبركم أسماهما إلا بقولي هكذا هُما هُما ما اللِّتان صادَني سهماهما حيا وحيا الله من حياهما أمَاتَ رَبِّي عاجلاً أباهما حتى تُلاقي مُنْيتي مناهما وقال أعرابي‏:‏ إِن لنا لَكَنَه مِعَنَة مِفَنَه السٌمْعنة النَظْرنة‏:‏ المرأة التي إذا سَمِعت أو نَظرت فلم تَرَ شيئاً تَظنَت تَظنياً‏.‏
وأنشد أبو عبد اللّه بن لُبانة لأعرابي‏:‏ كَرِيمةً يُحبُّها أبُوها مَلِيحةَ العَيْنَينْ عَذْباً فُوها لا تُحْسِنُ السَّبَّ وإنْ سَبُّوها قال الأصمعي‏:‏ دخلتُ على هارون الرَّشيد وبين يديه بَدْرَة فقال‏:‏ يا أصمعي إن حدثتني بحديث العَجْز فأضْحَكتني وهَبتك هذه البدرة قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صَحارَى الأعراب في يوم شديد البرد والريح إذا أنا بأعرابي قاعد إلى أجمة قد احتملت الرّيح كِساءَه فألقته على الأجمة وهو عُريان فقلت له‏:‏ يا أعرابي ما أجلسك ها هنا على هذه الحال فقال‏:‏ جارية واعدتُها يقال لها سَلمى أنا مُنتظر لها فقلت وما يَمنعك من أخذ كِسائك قال‏:‏ العَجز يُوقفني عن أخذه قلت له‏:‏ فهل قلتَ في سَلْمى شيئاً قال‏:‏ نعم‏:‏ قلتُ له‏:‏ أسمعني للّه أبوك قال‏:‏ لا أسمعك حتى تأخذ كِسائي وتلقيه عليّ‏.‏
قال‏:‏ فأخذتُه فألقيته عليه فأنشأ يقول‏:‏ لعل اللّه أن يأتي بسَلْمى فَيَبْطَحَها ويُلْقيني عليها ويأتي بعد ذاك سحابُ مُزْن يُطَهِّرُنا ولا نَسعى إليها أذكروا أنّ أعرابياً أتى عَيْناً من ماءٍ صافٍ في شهر رمضان فشرَب حتى رَوِيَ ثم أومأ بيده إلى السماء فقال‏:‏ إنْ كُنْتَ قدَرْتَ الصِّيا مَ فأعْفِنا من شَهْر آب أوْلا فإنّا مُفْطِرُو ن وصابرون على العَذابَ خَلا أعرابيّ بامرأة ليفسُق بها فلم يَنْتَشر له‏.‏
فقالت له‏:‏ قُم خائباً فقال‏:‏ الخائبُ من فَتَحَ فم الجراب ولم يُكَل له دقيق‏.‏
فخَجِلت ولم تَرُد جَواباً‏.‏



كتاب المجنبة في الأجوبة
قال أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه‏:‏ قد مَضى قولُنا في كلام الأعراب خاصة ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الْجَوابات التي هي أصعبً الَكلام كلّه مَرْكباً وأعزُّه مَطْلباً وأغمضه مَذْهباً وأضيَقه مَسْلكا لأنّ صاحبَه يُعْجل مُناجاةَ الفِكْرة واستعمال‏!‏ القَريحة يُوم في بَديهة نَقْض ما أًبْرم في رويّة فهو كمن أخذت عليه الفِجَاج وسُدَّت عليه المَخارج قد تَعرّض للأسنَة واستهدف للمَرامي لا يدْرِي ما يُقْرَع به فيتأهّب له ولا ما يَفجؤه من خَصمه فيَقْرعه بمثله‏.‏
ولا سيّما إذا كان القائلُ قد أَخذ بمجامع الكلام فقاده بزِمامه بعد أن رَوّى فيه وأحتَفل وجَمع خواطره وأجتهد وتَرك الرأي يَغِب حتى يَخْتمر فقد كَرِهوا الرأي الفَطير كما كرهوا الجوابَ الدَّبَريّ فلا يزال في نَسج الكَلام واستئناسه حتى إذا اطمأن شاردُه وسَكن نافرُه صكّ به خَصْمًه جُملة واحدة ثم إذا قيل له‏:‏ أجِب ولا تُخطىء وأَسرع ولا تُبْطىء ترَاه يجاوب من غير أناة ولا استعداد يُطبّق المَفاصل ويَنْفُذ إلى المَقاتل كما يُرْمَى الْجَندل بالجندل وُيقْرَع الحديد بالحديد فَيَحُل به عُراه ويَنْقُض به مرائره ويكون جوابُه على كلامه كسحابة لَبّدت عَجاجة‏.‏
فلا شيءَ أعضلُ من الجواب الحاضر ولا أعزّ من الخَصْم الألدّ الذي يَقْرع بقول كمِثْل النار في الْحَطَب الْجَزْل قال أبو الْحَسن‏:‏ أسرعُ الناسِ جواباً عند البديهة قريش ثم بقيّة العرب وأحسنُ الجواب كُلِّه ما كان حاضراً مع إصابة مَعنى وإيجاز لَفْظ‏.‏
وكان يُقال‏:‏ اتّقوا جوابَ عُثمانَ بنِ عفّان‏.‏
وقالت النبيّ عليه الصلاةُ والسلامُ لعمرو بن الأهتم‏:‏ أخبرني عن الزِّبْرِقان قال‏:‏ مًطَاعٌ في أدانِيه شديدُ العارضة مانعٌ لما وراءَ ظَهْره‏.‏
قال الزِّبْرِقانُ‏:‏ واللهّ يا رسولَ اللهّ لقد عَلِم منّي أكثرَ من هذا ولكنْ حَسَدني‏.‏
قال عمروبنُ الأهتم‏:‏ أمَا واللّه يا رسولَ اللهّ إنه لَزَمِرُ المُروءة ضَيِّق العَطَن أحمقُ الوالد لَئيم الْخَال واللهّ يا رسولَ اللّه ما كذبتُ في الأولى ولقد صدقتُ في الأخرى رَضِيتً عن ابن عمِّي فقلتُ فيه أحسنَ ما فيه ولم أكْذِب وسَخِطتُ عليه فقلت أقبحَ ما فيه ولم أكذِب‏.‏
فقال النبيّ عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ إنّ من البيان سِحْراً‏.‏
جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية وأصحابه لمَا قَدِم عَقِيل بن أبي طالب على مُعاوية أكْرَمه وقَربه وقَضى حوائجَه وقَضى عنه دَيْنَه ثم قال له في بعض الأيام‏:‏ والله إنّ عليًّا غَيْر حافظ لك قَطَع قَرابتك وما وَصَلك ولا اصطنعك‏.‏
قال له عَقيل‏:‏ والله لقد أجزل العَطِيَّةَ وأعظمها ووَصَل القَرابة وحَفِظها وحَسُن ظَنُّه باللّه إذ ساء به ظَنُّك وحَفِظ أمانَته وأصْلح رعيته إذ خُنْتم وأفسدتم وجُرْتم فاكفُف لا أبالك فإنه عما تقول بِمَعْزِل‏.‏
وقال له مُعاوية يوماً‏:‏ أبا يزيد أنا لك خيرٌ من أخيك عليٍ‏.‏
قال‏:‏ صدقتَ إن أخي آثرَ دِينَه على دُنياه وأنت آثرتَ دُنياك على دِينك فأنت خيرٌ لي من أخي وأخي خيرٌ لنفسه منك‏.‏
وقال له ليلةَ الهَرير‏:‏ أبا يزيد أنتَ الليلةَ معنا قال‏:‏ نعم ويومَ بَدْر كنتُ معكم‏.‏
وقال رجل لعَقيل‏:‏ إنك لخائنٌ حيثُ تركتَ أخاك وتَرغب إلى مُعاوية‏.‏
قال‏:‏ أخْوَنُ منّي والله مَن سَفك دَمَه بين أخي وابن عمِّي أن يكون أحدًهما أميراً‏.‏
ودَخل عَقيل على معاوية وقد كُفَّ بَصَرُه فأجلسه معاوية على سريره ثم قال له‏:‏ أنتم مَعْشرَ بني هاشم تُصابون في أبصاركم‏.‏
قال‏:‏ وأنتم معشرَ بني أميّة تُصابون في بَصائرَكم‏.‏
ودَخل عُتْبة بن أبي سُفْيان فَوَسَّع له معاوية بينه وبين عَقيل فجلس بينهما فقال عَقِيل مَن هذا الذي اجلَسَ أميرُ المؤمنين بيني وبينه قال‏:‏ أخوك وابن عمّك عُتبة‏.‏
قال‏:‏ أمَا إنّه إنْ كان أقربَ إليك منِّي إني لأقْرَبُ لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم منك ومنه ومنه وأنتما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرضٌ ونحن سماء‏.‏
قال عُتبة‏:‏ أبا يزيد أنت كما وَصَفْتَ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرتَ وأميرُ المؤمنين عالم بحقّك ولك عندنا مما تُحبّ أكثر مما لنا عِنْدك مما نَكْره‏.‏
ودخل عَقِيل على مُعاويةَ فقال لأصحابه‏:‏ هذا عَقيل عمه أبو لهب‏.‏
قال له عَقيل‏:‏ وهذا مُعاوية عَمَتُه حمَالةُ الحَطب ثم قال‏:‏ يا مُعاوية إذا دخلتَ النار فاعْدِلْ ذاتَ اليَسار فإنك سَتَجد عمّي أبا لهب مُفْترِشاً عمِّتَك حَمَّالَةِ الحَطب فانظُر أيهما خير‏:‏ الفاعلُ أو المَفْعول به وقال له معاوية يوماً‏:‏ ما أبين الشَّبَق فيٍ رِجالكم يا بني هاشم‏!‏ قال‏:‏ لكنه في نِسائكم أبينُ يا بني أميَّة‏.‏
وقال له مُعاوية يوما‏:‏ والله إنّ فيكم لَخَصلة ما تُعْجِبني يا بني هاشِم قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ لِينٌ فيكم قال‏:‏ لِينُ ماذا قال‏:‏ هو ذاك قال‏:‏ إيانا تُعير يا مُعاوية‏!‏ أجل واللّه إن فينا لَلِيناً من غير ضَعْف وعِزًا من غير جَبَروت وأما أنتم يا بني أمية فإنّ لِينكم غَدْر وعِزَكم كُفْر قال مُعاوية‏:‏ ما كُلَّ هذا أردنا يا أبا يزيد‏.‏
قال عقيل‏:‏ لذى اللُبّ قَبْلَ اليوم ما تُقْرَع العَصَا وما عُلَم الإنسانُ إلا لِيَعلَما وإنّ سِفاه الشَيخ لا حلمَ بعده وإنِ الفَتَى بعد السَّفاهة يَحْلَمُ وقال مُعاوية لعَقيل بن أبي طالب‏:‏ لم جَفوْتمونا يا أبا يزيد فأنشأ يقول‏:‏ إني امرؤ منّي التكرّمُ شِيمةٌ إذا صاحبي يوماً على الهُون أضْمَرَا ثم قال‏:‏ وايم الله يا مُعاوية لئن كانت الدُنيا مَهَّدتك مِهادَها وأظَلَّتْك بحذافيرها ومَدَت عليك أطْناب سُلْطانها ما ذاك بالذي يَزيدك مِنيٍ رغبة ولا تخشُّعاً لرهبة‏.‏
قال مُعاوية‏:‏ لقد نَعتها أبا يزيد نَعْتاً هش له قلبيٍ وإني لأرْجو أن يكون اللّهُ تبارك وتعالى ما رَدّاني برداء مُلْكها وحَبَاني بِفَضيلة عَيْشها إلا لكرامة ادّخرها لي وقد كان داودُ خليفةً وسُليمانُ مَلِكاً وإنما هوِ لمِثال يُحْتذى عليه والأمور أشباه وايم اللّه يا أبا يزيد لقد أصبحت علينا كريماَ وإلينا حَبيبا وما أصبحتُ أضمر لك إساءة‏.‏
ويقال إنّ امرأة عَقيل وهي بنت عُتبة بن رَبيعة خالةُ معاوية قالت لعَقيل‏:‏ يا بَنِي هاشم لا يُحبكم قَلْبي أبداً أين أبي أين أخي أين عمّي كأن أعناقهم أباريقُ فِضَّة‏.‏
قال عقيل‏:‏ إذا دخلتِ جهنم فخُذي على شمالك‏.‏
جواب ابن عبّاس لمعاوية رضي اللّه عنهما لمعاوية وأصحابه اجتمعت قُريشُ الشام والحجاز عند مُعاوية وفيهم عبدُ اللهّ بن عبّاس وكان جريئاً على معاوية حَقّاراً له فبَلغه عنه بعضُ ما غَمَّه فقال مُعاوية‏:‏ رحم اللهّ أبا سُفيان والعبّاس كانا صَفِيَّينْ دون الناس فَحَفِظتُ الميتَ في الحيّ والحيَّ في الميّت استعملك عليٌّ يا بن عبّاس على البصرة واستعمل أخاك عًبيدَ اللّه على اليمن واستعمل أخاك تماما على المدينة فلما كان من الأمر ما كان هَنأتكم بما في أيديكم ولم أكْشفكم عمّا وَعَتْ غَرائرُكم وقلت‏:‏ أخذ اليومَ وأعْطى غداً مثلَه وعلمتُ أنّ بدء اللؤم يَضُر بعاقبة الكَرَم ولو شِئْتُ لأخذتُ بحلاقيمكم وقَيَّأتكم ما أكلتم ولا يزال يبلغنِي عنكم مَا تَبْرُك به الإبل وذُنوبكم إلينا أكثرُ من ذنوبنا إليكم‏:‏ خَذلْتم عُثمان بالمدينة وقَتلتمٍ أنصارَه يومَ الجمل وحاربتموني بصفين ولَعَمري لبنو تَيْم وعَدي أعظمُ ذُنوبا منا إليكم إذ صَرَفوا عنكم هذا الأمْر وسَنُّوا فيكم هذه السنّة فحتى متى أُغضي الجُفون على القَذَى وأسْحب الذُيول على الأذى وأقول‏:‏ لعل الله وعَسى‏!‏ ما تقول يا بن عباس قال‏:‏ فتكلم ابنُ عباس فقال‏:‏ رحم اللهّ أبانا وأباك كانا صَفِيَّين مُتقارضين لم يكن لأبي من مال إلاّ ما فَضل أباك وكان أبوك كذلك لأبي ولكن من هَنأ أباك بإخاء أبي أكثرُ من هنّأ أبي بإخاء أبيك نَصر أبي أباك في الجاهليّة وحَقَن دَمَه في الإسْلام وأما استعمالُ علي إيانْا فَلِنَفْسه دون هَواه وقد استعملتَ أنت رِجالاً لهواك لا لِنَفْسك منهم ابن الحَضْرمي على البصرة فقُتل وابنُ بِشرْ بن أرْطأة على اليمن فخان وحبيب بن مُرَّة على الحجاز فَرُد والضحّاك بن قيس الفِهْري على الكُوفة فحُصِب ولو طَلبت ما عندنا وَقَيْنا أعراضنا وليس الذي يبلغك عنّا بأعْظم من الذي يَبْلغنا عنك ولو وُضع أصغرُ ذُنوبكم إلينا على مائة حَسنة لَمَحقَها ولو وُضع أدنىَ عُذْرنا إليكم على مائة سيئة لَحَسّنها وأما خَذْلُنا عثمان فلو لَزِمنا نصره لنصرناه وأمّا قَتْلنا أنصارَه يوم الجمل فعلى خُروجهم مما دَخلوا فيه وأما حَرْبُنا إياك بصِفِّين فَعلى تركك الحقَّ وأدعائك الباطلَ وأمّا إغراؤُك إيّانا بِتَيْم وعَدِيّ فلو أرَدْناها ما غَلَبونا عليها وسَكَت‏.‏
فقال في ذلك ابنُ أبي لَهب‏:‏ كان ابنُ حَرْب عَظيمَ القَدْر في الناس حتى رَماه بما فيه ابنُ عبّاس ما زال يُهْبِطه طَوْراً ويُصعِده حتى استقاد وما بالحق من باس لم يَتْرًكَنْ خُطّةً ممّا يُذلِّله إلا كَواه بها في فَرْوةِ الرّأس وقال ابنُ أبي مُليكة‏:‏ ما رأيتُ مِثلَ ابنِ عبَّاس‏!‏ إذا رأيتُ أصحَّ الناس وإذا تكلم فأعْربُ الناس وإذا أفْتى فأفْقه الناس ما رأيتُ أكثرَ صوابا ولا أَحْضر جواباً من ابن عباس‏.‏
ابن الكَلْبيّ قال‏:‏ أقبل معاويةُ يوماً على ابن عبّاس فقال‏:‏ لو وَليتمونا ما أتيتُم إلينا ما أتينا إليكم من التَّرحيب والتَقْريب وإعطائكم الجزيل وإكرامكم على القليل وصَبْري على ما صبرتُ عليه منكم وإني لا أريد أمراً إلا أظْمأتم صَدَرَه ولا آتِي مَعْروفاً إلا صَغَّرتم خَطَره وأعْطِيكم العطيّة فيها قَضاءُ حُقوقكم فتأخذونها مُتكارهين عليها تقولون‏:‏ قد نَقَص الحقَّ دون الأَمل فأيّ أملٍ بعد ألف ألف أعطيها الرجلَ منكم ثم أكُون أسَر بإعطائها منه بأخْذها‏.‏
واللّه لئن انخدعتُ لكم في مالي وذَلَلتُ لكم في عِرْضي أرى انخداعي كَرما وذُلِّي حلما‏.‏
ول وَليتُمونا رَضينا منكم بالانتصاف ولا نَسألكم أموالكم لِعِلْمِنا بحالنا وحالكم ويكون أبْغضَها إلينا وأحبَّها إليكم أنْ نُعْفِيكم‏.‏
فقال ابنُ عباس‏:‏ لو وَلينا أحْسنّا المُواساة وما ابتُلينا بالأَثرة ثمِ لم نَغشم الحيّ ولم نَشْتُم الميت ولستُم بأجود منّا أكُفّا ولا أكرَمَ أَنْفُسا ولا أصْون لأعراض المروءة ونحن واللّه أعطَى الآخرًة منكم للدُنيا وأعطَى في الحق منكم في الباطل وأعْطَى على التقوى منكم على الهوى والقَسْمُ بالسوية والعَدْلُ في الرعية يأتيان على المُنى والأمل‏.‏
ما رِضَاكم مِنَّا بالكَفَاف‏!‏ فلو رَضيتم به منَّا لم تَرْض أنفسنا به لكم والكَفَاف رِضَا مَن لا حقَّ له فلا تُبَخِّلونا حتى تَسْألونا ولا تَلْفِظونا حتى تَذُوقونا‏.‏
أبو عثمان الحِزَاميّ قال‏:‏ اجتمعت بنو هاشم عند مُعاوية فأقبل عليهم فقال‏:‏ يا بني هاشم واللهّ إنّ خَيْري لكم لمَمنْوح وإنّ بابي لكم لمفتوح فلا يَقْطع خَيْري عنكمٍ عِلّةٌ ولا يُوصِد بابي دونكم مَسألة ولما نظرتُ في أمري وأمركم رأيتُ أمراً مُختلفا إنكم لَتَرَون أنكم أحقُّ بما في يدي منّي وإذا أعطيتُم عطيَّة فيها قضاءُ حقّكم قًلتم‏:‏ أَعطانا دون حَقّنا وقَصرَّ بنا عن قَدْرنا فصِرْتُ كالمَسْلوب المَسْلوب لا حَمْدَ له وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم‏.‏
قال‏:‏ فأقبل عليه ابنُ عبَّاس فقال‏:‏ واللهّ ما مَنَحْتنا شيئاً حتى سألناه ولا فَتحت لنا باباً حتى قَرَعْناه ولئن قطعتَ عنَّا خيرَكَ للّهُ أوسع منك ولئن أَغلقت دوننا لنكُفّن أنسفَنا عنك‏.‏
وأما هدا المالُ فليس لك منه إلا ما لِرَجُل من المًسلمين ولنا في كتاب اللّه حَقّان‏:‏ حَق في الغنيمة وحقٌّ في الفَيء فالغنيمَةُ ما غَلبنا عليها والفَيء ما اجتنيناه‏.‏
ولولا حقُنا في هذا المال لم يَاتك منَّا زائر يَحمله خُفّ ولا حافر أكفَاك أم أَزِيدك قال‏:‏ كَفاني فإنك لا تُهَرّ ولا تنبح‏.‏
وقال يوماً مُعاوية وعنده ابنُ عبّاس‏:‏ إذا جاءت هاشمٌ بقَدِيمها وحَدِيثها وجاءت بنو أميَّة بأَحْلامها وسِياستها وبنو أسد بن عبد العُزّي بِرِفادتها ودِيَاتها وبنو عبد الدّار بحجابها ولوائها وبنو مَخزوم بأموالها وأَفعالها وبنو تَيْم بصدِّيقها وجَوادها وبنو عديّ بفاروقها ومُتفكرها وبنو سَهْم بأرائها ودَهائها وبنو جُمح بشَرفها وأنفتها وبنو عامر بن لؤيّ بفارسها وقَريعها فمن ذا يُجلي في مِضْمارها ويَجْري إلى غايتها ما تقول يا بنَ عبَّاس قال‏:‏ أقول‏:‏ ليس حَيٌّ يَفْخرون بأمرِ إلا وإلى جَنْبهم مَنْ يَشْركهم إلا قُريشاً فإنهم يَفْخرون بالنبوة التيِ لا يُشارَكون فيها ولا يُساوَوْن بها ولا يُدْفعون عنها وأشْهد أن اللّه لم يجعل محمداَ من قُريش إلا وقُرِيشٌ خَيْرُ البرية ولم يَجْعله في بني عبد المُطلب إلا وهم خَيْر بني هاشم ما نُريد أن نفخر عليكم إلا بما تَفْخرون به إن بنا فُتِح الأمر وبنا يُخْتم ولك مُلْك مُعجَّل ولنا مُؤجّل فإِن يكن ملْكُكم قبل مُلكنا فليس بعد مُلْكنا مُلْك لأنّا أهلُ العاقبة والعاقبةُ للمتقين أبو مِخْنف قال‏:‏ حَجّ عمرو بنُ العاص فَمَرّ بعبد اللهّ بن عباس فَحَسَده مكانه وما رأى من هَيْبة النَّاس له ومَوْقِعَه من قُلوبهم فقال له‏:‏ يا بن عبّاس مالك إذا رَأيتني وليَّتني القَصَرة وكانّ بين عينيك دَبْرة وإذا كنتَ في مَلأ من الناس كُنْتَ الهَوْهاة الهُمزَة‏!‏ فقال ابنُ عبّاس‏:‏ لأنك من اللئام الفجرة ولقريش الكرامٍ البَررة لا يَنْطِقون بِباطل جَهِلوه ولا يَكْتًمون حقّاً عَلِموه وهم أعظمُ الناس أحْلاما وأرفع الناس أَعْلاما‏.‏
دخلتَ في قُريش ولستَ منها فأنت الساقطُ بين فِراشين لا في بني هاشم رَحْلُك ولا في بني عَبد شمس راحلتُك فأنت الأثيم الزنيم الضَّالّ المُضِلّ حَمَلَك مُعاوية على رِقاب الناس فأنت تَسْطو بحِلْمه وتَسْمو بكَرَمه‏.‏
فقال عمرو‏:‏ أما واللّه إني لَمَسْرور بك فهل يَنفعني عندك قال ابنُ عباس‏:‏ حيث مال الحقُّ مِلْنا وحيثُ سَلَكَ قصَدْنا‏.‏
المدائني قال‏:‏ قام عمرو بن العاص في مَوْسم من مَواسم العرب فأطْرى مُعاوية بنَ أبي سفيان وبني أُمية وتناول بني هاشم وذكر مَشاهده بصِفِّين واجتمعت قُريش فأقبل عبدُ اللّه بن عبَّاس على عَمْروِ فقال‏:‏ يا عمرو إنك بِعْت دِينَك من مُعاوية وأعطيتَه ما بيَدك ومَنَّاك ما بيد غيْرك وكان الذي أخذ منك أكثرَ من الذي أعطاك والذي أخذتَ منه دون الذي أعطيتَه حتى لو كانت نفسُك في يدك ألقيتَها وكُلًّ راضٍ بما أخذ وأعطى فلما صارت مصرُ في يدك كَدَّرها عليك بالعَذْل والتنقُّص وذكرتَ مشاهدَك بصِفِّين فواللّه ما ثَقُلتْ علينا يومئذ وَطْأَتك ولقد كًشِفت فيها عَوْرتُك وإنْ كنتَ فيها لطويلَ اللِّسان قصيرَ السِّنان آخرً الخَيْل إذا أقبلتْ وأولها إذا أدبرت لك يَدان‏:‏ يَدٌ لا تَبْسُطها إلى خَير وأخري لا تَقبضها عن شَرّ ولسانٌ غادر ذو وَجْهين وجهان وَجْهٌ مُوحش وَوَجْه مُؤْنس ولعمري إنّ من باع دينَه بدُنْيا غيره لحريّ أن يطول عليها نَدمُه‏.‏
لك بيانُ وفيك خطَل ولك رَأي وفيك نَكَد ولك قدر وفيك حَسد وأصغر عَيْب فيك أعظم عَيْب في غَيْرك‏.‏
فأجابه عمرو بن العاص‏:‏ واللّه ما في قُريش أثقلُ عليّ مسئلةً ولا أمرُّ جواباً منك ولو استطعتُ ألا أجيبك لفعلتُ غيرَ أني لم أَبع دِيني من مُعاوية ولكن بِعْتُ اللّه نفْسي ولم أنس نَصِيبي من الدُّنيا وأما ما أخذتُ من مُعاوية وأَعطيتُه فإنه لا تُعلَّم العَوان الخِمْرة وأمّا ما أتى إليّ معاويةُ في مِصْر فإنّ ذلك لم يُغيِّرني له وأمًا خِفّة وَطْأتي عليكم بصفِّين فلِم اسْتَثْقلتم حَياتي واستبطأتم وَفاتي وأما الجُبن فقد علمتْ قريش أنّي أولُ من يُبارز وأمرّ من يُنازل وأما طُول لساني فإني كما قال هِشام بن الوليد لعُثمان بن عفّان رضي اللّه عنه‏:‏ لسانِي طويلٌ فاحْتَرس من شَذاته عليك وَسَيْفي مِن لسانيَ أَطْولُ وأما وَجْهاي ولسَاناي فإن ألْقى كلَّ ذِي قَدْر بِقَدْره وأرمي كَلّ نابح بحَجَره فمن عَرف قَدْرَه كَفاني نَفسه ومَن جَهِل قَدْرَه كَفيتُه نَفْسي‏.‏
ولَعَمْري ما لأحدٍ من قُريش مثلُ قَدْرك ما خلا معاويةَ فما يَنفعني ذلك عندك وأَنشأ عمرو يقول‏:‏ بَني هاشم مالِي أراكم كأنَّكم بِيَ اليومَ جُهّالٌ وليس بكم جَهْلُ ألم تَعلموا أنّي جَسورٌ على الوغَى سريع إلى الداعي إذا كثُر القَتْل وأوّل مَن يَدْعو نَزال طَبِيعةِّ جُبِلْتُ عليها والطباع هو الجَبْل وأني فَصَلتُ الأَمرَ بعد اشتباهه بدُومةَ إذ أعيا على الحَكَم الفَصْل وأنيِّ لا أَعْيا بأمْرٍ أريدُه وأنّي إذا عَجَّت بِكَارُكم فَحْل محمد بن سَعيد عن إبراهيم بن حُوَيْطب قال‏:‏ قال عمرُو بن العاص لعبد اللّه ابن عبّاس بعد قَتْل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه‏:‏ إنّ هذا الأمرَ الذي نَحن فيه وأنتم ليس بأوّل أمر قادَه البَلاءُ وقد بَلَغ الأمرُ بنا وبكم إلى ما تَرى وما أبْقت لنا هذه الحربُ حَياءً ولا صَبْراً ولسنا نقول‏!‏‏:‏ ليتَ الحربَ عادتْ لكنّا نقول‏:‏ ليتَها لم تَكُن كانت فانظُر فيما بَقِي بغير ما مَضى فإنك رأسُ هذا الأمر بعد عليّ فإنّك أميرٌ مًطاع ومأمور مطيع ومشاور مأمون وأنت هو‏.‏
مجاوبة بني هاشم وبني عبد شمس لابن الزبير الشَّعبيّ قال‏:‏ قال ابنُ الزّبير لعبد اللّه بن عبّاس‏:‏ قاتلتَ أمّ المُؤمنين وحَواريَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأَفتيتَ بزواج المُتعة‏.‏
فقال‏:‏ أمّا أُمّ المُؤمنين فأنت أخرجتَها وأبوك وخالًك وبنا سُمِّيت أُمَّ المؤمنين وكُنّاها خَيرَ بَنين فتجاوز اللّه عنها‏.‏
وقاتلتَ أنت وأبوك عليًّا فإن كان عليّ مُؤْمناً فقد ضَلَلْتم بقتالكم المُؤمنين هان كان عليّ كافراً فقد بؤْتم بسُخْط مِن الله بفِراركم من الزَّحف وأما المُتعة فإنّ عليّا رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم رَخَّص فيها فأفتيتُ بها ثم سمعتُه يَنهي عنها فنهيتُ عنها وأولُ مجْمر سَطَع في المُتعة مِجْمر آل الزُّبير‏.‏
دخل الحسنُ بن عليّ على مُعاوية وعنده ابنُ الزُّبير وأبو سَعيد بن عَقيل ابن أبي طالب فلما جَلس الحسنُ قال مُعاوية‏:‏ يا أبا محمد أيهما كانَ أكبرَ‏:‏ عليّ أم الزبير قال‏:‏ ما أَقربَ ما بينهما‏!‏ عليّ كَان أسنَّ من الزُّبير رحم اللّه عليًّا‏.‏
فقال ابن الزبير‏:‏ ورحم اللهّ الزبير‏.‏
فتَبسّم الحسن‏.‏
فقال أبو سَعيد بن عَقِيلِ بن أبي طالب‏:‏ دَعْ عنك عليّا والزُّبير إنّ عليّا دعا إلى أمر فاتّبع وكان فيه رأساَ ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأسُ امرأةً فلما تراءت الفِئتان والتقى الجمعان نَكَص الزُبير على عَقِيبه وأدبر مُنهزماً قبل أن يَظهر الحقُّ فيأخذَه أو يَدْحض الباطلُ فيتركه فأدركه رجل لو قِيس ببعض أعضائه لكان أصغر فضرب عنقه وأخذ سَلَبه وجاء برأسه ومَضى علي قُدُما كعادته من ابن عمّه ونبيه صلى الله عليه وسلم فَرَحم الله علياً ولا رَحم الزُّبير‏.‏
فقال ابنُ الزُّبير‏:‏ أما واللّه لو أنّ غيرك تكلَم بهذا يا أبا سَعيد لَعَلِم قال‏:‏ إن الذي تُعرّض به يَرْغب عنك‏.‏
وأخبرت عائشةُ بمقالتهما فمرّ أبو سعيد بفنائها فنادتْه‏:‏ يا أَحول يا خَبيث‏!‏ أنت القائل لابن أختي كذا وكذا فالتفت أبو سَعيد فلم يَعر شيئاً فقال‏:‏ إن الشيطان ليَرَاك من حيث لا تراه‏.‏
فَضَحِكت عائشةُ وقالت‏:‏ للّه أبوك‏!‏ ما أخبث لسانك‏!‏ الشَّعبي قال‏:‏ دخل الحُسين بن عليّ يوماً على مُعاوية ومعه مَوْلى له يقال له ذَكْوان وعند مُعاوية جماعةٌ من قُريش فيهم ابنُ الزُّبير فَرَحّب مُعاوية بالحُسين وأجلسه على سَريره وقال‏:‏ ترى هذا القاعدَ - يعني ابنَ الزُّبير - فإنه ليدْركه الحسدُ لبني عبد مناف‏.‏
فقال ابنُ الزُّبير لمعاوية‏:‏ قد عَرفنا فضلَ الحسين وقَرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنْ إن شِئتَ أن أعْلمك فضلَ الزُّبير على أبيك أبي سُفيان فَعلتُ‏.‏
فتكلّم ذكوانُ مولى الحُسين ابن عليّ فقال‏:‏ يا بن الزًّبير إنّ مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طَلْق اللِّسان رابطَ الجَنان فإن نَطق نَطق بعِلْم وإن صَمَت صَمَت بحِلْم غيرَ أنه كَفَّ الكلام وسَبق إلى السِّنان فأقرَّت بفَضْله الكرام وأنا الذي أ قول‏:‏ إنّ الذي يجْرِي لِيُدْرِك شَأْوَه يُنمَى بغير مُسوَّد ومُسدَّد بل كيف يُدْرَك نُورُ بدر ساطع خيرِ الأنام وفَرْع آل محمد فقال مُعاوية‏:‏ صَدَق قولُك يا ذَكْوان أكْثر اللّه في موالي الكِرام مِثْلَك‏.‏
فقال ابنُ الزُّبير‏:‏ إنّ أبا عبد اللهّ سَكَت وتكلّم مولاه ولو تكلّم لأجَبْناه أو لكَفَفْنا عن جوابه إجلالاً له ولا جوابَ لهذا العبد‏.‏
قال ذَكْوان‏:‏ هذا العبدُ خيرٌ‏.‏
منك قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مولَى القوم منهم ‏"‏‏.‏
فأنا مولَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنت ابنُ الزبير بن العوام بن خُويلد فنحن أكرمُ ولاءً وأحسن فِعْلا‏.‏
قال ابنُ الزًّبير‏:‏ إني لستُ أجيب هذا فهاتِ ما عندك يا معاوية‏.‏
فقال مُعاوية‏:‏ قاتلك اللّه يا بنَ الزًّبير‏!‏ ما أعياك وأبغاك‏!‏ أتفخر بين يدي أَمير المُؤمنين وأبي عبد الله‏!‏ إنّك أنت المُتعدّي لِطَوْرك الذي لا تَعرف قَدْرَك فَقِسْ شِبْرك بفِتْرك ثم تعرّف كيف تَقع بين عَرانِين بني عَبْد مَناف‏.‏
أما والله لئن دُفِعْتَ في بُحور بني هاشم وبني عبد شمس لقطعَتْك باع مواجها ثم لترمين بك في لُججها‏.‏
فما بقاؤك في البحور إذا غَمرتك وفي الأمواج إذا بَهَزَتْك هنالك تعرف نفسَك وتَنْدم على ما كان من جُرأتك وتَمنّى ما أصبحتَ فيه من أمان وقد حِيل بين العَيْر والنَّزَوان‏.‏
فأطرق ابن الزُّبير مليًّا‏!‏ ثم رَفع رأسَه فالتفت إلى مَن حوله ثم قال‏:‏ أسألكم باللّه أَتعلمون أنَّ أبي حواريُّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأن أباه أبا سُفيان حاربَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وأن أمّي أَسماءُ بنت أبي بَكْر الصدَيق وأمه هِنْد الأَكباد وجَدّي الصّدّيق وجدَه المَشْدوخ ببدر ورَأسُ الكُفر وعَمَّتي خديجة ذات الخَطر والحَسب وعَمَّته أمّ جَميل حمالةُ الحَطَب وجدَّتِي صفيّة وجدَّته حَمامة وزَوْجَ عمتيِ خيرُ ولد آدم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وزوج عَمّته شرُّ ولد آدم أبو لهب سَيصلى نارًا ذات لهب وخالتي عائشة أمّ المؤمنين‏.‏
وخالَتَه أشقَى الأشقين وأنا عبدُ اللهّ وهو مُعاوية‏.‏
قال له مُعاوية‏:‏ ويحك يا بن الزُّبير‏!‏ كيف تَصف نفسك بما وصفتَها واللّه مالَك في القَديم مِن رِياسة ولا في الحَديث من سياسة ولقد قُدْناك وسُدْناك قَديماً وحَديثاً لا تَستطيع لذلك إنكاراً ولا عنه فِراراً وإنّ هؤلاء الخُصوم ليعلمون أن قريشاً قد اجتمعت يوم الفِجار على رياسة حَرْب بن أًمية وأن أباك وأسرتك تحت رايته رَاضُون بإمارته غير مُنْكرين لِفَضْله ولا طامعين في عَزله إنْ أمَر أطاعوا وإنْ قال أنصتوا فلم تَزل فينا القيادةُ وعِزُّ الولاية حتى بَعث اللهّ عز وجلّ محمداً صلى الله عليه وسلم فأنتخبه من خير خلقه من أسرتي لا من أسرتك وبَني أبي لابني أبيك فجحدته قريش أشدَ الجُحود وأنكرته أشدَ الإنكار وجاهدتْه أشدَّ الجهاد إلّاَ مَن عَصم اللهّ من قُريش فما ساد قريشاَ وقادهم إلا أبو سفيان ابن حرب فكانت الفِئتان تَلتقي ورَئيس الهُدى منّا ورئَيس الضّلالة منّا فمَهديّكم تحت راية مَهديّنا وضالكم تحت راية ضالّنا فنحنُ الأربابُ وأنتم الأذناب حتى خلّص اللهّ أبا سفيان بن حَرب بفَضْله من عَظيم شركه وعَصمه بالإسلام من عبادة الأصنام فكان في الجاهليّة عظيماً شأنُه وفي الإسلام مَعروفا مكانُه ولقد أعْطِي يومَ الفَتح ما لم يُعْطَ أحدٌ من آبائك وإنّ مُنادِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نادَى‏:‏ مَن دخل المَسجد فهو آمِن ومن دخل دارَ أبي سُفيان فهو أمن وكانت دارُه حَرَمًا لا دارُك ولا دارُ أبيك وأما هِنْد فكانت امرأة من قريش في الجاهليّة عظيمة الخطرِ وفي الإسلام كريمة الخَبر وأما جَدُك الصدِّيق فَبِتَصديق عبد مناف سُمِّي صِدِّيقاَ لا بتَصْديق عبد العُزّي وأما ما ذَكرتَ من جدِّي المَشْدوخ ببدر فَلَعمري لقد دعا إلى البِراز هو وأخوه وابنُه فلو بَرزتَ إليه أنتَ وأبوك ما بارزوكم ولا رأوْكم لهم أكفاء كما قد طَلب ذلك غيركم فلم يَقْبلوهم حتى برز إليهم أكفاؤُهم من بني أبيهم فَقَضىَ اللّه مَناياهِم بأيديهم فنحن قَتلنا ونحن قُتلنا وما أنت وذاك وأما عَمِّتك أم المُؤمنين فبنا شرُفت وسُمِّيت أمَّ المؤمنين وخالتُك عائشة مِثْلُ ذلك وأما صَفِيّة فهي أدْنتك من الظلّ ولولاها لكُنتَ ضاحِياً وأمّا ما ذكرت من عمّك وخال أبيك سيّد الشُّهداء فكذلك كانوا رَحمهم اللّه وفخرُهم وإرثًهم لي دونك ولا فَخَر لك فيهم ولا إرثَ بينك وبينهم وأما قولُك أنا عبدُ الله وهو مُعاوية فقد علمتْ قُريش أينا أجودُ في الإزَم وأمضى في القُدُم وأمنع للحُرم لا والله ما أراك مُنْتهياً حتى تَرُوم من بني عبد مناف ما رَام أبوك فقد طالبهم بالذُّحول وقَدْم إليهم الخُيول وخَدَعتم أم المؤمنين ولم تراقبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مَددْتم على نساءكم السُّجوف وأبرزتم زَوْجته للحُتوف ومُقارعة السُيوف فلما التقى الجمعان نكص أبوك هارباً فلم يُنْجه ذلك أن طَحَنه أبو الحُسَين بكَلْكَله طَحْن الحَصِيد بأيدي العبيد وأما أنت فأفلتَّ بعد أن خَمَشتْك بَراثنُه ونالتك مخالبّه‏.‏
وايم اللهّ ليقومنك بنو عبد مَناف بثقافها أو لتصيحنّ منها صِيَاح أبيك بوادي السّباع وما كان أبوك المرهوبَ جانبُه ولكنه كما قال الشاعر‏:‏ أكيلة سِرْحانٍ فَرِيسة ضَيْغم فَقَضقَضه بالكَفّ منه وحَطّمَا نازع مَرْوانُ بن الحَكَم يوماً ابنٍ الزُّبير عند معاوية فكان معاوية مع مروان فقال ابن الزبير‏:‏ يا معاوية‏:‏ إنّ لك حقا وطاعة وإنّ لك صِلَة وحُرْمة فأطِعْ اللّه نُطِعْك فإنّه لا طاعة لك علينا إنْ لم تُطِع اللهّ ولا تُطْرِق إطْراق الأفْعوان في أصول السَّخْبر‏.‏
وقال مًعاويةُ يوماً وعنده ابنُ الزُّبير وذُكر له مروان فقال‏:‏ إنْ يَطْلب هذا الأمرَ فقد يَطمع فيه مَن هو دُونه وانْ يتركه يتركه لمن هو فَوقه وما أراكم بمنتَهين حتى يَبْعَثَ اللهّ عليكم من لا تَعْطِفه قَرابة ولا تردّه مَودة يَسُومكم خَسْفا ويُوردكم تلفا‏.‏
قال ابنُ الزبير‏:‏ إذاً واللّه نُطلق عِقال الحَرْب بكتائب تمور كرِجْل الجَراد حافاتها الأسَل لها دوي كدويّ الرِّيح تَتْبع طرِيفا من قُريش لم تكن أمّه براعية ثَلَّة قال مُعاوية‏:‏ أنا ابنً هِنْد أطلقتُ عِقَال الحرب وأكلت ذِرْوة السنام وشربتُ عُنفوان المَكْرع وليس للآكل بعدي إلا الفِلْذة ولا للشارب إلا الرنْق‏.‏
مجاوبة الحسن بن علي لمعاوية وأصحابه وفد الحسنُ بن عليّ على مُعاوية فقال عمرو لمعاوية‏:‏ يا أميرَ المؤمنين‏:‏ إنّ الحسن لفَهٌّ فلو حَمَلْتَه على المِنْبر فتكلَّم وسَمِع الناسُ كلامَه عابُوه وسَقط منِ عُيونهم فَفَعل‏.‏
فَصَعِد المِنبر وتكلَّم وأحسن ثم قال‏:‏ أيها الناس لو طَلَبتم ابناً لنبيِّكم ما بين لابَتَيْها لم تجدوه غَيْري وغير أخي وإنْ أدْرِي لعلّه فِتنة لكم ومَتاع إلى حين‏.‏
فساء ذلك عَمْراً وأراد أن يَقْطع كلامَه فقال له‏:‏ أبا محمد أتَصِف الرُّطب فقال‏:‏ أجل تُلحقه الشَّمال وتُخرجه الجَنوب‏.‏
وتُنْضجه الشَّمس ويَصْبغه القَمر‏.‏
قال‏:‏ أبا محمد هل تَنْعت الخِراءة قال‏:‏ نعم تُبعد المَشي في الأرض الصَّحْصح حتى تتَوارى من القَوم ولا تَسْتقبل القِبْلة ولا تَستدبرها ولا تَسْتنج بِالقُمامة والرِّمّة - يريد الرّوْث والعَظْم - ولا تَبُلْ في الماء الرّاكد‏.‏
بينما مُعاوية بن أبي سُفيان جالسٌ في أصحابه إذ قيل له‏:‏ الحسنُ بالباب فقال معاوية‏:‏ إنْ دخل أَفْسد علينا ما نحن فيه فقال له مروان بن الحَكَم‏:‏ ائذن لي فإني أسأله ما ليس عنده فيه جَواب قال مُعاوية‏:‏ لا تَفعل فإنهم قَوْم قد‏.‏
ألْهِموا الكلامَ وأذن له‏.‏
فلما دَخل وجَلس قال له مَرْوان‏:‏ أَسرْع الشيبُ إلى شاربك يا حسن ويُقال إن ذلك من الخُرْق فقال الحسن‏:‏ ليس كما بلغك ولكنَّا - معشر بني هاشمٍ - أفواهُنا عَذْبةٌ شِفَاهُها فنساؤنا يُقْبِلن علينا بأنفاسهنّ وقًبَلِهِن وأنتم معشرَ بني أمية فيكم بَخَر شديد فنساؤكم يَصرفن أفواههنّ وأنفاسهن عنكم إلى أصْداغكم فإنما يَشِيب منكم موضعُ العِذَار من أجل ذلك‏.‏
قال مَروان‏:‏ إن فيكم يا بني هاشم خَصْلَةَ سَوء قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ الغُلْمة قال‏:‏ أجل نُزعت الغُلْمة مِن نسائنا ووُضعت في رجالنا ونُزِعت الغُلْمة من رجالكم ووُضعت في نِسَائكم فما قام لأموية إلاّ هاشميّ‏.‏
فَغضِب مُعاوية وقال‏:‏ قد كنتُ أَخبرتكم فأبيتم حتى سَمِعتم ما أَظلم عليكم بَيْتَكم وأفسد عليكم مَجْلِسكم‏.‏
فَخَرج الحسنُ وهو يقول‏:‏ ومارستُ هذا الدَهرَ خمسين حِجَّةً وحَمْساً أزَجِّي قائلا بعد قائل فلا أنا في الدُّنيا بلغتُ جَسِيمها ولا في الذي أهْوَى كدحتُ بطائل وقد شَرَعت دوني المَنايا أكُفَّها وأيقنتُ أنّي رَهْنَ مَوْتٍ مُعاجل قال الحسن بن عليّ لحبيب بن مَسْلمة الفِهْري‏:‏ ربّ مَسير لك في غَير طاعة اللّه قال‏:‏ أمّا مَسيري إلى أبيك فلا قال‏:‏ بلى ولكنّك أطعتَ مُعاوية عن دُنيا قليلة فلئن كان قام بك في دُنياك لقد قَعد بك في آخرًتك ولو كنتَ إذ فعلتَ شرّاً قُلتَ خيراً كنتَ كما قال الله عزّ وجل‏:‏ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وآخرً سَيِّئاً ولكنّك كما قال الله‏:‏ ‏"‏ بَلْ رانَ على قلُوبهم ما كانوا يَكْسِبُون ‏"‏‏.‏
قَدِم عبدُ اللّه بن جعفر على عبد الملك بن مَروان فقال له يحيى بنُ الحَكَم‏:‏ ما فعلت خَبِيثة فقال‏:‏ سُبحان الله‏!‏ ُ يسمِّيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طَيْبة وتُسمِّيها خُبيثة‏!‏ لقد اختلفتما في الدُّنيا وستَخْتلفان في الآخرًة قال يحيى‏:‏ لأن أموت بالشام أحبُّ إليّ مِن أن أموت بها قال‏:‏ اخترت جِوار النَصارَى على جِوِار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى‏:‏ ما تَقول في عليّ وعُثمان قال‏:‏ أقول ما قاله مَن هو خيْرٌ منّي فيمن هو شَرٌّ منهما‏:‏ إنّ تُعذَبهم فإنّهم عِبادُك وإنْ تَغْفِرْ لهم فإِنّك أنْتَ العزيزُ الحَكِيم‏.‏
مجاوبة بين معاوية وأصحابه قال مُعاوية يوماً وعنده الضَّحاك بن قَيس وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص‏:‏ ما أعجبُ الأشياء قال الضحّاك بن قَيس‏:‏ إكْداء العاقل وإجْداء الجاهل‏.‏
وقالت سعيدُ بن العاص‏:‏ أعجبُ الأشياء ما لم يُرَ مثلهُ‏.‏
وقالت عمرو بن العاص‏:‏ أعجب الأشياء غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقِّ على حقِّه‏.‏
فقال معاوية‏:‏ أعجب مِن هذا أن تعْطِي مَن لاحقَّ له ما ليس له بحق من غير غَلبة‏.‏
حضر قوم من قُريش مجلسَ مُعاويةَ فيهم عمرو بن العاص وعبدُ اللّه بن صفْوان ابن أمية وعبدُ الرحمن بن الحارث بن هشام‏.‏
فقال عمرو‏:‏ أحمد اللّه يا مَعْشرَ قُريش إذ جعل أمرَكم إلى من يُغْضي على القَذَى ويتصامُ عن العَوْراء ويجرّ ذيلَه على الخَدائع‏.‏
قال عبدُ اللّه‏:‏ لو لم يكن كذلك لَمَشينا إليه الضَرَاء ودَببنا إليه الخَمر وَرَجونا أن يقوم بأمرنا من لا يُطْعمك مالَ مصر‏.‏
قال معاوية‏:‏ يا معشرِ قريش حتى متى لا تُنْصفون من أنفسكم قال عبدُ الرحمن بن الحارث‏:‏ إن عمراَ أفسدك علينا وأَفسدنا عليك ولو أغضبتك هذه‏.‏
قال‏:‏ إن عمراً لي ناصح قال عبدُ الرحمن‏:‏ فأطْعمنا مثلَ ما أطعمته وخُذْنا بمثل نَصِيحته إنا رأيناك يا مُعاوية تَضْرب عوامَّ قُريش بأياديك في خَواصها كأنّك ترى أن بكرامها قُوّتك دون لئامها وإنك واللهّ لتُفْرغ في إناء فَعْم من إناء ضخم وكأَنك بالحرب قد حَلَّ عِقالَها عليك مَن لا ينْظُرك قال مُعاوية‏:‏ يا بن أخي ما أحوج أهلَك إليك فلا تَفْجعهم بنفسك ثم أنشد‏:‏ أغَرّ رجالاً من قُريش تَتايَعوا على سَفه منّي الحَيا والتَّكرُّمُ وقال مُعاوية لابن الزًّبير‏:‏ تُنازعني هذا الأمرَ كأَنك أحقُّ به منّي‏!‏ قال‏:‏ لمَ لا أكون أحقَّ به منك يا مُعاوية وقد اتبع أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم على الإيمان واتبع الَناسً أباك على الكُفر قال له مُعاوية‏:‏ غَلِطت يا بن الزُّبير بعث اللّه ابنَ عمّي نبيّا فدعا أباك فأجابه فما أنت إلا تابع لي ضالًّا كنتُ أو مَهديًّا‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ دعا مُعاويةُ مَروان بن الحكم فقال له‏:‏ أشِر عليّ في الحُسين قال‏:‏ تخرجه معك إلى الشام فَتَقطعه عن أهل العراق وتَقْطعهم عنه قال‏:‏ أردتَ واللهّ أن تستريح منه وتَبْتليني به فإن صبرتُ عليه صبرتُ على ما أكره وإن أسأتُ إليه كُنتُ قد قطعتُ رحمه‏.‏
فأقامه وبعث إلى سعيد ابن العاص فقال له‏:‏ يا أبا عثمان أَشِرْ عليّ في الحُسين قال‏:‏ إنك واللهّ ما تخاف الحسين إلا على مَن بعدك وإنك لتُخلِّف له قِرْنا إنْ صارعه لَيَصْرعنّه هانْ سابقه لَيَسبقنّه فَذَرِ الحُسين منبتَ النّخلة يشربْ من الماء ويَصْعد في الهواء ولا يَبْلغ إلى السماء قال‏:‏ فما غَيّبك عنّي يوم صِفّين قال‏:‏ تَحملتُ الحُرم وكُفيتَ الحَزْم وكنتُ قريباً لو دعوتَنا لأجبناك ولو أمرت لأطعناك قال معاوية‏:‏ يأهل الشام هؤلاء قومي وهذا مجاوبة بين بني أمية قال‏:‏ لما أخرج أهلُ المدينة عمرو بن سعيد الأشدق وكان واليهم بعد الوليد بن عُتبة هو الذي أمر أهل المدينة بإخراجي فأرْسِلْ إليه وتوثَّقه‏.‏
فأرْسل إليه مُعاوية فلما دَخل عليه قال له عمرو‏:‏ أوليد أنت أمرتَ بإخراجي قال‏:‏ لا ورَحِمك أبا أمية ولا أمرتُ أهلَ الكوفة بإخراج أبيك بل كيف أطاعني أهلُ المدينة فيك إلا أن تكون عَصيتَ اللهّ فيهم إنك لتَحُلَّ عُرَى مُلك شَديدةً عُقْدتها وتُمْري أخلاف فِيقة سريعة دِرّتها وما جَعل اللهّ صالحاً مُصْلِحا كفاسد مًفْسِد‏.‏
جلس يوماً عبدُ الملك بن مَروان وعند رأسه خالدُ بن عبد الله بن خالد بن أسيد وعند رجليه أُمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد وأدخلت عليه الأموالُ التي جاءت من قبل الحجّاج حتى وًضعت بين يديه فقال‏:‏ هذا واللهّ التَّوفير وهذه الأمانة‏!‏ لا ما فعل هذا وأشار إلى خالد استعملتُه على العراق فاستعمل كلّ مُلِطّ فاسق فأدّوا إليه العَشرة واحداً وأدّى إليَّ من العَشرة واحداً وأدى إلي من العشرة واحداً واستعملتُ هذا على خُراسان وأشار إلى أمية فأهدى إلى بِرْذونين حَطِمَينْ فإن استعملتكم ضَيّعتم وإن عزلتُكم قلتم استخفَّ بنا وقَطع أرْحامنا‏.‏
فقال خالدُ بن عبد اللّه‏:‏ استَعْملتَني على العرِاق وأهله رجلاًن‏:‏ سماع مُطيع مُناصح وعدوّ مُبْغض مُكاشح فإنّا دَارَيْناه ضغْنه وسَللنا حِقْده وكَثّرنا لك المَودّة في صُدور رَعيتك وإنّ هذا جَنى الأموالَ وزَرع لك البَغْضاءَ في قُلوب الرِّجال فيُوشك أنْ تَنْبُت البغضاء فلا أموالَ ولا رجالَ‏.‏
فلما خَرج ابنُ الأشعث قال عبدُ الملك‏:‏ هذا واللّه ما قال خالد‏.‏
قدم محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص الشامَ فأتى عَمَّته آمنة بنت سَعيد بن العاص وكانتْ عند خالد بن يزيدَ بن مُعاوية فدَخل عليه خالد فراه فقال له‏:‏ ما يَقْدَم علينا أحدٌ من أهل الحجاز إلا اختار المُقام عندنا على المدينة‏.‏
فَظَن محمدٌ أنه يُعرِّض به فقال‏:‏ وما يمنعهم وقد قَدِم من المدينة قومٌ على النَّواضح فَنَكحوا أمَّك وسَلَبوك مُلْكك وفَرَّغوك لطَلب الحديث وقِرَاءة الكتب ومُعالجة ما لا تَقْدر عليه يعني الكيميا وكان يَعْملها‏.‏
لما عَزَل عُثمانُ عمرو بنَ العاص عن مِصْر وولاّها عبدَ اللهّ بن سَرْح دخل عليه عمرو وعليه جُبة فقال له‏:‏ ما حَشْوُ جُبَّتك يا عمرو قال‏:‏ أنا قال‏:‏ قد علمتُ أنك فيها ثم قال‏:‏ أشَعرت يا عمرو أن اللِّقاح درَت بعدك ألبانُها بمصر قال‏:‏ لأنكم أعْجفتم أوْلادها‏.‏
وقع بين ابن لعُمَر بن عبد العزيز وابن لسُليمان بن عبد الملك كلام فَجَعل ابنُ عمر يذكر فضلِ أبيه قال له ابنُ سليمان‏:‏ إنْ شئت فأقْلِل وإنْ شِئْت فأكْثِر ما كان أبوك إلا حسنةَ من حسنات أبي‏.‏
لأنّ سُليمان هو وَلَّى عُمَر بن عبد العزيز‏.‏
ذَكَرُوا أنّ العبّاس بن الوليد وجماعةً من بني مَرْوان كانوا عند هِشام فذكروا الوليدَ بن يزيد فَحمَّقوه وعابُوه وكان هِشام يُبغضه ودخِل الوليدُ فقال له العبّاس بن الوليد‏:‏ كيف حُبُّك للرُّوميات فإِن أباك كان مَشْغوفاَ بهن قال‏:‏ إني لأحبهن وكيف لا يُحْبَبن وهُن يَلِدْن مِثْلَك قال‏:‏ اسكُت فلستَ بالفَحل يَأتي عَسْبُه بمثْلي قال له هِشام‏:‏ يا وليد ما شرابك قال‏:‏ شرابك يا أميرَ المؤمنين وقام فَخَرج‏.‏
فقال هشام‏:‏ هذا الذي تَزْعمون أنَه أحمق‏.‏
وقُرِّب إلى الوليد بن يزيد فَرسُه فَجَمع جَرَامِيزه وَوَثَب على سَرْجِه ثم التفت إلى ولدٍ لهشام بن عبد الملك فقال‏:‏ يُحْسِنُ أبوك أن يَصنع مثلَ هذا قال‏:‏ لأبي مائةُ عبد يَصْنعون مثلَ هذا فقال الناسُ‏:‏ لم يُنْصِفه في الجواب‏.‏
خَطَب عبد الملك بن مَرَوان بنتَ عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام فقالت‏:‏ واللّه لا تُزَوَجني أبا الذُّباب‏.‏
فتزوّجها يحيى بن الحكم‏.‏
فقال عبدُ الملك ليحيى‏:‏ أما واللهّ لقد تَزَوَّجْت أسْود أفوه قال يحيى‏:‏ أما إنَّها أبَّت منّي ما كرهتْ منك‏.‏
كان عبدُ الملك رديءَ الفَم يَدْمى فَيقع عليه الذُباب فسُمّي أبا الذُباب‏.‏
الجواب القاطع نَظَر ثابتُ بن عبد اللّه بن الزبير إلى أهْل الشام فقال‏:‏ إنّي لأبغِض هذه الوُجوه قال له سَعِيد بنُ عثمان‏:‏ تُبغضهم لأنّهم قَتلوا أباك قال‏:‏ صدقتَ ولكنّ الأنصار والمهاجرين قَتلوا أباك‏.‏
وقال الحجّاج لرجل من الخوارج‏:‏ واللهّ إنك مِن قومٍ أبغِضهم قال له‏:‏ أدخل اللّهُ أشَدّنا بُغْضاً لصاحبه الجنَة‏.‏
وقال ابنُ الباهليّ لعمرو بن مَعْد يكرب‏:‏ إنّ مُهْرَكَ لمُقْرِف قال‏:‏ هَجين عَرَفَ هَجيناً مثلَه‏.‏
وقال الحجّاج لامرأة من الخوارج‏:‏ والله لأعُدَّنَّكم عدًّا ولاحْصُدَنّكم حَصْداً قالت له‏:‏ اللّه يَزْرع وأنت تَحْصُد فأين قُدْرة المَخْلوق من الخالق وأنيَ الحجّاج بامرأة من الخَوارج فقال لأصحابه‏:‏ ما تَقُولون فيها قالوا‏:‏ عاجِلْها القَتْلَ أيَها الأمير قالت الخارجية‏:‏ لقد كان وزراءُ صاحبِك خَيْرًا من وُزرائكَ يا حجّاج قال لها‏:‏ ومَن صاحبي قالت‏:‏ فِرْعون استشارهم في موسى فقالوا‏:‏ أرجِه وأخاه‏.‏
وأُتي زِيَاد برجل من الخوارج فقال له‏:‏ ما تقول فيَّ وفي أمير المؤمنين قال‏:‏ أمّا الذيَ تُسَمِّيه أميرَ المؤمنين فهو أميرُ المشركين وأما أنت فما أقول في رَجُل أوَّله لِزنْية وآخره لِدَعْوة فأمَر به فقًتِل وصُلِب‏.‏
قال الأشعث بن قَيْس لشرُيح القاضي‏:‏ لَشَدَّ ما ارْتَفَعْت‏!‏ قال‏:‏ فهل رأيتَ ذلك ضرًك قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأراكَ تَعْرِف نِعمة اللّه عليك وتَجْهلها على غيرك‏.‏
نازع محمدُ بن الفَضْل بعضَ قَرابته فٍي مِيراث فقال له‏:‏ يا بن الزِّنْدِيق قال له‏:‏ إن كان أبي كما تقوله وأنا مثلًه فلا يَحِلّ لك أن تُنازعني في هذا الميراث إِذ كان لا يرث دِينٌ دِيناً‏.‏
وأتيَ الحجّاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلِّمها وهي لا تَنْظُر إليه فقيل لها‏:‏ الأميرُ يِكلَمكِ وأنت لا تَنْظُرين إليه‏!‏ قالت‏:‏ إني لأسْتَحي أن أنظر إلى من لا ينظُر الله إليه‏.‏
فأمر بها فقُتِلت‏.‏
لَقي عثمانُ بن عفان علي بن أبي طالب فَعَاتبه في شيء بلغه عنه فسكت عنه عليّ فقال له عثمان‏:‏ ما لك لا تقول قال له علي‏:‏ ليس لك عندي إلا ما تحب وليس جوابُك إلا ما تَكره‏.‏
وتكلم الناسُ عند مُعاوية في يزيد ابنه إذ أخذ له البيعة وسَكت الأحنفً فقال له‏:‏ ما لك لا تقول أبا بَحْر قال‏:‏ أخافُك إن صدقتُ وأخافُ اللهّ إن كذبتُ‏.‏
قال مُعاوية يوماً‏:‏ أيها الناس إن اللّه فَضّل قُريشاً بثلاث فقال لنبيه عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ وانْذِرْ عَشِيرتَك الأقربين فنحن عشيرته وقال‏:‏ وإنّه لِذِكْرٌ لَك ولِقَوْمك فنحن قومُه وقال‏:‏ لإيلافِ قُرَيشٍ إيلافهم إلى قوله الذي أطْعَمهم من جُوع أمنهم مِن خَوف ونحن قُريش‏.‏
فأجابه رجل من الأنصار فقال‏:‏ على رِسْلك يا مُعاوية فإن اللّه يقول‏:‏ ‏"‏ وكَذّب به قَوْمُك ‏"‏ وأنتم قومُه وقال‏:‏ ‏"‏ ولما ضُرِب ابنُ مَرْيم مَثَلاً إذا قَوْمًك منه يَصِدُون ‏"‏ وأنتم قومُه وقال الرسولُ عليه الصلاةُ والسلام‏:‏ يا رَبِّ إنّ قوْمي اتّخذُوا وقال مًعاوية لرجل من اليمن‏:‏ ما كان أجهلَ قَومك حين مَلّكوا عليهم امرأة‏!‏ فقال‏:‏ أجْهلُ من قَومي قومُك الذين قالوا حين دعاهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم اللهَم إنْ كان هَذا هُو الحقّ مِن عِندك فأمْطِر عَلينا حِجَارةً مِن السَّماء أوْ ائتنا بِعَذَاب اليم ولم يقولوا‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه‏.‏
مجاوبة الأمراء والرد عليهم قال مُعاوية لجارية بن قُدَامة‏:‏ ما كان أهْونَك على أهْلِك إذ سَمَّوْك جارية‏!‏ قال‏:‏ ما كان أهونَك على أهلك إذ سَمِّوْك مُعاوية‏!‏ وهي الأنثى من الكلاب قال‏:‏ لا أمَّ لك‏!‏ قال‏:‏ أمِّي وَلَدتْنِي للضيوف التي لَقِيناكَ بها في أيْدِينا قال‏:‏ إنك لتُهَدِّدني قال‏:‏ إنك لم تَفْتَتِحْنا قَسْراً ولمِ تَمْلِكنا عَنْوةً ولكنَّك أعْطَيتنا عَهْدًا وَمِيثاقاً وأعطيناك سَمْعاً وطاعةً فإن وَفَّيت لنا وفَّينا لك وإن فَزِعْت إلى غير ذلك فإنّا تَركنا وراءَنا رجالاً شِدَادًا وأَلْسِنَةً حِدَادًا قال له مُعاوية‏:‏ لا كَثّر اللّه في النَاس أمثالَك قال جارية‏:‏ قُلْ مَعْرُوفاً ورَاعِنا فإنّ شَرَّ الدًّعاء المُحْتَطب‏.‏
عَدَد مُعاوية بنُ أبي سُفيان على الأحنف ذُنوباً فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين لا تَرُدّ الأمورَ عَلَى أعقابها أمَا واللّه إنّ القُلوبِ التِي أبغضناك بها لَبَيْن جَوانحنا والسُّيوفَ التيِ قاتلناك بها لعلى عَواتقنا ولئن مَدَدْت فِتْراً من غَدْر لَنُمدَنَ باعاً من خَتْر ولئن شئت لَتَسْتَصْفِينًّ كَدَر قلوبنا بصَفو حِلْمك قال‏:‏ فإنّي أفعَل‏.‏
قال مُعاويةُ لعديّ بن حاتم‏:‏ ما فَعلتْ الطّرَفات يا أبا طَرِيف - يعني أولادَه - قال‏:‏ قُتلوا قال‏:‏ ما أنصفك ابنُ أبي طالب إذ قُتل بَنُوك معه وبَقي له بَنُوه قال‏:‏ لئن كان ذلك لقد قُتل هو وبَقيتُ أنا بعده قال له معاوية‏:‏ ألم تَزْعم أنه لا يُخْنق في قَتْل عثمان عَنْز قد واللهّ خُنِق فيه التَيس الأكبر‏.‏
ثم قال معاوية‏:‏ أمَا إنه قد بقيتْ من دَمه قَطْرة ولا بد أن أتّبعها قال عديّ‏:‏ لا أبا لك‏!‏ شِم السيفَ فإنً سَلَّ السيفِ يَسُل السيفِ‏.‏
فالتفت مُعاوية إلى حَبيب بن مسلمة فقال‏:‏ اجعلها في كتابك فإنها حِكْمة‏.‏
الشَيْبانيّ عن أبي الحُبَاب الكِنْدِيّ عن أبيه‏:‏ أن معاوية بن أبي سُفْيان بينما هو جالس وعنده وُجوه الناس إذ دَخل رجل من أهل الشام فقام خَطيباً فكان آخرَ كلامه أن لَعن عليًّا فأطرق الناسُ وتكلّم الأحنف فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنّ هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أنّ رِضَاك في لَعْن المُرْسَلين للَعنهم فاتَّقِ اللّه ودَعْ عنك عليًّا فقد لَقي ربّه وأفْرِد في قَبْره وخلاَ بعمله وكان واللّه - ما علمنا - المُبَرِّزَ بسَبْقه الطاهرَ خُلقه المَيْمونَ نقيبتُه العظيمَ مُصيبتُه فقال له مُعاويِة‏:‏ يا أحنف لقد أغضيتَ العينَ عَلَى القَذَى وقلت بغير ما ترى وايم اللّه لتَصْعدنَ المِنْبر فلَتَلعنَّه طَوْعَا أو كَرْهًا فقال له الأحْنف‏:‏ يا أميرَ المؤِمنين إن تُعْفِني فهو خيرٌ لك وإنْ تَجْبُرْني على ذلك فواللهّ لا تَجْري به شَفتاي أبداً قال‏:‏ قُمْ فاصْعَد المِنْبَر قال الأحنف‏:‏ أمَا واللهّ مع ذلك لأنْصِفَنَك في القَوْل والفِعْل قال‏:‏ وما أنت قائل يا أحنف إن أنصَفتني قال‏:‏ أصعدُ المِنبَر فاحمد اللّه بما هو أهلُه وأصلِّى على نبيّه صلى الله عليه وسلم ثم أقوله‏:‏ أيها الناس إنَّ أميرَ المؤمنين مُعاوية أمَرني أنْ ألعن عليًّا هانَّ عليًّا ومُعاوية اختلفا فاقْتَتلا وأدًى كلُّ واحد منهما أنه بّغِي عليه وعَلَى فئتِه فإذا دعوتُ فأمِّنوا رَحمكم اللهّ ثم أقول‏:‏ اللهم العن أنت وملائكَتُك وأنبياؤك وجميعُ خلقك الباغيَ منهما عَلَى صاحبه وألعن الفئةَ الباغية اللهم العنهم لعناً كثيراً أمِّنوا رحمكم اللهّ يا مُعاوية لا أزيد على هذا ولا أنْقُص منه حَرْفاً ولو كان فيه ذَهابُ نفسي‏.‏
فقال معاوية‏:‏ إذن نُعْفِيك يا أبا بَحْر‏.‏
وقال مُعاوية لِعَقيل بن أبي طالب‏:‏ إن عليا قد قَطعك ووصلتُك ولا يُرْضِيني منك إلا أن تَلْعنه عَلَى المِنْبر قال‏:‏ أفْعل‏.‏
فإصْعد فَصَعِد ثم قال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه‏:‏ أيها الناس إن أميرَ المُؤمنين مُعاوية أمرنيِ أنْ ألْعن علي بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين ثم نزل‏.‏
فقال له مُعاوية‏:‏ إنك لم تُبين أبا يزيد مَن لعنتَ بيني وبينه قال‏:‏ والله لا زدتُ حَرفاً ولا نَقَصت آخر والكلام إلى نية المُتكلَم‏.‏
الهيثم بن عدي قال‏:‏ قال مُعاوية لأبي الطُّفيل‏:‏ كيف وَجْدُك على عليّ قال‏:‏ وَجدُ ثمانين مُثْكِلا قال‏:‏ فكيف حُبُّك له قال‏:‏ حًبّ أم موسى وإلى اللّه أشْكو التَقْصير‏.‏
وقال له مرة أخرِى‏:‏ أبا الطفَيل قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أنت من قَتلة عُثمان قال‏:‏ لا ولكنّي ممن حَضره ولم يَنْصُره قال وما مَنعك مِن نَصْره قال‏:‏ لم يَنْصُره المُهاجرن والأنصار فلم أنصُره قال‏:‏ لقد كان حَقُّه واجباً وكان عليهم أن يَنْصروه قال‏:‏ فما منعك مِن نُصْرته يا أمير المؤمنين وأنت ابنُ عمّه قال‏:‏ أو مَا طلبي بدمه نصره له فَضحك أبو الطفيل وقالَ‏:‏ مَثَلك ومَثَلُ عثمان كما قال الشاعر‏:‏ لأعرقنّك بعد المَوْتِ تَنْدُبني وفي حَياتي ما زَوَّدْتني زادَا العُتْبي قال‏:‏ صَعِد معاويةُ المِنْبر فَوَجد مِن نفسه رِقة فقال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه‏:‏ أيها الناسُ‏:‏ إنَ عُمَر ولأني أمراً مِن أمره فوالله ما غَشَشْتُه ولا خُنْتُه ثم ولّاني الأمر مَن بعده ولم يجعل بيني وبينه أحداً فأحسنتُ والله وأسأتُ وأصبتُ وأخطأت فمن كان يَجْهلني فإني أعرفه بنفسي‏.‏
فقام إليه سَلمة بن الخطل العَرجي فقال‏:‏ أنصفتَ يا مُعاوية وما كُنتَ مُنْصفاً‏.‏
قال‏:‏ فَغضب مُعاوية وقال‏:‏ ما أنتَ وذاك يا أحْدب‏!‏ واللّه لكأنّي انظر إلى بيتك بمهيعة وبطُنْب تَيْس وبطُنْب بهْمة‏.‏
بفنائه أعنِز عَشرْ يُحْتلبن في مثل قَوّارة حافر العِيْر تَهْفو الرحُ منه بجانب كأنه جناح نسْر‏.‏
قال‏:‏ رأيت والله ذاك في شَرّ زماننا إلينا واللّه إن حَشْوه يومئذ لحسب غير دَنِس فهل رأيتني يا معاوية أكلتُ مالاً حراماً أو قتلتُ امرأ مًسلماً قال‏:‏ وأين كنتُ أراك وأنت لا تَدِبّ إلا في خَمرَ وأي مُسلم يَعْجِز عنك فَتَقْتله أم في مال تَقوى عليه فَتأكله اجلس لا جلستَ قال‏:‏ بل اذهب حتى لا تَراني قال‏:‏ إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها فمضى‏.‏
ثم قال مُعاوية‏:‏ رُدّوه عليّ فقال الناس‏:‏ يعاقبه فقال له أستغفر اللّه منك يا أحدب واللهّ لقد بَرَرْتَ في قَرابتك وأسلمتَ فَحَسُن إِسلامُك وإنّ أباك لسيد قومه ولا أبرح أقول بما تُحب فاقْعُد‏.‏
الأوزاعيّ قال‏:‏ دخل خُريم النَّاعم على مُعاوية فَنَظر إلى ساقَيْه فقال‏:‏ أيّ ساقين لو إنّهما على جارية‏!‏ قال‏:‏ في مثل عَجِيزتك يا أميرَ المُؤمنين‏:‏ قال معاوية‏:‏ واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم‏.‏
دخل عَطاء المُضْحك على عبد الملك بن مَرْوان فقال له‏:‏ أما وجدتْ لك أمُك اسماً إلا عطاء قال‏:‏ لقد استكثرتً من ذلك ما استكثرتَه يا أميرَ المؤمنين ألا سَمَتني باسم المُباركة صلوات اللّه عليها مَرْيم‏.‏
قال مُعاوية لصُحار بن العبّاس العبديَ‏:‏ يا أزرق قال‏:‏ البازي أزْرق قال‏:‏ يا أحمر قال‏:‏ الذّهب أحمر قال‏:‏ ما هذه البلاغة فيكم عبدَ القَيس قال‏:‏ شيء يَخْتلج في صدُورنا فَتَقْذِفه ألسنتُنا كما يقذف البحر الزَبد قال‏:‏ فما البلاغة عندكم قال‏:‏ أن نقول فلا نُخْطِىء ونُجيب فلا نُبْطىء‏.‏
وقال عبدُ الله بن عامر بن كُريز لعبد الله بن حازم‏:‏ يا بن عَجْلَى قال‏:‏ ذاك اسمُها قال‏:‏ يا بن السَّوداء قال‏:‏ ذاك لونها قال‏:‏ يا بن الأمة قال‏:‏ كل أنثى أمة فاقصد بذَرْعك لا يَرْجع سَهمُك عليك إن الإماء قد وَلَدتك‏.‏
دخل عبيدُ الله بن زياد بن ظَبْيان على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك‏:‏ ما هذا الذي يقول الناس قال‏:‏ وما يقولون قال‏:‏ يقولون إنك لا تُشبه أباك قال‏:‏ والله لأنا أشبهُ به من الماء بالماء والغُراب ولكن أدُلك على مَن لم يُشبه أباه قال‏:‏ مَن هو قال‏:‏ من لم تُنْضِجه الأرحام ولم يُولد لتمام ولم يُشْبِه الأخوال والأعمام قاد‏:‏ ومَن هو قال‏:‏ ابنُ عمي سُويد بن مَنجوف وإنما أرادَ عبدَ الملك بن مروان وذلك أنه وُلد لستة أشهر‏.‏
دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فلم يَجد موضعاً يَقْعد فيه فَعلم أن ذلك فُعِل به على عَمْد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اتق الله‏!‏ قال‏:‏ أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله قال زيد إنه لا يَكْبُر أحدٌ فوق أن يوصىَ بتقوى الله ولا يَصْغر دون أن يوصى بتقوى الله‏.‏
قال له هشام‏:‏ بلغني أنك تُحدِّث نفسَك بالخِلافة ولا تَصْلُح لها لأنك ابن أمة قال زيد‏:‏ أما قولك إِني أحدث نفسي بالخلافة فلا يَعلم الغَيْب إلا اللّه وأمّا قولُك إني ابن أمة فهذا إسماعيلُ بن إبراهيم خليل الرحمن ابنُ أمة من صُلّبه خيرُ البشر محمد صلى الله عليه وسلم وإسحاق ابن حُرّة أخرج من صلْبه القِردةُ والخَنازير وعَبدة الطاغوت‏.‏
قال له‏:‏ قم قال‏:‏ إذن لا تراني إلا حيث تكره فلما خرج من عنده قال‏:‏ ما أحب أحدٌ قط الحياة إلا ذلَ‏.‏
قال له حاجبه‏:‏ لا يَسمعِ هذا الكلام منك أحد‏.‏
وقال زيدُ بن عليّ‏:‏ محتفي الرِّجْلين يشكو الوَجى تَقْرعه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد قد كان في الموت له راحة والموتً حَتْم في رِقاب العِباد ثم خرج بخراسان فقُتل وصّلب في كُناسة‏.‏
وفيه يقوله سُدَيف بن مَيْمون في دولة بني العباس‏:‏ واذْكروا مَقْتل الحُسَين وزَيْداً وقَتيلاً بجانب المِهْراس يُريده حمزَة بن عبد المطلب المَقْتول بأُحد‏.‏
دَخل رجل من قَيْس على عبد الملك بن مَرْوان فقال‏:‏ زُبيريّ‏!‏ واللّه لا يحبك قلبي أبداً قال‏:‏ يا أميرَ المُؤمنين إنما يَجْزع من فَقْد الحُبّ النِّساء ولكنْ عَدْلاً وإنْصافاً‏.‏
وقال عمر بن الخطّاب لأبي مَريم الحنفيّ قاتل زيد بن الخطّاب‏:‏ واللّه لا يُحبك قلبي أبداً حتى تُحِبّ الأرضُ الدمَ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فهل تَمْنعني لذلك حقّا قال‏:‏ لا قال‏:‏ فَحَسبي‏.‏
دخل يزيدُ بن أبي مُسلم على سُليمان بن عبد الملك فقال له‏:‏ على امرىء أوْطأك رَسَنك وسَلَّطك على الأمة لعنةُ اللّه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك رأيتَني والأمرُ مُدبر عني ولو رأيتَني والأمر مُقْبل علي لَعَظُم في عَيْنك ما استصغرت مني قال‏:‏ أتظن الحجّاج استقرّ في قَعْر جَهنم أم هو يَهْوِي فيها قال‏:‏ يا أمير المُؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك فَضعْه من النار حيثُ شئت‏.‏
وقاِل مروان بن الحكم لزُفر بن الحارث‏:‏ بَلغني أن كِندة تَدَعيك قال‏:‏ لا خَيْرَ فيمن لا يُتَقى رهبةً ولا يدًعى رَغبة‏.‏
قال مَرْوان بن الحكم للحسن بن دْلْجة‏:‏ إني أظنك أحمق قال‏:‏ ما يكون الشَيخ إذا أعمل ظَنه وقال مروان لحُويطب بن عبد العُزي‏:‏ وكان كبيراً مُسنا‏.‏
أيها الشيخ تأخر إسلامك حتى سَبقك الأحداث فقال‏:‏ الله المُستعان واللهّ لقد هممت بالإسلام غيرَ مَرّة كُلّ ذلك يَعُوقني عنه أبوك ويَنهاني ويقول‏:‏ يَضع مِن قَدْرك وتترك دين آبائك لدين مُحْدَث وتَصير تابعا‏.‏
فسكت مَرْوان‏.‏
قال عبدُ الملك بن مروان لثابت بن عبد اللّه بن الزُّبير‏:‏ أبوك كان أعلمَ بك حيثُ كان يَشْتُمك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنما كان يَشْتُمني لأنّي كنتُ أنهاه أن يُقاتل بأهْل المدينة وأهل مكة فإن اللهّ لا يَنْصر بهما أما أهلُ مكة فأخرجوا النبيً صلى الله عليه وسلم وأخافوه ثم جاءوا إلى المدينة فآذَوْه حتى سَيَّرهم يعرِّض بالحَكم بن أبي العاصي طَريدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما أهل المدينة فَخذلوا عُثمان حتى قُتل بين أظهرهم ولم يَدْفعوا عنه قال له‏:‏ عليك لعنةُ الله‏.‏
جلس مُعاوية يُبايع الناسَ على البَراءة من عليّ فقال له رجل من بني تميم‏:‏ يا أميرَ المُؤمنين نُطيع أحياءَكم ولا نَبْرأ من مَوْتاكم فالتفت مُعاوية إلى زِياد فقال‏:‏ هذا رجل فاستَوْصِ به‏.‏
قال مُعاوية يوماً‏:‏ يا معشر الأنصار لمَ تَطْلبون ما عِندي فوالله لقد كُنتم قليلاَ معي كثيراً مع عليّ ولقد فَلَلتم حَدِّى يوم صِفَّين حتى رأيتُ المَنايا تتلظى من أسنِّتكم ولقد هَجَوْتُموني بأشدّ من وَخز الأسل حتى إذا أقام اللهّ منَا ما حاولتم مَيْلَه قُلتم ارْع فينا وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم هيهات‏!‏ أبَى الحَقِين العِذْرة‏.‏
فأجابه قيسُ بن سَعد قال‏:‏ أما قولُك جِئناك نَطْلب ما عندك فبالإسلام الكافي به اللهُ لا بما تمتّ به إليك الأحزاب وأما استقامهُ الأمر فعلى كُره منّا كان وأما فَلُنا حَدَّك يوم صِفِّين فأمر لا نَعْتذر منه وأما عَداوتُنا لك فلو شئتَ - كَفَفْتَها عنك وأما هِجاؤنا إيَّاك فقول يَثْبُت حَقّه ويَزُول باطلُه وأما وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمن يُؤمن به يَحْفظها من بعده وأما قولك‏:‏ أبى الْحَقِين العِذْرة فليس دون الله يد تجزك منّا فدُونك أمرَك يا مُعاوية فإنما مثلًك كما قال الشاعر‏:‏ يا لكِ من قبرةٍ بمَعْمَر خَلا لك الجرُّ فبِيضى واصْفِرِى وقال سُليمان بنُ عبد الملك ليزيد بن المُهلَب‏:‏ فيمن العِزُ بالبَصرْة قال‏:‏ فينا وفي حُلفائنا من رَبيعة‏.‏
قال سليمان‏:‏ الذي تحالفتما عليه أعزّ منكما‏.‏
مَر عمر بن الخطاب بالصبيّان يَلْعبون وفيهم عبدُ اللّه بن الزبير فَفروا وَثَبت ابنُ الزُبير قال له عمر‏:‏ كيف لم تَفِر مع أصحابك قال‏:‏ لم أجْترم فأخافَك ولم يكن بالطّريق من ضِيق فأوسِعَ لك‏.‏
وقال عبد الله بن الزُبير لعديّ بن حاتم‏:‏ متى فُقِئت عينُك قال‏:‏ يومَ قُتِل أبوك وهَربتَ عن خالتك وأنا للحق ناصرِ وأنت له خاذِل‏.‏
وكان فُقئت عينه يوم الجمل‏.‏
وقال هارون الرشيد ليزيدَ بن مَزْيد‏:‏ ما أكثرَ الخطباء في ربيعة قال‏:‏ نعم ولكنّ مَنابرَهم الجُذُوع‏.‏
كان المِسْوَر بن مَخْرمة جليلاً نبيلاً وكان يقول في يزيدَ بن ُمعاوية‏:‏ إنه يشرب الخمر‏.‏
فبلغه ذلك فكتب إلى عامله بالمدينة أن يَجلِدَه الحدّ ففعل‏.‏
فقال المِسْوَر في ذلك‏:‏ أيَشْرَبُها صِرْفاً يَفُض خِتَامها أبو خالدٍ ويجلَدُ الحدَّ مِسْورُ قال المأمون ليحمى بن أكْثم القاضي‏:‏ أخْبِرني مَن الذي يقول قاضٍ يَرَى الحدَّ في الزَناء ولا يَرى على مَن يلوط مِن باس قال‏:‏ يقوله يا أميرَ المُؤمنين الذي يقول‏:‏ لا أحْسَب الجَوْر يَنْقَضى وعَلَى ال أمة والٍ مِن آل عَباس قال‏:‏ ومَن يقوله قال‏:‏ أحمد بن نُعيم قال‏:‏ يُنْفَى إلى السند وإنما مَزَحنا معك‏.‏
قال سُليمان بن عبد الملك لِعَدي بن الرقاع‏:‏ أنْشِدني قولك في الخمر‏:‏ كمَيت إذا شُجت وفي الكأس وَرْدَةٌ لها في عِظام الشاربين دَبِيبُ تُريك القَذى من دُونها وهي دُونه لِوَجْه أخيها في الإنَاء قُطُوب فأنشده‏.‏
فقال له سُليمان‏:‏ شربتَها ورب الكعبة قال عدي‏:‏ والله يا أميرَ المؤمنين لئن رابَك وَصْفي لها قد رابتني مَعْرِفتُك بها‏.‏
فتضاحكا وأخذا في الحديث‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ لما ولي بلالُ بن أبي بُرْدة البصرةَ بَلغ ذلك خالدَ بن صَفوان فقال‏:‏ فَبَلغ ذلك بِلالاً فَدعا به فال له‏:‏ أنت القائل‏:‏ سَحَابةُ صَيْفٍ عن قَلِيل تَقَشعُ أما والله لا تَقشّع حتى يصيبك منها شُؤْبوب بَرَد فَضَربه مائةَ سوط‏.‏
وكان خالد يأتي بلالاً في وِلايته ويَغْشاه في سُلطانه ويَغتابه إِذا غاب عنه ويقول‏:‏ ما في قَلب بِلال من الإيمان إلاّ ما في بَيْت أبي الزّرد الحَنفي من الجواهر‏.‏
وأبو الزّرد رجل مُفْلس‏.‏
دخل عُتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على خالد بن عبد الله القَسريّ بعد حِجاب شديد وكان عُتبة رجلاً سخيا فقال له خالد يُعرّض به‏:‏ إن هاهنا رجالاً يُداينون في أموالهم فإِذا فَنِيت يُداينون في أعْراضهم‏.‏
فَعلم القُرشيّ أنه يُعرِّض به فقال‏:‏ أصلِح اللّه الأمير إنَّ رجالَاً تكون أموالُهم أكثرَ من مُرواتهم فأولئك تَبْقى أموالهمِ ورجالَا تكون مُرواتهم أكثرَ من أَموالهم فإذا نَفدت دّانوا على سَعة ما عِند الله‏.‏
فخَجِل خالد وقال‏:‏ أما إنك منهم ما عَلِمْت‏.‏
كان شَرِيك القاضي يُشاحن الربيعَ صاحبَ شُرْطة المهديّ فحمل الربيعُ المهديَّ عليه فدَخل شريك يوماً على المهديّ فقال له المهديّ‏:‏ بَلَغني أنك وُلدت في قَوْصرة فقال‏:‏ وُلدتُ يا أميرَ المُؤمنين بخراسان والقَواصر هناك عَزيزة قال‏:‏ إني لأراك فاطميّا خَبيثا قال‏:‏ واللّه إني لأحبِّ فاطمةَ وأبا فاطمة صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وأنا والله أحبهما ولكني رأيتُك في مَنامي مَصروفا وَجهك عنّي وما ذاك إلا لبُغضك لنا وما أراني إلا قاتلك لأنك زِنْديق قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ الدَماء لا تُسفك بالأحلام ليس رُؤياك رُؤيا يوسفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما قوْلُك بأني زِنْديق فإن للزنادِقة علامةً وليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله عليه وسلم وأما قولك بأني زنديق فإن للزنادقة علامة يعرفون بها قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ بشُرب الخمر والضّرب بالطنبور قال‏:‏ صدقت أبا عبد اللهّ وأنت خير من الذي عحمَلني عليك‏.‏
قال عمرُ بن الخطاب لعمرو بن العاص لما قَدِم عليه من مِصر‏:‏ لقد سِرْتَ سِيرَة عاشِق قال‏:‏ واللّه ما تَأبطتني الإمَاء ولا حَمَلتني البَغايا‏!‏ في غُبَرات المآلي قال عمر‏:‏ والله ما هذا جوابُ كلامي الذي سألتُك عنه وإنَ الدُجاجة لتَفْحص في الرماد فَتضع لغير الفَحْل والبَيْضة منسوبة إلى طَرْقها وقام عمر فدخل‏.‏
فقال عمرو‏:‏ لقد فَحُش علينا أميرُ المؤمنين‏.‏
وتَزْعم الرُّواة أن قُتيبة بن مُسْلم لما افتتحِ سَمَرْقَند أفضى إلى أثاث لم يُرَ مِثْلُه وإلى آلات لم يُسمع بمثلها فأراد أن يُرِي الناس عظيمَ ما فَتح اللهُ عليهم ويُعرِّفهم أقدارَ القوم الذين ظهروا عليهم فأمر بدارٍ ففُرشت وفي صَحْنها قُدور أَشْتات تُرْتَقى بالسلالم‏.‏
فإذا الحُضَين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرَّقاشي قد أقبل والناسُ جلوس على مراتبهم والحضين شَيْخ كبير فلما رآه عبدُ اللّه ابن مُسْلم قال لقتيبة‏:‏ إئذن لي في كلامه فقال‏:‏ لا تُرِدْه فإنه خبيثُ الجواب فأبَى عبدُ اللّه إلا أن يأذن له - وكان عبدُ اللّه يُضعّف وكان قد تسوّر حائطاً إلى امرأة قبلِ ذلك - فأقبل على الحُضين فقال‏:‏ أمن الباب دخلت يا أبا ساسان قال‏:‏ أجل ضعُف عَمُّك عن تسوّر الحِيطان قال‏:‏ أرأيت هذه القُدور قال‏:‏ هي أعظم من أن لا ترى قال‏:‏ ما أحسُب بَكْر بن وائل رَأى مثلَها قال‏:‏ أجل ولا عَيْلان ولو كان رآها سُمِّي شَبعان ولم يُسمَّ عَيْلان قال له عبدُ اللّه‏:‏ أتعرف الذي يقوله‏:‏ عَزَلْنا وأمّرنا وبكرُ بنُ وائل تَجُرّ خُصَاها تَبْتغي مَنْ تُحالفُ قال‏:‏ أعرفه وأَعْرف الذي يقوِل‏:‏ وخَيبة من يخيب على غني وباهلة بن يَعْصر والرِّباب يُريدً‏:‏ يا خَيبةَ مَن يخيب‏.‏
قال له‏:‏ أتعرف الذي يقول‏:‏ كأنّ فِقاح الأزْد حول ابن مِسْمَع إذا عَرِقت أفواه بَكْر بن وائل قال‏:‏ نعم‏.‏
وأعرفً الذي يقول‏:‏ قوم قُتيبةُ أمُّهم وأبوهمُ لولا قُتيبةُ أصبحوا في مَجْهَل قال‏:‏ أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرِآن شيئاً قال‏:‏ أقرأ منه الأكثر‏:‏ هل على الإنسان حين مِنَ الدهر لم يَكُنْ مشيئاً مذكوراً قال‏:‏ فأغضبه فقال‏:‏ واللّه لقد بلغني أن امرأة الحُضين حُملت إليه وهي حُبلى من غيره‏.‏
قال‏:‏ فما تحرك الشيخُ عن هَيئته الأولى ثم قال على هرسله‏:‏ وما يكون‏!‏ تلد غَلاماً على فراشي فيقال‏:‏ فلان بن الحُضين كما يقال‏:‏ عبدُ اللّه بن مُسلم‏.‏
فأقبل قُتيبة على عبد اللّه فقال‏:‏ لا يُبعد اللهّ غيرك‏.‏
والحُضين هذا هو الحضين ابن المُنذر الرقاشيّ ورَقاش أمه وهو من بنِى شيبان ابن بَكر بن وائل وهو صاحب لواء عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بصِفْين على رَبيعة كلها وله يقول عليُّ بن أبي طالب‏:‏ لمَن رايةٌ سَوْداءُ يَحْفِق ظِلُّها إذا قيل قدمْها حُضَينُ تَقدّمَا يُقدِّمها في الصَف حتى يزُيرها حِياضَ المنايا تَقْطِر السُّمَّ والدَّما جَزى اللّه عني والجزاءُ بفَضْلِه ربيعةَ خيراً ما أَعف وأَكْرَما وقال المُنذر بن الجارود العَبدي لعمرو بن العاص‏:‏ أيّ رجل أنتَ لو لم تكُن أُمّك ممن هي قال‏:‏ أحمد اللّه إليك لقد فَكَرتُ فيها البارحةَ فجعلتُ أنقِّلها في قبائل العَرب فما خطرت لي عبدُ القيس ببال‏.‏
قال خالدُ بن صَفوان لرجل من بني عبد الدار وسَمعه يَفْخر بموْضعه من قُريش فقال له خالد‏:‏ لقد هَشمتك هاشم وأَمتك أُمية وخَزَمتك مَخْزوم وجَمَحتك جُمح وسَهَمتك سَهْم فأنت ابنُ عبد دارها تَفْتح الأبواب إذا أُغلقت وتُغلقها إذا فُتحت‏.‏
جواب في هزل كان للمغيرة بن عبد الله الثّقفيّ - وهو والي الكُوفة - جَدْيٌ يوضع على مائدته فَحَضره أعرابي فمد يَده إلى الجَدْي وجَعل يُسرع فيه قال له المُغيرة‏:‏ إنّك لتَأكله بحَرْد كأن أُمَّه نَطحَتْك قال قال‏:‏ وإنك لمُشْفِق عليه كأن أُمه أَرْضعتك‏.‏
كان إبراهيمُ بن عبد اللّه بن مُطيع جالساً عند هِشام إذ أَقبل عبدُ الرحمن بن عَنْبسة بن سَعيد بن العاص أحمرَ الجُبّة والمِطْرف والعِمامة فقال إبراهيم‏:‏ هذا ابنُ عَنْبسة قد أَقبل في زينة قارُون‏.‏
قال‏:‏ فَضَحِكَ هشام‏.‏
قال له عبدُ الرحمن‏:‏ ما أَضحكك يا أميرَ المُؤمنين فأَخبره بقول إبراهيم‏.‏
فقال له عبدُ الرحمن‏:‏ لولا ما أَخاف من غَضبه عليك وفي وعلى المُسلمين لأجبته قال‏:‏ وما تخاف من غَضبه قال‏:‏ بلغني أن الدًجال يَخْرج من غَضْبة يَغْضَبها وكان إبراهيم أَعْور‏.‏
قال إبراهيمُ‏:‏ لولا أن له عِندي يداً عظيمة لأجبتُه قال‏:‏ وما يده عندك قال‏:‏ ضرَبه غلامٌ له بُمدية فأصابه فلمّا رأى الدم فزعَ فَجَعل لا يَدْخل عليه مَمْلوك إلا قال له‏:‏ أنت حّرّ فدخلتُ عليه عائداً فقلت له‏:‏ كيف نجدك قال لي‏:‏ أنت حُر قلت له‏:‏ أنا إبراهيم قال لي‏:‏ أنت حُر‏.‏
فَضحِك هشامٌ حتى اسْتَلْقَى‏.‏
قال عبدُ الرحمن بن حسّانِ لِعَطاء بن أبي صَيْفي بن ثابت‏:‏ لو أَصبتَ رَكْوةً مملوءةً خَمْراً بالبقيعِ ما كنت صانِعاً قال‏:‏ كنتُ أُعرفها بين التجار فإن لم تكن لهم‏.‏
فهي لك لكن أخْبرني عن الفُريعة أكبرُ أم ثابت وقد تزوّجها قبله أربعةٌ كُلُّهم يَلْقاها بمثل ذِراع البَكْر ثم يُطلِّقها عن قِلى فقيل لها‏:‏ يا فُريعة لم تُطلقين وأنت جميلة حُلوة قالت‏:‏ يُريدون الضَيق ضَيَّق اللّه عليهم‏.‏
ولقي رجل من قريش كان به وَضَح حارثة بن بَدر وكان مُغرماً بالشراب فقال لها‏:‏ أشعرت أنه بُعث نبيّ لهذه الأمة يُحلّ الخمر للناس قال‏:‏ إذاً لا نُصدِّق به حتى يُبرئ الأكمه والأبْرص‏.‏
دخل الزِّبرقانُ بن بَدْر على زِياد فسلّم تسليماً جافياً فأدناه زياد فأجلسه معه ثم قال له‏:‏ يا أبا عيّاش الناسُ يَضْحكون من جَفائك قال ولمَ ضَحِكوا فواللهّ إنْ منهم رجلٌ إلا وَدّ أني أبوه دون أبيه لِغية كان أو لِرشْدة‏.‏
دخل الفرزدقُ على بلال بن أبي بُردة وعنده ناسٌ من اليمامة يَضْحكون فقال‏:‏ يا أبا فراس أتدري مِمِّ يَضْحكون قال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ من جَفائك قال‏:‏ أصلح اللهّ الأمير حَججتُ فإذا رجلٌ على عاتقه الأيمن صَبِيٌ وامرِأةٌ آخذةٌ بِمئزره وهو يقول‏:‏ أنتَ وهبتَ زائداً ومَزيداً وكَهْلَةَ أُولج فيها الأجْرَدَا وهي تقول‏:‏ إذا شئتَ فسألتُ ممن الرجل قيل‏:‏ من الأشْعريين فأنا أَجْفَى من ذلك الرجل قال‏:‏ لا حيّاك اللهّ فقد علمتُ أنّا لا نُفلت منك‏.‏
اجتمع رَجل كَوسج معِ رجل مُسْبِل فقال المُسْبِل‏:‏ والبَلد الطيب يَخرُج نَباتُه بإذن ربّه والذي خبُث لا يخْرُج إلا نَكِداً قالت الكَوْسجُ‏:‏ قل لَا يَسْتوي الخبيثُ والطيب ولو أَعجبك كثرْة الخبيث‏.‏
مَرّ مَسلمة بن عبد الملك وكان من أجمل الناس بمُوَسْوس على مَزْبلة فقال له المُوسوس‏:‏ لو رآك أبوك آدم لقَرت عينُه بك وقال له مَسْلمة‏:‏ لو رآك أبوك آدم لأذهبت سَخنةُ عينه بك قَرّةَ عينه بي‏!‏ وكان مَسلمة من أحضر الناس جواباً‏.‏
خرج إبراهيم النَّخعي وقام سُليمان الأعمش يمشي معه فقال إبراهيم‏:‏ إنّ الناس إذا رَأَوْنا قالوا‏:‏ أَعْور وأَعمش‏!‏ قال‏:‏ وما عليك أن يَأْثموا ونؤْجَر قال وما عليك أن يَسلموا ونَسلم‏.‏
وقال شَدّاد الحارثيّ‏:‏ لقيتُ أَسودَ بالبادية فقلتُ‏:‏ لمَن أنت يا أَسود قال‏:‏ لسيّد الحيّ يا أَصْلع قلتُ‏:‏ ما أَغضبَك مني الحق قال لي‏:‏ الحقُّ أَغْضبك قلت‏:‏ أَوَلستَ بأسود قال‏:‏ أولستَ بأَصلع أدْخِل مالكُ بن أَسماء السجن - سِجْن الكوفة - فجلس إليه رجلٌ من بني مُرّة فاتكأ عليه المُري يُحدّثه ثم قال‏:‏ أَتَدري كم قَتلنا منكم في الجاهلية قال‏:‏ أما في الجاهلية فلا ولكن أعرف من قتلتم منّا في الإسلام قال‏:‏ أنا قد قَتَلتني بنَتن إبطيك‏.‏
مَرت امرأة من بني نُمير على مَجلس لهم في يوم ريح فقال رجلٌ منهم‏:‏ إنها لَرَسْحاء‏.‏
قالت‏:‏ واللّه يا بني نُمير ما أَطعتم اللّه ولا أَطعتم الشاعر قال اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ قُلْ للمؤْمِنين يَغُضوا من أَبْصارهم ‏"‏ وقال الشاعر‏:‏ فغُضّ الطّرْفَ إنَكَ من نُمير قيل لشُريح‏:‏ أيهما أطيب‏:‏ الجَوْزنيق أم اللوْزنيق قال‏:‏ لستُ أَحكم على غائب‏.‏
هشام بن القاسم قال‏:‏ جَمعني والفَرزدقَ مجلس فتجاهلتُ عليه فقلتُ‏:‏ مَن الكَهْل قال‏:‏ وما تَعرفني قلت‏:‏ لا قال‏:‏ أبو فِراس قلتُ‏:‏ ومَن أبو فِراس قال‏:‏ الفرزدق قلت‏:‏ ومَن الفرزدق قال‏:‏ وما تعرف الفرزدق قلت‏:‏ لا أعرف الفرزدق إلا شيئاً يفعله النساء عندنا يَتَشهَوْن به كهيئة السًويق قال‏:‏ الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم يَتَشهَّوْن بي‏.‏
قال هشامُ بن عبد الملك للأبرش الكلبي زوَجني امرأةً من كَلْب فزوّجه فقال له ذاتَ يوم‏:‏ لقد وجدنا في نساء كلب سَعة قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين نِساءُ كلب خُلقن لرجال كلب‏.‏
وقال له يوماً وهو يتغدى معه يا أبرش إن أَكلك أكلُ مَعدي قال‏:‏ هيهات‏!‏ تَأبى ذلك قُضاعة‏.‏
عمُارة عن محمد بن أبي بكر البَصْري قال‏:‏ لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشَيْطان الطاق‏:‏ مات إمامُك وذلك عند المهدي فقال شيطانُ الطاق‏:‏ لكنّ إمامك من المُنظرين إلى يوم الوقت المَعْلوم‏.‏
فَضَحِك المهديّ من قوله وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ حدّثني أبي قال‏:‏ لمّا افتُتح النُجَير وهي مدينة باليمن سمع رجلٌ منِ كِندة رجلاً وهو يقول وَجدنا في نساء كِندة سَعة فقال له‏:‏ إن نِساءَ كِنْدة مَكاحلُ فقَدت مَراوِدها‏.‏
لقي خالدُ بن صَفْوان الفرزدقَ وكان كثيراً ما يُداعيه وكان الفرزدق دَميماً فقال له‏:‏ يا أبا فِراس ما أنت بالذي لما رَأينه أَكْبَرْنه وقَطّعن أيديهنِ قال له‏:‏ ولا أنت أبا صَفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها‏:‏ يا أَبَت استأْجِرْه إنّ خير مَن استأجرتَ القويُ الأمين‏.‏
باع رجل ضَيْعة من رجل فلمّا انتقد المالَ قال للمُشتري‏:‏ أمَا والله لقد أخذتَها كثيرة المَؤونة قليلة المَعونة قال له المُشتري‏:‏ وأنت والله أَخذتَها بطيئةَ الإجتماع سريعةَ الإفتراق‏.‏
واشترى رجل من رجل داراً فقال لصاحبها‏:‏ لو صبرتَ لاشتريتُ منك الذِّراع بعشرة دنانير قال له البائع‏:‏ وأنت لو صبرتَ لاشتريتَ مني الذراع بِدِرْهم‏.‏
وكان بالرَّقة رجل يُحَدَث بأخبار بني إسرائيل فقال له الحجّاج بن حَنْتَمة‏:‏ كيف كان اسم بقرة بني إسرائيل قال‏:‏ حَنْتمة فقال له رجل من ولد أبي مُوسى الأشعريّ‏:‏ أين وجدتَ هذا قال‏:‏ في كتاب عَمرو بن العاص‏.‏
وقال رجل للشَّعبيّ‏:‏ ما كان اسم امرِأة إبليس قال‏:‏ إن ذلك نَكاح ما شَهدناه‏.‏
ودخل رجلٌ على الشَعبي فوجده قاعداَ مع امرأة فقال‏:‏ أيّكما الشَّعبيّ قال الشعبي‏:‏ هذه وأشار إلى المرأة‏.‏
كان مَعْن بن زائدة ظَنِيناً في دِينه فبعث إلى ابن عيَّاش المنتوف بألف دينار وكتب إليه‏:‏ قد بعثتُ إليك بألف دينار اشتريتُ بها منك دِينك فاقْبِض المال وأكتُب إليَّ بالتّسليم‏.‏
فكَتب إليه‏:‏ قد قبضتُ المالَ وبِعْتُك به ديني خَلا التَّوحيد لمَا عَلِمْتُ من زُهْدِك فيه‏.‏
بَعث بلالُ بن أبي بُرْدة في ابن أبي عَلْقمة المَمْرور فلمّا أُتي به قال‏:‏ أتدري لما بعثتُ إليك قال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ بعثتُ إليك لأضحك بك قال‏:‏ لئن فعلت لقد ضَحك أحدُ الحَكَمين من صاحبه يُعرض له بجدّه أبي مُوسى فَغَضِب به بلالٌ وأمر به إلى الحَبس‏.‏
فكلّمه الناسُ وقالوا‏:‏ إن المجنون لا يُعاقب ولا يُحاسب فأمر بإطلاقه وأن يُؤتى به إليه‏.‏
فأُتي به في يوم سبت وفي كمّه طرائف أُتحِف بها قي الحَبس فقال له بِلال‏:‏ ما هذا الذي في كُمك قال‏:‏ من طَرائف الحَبْس قال‏:‏ ناولني منها قال‏:‏ هو يوم سَبْت ليس يُعطَى ولا يُؤخذ يُعرض بعمّة كانت له من اليَهود‏.‏
دخل حَسّان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فأَنشدها‏:‏ حَصان رَزَانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ وتُصْبِح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافِل قالت له‏:‏ لكنّك لستَ كذلك وكان حَسّان من الذين جاءوا بالإفك‏.‏
نظر رجل من الأزد إلى هلال بن الأحْوز حين قَدم من قَنْدابيل وقد أَطافت به بنو تميم فقال‏:‏ انظرُوا إليهم وقد أَطافوا به إطافة الحواريين بعيسى‏.‏
فقال له محمد بن عبد الملك المازني‏:‏ هذا ضِدّ عيسى عيسى كان يُحيى المَوتى وذا يُميت الأحْياء‏.‏
لما حُلقت لِحْيةٌ ربيعة بن أبي عبد الرحمن كانت امرأة من المسجد تقف عليه كُلّ يوم في حَلْقته وتقول‏:‏ الله لك يا بن أبي عبد الرحمن‏!‏ مَن حَلَق لِحْيتك فلمّا أَبْرَمَتْه قال لها‏:‏ يا هذه إنّ ذلك حَلَقها في جَزّة واحدة وأنت تَحْلقينها في كل يوم‏.‏
خرج سعيدُ بنُ هِشام بن عبد الملك يوماً بِحِمْص في يوم مطر عليه طَيْلَسان وقد كاد يمسّ الأرض فقال له رجلٌ وهو لا يعرفه‏:‏ أَفسدتَ ثوبَك يا عبد الله قال‏:‏ وما يضرُّك قال‏:‏ وَدِدتُ أنك وهو في النّار قال‏:‏ وما يَنفعك لما قِدم الحجّاجُ العِراقَ والياً عليها خَرج عُبيد الله بن ظَبْيان مُتوكِّئاً على مَوْلى له وقد ضَرَبه الفالِجُ فقال‏:‏ قَدِم العراقَ رجل على دِينيّ فقال له حُضَين ابن المنذِر الرَّقاشيّ فهو إذًا مُنافق قالت عبيد اللّه‏:‏ إنه يَقْتل المنافقين قال له حُضَين‏:‏ إذاً يَقْتلك‏.‏
لما قَدِم عبدُ الملك بن مروان المدينةَ نَزل دارَ مَرْوان فمرّ الحجّاج بخالد بنِ يزيد بن مُعاوية وهو جالسٌ في المسجد وعلى الحجّاج سَيْف مُحلَّىً وهو يخْطِر متبختراَ في المَسْجد فقال له رجلٌ من قُريش‏:‏ مَن هذا التَخْطَارة فقال خالدُ بَخٍ بَخٍ‏!‏ هذا عمرو بن العاص‏.‏
فَسمعه الحجّاج فمال إليه فقال‏:‏ قلتَ‏:‏ هذا عمرو بن العاص‏!‏ والله ما سَرّني أنّ العاص وَلدني ولا ولدتُه ولكنْ إن شِئتَ أخبرتُك مَن أنا أنا ابن الأشياخ من ثَقِيف والعقائل من قُريش والذي ضَرب مائة ألفٍ بسيفه هذا كُلّهم يَشْهد على أبيك بالكُفْر وشُرْب الخمر حتى أَقروا أنه خليفة ثم وَلِّى وهو يقول‏:‏ هذا عمرو بن العاص‏!‏ قال رجلٌ من بني لهْب لِوَهْب بن مُنَبّه‏:‏ ممّن الرجل قال‏:‏ رجل من اليمن قال‏:‏ فما فعلتْ أُمّكم بلقيس قال‏:‏ هاجرتْ مع سُليمان للّه ربّ العالمين وأمّكم حَمّالة الحطب في جِيدها حَبْل من مَسَد‏.‏
وقال رجل لابن شُبرمة‏:‏ مِن عندنا خَرج العِلمُ إليكم قال‏:‏ نعم ثم لم يَرْجع إليكم‏.‏
نَظر يزيدُ بن منصور خالُ المهديّ إلى يزيد بن مَزْيد وعليه رداءٌ يمان وهو يَسْحبه فقال‏:‏ ليس عليك غَزْله فاسحب وجُرّ قال له‏:‏ على آبائك غَزْلُه وعليّ سَحْبُه‏.‏
فشكاه إلى المهديّ فقال‏:‏ لم تَجد أحداً تتعرّض له إلاّ يزيدَ بن مَزْيد‏!‏ دخل أبو يَقْظان القَيْسيّ علي يزيدَ بن حاتم وهو والي مِصْر وعنده هاشمُ ابن حُديج فقال له يزيد‏:‏ حَرِّكه وعلى أبي اليَقْظان حُلّة وَشيْ وكِساء خَزّ فقال هاشم‏:‏ الحمدُ للّه أبا اليَقْظان لَبِسْتم الوَشيْ بعد العَباء قال‏:‏ أجل تحوكون ونَلْبس فلا عَدِمْتم هذا مِنّا ولا عَدِمْنا هذا منكم‏.‏
كتب الفرزدقُ إلى عبد الجبّار بن سلْمى المُجاشعيّ يَسْتهديه جارية وهو بعُمان فكتب إليه‏:‏ كتبتَ إليّ تستهدي الجَوارِي لقد أَنْعَظْتَ مِن بلد بَعيدِ وقال رجلٌ من العَرب‏:‏ رأيتُ البارحهَّ الجنة قي مَنامي فرأيتُ جَميع ما فيها من القُصور فقلتُ‏:‏ لمَن هذه فَقِيل لي‏:‏ للعرب قال له رجلٌ من المَوِالي‏:‏ صَعِدْت الغًرف قال‏:‏ لا قال‏:‏ تلك لنا‏.‏
قال عبدُ الله ابن صَفْوان وكان أُمّياَ لعبد الله بن جَعفر بن أبي طالب‏:‏ أبا جعفر لقد صِرْتَ حُجَّةً لِفْتياننا علينا إذا نَهيناهم عن المَلاهي قالوا‏:‏ هذا ابنُ جَعْفر سيد بني هاشم يَحْضرُها ويتخذها قال له‏:‏ وأنت أبا صَفْوان صِرْت حُجة لِصبْياننا علينا إذا لُمْنَاهم في تَرْك المَكْتب قالوا‏:‏ هذا أبو صَفْوٍان سيد بني جُمح يقرأ آيةً ولا يخطها‏.‏
قال مُعاوية لعبد اللّه بن عامر‏:‏ إنّ ليإليك حاجة قال‏:‏ بحاجةٍ تقضيها يا أميرَ المؤمنين فَسَلْ حاجتك قال‏:‏ أريد أن تهب لي دُورك وضِياعك بالطّائف قال‏:‏ قد فعلتُ قال‏:‏ وَصَلَتك رَحِم فَسَلْ حاجتك قال‏:‏ حاجتي إليك أن تردِّها عليِّ يا أميرَ المُؤمنين قال‏:‏ قد فعلت‏.‏
وقال رجل لثُمَامة بن أَشْرس‏:‏ إنّ لي إليك حاجةَ قال‏:‏ وأنا لي إليك حاجة قال‏:‏ وما حاجُتك قال‏:‏ فَتقْضيها قال‏:‏ نعم فلما تَوثق منه قال‏:‏ فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة‏.‏
جواب في فخر سَعيد بن أبي عَرُوبة عن قَتادة مّال‏!‏ تَفاخر عمرو بن سَعيد بن العاص وخالدُ بن يزيد بن مُعاوية عند عبد الملك بن مَرْوان فقال عبدُ الملك لشيخ من موالي قُريش‏:‏ اقِض بينهما‏:‏ فقال الشيخُ‏:‏ كانَ سعيد بن العاصي لا يَعتمّ - أحد في البلد الحرام بلون عِمامته وكان حرب بن أُمية لا يبكى على أحد من بني أمية ما كان في البلد شاهداً فلمّا مات سعيدٌ وحَرْب شاهد لم يُبْك عليه‏.‏
قال الأبرش الكلبيّ لخالد بن صَفْوان‏:‏ هَلُمّ أفاخرْك وهما عند هشام بن عبد الملك قال له خالد قُل فقال له الأبرش‏:‏ لنا رُبع البيت - يُريد الرُكن اليَمانيّ - ومنّا حاتم طيىء ومما المُهلّب بن أبي صفرة‏.‏
فقال خالد بن صفوان‏:‏ منّا النبيّ المُرسل وفينا الكِتاب المنزل ولنا الخليفة المُؤمّل‏.‏
قال الأبرش‏:‏ لا فاخرتُ مُضريَّاً بعدك‏.‏
ونزل بأبيِ العباس قوم من اليمن من أخواله من كَعب ففخروا عنده بقَديمهم وحَديثهم فقال أبو العباس لخالد بن صَفوان‏:‏ أجب القوم فقال‏:‏ أخوال أمير المؤمنين قال‏:‏ لا بد أن تقول قال‏:‏ وما أقول يا أميرَ المُؤمنين لقوم هم بين حائك بُرد ودابغ جِلْد وسائِس قِرْد مَلَكتهم امرأة ودَلّ عليهم هُدهد وغَرَّقتهم فأره‏.‏
فلم يَقُم بعدها ليمانيّ قائمة‏.‏
قال عبدُ الملك بن الحجّاج‏:‏ لم كان رجل من ذهب لكُنْتُه‏.‏
قال له رجلٌ من قُريش‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ لم تَلِدْتي أمَهَ بيني وبين آدم ما خلا هاجَر فقال له‏:‏ لولا هاجَر لكُنْت كَلْباً من الكِلاب‏.‏
دخل عمر بن عُبيد الله بن مَعْمر على عبد الملك بن مروان وعليِه حِبَرة صَدْأة عليها أثر الحمائل فقالت له أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد‏:‏ يا أبا حَفْص أي رجل أنت لو كنتَ من غير مَن أنت منه من قريش قال‏:‏ ما أحب أني من غير مَن أنا منه إنّ منّا لسيد الناس في الجاهلية عبدَ اللّه بن جُدْعان وسيّدَ الناس في الإسلام أبا بكر الصدّيق وما كانت هذه يدي عندك إني استنقذت أمهاتِ أولادك من عدوك أبي فُديك بالبحرين وهُنّ حَبالى فولدن في حجابك‏.‏
قال عبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمُعاوية‏:‏ أما واللّه لو كُنَّا بمكة على السواء لعلمتَ‏!‏ قال مُعاوية‏:‏ إذاً كنتُ أكون مُعاوية بن أبي سفيان مَنْزلي الأبْطح يَنشقّ عنِّي سَيْلُه وكنتَ عبدَ الرحمن بن خالد منزلُك أَجياد أعْلاه مَدَرَة وأسفله عَذِرة‏.‏
تنازع الزبير بن العوام وعُثمان بن عفّان في بعض الأمر فقال الزبير‏:‏ أنا ابن صَفِية قال عُثمان‏:‏ هي أدْنَتك من الظَلّ ولولا ذاك لكُنت ضاحياً‏.‏
قال أحمد بن يوسف الكاتب لمحمد بن الفَضل‏:‏ يا هذا إنّك تَتطاول بهاشم كأنك جمعتها وهي تَعتدّ في أكثر من خمسة آلاف قال له محمد بن الفضل‏:‏ إنَّ كثْرة عددها ليس يُخرج من عنقك فَضْل واحدها‏.‏
فَخر مولى لزياد بزياد عند مُعاوية‏.‏
قال له فعاوية‏:‏ اسكت فواللّه ما أدْرك صاحُبك شيئاً بسيفه إلا أدركتُ أكثرَ منه بلساني‏.‏
وقال رجل من مَخْزوم للأحوص محمد بن عبد اللّه الأنصاري‏:‏ أتعرف الذي يقول‏:‏ ذَهبتْ قُريش بالمَكارم كُلِّها والذُّلُّ تحت عمائم الأنْصَارِ قال‏:‏ لا ولكنّي أعرفُ الذي يقول‏:‏ الناسُ كَنَوْه أبا حَكَمٍ واللّه كَنَّاه أبا جَهْل أبقتْ رياستُه لأسْرته لؤْمَ الفُرُوع ورِقَة الأصل سأل رجلٌ من قُريش رجلاً من بني قَيس بن ثعلبة‏:‏ ممن أنت قال‏:‏ من ربيعة قال له القُرشسيّ‏:‏ لا أثر لكم ببَطحاء مكة قال القَيْسي‏:‏ آثارُها‏.‏
في أكناف الْجَزيرة مَشْهورة مَواقفنا في ذي قار مَعْروفة فأما مكّة فسواء العاكفُ فيها والبادي كما قال اللّه تبارك و تعالى فأفحمه‏.‏
قال الأشعث بن قيس لشرُيح القاضي‏:‏ شَد ما ارتفعتَ‏!‏ قال‏:‏ فهل ضرَك قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأراك تَعرف نعمةَ الله على غيرك وتَجلهلها على نَفْسِك‏.‏
قال سليمانُ بن عبد الملك ليزيد بن المُهَلَّب‏:‏ فيمن العِزُّ بالبَصرة قال‏:‏ فينا وفي أحلافنا من رَبيعة قال له سليمان بن عبد الملك‏:‏ الذي تحالفتما عليه أعز منكما‏.‏
قَدِم أعرابيّ البصرَة فَدخلَ المسجدَ الجامعِ وعليه خًلْقان وعمامة قد كَوَّرِها على رأسه فَرَمى بطَرفه يمنةً ويسرةً فلم يرَ فتية أحسنَ وُجوهاً ولا أظْهر زيّاً من فتْية حَضروا حَلْقة عُتْبة المَخزوميّ فدنا منهم وفي الحَلْقة فُرْجة فطبقها فقال له عُتبة‏:‏ ممن أنت يا أعرابيّ قال‏:‏ من مَذحج قال‏:‏ مِن زَيْدها الأكْرمين أو من مُرادها الأطْيبين قال‏:‏ لستُ من زيدها ولا من مُرادها قال‏:‏ فمن أنت قال‏:‏ فإني من حُماةِ أعراضها وزَهْرة رياضها بني زُبيد‏.‏
قال‏:‏ فأفحم عُتْبة حتى وَضع قَلَنسُوته عن رأسه وكان أصْلع فقال له الأعرابي‏:‏ فأنت يا أصلع ممن أنت قال‏:‏ أنا رجل من قريش قال‏:‏ فمن بيت نُبوَتها أو من بيت مَمْلكتها قال‏:‏ إِني من رَيحْانتها بنِي مَحزوم قال‏:‏ واللّه لو تَدْري لم سُمِّيت بنو مَخزوم ريحانَة قريش ما فخرت بها أبداً إنما سميت ريحانة قُريش لِخَور رجالها ولين نسائها قال عتبة‏:‏ واللّه لا نازعتُ أعرابياً بعدك أبداً‏.‏
وَضع فَيْروز بن حُصَين يدَه على رأس نُميلة بن مالك بن أبي عُكابة عند زياد فقال‏:‏ مَن هذا العبد قال‏:‏ أنت العبد ضَربناك فما انتصرت ومَننا عليك فما شَكرْت‏.‏
اجتمعت بَكر بن وائل إلى مالك بن مِسْمَع لأمر أراده مالك فأرسل إلى بَكر بن وائل وأرسل إلى عُبيد اللّه بن زياد بن ظَبيان فأتى عُبيد اللّه فقال‏:‏ يا أبا مِسْمع ما مَنعك أن تُرسل إلي قال‏:‏ يا أبا مَطر ما في كنانتِي سَهْم أنا أوْثق به منِّي بك‏.‏
قال‏:‏ وإنّي لفى كِنانتك‏!‏ أمَا واللّه لئن كنتُ فيها قائماً لأطولنَها ولئن كنتُ فيها قاعداً لأَخْرِقَنها‏.‏
نازع مالكُ بن مِسْمعِ شَقيق بن ثَوْر فقال له مالكٌ‏!‏ إنما شَرّفَك قَبْر بِتُسْتَر قال شقيقِ‏:‏ لكن وَضعك قبْرٌ بالمُشَقَّر‏.‏
وذلك أنَّ مِسْمعاً أبا مالك جاء إلى قوم بالمُشَقّر فنبحه كَلْبهُم فَقَتله فقتلوه به فكان يقال له‏:‏ قتيل الكلاب‏.‏
وأراد مالك قَبر مَجْزأة بن ثَوْر أخي شفيق وكان استُشهد بتُسْتر مع أبي مُوسى الأشعريّ‏.‏
قال قُتيبة بن مُسلم لهُبيرة بن مَسْروح‏:‏ أي رجل أنت لو كانت أحوالك من غير سَلوٍل‏!‏ فبادل بهم قال‏:‏ أصْلح اللّه الأمير بادِل‏!‏ بهم مَن شئت وجَنِّبني باهلة‏.‏
وكان قتيبة من باهلة‏.‏
جواب ابن أبي دواد قال أحمدُ بن أبي دُواد لمحمدِ بن عبد الملك الزيات عند الواثق‏:‏ أضوي أي أسكت - يا لنّبطية - فقال له‏:‏ لماذا واللّه ما أنا بِنَبطيّ ولا بِدَعِيّ قال له‏:‏ ليس فوقك أحد يَفْضُلك ولا دونك أحد تَنْزل إليه فأنت مُطّرح في الحالتين جميعاً‏.‏
ودخل أحمد بن أبي دُواد على أشْناس فقال له‏:‏ بلغني أنك أفسدت هذا الرجل يعني محمد بن عبد الملك وهو لنا صديق فأحب أنْ لا تأتينا قال له ابن أبي دُواد‏:‏ أنت رجل صَنَعَتْك هذه الدولة فإنْ أتيناك فلها هان تَركناك فلنفسك‏.‏
قال أحمدُ بن أبي دواد‏:‏ دخلتُ على الواثق فقال‏:‏ ما زال قومٌ اليومَ في ثَلْبك ونَقْصك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لكل امرئ منهم ما اكتسب مات الإثم والذي تولّى كِبْره منهم له عذاب عظيم فاللّه وليّ جزائه وعِقابُ أمير المؤمنين مِن ورائه وما ضاع امرؤ أنت حائطُه ولا ذَلّ مَن كنت ناصرَه فماذا قلت لهم يا أمير المؤمنين قال‏:‏ أبا عبد اللّه‏:‏ وسَعى إلى بعَيْب عَزّةَ نِسوة جَعل المليكُ خُدودَهن نِعالهَا وقال أبو العيناء الهاشمي‏:‏ قلت لابن أبي دُواد‏:‏ إنَّ قوماً تَضافروا عليَّ قال‏:‏ يَدُ اللّه فَوق أَيْدِيهم‏.‏
قلتُ‏:‏ إنهم جماعة قال‏:‏ كم مِن فِئةًٍ قليلةًٍ غَلبَتْ فئِةً كثيرةً بإذن اللّه واللّه مع الصابرين‏.‏
قلت‏:‏ إنَّ لهم مكراً قال‏:‏ ولا يَحيقُ المَكْر السيَّء بأهله‏.‏
قال أبو العيناء‏:‏ فحدّثت به أحمدَ بن يوسف الكاتب فقال‏:‏ ما يُرى ابنُ أبي دواد إلا أنّ القرآن إنما أنزل عليه‏.‏
جواب في تفحش خَطب خالدُ بن عبد اللّه القَسريّ فقال‏:‏ يأهل البادية ما أخشنَ بلدَكم‏!‏ وأغلظَ معاشَكم‏!‏ وأجفى أخلاقَكم‏!‏ لا تشهدون جمعة ولا تُجالِسون عالماً فقام إليه رجال منهم دَميم فقال‏:‏ أمّا ما ذكرت من خُشونة بلدنا وغِلَظ طَعامنا وجَفاء أخلاقنا فهو كذلك ولكنّكم معشرَ أهل الحَضر فيكم ثلاث خِصال هي شرٌّ مِن كل ما ذكرت قال له خالد‏:‏ وما هي قال‏:‏ تَنْقُبون الدُّور وتَنْبِشون القُبور وتَنْكحون الذُّكور قال‏:‏ قَبَّحك اللّه وقَبَّح ما جِئت به‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ أتى موسى بن مُصعب منزل امرأة مَدنيّة لها قَيْنة تَعْرِضها فإذا امرأة جميلة لها هَيْئة فَنظر إلى رجل دَميم يجيء ويَذهب ويأمر ويَنهى في الدار فقال‏:‏ مَن هذا الرجل قالت‏:‏ هَو زَوجي قال‏:‏ إنا للّه وإنا إليه راجعون‏!‏ أمَا وجدتِ مِن الرجال غيرَ هذا وبكِ مِن الجمال ما أرى قالت‏:‏ واللّه يا أبا عبد اللّه لو استدبرك بمثل ما يَستقبلني به لَعَظُم في عينك‏.‏
أبو الحسنِ قال‏:‏ قالت عاتكة بِنت المُلاءة لِرائض دوابّ زَوْجها في طريق مكة‏:‏ ما وجدتُ عملاً شَرّاً من عملك إنما كَسْبُك باستك‏!‏ فقال لها‏:‏ جُعلت فداك ما بين ما أكتسب به وما تَكْتسبين به أنت إلا إصبعان قالت‏:‏ ويلي عليك‏!‏ خذوا الخبيث‏.‏
فَطَلبه حَشمُها ففاتهم رَكْضاً‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ قال رجل من الأزد في مَجلس يُونس النحويّ‏:‏ وَدِدْت واللّه أنّ بَني تَميم جميعاً في جَوْفي على أنْ يُضربَ وَسطي بالسَّيفِ‏.‏
قال له شَيخ في ناحِية المَجلِس حِرْمازي من بني تميم‏:‏ يا هذا يَكْفيك من ذاك كَمَرة حِماريّة يملأ بها أستك إلى لهَاتك‏.‏
وسأل أعرِابيّ شيخاً من بني مَروان وحولَه قومٌ جلوس فقال‏:‏ أصابَتْنا سنةٌ ولي بضعَ عشرةَ بِنْتاَ فقال الشيخُ‏:‏ أما السّنة فوددتُ واللّه أنّ بينكم وبين السماء صفيحةً من حديد وأما البنات فليتَ اللّه أضعفهن لك أضعافاً كثيرة وجَعلك مَقْطوع اليدين والرِّجلين ليس لهن كاسب غيرُك‏.‏
قال‏:‏ فنظَر الأعرابي مليًّا ثم قال‏:‏ ما أدري ما أقول لك‏!‏ ولكني أراك قبيح المنظر لئيم المَخْبر فأعضك اللّه ببُظور أمهات هؤلاء الجلوس حولك‏.‏
وسأل أعرابي شيخاً من الطائف وشَكا إليه سنةً أصابته فقال‏:‏ وددتُ واللّه أنّ الأرض حصّاء ولا تُنبت شيئاً قال‏:‏ ذلك أيْبس لجَعَر أمك في آستها‏.‏
قال عبيدُ اللّه بن زياد بنِ ظَبيان لزُرْعة بن ضَمْرة الضِّمْريّ‏:‏ إني لو أدركتُك يوم الأهواز لقطعتُ منك طابَقاَ شَحيماً قال‏:‏ ألا أدُلك على طابق شَحِيم هو أولى بالقطع قال‏:‏ بلى قال‏:‏ البَظْر الذي بين استيْ أمك‏.‏
قال عبدُ اللّه بن الزُّبير لعَدِيّ بن حاتم‏:‏ متى فُقِئت عينك قال‏:‏ يومَ طعنتُك في آستك وأنت مُولٍّ‏.‏
وقال الفرزدق‏:‏ ما عَييتُ بجواب أحد قط ما عَييتُ بجواب امرأة وصبيّ ونَبَطيّ فأمّا المَرأة فإني ذهبتُ ببغلتي أسْقيها في النّهر فإذا معشر نِسْوة فلما هَمزت البغلة حَبَقَت فاستضحك النسوة فقلتُ لهن‏:‏ ما أضحككن فوِالله ما حَملتني أنثى إلا فعلتْ مثلَها فقالت امرأة منهن‏:‏ فكيف كان ضُراط أمك قُفيرة فقد حَملتْك في بَطنها تسعةَ أشهر فما وجدتُ لها جواباً وأما الصبيّ فإنّي كنت أنشد بجامع البَصْرة وفي حَلْقتي الكميتُ ابن زَيد وهو صَبيّ فأعْجَبني حًسن استماعه فقلتُ له‏:‏ كيف سمعتَ يا بُني قال لي‏:‏ حَسن قلتُ‏:‏ أفيسرّك أنّي أبوك قال‏:‏ أما أبي فلا أُريد به بَديلًا ولكنْ وَدِدْتُ أن تكون أميّ قلتُ‏:‏ اْسترها عليّ يا بن أخي فما لقيتُ مثلَها وأمّا النبطيّ فإني لَقيتُ نَبطيِّاً بيَثْرب فقال لي‏:‏ أنت الفَرزدق لمحلتُ‏:‏ نعم قال‏:‏ أنت الذي يخَاف الناس لسانَك قلتُ‏:‏ نعم قال‏:‏ فأنت الذي إذا هجوتني يموت فَرس هذا قلتُ‏:‏ لا قال‏:‏ فَيموت وَلدي قلتُ‏:‏ لا قال‏:‏ فأموت أنا قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فأدْخلني اللّه في حِرام الفرزدق مِن رِجْلي إلى عنقي قلت‏:‏ ويلك‏!‏ ولم تركتَ رأسك قال‏:‏ حتى أرَى ما تَصنع الزّانية‏.‏
ولقي جَرير الفرزدقَ بالكوفة فقال‏:‏ أبا فراس تَحتمل عنّي مسألة قال‏:‏ أحتملها بمسألة قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فَسَل عمَّا بدا لك قال‏:‏ أيّ شيء أحبّ إليك‏:‏ يتقدّمك الخيرُ أو تَتقدّمه قال‏:‏ لا يتقدّمني ولا أتقدمه ولكنْ أكون معه في قَرَن قال‏:‏ هات مسألتك قال له الفرزدق‏:‏ أيّ شيء أحب إليك إذا دخلتَ على امرأتك‏:‏ أن تجديدها على أَيْر رجل أو تجد يَد رجل على حِرِها قال‏:‏ قاتلك اللّه‏!‏ ما أقبَح كلامَك‏!‏ وأرذلَ لسانك‏!‏ أبو الحسن قال‏:‏ مرٍ الفرزدق يوماً بمسجد الأحامرة وفيه جماعةٌ فيهم أبو المًزرّد الحنفي فقال له الفرزدق‏.‏
يا أخا بني حَنيفة ما شيءٌ لم يكن له أسنان ولا تكون ولو كان لم يَستقم قال‏:‏ لا أَدْري قال‏:‏ يا أبا المزرد إنه سَفيه فإنْ لم تَغضب أخبرتُك قال‏:‏ قُلْ فإني لا أغضب فقال‏:‏ حِرِ أمّك لم تكن له أسْنان ولا تكون ولو كان لم يَسْتقم‏.‏
أبو الحَسن قال‏:‏ لقي الفَرَزدَق عمرو بن عَفْراء فعاتَبه في شيء بَلغه عنه فقال له ابنُ عَفْراء وهو بالمِرْبد‏:‏ ما شيء أحبَّ إليّ مِن أن آتي كلَّ شي تَكْرهه قال له الفرزدقُ‏:‏ باللّه إنّك لأتي كلّ شيء أكرهه قال‏:‏ نعم قال فإني أكْره أن تَأتي أمّك فَأتها‏.‏
ضاف رجلٌ قبيح الوجه دَنيّ الحَسب أبا عبد اللّه الجمّار فجعل يَفْخر ببيته فقال له الجماز‏:‏ اسكت فقَبَاحة وجهك ودُنُوّ حسبك يمنعاننا مِن سَبّك فأبى إلا التَّمادي في اللّجاج فقال له الجمّاز‏:‏ لو كُنْتَ ذا عِرْض هَجَوْناكا أو حسن الوجه لنكناكا جمعتَ مَرْ قُبْحك لؤْماً فلل قُبح أو اللّؤم تَرَكنْاكا

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:27 AM

كتاب الواسطة في الخطب
قال أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه‏:‏ قد مضى قولُنا في الأجْوبة وتَباين النّاس فيها على قدر عُقولهم ومَبلغ فِطَنهم وحضُورِ أذهانهم بم ونحن قائلون بعَون اللّه وتَوْفيقه في الخُطب التي يُتخيّر لها الكلامُ وتفَاخرت بها العربُ في مَشاهدهم ونَطقت بها الأئمة على مَنابرهم وشُهرت بها في وقامت بها على رُؤوس خُلفائهم وتَباهت بها في أعيادهم ومَساجدهم ووصلَتْها بِصَلَواتهم وخوطب بها العوام واستُجزلت لها الألفاظ وتُخيِّرت لها المعاني‏:‏ أعلم أنّ جميع الخُطب على ضَرْبين‏:‏ منها الطِّوال ومنها القِصَار ولكُلِّ ذلك مَوْضع يَليق به ومكانٌ يَحسُن فيه‏.‏
فأول ما نَبدأ به من ذلك خُطبُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم السَّلف المُتقدمين ثم الجلّة من التابعين والجلّة من الخُلفاء الماضين والفُصحاء المتكلّمين على ما سَقط إلَينا ووَقع عليه اختيارُنا ثم نذكر بعضَ خُطب الخَوارج لجزالة أَلفاظهم وبَلاغة مَنْطقهم كخُطْبة قطريّ بن الفُجاءة في ذَمّ الدنيا فإنها مَعْدومة النَّظير مُنْقطعة القَرين وخُطبة أبي حَمْزة التي سمعها مالكً بن أنس فقال‏:‏ خَطَبنا أبو حَمْزة بالمدينة خُطبة شَكّك فيها المُستبصر ورَدّ بها المُرتاب ثم نَسمح بصَدر من خُطب البادية وقَوْل الأعراب خاصَّة لمعرفتهم بداء الكَلام قال عبدُ الملك بن مَرْوان لخالد بن سَلِمة القُرَشيّ المَخْزومي مَن أخطبُ الناس قال‏:‏ أنا قال‏:‏ ثم مَن قال‏:‏ أنا قال‏:‏ ثم مَن قال‏:‏ شيخ جُذام - يَعني رَوْح بن زِنْباع - قال ثم مَن قال‏:‏ أُخيفش ثقيف - يعني الحجاج - قال‏:‏ ثم مَن قال‏:‏ أميرُ المؤمنين‏.‏
وقال مُعاوية لما خَطب الناسُ عنده فأَكثروا‏:‏ واللّه لأرْمينكم بالخَطيب المِصْقع قُمْ يا زِياد‏.‏
وقال محمدٌ كاتب المَهديّ - وكان شاعراً راوية وطالباً للنحو عَلَّامة - قال‏:‏ سمعتُ أبا دُواد يقول‏:‏ وجَرى شيء من ذِكر الخًطب وتَحْبير الكلام فقال‏:‏ تَلْخيص المَعاني رِفْق والاستعانة بالغَريب عَجْز والتّشادق في غَيْر أهل البادية نَقْص والنَّظر في عُيون الناس عِيّ ومَسْح اللِّحية هُلْك والخُروج عَمّا بُني عليه الكلامُ إسهاب‏.‏
قال‏:‏ وسمعتُه يقول‏:‏ رأْسُ الخطابة الطبع وعَمودها الدُّرْبة وحَلْيها الإعراب وبَهاؤها تَخُيّر اللفظ والمحبّة مَقْرونة بقلّة الاستكراه‏.‏
وأَنشدني بيتاً له في خُطباء إياد‏:‏ يَرْمُون بالخُطَب الطِّوال وتارةً وَحْيَ المَلاَحظ خِيفةَ الرُّقباء أَنشدني في عِيّ الخَطِيب واستعانته بمَسْح العثْنون وفَتْل الأصَابع‏:‏ مَلِيءٌ ببُهْر والتفات وسُعْلة ومَسْحةِ عُثْنون وفَتْل الأصابع مَرّ بِشرْ بن المُعتمر بإبراهيم بن جِبلة بن مَخْرمة السَّكوني الخَطيب وهو يعَلِّم فِتْيانهم الخَطابة فوقف بِشرٌ يستمع فظنّ إبراهيم أنه إنما وَقف ليَسْتفيد أو يكون رجلاً من النظّارة‏.‏
فقال بشر‏:‏ اضربوا عمّا قال صفْحاً واطووا عنه كَشْحاً ثم دفع إليهم صَحيفة من تَنْميقه وتَحْبيره فيها‏:‏ خُذْ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك فإنّ قليل تلك الساعة أكرمُ جوهراً وأشرفُ حَسباً وأحسن في الأسماع وأَحْلى في الصُّدور وأسلم من فاحش الخَطأ وأجلبُ لكُلّ عين وغُرّة من لفظ شريف ومَعنى بديع واعلم أنّ ذلك أَجدى عليك مما يُعطِيك يومُك الأطْول بالكدّ والمُطاولة والمُجاهدة بالتّكليف والمُعاودة ومهما أَخطأك لم يُخطئك أن يكون مقبولاً قصداً وخَفيفاً على اللسان سَهْلاً كما خَرج من يَنبوعه ونَجم من مَعدنه وإياك والتوعّرَ فإن التوعّر يُسلمك إلى التَّعقيد والتّعقيد هو الذي يَسْتهلك مَعانيك ويَشين ألفاظَك‏.‏
ومَن أراد معنًى كريماً فَلْيَلْتمس له لفظاً كريماً فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف ومن حقهما أن تَصونهما عما يُفسدهما ويهجِّنهما وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالاًَ منك قبل أن تَلتمس إظهارهما وتَرتهن نفسك بمُلابستهما وقضاء حقهما‏.‏
وكن في ثلاث منازل‏:‏ وإن أَوْلَى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عَذْباً وفخَماً سهلاً ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً إمّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت وإمّا عند العامة إن كنت للعامة أردت والمعنى ليس يشرف بأن يكون من مَعاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من مَعاني العامة وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المَنفعة مع مُوافقة الحال وما يَجب لكل مَقام من المقال وكذلك اللفظ العاميّ والخاصيّ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولُطف مَداخلك واقتدارك على نفسك على أن تُفْهم العامة معاني الخاصة وتَكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تَلطف عن الدهماء ولا تَجفو عن الأكفاء فأنت البليغُ التام‏.‏
فقال له إبراهيم بن جبلة‏:‏ جُعلت فداك أنا أحوجُ إلى تعلّمي هذا الكلام من هؤلاء الغِلْمة‏.‏
خطبة رسول الله في حجة الوداع صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إن الحمد للهّ نَحمده ونَستغفره ونَتوب إليه ونعوذ بالله من شرُور أنفسنا ومن سَيئات أعمالنا مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلِّ له ومَن يُضلل فلا هاديَ له وأَشهد أن لا إله اللّه وحدَه لا شريك له وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه‏.‏
أُوصيكم عبادَ اللهّ بَتْقوى اللّه وٍ أَحثُّكم على طاعته وأَسْتَفْتح بالذي هو خير‏.‏
أما بعد أيّها الناس اسمعوا منّي أبيّنَ لكم فإني لا أدري لعليّ لا أَلْقاكم بعد عامي هذا في مَوْقفي هذا‏.‏
أيها الناس إن دماءكم وأموالَكم عليكم حَرام إلى أن تَلقوا ربَّكم كحُرمة يومكم هذا في شَهركم هذا في بلدكم هذا‏.‏
ألا هل بَلّغت اللهم اشهد‏.‏
فمن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدها إلى الذي ائتمنه عليها وإن رِبَا الجاهلية مَوْضوع وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب وإن دماء الجاهليَّة مَوْضوعة وإن أول دَم أبدأ به دَم عامر بن رَبيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية‏.‏
والعَمْدُ قَوَد وشبْه العمد ما قُتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية‏.‏
أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئسْ أن يُعبد في أرْضكم هذه ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحَقِّرون من أعمالكم‏.‏
أيها الناس إنّما النّسيء زيادة في الكُفر يُضَل به الذين كَفروا يُحلّونه عاماً ويُحَرمونه عاماً ليُواطئوا عدّة ما حَرّم اللّه وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خَلق اللّه السموات والأرض وإن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادي وشعبان ألَا هل بلّغت اللهم أشهد‏.‏
أيها الناس إنّ لنسائكم عليكم حقَاً وإنّ لكم عليهن حقّاَ لكم عليهن أن لا يُوطِئن فَرْشَكم غيركم ولا يُدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن اللّه قد أذن لكم أن تَعْضُلوهن وتَهْجروهن في المَضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبرِّح فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رِزقُهن وكسوتهن بالمعروف وإنما النساء عندكم عَوَار لا يملكن لأنفسهن شيئاً أخذتموهن بأَمانة اللّه واستحلَلتُم فُروجهن بكلمة اللّه فاتقوا اللّه في النساء واستوصوا بهن خيراً‏.‏
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسه ألا هل بلّغت اللهم أشهد‏.‏
فلا تَرْجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلّوا‏:‏ كتابَ اللّه ألا هل بلَّغت اللهم أشهد‏.‏
أيها الناس‏:‏ إنّ ربكم واحد وإن أباكم واحد كلُكم لآدم وآدم من تراب أكرمُكم عند اللّه أتقاكم ليس لعربيّ على عجميّ فَضل إلّا بالتقوى ألا هل بلّغت قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فَلْيبلغ الشاهد منكم الغائب‏.‏
أيها الناس إن اللّه قد قَسم لكل وارث نصيَبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية في أكثر من الثّلث والولدُ للفراش وللعاهر الحَجر من ادَعى إلى غير أبيه أو تولّى غَير مواليه فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللّه منه صَرْفاً ولا عدلاً‏.‏
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته‏.‏
وخطب أبو بكر يوم السقيفة أراد عُمر الكلام فقال له أبو بكر على رِسْلك ثم حَمد اللّه وأَثنى عليه ثم قال أيها الناس نحن المُهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً وأوسطّهم داراً وأحسنُهم وجوهاً وأكثر الناس وِلادةً في العرب وأمسّهم رَحِماً برسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا قبلكم وقُدِّمنا في القرآن عليكم فقال تبارك وتعالى‏:‏ والسّابِقون الأوّلون من المُهاجِرين والأنصار والذينَ أتبعوهم بإحْسان‏.‏
فنحنُ المهاجرون وأنتم الأنصار إخواننا في الدًين وشركاؤنا في الفَيْء وأنصارُنا على العدوّ آويتم وآسيتم فجزاكم اللهّ خيراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تَدِين العرب إلّا لهذا الحيّ من قُرَيش فلا تنْفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم اللهّ من فضله‏.‏
حمد اللّه وأَثنى عليه قال‏:‏ أيها الناس إني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم فإن رأيتُموني على حق فأَعينوني وإن رأيتُموني على باطل فسدِّدوني‏.‏
أَطيعوني ما أطعتُ اللّه فيكم فإذا عصيتُه لا طاعة لي عليكم‏.‏
ألاَ إن أقواكم عندي الضَّعيفُ حتى آخذَ الحقَّ له وأَضعفَكم عندي القوي حتى آخذَ الحق منه‏.‏
أقول قولي هذا وأَستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
وخطب أخرى فلمّا حمد اللّه بما هو أهله وصلّى على نبيه عليه الصلاةُ والسلام قال‏:‏ إنّ أشقَى الناس في الدنيا والآخرًة الملوكُ‏.‏
فرفع الناسُ رؤوسهم فقال‏:‏ ما لكم أيها الناسُ إنكم لطَعانون عَجِلون‏.‏
إن من الملوك مَن إذا مَلك زهده الله فِيما بيده ورغّبه فيما بيد غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلَبه الإشفاقَ فهو يَحسد على القليل ويتَسخّط الكثير ويَسأم الرّخاء وتَنقطع عنده لذّة البقاء لا يستعمل العِبْرة ولا يسكُن إلى الثقة فهو كالدرهم القَسيّ والسَّراب الخادع جَذِل الظاهر حزين الباطن فإذا وَجبت نفسُه ونَضب عمره وضحا ظلُّه حاسبه اللهّ فأَشدّ حسابَه وأقل عَفْوه‏.‏
ألا إن الفقراء هم المَرحومون وخيرَ الملوك مَن أمن باللّه وحَكم بكتابه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خِلافة نبوة ومَفْرِق محجَّة وسترون بعديِ مُلْكاً عَضُوضاً ومَلِكاً عَنُودا وأُمة شَعاعاً ودَماً مُفاجاً فإن كانت للباطل نزْوَة ولأهل الحق جَوْلة يعفو بها الأثر ويَموت لها الخبر فالزموا المساجد واستشيروا القرآن واعتصموِا بالطاعة‏.‏
وليكن الإبرام بعد التَشاور والصَّفقة بعد طوله التناظر‏.‏
أفي بلاد خرْشَنة إنّ الله سَيْفتح لكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها‏.‏
وخطب أيضاً فقال الحمد للّه أحمده وأستعينه وأَستغفره وأومن به وأَتوكّل عليه وأَسْتهدي اللهّ بالهُدى وأَعوذ به من الضّلال والرّدى ومن الشك والعَمى‏.‏
مَن يَهْدِ اللّه فهو المُهتدي ومن يُضلّل فلن تَجد له وليَّاً مُرْشداً‏.‏
وأَشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريكَ له له المُلك وله الحَمْد يُحيي وُيميت وهو حَيٌ لا يَموت يُعزّ مَن يشاء ويُذِل مَن يشاء بيده الخَير وهو عَلَى كلّ شيء قدير‏.‏
وأَشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أَرسله بالهُدى ودين الحق ليُظهره عَلَى الدين كلّه ولو كَرِه المشركون إلى الناس كَافة رحمةً لهم وحُجة عليهم والناسُ حينئذ عَلَى شَرّ حال في ظُلمات الجاهليّة دينّهم بِدْعة ودَعْوتهم فِرْية‏.‏
فأعزِّ اللّه الدينَ بمحمد صلى الله عليه وسلم وألفَ بين قلوبكم أيها المًؤمنون فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حُفْرة من النار فأَنقذكم منها كذلك يُبيّن اللّه لكم آياته لعلكم تَهتدون‏.‏
فأَطيعوا اللهّ ورسوله فإنه قال عزّ وجلّ‏:‏ مَن يُطِع الرَّسولَ فقد أطاع الله ومَن تَوَلى فما أَرسلناكَ عليهم حَفيظاً‏.‏
أمّا بعد أيها الناس إني أوصيكم بتقوى اللّه العظيم في كل أَمر وعَلَى كلِ حال ولُزوم الحق فيما أَحببتم وكَرِهتم فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير‏.‏
مَن يَكْذب يَفْجر ومَن يَفْجر يَهْلِك‏.‏
وإيّاكم والفَخْرَ وما فَخْرُ مَن خُلق من تراب وإلى التراب يَعود هو اليوم حيّ غداً مَيّت‏.‏
فاعمَلوا وعُدُّوا أنفسَكمِ في الموتى وما أَشكل عليكم فردّوا عِلْمه إلى اللّه وقَدِّموا لأنفسكم خيراً تَجدوه مًحْضراً فإنه قال عَزٌ وجلّ‏:‏ يَوْمَ تَجد كلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحضَراً ومَا عَملت مِن سُوء تَوَدُّ لو أَنَّ بينها وبينه أَمَداً بَعيداَ ويُحذِّرَكم اللّه نفسَه والله رءُوف بالعِبَاد‏.‏
فاتّقوا اللّه عبادَ اللّه وراقبوه واعتبروا بمَن مَضى قبلكم واعلموا إنه لا بُدّ من لقاء ربّكم والجزاء بأعمالكم صَغيرها وكَبيرها إلا ما غَفر اللّه أنه غَفور رحيم فأَنْفًسَكم أَنفسكم والمُستعانُ الله ولا حَولَ ولا قوّة إلّا باللّه‏.‏
إنً اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ يأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلِّموا تَسْليَماَ‏.‏
اللَّهم صَلِّ على محمدٍ عَبْدِك ورسولك أفضلَ ما صلَيت على أحدٍ من خلْقك وزَكِّنا بالصلاة عليه وأَلحقنا به وأحشُرنا في زمْرته وأَوْرِدْنا حوضَه‏.‏
اللًهم أَعِنَّا عَلَى طاعتك وانصُرنا عَلَى عدوّك حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أَوصِيكم بتقوى اللّه وان تُثْنُوا عليه بما هو أهلُه وأن تَخْلِطوا الرَّغبة بالرَّهبة وتَجمعوا الإلحافَ بالمَسألة فإنَّ اللّه أَثنىِ عَلَى زكريّا وعَلَى أهل بيته فقال‏:‏ أنّهم كانوا يُسَارِعُون في الخَيْرَاتِ ويَدْعُوننا رَغَباَ وكانوا لنا خاشِعين‏.‏
ثم اعلَموا عبادَ اللّه أن اللهّ قد ارتهن بحقه أنفسَكم وأَخذ عَلَى ذلك مواثيقَكم وعَوَّضكم بالقليل الفاني الكثيرَ الباقي وهذا كتابُ اللّه فيكم لا تَفْنى عجائبُه ولا يُطْفأ نورُه‏.‏
فثِقوا بقوله وانتصحوا كتابَه واستبصروا به ليوم الظلمة فإنه خَلقكم لعبادته ووَكَل بكم الكرامَ الكاتبين يَعلمون ما تفَعلون‏.‏
ثم اعلموا عبادَ اللّه أنكم تَغْدون وتَرُوحون في أجل قد غُيِّب عنكم عِلْمُه فإن استطعتم أن تنقضي الآجالُ وأنتم في عَمل اللّه ولن تَستطيعوا ذلك إلا باللّه فسابقوا في مَهل بأعمالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردّكم إلى سُوء أعمالكم فإنَّ أَقواماً جعلوِا أجالَهم لغيرهم فأَنهاكم أن تكونوا أمثالَهم‏.‏
فالوَحَى الوَحَى والنجاء النجاء فإن وراءكم طالباً حَثيثاً مَرُّه سريعاً سَيْرُه‏.‏
خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بعد أن حَمِد اللّه وأثنى عليه‏:‏ أيها الناس تعلَّموا القرآن واعملوا به تكونوا من أهله إنه لم يبلغ حقّ مخْلوق أن يُطاع في معْصية الخالق‏.‏
إلا وإني أنزلت نَفْسي من مال اللّه بمنزلة وإلَي اليتيم‏:‏ إن استَغنيت عفَفْت وإن افتَقَرْت أكلْتُ بالمعروف تَقَرمَ البَهمة الأعرابية‏:‏ القَضْم لا الخَضْم‏.‏
وخطب أيضاً حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس‏:‏ مَن أراد أن يَسْأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ومَن أراد أن يَسْأل‏!‏ عن الفرائض فَلْيأت زيدَ بن ثابت ومَن أراد أن يَسأل عن الفِقْه فَلْيأت مُعاذ بن جَبَل ومَن أراد أن يَسْأل عن المال فَلْيأتني فإن اللّه جعلني له خازناً وقاسماً‏.‏
إني بادىء بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمُعطيهن ثم المهاجرين الأوَلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أنا وأصحابي ثم بالأنصار الذين تَبؤَءوا الدارَ والإيمان مِن قبلهم ثم مَن أسرع إلى الهِجرة أسْرعَ إليه العطاء وجمَن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء‏.‏
فلا يلومنً رجل إلا مُناخ راحلته‏.‏
إني قد بَقيت فيكم بعد صاحبي فابتليتُ بكم وابتُليتم بي وإني لن يَحْضرني من أموركم شيء فأكِله إلى غير أهل الْجَزاء والأمانة فلئنْ أحسنوا لأحسننَ إليهم ولئنْ أساءُوا لاُ نكّلَنَ بهم‏.‏
وخطب أيضاً فقال‏:‏ الحمد لله الذي أعزَنا بالإسلام وأكرمنا بالإيمان ورَحمنا بنبيّه صلى الله عليه وسلم فهدانا به من الضلالة وجَمعنا به من الشتات وألَّف بين قلوبنا ونَصرنا عَلَى عدوّنا ومكّن لنا في البلاد وجَعلنا به إخواناً مُتحابين‏.‏
فاحَمدوا الله عَلَى هذه النّعمة واسألوه المَزيدَ فيها والشُكر عليها فإنَّ اللّه قد صَدقكم الوعدَ بالنَصر عَلَى مَن خالفَكم‏.‏
وإياكم والعملَ بالمَعاصي وكُفْر النعمة فقلما كفر قوم بنعمة ولم يَنزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزَهم وسُلط عليهِم عدوّهم‏.‏
أيها الناس إنَ الله قد أعزّ دَعوة هذه الأمة وجَمع كلمتها وأظهر فَلَجها ونصَرها وشرَّفها فاحمدوه عبادَ الله عَلَى نِعمَه واشكروه عَلَى آلائه‏.‏
جعلَنا اللّه وإياكم من الشاكرين‏.‏
وخطبة له أيضاً أيها الناس إنه قد أتي عَلَيَّ زمان وأنا أرى أن قوماً يقرءون القرآن يُريدون به اللّه عزّ وجلّ وما عنده فخُيّل إليّ أن قوماً قَرَءوه يُريدون به الناس والدنيا‏.‏
ألا فأريدوا اللّه بأعمالكم‏.‏
ألا إنما كنا نعرفكم إذ يتنزَّل الوَحْي وإِذ رسول اللّه بين أظهرنا يُنبئنا من أخباركمٍ فقد انقطع الوَحْى وذهب النبي فإنما نعرفكم بالقَول‏.‏
ألا مَن رأينا منْه خيراً ظنَنا به خيراً وأحببناه عليه ومَن رأينا منه شرّا ظنَنَا به شرّا وأبغضناه عليه‏.‏
سرائركم بَينكم وبين ربكم‏.‏
ألا وإني إنما أبعث عُمّالي ليُعلِّموكم دينكم وسُننكم ولا أبعثهم ليَضرِبوا ظهوركم ويأخذوا أموالَكم‏.‏
ألا مَن رابه شيء من ذلك فَلْيرْفعه إليّ فوالذي نفسي بيده لاقُصَّنكم منه‏.‏
فقامٍ عمرو بن العاص فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أرأيتَ إن بعثتَ عاملاً من عُمّالك فأدّب رجلاً من رعيَّتك فَضرَبه أتقصّه منه قال‏:‏ نعم والذي نفَس عُمر بيده لأقصَّنه منه فقد رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه‏.‏
وخطب أيضاًً فقال أيها النّاس اتقوا اللّه في سَريرتكم وعَلانيتكم وَأْمروا بالمعروف وانهوا عن المُنكر ولا تكونوا مثلَ قوم كانوا في سَفينة فأقبل أحدُهم على مَوضعه يَخْرِقه فنَظر إليه أصحابهُ فمَنعوه فقال‏:‏ هو مَوْضعي ولي أن أحْكم فيه‏.‏
فإِن اخذوا عَلَى يده سَلِم وسَلِموا وإنْ تركوه هَلك وهَلكوا معه‏.‏
وهذا مَثل ضربتُه لكم رحمنا اللهّ وإياكم‏.‏
رحمه الله‏:‏ حمد الله وأثنى عليه وصلى عَلَى نبيّه ثم قال‏:‏ أيها الناس استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً اللهم إني استغفرك وأتوب إليك‏.‏
اللهم إنا نتقرب إليك بعمّ نبيّك وبقيّة آبائه وكِبار رجاله فإنك تقول وقولُك الحق‏:‏ وأمّا الْجدَارُ فكانَ لغُلامينْ يَتِيميْن في المدينة وكانَ تَحْته كَنْز لهما وكان أَبُوهما صالحاً‏.‏
فحفظتَهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيّك في عَمّه‏.‏
اللهم أغفر لنا إنك كنت غفاراً‏.‏
اللهم أنت الرّاعي لا تُهمل الضالّة ولا تدع الكَسيرة بمَضْيعة‏.‏
اللهم قد ضَرع الصغير وَرَقّ الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السرّ وأخْفى‏.‏
اللهم أغِثْهم بغِياثك قبل أن يَقْنطوا فَيَهْلِكوا فإنه لا ييأس من رَوْحٍ اللهّ إلا القومُ الكافرون‏.‏
فما برحوا حتى علَّقوا الحِذاء وقَلّصوا المآزر وطَفِق الناس بالعبّاس يقولون‏:‏ هنيئاً لك يا ساقي الْحِرمين‏.‏
خطب إذ ولي الخلافة صَعد المِنْبَر فحَمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يأيها الناس إني داعٍ فأمِّنوا‏.‏
اللهم إني غَليظ فَلَينِّي لأهل طاعتك بموافقة الحقّ ابتغاء وجهك والدار الآخرة و ارزقْني الغِلْظة والشدّة على أعدائك وأهل الدَّعارة والنِّفاق من غير ظُلم منّي لهمِ ولا اعتداء عليهم‏.‏
اللهم إني شحيح فسَخِّني في نوائب المَعروف قَصْداً من غير سرف ولا تَبْذير ولا رياء ولا سُمعة واجعلني ابتغي بذلك وَجْهَك والدارَ الآخرًة‏.‏
الَّلهم ارزقني خَفْض الْجَناح وَلين الجانب للمُؤمنين‏.‏
اللهم إني كثيرُ الغَفْلة والنِّسيان فألْهمني ذِكرْك على كلّ حال وذِكرْ الموت في كلّ حين‏.‏
اللهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشّاط فيها والقًوّة عليها بالنيّة الحسنة التي لا تكون إلا بعزّتك وتَوْفيقك‏.‏
اللهم ثَبِّتني باليقين والبرّ والتَّقوى وذِكْر المَقام بين يديك والْحَياء منك وأرزقني الخُشوع فيما يُرْضيك عني والمُحاسبة لنفسي وصلاح النِّيات والحَذر من الشّبهات اللهم ارزقني التفكّر والتدبّر لما يتلوه لِساني من كتابك والفَهْم له والمَعرفة بمَعانيه والنّظر في عجائبه والعملَ بذلك ما بقيتُ إنك على كلّ شيء قدير‏.‏
وكان آخرً كلام أبي بكر الذي إذا تكلَّم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته‏:‏ اللهم اجعل خيرَ زماني آخرًه وخيرَ عملي خواتمَه وخيرَ أيامي يومَ ألقاك‏.‏
وكان آخرً كلام عمر الذي إذا تكلم به عُرف أنه فَرغ من خُطبته‏:‏ اللهم لا تَدعني في غَمرة ولا تأخذني على غِرِّة ولا تَجْعلني من الغافلين‏.‏
خطبة لعثمان بن عفان رضي اللّه عنه ولما وَلي عثمانُ بن عفّان قام خطيباً فحمِد اللهّ وأثنى عليه وتَشهَّد ثم أُرتج عليه فقال‏.‏
أيها الناس إنَّ أوّل كلّ مَركب صَعْب هانْ أعِش فستأتيكم الخُطب عَلَى وَجهها وسيجعل اللهّ بعد عُسر يُسراَ‏.‏
خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه أوّل خُطبة خَطبها بالمدينة فحَمِد الله وأَثنى عليه وصلى على نبيّه عليه الصلاةُ والسلام ثم قال‏:‏ أيها الناس كتابَ اللّه وسُنّةَ نبيّكم صلى الله عليه وسلم أما بعد فلا يَدَعينّ مُدّعٍ إلا على نفسه شُغِل مَن الجنّة والنار أمامَه‏.‏
ساعٍ نجا وطالبٌ يرجو ومقمر في النار ثلاثة واثنان‏:‏ مَلَك طار بجناحيه ونبيّ أخذ اللّه بيديه لا سادس‏.‏
هلك مَن اقتحم وَرَدِي مَن هوى اليمينُ والشِّمال مَضَلَّة والوًسطى الجادّة‏.‏
مَنهج عليه أم الكتاب والسنّة وآثارُ النبوّة‏.‏
إنَّ اللّه داوَى هذه الأمة بدواءين‏:‏ السَّوط والسيف لا هَوادة عند الإمام فيهما‏.‏
استتروا ببيوتكم واصْلِحوا فيما بينكم فالموتً من ورائكم‏.‏
مَن أَبدى صَفحته للحقّ هَلَك‏.‏
قد كانت أمورٌ لم تكونوا فيها مَحمودين‏.‏
أما إني لو أشاء أن أقول لقُلت‏.‏
عفا اللّه عما سَلف‏.‏
سَبق الرجلاًن ونام الثالث كالغُراب همته بَطنه وَيْله‏!‏ لو قُصّ جناحاه وقُطع رأْسه لكان خيراً له‏.‏
انظروا فإن أنكرتم فانكروا وإن عَرفتم فاعرفوا‏.‏
حقّ وباطل ولكُلّ أهل ولئن كَثر الباطل لقديماً فعل ولئن قَلَّ الحق لرَّبما ولعلّ ولقلما أدبر شيء فاقبل ولئن رجعتْ إليكم أُموركم إنكم لسعداء وإني لأخشى أن تكونوا في فَتر وما علينا إلا الاجتيهاد‏.‏
ورَوى فيها جعفَر بن محمد رضوان الله عليه‏:‏ ألا إن الأبرار عِتْرتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغِاراً وأعلم الناس كباراً‏.‏
ألا وإنا أهلَ البيت مَن عِلْم الله عِلْمُنا وبحُكم اللّه حُكمُنا ومِن قَول صادقٍ سمعنا فإن تَتبعوا آثارنا تهتدوا ببصَائرنا‏.‏
معنا رايةُ الحق من يَتبعها لَحِق ومن تأخر عنها غَرِق‏.‏
ألاَ وبنا تُردّ تِرَة كل مؤمن وبنا تُخلع رِبقْة الذل من أعناقكم وبنا فُتح الأمر وبنا يُختم‏.‏
وخطبة له أيضاً حَمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أوصيكم عبادَ اللّه ونَفسي بتَقْوى اللّه ولُزوم طاعته وتقديم العَمَل وتَرْك الأمَل فإنه من فَرّط في عمله لمْ يَنْتفع بِشيء من أمله‏.‏
أين التَّعِب بالليل والنهار واْلمقتحم لِلُجج البحارِ ومَفاوِز القِفار يَسير من ورِاء الجبال وعالج الرمال يَصل الغُدُوّ بالرَّواح والمَساء بالصَّباحِ في طلب مُحقَرات الأرباحِ هَجَمتْ عليه منيّته فعظُمت بنفسه رَزِيته فصار ما جَمع بُوراً وما اكتسب غروراً ووافَى القيامةَ مَحْسوراً‏.‏
أيها اللاهي الغازُ نفسه كأنِّي بك وقد أتاك رسولُ ربك لا يَقْرع لك باباً ولا يَهاب لك حِجاباً ولا يَقْبل منك بَدِيلًا ولا يأخذ منك كَفِيلاً ولا يرْحم لك صغيراً ولا يُوقّر فيك كبيراً حتى يُؤدِّيك إلى قَعْر مُظلمة أرجاؤُها مُوحشة كفِعْله بالأمم الخالية والقُرون الماضية‏.‏
أين مَن سعى واجتهد وجَمع وعدّد وبَنَى وشَيّد وزَخرف ونَجّد وبالقليل لم يَقْنع وبِالكثير لم يُمتَّع أين مَن قاد الجنود ونَشر البُنود أضحَوْا رُفاتاً تحت الثرى أمواتاً وأنتم بكأسهم شاربون ولسبيلهم سالكون‏.‏
عبادَ اللّه فاتّقوا اللّه ورَاقبوه واعملوِا لِلْيوم الذي تُسيَر فيه الجبال وتَشقّق السماء بالغَمام وتَطايَرُ الكُتب عن الأيمان والشمائل‏.‏
فأيّ رَجُل يومئذ تُراك أقائل‏:‏ هاؤم اقَرءوا كتابيه أم‏:‏ يا ليتني لم أوت كتابيَه نسأل مَن وَعَدَنا بإقامة الشرائع جَنَّته أن يَقينا سُخْطه‏.‏
إنّ أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه تَنْزِيل من حَكِيم حَمِيد‏.‏
الحمدُ للّه الذي اسْتَخْلص الحمدَ لنفسه واستوجبه على جَميع خَلْقه الذي ناصيةُ كُلّ شيء بيده ومَصير كُلّ شيء إليه القَوي في سُلطانه اللَطيف في جَبَروته لا مانعَ لما أعطى ولا مُعْطِي لما مَنع خالق الخلائقِ بقًدْرته ومسخَرهم بَمشِيئته وَفي العهد صادق الوَعْد شديد العِقاب جزيل الثَواب‏.‏
أحمده وأستعينه على ما أنعَم به مما لا يَعرف كنْهَه غيرُه وأتوكَل عليه توكّل المسْتسلم لقُدرته المُتبري من الحَوْل والقُوةِ إلا إليه وأشهد شهادةً لا يَشُويها شك أنه لا إله إلا هو وحدَه لا لشريك له إلهاً واحداً صَمَداً لم يَتَخذ صاحبةً ولا ولَداً ولم يكن له شريك في المُلك ولم يكن له وليّ من الذُّل وكَبِّره تَكْبيراً وهو على كل شيء قدير‏.‏
قَطع ادعاء المُدعي بقوله عزّ وجلّ‏:‏ وما خَلَقْتُ الجنِّ والإنْس إلاّ لِيَعبدون‏.‏
وأشهدُ أن صلى الله عليه وسلم صفوتُه من خَلْقه وأمينُه على وَحْيَه أرسله بالمَعْروف أمِراً وعن المُنكر ناهياً وإلى الحقّ داعياً على حين فَتْرة من الرُّسل وضَلالة من الناس واختلاف من الأمور وتَنازُع من الألسن حتى تَمّم به الوَحْي وانْذر به أهلَ الأرض‏.‏
أوصيكم عبادَ اللّه بتَقْوى اللّه فإنها العِصْمةُ من كلّ ضَلال والسّبِيلُ إلى كل نَجاة فكأنكم بالجُثث قد زايَلَتْها أرواحُها وتَضمَّنتها أجداثُها فلن يَسْتقبِلَ معمَّر منكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أَجَله وإنما دُنياكم كَفْيء الظِّل أو زاد الراكب‏.‏
وأحذِّركم دُعاء العَزيز الجبّار عبدَه يوم تعفَّى آثارُه وتًوحِشُ منه دِيارُه ويُوتَم صِغارُه ثم يصير إلى حَفِير من الأرض مُتعفِّراً خَدُّه غيرَ مُوسَد ولا مُمهّد‏.‏
أسأل الذي وَعدنا على طاعته جَنْته أن يَقينا سُخْطه ويجنِّبنا نِقْمته ويهَب لنا رَحْمته إنَ وأبلغ الحديثِ كتابً اللّه‏.‏
وخطبة له رضي اللّه عني أما بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا وإن المضمار اليوم والسِّباق غداً‏.‏
ألا وِإنكم في أيام أمل ومِن ورائه أجل فمن أخْلَص في أيام أمله قبل حُضور أجله نفعه عملُه ولم يَضره أملُه ومن قَصر في أيام أمله قبل حُضور أجله فقد خَسِر عملُه وضَجره أمله‏.‏
ألا فاعملوا اللّه في الرغْبة كما تَعملون له في الرَّهبة‏.‏
ألا وإني لم أر كالجنَة نام طالبها ولم أر كالنَار نام هاربها‏.‏
ألا وإنكم قد أمِرْتم بالظَّعْن ودُللتم على الزّاد وإن أخوفَ ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطولُ الأمل‏.‏
وخطبة له أيضاً قالوا‏:‏ ولما أغار سُفيان بن عَوف الأسديّ على الأنبار في خلافة في رضي اللّه عنه وعليها حَسّان البكْري فَقَتله وأزال تلك الخَيْل عن مَسارحها فَخرج عليّ رضي الله عنه حتى جَلس على باب السدّة فَحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجَنًة فمن تَركه ألبسه‏.‏
الله ثوبَ الذُّل وأشْمله البَلاء والزمه الصغار وسامَه الخَسْف ومَنعه النِّصْف‏.‏
ألا وإني دعوتُكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاَ ونهاراً وسراً وإعلاناً وقُلت لكُم‏:‏ اغزُوهم قبلَ أن يَغزوكم فوللّه ما غُزى قومٌ قط في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا‏.‏
فتواكلتم وتخاذلتم وثَقُل عليكم قَوْلي فاتخدتُموه وراءَكم ظِهْريّاً حتى شنّت عليكم الغارات‏.‏
هذا أخو غامِد قد بلغت خيلُه الأنبار وقَتل حَسّان البَكْريّ وأزال خَيْلَكم عن مَسارحها وقَتل منكم رجالاَ صالحين‏.‏
ولقد بَلغني أنّ الرجل منهم كان يَدْخل على المَرأة المُسلمة والأخرى المُعاهَدَة فَينْزعِ حِجْلها وقُلْبها ورِعاثَها ثمٍ انصرفوا وافرِين ما كُلِم رجلٌ منهم‏.‏
فلو أنّ رجلاً مُسْلماً ماتَ من بعد هذا أسَفا ما كان عندي مَلُوماً بل كان عندي جدِيراً‏.‏
فواعجبا مِن جِد هؤلاء في باطلهم وفَشَلكم عن حَقّكم‏!‏ فقُبحاً لكم وَتَرَحاً‏!‏ حين صرتم غرضاً يُرمي يغار عليكم ولا تُغيرون تُغزَوْن ولا تَغْزُون ويُعمى اللّهُ وتَرْضون‏!‏ فإذا أمرتكم بالمَسير إليهم في أيام الحَرّ قُلتم‏:‏ حَمارة القَيْظ أَمهلنا حتى ينْسلخ عنَّا الحر وإذا أمرتُكم بالمسير إليهم ضُحى في الشّتاء قلتم‏:‏ أمْهلنا حتى يَنسلخ عنا هذا القر‏.‏
كُلّ هذا فِراراً من الحَر والقر فختم واللّه من السِّيف أفرّ‏.‏
يا أشباهَ الرِّجال ولا رِجال‏!‏ ويا أحلام أطفال وعُقولَ ربّات الحِجَال‏!‏ وَدِدْتُ أن اللّه أخرجنيِ من بين أظْهُركم وقَبضني إلى رَحْمته مِن بينكم وأني لم أركم ولِم أعرفكمٍ معرفةٌ واللّه جَرّت وَهْنا وورّيتم والله صَدْري غَيْظاً وجَرّعْتموني الموت أنفاسا وأفسدتُم علّي رأي بالعِصْيان والخِذْلان حتى قالت قريش‏:‏ إن ابن أبي طالب شُجاعٍ ولكنْ لا عِلْم له بالحَرب للّه أبوهم‏!‏ وهَلْ منهم أحد أشدً لها مِرَاساً وأطولُ تجربة منّي‏!‏ لقد مارستُها وأنا ابنُ عِشْرين فها أنذا الآنَ بد نَيَّفت على الستين ولكنْ لا رأيَ لمن لا يُطاع‏.‏
وخطبة له رضي اللّه عنه قام فيهم فقال‏:‏ أيها الناس المجتمعة أبدانهم المُختلفة أهواؤهم كلامُكم يوهِي الصُم الصِّلاَب وَفِعْلكم يُطْمع فيكم عدوَكم تقولون في المجالس كَيْت وكَيْت فإذا جاء القِتال‏!‏ قلتم حِيدِي حَيَادِ‏.‏
ما عَزًت دعوةُ مَن دعاكم ولا استراح قلبُ من قاساكم أعاليل بأباطيل‏.‏
وسألتُموني التأخير دِفاع ذي الذَين المَطول‏.‏
هيهات‏!‏ لا يدفع الضَّيمَ الذَّليلُ ولا يُدْرَك الحقُّ إلا بالجِدّ‏.‏
أيّ دار بعد داركم تَمَنعون أم مع أَيّ إمام بَعدي تُقاتِلون المَغْرور واللّه من غَرر تموه ومَن فاز بكم فاز بالسَّهم الأَخْيَب‏.‏
أصبحتُ والله لا أصدِّق قولَكم ولا أطمع في نُصْرَتكم فرق اللّه بيني وَبَينكم وأعقبني بكم مَن هو خير لي منكم‏.‏
وَدِدْت واللّه إن لي بكلّ عشرة منكم رجلاً من بني فِرَاس ابن غَنْم صَرْفَ الدِّينار بالدِّرهم‏.‏
فأقبلوا إليه مِع ابنه الحَسن رضي اللّه عنه فقام فيهم خَطيباً فقال‏:‏ الحَمد للّه ربِّ العالمين وصلّى اللّه على سيّدنا محمد خاتَم النبيين وآخرً المُرسلين‏.‏
أما بعد فإنَّ اللّه بعث محمداً عليه الصلاةً والسلام إلى الثّقَلين كافَّة والناسُ في اختلاف والعرب بشرَّ المَنازل مُستضعفون لما بهم بعضهم على بعض فرَأب اللّه به الثَّأي ولأمَ به الصَّدْع ورَتَق به الفَتق وأمن به السبُل وحَقَن به الدِّماء وقَطع به العداوةَ الواغرة للقُلوب والضَغائن المُخَشِّنة للصُّدور ثم قَبضه اللّه عز وجلّ مَشكوراً سَعْيُه مَرْضيّاً عملُه مَغْفوراً ذَنْبه كريماً عند ربه‏.‏
فيا لها مصيبةً عَفت المسلمين وخَضَت الأقرَبين‏!‏ ووَليَ أبو بكر فسار بسِيرة رَضِيها المسلمون ثم وَلِيَ عمر فسار بِسيرة أبي بكر رضير اللَه عنهما ثمَّ وَليَ عثمان فَنال منكم وَنلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان اتيتموه فقَتَلتموه ثَم أتيتموني فقلتم لي‏:‏ بايِعْنا فقلتُ لكم‏:‏ لا أفعل وقَبضت يدي فَبسطتموها ونازعتم كَفِّي فَجَذبتموها وقلتم‏:‏ لا نَرْضى إلاّ بك ولا نَجتمع إلاٌ عليك وتَدَاكَكْتم علي تَدَاكُك الإبل الهِيم على حِياضها يوم وِرْدها حتى ظننتُ أنكم قاتلِي وأنَ بعضَكم قاتلُ بعض فبايعتُموني وبايعني طلحَة والزُّبَير ثم ما لَبِثَا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البَصرة فقَتَلا بها المسلمين وفَعلا الأفاعيل وهما يَعْلمان واللّه أني لستَ بدون واحد ممن مَضى ولو أشاء أن أقول لقُلت‏:‏ اللّهم إنهما قَطَعا قَرَابتي ونَكثا بَيْعتي وألَّبا عليَّ عدوِّي‏.‏
اللّهم فلا تُحْكِم لهما ما مما حفظ عنه بالكوفة على المنبر قال نافع بن كُليب‏:‏ دخلتُ الكوفة للتّسليم على أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه فإنّي لجالس تحت منبره وعليه عِمامةٌ سوداء وهو يقول‏:‏ انظروا هذه الحكومة فمن دَعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عِمامتي هذه‏.‏
فقال له عديُّ بن حاتم‏:‏ قلتَ لنا أمس‏:‏ من أبى عنها فاقتلوه وتقول لنا اليوم‏:‏ مَن دعا إليها فاقتلوِه واللّه ما نَدْري ما نَصْنع بك‏!‏ وقام إليه رجل أحْدب من أهْل العراق فقال‏:‏ أمرت بها أمسي وتنهى عنها اليومَ‏!‏ فأنت كما قال الأول‏:‏ أكلكَ وأنا اعلم ما أنت‏.‏
فقال عليّ‏:‏ إلِي يُقال هذا أصبَحتُ أذْكُر أرحاماً واصِرةً بُدِّلت منها هُوِيَّ الريح بالقَصَب أمَا واللِّه لو إني حين أمرتكم بما أمرتكم به ونَهيتكم عمَّا نهيتكم عنه حَملَتُكم على المَكروه الذي جعل اللّه عاقبتَه خيراً إذا كان فيه لكانت الوُثَقى التي لا تُفْصم وِلكن مَتى وإلى مَتى أداويكم إني واللّه بكم كناقِش الشوكة بالشوكة‏!‏ يا لَيت لي بعض قومي وليت لي من بَعْدُ خيرَ قومي‏.‏
اللّهم إنَّ دِجلة والفرات نهران أعجمان أصمِّان أبكمان اللهم سَلِّط عليهما بَحْرَك وانزع منهما بَصرك وَيْ للنَزعة بأشْطان الرِّكي دُعوا إلى الإسلام فقَبلوه وقرءوا القرآن فاحْسنوه ونَطقوا بالشَعرِ فأحْكموه وهُيِّجوا إلى الجهاد فَوَلَوْا اللَقاح أولادَها وسَلَبوا الضيوف أغمادَها ضَرْباً ضَرْبَاً وزَحْفاً زَحْفاً لا يَتباشرون بالحياة ولا يُعَزَّون على القتلى‏:‏ أولئك إخوانيَ الذّاهبون فَحَق البكاءُ لهم أن يَطِيبَا رُزِئتُ حَبِيباً على فاقةٍ وفارقتُ بعد حَبيبٍ حَبيبَا ثم نزل تَدْمع عيناه‏.‏
فقلت‏:‏ إنَّا لله وإنَا إليه راجعون على ما صِرْتَ إليه‏!‏ فقال‏:‏ نعم إنا للّه وإنا إليه راجعون‏!‏ أقوِّمهم والله غُدْوَة ويَرْجعون إليَ عشيةً مثل ظَهْر الحيَّة حتَّى متى وإلى متى حَسْبي اللّه ونعم الوكيل‏!‏ خطبة الغراء رضي الله عنه‏:‏ الحمد للهّ الأحد الصَّمد الوِاحد المُنفرد الذي لا مِن شيء كان ولا مِن شيء خُلق إلا وهو خاضع له قُدْرة بان بها من الأشياء وبَانت الأشياء منه فلست له صفة تّنال ولا حَدّ يُضرب له فيه الأمثال كلِّ دون صِفته تَحْبير اللّغات وضَلَّت هناك تَصاريف الصِّفات وحارت دونَ مَلكوته مذاهبُ التَّفْكير وانقطعت دون عِلْمه جوامعُ التَّفْسير وحالت دونَ غَيْبه حُجبٌ تاهت في أَدْنىَ دُنوّها طامحات العُقول‏.‏
فتَبَارك الله الذي لا يَبْلغه بُعْدُ الهِمَم ولا يَناله غَوْصُ الفِطن وتَعالى الذي ليس له نَعْت مَوْجود ولا وَقْتٌ مَحدود‏.‏
وسُبحان الذي ليس له أوَلُ مُبتدأ ولا غايةُ مُنْتهى ولا آخِرٌ يَفْنى وهو سُبحانه كما وَصف نفسه والواصفون لا يَبْلغونَ نعْته أحاط بالأشياء كُلِّها عِلْمُه وأتْقنها صُنْعه وذلّلها أمرُه وأحصاها حِفْظُه فلا يَغْرُب عنه غُيوب الهَوى ولا مَكنون ظُلَم الدُّجى ولا ما في السموات العُلى إلى الأرض السابعة السُّفلى فهو لكلّ شيء منها حافظ وَرَقيب أحاط بها‏.‏
الأحد الصَّمد الذي لم تُغيره صُروف الأزمان ولم يَتكاءده صُنْع شيِء منها كان‏.‏
قال لِما شاء أن يكون كُنْ فكان ابتدع ما خَلق بلا مثال سَبق ولا تعب ولا نَصَب وكلُّ عالم من بعد جهْلِ تَعلَّم والله لم يَجهل ولم يَتعلَّم أحاط بالأشياء كلِّها عِلماً ولم يَزْدَد بتجربتها خُبراً عِلْمه بها قبل كَوْنها كِعلْمه بها بعد تكوينها لم يُكَوَنها لتَسْديد سُلطان ولا خَوْفٍ من زوال ولا نُقصان ولا استعانة على ضد مُناوئ ولا نِذ مُكاثر ولكنْ خلائق مَرْبوبون وعِباد داخرون‏.‏
فسُبحان الذي لم يؤده خَلْقُ ما ابتدأ ولا تَدْبير ما بَرأ خَلَق ما عَلِم وعِلم ما أراد ولا يتفكّر على حادث أصاب ولا شُبهة دَخلت عليه فيما شاء لكنْ قضاء مُتقن وعِلْم مُحْكم وأمر مُبْرَم‏.‏
توحّد فيه بالربوبية وخَص نفسه بالوَحْدانية فلَبِسَ العز والكِبرياء واستخلص المَجد والسناء واستكمل الحَمْد والثناء فانفرد بالتَوحيد وتوحّد بالتمجيد فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء وتَطَهّر وتقدّس عن مُلامسة النساء فليس له فيما خَلق نِدّ ولا فيما ملك ضِدّ هو اللّه الواحد الصَّمد الوارثُ للأبد الذي لا يَبيد ولا يَنْفد مَلَك السمواتِ العُلى والَأرَضين السُّفلى ثم دَنَا فَعَلاً وعَلا فَدَنَاً له المَثَل الأعلى والأسماء الحُسنى والحمدُ للّه ربّ العالمين‏.‏
ثم إنّ اللهّ تبارك وتَعالى سُبحانه وبحَمْدِه خَلَقَ الخلق بِعلمه ثم اختار منهم صَفْوَته لنفسه واختار من خيَار صَفْوَته أُمناء على وَحْيه وخَزنة له على أَمره إليهم تَنْتهي رسالتُه وعليهم يَنزل وَحْيه جعلهم أَصْفِياء مُصْطَفين أَنبياء مَهديِّين نُجباء‏.‏
استودعهم وأقرَّهم في خير مُستقر تَناسختهم أكارمُ الأصلاب إلى مطهّرات الأمّهات كلّما مضى منهم سَلف انبعث لأمره منهم خَلف حتى انتهت نُبوَّة اللّه وأَفضت كرامتُه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجه من أَفضل المَعادن مَحْتِداً وأَكرم المَغارس منبتاً وأمنعها ذِرْوة وأَعزّها أَرُومة وأَوْصلها مَكْرمة من الشجرة التي صاغ منها أمناء وانتخب منها أنبياء شجرة طيِّبة العُود مُعتدلة العَمود باسقة الفُروع مُخضَرّة الأصول والغصون يانعة الثِّمار كريمة المُجْتنى في كرم نَبتت وفيه بَسقت وأَثْمرت وعزت فامتنعت حتى أكرمه اللّه بالروح الأمين والنُّور المبين فختم به النّبيين وأتمّ به عِدْة المُرسلين خليفتُه على عباده وأمِينُه في بلاده زَيّنه بالتَّقوى واثار الذِّكرى وهو إمام مَن اتقى ونَصْر من اهتدى سراجٌ لمع ضَوؤه وزَنْد بَرقَ لمعه وشِهابٌ سطع نُوره‏.‏
فاستضاءت به العِباد واستنارت بهِ البلاد وطَوى به الأحساب وأزجى به السّحاب وسَخّر له البُراق حتى صافحته المَلائكة وأَذعنت له الأبالسة وهَدم به أصنام الآلهة‏.‏
سِيرتُه القَصْد وسُنته الرشد وكلامه فَصْل وحُكمه عَدْل‏.‏
فَصدع صلى الله عليه وسلم بما أمره به حتى أفصح بالتّوحيد دعوتَه وأظهر في خَلْقه‏:‏ لا إله إلا الله حتى أُذعن له بالرُبوبية وأُقرّ له بالعُبودية والوَحدانية‏.‏
اللهم فخُص محمداً صلى الله عليه وسلم بالذِّكر المحمود والحَوض المَوْرود‏.‏
اللَّهم آتِ محمِداً الوَسيلة والرفعة والفَضيلة واجعل في المُصطَفين مَحِلَته وفي الأعلين درجتَه وشرِّف بُنيانه وعَظَم بُرهانه واسقنا بكأسه وأوْرِدنا حَوضَه وأحشُرنا في زُمرته غيرَ خَزايا ولا ناكِثين ولا شاكَين ولا مُرتابين ولا ضالين ولا مَفتونين ولا فبذَلين ولا حائدين ولا مضلين‏.‏
اللهم أعط محمداً من كل كرامة أفضلَها ومن كُل نعيم أكملَه ومن كل عَطاء أجزلَه ومن كل قَسْم أَتمًه حتى لا يكون أحد من خَلقك أقربَ منك مَكاناً ولا أحظَى عندك منزلة ولا أدنى إليك وسيلة ولا أعظم عليك حقّاً ولا شَفاعة من محمد واجمع بيننا وبينه في ظِلّ العيش وبَرد الرَّوح وقُرة الأعين ونضرة السُّرور وبهجة النعيم فإنا نشهد أنه قد بلّغ الرِّسالة وأدّى الأمانة والنَّصيحة واجتهد للأمّة وجاهد في سَبيلك وأُوذي في جَنبك ولم يَخف لَومة لائم في دِينك وعَبدك حتى أتاه اليقين‏.‏
إمام المُتقين وسيّد المُرسلين وتَمام النبيين وخاتَم المُرسلين ورسولُ ربّ العالمين‏.‏
اللّهمِ‏.‏
ربَّ البيت الحرام ورب البلد الحرام وربَّ الركن والمَقام ورب المَشْعر الحرام بَلغ محمداً منّا السلام‏.‏
اللَّهم صلِّ على ملائكتك المُقربين وعلى أنبيائك المُرسلين وعلى الحَفظة الكرام الكاتبين وصلّى اللّه عليه أهل السموات وأهل الأرضين من المُؤمنين‏.‏
خطبة الزهراء الحمد اللهّ الذي هو أوّل كُلّ شيء وبَدِيّه ومُنتهى كل شيء ووليّه وكُلّ شيء خاشعٌ له وكلّ شيء قائم به وكلّ شيء ضارعٌ إليه وكل شيء مُستكين له‏.‏
خَشعت له الأصوات وكَلت دونه الصِّفات وضَلت دونه الأوهام وحارت دونه الأحلام وانحسرت دونه الأبصار‏.‏
لا يَقْضي في الأمور غيرُه ولا يَتمّ شيء منها دونه سُبحانه ما أجلَ شَأنَه وأعظمَ سُلْطانه‏!‏ تُسبِّح له السمواتُ العُلَى ومَن في الأرض السفلى له التَّسبِيح والعَظَمة والمُلك والقُدْرة والحَوْل والقوَّة يَقْضي بِعْلم ويَعْفو بحِلْم قُوُة كل ضعيف ومَفْزع كلّ مَلْهُوف وعِزّ كل ذليل ووليُ كل نِعْمة وصاحبُ كلّ حَسَنة وكاشفُ كل كُربة المًطلع على كل خَفِيَّة المُحْصي لكل سَرِيرة يَعلم ما تُكن الصُدور وما تُرْخَى عليه الستور الرًحيم بخَلقه الرَّؤوف بعباده مَن تكلّم منهم سَمع كلامَه ومَن سكت منهم علِمَ ما في نفسه ومَن عاش منهم فعليه رِزْقُه ومَن مات منهم فإليه مَصيره أحاط بكل شيء عِلْمُه وأَحْصىَ كل شيء حِفْظُه‏.‏
اللهم لك الحمد عَدَد ما تُحيي وتميت وعَدَد أنفاس خَلْقك ولَفْظهم ولحَظ أبصارهم وعَدد ما تَجري به الريحُ وتَحمله السحاب ويختلف به الليلُ والنهار ويسير به الشمسُ والقمر والنجومُ حمداً لا يَنْقضي عَدده ولا يَفني أَمدُه‏.‏
اللهم أنت قبلَ كل شيء وإليك مصير كل شيء وتكون بعد هلاك كل شيء وتَبقى ويَفنى كل شيَء وأنت وارث كل شيء أحاط عِلْمك بكل شيء وليس يُعجزك شيء ولا يَتوارى عنك شيء ولا يَقْدر أحدٌ قُدْرتك ولا يَشْكرك أحذ حقّ شُكرك ولا تَهتدي العُقول لصِفَتك ولا تَبْلغ الأوهام حَدَّك‏.‏
حارت الأبصار دون النَظر إليك فلم تَرك عينٌ فتُخْبر َعنك كيف أنت وكيف كُنت لا نَعلم اللهم كيف عَظمتُك غير أنّا نعلم أنك حيَّ قيّوم تأخذك سِنة ولا نَوْم لم يَنْته إليك نَظر ولم يُدركك بَصر ولا يقدر قُدرتَك مَلَك ولا بَشر أدركت الأبصار وكَتبت الآجال وأحْصَيت الأعمال وأخذت بالنَواصي والأقدام لم تَخْلُق الخلق لحاجة ولا لوَحْشة ملأت كل شيء عَظمةً فلا يُردّ ما أردت ولا يُعطى ما مَنعت ولا يَنْقصِ سُلطانك مَن عصاك ولا يَزيد في مُلْكك مَن أطاعك‏.‏
كل سرّ عندك عِلْمُهُ وكلّ غيب عندك شاهدُه فلم يستتر عنك شيء ولم يَشْغلك شيء عن شيء وقُدْرتك على مَا تَقْضي كقُدرتك على ما قَضيت وقدرتك على القويّ كقُدرتك على الضَّعيف وقُدرتك على الأحياء كقُدرتك على الأموات‏.‏
فإليك المُنتهى وأنت المَوْعد لا منجى إلا إليك بيدك ناصيةُ كل دابة وبإذنك تَسْقط كلّ ورقة لا يَعْزْبُ عنك مثقالُ ذَرّة أنت الحي القيومُ‏.‏
سبحانك‏!‏ ما أعظم ما يُرى من خَلقك‏!‏ وما أعظم ما يُرى من ملكوتك‏!‏ وما أقلًهما فيما غاب عنّا منه‏!‏ وما أسبغ نعمتَك في الدُنيا وأحقرها في نَعيم الآخرًة‏!‏ وما أشد عقوبتَك في الدُّنيا وما أيسرها في عُقوبة الآخرًة‏!‏ وما الذي نَرى من خَلْقك ونَعْتبر من قُدرتك ونَصِف من سُلطانك فيما يَغيب عنَّا منه مما قَصرُت أبصارُنا عنه وكَلت عقولنا دونه وحالت الغُيوب بيننا وبينه‏!‏ فمَن قَرع سنَّه وأعمل فِكْره‏:‏ كيف أقمتَ عرْشك وكيف ذَرأت خلقك وكيف عَلَّقت في الهواء سَمواتِك وكيف مَددت أرضك يَرجع طرفُه حاسراً وعقْله مَبهوراً وسَمعُه والها وفِكره متحيراً‏.‏
فكيف يطلْب عِلْم ما قَبْل ذلك مِن شأنك إذ أنت وحدك في الغُيوب التي لم يكن فيها غيرُك ولم يكن لها سواك لا أحد شَهِدك حين فطرت الخَلق ولا أحدَ حَضرك حينَ ذرأت النُفوس فكيف لا يَعْظم شأنُك عند مَن عرفك وهو يرى مِن خلقك ما تَرتاع به عقولُهم ويملأ قلوبهم من رَعْد تَفزع له القُلوِب وبَرْق يَخْطِف الأبصار وملائكةً خَلقتَهم وأسكنتهم سمواتِك وليست فيهم فتْرة ولا عَندهم غَفْلة ولا بهم مَعْصية‏.‏
هم أعلم خَلقك بك وأخوفهم لك وأقومُهم بطاعتك ليس يَغشاهم نوم العُيون ولا سَهْو العقود لم يَسْكنُوا الأصلاب ولم تضمهم الأرحام أنشأتَهم إنشاء وأسكنتهم سمواتِك وأكرمتهم بجوارك وائتمنتهبم على وَحْيك وَجنَبتهم الأفات ووَقَيتهم السيآت وطَهّرتهم من الذنوب فلولا تقويتك لم يَقْوَوِا ولولا تَثْبيتك لم يَثْبتوا ولولا رَهْبتك لم يطيعوا ولولاك لم يكونوا‏.‏
أمّا إنهم على مكانتهم منك ومنزلتهم عندك وطُول طاعتهم إياك لو يُعاينون ما يَخفىِ عليهمٍ لاحتقروا أعمالهم ولعلموا أنهم لم يَعْبدوك حقَّ عبادتك‏.‏
فسُبحانك حالقاً ومعبوداً ومَحموداً بحُسن بلائك عند خَلقك‏!‏ أنت خلقت ما دبَّرته مَطْعماً ومَشرباً ثم أرسلت داعياً إلينا فلا الدَّاعي أَجبنا ولا فيما رَغّبْتنا فيه رغِبنا ولا إلى ما شوَّقتنا إليه اشتقنا‏.‏
أقبلنا كُلنا على جِيفة نأكل منها ولا نَشبع وقد زاد بعضُنا على بعض حرصاً لما يرى بعضُنا من بعض فافتضحنا بأكلها واصطلحنا على حُبها فأعمت أبصارَ صُلاَّحنا وفُقهائنا فهم ينظرون بأعين غير صحيحة ويسمعون بآذان غير سَميعة فحيثما زالت زالوا معها وحيثما مالت أقبلوا إليها وقد عاينوا المأخوذين على الغِرّة كيف فجأتهم الأمور ونزل بهم المحذور وجاءهم من فراق الأحبّة ما كانوا يتوقعون وقَدموا من الآخرًة إلى ما كانوا يُوعدون‏.‏
فارقوا الدُّنيا وصاروا إلى القُبور وعَرفوا ما كانوا فيه من الغُرور فاجتمعت عليه حَسْرتان حَسْرة الفَوت وحَسْرة الموت فاغبرت لها وُجوههم وتَغيّرت بها ألوانهم وعَرِقت بها جباهُهم وشَخَصت أبصارهم وبَردت أطرافُهم وحِيل بينهم وبين المنطق وإنّ أحدَهمِ لَبينْ أهله يَنْظر ببصره ويسمع بأُذنه‏.‏
ثم زاد الموتُ في جسده حتى خالط بَصره فذهبت من الدنيا مَعرفته وهَلكت عند ذلك حُجته وعاين هولَ أمر كان مُغطَىً عليه فأحدّ لذلك بَصره‏.‏
ثم زاد الموتُ في جَسده حتىِ بلغت نَفسه الحُلقوم ثم خَرج روحه من جسده فصار جسداً مُلقى لا يُجيب داعياَ ولا يَسمع باكياً فنزعوا ثيابه وخاتَمه ثم وَضئوه وضوء الصلاة ثم غَسلوه وكَفنوه أدراجاً في أكفانه وحَنَطوه ثم حملوه إلى قبره فدلَوه في حُفرته وتركوه مُخلى بمقطعات من الأمور وتحت مسألة مُنكر ونكير مع ظُلمة وضِيق ووَحشة قبر فذاك مَثواه حتى يَبْلى جسدُه ويَصيرَ تُراباً‏.‏
حتى إذا بلغ الأمر إلى مِقداره وأُلحق آخرً الخَلق بأوله وجاءه أمرٌ من خالقه أراد به تجديد خَلقه فأمر بصوت من سمواته فمارت السمواتُ مَوْراً وفَرخ مَن فيها وبقي ملائكتُها على أرجائها ثم وَصل الأمر إلى الأرضٍ - والخلق رُفات لا يَشْعرون - فأرج أرضَهم وأرجفها وزَلزلها وقَلع جبالَها ونَسفها وسيرها ورَكِبَ بعضُها بعضاً من هَيبته وجلاله وأخرج من فيها فجددهم بعد بلائهم وجَمعهم بعد تفرّقهم يُريد أن يُحصيهم ويُميزهم‏:‏ فريقاً في ثوابه وفريقاً في عِقابه فخَلَد الأمرُلأبده دائماً خيْرُه وشره ثم لم يَنْس الطاعة من المُطيعِين ولا المَعصية من العاصين فأراد عز وجل أن يجازي هؤلاء ويَنتقم من هؤلاء فأثَاب أهل الطاعة بجواره وحُلول داره وعَيْش رَغَد وخُلود أَبَد ومجاورة الرّب ومُوافقة محمد صلى الله عليه وسلم حيث لا ظَعْن ولا تَغيّر وحيث لا تُصيبهم الأحزان ولا تَعْتَرضهم الأخطار ولا تشخِصهم الأسفار‏.‏
وأما أهل المعصية فخلَّدهم في النار وأَوْثق منهم الأقدام وغُلَت منهم الأيدي إلى الأعناق في لَهَب قد اشتد حرّه ونار مُطْبَقة على أهلها لا يدخل عليهم بها رَوْح همهم شديد وعَذابهم يَزيد ولا مُدَّة للدار تَنْقَضي ولا أَجَل للقوم ينتهي‏.‏
اللهم إني أسألك بأن لك الفضل والرحمةَ بيدك فأنت وليّهما لا يليهما أحدٌ غيرك وأسألك باسمك المَخْزون المَكْنون الذي قال به عرْشُك وكرسيّك وسمواتُك وأرضُك وبه ابتدعت خَلْقك الصلاةَ على محمد والنَجاةَ من النار برحمتك آمين إنك وليّ كريم‏.‏
وخطب أيضاًً فقال أيها الناس احفظوا عنّى خمساً فلو شَددتم إليها المَطايا حتى تُنضوها لم تَظفروا بمثلها‏:‏ إلا لا يرجونِّ أحَدُكم إلا ربّه ولا يخَافن إلا ذَنبَه ولا يَسْتَحي أخدُكم إذا لم يعلم أن يتعلم وإذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول‏:‏ لا أعلم أي وإن الخامسةَ الصَبر فإن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد‏.‏
مَن لا صَبْر له لا إيمان له ومَن لا رأسَ له لا جَسد له‏.‏
ولا خير في قراءة إلاَّ بتدبّر ولا في عبادة إلا بتفكر ولا في حِلْم إلا بعلم‏.‏
ألا أنبئكم بالعاِلم كُلِّ العالم مَن لم يُزيَن لعباد اللّه معاصيَ الله ولم يؤمنهم مَكْرَه ولم يُؤْيسهم من رَوْحه‏.‏
ولا تُنْزلوا المُطِيعين الجَنَّة ولا المُذْنبين المُوَحدين النار حتى يَقْضيَ اللّه فيهم بأمره‏.‏
لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذابَ اللهّ فإنه يقول‏:‏ فَلاَ يَأمن مَكْر َاللهّ إلا القومُ الخاسِرُون‏.‏
ولا تُقْنِطوا شر هذه الأمة من رحمة اللهّ فإنّه لا ييأس من رَوْح اللّهِ إلا القومُ الكافرون‏.‏
من كلامه رضوان الله عليه‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لما فرغ علي بن أبي طالب من وقعة الجمل دعا بأجرتين فعلاهما ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا أنصار المرأة وأصحابَ البهيمة رَغا فَجِئْتم وعُقِر فانهزمتم‏.‏
دخلتُ شرَ بلاد أبعدها من السماء بها يَغيض كل ماء ولها شر أسماء هي البصرة والبُصَيرة والمُؤتفكة وتَدْمر أين ابن عباس فدُعيت فقال لي‏:‏ مُرْ هذه المرأة فَلترجع إلى بيتها الذي أُمرت أن تَقَر فيه‏.‏
وتمثل عليّ بن أبي طالب رضيِ اللّه عنه بعد الحَكَمين‏:‏ زَلَلْت فيكم زلَةً فأعْتذِرْ سوف أكيسُ بعدها وأنشمِرْ خطب معاوية قال القَحْذَميّ‏:‏ لمَّا قَدِمَ مُعاويةُ المدينة عامَ الجماعة تلقّاه رجالُ قريش فقالوا‏:‏ الحمد اللهّ الذي أعزَ نَصْرَكَ وأَعْلى كَعْبك‏.‏
قال‏:‏ فواللّه ما ردّ عليهم شيئاً حتى صَعِد المِنْبر فَحَمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإِني واللّه وَليتُها بمحبة علمتُها منكم ولا مَسَزَة بولايتي ولكني جالدتُكم بسيفي هذا مُجالدة ولقد رُضْتُ لكم نفسي على عمل ابن أبي قُحَافة وأردتُها على عمل عُمر فنفرتْ من ذلك نِفَاراً شديداً وأردتُها على مثل ثَنِيَّات عثمان فأبت عليَ فسلكتُ بها طريقاً لي ولكم فيه منفعةً مواكلة حَسنة ومُشاربة جميلة فإن لم تَجدوني خيركم فإني خيرٌ لكم ولايةً‏.‏
واللّه لا أحملً السيفَ على من لا سيف له وإن لم يكن منكم إلا ما يَسْتَشفي به القائلُ بلسانه فقد جعلتُ له ذلك دَبْرَ أُذني وتحت قدمي وإن لم تجدوني أقوا بحقّكم كُلَّه فاقبلوا منّي بعضَه فإنْ أتاكم منّي خيرٌ فاقبلوه فإن السيل إذا يزاد عَنى وإذا قلّ أَغنى وإياكم والفتنةَ فإنها تُفسد المَعيشة وتكدّر النّعمة ثم نزل‏.‏
خطبة أيضاًً لمعاوية حمد اللّه وأثنى عليه ثم صلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ أما بعد أيها الناس إنا قدِمْنا عليكم وإنما قَدِمنا على صَدِيق مُستبشر أو على عدوِّ مُستتر وناسٍ بين ذلك يَنْظرون ويَنْتظرون فإِنْ أُعْطوا منها رَضُوا وإنْ لم يُعْطَوْا منها إذا همِ يَسْخُطون‏.‏
ولستُ واسعاً كُلّ الناس فإن كانت مَحْمَدة فلا بدّ من مَذمَة فلوْماَ هوناً إذا ذُكِرَ غُفِر وإياكم والتي إن أُخْفِيت أوْ بقت‏.‏
وإن ذُكِرَت أوْثَقَت ثم نزل‏.‏
خطبته أيضاًً لمعاوية صَعِد مِنْبر المَدينة‏.‏
فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يأهل المدينة إنّي لست أُحِب أن تكونوا خَلْقاً كَخَلْق العِراق يَعيبون الشيء وهم فيه كلّ امرىء منهم شِيعةُ نَفْسه فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم وإنَّ معروف زماننا هذا مُنكَر زمان مَضى ومُنْكَرَ زماننا معروفُ زمان لم يأت ولو قد أتى فالرَّتْق خَيْرٌ من الفَتْق وفي كلًّ بلاغ ولا مُقام على الرزيّة‏.‏

خطبة لمعاوية أيضاً قال العُتْبي‏:‏ خَطَب معاويةُ الجمعة في يوم صائف شديد الحرّ فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ إن الله عز وجلّ خَلقكم فلم يَنْسكم ووَعظكم فلم يُهملكم فمال‏:‏ يأيها الذين آمنُوا اتّقوا الله حَقّ تُقاته ولا تَمُوتُنّ إلا وأنتم مُسْلمون‏.‏
قوموا إلى ذكر لعبيد اللّه بن زياد عند معاوية قال ابن دأب‏:‏ لما قَدِمَ عبيدُ الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فوجده لاهياً عنه أنكره فجعل يَتصدى له بخَلوة لَيسْبُر من رأيه ما كُرِهَ أن يُشرك به في عمله فاستأذن عليه بعد انصداع الطُلاب وإشعال الخاصة وافتراق العامة وهو يوم معاوية الذي كان يَخْلو فيه بنفسه‏.‏
ففَطِن معاوية لما أراد فَبعث إلى ابنه يزيد وإلى مْرْوَان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم وعمرو بن العاص‏.‏
فلما أخذوا مجالسهم آذنَ له فسلم ووقف واجماً يتصفح وجُوه القوم ثم قالت‏:‏ صَريح العُقوق مُكاتمة الأدْنين ولا خَيْرَ في اختصاص إن وَفر أحْمَد الله إليكم على الآلاء وأستعينه على الَلأوَاء وأسْتَهْدِيه من عَمىً مُجْهِد وأسْتَعينه على عدوٍّ مُرْصِد وأشْهدَ أن لا إله إلا الله المنقِذ بالأمين الصادق من شقاء هاوٍ ومن غَواية غاوٍ وصلواتُ الله على الزكيّ نبيِّ الرحمة وِنذير الأمَة وقائد الهُدى‏.‏
أما بعد يا أميرَ المؤمنين فقد عَسَف بنا ظَنّ فرَّع وفرَع صَدَّع حتى طَمِع السحيق ويئس الرّفيق ودَث الوُشاة بموت زياد فكلُّهم مُتحفّز للعداوة وقد قَلَّص الإزْرة وشَمَّرَ عن عِطافه ليقول‏:‏ مضى زِياد بما استُلْحقِ به وولّى على الدَّنية من مُسْتلحقه‏.‏
فليت أمير المؤمنين لسَم في دَعَتِه وأسْلم زياداً في ضَعَته فكان تِرْبَ عامّة وواحد رعيّة فلا تَشْخصِ إليه عين ناظر ولا إصبْع مُشير ولا تذلَقُ عليه أَلْسُن‏.‏
كَلَمته حيّا ونَبَشته مَيْتاً فإن تكن يا أميرَ المؤمنين حابيتَ زياداً بولاء رُفات ودَعْوة أموات فقد حاباك زِياد بجِدّ هَصُور وعزْم جَسُور حتى لانت شكائمُ الشَرِس وذلَت صَعْبة الأشوَس وبَذل لك أمير المؤمنين يمينَه ويساره تأخذ بهما المَنيع وتَقْهر بهما البزيع حتى مضى والله يَغْفِر له‏.‏
فإنْ يكن زيادٌ أخذ بحقّ فأنْزِلنا مَنازلَ الأقْرِبين فإنّ لنا بعدَه ما كان له بدالة الرَّحِم وقرَابة الحَمِيم ومالنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء وندِبّ الخَفاء وٍ لنا من خَيْرك أكمله وعليك من حَوبنا أثقلُه وقد شَهِد القوِم وما ساءني قرْبُهم ليُقرّوا حقّاً ويردُوا باطلاً فإنَ الحق مَناراً واضحاً وسبيلاً قَصْداً فقل يا أمير المؤمنين بأيّ أمْرَيْك شِئْت فما نأْرِز إلى غير جُحرنا ولا نَسْتكثر بغير حقِّنا واستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
قال‏:‏ فنظر مُعاوية في وجوه القوم كالمُتعجب فتصفّحهم بلحظه رجلاً رجلاً وهو مُبْتسم‏.‏
ثم اتجه تِلْقاءه وعَقد حُبْوته وحسر عن يده وجعل يُومىء بها نحوَه ثم قال مُعاوية‏:‏ الحمد للّه على ما نحنُ فيه فكُل خير منه وأشهد أن لا إله إلا اللهّ فكُلّ شيء خاضع له وأن محمداً عبدُه ورسولُه دل على نفسه بما بان عن عَجْز الخَلْق أن يؤتوا بمثله فهو خاتم النبيّين ومُصدِّق المُرسلين وحُجَّة ربّ العالمين وصلواتُ اللّه عليه وسلامُه وبركاته‏.‏
أما بعد فربّ خير مَستور وشرّ مَذْكور وما هو إلا السهم الأخْيَب لمن طارَ به والحَط المُرْغِب لمن فاز به فيهما التفاضُل وفيهما التغابنُ وقد صَفَقت يداي من أبيك صَفْقة ذي الجُلْبة من ضوارع الفُصْلان عامل اصطناعي له بالكُفر لما أَوْليتُه فما رَميت به إلا انتصل ولا انتضيتُه إلا غُلِّق جَفْنه وَزلَّت شفرته ولا قلتُ إلا عاندَ ولاقُمْت إلا قَعد حتِى اخترمه الموت وقد أُوقع بخَتْره ودلَّ على حِقد‏.‏
وقد كنتُ رأيتُ في أَبيك رأياَ حَضَرَه الخَطَل والتبس به الزَّلل فأخذ مني بحظّ الغَفْلة وما أُبرِّىءُ نَفْسي إن النَّفس لأمِّارة بالسُّوء فما بَرِحت هناة أبيك تَحْطِبُ في حَبْل القطيعة حتى انتكث المُبْرَم وانحل عِقد الوِداد‏.‏
فيالها توبةً تُؤْتنف من حَوْبة أوْرَثَت ندما اسْمَع بها الهاتف وشاعَت للشَامت فليهنأ الواصِم ما به احتقر‏.‏
وأراك تَحْمد من أبيك جدّاً وجُسوراً هما أوْفيا به على سَرف التَقَحُّم وغَمْط النِّعمة فَدَعْهما فقد أذكَرَتْنا منه ما زهَدَنا فيك من بَعْدَه وبهما مَشَيْتَ الضَرَاء ودببت الخفاء فاذهب إليك فأنت نَجْل الدّغَل وعِتْرة النَّغل والآخرً شرِّ‏.‏
فقال يزيد‏:‏ يا أمير المؤمنين إن للشاهد غير حَكم الغائب وقد حَضرك زِياد وله مَواطن مَعْدودة بخير لا يُفْسدها التظنِّي ولا تُغيّرها التُّهم وأهلوه أهلوك التحقوا بك وتوَسطوا شأنك فسافرت به الرُّكبان وسَمِعت به أهلُ البُلدان حتى اعتقده الجاهل وشَكّ فيه العالم فلا تتحجَّر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع وكَثُرت فيه الشهادات وأعانك عليه قومٌ آخرًون‏.‏
فانحرف مِعاويةُ إلى مَن معه هذا وقد نَفِس عليه ببيعته وطَعن في إمرته يعلم ذلك كاحما اعلمه يا للرِّجال من آل أبي سُفيان‏!‏ لقد حَكَموا وبذّهم يزيد وحدَه‏.‏
ثم نظر إلى عُبَيد اللهّ فقال‏:‏ يا بن أخي إنّي لأعرَفُ بك من أبيك وكأني بك في غَمْرَة لا يَخْطُوها السابح فالزم ابنَ عمِّك فإنّ ما قال حق‏.‏
فخرجوا ولَزم عُبَيد اللهّ يزيد يَرِد مجلسه ويَطأ عَقِبه أياماً حتى رَمى به معاويةُ إلى البَصرة والياً عليها‏.‏
ثم لم تَزل تُوكِسه أفعالُه حتى قتَله الله بالجازر‏.‏
خطبة لمعاوية أيضاً قال بهيثم بن عديّ‏:‏ لما حضرَت مُعاويةَ الوفاةُ ويزيد غائب دعا بمُسلم ابن عُقبة المر والضحَّاك بن قيس القهريّ وقال لهما‏:‏ أبلغا عني يزيد وقولا له‏:‏ انظر أهل الحجاز فهم عصابُتك اعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومَن قعَدَ عنك فتعاهده وانظُر أهل العراق فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم فأعز له عنهم فإن عزل عامل واحد أهونُ عليك من سَلّ مائة ألف سيف ثم لا تدري عَلام أنت عليه منهم ثم انظُر أهلَ الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار فإنْ رابك من عدو رَيب فارْمه بهم فإن أظفرك اللهّ فارْدُد أهل الشام إلى بلادهم لا يُقيموا في غير بلادهم في فيتأدّبوا بغير أدابهم‏.‏
لست أخاف عليك غير عبد اللّه بن عمر وعَبدِ اللّه بن الزبير والحُسين بن علي‏.‏
فأما عبد اللّه بن عمر فرجل قد وَقَذَه الوَرع وأما الحُسين فأرجو أن يَكفيكه اللهّ بمنِ قَتلِ أباه وخَذَل أخاه وأما ابن الزُّبير فإنه خَبّ ضَبّ‏.‏
فإِنْ ظَفِرْت به فقطعه إرْباً إرْباً‏.‏
ومات معاوية‏.‏
فقام الضَّحَّاك بن قَيس خَطيبَاَ فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين كان أنْفَ العرب وهذه أكفانه ونحن مُدْرِجوه فيها ومُخْلون بينه وبين ربّه فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضُر‏.‏
فصلّى عليه الضحَّاك‏.‏
ثم قَدِم يزيد فلم يَقْدَم أحدٌ عك تعزيته حتى دخل عليه عبدُ اللّه ابن همَام فأنشأ يقول‏:‏ اصْبِر يزيد فقد فارقتَ ذا مِقَةٍ واشكُر حِبَاء الذي بالمُلك حاباكا لا رّزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلِموا مما رُزِئتَ ولا عُقْبى كعًقْبَاكا أصبحتَ راعِيَ أهل الدِّين كلِّهم فانْتَ ترعاهم واللّه يَرْعاكا وَفي مُعاوية الباقي لنا خَلف إذا بَقيت فلا نسمع بمَنْعاكا قال‏:‏ فانفتح الخطباء بالكلام‏.‏
خطبة أيضاًً لمعاوية ولما مرض معاويةُ مرَضَ وفاته قال لمولى له‏:‏ مَن بالباب قال‏:‏ نفر من قُريشَ يتباشرون بموتك‏.‏
قال‏:‏ وَيحك‏!‏ ِ لمَ فواللّه ما لهم بعدي إلا الذي يَسُوءهم‏.‏
وأذِن للناس فَدَخلوا فحمد اللّه وأثنى عليه وأوْجز ثمٍ قال‏:‏ أيها الناس إنا قد أصبحنا في دَهْر عنود وزمن شديد يُعدّ فيه المُحْسن مُسِيئاً ويزداد الظالم فيه عُتواً لا نَنْتفع بما عَلِمنا ولا نسأل عما جَهِلنا ولا نتخوّف قارعة حتى تَحُلّ بنا فالناس على أربعة أصناف‏:‏ منهم من لا يمْنعه مِن الفساد في الأرض إلا مهانة نَفْسه وكلال حدِّه ونَضِيض وَفْرِه ومنهم المُصْلِت لسَيْفه المُجْلِب برَجْله المُعْلن بشرِّه وقد أَشْرَط نفسَه وأوْبق دِينَه لحُطام يَنْتهزه أو مِقْنب يَقوده أو مِنْبر يَفْرعه وليس المَتْجران تراهما لنفسك ثمناً وبمالكَ عند اللّه عِوَضاً ومنهم من يَطْلب الدنيا بعمل الآخرًة ولا يطلب الآخرًة بعمل الدنيا قد طامَن من شَخْصه وقارب من خَطْوه‏.‏
وشمَر عن ثَوْبه وزَخْرَف نَفْسه بِالأمانة واتّخذ سِتْر اللّه ذَرِيعة إلى المَعْصية ومنهم مَن أَقعده عن طلب المُلْك ضآلة نفسه وانقطاع سَبَبِه فَقصِّرَت به الحال عن حاله فتحلِّى باسم القَناعة وتزيّا بلباس الزَّهادة وليس من ذلك في مَرَاح ولا مَغْدى‏.‏
وبِقي رجالٌ أغضّ أبصارَهم ذِكْرُ المرْجع وأراق دُموعَهم خوفُ المَضْجَع فهم بين شريد بادٍ وبين خائف مُنْقمع وساكت مَكْعوم وداعٍ مُحلص ومُوجع ثَكْلان قد أخْمَلتهم التقيّة وشَملتهم الذلة فهم في بحر أجَاج أفواهُهم ضامرة وقلوبهم قَرِحَة قد وُعظوا حتى مَلّوا وقهروا حتى ذَلّوا وقتُلوا حتى قلّوا‏.‏
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظ وقُرَاِدة الحَلَم واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتّعِظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمةَ فقد رَفَضَت مَن كان أشفقَ بها منكم‏.‏
ليزيد بن معاوية بعد موت أبيه الحمد اللّه الذي ما شاء صَنع ومَن شاء أعطى ومَن شاء مَنَع ومن شاء خَفَض ومن شاء رَفع‏.‏
إن أميرَ المؤمنين كان حَبْلاً من حِبال اللّه مدَّه ما شاء أن يَمدَّه ثم قَطعه حين أراد أن يَقْطعه وكان‏.‏
دون مَنِ قبلَه وخيراً ممن يأتي بعدَه ولا أزَكِّيه عند ربّه وقد صار إليه فإن يَعْفُ عنه فَبِرَحْمته وإنْ يُعاقبه فَبِذَنبه وقد وُلِّيتُ بعدَه الأمرَ ولستُ أعتذر من جَهل ولا آسىَ على طَلَب عِلْم وعلى رِسْلكم إذا كَرِهَ اللّه شيئاً غيَّرَه وإذا أحبَّ شيئاً يسَّره‏.‏
وخطبة أيضاًً ليزيد الحمدُ للّه أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكّل عليه ونَعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيّات أعمالنا مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلَّ له ومن يُضْلِل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحدًه لا شريك له وأن محمداً عبدُه ورسولُه اصطفاه لوَحْيه‏.‏
واختاره لرسالته بكتاب فَصَّله وفَضِّله وأعزَّه وأكرَمه ونَصره وحَفِظه ضرَب فيه الأمثال وحلّل فيه الحلال وحرَّم فيه الحرام وشَرَع فيه الدِّين إعذاراً وإنذاراً لئلا يكونَ للناس على اللّه حُجَّة بعد الرُّسل ويكونَ بلاغاً لقوم عابدين‏.‏
أوصيكم عبادَ اللّه بتقوى اللّه العظيم الذي ابتدأ الأمور بِعِلْمه وإليه يَصير مَعادُها وانقطاع مُدًتها وتَصرُّم دارها‏.‏
ثم إني أحَذِّرَكم الدُنْيا فإنها حُلْوَة خَضِرَة حُفّت بالشَّهوات ورَاقتْ بالقليل وأينعت بالفاني وتحبَّبت بالعاجل لا يَدومُ نَعيمُها ولا يؤْمَن فجيعُها أكَّالة غَوَّالة غرَّارة لا تُبْقي على حال ولا يَبقى لها حال ولن تَعْدُو الدنيا إذا تناهت إلى أمْنية أهل الرغبة فيها والرِّضا بها أن تكون كما قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏"‏ واضْرب لهم مَثَل الحَيَاة الدُّنيا كماءٍ أنْزَلناه من السمِاء ‏"‏ إلى قوله ومُقْتَدِراً نسأل اللّه ربنَّا وإلهنا وخالِقنا ومولانا أنْ يجعلنا وإياكم من فزَع يومئذ آمنين‏.‏
إنَّ أحسَن الحديثِ وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه يقول اللّه‏:‏ ما له ‏"‏ وإذا قُرِئ القُرآن فاسْتَمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا لعلكم ترحَمُون ‏"‏‏.‏
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم لَقَدْ جَاءَكم رَسُولٌ من أنْفِسِكم إلى آخرً السورة‏.‏
خطب بني مروان خطبة عبد الملك بن مروان وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخرً خطبته‏:‏ اللّهم إنَ ذُنوبي قد عَظُمَت وجلَّت عن أن تُحْمى وهي صَغِيرَة في جَنْب عَفْوك فاعْفُ عني‏.‏
وخطب بمكة شَرَّفها اللّه تعالى فقال في خُطبته‏:‏ إنّي الله ما أنا بالخليفة المُسْتَضْعف يعني عثمان ولا بالخليفة المُدَاهن يعني معاوية ولا بالخليفة المأفون يعني يزيد‏.‏
قال أبَو إسحق النظام‏:‏ أما واللّه لولا نَسبَك من هذا المُسْتَضعف وسَبَبك من هذا المُذَاهن لكُنتَ منها أبعد من العِيوق‏.‏
واللّه ما أخذتها بوراثة ولا سابقة ولا قَرابة ولا بدعوى شورى ولا بوصيّة‏.‏
خطبة الوليد بن عبد الملك لما مات عبد الملك بن مروان ورجع الوليد من دَفنه لم يدخل منزله حتى دخل المسجدَ ونُودي في الناس‏:‏ الصلاةُ جامعة‏.‏
فَصَعِد المِنْبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنه لا مُؤَخِّر لما قَدّمَ اللّه ولا مُقَدِّم لما آخرً اللّه وقد كان من قضاء اللّه وسابق عِلْمه وما كَتب على أنبيائه وحَمَلَة عرْشِه من الموت مَوْتُ وليّ هذه الأمَّة ونحن نرجو أنْ يصيرَ إلى منازل الأبرار للذي كان عليه من الشدّة على المُريب واللِّين على أهل الفَضْل والدِّين مع ما أقام من مَنار الإسلام وأعلاَمِه وحَجَ هذا البيت وغَزْو هذه الثغور وشَنّ الغارات على أعداء اللّه فلم يكن فيها عاجزاً ولا وانياً ولا مُفَرِّطاً‏.‏
فعليكم أيها الناس بالطاعة ولزوم الجماعة فإنّ الشيطان مع الفَذّ وهو من الجماعة أبعد‏.‏
واعلموا أنه من أبْدَى لنا ذاتَ نَفسه ضَرَبْنا الذي فيه عيناه ومَن سكت مات بدائه‏.‏
ثم نزل‏.‏
خطب سليمان بن عبد الملك فقال‏:‏ الحمد للّه ألا إن الدُّنيا دار غُرور ومنزل باطل تُضْحِك باكياً وتُبْكي ضاحكاً وتُخِيف أمِناً وتُؤمِّن خائفاً وتُفقِر مثرْياً وتثري مُقْتِراً مَيَّالة غرَّارة لعَّابة بأهلها‏.‏
عبادَ الله فاتّحذوا كِتاب اللّه إماَماً وارَتضُوا به حَكماً واجعلوه لكم قائداً فإنه ناسخٌ لما كان قبلَه ولم يَنْسخه كتاب بعده‏.‏
واعلموا عبادَ اللّه أن هذا القران يَجْلو كيْدَ الشِّيطان كما يجلو ضوءُ الصُّبح إذا تنفّس ظلام الليل إذا عَسْعَس‏.‏
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه ورضي عنه‏:‏ قالت العُتبي‏:‏ أول خُطبة خَطبها عمرُ بن عبد العزيز رحمه اللّه قوله‏:‏ أيها الناس أصْلحوا سرائركم تَصْلُح لكم عِلانِيَتُكم وأصْلِحُوا أخرتكم تَصْلح دُنْياكم وإنَ امرئ ليس بينه وبين آدمَ أبٌ حيٌّ لَمُعْرِقٌ في المَوْت‏.‏
وخطبة له رحمه اللّه إن لكل سَفْر زاداً لا محالة فتزوَّدُوا مِن دُنياكم لأخرتكم التَقْوى وكُونوا كمن عايَن ما أعدَّ اللّه له من ثَوابه وعقابه فتَرهبوا وتَرْغَبوا ولا يَطولَنَّ عليكم الأمد فَتَقْسُو قلوبُكم وتَنْقادوا لعدوّكُم فإنه واللّه ما بُسِط أملُ مَن لا يدري لعلّه لا يُصبح بعد إمسائه أو يمسي بعد إصباحه وربما كانت بين ذلك خَطرات المَنايا وإنما يطمئن إلى الدًّنيا مَن أمِن عواقبها فإنّ من يداوي من الدنيا كَلْماً أصابت جِراحةً من ناحية أخرى فكيف يَطْمئنُّ إليها أعوذ باللّه إن أمرُكم بما أنْهى عنه نَفسى فَتَخْسَر صَفْقتي وتَظْهَر عَيْلَتي وتبدو مَسْكَنتي في يوم لا يَنفع فيه إلا الحقّ والصِّدق‏.‏
ثم بَكى وبَكى الناس معه‏.‏
خطبة لعمر بن عبد العزيز أيضاً شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال‏:‏ كنت من حَرس الخُلفاء قَبْل عمر فكنا نقوم لهم ونَبْدؤهم بالسّلاح‏.‏
فخرج علينا عمر رضي اللّه عنه في يوم عِيد وعليه قَميص كَتَّان وعِمامة على قَلَنْسوة لاطِئة فَمَثلنا بين يديه وسَلّمنا عليه فقال‏:‏ مه أنتم جماعة وأنا واحد السلامُ عليّ والردّ عليكم وسَلّم فَرَدَدْنا وقُرِّبت له دابّته فأعرض عنها ومَشى ومَشينا حتى صَعِد المِنْبر فحمد الله وأثنى عليه وصَلّى عَلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ وَددْت أن أغنياء النّاس اجتمعوا فردُّوا على فُقرائهم حتى نَسْتَويَ نحن بهم وأكونَ أنا أوّلَهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ما لي وللدُّنيا أم مالها ومالي وتكلم فأرَقّ حتى بكى الناسُ جميعاً يميناً وشمالاً‏.‏
ثم قَطع كلامه ونَزق‏!‏ فدنا منه رجاءً بن حَيْوة فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين كَلِّمتَ الناسَ بما أرقّ قُلويهم وأبكاهم ثم قَطعته أحوجَ ما كانوا إليه‏.‏
فقال‏:‏ يا رجاء إني أكره المُباهاة‏.‏
خطبة ابن الأهتم بين يدي عمر بن عبد العزيز ودَخل عبدُ اللّه بن الأهتم على عُمَم بن عبد العزيز مع العامّة فلم يُفجأ إلا وهو قائم بين يديه يتكلّم فحمد اللّه وأثنى عليه وقال‏:‏ أما بعد فإن اللّه خَلق الخَلْق غنيّاً عن طاعتِهم آمِنا من مَعْصيتهم والناس يومئذ في المنازل والرأي مُختلفون والعَرب بشرّ تلك المَنازل أهل الوَبر وأهل المَدر تُحتَاز دونهم طَيّبات الدُّنيا ورَفاهة عَيْشها ميّتهم في النار وحَيُّهم أعْمى مع ما لا يُحصىِ من المَرْغوب عنه المَزْهود فيه‏.‏
فلما أراد اللِّه أن ينشر فيهم رَحْمته بَعث إليهم رسولاَ منهم عزيزاً عليه ما عَنِتُوا حريصاً عليهم بالمؤمنين رؤوف رَحيم فلم يَمنعهم ذلك أن جَرّحوه في جِسْمه ولَقّبوه في اسمه ومعه كتابٌ من اللّه ناطق لا يَرحل إلا بأمره ولا يَنْزل إلا بإذنه واضطرّوه إلى بطن غار‏.‏
فلما أمر بالعزيمة أسْفر لأمر اللّه لونُه فأبلج اللّه حُجته وأعلى كَلِمته وأظهر دَعْوته وفارق الدُّنيا تقيّاً صلى الله عليه وسلم ثم قام من عده أبو بكر رضي اللّه عنه فسلك سُنَّته وأخذ سبيله فارتدّت العربُ فلم يَقبل منهم إلا الذي كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يقبله فانتضىَ السُّيوف مِن أغمادها وأوقد النِّيران في شًعَلها ثم رَكب بأهل الحق أهلَ الباطل فلم يبرح يَفْصِل أو صالَهم ويَسقي الأرض دماءهم حتى أدخلهم في الباب الذي خَرجوا منه وقرّرهم بالأمر الذي نَفروا عنه‏.‏
وقد كان أصاب من مال اللّه بَكْراً يرتوي عليه وحَبشية تُرضع ولداً له فرأى ذلك غُصّة في حَلْقه عند موته وثقْلا على كاهله فأداه إلى الخليفة مِن بعده وبَرِئ إليهم منه وفارق الدُّنيا نقيّاً نقيّاً على مِنْهاج صاحبه‏.‏
ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏.‏
فمصَّر الأمصار وخَلط الشدّة باللِّين وحَسَر عن ذِراعيه وشَمّر عن ساقَيه وأعدّ للأمور أقرانها وللحرب آلتها‏.‏
فلما أصابه قِنّ المُغيرة بن شُعبة أمر ابنَ عباس أن يسأل الناس‏:‏ هل يُثبتون قاتَله‏.‏
فلما قيل له‏:‏ قن المغيرة استهل بحمد اللّه أن لا يكون أصابه مَن له حق في الفَيء فيستحلّ دمَه بما استحل من حقّه‏.‏
وقد كان أصاب من مال اللّه بِضْعة وثمانين ألفاً‏.‏
فكسر بها رباعه وكره فيها كَفالة أهله وولده فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده وفارق الدُّنيا تقيّاً على مِنهاج صاحبه‏.‏
ثم إنّا واللّه ما اجْتمعنا بعدهما إلا على ضِلَع أعوج‏.‏
ثم إنك يا عُمر ابنُ الدنيا ولدتْك مُلوكُها وألقمتك ثَدْيها فلما وَليتَها ألغَيتها وأجببتَ لقاء اللّه وما عنده فالحمدً لله الذي جَلاَ بك حَوْبتنا وكَشف بك كُرْبتنا امْض ولا تلتفت فإنه لا يُغْني عن الحق شيء أقول قولي هذا واسْتغفر اللّه لي ولكم وللمُؤمنين وللمُؤمنات‏.‏
ولما قال‏:‏ ثم إنّا واللّه ما اجتمعنا بعدَهما إلا على ضِلَع أعْوج‏.‏
سَكت الناسُ كلّهم غيرَ هِشَام فإنه قال‏:‏ كَذبت‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ خَطب عمرُ بن عبد العزيز بخُناصرة خُطبة لم يَخْطب بعدها حتى مات رحمه اللّه حَمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنكم لم تُخْلقوا عَبَثاً ولم تُتركوا سُدًى وإن لكم معاداً يحكم اللّه بينكم فيه فخاب وخَسِر مَن خَرج من رحمة الله التي وَسِعَت كلَّ شيء وحُرم جَنَة عرضمها السمواتُ والأرض‏.‏
واعلموا أن الأمان غداً لمن يخاف اليوم وباع قليلاً بكثير وفانياً بباق ألا تَرَوْن أنكم في أصلاب الهالكين وسَيخلفها مِن بعدكم الباقون حتى تُردّوا إلى خير الم الورثين ثم إنّكم في كُل يوم تْشِّيعون غادياً ورائحاً إلى اللّه قد قَضى نَحْبَه وبَلغ أجَلَه ثم تغيِّبونه في صَدْع في الأرض ثم تَدْعونه غير مًوَسَّد ولا مُمَهّد قد خَلَع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب غنيّاً عما تَرك‏:‏ فقيراً إلى ما قَدّم وايم اللّه إني لأقول لكم هذْه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثرَ مما عندي فاستغفر اللّه لي ولكم وما تَبْلُغنا حاجةٌ يتّسبع لها ما عِنْدنا إلا سَدَدْناها ولا أحدٌ مِنكم إلا وَدِدْت أن يَده مع يديَ ولحُمتي الذين يلونني حتى يَسْتوى عيشُنا وعيشُكم وايم اللّه إني لو أردتُ غير هذا من عيش أو غِضارة لكان اللسانُ به ناطقاً ذَلُولاً عالماً بأسبابه ولكنه مَضى من اللّه كتابٌ ناطق وسُنّة عادلة دلّ فيهما على طاعته ونَهى عن مَعْصيته ثم بَكى فتلّقى دُموع عَينيه بردائه ونَزل‏.‏
فلم يعد بعدَها على تلك الأعواد حتى قَبضه اللّه تعالى‏.‏
حين قتل الوليد بن يزيد بَقِيُ بن مخْلَد قال‏:‏ حَدَّثني خَليفة بن خَيَّاط قال‏:‏ حَدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال‏:‏ حدّثني إبراهيم بن إسحاق أن يزيد بن الوليد بن عبد الملك لما قتل الوليد بن يزيد قام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد أيها الناس إني ما خرجتُ أشرا ولا بَطراً ولا حِرْصاً على الدنيا ولا رَغبة في المُلك وما بي إطراءُ نَفْسي ولاَ تَزْكية عَمَلي وإنّي لظَلُوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربِّي ولكني خرجتُ غضَباً للّه ودينه وداعياً إلى كِتابه وسُنِّة نبيّه حين دَرَسَتْ معالم الهُدى وأطفيء نُور أهل التّقوى وظَهر الجبار العَنيد المُستحل الْحُرمة والرَّاكب البِدْعة والمغيِّر السُّنة‏.‏
فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ إذ غَشِيَتْكم ظُلمة لا تُقْلع على كثير من ذُنوبكم وقَسْوة من قُلوبكم وأشفقت أن يَدْعم كثيراً من الناس إلى ما هو عليه فيُجيبه من أجابه منكم فاستخرتُ اللِّه في أمري وسألتُه أن لا يَكلني إلى نفسي وهو ابن عمي في نَسبي وكَفِيء في حَسَبي فأراح اللّه منه العِباد وطَهّر منه البِلاد ولايةً من اللّه وعَزْماً بلا حَول منّا ولا قُوة ولكنْ بحول اللّه وقوته وولايته وعِزّته‏.‏
أيها الناس إنّ لكم عليّ إن وَليتُ أموركم ألا أضع لَبِنَة على لَبِنة ولا حَجَراً على حَجَر ولا أنْقُل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسُدِّ ثُغَرَه وأُقيم مَصالحه مما تَحْتاجون إليه وتَقْوَون به فإن فضَلَ شيء رَدَدْته إلى البلد الذي يليه وهم من أحوج البُلْدان إليه حتى تَسْتقيم المعيشةُ بين المُسلمين وتكونوا فيه سواءً ولا أجَمِّركم في بعوثكم فُتفتتنوا وتُفْتن أهاليكم‏.‏
فإن أردتم بَيْعتيِ على الذي بذلتُ لكم فأنا لكم به وإن مِلْتُ فلا بَيْعة لي عليكم وإن رأيتم أحداً أقوى عليها منّي فأردتم بيعتَه فانا أول من يُبايعه ويَدْخل في طاعته أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
خطب بني العباس العُتبي قال‏:‏ قيل لمسلمة بن هِلال العَبْديّ خَطبنا جعفر بن سُليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسْمع أحسنُ منها وما دَرينا أَوَجْهُه كان أَحْسنَ أَمْ كلامه‏.‏
قال‏:‏ أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون وبلسان النبوّة يَنْطقون‏.‏
خطبة أبي العباس السفاح بالشام خطب أبو العباس عبدُ اللّه بن محمد عليّ لمّا قُتل مَروان بن محمد فقال‏:‏ ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً وأَحَلًوا قومهم دار البوار جَهَنِّم يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرار نَكَصَ بكم يا أهل الشام آل حَرْب وآل مَرْوان يَتَسكّعون بكم الظُّلم ويتهوَّرون بكم مَداحض الزَّلق يطؤون بكم حُرم الله وحرم رسوله ماذا يقول زُعماؤكم غداً يقولون‏:‏ ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار‏.‏
إذاً يقول اللّه عزَّ وجلّ لكُلّ ضِعْف ولكن لا تَعْلمون‏.‏
أمّا أميرُ المؤمنين فقد ائتنف بكم التّوبة واغتفر لكم الزِّلة وبسط لكم الإقالة وعاد بفَضْلِه على نَقْصكم وبِحِلْمه على جَهْلكم فلْيُفرح رُوعكم ولتطمئنّ به دارُكم ولْتعظكم مصارعُ أَوائلكم فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا‏.‏
خطب المنصور خطب أبو جعفر المنصور واسمه عبد الله بن محمد بن عليّ لمَا قُتل الأمويين فقال‏:‏ أَحرز لسانٌ رأْسَه انتبه امرؤ لحظّه نَظَر امرؤ في يومه لغده فمشى القَصْد وقال الفَصْل وجانب الهُجْر‏.‏
ثم أخذ بقائم سيفه فقال‏:‏ أيها الناس إنَ بكم داء هذا داؤه وأنا زعيم لكم بشفائه فلَيعتبر عبد قبل أن يُعْتبر به فإنما بعد الوعيد الإيقاع وإنما يفتري الكَذِب الذين لا يؤمنون بآيات الله‏.‏

خطبة المنصور حين خروجه إلى الشام شنشنة أعرفها من أخزم مَن يَلقَ أبطال الرجال يُكْلم مهلاً مهلًا روايا الإرجاف وكُهوفَ النفاق عن الخَوْض فيما كُفيتم والتَّخَطِّي إلى ما حُذِّرْتُم‏.‏
قبل أن تَتْلف نفوس ويقلّ عدد ويدول عزّ وما أنتم وذاك ألم تَجدُوا ما وَعَد ربكم من إيراث المُسْتَضعفين من مَشارق الأرض ومَغاربها حقَاً والجَحْد الجحد‏.‏
ولكن حِبِّ كامن وحَسدٌ مُكْمِد فبُعداً للقوم الظالمين‏.‏
وخطب أيضاً قال يعقوب بن السِّكِّيت‏:‏ خطب أبو جعفر المنصور يوم جُمعة فحمد اللّه وأثنى عليه وقال‏:‏ أيها الناس اتقوا اللّه‏.‏
فقام إليه رجلٌ فقال‏:‏ أُذكّرك مَن ذَكّرتنا به يا أمير المؤمنين‏.‏
قال أبو جعفر سمْعاً سَمعاً لمَن فهم عنِ اللّه وذَكّر به وأعوذ باللّه أن أُذَكِّرَ به وأنساه فتأخذَني العِزّة بالإثم لقد ضَلَلْت إذاً وما أنا من المُهْتدين‏.‏
وأمّا أنت والتفت إلى الرّجل فقال‏:‏ والله ما اللّه أَرَدْتَ بها ولكنْ ليُقال قام فقال فعوقِبَ فَصَبَر وأَهْون بها لو كانت العُقوبة وأنا أُنذركم أيها الناس أُخْتها فإن الموعظةَ علينا نَزلت وفيناأُنبِتت ثم رجع إلى موضعه من الخطبة‏.‏
خطبة للمنصور بمكة وخطب بمكة فقال‏:‏ أيها الناس إنما أنا سلطان اللهّ في أرضه أَسُوسكم بتوْفيقه وتَسْدِيده وتأييده وحارسُه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأُعطيه بإذنه فقد جَعلني اللهّ عليه قُفلاً إذ شاء أن يَفتحني فَتَحَني لإعطائكم وقَسْم أَرزاقكم وإذا شاء أَنْ يُقْفِلني عليها أَقْفَلني فارغبوا إلى اللّه وسَلوه في هذا اليومَ الشَّريف الذي وَهب لكم من فَضْله ما أَعْلَمكم به في كتابه إذ يقول‏:‏ ‏"‏ اليومَ أكْمَلتُ لكم دِينَكم وأتمَمْتُ عليْكمْ نِعْمَتي ورَضِيتُ لكم الإسلام ديناً ‏"‏ أن يُوَفِّقني للرَّشاد والصواب وأن يُلْهمني الرأفة بكمَ والإحسان إليكم أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
‏"‏ ولقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أَنَّ الأرْضَ يَرثُهَا عِبَادي الصَّالِحُون إنَ في هذا لبَلاغاً لِقومٍ عابدين‏.‏
‏"‏ قَضَاء مُبْرم وقولٌ فَصْل ما هو بالهَزْل‏.‏
الحمد للّه الذي صَدَقَ عَبْدَه وأَنجَز وعْده وبُعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبةَ عرضاً والفيء إرْثاً والدَّين هُزؤا وجعلوا القرآن عِضِين لقد حاق بهم ما كانوا به يَسْتَهْزئون فكأَيِّن ترى من بئْر مُعًطّلة وقَصْر مَشِيد ذلك ما قَدّمَتْ أَيْدِيكم وأن الله ليس بظلاّم للعبيد‏.‏
أُمْهلوا حتى نبذوا الكِتَابَ واضطهدوا العِتْرَة ونَبَذوا السنَة واعتدَوْا واستِكبروا وخَاب كلُّ جبَّار عَنِيد ثم أَخَذَهم فهل تُحِس منهم من أحد أو تَسْمع لهم ركزاً‏.‏
خطبة عبد الملك بن صالح بن عليّ أعوذ بالته السّميع العليم من الشًيطان الرَّجيم أفلا يَتدبَّرون القرآن أم على قَلوب أقفالها يأهل الشام إنَّ الله وصف إخوانَكم في الدِّين وأشباهكم في الأجسّامِ فحذَّرَهم نبيّهِ محمداً صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ وإذا رأيْتهُمْ تُعْجبُكَ أجسَامُهم وإن يَقُولوا تسْمَع لِقولهم كأَنّهُمْ خُشُبٌ مُسندَة‏.‏
يَحْسَبُون كُل صَيْحَة عليهم هُمُ العَدُوّ فاحْذَرْهمِ قاتَلُهم الله أنيَ يُؤْفكون ‏"‏ فقاتَلكم اللّه أنيَّ تُصرْفون جُثَث مائلة وقلوبٌ طائرة تشُبُّون الفِتَن وتُولُونَ الدُّبُر إلا عن حُرَم الله فإنها دَرِيئتكم وحُرَم رسوله فإنها مَغْزاكم أمَا وحُرمة النبوّة والخلافة لتَنفِرُنَّ خِفَافاً وتقالاً أو لاوسعنَّكم إرغاماً ونَكالاً‏.‏
خطب صالح بن عليّ يا أعضاد النِّفاق وعَمَد الضلالة أغرّكم لين إبساسي وطولُ إيناسي حتى ظن جاهِلُكم أن ذلك لفُلول حَدّ وفُتورِ جِدّ وخَوَر قناة كَذَبَت الظنون‏.‏
إنها العِتْرَة بعضُهَا من بعض فإذ قد استمر أتم العافية فعندي فِصَال وفِطام وسَيفٌ يَقُدُ الهام‏!‏ وإنّي أقول‏:‏ أغرِّكم أنِّي بأَكْرَم شيمةٍ رَفِيقٌ وإنِّي بالفَوَاحش آخرًقُ ومِثْلي إذا لم يُجْزَأَحْسَنَ سَعْيه تَكلَمُ نُعماه بِفِيها فتَنْطِق لَعَمْرَي لقد فاحَشْتَنِي فغلَبتني هنيئاً مريئاً أنت بالفُحْش أَرْفَق خطب داود بن علي بالمدينة فقال‏:‏ أيها الناس حَتّام يَهْتف بكم صَريخُكم أمَا آنَ لراقدكم أن يَهُبّ من نومه كلا بل رانَ على قُلوبهم ما كانوا يَكْسِبون أغرّكم الإمْهال حتى حَسبتموه الإهمال هيهات منكم وكيف بكم والسوطُ في كَفّي والسيفُ مُشَهَّر‏:‏ ويُقِمْن رَبَّاتِ الخُدور حَوَاسراً يَمْسَحن عُرض ذَوائب الأيتام خطبة داود بن علي بمكة وخطب داود بن علي بمكة‏:‏ شُكْراً شُكراً واللّه ما خَرجنا لنَحْفِر فيكمم نهراً ولا لنَبْني فيكم قَصْراً أظنَ عدوُّ اللّه أنْ لن نَظفر إذ مُدّ له في عِنانه حتّى عثر في فَضْل زِمامه فالآنَ عاد الأمر في نِصابه وأُطلعت الشمسُ من مَشرقها والآن حيث تولّى القوسَ باريها وعادت النَبْلُ إلى النِّزعة ورَجع الأمر إلى مُستقرّه في أهل بيت نبيّكم أهل الرِّأفة والرّحمة فاتقوا اللّه واسمعوا وأطيعوا ولا تَجعلوا النِّعم التي أنعم اللّه عليكم سَبباً إلى أن تُبيح هَلَكتكم وتُزيل النَعم عنكم‏.‏
خطبة للمهديّ الحمد للّه الذي ارتضى الحمدَ لنفسه ورَضي به من خَلقه أحمده على الآئه وأُمجده لبلائه وأَستعينه وأومن به وأتوكل عليه توكّل راضِ بقَضائه وصابر لبلائه وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحدَه لا شريك له وأنّ محمدّاً عبدُه المُصطفى ونبيُّه المُجتبى ورسولُه إلى خلقه وأَمينه على وَحْيه أَرْسله بعد انقطاع الرجاء وطُموس العِلم واقتراب من الساعة إلى أُمة جاهليّة مُختلفة أُمية أهل عَداوة وتَضاغن وفُرقة وتَباين قد استهوتهم شياطينُهم وغَلب عليهم قُرناؤهم فاستشعروا الرَّدى وسَلكوا العَمى يُبشَر مَن أطاعه بالجنّة وكريم ثَوابها وينذّر مَن عصاه بالنار وأَليم عِقابها ليَهلك مَن هَلك عن بيّنة ويحيا من حَيّ عن بيِّنة وإن اللّه لسميع عليم أوصيكم عباد اللّه بتَقوى اللّه فإنّ الاقتصار عليها سَلامة والتركَ لها ندامة وأَحثّكم على إجلال عَظمته وتوقير كِبربائه وقدُرته والانتهاء إلى ما يُقَرب من رَحمته وُينخي من سُخطه وُينال به ما لديه من كريم الثواب وجزيل المآب‏.‏
فاجتنبوا ما خوّقكم الله من شديد لعِقاب وأليم العذاب ووَعيد الحساب يوم تُوقفون بي يدي الجَبَّار وتعرضون فيه على النار يومَ لا تَكَلّم نفس إلا بإذنه فمنهم شَقِيّ وسَعيد يومَ يَفِرّ المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبَنيه لكُل امرئ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه يوم لا تَجزِي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها عدْل ولا تنفعها شفاعة ولا هم يُنصرون يوم لا يَجزِي والد عن ولده ولا مَولود هو جازٍ عن والده شيئاً إنّ وَعْدَ اللّه حق فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغَرور فإن الدُّنيا دارُ غُرور وبلاءٌ وشُرور واضمحلال وزَوال وتقلّب وانتقال قد أَفنت مَن كان قبلكم وهي عائدة عليكم وعلى مَن بعدكم‏.‏
مَن رَكنَ إليها صَرَعَتْه ومَن وثق بها خانته ومن أَمَّلها كَذَبته ومن رجاها خَذلته عِزُّها ذُلٌّ وغِنَاها فَقْر والسّعيد مَن تركها والشَّقِيّ فيها من آثرها والمَغبون فيها مَن باع حَظّه من دار أخرته بها فاللّه اللهّ عبادَ اللّه والتوبة مَقْبولة والرحمة مَبْسوطة وبادِرُوا بالأعمال الزاكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يُؤخذ بالكَظم وتدموا فلا تقالون بالنَّدم في يوم حَسْرة وتأسّف وكابة وتلهّف يوم ليس كالأيام وموقف ضَنْك المَقام‏.‏
إن أحسنَ الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ اللّه يقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا قًرِئ القُرآن فاسْتَمِعوا له وأَنْصِتوا لَعلّكم تُرَحمون ‏"‏‏.‏
أعوذ باللّه العظيم من الشَيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم‏:‏ أَلْهَاكم التَّكاثُر حتى زُرْتًم المَقابر إلى آخر السورة أُوصيكم عبادَ اللّه بما أوصاكم اللهّ به وأَنهاكم عما نهاكم اللّه عنه وأرضى لكم طاعة اللهّ وأستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
خطبة هارون الرشيد الحمدُ للّه نَحْمده على نِعمه ونَسْتعينه على طاعته ونَسْتنصره على أعدائه نؤمن به حقّاً ونتوكّلِ عليه مُفوِّضين إليه وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريك له وأشهد أن محمداَ عبدُه ورسولُه بعثَه على فَتْرة من الرُّسل ودرُوس من العِلْم وإدْبار من الدنيا وإقبال من الآخرة بَشيراً بالنَعيم المُقيم ونَذيراً بين يدي عذاب أليم فَبلّغ الرِّسالة ونَصح الأمة وجاهد في اللّه فأدّى عن اللّه وعدَه ووعيده حتى أتاه اليَقين فعلى النبيّ من الله صلاة ورحمة وسلام‏.‏
أُوصيكم عبادَ اللهّ بتقوى اللّه فإن في التَقوى تَكْفيرَ السيّآت وتَضْعيف الْحَسنات وفوزاً بالجنّة ونَجاةً من النار‏.‏
وأُحذّركم يوماً تَشْخص فيه الأبصار وتُبلى فيه الأسرار يومَ البعث ويومَ التغابن ويومَ التلاق ويوم التناد يومَ لا يُستعتب من سيئة ولا يُزداد في حسنة يوم الآزفة إذا القُلوب لَدَى الحَناجر كاظِمين ما للظّالمين من حَمِيم ولا شَفيع يُطاع يُعلم فيه خائنة الأعين وما تُخفي الصدور واتّقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ثُم توفّى كل نفس ما كَسبت وهم لا يظلمون‏.‏
عبادَ اللّه إنكم لم تُخلقوا عَبثا ولن تتركوا سُدَى حَصّنوا إيمانكم بالأمانة ودِينَكم بالوَرع وصَلاتكم بالزِّكاة فَقد جاء في الخبر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا إيمانَ لمن لا أمانة له ولا دِين لمَن لا عهد له ولا صَلاة لمن لا زكاة له‏.‏
إنكم سَفر مُجتازون وأنتم عنِ قَرِيب تَنتقلون من دار فَناء إلى دار بقاء فَسارِعوا إلى المغفرة بالتَّوبة وإلى الرَّحمة بالتّقوى إلى الهُدى بالإنابة فإن اللّه تعالى ذِكْره أوْجب رَحْمته للمُتَّقين ومَغْفرته للتائبين وهُداه للمُنيبين‏.‏
قالت الله عزَّ وجلّ وقولُه الحق‏:‏ ‏"‏ ورَحْمتي وَسِعتْ كُلّ شيء فسأْكتبها للذين يتقون وَيؤدون الزَّكاة ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وإني لغفّار لمن تاب وآمَن وعَمل صالِحاً ثم اهْتدَى‏"‏ وإياكم والأمانيَ فقد غَرّت وأرْدت وأوبقت كثيراً حتى أكذبتهم مُناياهم فتناوشُوا التوبةَ من مكان بعيد وحِيل بينهم وبين ما يَشْتهون فأخبركم ربكم عن المَثُلات فيهم وصَرّف الآياتِ وضَرَب الأمثال فرغّب بالوَعْد وقَدّم إليكم الوعيد وقد رأيتُم وقَائعه بالقرُون الخوالي جيلاً فجيلاً وعَهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بُيوتكم ومن بين ظهركم لا تَدْفعون عنهم ولا تَحُولون دونهم فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فاسلمتْهم إلى أعمالهم عند المَواقف والحساب والعقاب ليُجْزى الذين أساءوا بما عملوا ويُجزي الذين احسنوا بالحُسنى‏.‏
إن أحسن الحديث وأبلغَ الموعظة كتابُ الله يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وإذا قُرِئ القُرءان فاستمِعوا له وأنْصتوا لعلَّكم ترحَمون‏"‏ أعوذ بالله العظيم من الشَيطان الرجيم إنه هو السّميع العليم‏.‏
بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ قُل هُو اللّهُ أحد‏.‏ اللّهُ الصَمَد‏.‏ لَم يلد‏.‏ ولم يُولَد‏.‏ ولم يَكن له كفُواً أحد ‏"‏ أمرُكم بما أمَركم اللّهُ به وأنهاكم عما نَهاكم اللّه عنه‏.‏
وأستغفر اللّه لي ولكم‏.‏
خطبة المأمون في يوم الجمعة الحمد للّه مُستخلِص الحمدِ لنفسه ومُستوجِبه على خَلْقه أحمده وأستعينه وأُومنِ به وأتوكّل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسولُه أرسله بالهُدى ودِين الحق ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كَره المشركون أُوصيكم عبادَ اللهّ ونَفْسي بتَقْوى اللّه وحدَه والعمل لما عنده والتنجّز لِوَعْده والخوفِ لوَعِيده فإنه لا يَسلم إلا مَن اتقاه ورَجاه وعَمل لَه وأرضاه‏.‏
فاتقُوا اللّهَ عباد اللهّ وبادِرُوا آجالَكم بأعمالكم وابتاعًوا ما يَبقى بما يَزُول عنكم ويَفْنى وترَحَّلوا عن الدُّنيا فقد جَدَّبكم واستعدُّوا للموت فقد اظلَّكم وكُونوا كقوم صِيح فيهم فانتبهوِا وعلموا أنّ الدُّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فإنّ اللهّ عزّ وجلّ لم يَخْلُقكم عَبَثاً ولم يترككم سُدًى وما بَينْ أحدكم وبيني الجَنَة والنار إلا الموتُ أنْ ينْزلى به وإنَّ غايةً تَنْقُصها اللحظةُ وتَهْدِمها الساعةُ الواحدةُ لجديرة بقِصَر المُدة وإنّ غائباً يَحْدوه الجديدان الليلُ والنهار لجديرٌ بسُرعة الأوبة وإنّ قادماً يَحُل بالفَوْز أو بالشِّقوة لمُستحق لأفضل العُدّة‏.‏
فاتقى عبدٌ ربّه ونصح نفسه وقدّم توبته وغلب شَهْوته فإنَّ أجلَه مستور عنه وأملَه خادع له والشيطان مُوَكَلٌ به يُزَيِّن له المعصية ليركَبَها وُيمَنِّيه التَّوْبة ليًسَوِّفها حتى تَهْجُم عليه منيتَه أغفَلَ ما يكون عنها‏.‏
فيالها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة أن يكون عُمْره عليه حُجَّة أو تؤدّيه منيّته إلى شَقْوَة‏.‏
نَسْأل اللهّ أن يَجعلنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نِعْمة ولا تُقَصِّر به عن طاعة ربه غَفْلة ولا تَحُل به بعد الموت فَزْعة إنَّه سَمِيع الدعاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير فعّال لما يريد‏.‏
خطبة المأمون يوم الأضحى قالت بعد التكبير والتَحميد‏:‏ إنَّ يومَكم هذا يومُ أبان اللّه فَضْلَه وأوْجَبَ تَشْريفَه وعَظَّم حًرْمَته ووفِّى له من خلقه صَفْوَته وابتلى فيه خليله‏.‏
وفَدَى فيه بالذِّبح العظيم نبيَّه وجعله خاتَم الأيام المعلومات من العَشْر ومُقَدّم الأيام المعدودات من النَّفْر يومٌ حَرام من أيام عِظَام في شهر حرام يومُ الحجّ الأكبر يومٌ دعا الله فيه إلى مَشْهده ونزل القرآن العظيم بتَعْظيمه قال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وأذِّنْ في النَّاس بالحَجّ يأتُوكَ رِجَالاً وعَلَى كُل ضامِرٍ يأتِينَ مِنْ كُل فَجٍٍّ عَمِيق ‏"‏ فتقرّبوا إلى اللّه في هذا اليوم بذَبائحكم وعَظّموا شعائر اللهّ واجعلوها من طيِّب أموالكم وبصحِّة التَّقوى من قُلوبكم فإنه يقول‏:‏ ‏"‏ لَنْ يَنَال اللّه لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُه التَّقوى مِنْكم ‏"‏ ثم التَّكبير والتّحميد‏.‏
والصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم والوصية بالتَقوى‏.‏
ثم ذكر الموت ثم قال‏:‏ وما من بعده إلا الجنَّة أو النار عظمَ قدْرُ الدارين وارتفع جزاء العَمَلين وطالت مُدَة الفَريقَيْن‏.‏
اللّه فواللّهِ إنه الجدّ لا الّلعِب والحقّ لا الكَذِب وما هو إلا الموتُ والبعثُ والمِيزان والحِساب والصِّرَاط والقِصاص والثواب والعِقاب‏.‏
فَمَن نجا يومئذٍ فقد فاز ومَن هَوَى يومئذ فقد خاب الخيْر كلّهُ في الجنة‏.‏
والشرّ كله في النار‏.‏
خطبة للمأمون في الفطر قال بعد التَّكبير والتَحميد‏:‏ ألاَ وإنَ يومَكم هذا يوم عيد وسُنة وابتهال ورَغبة يومٌ خَتَم اللّه به صِيَام شهر رمضان وافتتح به حَجّ بيته الحرام فجلعه أول أيام شُهور الحجّ وجعله مُعَقِّبا لِمَفروض صيامكم ومُتَنَقِّل قيامكم أحلَّ الله لكم فيه الطَّعام وحرّم عليكم فيه الصّيامَ فاطلبُوا إلى اللّه حوائجكم واستغفروه لتَفريطكم فإنه يُقال‏:‏ لا كثيرَ مع نَدَم واستغفار ولا قَليل مع تَمَادٍ وإصرار‏.‏
ثم كبَرَ وحَمّد وذكرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأوصى بالبرّ وّالتَّقوى ثم قال‏:‏ اتقوا اللّه عباد الله وبادرُوا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يَحْضر الشد فيه أحداً منكم وهو الموتُ المكتوب عليكم فإنه لا تُسْتقال بعده عَثْرة ولا تُحْظر قبله توبة واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه ولا شيء بعدَه إلاّ فوقَه ولا يُعين على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه وعلى القبر وظُلْمته وضِيقه ووَحْشَته وهَول مطلعه ومسألة ملكَيْه إلا العمل الصالح الذي أمر اللّه به فمن زَلْت عند الموت قدَمُه فقد ظهرت ندامتُه وفاتته استقالتُه ودَعا من الرّجعة إلى مالا يُجاب إليه وبَذَل من الفِدْية مالا يُقْبَل منه‏.‏
فاللّه اللّه عباد اللّه كُونوا قوماً سألوا الرَّجعة فأُعطوها إذ مُنعها الذين طلبوها فإنه ليس يتمنى المُتقدّمون قبلَكم إلا هذا الأجل المَبْسوط لكم فاحذَروا ما حَذّركم اللّه واتقوا اليوم الذي يَجْمعكم اللهّ فيه لوَضْع موازِينكم ونشر صًحفكم الحافظة لأعمالكم‏.‏
فلينظر عبدٌ ما يَضع في ميزانه مما يَثْقل به وما يُمْلى في صحيفته الحافظة لما عليه وله ألا فَقد حكى اللهّ لكم ما قالَ المُفرطون عندها إذ طال إعراضّهم عنها قال جلّ ذكره‏:‏ ‏"‏ ووُضِع الكِتابُ فَتَرَى المُجْرمين مُشْفِقِين مما فيه ويقولون يا وَيْلَتَنا ما لهِذا الكِتاب لا يُغَادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً إلاّ أحْصَاها ووَجَدُوا ما عَمِلوا حاضِراً ولا يَظْلمُ رَبًّكَ أحَداً ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ ونَضَع المَوَازِين القِسْطَ لِيَوْم القِيَامة فَلاَ تُظْلم نَفْسٌ شيئَاَ‏.‏
وإنْ كان مثقالَ حًبّة من خرْدَلٍ أتينا بها وكَفى بنا حَاسِبين ‏"‏ ولستُ أنها كم عن الدُنيا بأكثر مما نهتكم به الدُّنيا عن نَفْسها فإنّ كل ما بها يُحَذِّر منها وينهى عنها وكلّ ما فيها يدعو إلى غيرها وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذَمُّ كتاب اللهّ لها والنهيُ عنها فإنّه يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تَغرَّنكم الحياةُ الدُّنيا ولا يَغُرَّنكم بالله الغَرُور ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ اعلَموا أنما الحَيَاة الدُّنيا لَعب ولَهْو وزِينَة وتفَاخُز بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ‏"‏ فانتفعوا بمَعرفتكم بها‏.‏
وبإخبار اللهّ عنها‏.‏
واعلموا أنَّ قوماً مِن عباد اللّه أدركتهم عِصْمَةُ اللهّ فَحَذِروا مَصَارعها وجانبوا خَذائعها واثروا طاعةَ اللهّ فيها وأدركوا الجنة بما يَتْركون منها‏.‏
خطبة عبد الله بن الزبير حين قام بفتح افريقية‏:‏ قَدِم عبدُ اللهّ بن الزُّبير علي عثمان بن عفّان بفتح إفريقية فأخبره مُشافهة وقَص عليه كيف كانت الوقعة‏.‏
فأعجب عثمانَ ما سمع منه فقال له‏:‏ يا بني أتقوم بمثل هذا الكلام في الناس فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أنا أهْيب لك مني لهم‏.‏
فقام عثمانُ في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إن الله قد فَتح عليكم إفريقية وهذا عبدُ اللهّ بن الزبير يُخبركم خبرَها إن شاء الله‏.‏
وكان عبدُ الله بن الزُبير إلى جانب المِنبر فقام خطيباً وكان أولَ من خطب إلى جانب المنبر فقال‏:‏ الحمدُ للهّ الذي ألَف بين قُلوبنا وجعلنا متحابين بعد البِغْضة الذي لا تُجحد نَعماؤه ولا يزول مُلْكه له الحَمْد كما حَمدَ نفسه وكما هو أهلُه انتخب محمداً صلى الله عليه وسلم فاختاره بعِلْمه وائتمنه على وَحْيه واختار له من الناس أعواناً قَذف في قُلويهم تصديقَه ومحبته فآمنوا به وعَز روه ووَقروه وجاهدوا في الله حَق جِهاده فاستُشهد لله منهم مَن استشهد على المِنْهاج الواضح والبَيْع الرابح وبقي منهم مَن بَقي ولا تأخذُهم في اللّه لومةُ لائم‏.‏
أيها الناس‏:‏ رَحمكم اللّه إنا خرجنا للوجه الذي عَلمتم فكُنا مع والٍ حافظ حَفِظ وصيةَ أمير المؤمنين كان يسير بنا الابْردين ويَخْفض بنافي الظهائر ويتخذ الليل جملًا يعُجل الرِّحلة من المَنزل الجَدْب ويُطيل اللبث في المنزل الخِصْب فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربّنا حتى انتهينا إلى إفريقية فنزلنا منها بحيثُ يسمعون صَهيل الخيل ورُغاء الإبل وقَعقعة السلاح‏.‏
فأقمنا أياماً نُجِمّ كُراعنا ونُصْلح سِلاحنا ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخولِ فيه فأبعدوا منه فَسألناهم الجزية عن صَغار أو الصلحَ فكانت هذه أبعدَ فأقمنا عليهم ثلاثَ عشرَة ليلة نَتأنّاهم وتَختلف رُسُلنا إليهم‏.‏
فلما يَئِس منهم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذَكر فضلَ الجهاد وما لصاحبه إذا صَبر واحتسب ثم نَهضنا إلى عدوّنا وقاتلناهم أشدَّ القتال يومَنا ذلك وصَبر فيه الفريقان فكانت بيننا وبينهم قَتْلى كثيرة واستشهد للهّ فيهم رجال من المُسلمين فبِتْنا وباتوا وللمُسلمين دويّ بالقرآن كدويّ النحل وبات المشركون في خُمورهم وملاعبهم فلما أصبحنا أخذنا مصاّفَنا الذي كُنا عليه بالأمس فزحف بعضُنا على بعض فأفرغ اللّه علينا صَبْره وأنزل علينا نَصْره ففتحناها منِ آخر النهار فأصبنا غنائم كثيرة وفيئاً واسعاً بلغ فيه الخُمس خَسمائة ألف فصفق عليها مروان بن الحكم فتركتُ المسلمين قد قرَّت أعينُهم وأغناهم النّفل وأنا رسولُهم إلى أمير المؤمنين أُبشره وإياكم بما فَتح الله من البلاد وأذلِّ من الشرك‏.‏
فاحمدوا الله عبادَ الله على آلائه وما أحل بأعدائه من بأسه الذي لا يردّه عن القوم اْلمُجْرمين ثم سكت‏.‏
فنهض إليه أبوه الزُّبير فَقَبِّل بين عينيه وقالت‏:‏ ذُرِّية بعضُها من بعض والله سميع عليم يا بني‏:‏ ما زِالْتَ تنطق بلسان أبي بكر حتى صَمَت‏.‏
خطبة عبد الله بن الزبير لمّا بلغه قتل مصعب صَعِد المنبر فحمد الله وأَثنى عليه ثم سكت فجعل لونُه يحمر مرة ويصفر مرة فقال رجلٌ من قُريش لرجل إلى جانبه‏:‏ ما له لا يتكلًم فواللّه إنه للبيب الخُطباء قال‏:‏ لعله يريد أن يذكر مَقتل سيد العرب فيشتدّ ذلك عليه وغير ملوم‏.‏
ثم تكلًم فقال‏:‏ الحمد للّه له الخَلْق والأمر والدُّنيا والآخرة يُؤتي الملك مَن يشاء ويَنزع الملك ممّن يَشاء ويُعز مَن يشاء ويُذل مَن يشاء‏.‏
أمّا بعد‏:‏ فإنه لم يُعزّ اللهّ مَن كان الباطلُ معه وإن كان معه الأنامُ طُرّاً ولم يُذل مَن كان الحقُّ معه وإن كان فَرْداً‏.‏
ألاَ وإن خبراً من العراق أتانا فأَحْزننا وأَفْرحنا فأمّا الذي أَحزننا فإن لفراق الحَميم لوعةً يجدها حميمه ثم يرعوي ذوو الألباب إلى الصَّبر وكريم العَزاء وأمّا الذي أفرحنا فإنّ قَتْل مُصعب له شهادة ولنا ذخيرة أَسلمه النّعام المًصلَّم الآذان‏.‏
ألاَ وإن أهل العِراق باعوه بأقلّ من الثَمن الذي كانوا يأخذون منه فإن يُقتل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه وكانوا الخيارَ الصالحين‏.‏
إنا واللّه لا يموت حَتْفَاً ولكن قَعصاً بالرِّماح ومَوْتا تحت ظلال السُّيوف ليس كما تموت بنو مَرْوان ألا إنما الدُنيا عاريّة من المليك الأعلى الذي لا يَبيد ذِكْره ولا يَذِل سُلطانه فإنْ تُقبِل الدنيا عليّ لم آخُذها أَخْذ الأشِر البَطر وإنْ تُدْبر عني لم أَبْك عليها بُكاء الخَرِق المهين ثم نزل‏.‏
خطبة زياد البتراء قال أبو الحسن المدائني عن مَسْلمة بن مُحارب بن أبي بَكْر الهُذليّ قال‏:‏ قَدِم زيادٌ البَصْرَة والياً لمُعاوية بن أبي سُفيان وضم إليه خراسان وسجستان والفِسْقُ بالبَصرة ظاهرٌ فاش فخَطب خُطبة بتراء لم يَحمد الله فيها‏.‏
وقال غيرُه بل قال‏:‏ الحمدُ للهّ على إفضاله وإحسانه ونَسأله المزيدَ مَن نِعَمه وإكْرامه اللَّهم كما زِدْتنا نِعماً فأَلْهمنا شُكراً أمّا بعد‏:‏ فإن الجهالة الجَهْلاء والضًلالة العَمْياء والعَمَى المُوفي بأَهله على النَار ما فيه سُفهاؤكم ويَشتمل عليه حُلماؤكم من الأمُور العِظام يَنبُت فيها الصغير ولا يَتحاشى عنها الكبير‏.‏
كأنكم لم تَقْرءوا كِتاب الله ولم تَسمعوا ما أَعدَّ الله من الثواب بالكريم لأهل طاعته والعذَاب العَظيم لأهل مَعْصيته في الزَمن السرمديّ الذي لا يزول أتكونون كمَن طَرفَتْ عَيْنَه الدنيا وسدت مسامَعه الشهوات واختار الفانيةَ على الباقية ولا تَذْكُرون أنكم أَحدثتم في الإسلام الحَدَث الذي لم تُسسبقوا إليه مَن تَرككم هذه المَواخير المنصوبة والضعيفة المَسْلوبة في النّهار المُبصر والعدَدُ غيرُ قليل‏.‏
ألم يكن منكم نُهاة تَمنع الغُواة عن دَلجَ الليل وغارة النهار‏!‏ قَربتم القرابة وباعدتم الذَين تَعتذرون بغير العُذر وتَغُضّون على المُخّتَلس كُلّ امرئ يَذُب عن سَفِيهه صَنِيعَ مَن لا يخاف عاقبةً ولا يرجو مَعاداً‏.‏
ما أنتم بالحُلماء ولقد اتبعتم السفهاء فلم يَزل بكم ما تَرَوْن من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حُرم الإسلام ثمّ أَطْرقوا وراءكم كُنُوساً في مكانس الرِّيَب‏.‏
حرامٌ عليّ الطعامُ والشّراب حتى أُسويها بالأرض هَدْماً وإحراقاً‏.‏
إني رأيتُ آخرَ هذا الأمر لا يَصْلح إلّا بما صَلَح به أولُه لِينٌ يا غير ضَعْف وشِدّة في غير عُنْف وإني أُقسم باللّه لآخُذنَ الوليّ بالمولى والمُقيم بالظّاعن والمُقْبل بالمُدبر والصحيحَ بالسَّقيم حتى يَلْقى الرحلُ منكم أخاه فيقول‏:‏ انْجُ سَعْد فَقد هلك سُعيد أو تَسْتقيم لي قَناتُكم‏.‏
إن كِذْبَة الأمير بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذْبة فقد حَلَّت لكم مَعْصيتي‏.‏
من نُقِب منكم عليه فأنا ضامن لما ذَهب منه فإيّاَيَ ودَلَجَ اللَّيل فإنّي لا أُوتيَ بمُدْلِج إلّا سَفكت دَمَه وقد أُجِّلتم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكُوفةَ ويَرجعِ إليكم وإيّاي ودَعْوي الجاهليّة فإني لا أَجد أحداً دعا بها إلّا قطعتُ لسانه وقد أحْدثتم أحداثاً لم تكن وقد أَحدثنا لكُلّ ذَنب عُقوبةً فمَن غرق قوماً غرقناه ومَن أَحرق قوماً أحرقناه ومَن نَقَبَ بيتاً نَقَبنا عن قَلْبه ومَن نَبَش قَبْراً دفنّاه فيه حيّاً فكُفُّوا عني ألسنَتكم وأيدَيكم أكف عنكم يدي ولساني ولا يَظهرنّ من أحد منكم ريبةٌ بخلاف ما عليه عامَّتكم إلّا ضربتُ عُنقه وقد كانت بيني وبين قومِ إحَنٌ فجعلتُ ذلك دَبْر أُذني وتحت قدمي فمَن كان مُحسِناً فَلْيَزْدد في إحسانه ومن كان مُسِيئاً فَلْيَنزع عن إساءته إنيِ لو علمتُ أنَّ أَحدَكم قد قَتله السُّلّ من بُغضي لم أَكْشف له قناعاً ولم أَهْتك له سِتْراً حتى يُبدِي لي صَفْحته فإنْ فعل ذلك لم أنظره‏.‏
فاستأنفوا أموركم واستعينوا على أَنفسكم فرب مُبتئس بقُدومنا سيُسر ومَسرور بقَدومنا سيَبْتَئس‏.‏
أيها الناس إنّا أصبحنا لكم ساسةً وعنكم ذادة نَسُوسكم بسُلطان اللّه الذي أَعطانا ونَذُود عنكم بفَيء اللّه الذي خوَلنا فَلَنا عليكم السَّمع والطاعة فما أَحببنا ولكم علينا العدلُ فما وَلينا فاستوجبوا عَدْلَنا وفَيْئنا بمُناصحتكم لنا‏.‏
واعلموا أني مهما أُقصّر فلن أُقصر عن ثلاث‏:‏ لستُ مُحْتجباً عن طالب حاجة ولو أَتاني طارقاً بليل ولا حابساً عَطاءً ولا رزْقاً عن إبانه ولا مُجَمِّراً لكم بَعْثاً‏.‏
فادعوا الله بالصَّلاح لأئمتكم فإنهم ساسُتكم المؤدِّبون وكَهْفُكم الذي إليه تَأْوون ومتى يَصْلحوا تَصْلحوا‏.‏
ولا تُشربوا قلوبَكم بُغْضهُم فَيَشْتَد لذلك أسَفكُم ويطول له حزنكم ولا تُدْرِكوا له حاجتكم مع أنَّه لو اسْتُجيب لكمٍ فيهم لكان شرِّاً لكم‏:‏ أسأل اللهّ أن يُعين كُلأ على كُلّ‏.‏
وإذا رأيتُموني أُنَفِّذ فيكم أمرا فأَنْفِدُوه على أذلاله وايم للّه إن لي فيكم لصَرْعى كثيرة فَلْيحذر كل امرئ منكم أن يكون مِنْ صَرعاي ثم نزل‏.‏
فقام إليه عبدُ اللهّ بن الأهتم فقال‏:‏ أَشهد أيها الأمير لقد أُوتيت الحِكمة وفَصْل الخِطاب‏.‏
فقال له كذَبْتَ ذاك داودُ صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقام الأحنف بن قيس فقال‏:‏ إنما الثّناء بعد البَلاء والحمدُ بعد العَطاء وإنا لن نُئْنى حتى نَبْتلي‏.‏
قال له زياد‏:‏ صَدَلْت‏.‏
فقام أبو بلال وهو يَهْمس ويقول‏:‏ أنبأنا اللّه تعالى بخلاف ما قلتَ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏ وإبراهيمَ الذي وَفَى‏.‏ أَلّا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى‏.‏ وأنْ ليس للإنسان إلّا ما سَعى ‏"‏ وأَنت تزعم أنك تأخذ الصحيح بالسَّقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر فَسَمِعَها زياد فقال‏:‏ إنّا لا نبلغ ما نرِيد فيك وفي أصحابك حتى نَخُوض إليكم الباطل خَوْضاً‏.‏
خطبة لزياد استوصوا بثلاث منكم خيراً‏:‏ الشريف والعالم والشَّيخ فوالله لا يأتيني شيخٌ بحدَث استَخَفَّ به إلّا أَوْجَعته ولا يأتينِي عالمٌ بجاهل استخف به إلاّ نَكَلْتُ به ولا يأتيني شريف بوَضيع استخف به إلاضربته‏.‏
خطبة لزياد خَطب زياد على المِنبر فقال‏:‏ أيها الناس لا يَمنعكم سُوء ما تَعْلَمون عنّا أنْ تَنْتفعوا بأَحْسن ما تَستمعون منّا فإن الشاعر يقول‏:‏ وخطبة لزياد العُتبيّ قال‏:‏ لما شهدتْ الشُّهود لزياد قام في أَعقابهم فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ هذا أمر له أشهد أوّلَه ولا عِلْم لي بآخره وقد قاد أميرُ المؤمنين ما بَلغكم وشهدتْ الشهود بما سَمِعتم‏.‏
فالحمد للّه الذي رَفع منّا ما وَضع الناس وحَفِظ منّا ضَيّعوا‏.‏
فأمّا عُبيد فإنما هو والد مبرور أو كافل مشكور‏.‏
خطبة الجامع المحاربي وكان شيخاً صالحاً خَطِيباً لسناً وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط‏:‏ بَنَيتَها في غير بلدك وأَوْرَثتها غيرَ وَلدك شَكا الحجّاج سُوء طاعة أهل العِراق وَنقَمَ مَذْهَبهم وَتَسَخطَ طريقتهم فقال جامع‏:‏ أما إنهمِ لو أحبُّوك لأطاعوك على أنهم ما شَنَؤوك لِنَسبك ولا لبلدك ولا لذات نَفْسك فدَعِ عنك ما يُبْعدهم منك إلى ما يُقرّبهم إليك والتمسى العافية ممن دُونك تُعْطَها ممن فوقك وليكُن إيقاعك بعد وَعيك ووَعيدُك بعد وَعْدك‏.‏
قال الحجَّاج‏:‏ إنّي واللّه ما أَرى أن أَردَ بني اللَّكيعة إلى طاعتي إلّا بالسيف‏.‏
قال له‏:‏ أيها الأمير إنّ السَّيف إذ لاقَى السيف ذَهَب الخيار‏.‏
قال الحجاج‏:‏ الخَيارُ يومئذ لله‏.‏
قال‏:‏ أجل ولكن لا تَدْرِي لمَن يَجْعله اللّه‏.‏
وغضب الحجاج فقال‏:‏ يا هناهُ إنك من مُحارب‏.‏
فقال جامع‏:‏ وللحَرْب سمَينا وكُنّا مُحارِباً إذا ما القنا أَمْسى من الطّعن أَحْمَرَا والبيت للخُضْرِي قال الحَجَّاج‏:‏ واللهّ لقد هَمْمتُ أن أقطع لسانَك فأضرب به وجهك‏.‏
قال جامعِ‏:‏ إن صَدقناك أَغْضبناك وإن غَششْناك أغضبنا اللّه فغضَبُ الأمير أَهْونُ علينا من غضب اللهّ‏.‏
قال‏:‏ أجل‏.‏
وشُغل الحجاج ببعض الأمر فانسلَّ جامع فمرّ بين صُفوف خَيْل الشام حتى جاوزَهم إلى خَيْل أهل العراق - وكان الحجَّاج لا يَخْلطهم - فأبصرَ كَبْكبة فيها جماعةٌ من بكر العِراق وقَيس العراق وتميم العراق وأزد العراق فلمّا رأَوْه اشرَأَبُّوا إليه وبلغهم خُروجُه فقالوا له‏:‏ ما عندك دافع اللّه لنا عن نفسك‏.‏
فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ عُمّوه بالخلع كما يُعمكم بالعداوة ودَعُوا التَعادي ما عاداكم فإذا ظَفرْتم تَرَاجعتم وتعاديتم‏.‏
أيها التميمي هو أَعْدَى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التَّغلبي وليس يظفر بمَن نَاوَأَه منكم إلّا بِمَن بَقِيَ معه‏.‏
وهرب جامع من فَوْره ذلك إلى الشام فاستجار بزُفْر بن الحارث‏.‏
خطبة للحجاج بن يوسف خَطب الحجًاج فقال‏:‏ اللَّهم أَرِني الغَيّ غيّاً فأجتنبَه وأَرِني الهُدَى هُدىً فأتبعَه ولا تَكْلني إلى نَفسي فأضلّ ضلالاً بعيداً‏.‏
واللّه ما أُحِبّ أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه ولمَا بَقِيَ منها أَشبهُ بما مَضى من الماء بالماء‏.‏
خطبة للحجاج قال الهيثم بن عديّ‏:‏ خرج الحجّاج بن يوسف يوماً من القصر بالكوفة فسمع تكبيراً في السُوق فراعه ذلك فَصَعِد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يأهل العراق يأهل الشَقاق والنفاق ومساوي الأخلاق وبني اللًكيعة وعَبيد العصا وأولاد الإماء والفَقْع بالقرقرة إني سمعتُ تكبيراً لا يُراد به اللهّ وإنما يُراد به الشيطان وإنما مَثلي ومَثلكم ما قال ابن براق الهَمْداني‏:‏ وكنتُ إذا قوم غَزَوْني غزوْتهمٍ فهل أنا في ذا يا لهَمْدان ظالمُ متَى تَجْمَع القَلْبَ الذَكيّ وصارماً وأَنفاً حَمياً تَجْتَنِبْك المظالم أما والله لا تُقرع عصاً بعصاي إلا جعلتُها كأمس الدابر‏.‏
خطبة للحجاج بعد دير الجماجم خطب أهلَ العراق فقال‏:‏ يأهل العراق إنّ الشّيطان قد اسْتَبطنكم فخالَط اللحمَ الدَّم والعَصب والمِسامع والأطراف والأعضاد والشَغاف ثم أفضىَ إلى المِخاخ والصَّمائخ ثم ارتفعِ فَعَشّش ثم باض وفَرّخ فحشاكم شِقاقا ونفاقاً وأشعركم خلافاً اتخذتموه دَليلا تَتّبعونه وقائداً تُطيعونه ومُؤامراً تَسْتَشيرونه‏.‏
وكيف تنفعكم تجربة أو تَعِظكم وَقعة أو يحْجًزكم إسلام أو يَردّكم إيمان‏!‏ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رُمتم المكر وسَعَيتم بالغَدْر واستجمعتمِ للكُفر وظَننتم أنَ اللّه يَخْذل دينه وخلافته وأنا أرميكم بطَرْفي وأنتم تَتَسلّلون لِو إذا وتنهزمون سراعاً ثم يومَ الزاوية وما يوم الزاوية‏!‏ بها كان فَشَلكم وتنازُعكم وتخاذلكم وبراءة اللّه منكم ونُكوص وليّه عنكم إذ وَلّيتم كالإبل الشَوارد إلى أَوْطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المَرء منكم عن أخيه ولا يُلوي الشيخ على بنيه حتى عَضّكم السلاح وقَصَمتكم الرّماح ثم يوم دَيْر الجماجم وما دَيْر الجماجم‏!‏ بها كانت المعارك والملاحم بضرب يُزيل الهام عن مَقِيله ويذهل الخَلِيل عن خليله‏.‏
يأهل العراق والكَفَرات بعد الفَجَرات والغَدَرات بعد الخَتَرَات والنزوات بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثُغوركم غَلَلتم وخُنتم وإن أمِنتم أَرْجفتم وإن خِفتم نافَقتم لا تَذْكرُون حسنة ولا تَشكرون نِعْمة‏.‏
يأهل العراق هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استفزّكم عاص أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلّا وَثقْتموه واويتُموه وعزّرتموه ونصرتموه ورَضيتموه يأهل العراق هل شَغَب شاغِب أو نعب ناعب أو ذَمَق ناعق أو زفر زافر إلاكنتم أتباعَه وأنصاره يأهل العراق ألم تَنهكم المواعظ ألم تزجركم الوقائع ثم التفت إلى أهل الشام فقال‏:‏ يأهل الشام إنما أنا لكم كالظَليم الذابّ عن فِرَاخه يَنْفي عنها المَدَر ويُباعد عنها الحَجر ويُكِنّها عن المطر ويَحميها من الضباب ويَحرُسها من الذئاب‏.‏
يأهل الشام أنتم الجُنة والرداء وأنتم الغدة والحِذاء‏.‏
خطبة للحجاج قال مالك بن دينار‏:‏ غدوت لجُمعة فجلست قريباً من المِنبر فصعد الحجاج ثم قال‏:‏ امرؤ حَاسب نَفْسه امرؤ راقب ربه امرؤ زَوَّر عمله امرؤ فكَر فيما يقرؤه غداً في صحيفته ويراه في ميزانه امرؤ كان عند همّه ذاكراً وعند هواه زاجراً امرؤ أخذ بِعِنان قلبه كما يأخذ الرجل بخِطام جَمَله فإن قاده إلى حق تبعه وإن قاده إلى معصية اللّه كفه‏.‏
إننا واللّه ما خُلقنا للفناء وإنما خلقنا للبقاء وإنما ننتقل من دار إلى دار‏.‏
خطبة للحجاج بالبصرة اتّقوا الله ما استطعتم فهذه للّه وفيها مَثُوبة‏.‏
ثم قال‏:‏ واسْمعوا واطيعوا فهذه لعبد اللّه وخَليفة اللّه وحَبيب اللّه عبد الملك بن مَرْوان‏.‏
واللّه لو أمرتُ الناس ان يأخذُوا في باب واحد وأخذُوا في باب غَيْرِه لكانتْ دماؤُهم لي حلالاً من آلفه ولو قُتل ربيعُة ومُضر لكان لي حلالَاً‏.‏
عَذيري من هذِه الحَمْراء يَرْمي أحدُهم بالحَجَر إلى السماء ويقول‏:‏ يكونُ إلى أن يَقَع هذا خَيْر‏.‏
واللّه لأجعلنهم كأمْس الدّابر‏.‏
عَذِيري من عَبْد هُذَيل إنه زَعم أنه آمِن عند اللّه يقرأ القرآن كأنه رَجَز الأعراب واللّه لو أدركتُه لقتلُته‏.‏
خطبة للحجاح بالبصرة حِمَد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إنَّ الله كفانا مَئُونة الدنيا وأمرنا بطَلب الآخرة فليت اللّه كفانا مؤونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا‏.‏
ما لي أرى عُلماءكم يُدهنون وجُهالكم لا يَتعلمون وشِرارَكم لا يَتُوبون‏!‏ ما لي أراكم تَحْرِصون على ما كُفِيتم تُضيَعون ما به أمِرْتم‏!‏ إنَّ العِلْم يُوشك أن يُرفع ورَفْعه ذهابُ العلماء‏.‏
ألَا وإنَي أعلم بِشراركم من البَيْطار بالفَرس‏:‏ الذين لا يَقْرءون القرآن إلا هُجْراً ولا يأتونِ الصلاة إلا دًبْراً‏.‏
ألا وإنّ الدُّنيا عَرَض حاضر يأكل منها البَرّ والفاجِر‏.‏
ألَا وإنَ الآخرةَ أجَلٌ مُستأخر يَحكم فيه مَلِك قادر‏.‏
ألاَ فاعملوا وأنتم من اللِّه على حَذَر واعلموا أنّكم مُلاقوه ليَجْزي الذين أساءووا بما عَمِلوا ويجزِي الذين أحسنوا بالحُسنى‏.‏
ألَا وإِنَّ الخيرَ كلَّه بحذافيره في الجَنَّة ألاَ وإنَ الشر كفَه بحذافيرهِ في النار ألاَ وإن مَن يَعمل مِثْقال ذَرّة خيراً يَرَه ومَن يَعملْ مِثْقال ذَرّة شراً يَرَه وأستغفر الله لي ولكم‏.‏
خطبة للحجاج خَطب الحجّاج أهلَ العراق فقال‏:‏ يأهل العِراق إنّي لم أجد لكم دواءً أدوى لدائكم من هذه المَغازى والبُعوث لولا طِيبُ لَيْلة الإياب وفَرْحة القَفل فإنها تُعقب راحة وإني لا أريد أن أرى الفَرَح عندكم ولا الرًّاحة بكم‏.‏
وما أراكم إلا كارهين لمَقالتي وإني واللّه لرُؤيتكم أكره‏.‏
ولولا ما أريد من تَنْفيذ طاعةِ أمير المُؤمنين فيكم ما حَمّلت نفسي مُقاساتَكم والصبرَ عليى النَّظر إليكم واللّهَ أسألُ حُسن العوْن عليكم ثم نَزَل‏.‏
خطبة للحجاج حين أراد الحج يأهل العِراق إنِّي أردت الحج وقد استخلفتُ عليكم ابني محمداً وما كنتم له بأهل وأوْصيتُه فِيكم بخلاف ما أوصى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الانْصار فإنه أوْصى أنْ يَقْبل من مُحسنهم ويتجاوز عن مُسيئهم وأنا أوْصيتُه أن لا يَقْبل من مُحسنكم ولا يَتجاوز عن مُسيئكم‏.‏
ألَا وإنكم قائلون بعدي مَقالةً لا يَمْنعكم من إظهارها إلا خَوْفي تَقولون‏:‏ لا أحْسن الله خطبة للحجاج قال‏:‏ خَرج الحجّاج يريد العراق والياً عليها في اثني عشر راكباً على النَّجائب حتى دَخل الكوفة حين انتشر النهار وقد كان بِشْر بن مَرْوان بَعث المُهلَّب إلى الحَرُوريِّة فبدأ الحجّاج بالمسجد فدخله ثم صَعِد المِنْبر وهو مُلَثَّم بعمامة حمراء فقال‏:‏ عليّ بالناس فحَسبوه وأصحابَه خوارج فَهموا به حتى إذا اجتمع الناس في المَسجد قام ثم كَشف عن وجهه ثم قال‏:‏ أنا ابن جَل أو طَلاَعُ الثَّنَايَا متى أضَع العِمامةَ تَعْرِفُوني صَليب العُود مِن سَلَفي رباحٍ كنَصْل السَّيف وضحاح الجَبِينَ وماذا يَبتغي الشُّعراءُ منّي وقد جَاوزتُ حَدِّ الأرْبعين أخو خَمْسين مُجْتمع أشُدِّي ونَجَّذني مُداورةُ الشُّئون وإني لا يَعود إليّ قِرْني غداةَ العَبْءِ إلّا في قَرِين أمَا واللّه إني لا حمل الشرّ بَحْملَه وأحذوه بنَعْله وأجْزيه بمثله وإنّي لأرى رءوساً قد أيْنعَت وحان قِطافها وإني لصاحبها وإنِّي أنْظر إلى الدِّماء بين العمائم واللَحى تَتَرقرق‏:‏ ثم قال‏:‏ هذا أوانُ الشَّد فاشتدِّي زِيَم قد لَفها الليلُ بسَوَّاق حُطَمْ ليس براعِي إبلٍ ولا غَنم ولابجزّار على ظَهَر وَضَم ثم قال‏:‏ قد لَفّها الليلُ بعَصْلبي أروَع خَرّاج مِن الدَوي مُهاجِر ليس بأعْرابيّ قد شَمَّرتْ عن ساقها فَشُدوا ما عِلَّتي وأنا شَيْخ إدّ والقَوْس فيها وَتر عُردُ مثلُ ذِراع البَكْر أو أشَدُّ إنّي واللّه يأهل العِراق ومَعْدِنَ الشِّقاقْ والنِّفاق ومَسَاوِي الأخلاق لا يُغْمَز جانبي كَتغْماز التّين ولا يُقَعْقع لي بالشِّنان ولقد فُرِزْتُ عِن ذكاء وفُتشت عن تَجْربة وأجْرِيت إلى الغاية القُصْوِى وإنّ أميرَ المُؤمنين نثر كِنَانته بين يديه ثم عَجَم عِيدانَها فَوَجدني أمرَّها عُوداً وأشدَّها مَكْسِراً فَوَجهني إليكم ورَماكم بي فإنّه قد طالما أوضعتم في الفتن وسنَنْتم سُنَن الغَي وايم اللّه لألْحونكم لَحْو العصا ولأقرعنّكم قَرْع المَرْوَة ولأعْصِبنّكم عَصْب السَّلَمة ولأضْربنَكم ضَرْب غَرائب الإبل‏.‏
أمَا واللّه لا أعد إلّا وَفَّيت ولا أخلُق إلّا فَريْت‏.‏
وإياي وهذه الشفعاء والزًرافات والجماعات وقالًا وقيلاً وما يقولون وفيم أنتم وذاك الله لتَسْتقيمُن على طريق الحق أو لأدعنّ لكُل رجل منكم شُغلاً في جَسده مَن وجدتُه بعد ثالثة من بَعْث المُهلّب سفكتُ دمَه وانتهبت مالَه وهدمتُ منزله فشمًر الناس بالخُروج إلى المهلَّب‏.‏
فلما رأي المُهلّب ذلك قال‏:‏ لقد وَلِي العراق خيرُ ذكر خطبة الحجاج فلما مات عبد الملك قام خطيباً فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنَّ اللّه تبارك وتعالى نَعى نبيّكم صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال‏:‏ ‏"‏ إنك مَيَتٌ وإنَهم مَيِّتون ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وما مُحمّد إلا رَسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبله الرُّسُل أفإنْ ماتَ أوْ قُتل أنقلبتم على أعْقابكم ‏"‏ فمات رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ومات الخلفاء الراشدون المُهتدون المَهديُون منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان الشهيد المَظلوم ثم تَبعهم مُعاوية ثم وَليكم البازل الذِّكر الذي جَربَته الأمور وأحكمته التًجارب مع الفِقْه وقراءة القرآن والمُروءة الظاهرة واللِّين لأهل الحقّ والْوطء لأهل الزًيغ فكان رابعاً من الوُلاء المُهذيين الراشدين فاختار الله له مما عنده وألحقه بهم وعَهد إلى شِهه في العقل والمروءة والحَزم والجَلَدٍ والقيام بأمر اللّه وخلافته فاسمعوا له وأطيعوه أيها الناس‏.‏
وإيّاكم والزَّيغ فإن الزّيغ لا يحَيق إلا بأهله‏.‏
ورأيتُمِ سِيرتي فيكم وعرفتُ خِلافَكم وقَبِلتُكم على معرفتي بكم ولو علمِتُ أنَ أحداَ أقوى عليكم منّي أو أعرفَ بكم ما وَليتكم فإياي وإياكم من تكلّم قَتلناه ومن سَكت مات بدائه غمّاً ثم نزل‏.‏
خطبة الحجاج لما أصيب بولده محمد أيها الناس محمّدان في يوم واحد أما الله لقد كنتً أحِبًّ أنهما معي فِي الدنيا مع ما أرجو لهما من ثواب اللّه يا الآخرة وايم اللّه ليُوشكنَّ الباقي منَا ومنكم أن يَفْني والجديدُ منَّا ومنكم أن يَبلى والحيّ منَّا ومنكم أن يموت وأن تُدال الأرض منّا كما أدِلنا منها فتأكل من لحومنا وتَشْرب من دمائنا كما مَشَينا على ظَهرها وأكلْنا من ثمارها وشربنا من مائها ثم يكون كما قال اللّه‏:‏ ‏"‏ ونُفِخ في الصُور فإذا هم مِن الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون ‏"‏ ثم تَمثل بهذين البيتين‏:‏ عَزَائي نبي اللّه مِنْ كْل مَيتٍ وحَسْبي ثوابُ الله مِن كُلّ هالِكِ إذا ما لقيتُ الله عنِّيَ راضِياً فإن سرُورَ النًفس فيما هُنالِك خَطب الحجاج في يوم جمعة فأطال الجمعة فقام إليه رجل فقال‏:‏ إنَ الوقتَ لا ينتظرك والربّ لا يَعذرك‏.‏
فأمر به إلى الحَبس‏.‏
فأتاه آلُ الرجل وقالوا‏:‏ إنه مَجنون فقال‏:‏ إن أقَرَ على نفسه بما ذكرتم خليت سبيلَه‏.‏
فقال الرجل‏:‏ لا واللّه لا أزْعُم أنه ابْتَلاني وقد عافاني‏.‏

خطبة للحجاج
ذكروا أن الحجّاج مَرض ففرح أهلُ العراق وقالوا‏:‏ مات الحجاج‏.‏
فلما بلغه تحاملَ حتى صَعِد المنبر فقال‏:‏ يأهل الشِّقاق والنَفاق نَفخ إبليسُ في مَناخِركم فقُلتم‏:‏ مات الحجَّاج مات الحجاج‏.‏
فَمَهْ واللّه ما أحب ألاّ أموت وما أرْجو الخَيْر كُلّه إلاّ بعد الموت وما رأيتُ اللّه عزّ وجل كتب الخلود لأحدٍ من خَلقه إلا لأهونهم عليه إبليس‏.‏
ولقد رأيتُ العَبْد الصالح سأل ربه وقال‏:‏ ربِّ أغْفِر لي وَهَبْ لي مُلكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدِ مِن بَعْدِي إنّك أنتَ الوَهاب‏.‏
فَفَعل ثم اضمحل كأنْ لم يكن‏.‏
وخطبة للحجاج خطب فقال في خُطبته‏:‏ سَوْطى سَيْفيِ ونجاده في عُنقي وقائمُه في يَدي وذُبابه قِلادة لمن اغترِّ بي‏.‏
فقال الحسن‏:‏ بُؤساَ لهذا ما أغَرِّه بالله‏!‏ وحلف رجل بالطلاق‏:‏ إن الحجّاج في النار ثم أتي زوجتَه فمنعتهُ نفسها فأتى ابن شُبرمة يَستفتيه فقال‏:‏ يا بن أخي امض فكُن مع أهلك فإنّ الحجاج إن لم يكن من أهل النار فلا يَضرُك أن تَزْني‏.‏
هذا ما ذكرنا في كِتابنا من الخًطب للحجّاج وما بقي منها فهي مستقصاة في كتاب اليتيمة الثانية حيث ذكرت أخبارَ زياد والحجَّاج وإنما مَذْهبنا في كِتابنا هذا أنْ نأخذ من كل شىِء أحْسَنه ونَحْذف الكثيرَ الذي يُجتزأ منه بالقليل‏.‏
خطبة لطاهر بن الحسين لمّا افتتح مدينة السًلام صَعِد المْنبر وأُحضر جماعةُ من بني هاشم والقُواد وغيرهم فقال‏:‏ الحمدُ لله مالكِ الملك يُؤْتي المُلْك مَن يشاء وَينزع المُلك ممن يشاء ويُعز من يشاء ويُذل مَن يشاء ولا يُصلحِ عَمل المُفسدين ولا يَهْدي كَيْدَ الخائنين‏.‏
إنً ظُهور غَلَبتنا لم يكن عن أيْدنا ولا كيدنا بل اختار الله لخِلافته إذ جعلها عَموداً لدينه وقَواما لِعباده من يستقل بأعبائها ويَضطلع بحمْلها‏.‏
خطبة لعبد الله بن طاهر خطب الناسَ وقد تَيسر لقتال الخوارج فقال‏:‏ إنكم فئةُ الله المُجاهدون عن حقّه الذابّون عن ديِنه الذائدون عن مَحارمه الدّاعون إلى ما أمر به من الاعتصام بَحبْله والطاعةِ لوُلاة أمْره الذيغي جَعلهم رعاة الذين ونظامَ المُسلمين فاستنجِزُوا مَوْعود اللّه ونَصره بِمُجاهدة عدوَه وأهْل مَعْصيته الذين أشِروا وتَمَرِّدوا وشَقُّوا العصا وفارقوا الجماعة ومَرَقوا من الدين وسَعَوْا في الأرض فساداً فإنه يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ إنْ تَنْصرُوا اللّه يَنْصُرْكم ويُثَبت أقدامَكم ‏"‏ عفلْيكن الصَبرُ معقِلَكم الذي إليه تَلْجئون وعُدَتكم التي بها تَسْتظهرون فإنه الوزر المَنيع الذي دَلَّكم اللّه عليه والجُنة الحَصِينة التي أمرِكم اللّه بلباسها‏.‏
غُضُّوا أبصاركم واخفتوا أصواتَكم في مَصافكم وامضُوا قُدُماً على بصائركمٍ فارِغين إلى ذِكْر اللّه والاستعانة به كما أمركم الله فإنه يقوك‏:‏ ‏"‏ إذا لَقِيتُم فئةً فاثبتُوا وأذكروا اللّه كَثِيراً لعلّكم تُفْلحون‏.‏
أيْدكم اللّه بعزّ الصَّبر وَوَليكم بالحِياطة والنّصر‏.‏
خطبة لقتيبة بن مسلم قام بِخُراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك فَصَعِد المنبر فَحَمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أتَدْرون مَن تُبايعون إنما تُبايعون يزيدَ بن مَرْوان - يعني هَبنقّة القَيْسي - كأني بكم وحَكَم جائر قد أتاكم يَحْكُم في أموالكم ودِمَائكم وفُروجكم وأبْشاركم‏.‏
ثم قال‏:‏ الأعْراب‏!‏ وما الأعراب‏!‏ لعن اللّه الأعْراب‏!‏ جَمعتُهم كما يُجمع فَرْخ الخَرْبَق من مَنابت الشِّيح والقَيْصوم والفلفل يَرْكبون البَقَر ويَأكلون الهَبِيد‏.‏
فحملتُهم على الخيل وألبستهمٍ السّلاخ حتى مَنع الله بهم البلاد وجُبي بهيم الفيء‏.‏
قالُوا‏:‏ مُرنا بأمرك‏.‏
قال‏:‏ غُرّوا غيري‏.‏
خطبة لقتيبة بن مسلم يأهل العِراق ألستُ أعْلمَ الناس بكم‏.‏
أمّا هذا الحيّ من أهل العالية فَنَعمُ الصًدقة وأمّا هذا الحيُّ من بكر بنِ وائِل فعِلَجة بَظراء لا تَمنع رِجْلَيها وأما هذا الحيّ من عبد القَبس فما ضرَب العَيْر بذَنبه وأما هذا الحيّ من الأزْد فعُلُوج خَلْق اللهّ وأنْباطه‏.‏
وايم الله لو ملكتُ أمر الناس لنَقَشْتُ أيدِيهَم وأمّا هذا الحيّ من تميم فإنهم كانوا يُسمّون الغَدْرَ في الجاهليِّة كَيْسان‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ إذا كنتَ من سَعْد وخالُك منهمُ بعيداً فلا يَغْرُرْك خالُك من سَعْدِ إذا ما دَعَوْا كَيْسان كانت كُهولُهمْ إلى الغَدر أدنى من شَبابهم المُرْد وخطبة لقتيبة بن مسلم يأهل خُراسان قد جَربكم الوُلاة قبلي أتاكم أُميّة فكان كاَسمه أُميّةَ الرأي وأُميّة الدين فكتب إلى خَليفته‏:‏ إنّ خراج خُراسان لو كان في مَطْبخه لم يَكْفه‏.‏
ثم أتاكم بعده أبو سعيد ثلاثاً لا تدرون أفي طاعة اللهّ أنتم أم في مَعْصيته‏!‏ ثم لم يجْب فيئا ولم يَبْل عَدوًّا ثم أتاكم بنوه بعده مثلَ أطْباء الكَلْبة منهم ابن دَحْمة حِصان يَضرب في عانة لقد كان أبوه يخافه على أُمّهات أولاده‏.‏
ثم أصْبحتم وقد فَتح اللّه عليكم البلاد حتى إنَ الظَّعينة لتخرج من مَرْو إلى سَمَرْقند في غير جوار‏.‏
قوله‏:‏ أبو سعيد يريد المُهلّب بن أبي صُفْرة وقوله‏:‏ ابن دَحْمة يريد يزيد بن المُهلب‏.‏
خطبة ليزيد بن المهلب حمد الله وأثْنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ أيها الناس إني أسْمع قول الرًعاع‏:‏ قد جاء العَبّاس قد جاء مَسْلمة قد جاء أهلُ الشام‏.‏
وما أهل الشام إلاّ تِسْعة أسْيَاف منها سَبْعة مَعِي واثنان عَليّ وما مَسْلمة إلا جرادة صَفْراء وأما العبَّاس فبسطوس بن بسطوس أتاكم في بَرابرة وصَقالبة وجَرَامقة وأقْباط وأنباط وأخلاط أقبل إليكم الفَلاّحون والأوباش كأشلاء اللحم واللهّ ما لَقُوا قطُّ حدًّا كحدّكم ولا حديداً كحَديدكم‏.‏
أعيرُوني سواعَدكم ساعةَ من نهار تصفقون بها خراطيمَهم فإنما هي غَدْوة أو رَوْحة حتى يحكم اللهّ بيننا وهو خيرُ الحاكمين‏.‏
خطبة لقس بن ساعدة الأيادي ابن عبّاس قال‏:‏ قَدِيم وَفْد إياد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيكم يعرف قُسي بن ساعدة الإياديّ قالوا‏:‏ كُلنا يعرفه‏.‏
قال‏:‏ فما فَعل قالوا‏:‏ هَلَك‏.‏
قال‏:‏ ما أنْساه بسُوق عُكاظ في الشهر الحَرام على جَمَل له أحْمر وهو يَخْطُب الناس ويقول اسمعوا وعُوا مَن عاش مات ومَن مات فات وكلّ ما هو آت آت إنّ في السماء لخبراً وإنّ في الأرْض لَعِبَرا سَحَائِبُ تَمُور ونُجُوم تَغُور لا فلك يَدور ويُقْسم قُسقٌ قَسَماً إن للّه لدينا هو أرضى من دِينكم هذا‏.‏
ثم قال‏:‏ مالي أرى الناس يَذْهبون ولا يَرْجِعون أَرَضُوا بالإقامة فأقاموا أم تُركوا فناموا أيُّكم يَرْوي من شِعره فأنشد بعضهم‏:‏ في الذَّاهبين الأوَّلي ن مِنَ القُرون لنا بَصَائرْ لما رأيتُ موارداً للمَوْتِ ليس لها مَصادر ورأيتُ قَوْمي نَحْوَها يَمْضي الأكابر والأصَاغر لا يَرْجِع الماضي ولا يَبقى من الباقِين غابِر أيقنتُ أنِّي لا مَحا لةَ حيثُ صار القومُ صائر خطبة لعائشة أم المؤمنين رحمها الله يوم الجمل‏:‏ قالت‏:‏ أيها الناس صَهْ صَه إنّ لي عليكم حُرْمَة الأمومة وحق المَوْعظة لا يتّهمني إلا مَنْ عَمى ربّه مات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري فأنا إحدَى نسائه في الجَنّة له ادّخَرَني ربِّي وخلصني من كل بُضْع وبي مَيّز مُؤمنكم من مُنافقكم وبي أرْخَصِ اللّه لكم في صَعِيد الأبْوَاء ثم أبِي ثاني اثنين اللهّ ثالثهما وأوَّل من سُمِّي صِدِّيقاً‏.‏
مَضى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم راضياً عنه وطَوَقه أعباء الإمامة ثم اضطرب حَبْل الدِّين بعده فَمَسَك أبي بطَرَفَيه وَرتَقَ لكم فَتْق النِّفاق وأغاض نَبْع الرِّدّة وأطفأ ما حَشِّت يهود وأنتم يومئذ جُحْظ العيون تَنْظرون العَدْوة وتَسْمعون الصَّيْحة فرأب الثّأْي وأوَدَ من الغِلْظَة واِمتاح من الهُوّة حتى اجْتَحى دفينَ الداء وحتى أَعْطن الوارد وأوْرد الصادر وعَلّ الناهل فقبضه اللهّ إليه واطئاً على هامات النّفاق مُذْكِيَاً نار الحَرْب علىِ المشركين فانتظمت طاعتُكم بحَبْلهِ فَوَلّى أمركم رجلاً مُرْعِيَاً إذ رًكِنَ إليه بعيداً ما بين الَّلابتين إذا ضُلّ عُرَكَة للأذاة بجَنبه صَفُوحاً عن أذى الجاهلين يقظان الليل في نُصْرَة الإسلام فسلك مَسْلك السابقيه ففرّق شَمْل الفِتْنَة وجَمَع أعضاد ما جَمَّع القرآن وأنا نُصْب المسألة عنِ مَسِيري هذا لم ألتمس إثماً ولم أُؤَرِّث فتنة أُوطئكموها‏.‏
أقول قولي هذا صِدْقاَ وعَدْلاً وإعذاراً وإنذاراً وأسأل اللهّ أن يصلّي على محمد وأن يُخَلِّفه فيكم بأفضل خِلافة المُرسلين‏.‏
خطبة لعبد الله بن مسعود أصدق الحديث كتاب اللّه وأوثق العُرى كلمة التقوى أكرم الملل مِلَّة إبراهيم صلى الله عليه وسلم‏.‏
خَيْر السُّنن سنةُ محمد صلى الله عليه وسلم شَرُّ الُأمور مُحْدَثاتُها وخيرُ الأمور أوْساطًها‏.‏
ما قلَّ وكَفى خَيْرٌ مما كَثُرَ وألهى‏.‏
لَنفس تُحييها خير من إمارة لا تُحْصيها‏.‏
خيْرُ الغِنى غنى النَّفس‏.‏
خيْرُ ما أُلْقِيَ في القلْب اليَقين‏.‏
الخمرُ جماع الآثام‏.‏
النساء حبائلُ الشيطان‏.‏
الشِّباب شُعبة من الجنون‏.‏
حُبًّ الكِفاية مِفْتاح الَمَعْجزة‏.‏
شرّ الناس مَن لا يأتي الجماعة إلا دُبْراً ولا يذكر اللهّ إلا هُجْراً سِباب المؤمن فُسُوق وقِتاله كُفر وأكل لَحْمه معصية‏.‏
من يَتأالِّ على اللّه يُكْذِبه ومَن يغفر يغفرْ له‏.‏
مَكتوب في ديوان المُحْسنين‏:‏ مَن عفا عُفِيَ عنه‏.‏
الشقيَ شَقِىّ في بَطْن أُمِّه‏.‏
السَّعيد مَن وُعظ بغيره‏.‏
الُأمور بعواقبها‏.‏
مِلَاك الأمْر خواتُمه‏.‏
أحسنُ الهُدى هُدى الأنبياء‏.‏
أقبح الضَّلالة الضلالة بعد الهُدَى‏.‏
أشرَفُ الموْت الشَّهادة‏.‏
مَن يَعرف البلاء ويَصْبر خطبة لعتبة بن غزوان بعد فتح الأبلة حِمدَ الله وأثنى عليه ثم صلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إنّ الدنيا قد تولَّت وقد أذنَت أهلَها منها بصرم وإنما بَقي منها صُبَابة كصُبابة الإناء يَصْطَبُها صاحبُها‏.‏
ألَا وإنكم مُفارقوها لا محالةَ فارقوها بأحسن ما يَحْضُركم‏.‏
أَلا وإن من العجب أَني سمعت رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إنّ الحَجَر الضَّخْم يُرمى به في شَفِير جهنَّم فَيَهْوي قي النار سبعين خريفاً ولجهنم سبعة أبواب بين كل بابين منها مَسِيرةُ خَمْسُمائة عام وليأتينّ عليها ساعة ولها كَظيظ بالزحام‏.‏
ولقد كنتُ مع رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم سابعَ سبعة ما لنا طَعام إلّا وَرق البَشام حتى قرِحت أَشداقُنا فوجدتُ أنا وسعد بن مالك تمرة فشققتًها بيني وبينه نِصْفين وما منّا أحد اليوم إلّا وهو أمير على مِصْر‏.‏
انه لم تكن نَبْوة قط إلّا تناسخت وأنا أَعوذ باللّه أن أكون في نفسي عظيماً وفي أعين الناس صغيراً‏.‏
خطبة لعمرو بن سعيد الأشرق لمّا عقد مُعاويةُ ليزيد البَيعة قام الناس يَخْطُبون فقال لعمرو بن سَعيد‏:‏ قُم يا أبا أُمية‏.‏
فقام فَحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإنّ يزيدَ بنَ مُعاوية أَملٌ تأملونه وأجل تأمنونه إن استَضَفْتم إلى حِلمه وسَعكم وإن احتجتم إلى رأيه أَرْشدكم وإن افتقرتم إلى ذات يده أَغناكم جَذَع قارِح سُوبق فَسَبق ومُوجد فَمَجُد وقورع فَقَرع فهو خَلف أمير المؤمنين ولا خَلَف منه‏.‏
فقال له له معاوية‏:‏ أَوْسعتَ أبا أُمية فاجلس‏.‏
خطبة لعمرو بن سعيد بالمدينة قال أبو الفَضل العبّاس بن الفَرج الرِّياشي‏:‏ حَدّثنا ابن عائشة قال‏:‏ قدِم عمرو بن سعيد بن العاص الَأشدق المدينة أميراً فخرجِ إلى مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَعد عليه وغَمَّضَ عينيه وعليه جُبَّة خَزّ قِرْمِز ومُطْرَف خزّ قِرْمِز وعِمامة خَزّ قِرْمِز‏.‏
فجعل أهلُ المدينة يَنْظرون إلى ثيابه إعجاباً بها‏.‏
ففتح عَينيه فإذا الناسُ يَنْظرون إليه فقال‏:‏ ما بالُكُها بأهل المدينة تَرفَعون إليّ أبصارَكم كأنكم تُريدون أن تَضْربونا بسيُوفكم‏!‏ أغركم أنكمِ فَعلتم ما فَعلتم فَعَفَونا عنكم‏!‏ أما إنّه لو أُثبتمِ بالأولى ما كانت الثانية‏.‏
أَغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرَنا منّا رفيقاً قد فني غضَبهُ وبَقي حِلْمُه‏!‏ اغتنموأ أنفسَكم فقد واللّه مَلكناكم بالشَباب المُقْتَبل البعيد الَأمل الطويل الأجل حين فَرغ من الصِّغر ودَخل في الكبر حليم حديد ليّن شديد رقيق كثيف رفيقِ عنيف حين اشتدّ عَطمه واعتدل جِسْمه ورمى الدّهرَ ببمره واستقبله بأَشره فهو إن عَضّ نَهس وإن سَطا فَرس لا يُقَلْقل له الحَصى ولا تقرع له العَصا رلا يَمْشي السُمَّهى‏.‏
قال‏:‏ فما بَقِي بعد ذلك إلّا ثلاثَ سنين وثمانيةَ أشهر حتى قَصَمه اللهّ‏.‏
خطبة لعمرو بمكة العُتبيّ قال استَعمل سعيدُ بن العاص وهو والٍ على المدينة ابنه عمرِو بن سَعيد والياً على مكة فلمّا قَدِم لم يَلْقه قُرشيّ ولا أُمويّ إلاّ أن يكون الحارث بن نَوْفل فلمّا لَقيه قال له‏:‏ يا حار ما الذي مَنع قومَك أن يَلقَوْني كما لقَيتَني قال‏:‏ ما مَنعهم من ذلك إلّا ما استقبلتنى به واللهّ ما كَنَّيتني ولا أئمَمْتَ اسمي وإنما أَنْهاك عن التّكبر على أَكْفائك فإنَ ذلك لا يَرْفعك عليهم ولا يَضَعهم لك‏.‏
قال واللّه ما أَسأتَ المَوْعظة ولا أَتهمكُ على النَّصيحة وإنّ الذي رأيتَ منِّي لَخُلُق‏.‏
فلمّا دَخل مكةَ قام على المِنْبر فَحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أمّا بعد مَعْشَر أهل مكة فإنّا سكنَاها حِقْبة وخَرجنا عنها رَغبة وكذاسك كُنَّا إذا رُفعت لنا لُهْوة بعد لُهوة أَخَذْنا أَسْناها ونَزَلِنا أعلاها ثمٍ شَدَخِ أَمْر أمرين فَقَتلنا وقُتلدنا فوالله ما نَزعْنا ولا نُزع عَنَّا حتى شرب الدَّم دماً وأكل اللحم لحماً وقَرع العَظْم عَظْماً فَوَلي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم برسالة اللّه إيّاه واختياره له ثم وَلِي أبو بكر لسابقتِه وفَضْله ثم ولَي عُمر ثم أُجيلت قِداح نُزعن من شُعب حول نبعة ففاز بحَظها أَصْلَبُها وأَعْتقها فكُنّا بعضَ قداحها ثم شَدَخ أَمر بين أمرين فقتَلنا وقُتلنا فوالله ما نَزعنا ولا نُزع عنا حتى شرَب الدم دماً وأكل اللحم لحماً وقَرعٍ العظم عظماً وعاد الْحَرامُ حلالاً وُأسْكت كلُّ ذِي حِسّ عنِ ضرْب مُهنَّد عَرْكا عَرْكاً وعَسْفاً عَسْفاً ووَخْزاً ونَهْساً حتى طابوا عن حَقّنا نَفْساً‏.‏
واللّه ما أَعْطَوْه عن هَوادة ولا رَضُوا فيه بالقضاء أُصْبحوا يقولون‏:‏ حَقُّنا غُلبنا عليه فَجَزينا هذا بهذا وهذا في هذا‏.‏
يأهلِ مكة أنفسَكم أنفسكم وسُفهاءكم سُفهاءكم فإن معي سوطاً نكالاً وسَيفاً وَبالاً وكل مصبوب على أهله ثم نزل‏.‏
خطبة للأحنف بن قيس قال بعد حَمْد اللّه والثَّناء عليه‏:‏ يا مَعْشر الأزْد ورَبيعة أنتم‏!‏ إخوانُنا في الدِّين وشُركاؤنا في الصِّهْر وأَشقّاؤنا في النَّسب وجيرانُنا في الدار ويَدُنا على العدوّ‏.‏
واللّه لأزْد البَصْرة أَحَبّ إلينا من تميم الكوفة ولأزْد الكوفة أحبًّ إلينا من تميم الشام فإن استشرى شنانكم وأَبَى حَسَد صُدوركم ففي أحلامنا وأَمْوالنا سَعة لنا ولكم‏.‏
خطبة ليوسف بن عمر قام خطيباً فقال‏:‏ اْتقوا اللهّ عباد اللّه فكم مُؤمِّل أملاً لا يَبْلغه وجامع مالاً لا يأكله ومانع عمّا سوف يَتركه ولعلّه من باطل جمعه ومن حق مَنَعه‏.‏
أصابه حرِاماً وأَوْرثهً عدوِّاً حلالاً بم فاحتمل إصرَه وباء بوِزْره ووردَ على ربِّه أسفاً لَهِفاً خَسِرَ الدُّنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المُبين‏.‏
خطبة لشداد بن أوس الطائي حَمد اللّه وأثنى عليه وقال‏:‏ ألَا إنّ الدُّنيا عَرَض حاضر يأكل منها البَرّ والفاجِر‏.‏
ألَا إن الآخِرَة وَعْد صادق يحكم فيها مَلك قادر‏.‏
ألَا إنّ الخَيْر كُلَّه بحذافيره في الجنّة ألا إن الشر كُلَّه بحذافيره في النار‏.‏
فاعْملوا ما عَمِلتم وأنتم في يقين من اللّه واعلموا أنكم مَعْروضة أعمالكمِ على اللهّ فمَن يَعْمل مِثْقالَ ذَرَّة خيراً يَرَه ومَن يَعْمَل مِثْقال ذرّة شرّاً يَرَه وغفَر اللّه لنا ولكم‏.‏
خطبة لخالد بن عبد الله القسريّ صَعِد المِنْبر يوم جُمعة وهو والي مكّة فذكر الحجّاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيراً‏.‏
فلمّا كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سُليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشَتْم الحجّاج وذِكْر عيوبه وإظهار البَراءة منه‏.‏
فَصعد المِنْبر فَحَمد اللّه وأثنى عليه ثمِ قال إن إبليس كان مَلَكاً من الملائكة وكان يُظهر من طاعةِ اللّه ما كانت الملائكة ترى له به فَضْلاً وكان اللهّ قد عَلِم من غِشّه وخًبثه ما خَفِي على ملائكته فلمّا أَراد الله فضيحته ابتلاه بالسًّجود لآدم فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم فَلعنوه وإنّ الحجّاج كان يُظهر من طاعة أمير المًؤمنينِ ما كُنا نرى له به فَضْلاً وكان اللّه قد أَطْلع أميرَ المُؤمنين من غِشّه وخُبثه على مَا خفِي عنَا فلمّا أراد فَضيحته أَجرى ذلك على يد أَمير المُؤمنين فالعنوه لَعنه الله‏.‏
خطبة لمصعب بن الزبير قَدِم العِراق فَصَعد المِنْبر ثم قال‏:‏ بِسم اللّه الرحمن الرحيم‏:‏ طَسِم تِلْكَ آياتُ الكِتاب المُبين نَتلو عليكَ مِن نَبَأ مُوسى وفِرْعَوْنَ بالحقِّ لِقَوْم يُؤمِنُون‏.‏
إنّ فِرْعوِن عَلاَ في الأرضْ وجَعَل أَهْلَها شِيَعاً يستضعف طائفةً منهم يُذبحُ أَبناءَهم ويَسْتحْي نِسَاءَهم إنه كان من المُفْسِدين - وأشار بيده نحو الشام ونُرِيد أَنْ نَمُنَّ على الذين اسْتُضْعِفُوا في الأرض ونَجْعَلَهم أَئَمةً ونَجْعَلَهم الوارثين - وأشار بيده نحو الحجاز - ونُمَكِّن لهم في الأرض ونُرِيَ فِرْعون وهامانَ وجنُودهما منهم ما كانوا يَحْذَرون - وأشار بيده نحو العراق‏.‏
خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة قال‏:‏ إنّي واللهّ ما وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم إلّا الضّبُعِ والثّعلب أتيا الضّبّ في حُجْره فقالا‏:‏ أبا حِسْل قال أَجَبتكما قالا‏:‏ جئْناك نخْتصم قال‏:‏ في بيته يُؤتىَ الحَكَم قالت الضبعُ‏:‏ فتحتُ عيْني قال‏:‏ فِعْل النًساء فَعَلْت قالت‏:‏ فلقطتُ تَمْرة قال‏:‏ حُلْواً اجتنيتِ قالت‏:‏ فاختطَفها ثُعالةَ قال‏:‏ لنفسه بَغى الخَيْر قالت‏:‏ فلطمتُه لَطْمة قال‏:‏ حقَّاً قَضَيْتِ قالت‏:‏ فَلَطَمني أخرى قال‏:‏ كان حُرِّاً فانتصر قالت‏:‏ فاقض الآن بيننا قالت‏:‏ حَدِّث امرأة حَدِيثين فإن أَبت فاربعْ خطبة شبيب بن شيبة قيل لبعض الخُلفاء إن شَبيب بن شيبة يَستعمل الكلام ويَسْتعدّ له فإنْ أمرتَه أن يَصْعد المِنبر لرجوتَ أن يَفْتضِح‏.‏
قال‏:‏ فأمر رسولَاً فأخذ بيده إلى المَسجد فلم يُفارقه حتى صَعد المنبر فحَمَد للّه وأَثنىِ عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم حقّ الصلاة عليه ثم قال‏:‏ ألا إن لأميرِ المُؤمنين أشباهاَ أَرْبعة‏:‏ الأسَد الخادِر والبَحْر الزاخر والقَمر الباهر والرَّبيع الناضر‏.‏
فأمّا الأسد الخادر فأَشبهَ منه صَوْلَتَه ومَضاءه وأمِّا البحر الزاخر فأشبهَ منه جُودَه وعطاءه وأمّا القَمِر الباهر فأشبَه منه نُورَه وضِياءه وأمّا الرَّبيع الناضر فأشبَه منه حُسْنه وبهاءه ثم نزل عن المنبر وأنشأ يقول‏:‏ ومَوْقف مثل حَدّ السَّيف قمت به أُحْمِي الذِّمَار وتَرْمِيني به الحَدَقُ فما زَلِقْتُ وما ألقيتُ كاذبةً إذا الرجالُ على أَمْثاله زَلِقوا خطبة لعتبة بن أبي سفيان بلغه عن أهل مِصْر شيءٌ فأَغضبه فقام فيهم فقال بعد أنْ حَمِد الله وأثنى عليه‏:‏ يأهل مصر إيّاكم أن تَكُونوا للسيف حَصِيداً فإنّ اللّه فيكم ذَبِيحاً بِعُثمان أرجو أن يُولِّيني الله نُسكه‏.‏
إنّ اللهّ جَمعكم بأمير المُؤمنين بعد الفرقة فأعْطى كُل ذي حَقّ حقَّه وكانَ واللّه أَذْكَرَكم إذا ذُكِّر بخُطة وأَصْفَحكِم بعد المَقْدرة عن حقّه نعمةً من الله فيكم ومِنّة منه عليكم‏.‏
وقد بَلغنا عنكم نجْمُ قَوْل أَظْهره تَقدّمُ عَفْو مِنَا فلا تَصِيروا إلى وَحْشة الباطل بعد أُنْس الحق بإحياء الفتن وإماتة السُّنَن فَأَطَأَكم واللّه وَطْأَةً لا رَمَق معها حتى تُنْكروا منّي ما كنتم تَعْرفون وتَسْتخشنوا ما كُنتم تَسْتلينون وأَنا أُشهد عليكم الذي يعلم خائنةَ الأعْين وما تُخفي الصُدور‏.‏
خطبة لعتبة بن أبي سفيان يا حامِلي الأم أُنوف رُكّبت بين أعين إنّما قَلَمت أَظْفاري عنكم لِيلينَ مَسيِّ إياكم وسألتُكم صلاحَكم إذ كان فَسادُك‏!‏ راجعاً عليكم فأمّا إذ أبيتُم إلّا الطّعنَ على الوُلاة والتّنقّص للسَّلف فواللهّ لاقطعن على ظُهوركم بُطون السياط فإن حَسمتْ داءكم وإلّا فالسيفُ من ورائكم‏.‏
ولستُ أَبخل عليكم بالعقُوبة إذا جُدْتم لنا بالمَعْصية ولا أُؤْيسكم من مُراجعة الحُسنى إن صِرْتم إلى التي هي أبرُّ وأَتْقى‏.‏
خطبة لعتبة بن أبي سفيان لمّا اشْتكى شَكاتَه التِي مات فيها تَحامل إلى المِنْبَر فقال‏:‏ يأهل مِصرْ لا غِنَى عن الربّ ولا مَهْرَب من ذنْب‏!‏ إنِّه قد تَقَدَّمت منّي إليكم عُقوبات كُنْت أَرْجو يومئذ الأجرَ فيها وأنا أخافُ اليوم الوِزْر منها فليتَني لا أكونُ اخترتُ دُنياي على مَعادي فأَصْلحتكم بِفَسادي‏.‏
وأنا أستغفرالله منكم وأتوب إليه فيكمِ فقد خِفْتُ ما كنتُ أرجو نفعاً عليه ورجوتُ ما كنتُ أخاف اغتيالاً به وقد شقي مَن هلك بين رحمة اللّه وعقوبته والسلامُ عليكم سلامَ مَن لا تَرَوْنه عائداً إليكم‏.‏
قال‏:‏ فلم يَعُد‏.‏
وخطبة لعتبة العُتبيّ‏:‏ قال سعد القَصر‏:‏ احتبستْ عنَا كُتبُ معاوية بن أبي سُفْيان حتى أرجف أهلُ مِصْر بموتِه ثم قَدِم علينا كتابُه بسلامته فَصَعِد عُتبةُ المِنْبر والكتابُ في يده فَحَمِد اللّه وأَثنى عليه ثم قال‏:‏ يأهل مصرْ قد طالت مُعاتبتنا إيّاكم بأطْراف الرِّماح وظُبات السُيوف حتى صِرْنا شَجىً في لَهَوَاتكم ما تُسيغه حُلوقُكم وأقْذَاءً في أعينكم ما تَطْرِف عليها جُفونُكم‏.‏
أفحِين اشتدَت عُرَى الحقّ عليكم عَقْداً واسترخت عُقَد الباطِل عنكم حَلّا أرجفتم بالخَلِيفة وأردْتم تَهْوين الخِلافة وخُضْتم الحقَّ إلى الباطل وأقْدَمُ عَهْدكم به حديث فارْبحوا أَنْفُسَكم إذ خَسِرْتمِ دِينَكم فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبر السارّ عنه والعَهْد القَريب منه واعلموا أن سُلطاننا على أَبْدَانكم دون قلوبكم فأَصْلحوا لنا ما ظَهر ونَكِلُكم إلى اللّه فيما بَطَن واظهروا خَيْراً وإن أضمَرتم شَرّاً فإنكم حاصدُون ما أنتم زارعُون وعلى اللّه أَتوكّل وبه أستعين‏.‏
ثم نزل‏.‏
خطبة لعتبة في الموسم سعد القَصر مولى عُتبة بن أبي سُفيان قالت‏:‏ دَفع عُتبة بن أبي سُفيان بالمَوْسم سنة إحدى وأربعين والناسُ حديثٌ عهدُهم بالفِتْنة فقال بعد أن حَمد اللّه وأثنى عليه‏:‏ إنّا قد وَلينا هذا المَقامِ الذي يضاعف اللّه فِيه للمُحسنين الأجر وللمُسيئين الوِزْر ونحن على طريق ما قصدْنا له فلاَ تَمُدُّوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تَنْقطع مِن دُوننا ورُبّ مُتَمنِّ حَتْفُه في أمْنِيّته‏.‏
اقبلونا ما قَبِلْنا العافيةَ فيكم وقَبِلْناها منكم وإياكم ولَوْ فإن لو قد أتعبت مَن قَبلكم ولم تُرح مَن بعدكم فأسأل اللّهَ أن يُعين كلاً على كل‏.‏
فناداه أعرابيّ من ناحية المسجد‏:‏ أيها الخليفة قال‏:‏ لستُ به ولم تُبْعِد فقال‏:‏ يا أخاه فقال‏:‏ سمعتُ فقُل فقال‏:‏ واللّه لأن تُحسنوا وقد أسأنا خيرٌ لكم من أن تُسيئوا وقد أحسنا فإن كان الإحسان لكم فما أحقَّكم بإستتمامه وإن كان لنا فما أحقَّكم بمًكافأتنا رجل من بنىِ عامر بن صَعْصة يتلقَّاكم بالعُمومة ويَخْتص إليكم بالخُؤولة وقد كَثًر عياله ووَطئه زمانُه وبه فَقْر وفيه أجر وعنده شكر‏.‏
فقال عتبة‏:‏ أستغفر اللّه منكم وأسأله العون عليكم ولد أمرت لك بغِناك فليتَ إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك‏.‏
وخطبة لعتبة بن أبي سفيان سعد القَصر قال‏:‏ وَجّه عُتبة بن أبي سُفيان ابن أخي أبي الأعور السُلميّ إلى مصر فمنعوه الخراج فَقدم عليه عُتبة فقام خطيباً فقال‏:‏ يأهل مصْر قد كنتم تَعْتذرون لبعض المنع منكم ببَعْض الجَوْر عليكم فقد وَليكم مَن يقول ويَفعل ويَفْعل ويقول فإن رَدَدْتم رَدّكم بيده وإن استصعبتم رَدّكم بسَيفه ثم رجا في الأخِر ما أمل في الأوَّل‏.‏
إن البَيْعة مُشَايعة فلنا عليكم السَّمْع والطاعةُ ولكم علينا العَدْل فأينا غَدر فلا ذِمّة له عند صاحبه واللّهِ ما انطلقتْ بها ألسنُتنا حتى عقدت عليها قلوبنُا ولا طَلبناها منكم حتى بذَلناها لكمِ ناجزاً بناجز ومن حَذر كمن بَشّر‏.‏
قال‏:‏ فَنادوه‏:‏ سَمْعاً وطاعة فناداهم‏.‏
عَدْلاً عَدْلاً‏.‏
خطبة لعتبة قَدِم كتابُ معاوية إلى عُتبة بمصر‏:‏ إنّ قِبَلك قوماً يَطْعنون على الوُلاة ويَعِيبون السَّلف‏.‏
فَخَطبهم فقال‏:‏ يأهل مصر خَفّ علِى ألسنتكم مَدْحُ الحقّ ولا تَفْعلونه وذَمّ الباطل وأنتم تَأْتونه كالحِمار يَحْمل أسفاراً وأثْقلَه حَمْلُها ولم يَنْفعه عِلْمُها وايم اللّه لا أداويكم بالسيّف ما صَلَحتم على السَّوط ولا أبلغ بالسوط ما كَفَتْني الدِّرة ولا أبطى عن الأولى ما لم تُسْرعوا إلى الأخرى فالزموا ما أمركم اللّه به تَسْتَوجِبوا ما فَرض اللّه لكم علينا وإيّاكم وقال ويقول قبل أن يُقال فَعل ويَفْعل وكونوا خَيْر قَوْس سَهْماً فهذا اليوم الذي ليس قَبله عِقاب ولا بعده عِتاب‏.‏
خطب الخوارج خطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا صَعِد قطريّ بن الفُجَاءة مِنْبر الأزارقة وهم أحد بني مازن بن عمرو بنِ تميم فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فإني أحَذِّركم الدُّنيا فإنها حُلوة خضِرة حُفت بالشَّهوات وراقت بالقليل وتحبّبت بالعاجلة وغُمِرت بالآمال وتَحَلت بالأماني وأزّيّنت بالغُرور لا تَدُوم خضرتها ولا تُؤْمَن فَجْعَتها غَدَّارة ضَرَّارة وحائلة زائلة ونافدة بائدة لا تَعْدو إذا هي تَنَاهت إلى أمنية أهل الرغْبة فيها والرِّضا عنها أن تكون كما قال اللّه عز وجلَّ‏:‏ ‏"‏ كماءٍ أنْزَلناه من السَّماء فاخْتَلط به نبات الأرْض فأصْبَحَ هَشِيماً تَذْروه الرِّياح وكانَ اللّه عَلَى كلِّ شيءٍ مُقْتَدرأ ‏"‏ مع أنَّ أمرأً لم يكن منها في حَبْرة إلا أعْقبته بعدها عَبْرة ولم يَلْق من سَرِّائها بَطْناً إلا مَنَحته من ضَرَائها ظَهْراً ولم تَطُلّه منها دِيمة رَخاء إلا هَطلت عليه مُزْنة بَلاء وحَرِيّ إذا أصبحتْ له مُنتصرة أنْ تُمْسي له خاذلة مُتَنَكِّرة وإنْ جانبٌ منها اعذوذب واحلولى أمرّ عليه منها جانب فأوْبى وإن لَبِس امرؤ من غَضَارتها ورفاهِيتها نِعماً أرْهَقَتْه من نوائبها غمّاً ولم يُمْس امرؤ منها في جَناح أمْن إلا أصْبح منها على قوادم خَوْف‏.‏
غرارة عُرُور ما فيها فانية فانٍ ما عليها لا خيْرَ في شيء من زادها إلاّ التّقوى مَن أقل منها اسَتكثر مما يؤمّنه ومن استكثر منها استكثر مما يُوبقه‏.‏
كم واثق بها قد فَجَعَته وذي طُمائينة إليها قد صَرَعَته وكم من ذي اختيال فيها قد خَدَعَته وكم من ذي أبهه فيها قد صيَرَّته حَقيراً وذي نخْوَة فيها قد ردَّته ذليلاً وذي تاجٍ قد كَبَّتْه لليدين والفم‏.‏
سُلطانها دُوَل وعيشها رَنْق وعذْبُها أجَاج وحُلْوًها مُرّ وغِذاؤها سِمَام وأسبابها رِمَام وقِطَافها سَلَع‏.‏
حَيُّها بعَرَض مَوْت وصَحيحها بعَرَض سُقْم ومَنيعها بعَرَض اهتضام‏.‏
مَلِيكها مَسْلوب وعزيزها مَغْلوب وصحيحها وسَليمها مَنْكوب وحائزها وجامعُها مَحْروب مع أنَ مِن وَرَاء ذلك سَكراتِ الموت وزَفَرَاته وهَوْل المُطّلع والوُقوف بين يَدَي الحَكَم العَدْل ليَجْزِيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجْزيَ الذين أحسنوا بالحُسنى‏.‏
ألستُم في مساكن منْ كان منكم أطولَ أعماراً وأوْضَح آثاراً وأعدَ عديداً وأكْثَفَ جُنُوداً وأعمَد عَتَاداً وأصول عِمَاداً‏!‏ تُعَبِّدُوا للدُّنيا أيِّ تَعَبُّد وأثروها أفيَ إيثار وظَعنوا عنها بالكُرْه والصَغار‏!‏ فهل بَلَغكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفْساً بِفِدْية وأغنَتْ عنهم فيما قد أملتهم به بخَطْب‏!‏ بل أثقلتهم بالفَوَادح وضعْضَعتهم بالنوائب وعَفرتهم للمناخر وأعانَت عليهم رَيْبَ المَنون وأرهَقَتهم بالمصائب‏.‏
وقد رأيتم تنكُّرها لمن دانَ لها وأثرها وأَخْلَد إليها حتى ظَعَنوا عنها لِفِراق الأبد إلى آخِر الأمَد‏.‏
هل زؤَدَتهم إلا الشقاء وأَحَفَتهم إلا الضَّنْك أو نوَّرَت لهم إلا بالظلمة وأعْقَبتهم إلا النَّدامة‏!‏ أفهذه تؤْثِرون أو على هذه تَحْرصون أو إليها تَطْمَئِنّون‏!‏ يقوله اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ مَنْ كان يُرِيد الحياة الدُّنيا وزينَتها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهُم فيها لا يُبْخَسُون‏.‏
أولئك الذين ليس لهم في الآخرًة إلا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يَعْمَلون ‏"‏ فبئست الدَّار لمن لم يتَهمْها ولم يكن فيها على وَجَل منها‏.‏
اعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بُدَّ فإنما هي كما نَعَتَ اللّه عزِّ وجلَّ‏:‏ ‏"‏ لعب ولَهْوٌ وزينةٌ وتَفَاخُرٌ بينكم وتَكاثُرٌ في الأمْوَال والأولَاد ‏"‏ فاتَّعِظُوا فيها بالذين قال اللّه تعالى فيهم‏:‏ أتْبنون بكل رِيعٍ آيةً تَعبثُون‏.‏
وتَتَّخِذون مَصانع لَعلَّكم تَخْلُدُون وبالذين قالوا‏:‏ مَنْ أشَدُّ مِناقوة‏.‏
واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حُمِلُوا إلى قُبورهم فلا يُدْعون رُكْباناً وانْزلوا الأجداث فلا يُدْعون ضِيفاناً وجُعِل لهم من الضريح أكنان ومن التراب أكفان ومن الرًّفات جِيران فهم جيرة لا يُجيبون داعِياً ولا يمنعون ضَيماً‏.‏
إن أخصَبوا لم يَفْرحوا وإن قَحِطوا لم يَقْنَطوا جَمْعٌ وهُمْ آحاد جيرَة وهم أبعاد مُتَناءون يُزارون ولا يزورون حُلماء قد ذَهَبت أضغانهم وجهلاء قد ماتت أحقادُهم لا يُخْشى فَجْعهم ولا يُرْجي دَفْعهم وهم‏!‏ كمن لم يكن‏.‏
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏ فَتِلْك مَسَاكنُهم لم تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهم إلّاَ قَليلاً وكُنا نَحْنُ الوارثين ‏"‏ استبدلوا بظَهْر الأرْض بَطْناً وبالسَّعة ضيقاً وبالآل غُرْبة وبالنُّور ظُلْمة فجاءوها حُفاةً عُراةً فرَادى غير أنْ ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خُلُود الأبد‏.‏
يقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ كما بَدَأْنَا أوِّلَ خَلْق نعِيدُه وَعْداً عَلَيْنا إنّا كًنّا فاعِلين‏.‏
فاحذروا ما حَذّرَكم اللّه وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بِحَبْلِهِ عَصَمنا اللّه وإياكم بطاعته ورَزَقنا وإياكم أداء حقه ثم نزل‏.‏
خطبة لأبي حمزة بمكة خطبهم أبو حمزة الشَّارِي بمكة‏.‏
فَصعِدَ المِنْبَر مًتَوكِّئاً على قوس عربية فَخَطب خُطْبة طويلة ثم قال‏:‏ يأهل مكة تُعيِّرُونني بأصحابي تَزْعمون أنهم شَبَاب وهل كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ شبَاباً‏!‏ نعم الشباب مُكْتَهلين عَمِيَة عن الشرّ أعيُنهم بَطِيئة عن الباطل أرجُلُهم‏.‏
قد نظر اللّه إليهم في آناء الليل مُنْثنِيَة أصلابهم بمثَاني القرآن إذا مرّ أحدُهم بآية فيها ذِكر الجنّة بكي شوقاً إليها وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شَهَق شهقة كأن زَفير جهنَّم في أُذُنيه‏.‏
قد وَصَلُوا كَلالَ ليلهم بكلال نهارهم أنْضَاء عِبادة قد أكلَت الأرضُ جباهَهم وأيديَهم ورُكَبهم‏.‏
مُصْفَرّة ألوَانُهم ناحلة أجسامهم من كثرة الصِّيام وطُول القِيَام مُسْتَقِلّون لذلك فٍي جَنْبِ اللّه مُوفون بعهد اللّه مستنجزون لوعد اللهّ‏.‏
إذا رأوا سِهام العدوّ قد فوِّقَت ورِمَاحه قد أُشْرِعَت وسُيُوفه قد انتضيَت وبَرَقَت الكتيبة ورَعدت بصواعق الموت استهانوا بوَعيد الكَتِيبة لوعد اللّه فَمضي الشاب منهم قُدماً حتى تَخْتَلِف رجلاًه على عُنق فرسه قد رُمِّلت محاسنُ وجهه بالدِّماء وعُفِّر جَبِينُه بالثرى وأسَرع إليه سِبَاعُ الأرْض وانْحَطت عليه طَيْرُ السّماء فكم من مُقْلة في مِنْقار طائر طالما بَكى صاحبُها من خَشْيَة اللّه وكم من كَفٍّ بانت عن مِعْصَمها طالما اعتمد عليها صاحبُها في سُجوده وكم من خَدّ عَتيق وَجبين رَقيق قد فُلِق بعَمَد الحديد‏.‏
رحمة اللّه على تلك الأبدان وأدْخل أرْواحها في الجنان‏.‏
ثم قال‏:‏ الناس منّا ونحن منهم إلاّ عابدَ وَثَن أو كفرة أهْل الكتاب أو إماماً جائراً أو شادًّا على عَضُده‏.‏
خطبة لأبي حمزة بالمدينة قال مالك بن أنس رحمه الله‏:‏ خَطبنا أبو حمزة خطبة شكّك فيها المُستبصر وردَت المًرتاب قال‏:‏ أُوصيكم بتَقْوى الله وطاعته والعَمل بكتابه وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وصِلة الرَّحم وتَعْظيم ما صَغّرت الجبابرة من حق الله وتَصْغير ما عَظَّمت من الباطل وإماتة ما أحيوا من الجَوْر وإحياء ما أماتوا من الحُقوق وأَنْ يُطاع اللهّ ويُعمى العبادُ في طاعته فالطاعةُ لله ولأهل طاعة اللهّ ولا طاعةَ لمخلوق في مَعْصية الخالق‏.‏
نَدْعوكم إلى كتاب اللّه وسُنة نبيّه والقَسْم بالسويّة والعَدْل في الرَّعية ووَضْع الأخماس في مواضعها التي أمر اللّه بها‏.‏
وإنا واللّه ما خرجنا أَشَراً ولا بَطراً ولا لَهْواً ولا لَعِباً ولا لدُولة مُلْك نريد أن نَخُوض فيه ولا لثأرٍ قد نِيل منَّا ولكن لما رأينا الأرض قد أظلمت ومعالم الجَوْر قد ظهرت وكثر الادعاء في الدِّين وعُمل بالهوى وعُطِّلت الأحكام وقتل القائم بالقِسط وعُنَف القائل بالحق وسمعنا مُنادياً ينادي إلى الحق وإلى طِريق مُستقيم فأَجَبْنا داعيَ اللّه فأَقْبلنا من قبائل شَتَّى قليلين مُسْتضعفين في الأرْض فآوانا اللّه وأيَّدَنا بنَصْره فأصبحنا بنعمته إخواناً وعلى الدِّين أعواناً‏.‏
يأهْل المدينة أوَّلُكم خير أوَّل وأخركم شرّ آخر إنكم أطعتم قًرَّاءكم وفُقهاءكم فاختانوكم عن كِتاب غير ذي عِوَج بتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين فأصبحتم عن الحق ناكبين أمواتاً غيرَ أحياء وما تَشْعرون‏.‏
يأهل المدينة يا أَبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما أصح أَصْلَكم وأسْقم فَرْعَكم‏!‏ كان آباؤكم أهلَ اليَقين وأهل المَعرفة بالدين والبصائر النافذة والقُلوب الواعية وأنتم أهلً الضلالة والجهالة استعبدتكم الدُّنيا فأذَلّتكمِ والأَماني فأَضَفَتكم فتح الله لكم بابَ الدين فأفْسَدتموه وأغلَق عنكم باب الدُّنيا ففَتَحتموه سِرَاع إلى الفِتْنةِ بِطَاء عن السُّنّة عُمْيٌ عن البرهان صُم عن العِرْفان عَبيد الطَّمع حُلفاء الجَزَع‏.‏
نِعْم ما ورثكم آباؤكم لو حَفِظتموه وبئس ما تُوَرِّثون أبناءَكم إنْ تَمَسَّكوا به‏.‏
نصرَ اللّه آباءكم على الحق وخَذَلكم على الباطِل‏.‏
كان عدد آبائكم قليلاً طَيباً وعددكم كثيرٌ خبيث‏.‏
اتبعتمُ الهوَى فأرْدَاكم والَّلهْو فأسْهاكم ومواعظُ القرآن تزجركم فلا تزْدجرون وتُعبِّركم فلا تَعتَبرون‏.‏
سألناكم عن وُلاتكم هؤلاء فقلتم‏:‏ واللّه ما فيهم الذي يَعْدل أخذوا المال من غير حلقه فوضعوه في غير حَقه وجازوا في الحكم فحَكموا بغير ما أنْزَلَ اللهّ واستأثروا بفَيئنا فجَعَلوه دولةً بين الأغنياء منهم وجعلوا مَقَاسِمَنا وحقوقنا في مُهُور النساء وفروج الإماء‏.‏
وقلنا لكم تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظَلموكم وجاروا في الحُكم فَحَكموا بغير ما أنزل اللهّ فقلتم لا نقْوَى على ذلك وَوَدِدْنا أنّا أصَبنا مَن يكفينا فقُلنا‏:‏ نحنُ نَكفيكم ثم الله راع علينا وعليكم إِن ظَفِرْنا لنُعطين كلَّ ذي حقَّه‏.‏
فَجئْنا فاتقينا الرِّمَاح بصُدورنا والسًّيوف بوُجوهنا فعرَضتم لنا دونهم فقاتلتمونا فأبعدكم الله‏!‏ فواللّه لو قلتم لا نَعرف الذي تقول ولا نَعلْمه لكان أعذرَ مع أنه لا عُذْرَ للجاهل ولكنْ أبى اللّه إلّا أن يَنطق بالحق علىِ ألْسِنتكم وَيأخُذَكم به في الآخرِة‏.‏
ثم قال‏:‏ النّاس منّا ونحن منهم إلا ثلاثة‏:‏ حاكماً جاء بغير ما أنْزَل اللّه أو مُتّبعاً له أو راضياً بعمله‏.‏
أسقطنا من هذه الخطبة ما كان من طَعْنه على الخلفاء فإنه طعن فيها على عثمان وعليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما وعمر بن عبد العزيز‏.‏
ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر وكفَّر مَنْ بعدهما فلعنةُ الله عليه‏.‏
إلا أنه ذكر من الخُلفاء رجلاً أصغى إلى المَلاهي والمعازف وأضاع أمر الرعيَّة فقال‏:‏ كان فلان بن فلان من عدد الخُلفاء عندكم وهو مُضَيِّع للدين والدنيا‏.‏
اشترى له بُرْدَين بألف دينار اتزَزَ بأحدهما والتحف بالآخر وأقعَدَ حَبابة عن يمينه وسَلاّمة عن يساره‏!‏ فقال‏:‏ يا حَبَابة غَنّيني ويا سلامة اسقيني فإذا امتلأ سُكراً أو ازدهى طَرباً شَقّ ثوْبيه وقال‏:‏ ألا أطير فطُيّر إلى النار وبئس المَصير‏.‏
فهذه صفة خلفاء اللّه تعالى‏!‏ وخطبة لأبي حمزة أما بعد فإنك في ناشيء فِتنة وقائم ضلالة قد طال جُثومها واشتدت عليك هُمومها وتلوَّت مصايد عدوّ اللّه منها وما نَصَبَ من الشِّرَك لأهل الغَفْلة عمّا في عواقبها‏.‏
يَهُدّ عمودَها ولن يَنزع أوتادها إلا الذي بيده مُلْك الأشياء وهو الرّحمن الرحيم‏.‏
ألا وإن للهّ بقايا من عباده لم يتَحَيّروا في ظلَمها ولم يُشايعُوا أهلها على شبهها مصابيحُ النّور في أفواهِهم تزهو وألسنتُهم بحُجَج الكتاب تَنْطق رَكِبوا مَنهج السّبيل وقاموا على العلَم الأعظم‏.‏
هم خصما الشيطان الرّجيم بهم يًصْلح اللهّ البلاد ويَدْفع عن العباد‏.‏
طُوبى لهم وللمستصبحين بنورهم وأسأل الله أن يجعلنا منهم‏.‏
من أرتج عليه في خطبته أَول خُطبة خطبها عثمان بن عفان أُرتج عليه فقال‏:‏ أيها الناس إنّ أوّلَ كُلِّ مَرْكب صعب وإنْ أعشْ تأتكم الخًطب على وَجهها وسَيَجْعَلُ اللّهُ بعد عُسْرً يسراً إن شاء اللهّ‏.‏
ولما قَدِم يزيد بن أبي سفيان الشام والياً عليها لأبي بكر خَطب الناس فأُرتج عليه فعاد إلى حمد للهّ ثمِ أُرتج عليه فعاد إلى الحمد ثم ارتج عليه فقال‏:‏ يأهل الشام عسى اللّه أن يجعل بعد عسر يُسْراً وبعد عِيٍّ بياناً وأنتم إلى إمام فاعل أحْوَجُ منكم إلى إمام قائل ثم نزل‏.‏
فبلغ ذلك عمرَو بن العاص فاستحسنه‏.‏
صعد ثابت قُطْنة مِنْبَر سجِسْتان فقال‏:‏ الحمد لله ثم أُرتج عليه فنزل وهو يقول‏:‏ فإن لا أكنْ فيهم خَطِيباً فإنني بسَيفي إذَا جدّ الوَغى لَخَطيبُ فقيل له‏:‏ لو قُلتَها فوق المِنْبر لكنتَ أخطبَ الناس‏.‏
وخطب معاوية بن أبيِ سفيان لما وَليَ فَحَصِر فقال‏:‏ أيها الناس إنّي كنتُ أعْددتُ مقالاً أقوم به فيكم فحُجبت عنه فإن الله يحول بين المرء وقَلْبه كما قال في كتابه وأنتم إلى إمام عَدْل أحوجُ منكم إلى إمام خَطيب وإني أمركم بما أمر الله به ورسولُه أنهاكم عما نهاكم اللّه ورسوله وأستغفر الله لي ولكم‏.‏
وصعدَ خالد بن عبد الله القَسَري المِنْبَر‏:‏ فأُرتج عليه فمكثَ مليّاً لا يتكلًم ثم تهَيّأ له الكلام فتكلم فقال‏:‏ أما بعد فإن هذا الكلام يجيء أحياناً ويَعْزُب أحياناً فيسيح عند مجيئه سَيْبُه ويعز عند عزُوبه طَلبه ولربما كوبر فأبي وعُولج فَنَأى فالتأنَي لمجيئه خير من التعاطي لأبيه وترْكهُ عند تنكره أفضلُ من طَلبه عند تعذره وقد يرْتَج على البليغ لسانُه ويَخْتَلج من الجَريء جَنانُه وسأعود فأقول إنْ شاء الله‏.‏
صَعِدَ أبو العَنْبَس مِنْبَراً من مَنابراً الطائف فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فاُرتج عليه فقال‏:‏ أتدرون ما أريد أن أقول لكم قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فما يَنْفعكم ما أريد أن أقول لكم ثم نزل‏.‏
فلما كان في الجُمعة الثانية صَعِد المنبر وقال‏:‏ أما بعد فأُرتج عليه فقال‏:‏ أتدرون ما أُريد أن أقول لكم قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فما حاجتُكم إلى أن أقول لكم ما عَلِمتم ثم نزل‏.‏
فلما كانت الجُمعة الثالثة قال‏:‏ أما بعد فأُرتج عليه قال‏:‏ أتدرون ما أُريد أن أقول لكم قالوا‏:‏ بعضُنا يدري وبعضنا لا يدري قال‏:‏ فَليُخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري ثم نزل‏.‏
وأتى رجلٌ من بني هاشم اليمامةَ فلما صَعِد المِنْبر أُرتج عليه فقال‏:‏ حيّا الله هذه الوُجوهَ وجَعلني فِدَاها قد أمرتُ طائفي بالليل أن لا يرى أحداً إلا أتاني به وإن كنتُ أنا هو ثم نزل‏.‏
وكان خالدُ بن عبد اللهّ إذا تكلّم يَظُنّ الناس أنه يَصْنع الكلام لعُذوبة لفظه وبلاغة مَنْطقه فبينا هو يخطُب يوماً إذ وَقعت جرادة على ثوبه فقال‏:‏ سُبحان مَن الجرادُ مِن خلقه أدمج قوائمها وطَرْفها وجَنَاحيها وسَلطها على مَن هو أعظم منها‏.‏
خَطبَ عبد الله بن عامر بالبَصرة في يوم أضحى فأُرتج عليه فمكث ساعة ثم قال‏:‏ واللهّ لا أجمع عليكم عِيًّا ولُؤْما من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها عليِّ‏.‏
قيل لعبد الملك بن مَروان‏:‏ عَجّل عليك المَشيب يا أميرَ المؤمنين‏.‏
فقال‏:‏ كيف لا يُعَجل وأنا أعْرِض عقلي على الناس في كل جُمعة مرةً أو مرتين‏.‏

خطب النكاح
خَطب عثمانُ بنِ عَنْبَسة بني أبي سُفيان إلى عُتبة بن أبي سفيان ابنته‏.‏
فأقعده على فَخذه وكان حَدَثاً فقال‏:‏ أقرَبُ قريب خَطب أحب حبيب لا أستطيع له ردًا ولا أجِد من إسعافه بداً قد زَوجتكها وأنت أعزُّ علي منها وهي ألصَق بقلبي منك فأكْرِمها يَعْذُب على لساني ذِكْرُك ولا تُهنْها فيَصْغُرَ عندي قَدْرُك وقد قَرَّبتُك مع قُرْبك فلا تبعد قلبي مِن قلبك‏.‏
خطبة نكاح العُتبي قال‏:‏ زوج شبيب بن شَيبة ابنه بنتَ سًوّار القاضي فقلنا‏:‏ اليومَ يَعُب عُبابه‏.‏
فلما اجتمعوا تكلّم فقال‏:‏ الحمد لله وصلى الله على رسول الله‏.‏
أما بعد فإن المَعرفة منا ومنكم وخطبة نكاح العُتبي قال‏:‏ كان الحَسَن البَصري يقول في خُطبة النِّكاح بعد الحمد للّه والثناء عليه‏:‏ أما بعد فإِنّ اللّه جَمع بهذا النّكاح الأرحام المُنقطعة والأنساب المتفرّقة وجَعَل ذلك في سُنّة من دينه ومنهاج من أمرِه‏.‏
وقد خَطب إليكم فلان وعليه من اللّه نِعْمة وهو يَبْذل من الصداق كذا فاستخيروا اللّه ورُدّوا خيراً يرحمكم اللّه‏.‏
خطبة نكاح العُتبي قال‏:‏ حَضَرْت ابن الفقَيَر خَطب على نفسه امرأةً من باهلة فقال‏:‏ وما حسنٌ أن يمْدَحَ المرْءُ نفسَه ولكنَ أخلاقاً تُذَمُ وتُمْدَحُ وإن فلانة ذُكِرت لي‏.‏
وخطبة نكاح العُتبي قال‏:‏ يُستَحَب للخاطب إطالة الكلام وللْمخطوب إليه تَقْصيره‏.‏
فَخَطب محمدُ بن الوليد إلى عمر بن العزيز أختَه فتكلّم محمد بكلام طويل‏.‏
فأجابه عمر‏:‏ الحمد لله ذي الكِبْرياء وصلى اللّه على محمد خاتم الأنبياء‏.‏
أما بعد فإنّ الرّغْبة منك دَعَتْك إلينا والرّغبةَ فيك أجابتك منّا وقد أحسنَ بك ظنّا مَن أودعك كريمتَه واختارك ولم يخْتر عليك وقد زَوَّجتكها على كتاب الله إمساكاً بمعروف أو تَسْريحاً بإحسان‏.‏
خطبة نكاح خطب بلالٌ إلى قوم من خَثْعم لنفسه ولأخيه فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أنا بلال وهذا أخي‏:‏ كنا ضالّين فهدانا الله عَبْدَين فأعتقنا اللّه فقيرين فأغنانا الله فإن تُزوَجونا فالحمد لله وإن تَرُدُونا فالمُستعان اللّه‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز‏:‏ قد زَوَجَك أمير المؤمنين ابنتَه فاطمة‏.‏
قال‏:‏ جزاك الله يا أمير المؤمنين خَيراً فقد أجْزلت العطية وكفَيت المسألة‏.‏
نكاح العبد الأصمعي قال‏:‏ زوج خالدُ بن صفوان عبدَه من أمته فقال له العبد‏:‏ لو دَعوتَ الناس وخَطبت‏!‏ قال‏:‏ ادعهم أنت‏.‏
فدعاهم العبد فلما اجتمعوا تكلَّم خالد بن صَفوان فقال‏:‏ إنَّ الله أعظم وأجلُّ من أن يُذْكر في نِكاح هذين الكلبين وأنا أشهدكم أني زَوَّجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية‏.‏
خطب الأعراب الأصمعي قال‏:‏ خطَبَ أعرابيّ فقال‏:‏ أما بعد فإنَّ الدُنيا دَار مَمَرَّ والآخرة دار مَقَرّ فخُذوا من مَمَرِّكم لمَقَركم ولا تَهْتِكوا أستارَكم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم واخرِجوا من الدنيا قُلوبَكم قبل أن تَخْرُج منها أبدانُكم ففيها حَيِيتم ولغيرها خُلقتم اليومَ عمل بلا حِساب وغداً حسابٌ بلا عَمل‏.‏
إنَّ الرجل إذا هَلك قال الناس‏:‏ ما تَرك وقالت المَلَائكة‏:‏ ما قدَم فقدِّموا بعضاً يكون لكم قَرْضاً ولا تَتْركوا كُلَاً فيكون عليكم كَلّاً‏.‏
أقول قولي هذا والمَحمود اللّه والمُصلى عليه محمد والمَدْعو له الخليفة ثم إمامُكم جعفر قُوموا إلى صلاتكم‏.‏
خطبة لأعرابي الحمد للّه الحميد المُستحمد وصَلّى اللّه علي النبيّ محمد أما بعد فإن التعمّق في ارتجال الخًطب لَمُمكن والكلامَ لا يَنثني حتى يُنْثنى عنه واللّه تبارك وتعالى لا يُدرك واصفٌ كُنْه صِفته ولا يبلغ خَطِيب مُنْتهى مِدْحته له الحمدُ كما مَدح نفسه فانهضوا إلى صلاتكم ثم نزل فصلى‏.‏
خطبة أعرابي لقومه يَنْهَى عن أمر ويَرْتكبه ويَأمر بشيء ويَجْتنبه وقد قال الأول‏:‏
وَدع ما لُمت صاحبَه عليه فَذَم أن يَلُومك مَن تَلُومُ
ألهمنا الله وإياكم تَقواه والعملَ برضاه‏.‏
وفي الأم زيادة من غير أَصلها فأوردتُها كهيئتها وهي خُطبة لعلي كرم الله وجهه أوردت في
هذه المُجنّبة تِلْو خُطبة المأمون يوم عيد الفطر‏:‏
جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين صِفْ لنا رَبنا لنزداد له مَحبَّة وبه
مَعْرفة‏.‏ فغضب علي كرم الله وجهه ثم نادَى‏:‏ الصلاةً جامعة‏.‏ فاجتمع الناسُ إليه حتى غصَ
المَسجد بأهله ثم صَعِد المنبر وهو مُغْضَب مُتغير اللون فَحَمد اللهّ وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ
صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ الحمدُ لله الذي لا يَعُزه المنع ولا يُكديه الإعطاء
بل كلّ مُعْطٍ يَنْقص سِواه هو المنَّان بفرائد النِّعم وعَوائد المَزيد وبجُوده ضَمِنت عيالَةُ الخلق
ونُهج سَبيلُ الطلب للراغبين إليه‏.‏
وليس بما يُسأل أجودَ منه بما لا يُسأل وما اختلف عليه دَهْر
فتختلفَ فيه حال ولو وَهَب ما انشقَّت عنه معادنُ الجبال وضَحِكت عنه أصدافُ البحار
من فِلَذ اللَّجين وسبائك العِقْيان وشَذْر الدرّ وحَصيد المَرْجان لبعض عباده ما أَثر ذلك في
مُلكه ولا في جُوده ولا أَنفد ذلك سَعَةَ ما عنده‏.‏ فعندَه من الأفضال ما لا يُنْفِده مَطْلَب
وسؤال ولا يَخْطِر لكم على بال لأنه الجوادُ الذي لا تَنْقصه المواهب ولا يُبرمه إلحاحُ الملحَين
بالحوائج إنّما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكُون‏.‏ فما ظَنًّكم بمَن هو هكذا ولا هكذا
غيرُه سبحانَه وبحمده‏!‏ أيها السائل اعقل ما سألَتني عنه ولا تسأَل أحداً بعدي فإني أكْفيك
مؤونة الطٌلب وشِدّة التّعمق في المَذْهب‏.‏ وكيف يُوصف الذي سألَتني عنه وهو الذي عَجزت
عنه الملائكة علىِ قُربهم من كرسيّ كرامته وطُول وَلَهم إليه وتَعْظيمهم جلالَ عِزته وقُربهم من
غيْب ملكوته أن يَعْلَموا من عِلْمه إلا ما علّمهم وهم من ملكوت العرش بحيثُ هم ومن مَعرفته
على ما فَطرهم عليه فقالوا‏:‏ سُبحانك لا عِلْم لنا إلا ما عَلمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏.‏
فمدح الله اعترافهم بالعَجْز عما لم يُحيطوا به عِلْماً وسَمّى تَرْكَهم التعمّق فيما لم يُكلفهم البحثَ عنه رُسوخاً‏.‏ فاقتِصرْ على هذا ولا تَقْدِرُ عظمةَ الله على قَدْر عقلك فتكونَ من الهالكين‏.‏
واعلم أَنّ الله الذي لم يَحْدُث فيُمِكنَ فيه التغيّرُ والانتقال ولم يَتغيَّر في ذاته بمرور الأحوال ولم
يَختلف عليه تعاقبُ الأيّام والليالي هو الذي خلق الخلقَ على غير مِثال أمتثله ولا مِقدار
احتذى عليه مِن خالقِ كان قبلَه بلى أرَانا من مَلكوت قُدرته وعجائب ربُوبيّته مما نَطقت به
آثار حِكْمتهَ واضطرارِ الحاجة من الخَلق إلى أن يُفَهِّمهم مَبلغ قوَّته ما دَلِّنا بقيام الحُجة له بذلك
علينا على مَعْرفته‏.‏
ولم تُحِط به الصِّفات بإدراكها إيّاه بالحدُود مُتناهياً وما زال إذ هو اللّه الذي لسِر كمثله شيء عن صِفَة المَخلوقين مُتعالياً انحسرت العُيون عَن أن تَنالَه فيكونَ بالعِيان مَوْصوفاً وبالذات التي لا يَعْلمها إلّا هو عند خَلْقه مَعْروفاً‏.‏ وفات لعلوّه عن الأشياء مواقِعَ وَهْم
المُتوهِّمين وليسِ له مِثْل فيكونَ بالخلق مُشَبَّهاً وما زال عند أهل المَعرفة به عن الأشباه والأنداد
منزَّهاً‏.‏ وكيف يكون مَن لا يُقْدَر قَدْره مُقدَّراً في روايات الأوهام وقد ضَلّت في إدراك كيفيته
حواسُّ الأنام لأنه أجلُّ من أن تَحُدَّه ألبابُ البَشر بنَظير‏.‏ فسبحانه وتعالى عن جَهلِ المخلوقين
وسُبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين‏.‏ ألَا وإن للّه ملائِكةً صلى الله عليه وسلم لو أَنّ مَلَكاً هَبط
منهم إلى الأرض لما وَسِعَتْه لِعظم خَلْقه وكَزْة أجنْحته ومن ملائكته مَن سَدّ الآفاق بجنَاح من
أَجْنحته دون سائر بَدَنه ومنِ ملائكته مَن السمواتُ إلى حُجْزَته وسائرُ بدنه في جِرْم الهواء
الأسفل والأرضون إلى رُكبته ومِن ملائكته مَن لو اجتمعت الإنسُ والجنّ على أن يَصِفوه ما
وَصفوه لبُعدِ ما بين مَفاصِلِه ولحُسن تركيب صورته وكيف يُوصف مَنْ سَبْعُمائة عام مِقدار
ما بين مَنْكِبيه إلى شَحْمة أُذنيه ومِن ملائكته مَن لو أُلقيت السُفن لا دموع عينيه لَجَرَت دَهْرَ
الدَاهرين‏.‏ فأين أين بأحدكم‏!‏ وأين أين أن يدرِك ما لا يُدْرَك‏!‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:29 AM

كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه‏:‏ قد مَضى قولنا في الخُطب وفضائلها وذِكْر طِوالها
وقِصارها ومَقامات أَهْلها ونحن قائلون بعون الله وتَوفيقه في التَوقيعات والفُصَول والصُّدور
وأَدَوات الكِتابة وأَخبار الكًتَاب وفَضْلِ الإيجاز إذ كان أشرفُ الكلام كُلَه حُسْناً وأَرفعُهقَدْراً وأَعظمُه مِن القلوب مَوْقعاً وأقلُه على اللسان عَملاً ما دَلّ بعضُه على كُلّه وكَفى قليلُه
عن كَثيرة شَهِد ظاهرُه على باطنه وذلك أن تَقِلَّ حُروفه وتَكْثَر معانيه‏.‏
ومنه قولُهم‏:‏ رُبّ إشارة أبلغُ من لَفظ‏.‏
ليس أَن الإشارة تُبيّنَ ما لا يُبينه الكلامُ وتَبْلغُ ما يَقْصُر عنه اللسان
ولكنّها إذا قامت مَقام اللَّفظ وسَدّت مَسد الكلام كانت أبلغَ لقلّة مؤونتها وخِفّة محملها‏.‏
قال أَبرْويز لكاتبه‏:‏ اجْمَع الكَثِيرَ ممّا تُريد من المعنى في القليل ممّا تقول‏.‏
يحُضُّه على الإيجاز ويَنهاه عن الإكثار في كًتبه‏.‏
أَلَا تَراهم كيف طَعنوا على الإسهاب والإكثار
حتى كان بعضُ الصحابة يقول‏:‏ أعوذ باللّه من الإسهاب‏!‏ قيل له‏:‏ وما الإسهاب قال‏:‏ المُسْهَب
الذي يتخلل بلسانه تَخلّل الباقر ويَشول به شَوَلان الروْق‏.‏
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم أجد أحداً من الألف يَذُم الإيجاز ويَقْدح فيهِ ويَعيبه ويَطْعن عليه‏.‏ وتحب العربُ التخْفيف
والحَذْف ولهَربها مات التثْقيل والتطويل كان قَصْرُ المَمْدود أحبَّ إليها من مدّ المَقْصور وتَسْكينُ
المُتحرّك أخف عليها من تَحْريك الساكن لأنّ الحَركة عَمَل والسُّكون راحة‏.‏
وفي كلام العرب الاختصار والإطناب والاختصار عندهم أحمد في الجُملة وإن كان للإطناب مَوْضع لا يَصْلح إلا له‏.‏
وقد تُومِىء إلى الشيء فَتَستغني عن التَّفسير بالإيماءة كما قالوا‏:‏ لمحةٌ دالّة‏.‏
كتب عمرو بنُ مَسْعدة إلى ضَمْرة الحَرُوريّ كتاباً فنظر فيه جعفر بن يحيى فَوقَّع في ظهره‏:‏ إذا
كان الإكثار أبلغَ كان الإيجاز مُقَصِّراً وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيَّاً‏.‏
وبَعث إلى مَروانَ بن محمد قائدٌ مِن قُوَاده بغلام أَسْود فأَمر عبدَ الحميد الكاتبَ أن يكتبَ إليه يَلْحاه وُيعنِّفه فكَتب وأَكثر فاستثقل ذلك مَروانُ وأَخذ الكتاب فوقّع في أسفله‏:‏ أَمَا إنك لو عَلِمْت عدداً أقل من واحد ولوناً شرَّاً من أسود لبعثتَ به‏.‏ وتكلّم ربيعةُ الرّأي فأَكْثر وأَعْجبه إكثارُه فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له‏:‏ ما تَعدّون البلاغة عندكم يا أعرابيّ قال له‏:‏ حَذْف الكلام وإيجازالصواب‏.‏
قال‏:‏ فما تَعدّون العِيّ قال‏:‏ ما كُنتَ فيه منذُ اليوم‏.‏
فكأنما أَلقمه حَجراً‏.‏ أول مَن وضع الكتابة
أوّل من وضع الخطّ العربيّ والسّرياني وسائرَ الكُتُب آدمُ صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلثمائة
سَنة كَتبه في الطين ثم طَبخه فلمّا انقضى ما كان أصاب الأرضَ من الغَرق وَجد كُلُّ قوم
كتابهم فكتبوا به‏.‏
فكان إسماعيل عليه الصلاةُ والسلامُ وجد كتابَ العرب‏.‏
ورُوي عن أبي ذَرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ إدريس أولُ مَن خَط بالقلم بعد آدم
صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس أَنً أولَ من وَضع الكتابةَ العربيّة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وكان أَوَّلَ مَن نطق بها فوُضعت على لفظه ومَنطقه‏.‏
وعن عمرَ بن شَبة بأسانيده‏:‏ أن أولَ مَن وضع الخطّ العربي‏:‏ أبجد وهَوًز وحُطي وكَلمن وسعفص وقرشت هم قوم من الجبلة الآخرة وكانوا نزولا عند عَدْنان بن أُدد وهم من طَسْم وجديس‏.‏
وحُكي أنًهم وضعوا الكُتب على أسمائهم فلما وجدوا حُروفاً في الألفاظ ليست في أسمائهم أَلْحقوها بها وسموها الروادف وهي‏:‏ الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين على حَسب ما يلحق في حروف الجُمل‏.‏ وعنه أن أول مَن وضع الخط
نفيس ونصر وتَيْما بنو إسماعيل بن إبراهيم ووضعوه مُتَّصل الحروف بعضها ببعض حتى فَرّقه نَبْت وهَمَيْسَع وقَيذر‏.‏
وحكوا أيضاً أن ثلاثة نفر من طيىء اجتمعوا ببقعة وهم‏:‏ مُرامِر بن مُرّة وأسْلم بن سِدْرة وعامر بن جَدَرة فوضعوا الخط وقاسُوا هجاء العربيّة على هجاء السّريانية
فتعلّمه قوِم من الأنبار‏.‏ وجاء الإسلامُ وليس أحد يكتب بالعربيّة غيرَ سبعة عشر إنساناً وهم
عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وعُمرُ بن الخطّاب وطَلحة بن عبيد اللّه وعثمان وأبو
عُبيدة بن الجَرّاح وأبان بن سعيد بن العاص وخالد بن سعيد أخوه وأبو حُذيفة بن عُتبة
ويزيد بن أبي سفيان وحاطب بن عمرو بن عبد شمس والعلاء بن الحَضْرمي وأبو سَلمة ابن
عبد الأسد وعبد اللّه بن سعد بن أبي سَرح وحُويطب بن عبد العُزّى وأبو سُفيان بن حَرْب
ومعاوية ولده وجُهيم بن الصلت بن مخرَمة‏.‏



استفتاح الكتب
إبراهيم بن محمد الشَّيباني قال‏:‏ لم تزل الكتب تُستفتح باسمك اللهم حتى أنزلت سورة هود
وفيها‏:‏ بسم الله مَجْراها ومُرْساها فكتب‏:‏ بسم اللّه ثم نزلت سورة بني إسرائيل‏:‏ قل أدعوا
اللّه أو أدعوا الرَّحمَن فكتب بسم اللّه الرحمن ثم نَزلت سورة النمل‏:‏ ‏"‏ إنّه من سُليمان وإنه بسم
الله الرَحمن الرحيم ‏"‏ فاستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت سُنة‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أصحابه وأمراء جُنوده‏:‏ مِن محمد رسول اللّه إلى فلان‏.‏
وكذلك كانوا يَكتبون إليه يبدءون بأنفسهم فممن كَتب إليه وبدأ بنفسه‏:‏ أبو بَكْر والعلاء بن
الحَضْرمي وغيرُهما وكذلك كُتُب الصحابة والتابعين ثم لم تَزل حتى وَلي الوليد بنِ عبد الملك
فعظم الكِتَابَ وأَمر أن لا يُكاتبه الناسُ بمثل ما يُكاتِب به بعضهمِ بعضاً فَجَرت به سُنّة الوليد
إلى يومنا هذا إلّا ما كان من عُمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما عَمِلا بسنة رسول اللهّ
صلى الله عليه وسلم ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد والقومّ عليه إلى اليوم‏.‏



ختم الكتاب وعنوانه
وأمّا خَتْم الكتاب وعنوانه‏:‏ فإن الكتب لم تزل مَشهورةً غيرَ مُعنونة ولا مختومة حتى كُتبت
صحيفة المُتلمِّس فلما قرأها خُتمت الكتب وعُنونت‏.‏
وكان يُؤتىَ بالكتاب فيقال‏:‏ مَن عُنِيَ به فسُمّى عُنْواناً‏.‏
وقال حسَّان بن ثابت في قتل عثمان‏:‏
صَحِّوا بِأَشْمَط عُنْوانُ السجود به يُقَطِّع الليلَ تَسْبيحاً وقُرآنَا
وقال آخر‏:‏
وحاجةٍ دون أخرى قد سَمَحْتُ بها جعلتُها للذي أحببتُ عُنوانَا

وقال أهلُ التفسير في قول اللهّ تعالى‏:‏ إني أُلْقِي إليّ كِتَابٌ كَرِيم أي مختوم إذ كانت كَرامة الكتابةخَتمه‏.‏



تأريخ الكتاب
لا بد من تأريخ الكتاب لأنه لا يُدَلّ على تحقيق الأخبار وقُرْب عهد الكِتاب وبُعْده إلا
بالتأريخ‏.‏
فإذا أردتَ أن تُؤَرّخ كتابَك فانْظُر إلى ما مَضى منِ الشَهر وما بِقِي منه فإن كان ما
بَقي أكثر من نصف الشهر كتبت‏:‏ لكذا وكذا ليلةً مضت من شهر كذا وإن كان الباقي أقلَّ
من النصف جعلتَ مكان‏:‏ مَضت بقيت‏.‏
وقد قال بعضُ الكتاب‏:‏ لا تكتب إذا أرّخت إلا بما
مَضى من الشهر لأنه معروف وما بقي منه مجهول لأنك لا تدري أيتمّ الشَّهر أم لا‏.‏

ولا تَجعل سِحاءة كتابك غليظة إلا في كُتب العُهود والسجلاّت التي يُحتاج إلى بقاء خواتيمها
وطَوابعها فإنَّ عبد اللّه بن طاهر كتب إليه بعضُ عمّاله على العراق كتاباً وجعل سِحَائته
غليظة فأمر بأشخاص الكاتب إليه فلما ورَد عليه قال عبدُ الله بن طاهر‏:‏ إن كانت معك
فأس فاقطع خَتم كتابك ثم ارجعِ إلى عملك وإن عُدت إلى مثلها عُدنا إلى إشخاصك لقطعها‏.‏

ولا تُعظِّم الطَينة جداً وطِنْ كُتُبكَ بعد كَتْبك عناوينها فإن ذلك من أدب الكاتب فإن طِينت

تفسير الأمي
فأما الأمي فمجازُه على ثلاثة وجوه‏:‏ قولهم أمي منسوب إلى أُمّة رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم
ويقال‏:‏ رجل أمي إذا كان من أم القُرى‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ لِتُنْذِر أمّ القُرَى ومَن حَوْلَها ‏"‏ وأما قوله
تعالى‏:‏ النبيّ الأمي فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب‏.‏
والأمية في النبيّ صلى الله عليه وسلم
فضيلة لأنها أدلُّ على صِدْق ما جاء به أنه من عند اللّه لا من عنده وكيف يكون مِن عنده
وهو لا يَكْتب ولا يقرأ ولا يقول الشَعر ولا يُنشده‏.‏
قال المأمون لأبي العلاء المِنْقري‏:‏ بَلَغني أنك
أمي وأنك لا تُقيم الشَعر وأنك تلحن في كلامك‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أمّا اللّحن فربما سَبقني
لساني بالشيء منه وأما الأمية وكَسْر الشعر فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أميّاً وكان لا
يُنشد الشعر‏.‏
فقال المأمون‏:‏ سألتُك عن ثلاثة عُيوب فيك فزِدتني رابعاً وهو الجهل أمَا علمتَ
يا جاهل أن ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فَضيلة وفيك وفي أمثالك نَقيصة‏!‏



شرف الكتّاب وفضلهم
فمن فضلهم قولُ الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ علم بالقلم علم الإنسان ما لم

يعلم ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كِرَاماً كاتبين ‏"‏‏.‏
وقولُه‏:‏ ‏"‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏"‏ وللكُتاب أحكام بينة
كأحكام القُضاة يُعرفون بها ويُنسبون إليها ويتقلدًون التدبير وسيارة المُلك بها دون غيرهم
وبهم يُقام أوَد الدين وأمور العالمين‏.‏

فمن أهل هذه الصناعة‏:‏ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان مع شرفه ونُبله وقَرابته من
رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم يكتب الوحي ثم أفضت إليه الخلافة بعد الكتابة وعثمان بن
عفان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب ابن بن كعب وزيد بن ثابت فإن لم يَشهد واحد
منهما كَتب غيرُهما‏.‏
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه
في حَوائجه وكان المُغيرة بن شُعبة والحُصين بن نمير يكتبان ما بين الناس وكانا ينوبان عن خالد
ومُعاوية إذا لم يحضرا وكان عبد اللّه بن الأرقم ابن عبد يغوث والعلاء بن عُقبة يكتبان وبين
القوم في قبائلهم ومِياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء وكان ربما كتب عبدُ الله بن
الأرقم إلى الملوك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وكان حُذيفة بن اليمان يكتب خَرْص
ثمار الحجاز وكان زيدُ بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي وقيل‏:‏ إنه تعلّم
بالفارسية من رسول كِسْرى وبالرومية من حاجب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبالحبشية من
خادم النبي صلى الله عليه وسلم وبالقِبْطية من خادمه عليه الصلاة والسلام‏.‏
ورُوي عن زيد

بن ثابت قال‏:‏ كنت أكتب بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً فقام لحاجة فقال لي‏:‏
ضَع القلم على أذنك فإنه أذكر للمُملي وأقضى للحاجة‏.‏
وكان مُعَيْقيب بن أبي فاطمة يكتب
مغانم النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكان حَنْظلة بن الربيع بن المُرقَّع بن صَيفيّ ابن أخي أكثم بن
صيْفيّ الأسيديّ خليفة كُل كاتب من كُتَاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله
فغلب عليه اسم الكاتب وكان يضع عنده خاتمه وقال له‏:‏ الزمني وأذكر في بكل شيء أنا فيه
وكان لا يأتي على مالك ولا طعام ثلاثة أيام إِلا أذكره فلا يَبيت صلى الله عليه وسلم وعنده
منه شيء‏.‏
ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بامرأة مقتولة يوم فتْح مكة فقال لحنظلة‏:‏
الحق خالداً وقل له‏:‏ لا تقتلن ذُرْية ولا عَسِيفا‏.‏
ومات حَنظلة بمدينة الرها فقالت فيه امرأته
وحُكي أنه من قول الجِن وهذا محال‏:‏
يا عَجَبَ الدَّهْرِ لمَحْزونة تَبْكي على ذي شَيْبَةٍ شاحِبِ
إن تسألنّي اليومَ ما شَفّني أخبرْك قِيلا ليس بالكاذب
أن سَوادَ الرأس أوْدَى به وَجْدي على حَنْظلةَ الكاتب
ولما وَجّه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سعداً إلى العراق وكتب إليه أن يسبع القبائل
أسباعاً ويَجعل على كل سُبع رجلاً فَفعل سعد ذلك وجعل السبع الثالثِ تميماً وأسداً

وغطفان وهوازن وأميرَهم حنظلَة بن الربيع الكاتب وكان أحدَ من سُيَر إلى يَزْدجرد يدعوه إلى
الإسلام‏.‏
وكان الحْصين بن نُمير من بني عبد مناة شَهد بَيْعة الرِّضوان ودعاه رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم يكتب صُلْح الحّديبية فأبى ذلك سهَيْل بن عمرو وقال‏:‏ لا يكْتب إلا رجل منّا
فكتب عليّ بن أبي طالب‏.‏
ورُوي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ لما جاء سُهَيل بن عمرو ونحن مع
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية حين صالَح قُريشاً كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي
سرح يكتب له ثم ارتد ولَحِق بالمُشركين وقال‏:‏ إن محمداً يكتب بما شِئْتُ‏.‏
فَسمع ذلك رجل
من الأنصار فَحَلف باللّه إن أمكنه الله منه ليضربنِّه ضَرْباً بالسَّيف فلما كان يوم فَتح مكة
جاء به عثمانُ وكان بينهما رَضاع فقال‏:‏ يا رسولَ اللهّ هذا عبدُ الله قد أقبل تائباً فأعْرضَ
عنه والأنصاريُّ مُطيفٌ به ومعه سَيفُه فمدّ رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم جمعه يدَه
وبايعه وقال للأنصاري‏:‏ لقد تَلَوَّمتُك أنْ تُوفِي بنَذرك‏.‏
فقال‏:‏ هلَّا أومضت إليّ‏.‏
فقال صلى الله
عليه وسلم‏:‏ لا يَنْبغي لي أن أومض‏.‏

أيام أبي بكر
رضي اللهّ عنه

كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيدُ بن ثابت‏.‏
ورُوي أنّ عبدَ اللّه ابن الأرقم كتب له
وأن حنظلة بن الربيع كتب له أيضاًً‏.‏
ولما تقلَّد الخلافةَ دَعا زيد بن ثابت وقال له‏:‏ أنت شاب
عاقل لا نَتَهمك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُنتَ تكتب الوَحْي فتَتبّع القرآن
فأجمعه وفيه يقول حسان بنُ ثابت‏:‏
فَمن للقَوافي بعد حَسّانَ وابنه ومَن للمَثاني بعد زَيْد بنِ ثابت
أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
كَتب لعمر بن الخطاب زيدُ بن ثابت وعبدُ الله بن الأرقم وعبدُ الله ابن خَلف الخزاعيّ أبو
طَلْحة الطلحات على ديوان البَصْرة‏.‏
وكَتب له على ديوان الكوفة أبو جَبِيرة بن الضحّاك فلم
يزل عليه إلى أن ولي عبيد اللّه بن زياد فعزله وولي مكانه حبيب بن سَعْد القَيْسيّ‏.‏

أيام عثمان بن عفان
رضي اللهّ عنه
كان يكتب لعُثمان مروانُ بن الحَكَمَ‏.‏
وكان عبد الملك بن مَرْوان يكتب له على ديوان المدينة

وأبو جَبِيرة على ديوان الكُوفة وعبدُ اللّه بن الأرقم عل بيت المال وأبو غَطفَان بن عوف بن
سعد بن دينار من بني دُهْمان من قيس عَيْلان يكتب له أيضاً وكان يكتب له أهَيب مولاه
وحُمْران مولاه‏.‏

أيام علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه
كان يكتب له سعيد بن نِمْران الهَمْداني ثم ولي قضاء الكُوفة لابن الزبير وكان عبد الله بن
جعفر يكتب له‏.‏
ورُوي أن عبد الله بن حَسن كتب له وكان عبد اللّه بن أبي رافع يكتب له
وسِمَاك بن حَرْب‏.‏

أيام بني أمية
وكان يكتب لمُعاوية‏.‏
بن أبي سفيان‏.‏
سعيدُ بن أنس الغَسّاني‏.‏
وكاتبُ يزيد بن معاوية
سَرْجون بن مَنْصور وكاتبُ مَرْوان بن الحكم حُميد بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏
وكاتبُ عبد
الملك بن مروان سالمٌ مولاه ثم كَتب له عبد الحميد بن يحيى وهو عبد الحميد الأكبر‏.‏
وكاتبُ
الوليد بن عبد الملك جَنَاح مولاه‏.‏
وكاتب سُليمان بن عبد الملك عبدُ الحميد الأصغر‏.‏
وكاتبُ

عمر بن عبد العزيز الليثُ بن أبي رُقَية مولى أمّ الحكم وكتب له رَجاء بنُ حَيْوة وخُص به
وإسماعيل بن أبي حَكِيمٍ مولى الزُبير وسليمان بن سعد الخُشَنيّ على ديوان الخَراج وكان عمرِ
يكتب كثيرا بيده‏.‏
وكاتبُ يزيد ابن عبد الملك عبدُ الحميد أيضاًً ثم لم يَزل كاتباً لبني أمية إلى
أيام مَروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية‏.‏
وكان عبد الحميد أولَ من فَتق أكمام البلاغة
وسَهَّل طُرقها وفَكّ رِقاب الشَعر‏.‏

أيام الدولة العباسية
فكان كاتبُ أبي العبّاس وأبي جَعفر أبا أيوب المورياني الأهوازيّ‏.‏
وكاتبُ موسى الهادي بن
محمد المهدي إبراهيمَ بنَ ذَكْوان الحَراني‏.‏
وكاتب هارون الرشيد بن محمد المهدي يحيى بنَ خالد
البَرمكي ثم الفَصْلَ بن الرَّبيع ثم إبراهيمَ بن صُبَيح‏.‏
وكاتبُ محمد بن زُبيدة الأمين الفضلَ بن
الرَّبيع وكاتبُ عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد الفضلَ بنَ سَهل ثم الحسنَ بن سَهل ثم
عمرو بنَ مسعدة ثم أحمدَ بن يوسف‏.‏
وكاتبُ أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد
وهو المعروف بابن ماردة الفضلَ بن مروان ومحمدَ بن عبد الملك الزيات‏.‏
وكاتبً الواثق هارون
بن محمد المعتصم محمدَ بن عبد الملك الزيات أيضاًً‏.‏
وكاتب المُتوكل جعفر بن محمد المعتصم

إبراهيمَ بن العبّاس بن صُول مولًى لبني العبّاس‏.‏
وكاتبُ المُنتصر محمد ويكنى أبا جعفر بن
المتوكل أحمدَ بن الخَصيب ثم كتب للمُستعين أحمد بن محمد المعتصم فظهر من عجزه وعِيه ما
أسخطه عليه ثم جعل وزارته إلى أوتامش وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه ثم سخط
عليهما فقتلهما واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد ثم صرفه وقَلِّد وزارته محمد بن
الفَضل الجرجاني‏.‏
ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز فقلد المُعْتزُ وزارتَه جَعفَر بن محمود
الجرجاني فلما استقام الأمر ردّ وزارته إلى أحمد ابن إسرائيل‏.‏
وكاتبَ المهتدي محمد بن الواثق
جعفر بن محمود الجُرجاني ثم استوزر بعده أبا أيوب سليمان بن وهب‏.‏
واستوزر المعتمد
أحمدُ بن المتوكل عبيدَ اللّه بن يحيى بن خاقان فلما توفي استوزر بعده الحسنَ بن مخلد وكان
سبب موته أنه صَدَمه غلامٌ له في الميدان يقال له رَشيق فحًمل إلى منزله فمات بعد ثلاث
ساعات‏.‏
وتقفد الوزارة للمُعتضد أحمدُ بن طَلحة وللمُوفق بن جعفر المتوكل عُبيدُ اللّه بن
سليمان بن وهب وتقلّد الوزارة للمُكتفي باللّه أبي محمد عليِّ بن المُعتضد باللّه عليً بن محمد
بن الفُرات ثم محمد بن عُبيد اللّه بن يحيى بن خاقان ثم علي بن عيسى ثم حامد بن العباس
ثم محمد بن علي بن مُقلة الذي يوصف خطّه بالجَوْدة ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم عبيد
اللّه بن محمد الكَلْوذانيّ‏.‏
ثم الحسُين بن القاسم بن عُبيد اللّه بن سُليمان بن وَهْب ولُقِّب بعميد

الدولة وكان يكتب على كُتبه‏:‏ من عَميد الدولة أبي علي بن وليّ الدولة وذُكر لقبه على
الدنانير والدراهم ثم الفَضْل بن جعفر بن محمد بن الفُرات‏.‏
وتقلّد الوزارة للقاهر بالله أبي
مَنْصور محمدِ بن المُعتضد محمدُ بن عليّ بن مُقلة ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللّه ثم القاسم
بن عُبيد اللّه الحُصَيني‏.‏
وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر محمدُ بن
علي بن مُقلة ثم عبدُ الرحمن بن عيسى أخو الوزير علي بن عيسى ثم محمد بن القاسم
الكَرْخي ثم الفضلُ بن جعفر بن محمد بن الفُرات ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد‏.‏
وتقلّد الوزارة
للمُتًقي باللهّ إبراهيم بن جعفر ابن المُقتدر كاتبهُ أحمد بن محمد بن الأفطس‏.‏
ثم أبو إسحاق
القَراريطي ثم علي بن محمد بن مُقلة‏.‏
وتقلّد الوزارة للمُستكفي بالله أي القاسم عبد اللّه بن
عليّ المكتفي باللّه الحسين بن محمد بن أبي سُليمان ثمِ محمد بن علي السامُري المُكَنّى أبا
الفَرج‏.‏
ثم ولي المُطيع بالله الفضلُ بن المقتدر فوَزر له الحسن بن هارون‏.‏


أسماء من كتب لغير الخليفة
كان المُغيرة بن شُعْبة كاتباً لأبي موسى الأشعريّ‏.‏
وكان سَعِيد بن جُبير كاتباً لعَبد اللّه بن عُتبة
بن مسعود وكان قاضياً بعد ذلك‏.‏
وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ مع نًبله وفِقهه ووَرعه
وزُهده كاتباً للرَّبيعِ بن زياد الحارثيّ بخُراسان ثم ولي قضاءُ البَصرَة لعُمر بن عبد العزيز فقيل
له‏:‏ من وَلِّيت القضاءَ بالبَصْرة فقال‏:‏ وليتُ سيّد التابعين الحسنَ بن أبي الحسن البَصريّ‏.‏
وكان
محمد بن سِيرين مع عِلْمه وَورعه كاتباً لأنس بن مالك بفارس‏.‏
وكان زيادُ ابن أبيه مع رأيه
ودَهائه وما كان من معاوية في ادعائه يكتب للمُغيرة ابن شُعبة ثم لعبد اللهّ بن عامر بن كُرَيز
ثم لعبد اللّه بن عبّاس ثم لأبي مُولى الأشعري‏.‏
فوجّهه أبو موسى من البَصر ة لعمرَ بن الخطّاب
ليرفع إليه حسابَه فأمر له عمرُ بألف درهم لما رأى منه من الذكاء وقال‏:‏ له لا تَرْجع لأبي
موسى فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏.‏
أعَن خِيانة صَرَفْتَني أم عن تَقْصِير قال‏:‏ لا عن واحدة منهما
ولكني أكره أن أحمل فَضْل عقلك على الرعيَّة ثم وَلي بعد الكِتابة العِراقَ‏.‏
وكان عامرٌ الشَّعبي
مع فِقْهه وعِلْمه ونُبله كاتباً لعبد اللّه بن مًطيع ثم لعبد اللّه بن يَزيد عامل عبد اللّه بن الزُّبير على
الكوفة ثم وَلي قضاء الكُوفة بعد الكِتابة‏.‏
وكان قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان

الخَاتم‏.‏
وكان عبدُ الرحمن كاتب نافع بن الحارث وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة‏.‏
وكان
عبد اللّه بن خلف الخًزاعي أبو طَلْحة الطلحات كاتباً على ديوان البَصرة لعمر وعثمان ثم قُتل
يوم الجَمَل مع عائشة رضي اللهّ عنها‏.‏
وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المَدينة ثم
طلب الخلافة فقتل دونها‏.‏
وكان يزيد بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسْود بن المًطلب بن أسد بن
عبد العُزى كاتباً على ديوان المدينة زمن يزيدَ بن معاوية وكان بعده حُميد بن عبد الرحمن بن
عوف الزُّهري‏.‏




أشراف الكتاب
كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
كتب له عشرة كتاب‏:‏ عليّ بن أبي طالب وعُمر بن الخطاب وعُثمان بن عفّان وخالد بن
سعيد بن العاصي وأبان بن سعيد بن العاصي وأبو سَعيد بن العاصي وعمرو بن العاصي
وَشرَحْبيل بن حَسَنة وزيد بن ثابت والعَلاء بن الحَضْرمي ومّعاوية بن أبي سفيان فلم يزل
يكتب له حتى مات عليه الصلاةُ والسِّلام‏.‏

وكان عثمان بن عفان كاتباً لأبي بكر ثم صار خليفةً‏.‏
وكان مروان بن الحكم كاتباً لعثمان بن
عفان ثم صار خليفة‏.‏
وكان عمرو بن سعيد بن العاصيِ كاتباً على ديوان المدينة ثم طَلب
الخلافة فقُتل دونها وكان المُغيرة بن شُعبة كاتباً لأبي موسى الأشعري‏.‏
وكان الحسنُ بن أبي
الحسن البَصريّ كاتباً للربيع ابن زياد الحارثيّ بخُراسان‏.‏
وكان سعيدُ بن جُبير كاتباً لعبد الله بن
عُتبة بن مَسْعود وكان فاضلاً‏.‏
وكان زياد كاتباً للمُغيرة بن شعبة ثم أبي مُوسى الأشعري ثم
لعبد الله بن عامر بن كُريز ثم لعبد اللّه بن عبّاس‏.‏
وكان عامرٌ الشَعبي كاتباً لعبد الله بنِ مُطيع

وهو والي الكوفة لعَبد اللّه بن الزِبير‏.‏
وكان محمد بن سِيرين كاتباً لأنس بن مالك بفارس‏.‏
وكان
قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان الخاتَم‏.‏
وكان عبدُ الرحمن بن أبْزَى كاتبَ نافع بن
الحارث الخُزاعي وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة‏.‏
وكان عُبيد اللّه بن أوس الغسّاني سيد
أهل الشام كاتبَ معاوية‏.‏
وكان سعيد ابن نِمْران الهمداني سيّد همدان كاتبَ علي بن أبي
طالب ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير‏.‏
وكان عبدُ اللّه بن خلف الخُزاعي أبو طلحة
الطلحات كاتباً على ديوان البصرة لعمر وعثمان وقُتل يوم الجَمَل مع عائشة‏.‏
وكان خارجةُ بن
زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قِبَل عبد الملك‏.‏
وكان يزيدُ بن عبد اللّه بن زَمْعة بن الأسْود
بن الُمَطّلب بن أسَد بن عبد العُزّى على ديوان المدينة زمانَ يزيد بن مُعاوية‏.‏
وكان بعده حًميد
ابنً عبد الرَّحمن بن عوف الزُّهْريّ صاحب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

من نبل بالكتابة وكان قبل خاملاً
سَرْجون بن منصور الرومي كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان
إلى أن أمره عبدُ الملك بأمرِ فتوانىَ فيه ورأى منه عبدُ الملك بعضَ التفريط فقال لسُليمان بن
سَعْد كاتِبه على الرًّسائل‏:‏ إنَّ سرَجون يُدِلّ علينا بصناعته وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه في

حِسابه فما عندك فيه حِيلة فقال‏:‏ بلى لو شئت لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى العربية‏.‏

قال‏:‏ أفعل‏.‏
قال‏:‏ أَنظرني أعانِ ذلك‏.‏
قال‏:‏ لكَ نَظِرة ما شئْت‏.‏
فحَوَّل‏!‏ الديوانَ فولّاه عبدُ
الملك جميعَ ذلك‏.‏
وحسَّان النَّبَطيّ كاتِبُ الحجَّاج وسالم مولى هِشام بن عبد الملك وعبد
الحميدُ الأكبر وعبدُ الصَمد وجَبلة بن عبد الرحمن وقَحْذم جَدّ الوليد بن هشام القَحْذمي
وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية‏.‏
ومنهم‏:‏ الفَرَّاء كاتبُ خالد بن عبد اللّه
القسْريّ‏.‏
ومنهم‏:‏ الربيع والفَضل بن الربيِع ويعقوب بن داود ويحيى بن خالد وجَعفر بن يحيى
وأبو محمد عبد اللّه بن المُقَفّع والفَضْل ابن سَهل والحَسن بن سَهل وجَعفر بن محمد بن
الأشعث وأحمد بن يوسف وأبو عبد السلام الجُنْد يسابوريّ وأبو جعفر محمد بن عبد الملك
الزيَّات والحسن بن وَهْب وإبراهيم بن العبّاس الصُولي ونَجاح بن سَلمة وأحمد بن محمد بن
المًدبّر‏.‏
فهؤلاء نَبُلوا بالكتابة واستحقوا اسمها‏.‏

من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها
صالح بن شيرزاد وجعفر بن سابور كاتب الأفشِين والفَضْل بن مَرْوان وداود بن الجَرَّاح وأبو
صالح عبد اللهّ بن محمد بن يَزْداد وأحمد ابن الخصيب‏.‏
فهؤلاء لَطّخوا أنفسهم بالكتابة وما

وقال بعضَ الشعراء في صالح بن شِيرزاد‏:‏
حِمَار في الكِتابة يَدَّعيها كدَعْوى آل حَرْب في زِيادِ
فَدَع عنك الكِتابة لست منها ولو غَرَّقتَ ثوبك في المِداد
ومنهم‏:‏ أبو أيّوب ابن أخت أبي الزير وهو القائل يَرْثي أمَّ سُليمان بن وَهْب الكاتب‏:‏
لأمّ سُليمانٍ علينا مُصِيبةٌ مُغَلْغلة مثلُ الحُسام البَواتِر
وكُنتِ سرِاجَ البيتِ يا أمَّ سالم فأضحى سراجُ البيت وَسْط المَقابر
فقال سُليمان بن وهب‏:‏ ما نَزلً بأحدٍ من خَلْق اللّه ما نَزل به ماتت أمي فرُثيت بمثل هذا
الشعر ونُقل اسمي من سُليمان إلى سالم‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:31 AM

صفة الكتاب
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني‏:‏ من صِفة الكاتب اعتدالُ القامة وصِغَر الهامة وخِفَّة اللَهازم
وكَثَافة اللِّحية وصِدْق الحِسّ ولُطْف المَذْهب وحًلاوة الشمائل وحُسْن الإشارة ومَلَاحة
الزِّي حتى قال بعضُ المَهالبة لولده‏:‏ تَزَيَّوا بزِيّ الكُتِّاب فإن فيهم أدبَ الملوك وتواضعَ السُّوقة‏.‏

وقال إبراهيم بن محمد الكاتب‏:‏ من كمال آل الكِتابة أن يكون الكتاب‏:‏ نَقِيّ المَلْبس نَظيف

المَجْلس ظاهر المُروءة عَطِر الرّائحة دَقيق الذِّهب صادق الحِسّ حَسَن البيان رَقيق
حواشي اللسان حُلْو الإشارة مَليح الاستعارة لطيفَ المسالك مُسْتَقِرّ التّركيب ولا يكون مع
ذلك فَضفَاض الجثّة مُتفاوت الأجزاء طويل اللِّحية عظيم الهامة فإنهم زَعموا أنّ هذه الصورة
لا يليق بصاحبها الذَّكاءُ والفِطْنة‏.‏
وأنشد سعيد بن حُميد في إبراهيم بن العباس‏:‏
رأيتُ لهازمَ الكُتّاب خَفَّت ولهزْمتاك شأنُهما الفَدَامة
وكُتّاب الملوك لهم بَيانٌ كمِثْل الدُّر قد رَصَفوا نِظَامَ
وأنت إذا نطقتَ كأنّ عَيْراً يَلُوك بما يَفُوه به لِجامه
وقال آخر‏:‏
عليكَ بكَاتب لَبِقٍ رَشِيقٍ زَكِيِّ في شَمائله حرارَه
تُناجِيه بطَرْفًك مِن بَعيد فيفهمُ رَجْع لَحْظك بالإشارة
ونظر أحمد بن الخَصِيب إلى رجل من الكتاب‏:‏ فَدْم المنظر مُضْطرر الخَلْق طويل العُثْنون
فقال‏:‏ لأن يكون هذا فِنْطاسٌ مُرَكب أشبهَ من أن يكون كاتباً‏.‏

فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال وانتظمت فيه هذه الخِصال فهو الكافِ البليغ والأديب
النِّحْرِير وإن قَصَّرت به آلة من هذه الآلات وقَعدت به أداةٌ كل هذه الأدوات فهو مَنقوص



http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم الشِّيباني‏:‏ أولَ ذلك حُسْن الخط الذي هو لِسان اليد وبَهجة الضَّمير وسِفير العقل
ووَحْي الفِكْرة وسِلاح المَعْرفة وأنس الإخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بُعد المسافة
ومُسْتودَع السرّ وديوان الأمور‏.‏
ولستُ أجد لحُسن الحظ حدًا أقف عليه أكثرَ من قول عليّ بن
رَبَن النصراني الكاتب فإني سألته واستوصفتُه الخَطّ فقال‏:‏ أعلّمك الخطِّ في كلمة واحدة
فقلت له‏:‏ تَفَضَل بذلك فقال‏:‏ لا تكتبْ حَرْفاً حتى تَسْتَفرغَ مجهودَك في كتابة الحَرْف وتَجْعَل في
نفسك إنك تَكْتب غيرَه حتى تَعْجِزَ عنه ثم تنتقل إلى ما بعده‏.‏
وإياك والنَقْط والشَّكْل في
كتابك إلا أن تمر بالحَرْف المُعضِل الذي تعلم أنّ المكتوبَ إليه يَعْجِز عن استخراجه فإني سمعتُ
سعيدَ بن حُميد بن عبد الحميد الكاتب يقول‏:‏ لأن يُشْكِل الحرفُ عن القارىء أحبُّ إليَ من أن
يُعابَ الكتاب بالشَكل‏.‏
وكان المأمونُ يقول‏:‏ إيَّاكم والشُّونِيز في كُتبكم - يعني النَّقْط والإعجام‏.‏

ومن ذلك أن يُصْلِحَ الكاتبُ آلتَه التي لا بُدَّ منها وأداتَه التي لا تَتم صناعتُه إلا بها مثلِ دَواته
فلْيُنْعِمْ ربَّها وإصلاحَها ولْيتخيَّر من أنابيب القَصب أقلَّه عُقداً وأكثرَه لَحْماً وأصلَبه قِشْراً
وأعدلَه استواء ويجعلَ لقِرْطاسه سِكِّينَاً حاداً لتكون عَوْناً له على بَرْي أقلامه ويَبريها من ناحية

قال العتّابيّ‏:‏ سألني الأصمعي يوماً في دار الرّشيد‏:‏ أيُّ الأنابيب للكتابة أصلَح وعليها أصْبر
فقلتُ له‏:‏ ما نشِفَ بالهَجير ماؤه وسَتره عن تلويحه غشاؤه من التِّبْريّة القُشور الدّرّية الظًّهور
الفِضَية الكُسور‏.‏
قال‏:‏ فأيّ نوع من البَرْي أصْوبُ وأكْتب فقلت‏:‏ البَرْية المُستوية القَطَّة التي
عن يمين سِنّها قُرْنة تأمن معها المَجَّة عند المَدة والمَطّة للهواء في شَقّها فَتُيق والرِّيح في جَوْفها
خَريق والمدادُ في خُرطُومها رقيق‏.‏
قال العتّابي‏:‏ فبقي الأصمعي شاخصاً إليّ ضاحكاً لا يُحير
مسألةً ولا جواباً‏.‏

ولا يكون الكاتب كاتباً حتى لا يَسْتطيع أحدٌ تأخيرَ أوّل كتابه وتقديمَ آخره‏.‏
وأفضل الكُتّاب
ما كان في أوَّل كِتابته دليلٌ على حاجته كما أنّ أفضلَ الأبيات ما دلَّ أولً البيت على قافيته‏.‏

فلا تُطيلنّ صَدْرَ كِتابك إطالةً تُخرجه عن حدّه ولا تُقَصِّر به دون حدِّه فإنَّهم قد كَرِهوا في
الجُمْلة أن تَزيدَ صًدور كُتب المُلوك على سَطْرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك‏.‏

وقيل للشَّعْبيّ‏:‏ أيّ شيء تَعرف به عقلَ الرجُل قال‏:‏ إذا كَتب فأجاد‏.‏
وقال الحسنُ بن وَهْب‏:‏
الكاتبُ نفسٌ واحدة تجزّأت في أبدان مُتفرِّقة‏.‏

فأما الكاتب المُستحقّ اسم الكِتابة والبليغُ المَحْكوم له بالبلاغة مَن إذا حاول صِيغَة كتاب
سالت عن قلمه عُيونُ الكلام من ينابيعها وظَهرت من معادنها وبدرت من مواطنهَاَ من غير

بلغني أنّ صَديقاً لكُلثوم العتّابي أتاه يوماً فقال له‏:‏ اصنع ليِ رسالةً فاستعدّ مدّة ثم علّق القلم
فقال له صاحبه‏:‏ ما أرى بلاغَتك إلا شاردةً عنك‏.‏
فقال له العتِّابيّ‏:‏ إني لما تناولتُ القلم
تداعتْ عليّ المعاني من كل جهة فأحببتُ أن أترك كل معنَى حتى يرجع إلى موضعه ثم أَجتني
لك أحسنَها‏.‏
قال أحمدُ بن محمد‏:‏ كنتُ عند يزيد بن عبد اللّه أخي ذُبْيان وهو يُمْلي على
كاتب له فأعجَل الكاتبَ ودَارَك في الإملاء عليه فتَلجلج لسانُ قَلَم الكاتب عن تَقْييد إملائه
فقال له‏:‏ اكتُب يا حمار‏.‏
فقال له الكاتبُ‏:‏ أَصْلَحَ اللهّ الأمير إنه لما هَطلت شآبيبُ الكلام
وتَدافعت سُيولُه على حَرْف القَلَم كَلَّ القَلمُ عن إدراك ما وَجب عليه تقييدُه‏.‏
فكان حُضور
جواب الكاتب أبلغَ من بلاغة يزيد‏.‏
وقال له يوماً وقد مَطَّ حرْفاً في غير مَوْضعه‏:‏ ما هذا قال‏:‏
طُغْيان في القَلَم‏.‏

فإنْ كان لا بُدّ لك من طَلَب أدوات الكِتابَة فتَصفّح من رسائل المُتقدّمين ما
يُعتمد عليه ومن رسائل المُتأخّرين ما يُرْجَع إليه ومن نوادر الكلام ما تَستعين به ومن
الأشعار والأخبار والسِّير والأسمار ما يَتَّسع به مَنْطِقُك ويطولُ به قَلَمك وانظر في كتب
المقامات والخُطب ومُجاوبة العَرَب ومعاني العجم وحُدود المَنْطق وأمْثال الفُرس ورسائلهم
وعُهودهم وسَيرهم ووقائعهم ومَكايدهم في حُروبهم والوَثائق والصُّور وكُتب السجلاّت

والأمانات وقَرْض الشِّعر الجَيِّد وعِلْم العروض بعد أن تكون مُتوسِّطاً في علم النَّحو والغَريب
لتكون ماهراً تنتزعُ آيَ القًرآن في مواضعها والأمثالَ في أماكنها فإنّ تَضْمين المَثل السائر والبَيْت
الغابر البارع مما يزين كتابك ما لم تُخاطب خليفةً أو مَلِكاً جليلَ القَدْر فإنّ اجتلاب الشِّعر في
كتب الخلفاء عيبٌ إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشِّعر والصانع له فإنّ ذلك يَزيد في
أبّهته‏.‏

خبر حائك الكلام
أبو جعفر البغداديّ قال‏:‏ حَدثنا عثمانُ بن سَعيد قال‏:‏ لما رَجع المُعتصم من الثّغْر وصار
بناحية الرَّقّة قال لعمرو بن مَسْعدة‏:‏ ما زلْتَ تسألني في الرُّخجيّ حتى وَلَّيتُه الأهواز فَقَعَد في
سرُة الدُّنيا يأكلها خَضما وقَضْما ولم يُوجِّه إلينا بدِرهم واحد‏.‏
اخرُج إليه من ساعتك‏.‏
فقلتُ
في نفسي‏:‏ أبعدَ الوزارة أصيرُ مُحستَحَثا على عامل خراج‏!‏ ولكنْ لم أجدْ بدًّا من طاعة أمير
المؤمنين فقلت‏:‏ أَخرج إليه يا أمير المؤمنين‏.‏
فقال‏:‏ حلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً‏.‏

فحلفتُ له ثم انحدرت إلى بغداد فأمرتُ ففُرِش لي زَوْرق بالطبريّ وغُشيِّ بالسِّلْخ وطُرح
عليه الكُرّ‏.‏
ثم خرجتُ فلما صرْتُ بين دَيْر هِزْقل ودَيْر العاقول إذا رجل يصيح‏:‏ يا ملّاح رجلٌ

منقطع‏.‏
فقلتُ للملاّح‏:‏ قَرَّب إلى الشّطّ‏.‏
فقال‏:‏ يا سيدي هذا شَحّاذ فإنْ قَعد معك آذاك‏.‏

فلم ألتفتْ إلى قوله وأمرتُ الغِلمان فأدْخلوه فَقَعد في كَوْثل الزَّوْرق‏.‏
فلما حَضر وقتُ الغِداء
عزمتُ أن أدعُوه إلى طَعامي فدعوتُه فجعل يأكل أكلَ جائع بنَهَامة إلاّ أنه نظيف الأكل‏.‏
فلما
رُفع الطعامُ أردتُ أن يَستعمل معي ما يَتسعمل العوامُّ مع الخواص‏:‏ أن يقومَ فيغسل يدَه في ناحية
فلم يَفعل فغَمزه الغِلْمان فلم يَقُم فتشاغلتُ عنه ثم قلت يا هذا ما صناعتُك قال‏:‏ حائك‏:‏
فقلتُ في نفسي‏:‏ هذه شر من الأولى‏.‏
فقال لي‏:‏ جُعِلت فِداك قد سألتَني عن صِناعتي
فأخبرتُك فما صناعتُك أنت قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ هذه أعظمُ من الأولى وكرهتُ أن أذكر
له الوزارة فقلتُ‏:‏ اقتصر له على الكتابة فقلت‏:‏ كاتب‏.‏
قال‏:‏ جُعلت فداك الكُتّاب على
خمسة أصناف‏:‏ فكاتبُ رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفَصل من الوصل والصُّدور والتَّهاني و
التَّعازي والتَرغيب والتَّرهيب والمقصور والمَمْدود وجُملًا من العربيّة وكاتب خرَاج يحتاج إلى
أن يَعْرف الزَّرْع والمِساحة
والأشْوال والطسُوق والتّقسيط والحساب وكاتب جُند يحتاج إلى أن يَعرف مع الحساب
الأطماعَ وشِيات الدواب وحُلَى الناس وكاتب قاضٍ يحتاج إلى أن يكون عالماً بالشّروط
والأحكام والفُروع والناسخ والمَنسوخ والحلال والحرام والمواريث وكاتب شُرطة يحتاج إلى أن

يكون عالماً بالجُروح والقِصاص والعقول والدَيات‏.‏
فأيهم أنت أعزّك اللهّ قال‏:‏ قلت‏:‏ كاتب
رسائل‏.‏
قال‏:‏ فأخبرني إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب
فتزوجتْ أمهُ فكيف تكتب له أتهنِّيه أم تُعزِّيه قلت‏:‏ والله ما أقفُ على ما تقول‏.‏
قال‏:‏
فلستَ بكاتب رسائل فأيهمِ أنت قلت‏:‏ كاتب خراج‏.‏
قال‏:‏ فما تقول أصلحك اللهّ وقد ولاك
السلطان عملاَ فَبَثَثْتَ عُمّالك فيه فجاءك قوم يتظلّمون من بعض عُمّالك فأردتَ أن تَنْظر في
أمورهم وتًنصفهم إذا كنت تُحبّ العدل والبِرّ وتُؤثر حُسن الأحدوثة وطيب الذِّكر وكان
لأحدهم قَرَاح كيف كنت تمسحه قال‏:‏ كنت أضرب العُطوف في العَمُود وأنظر كم مقدار
ذلك‏.‏
قال‏:‏ إذن تظلَم الرجل‏.‏
قلتُ‏:‏ فامسح العَمود على حِدَة‏.‏
قال‏:‏ إذا تظلَم السلطان‏.‏
قلت‏:‏
والله ما أدري‏.‏
قال‏:‏ فلستَ بكاتب خراج فأيهم أنت قلت‏:‏ كاتب جُنْد‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في
رجلين اسم كل واحد منهما أحمد أحدهما مَقْطوع الشفة العليا والآخرً مقطوع الشَّفة السُّفلى
كيف كنت تكتب حِلّيتهما قال‏:‏ كنت أكتب أحمدُ الأعلم وأحمد الأعلم‏.‏
قال‏:‏ كيف يكون
هذا ورِزْقُ هذا مائتا درهم ورزق هذا ألفُ درهم فيقبض هذا على دَعْوة هذا فتظلِم
صاحب الألف‏!‏ قلت‏:‏ واللهّ ما أدري‏.‏
قال‏:‏ فلستَ بكاتب جُند فأيهم أنت قلتُ‏:‏ كاتب
قاض‏.‏
فمال‏:‏ فما تقول أصلحك اللّه في رجل تُوفي وخَلَّف زوجة وسُرِّيّة وكان للزوجة بنت

وللسُرّيَّة ابن فلما كان في تلك الليلة أخذت الحُرّة ابن السُرّية فادَّعَته وجعلتْ ابنتها مكانه
فتنازعا فيه فقالت هذه‏:‏ هذا ابني وقالت هذه‏:‏ هذا ابني كيف تحكم بينهما وأنت خليفةُ
القاضي قلت‏:‏ واللّه لمست أدري‏.‏
قال‏:‏ فلستَ بكاتب قاض فأيّهم أنت قلت‏:‏ كاتب
شرطة‏.‏
قال‏:‏ فما تقول‏:‏ أصلحك الله في رجل وَثب على رجل فشجَّه شَجة مُوضحة فوثب
عليه المَشجوج فشجه شجّة مَأْمُومة قلتُ‏:‏ ما أعلم‏.‏
ثم قلت‏:‏ أصلحك اللّه قد سألتَ ففسِّر
لي ما ذكرتَ‏.‏
قال‏:‏ أما الذي تزوّجت أمّه فتكتبُ إليه‏:‏ أما بعد فإن أحكامَ اللّه تَجْري بغير
مَحابّ المَخْلوقين واللّه يختار للعباد فخار اللّه لك في قَبْضها إليه فإن القبرَ أكرمُ لها والسلام
وأما القَراح فتضرب واحداً في مساحة العُطوف فمن ثَمَّ بابُه وأما أحمد وأحمد فتكتب حِلْية
المَقْطوع الشّفة العُليا‏:‏ أحمد الأعلم والمَقْطوع الشفة السفلى أحمد الأشرم وأما المرأتان فيُوزن
لبن هذه ولبن هذه فأيّهما كان أخف فهي صاحبة البنت وأما الشّجّة فإن في المُوضحة خمساً
مني الإبل وفي المأمومة ثلاثاً وِثلاثين وثُلثاً فيَرُدّ صاحبُ المأمومة ثمانيةً وعشرين وثُلثاً‏.‏
قلت‏:‏
أصلحك اللهّ فلا نزع بك إلى هنا قال ابنُ عمّ لي كان عاملاً على ناحية فخرجتُ إليه
فألفيتُه مَعْزولاً فقُطع بي فأنا خارج أضطرب في المعاش‏.‏
قلتُ‏:‏ ألستَ ذكرتَ أنك حائك
قاٍل‏:‏ أنا أحُوك الكلام ولستُ بحائك الثياب‏.‏
قال‏:‏ فدعوتُ المُزَيِّن فأخذ من شَعَره وأدْخِل

الحمّام فطَرحْتُ عليه شيئاً من ثيابي‏.‏
فلما صرتُ إلى الأهواز كلمت الرخّجيّ فأعطاه خمسةَ
آلاف درهم ورَجع معي فلما صرتُ إلى أمير المؤمنين قال‏:‏ ما كان من خَبرك في طريقك
فأخبرتُه خبري حتى حدَّثتُه حديث الرجل‏.‏
فقال لي‏:‏ هذا لا يُستغنى عنه فلأيّ شيء يصلُح
قلت‏:‏ هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة‏.‏
قال‏:‏ فولاه أميرُ المؤمنين البناء والمَرمَّة‏.‏
فكنتُ واللّه
ألقاه في المَوكب النبيل فينحطّ عن دابته فأحلِف عليه فيقول‏:‏ سُبحان اللّه‏!‏ إنما هذه نِعْمتك
وبك أفدتُها‏.‏


فضائل الكتابة
قالت أبو عثمان الجاحظ‏:‏ ما رأيتُ قوماً أنفذ طريقةً في الأدب من هؤلاء الكتّاب فإنهم
التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّراً وَحشيّا ولا ساقطاً سُوقيا‏.‏
وقال بعضُ المهالبة لبنيه‏:‏
تزيّوا بزِيّ الكُتّاب فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السوقة‏.‏
وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم
من الكُتاب فأمر بحَبْسهم فرفعوا إليه رُقعة ليس فيها إلا هذا البيت‏:‏
ونحنُ الكاتبون وقد أسأنا فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا
فعفا عنهم وأمر بتَخْلية سبيلهم‏.‏

وقال المؤيد‏:‏ كُتّاب المُلوك عُيونهم الناظرة وآذانهم الواعية وألسنتُهم الناطقة‏.‏
والكتابةُ أشرفُ
مراتب الدُّنيا بعد المحلافة وهي صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة‏.‏
وقال سهلُ بن هَارون‏:‏
الكتابة أولُ زِينة الدُنيا التي إليها يتناهَى الفضلُ وعندها تَقِف الرَّغبة‏.‏

ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني‏:‏ إذا احتجت إلى مُخاطبة المُلوك والوُزراء والعُلماء والكُتّاب
والخُطباء والأدباء والشُّعراء وأوساط الناس وسُوقتهم فخاطبْ كُلاً على قَدْر أبهته وجلالته

وعُلوَه وارتفاعه وفِطْنته وانتباهه‏.‏
واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام منها‏:‏ الطبقات
العَلِية أربع والطبقات الآخرً وهي دونها أربع لكل طبقة منها درجة ولكلّ قَسْمها لا ينبغي
للكاتب البليغ أن يقصّر بأهلها عنها ويَقْلب معناها إلى غيرها‏.‏
فالحدّ الأوّل‏:‏ الطبقات العُليا
وغايتها القُصوى الخِلافة التي أجل اللّه قدرَها وأعلَى شأنها عن مُساواتها بأحد من أبناء الدُّنيا
في التعظيم والتوقير والطبقة الثانية لوزرائها وكتّابها الذين يُخاطبون الخلفاء بعقُولهم وألسنتهم
ويَرْتِقُون الفُتوق بآرائهم والطبقة الثالثة أمراء ثُغورهم وقُوّاد جُنودهم فإنه تجب مُخاطبة كل
أحد مِنهم على قدره ومَوْضِعه وحظّه وغَنائه وإجزائه واضطلاعه بما حَمل من أعباء أمورهم
وجلائل أعمالهم والرابعة القضاة فإنهم وإن كان لهم تواضع العُلماء وحِلْية الفضلاء فمعهم
أبهة السَّلطنة وهَيْبة الأمراء‏.‏
وأما الطبقات الأربع الآخرً فهم‏:‏ الملوك الذين أوجبت نعمُهم
تعظيمَهم في الكَتْب إليهم وأفضالُهم تَفضيلَهم فيها والثانية وزراؤهم وكتَّابهم وأتباعهم الذين
بهم تُقرع أبوابهم وبعناياتهم تُستماح أموالهم والثالثة هم العلماء الذين يجب توقيرهم في الكَتب
بشرف العِلم وعلوّ درجة أهله والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة والحلاوة والطلاوة والظرف
والأدب فإنهم يضطرونك بحدّة أذهانهم وشدّة تمييزهم وانتقادهم وأدبهم وتصفّحهم إلى
الاستقصاء على نفسك في مُكاتبتهم‏.‏
واستغنينا عن الترتيب للسّوقة والعوامّ والتجّار

باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات‏.‏
ولكل طبقة من
هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك فتزن كلامك
في مُخاطبتهم بميزانه وتعطيه قَسمه وتُوفّيه نصيبه فإنك متىِ أهملت ذلك وأضعتَه لم آمن
عليك أن تَعدل بهم عن طريقهم وتسلك بهم غير َمسلكهم ويَجرىَ شُعاع بلاغتك في غير
مجراه وتَنْظَمِ جوهر كلامك في غير سِلكه‏.‏
فلا تعتدّ بالمعنى الجَزْل ما لم تُلْبسه لفظاً لاثقاً لمن
كاتبته ومُلتئماً بمن راسلته فإنّ إلباسَك المَعنى وإن صَحّ وشَرُف لفظاً مُتخلّفاً عن قَدْر
المكتوب إليه لم تَجْر به عاداتهم تهجينٌ للمعنى وإحلال بقَدْره وظُلم بحق المَكتوب إليه ونَقْص
مما يجب له كما أن في إتباع تعارفهم وما انتشرت به عادتهم وجَرت به سُنتهم قطعاً
لعُذرهم وخُروجاً من حقوقهم وبُلوغاً إلى غاية مُرادهم وإسقاطاً لحُجة أدبهم‏.‏
فمن الألفاظ
المَرغوب عنها والصُّدور المستوحش منها في كتب السادات والمُلوك والأمراء على اْتفاق
المعاني مثل‏:‏ أبقاك الله طويلًا وعَمَّرك مَلِيّا‏.‏
وإن كنّا نعلم أنه لا فرق بين قولهم‏:‏ أطال اللّه بقاك
وبين قولهم‏:‏ أبقاك اللّه طويلًا‏.‏
ولكنهم جعلوا هذا أرجَح وَزْناً وأنبه قدراً في المُخاطبة‏.‏
كما
أنّهم جعلوا‏:‏ أكرمك اللّه وأبقاك أحسن منزلاً في كُتب الفُضلاء والأدباء من‏:‏ جُعلت فداك
على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداءَه من الخير كما يحتمل أن يكون فداءَه من الشر

ولولا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لسعد بنٍ أبي وقّاص‏:‏ ارْم فداك أبي وأمي
لكرِهنا أن يَكْتب بها أحد‏.‏
على أن كُتّاب العَسكر وعوامّهم قد وَلعوَا بهذه اللَفظة حتى
استعملوها في جميع مُحاوراتهم وعلوها هِجِّيراهم في مخاطبة الشريف والوَضيع والكبير
والصغير‏.‏
وذلك قال محمود الورَّاق‏:‏
كُلّ مَنْ حَلّ سُرّ مَنْ نرى مِن الناس ومَن قد يُداخل الأملاكا
لو رأى الكَلْب ماثلاً بطريق قال للكَلْب يا جُعِلت فِدَاكا
وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك اللّه وأمتع بك إلا في الابن والخادم المنقطع إليك وأما في
كتب الإخوان فغير جائز بل مَذموم مَرغوب عنه‏.‏
ولذلك كتب عبدُ اللّه بن طاهر إلى محمد بن
عبد الملك الزيات‏:‏
أحُلْتَ عما عَهدْتُ من أدبكْ أم نِلْتَ مُلْكاً فتِهْتَ في كُتبكْ
أم قد تَرى أنًّ في مُلاطفة الْ إخوان نَقْصاً عليك في أدبك
أكان حقّا كتابُ ذي مِقَة يكون في صَدْره‏:‏ وأمْتَع بك
أتعبت كفَّيك في مُكاتبتي حسبُك ما قد لقيتَ في تَعبك
فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات‏:‏

أنكرتَ شيئاً فلستُ فاعلَه ولن تُراه يُخَطِّ في كتبك
إنْ يك جهلٌ أتاك مِن قِبلي فعُد ْبفَضْلٍ عَليّ من حَسبك
فاعفُ فدَتْك النُّفوس عن رجلٍ يَعيش حتى المماتِ في أدبك
ولكلّ مَكْتوب إليه قدرٌ ووَزنْ يَنبغي للكاتب ألاّ يَتجاوز به عنه ولا يُقصّر به دونه‏.‏
وقد
رأيتهم عابُوا الأحوص حين خاطب المُلوك خطاب العوامّ في قوله‏:‏
وأراك تَفعل ما تقُول وبعضًهم مَذِق الحديث يقول ما لا يَفْعلُ
وهذا معنى صحيح في المدح ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يُمدحوا بما تُمدح به العوامّ لأن
صِدْق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامّة والمُلوكُ لا يُمدحون
بالفرائض الواجبة إنما يَحسن مدحُهم بالنّوافل لأنّ المادح لو قال لبعض المُلوك‏:‏ إنك لا تَزْني بحليلة
جارك وإنك لا تخون ما استودعْت وإنك لتصدًق في وَعدك وتَفي بعهدك فكأنه قد أثنى بما
يجب ولو قَصد بثنائه إلى مَقصده كان أشبهَ في الملوك‏.‏

ونحن نعلم أنَّ كل أمير يتولَّى من أمر المؤمنين شيئاً فهو أميرُ المؤمنين غير أنهم لم يُطلقوا هذه
اللفظة إلا على الخُلفاء خاصة‏.‏
ونحنِ نعلم أن الكَيّس هو العاقل لكن لو وصفتَ رجلاً فقلت‏:‏
إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس وإن قلت‏:‏ إنه لكيّس كنت قد قَصَّرْت به عن وَصْفه

وصَغَّرت من قدره إلا عند أهل العلم باللغة لأنَّ العامَّة لا تلتفت إلى معنى الكلمة ولكن إلى
ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر إذ كان استعمال العامَّة لهذه الكلمة مع الحَداثة
والغِرّة وخَساسة القدر وصِغَر السن‏.‏
وقد روينا عن عليّ كرم اللّه وجهه أنه تسمّى بالكيّس
حين بَنى سِجن الكوفة فقال في ذلك‏:‏
أما تُراني كَيِّساً مُكَيسَا بنيتُ بعد نافع مُخَيَّسَا
حِصْناً حصيناً وأميناً كيسا
وقال الشاعر‏:‏
ما يَصْنع الأحمقُ المرْزوق بالكَيْس
وكذلك نعلم أن الصلاة رحمة غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء كذلك روينا عن ابن
عباس‏.‏
وسمع سعدُ بن أبي وقّاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تَلْبيته‏:‏ لَبَّيك يا ذا المعارج فقال‏:‏
نحن نعلم أنه ذو المعارج ولكن ليس كذا كنَّا نلبّي على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
إنما كنِّا نقول‏:‏ لبَّيك اللهم لبيك‏.‏
وكان أبو إبراهيم المُزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن
خَلَف الأصبهاني‏:‏ فإِن قال كذا فقد خرج عن الملّة والحمد لله‏.‏
فنقض ذلك عليه داودُ وقال
فيما ردّ عليه‏:‏ تَحمد اللّه على أن تُخرج امرأ مُسلماً من الإسلام وهذا موضع استرجاع

فامتثِل هذه المذاهب واجر على هذه القواعد وتحفّظ في صُدور كُتبك وفًصولها وخواتمها
وضَع كل معنى في موضع يليق به وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها وليكن ما تختم به فُصولك في
موضع ذكر البَلْوى بمثل‏:‏ نسأل اللّه دَفْعَ المَحْذور وصَرف المكروه وأشباه هذا وفي موضعِ
ذكر المُصيبة‏:‏ إنا للّه وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النِّعمة‏:‏ الحمد لله خالصاَ والشكر لله
واجباً‏.‏
فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقَدها ويتحفظ فيها فإن الكاتب إنما يصير
كاتباً بأن يَضع كل معنى في موضعه ويعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى‏.‏
واعلم أنه لا يجوز
في الرسائل استعمالُ ما أتت به أيُ القرآن من الاقتصار والحذف ومخاطبة الخاصّ بالعام والعام
بالخاصّ لأنَّ الله جل ثناؤه خاطَب بالقرآن قوماً فُصحاء فَهِموا عنه جلّ ثناؤه أمرَه ونَهيه ومُراده
والرسائل إنما يُخاطب بها أقوامٌ دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب‏.‏
وكذلك ينبغي
للكاتب أن يَجتنب اللفظ المشترك والمعنى المًلْتبس فإنه إذن ذهب يُكاتب على مثل معنى قول
الله تعالى‏:‏ ‏"‏ واسأل القَرْية التي كُنّا فيها والعِيَر التي أقبلنا فيها ‏"‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ بل مكر الليل
والنهار ‏"‏ أحتاج الكاتب أن يُبين معناه‏:‏ بل مكرهم بالليل والنهار ومثل هذا كثير لا يتسع
الكتاب لذكره‏.‏
وكذلك لا يجوز أيضاًً في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار
المَوزونة لأنّ الشاعر مُضطر والشِّعرَ مَقْصور مقيَّد بالوزن والقوافي فلذلك أجازوا لهم صَرْفَ

ما لا ينصرف من الأسماء وحذفَ ما لا يُحذف منها واغتفروا فيه سوء النظم وأجازوا فيه
التَّقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار وذلك كله غير مُستساغ في الرسائل ولا جائز في
البلاغات‏.‏
فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر‏:‏
قواطناً مَكةَ من وُرْق الحَمَى يعني الحمام
وقول الآخر‏:‏
صِفر الوشاحين صَموت الخَلْخل يريد‏:‏ الخلخال
وكقول الآخر‏:‏
دار لسَلْمَى إذ مِن هَواكا يريد‏:‏ إذ هي
وكقول الحُطيئة‏:‏
فيها الرماحُ وفيها كلُّ سابغة جَدْلاء مَسْرودة من صُنع سلّاَم
يريد‏:‏ سليمان‏.‏
وكقول الآخرً‏:‏
من نَسْج داود أبي سلاَّم والشيخ عُثمان أبي عفّان
أراد‏:‏ عثمان بن عفان‏.‏
وكما قال الآخرً‏:‏
وسائلةٍ بثَعلبةَ بنِ سَير وقد عَلِقت بثَعلبةَ العَلوقُ

ولستُ بآتيه ولا أسُتطيعه ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْل
أراد‏:‏ ولكن‏.‏

وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يُصغَّر الاسم في موضع التَّعظيم وإن كان
ذلك جائزاً مثل قولهم‏:‏ دُويهية تصغير داهية‏.‏
وجُذلِل تصغير جِذْل‏.‏
وعُذيق تصغير
عَذق‏.‏
وقال الشاعر هو لَبيد‏:‏
وكُل أناس سوف تَدْخل بينهم دُويهيةٌ تَصْفرّ منها الأناملُ
وقال الحُباب بن المُنذر يومَ سَقيفة بني ساعدة‏:‏ أنا عُذَيقها المُرجّب وجُذيلها المُحكّك‏.‏
وقد
شرحه أبو عبيد‏.‏

ومما لا يجوز في الرّسائل وكَرهوه في الكلام أيضاً مثلُ قولهم‏:‏ كلّمتُ إياك
وأعني إيّاك وهو جائز في الشعر‏.‏
وقال الّشاعر‏:‏
وأحْسِنْ وَأَجْمِلْ في أسيرك إنّه ضعيفٌ ولم يأسِر كإياك آسرُ
وقال الراجز‏:‏
إياك حتى بلَغت إياك
فتخَيَّر من الألفاظ أرجحَها لفظاً وأجزَلها معنى وأشرفَها جوهراً وأكرِمَها حسباً وأليقها في

مكانها وأشكلها في موضعها فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بميزانِ
التِّصريف إذا عَرضت وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت فإنه ربما مَرّ بك موضعٌ يكون مخرج
الكلام إذا كتبتَ‏:‏ أنا فاعل أحسنَ من أن تكتب‏:‏ أنا أفعل وموضع آخرً يكون فيه‏:‏ استفعلت
أحلى من‏:‏ فعلت‏.‏
فأدِر الكلام على أماكنه وقلِّبه على جميع وُجوهه فأيّ لَفظة رأيتَها أخف
في المكان
الذي ندبتها إليه وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه فأوْقعها فيه ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في
موضعها نافرةً عن مكانها فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه وأفسدتَ
المكان الذيِ أردت إصلاحه فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها وقَصْدَك بها إلى غير مًصابها
وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه ولم تتقارب أجزاؤه فخرج من حَدّ الجدّة وتغيّر
حُسْنه كما قال الشاعر‏:‏
إنّ الجديدَ إذا ما زيد في خَلَقٍ تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ
وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع
وأشدّ اتصالاً بالقُلوب وأخفّ على الأفواه لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ مِونِق
شريف ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه ولم يُفسده التّعقيد باستغلاقه‏.‏


وكتب عيسى بن لَهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع فوقع في
أسفل كتابه‏:‏
أنيَّ يكون بليغاً من اسمه كان عِيْا
وثالثُ الحرف منه أذًى كفيت ميسًّا
قال‏:‏ وبلغني أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة فخرج عنه ومرّ بباب
الطاق فإذا بطيْر يدعى الشَفانين فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته‏:‏ وتذكرْ
أنه يقال له شَفانين أرجو أن يكون شفاءً من أنين‏.‏
فرفع في أسفل الكتاب‏:‏ والله لو عطستَ
ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا فاقصر عن تنًطّعك وسَهِّل كلامك‏.‏

قوله‏:‏ لو عَطست ضبّا يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم
فقال‏:‏ لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً‏.‏
وقد جاء في
بعض الحديث‏:‏ إن القِطّ من نثرة عَطْسة الأسد وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير‏.‏
فقال هذا‏:‏
لو أن الضبّ من نَثرتك لم تكن إلا نبطياً‏.‏
وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا‏:‏
أنت عندي عربيّ ليس في ذاك كلامْ
شَعْر ساقيك وفَخْذي ك خُزامَى وثُمام

وضُلوع الصدر من شل وكَ نَبْع وبَشَام
لو تحرّكت كذا ان جَفلت منك نَعَام
وظباءٌ راتعا ت وَيرابيع عِظام
وحَمام يتغنّى حبذا ذاك الْحَمام
أنا ما ذنبي لأنْ كذِّبني فيك الأنام
وفتًى يحلف ما إن عَرَّقتْ فيه الكرام
ثمِ قالوا جاسميّ من بني الأنباط حام
كَذبوا ما أنت إلا عربيّ والسّلام
وقد رأيتُهم شبّهوا المعنى الخفيّ بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر وإذا لم ينهضِ
بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام مُتّسقاً وتضاؤُل
المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار الرثة‏.‏

وإنما يدل على المعنِى أربعة أصناف‏:‏ لفظ وإشارة وعَقد وخط‏.‏
وقد ذكر له أرسطا طاليس
صِنفاً خامساَ في كتاب المنطق وهو الذي يسمى النَصيبة‏.‏
والنَّصيبة‏:‏ الحال الدالّة التي تقوم مقام
تلك الأصناف الأربعة وهي الناطقة بغير لفظ ومُشير إليك بغير يد‏.‏
وذلك ظاهر في خَلْق

السموات والأرض وكل صامت وناطق‏.‏
وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان
المَعاني وسافرة عن وُجوهها‏.‏
وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صِنْفان هما‏:‏
القلم واللسان وكلاهما للقلب تَرجمان‏.‏
فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ
الاستبهام إلى حدّ الِإنسانية بالكلام ولذلك قال صاحب المنطق‏:‏ حدُ الإنسان الحيّ الناطق‏.‏

وقالت هشام بن عبد الملك‏:‏ إن اللّه رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح‏.‏
وقال عليّ بن
عبيده‏:‏ إنما يُبين عن الإنسان اللسان وعن المودّة العينان‏.‏
وقال آخرً‏:‏ الرجل مخبوء تحت لسانه‏.‏

وقالوا‏:‏ المرء بأصغريه‏:‏ قلبه ولسانه‏.‏
وقال الشاعر‏:‏
وما المرء إلا الأصغران لسانُه ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ
فإنْ طُرّة راقتْك يوماً فربما أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر
وللخط صورة معروفة وحِلْية موصوفة وفضيلة بارعة ليست لهذه الأصناف لأنه يقوم
مَقامها الإيضاح عند المَشهد ويَفْضُلها في المَغيب لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة والبُلدان
المتفرّقة وتُدرس في كل عصر وزمان وبكل لسان والّلسان وإن كان ذَلْقا فَصيحاً لا يعدو
سامعَه ولا يُجاوزه إلى غيره‏.‏


البلاغة
قال سهل بن هارون‏:‏ سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة‏.‏
وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد‏:‏ ما
البلاغة قال‏:‏ التقرُب من المَعنى البعيد والدَلالة بالقليل على الكثير‏.‏
وقيل لابن المُقفَّع‏:‏ ما
البلاغة قال‏:‏ قِلة الْحَصَر والْجُرأة على البَشر قيل له‏:‏ فما العِي قال‏:‏ الإطْراق من غير فِكْرة
والتًنحنح من غير غلة‏.‏
وقيل لآخرً‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ تَطْوِيلُ القَصِير وتَقْصير الطويل‏.‏
وقيل
لأعرابي‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ حَذْف الفُضول وتَقْريب البعيد‏.‏
وقيل لأرسطاطاليس‏:‏ ما
البلاغة فقال‏:‏ حُسْن الاستعارة‏.‏
قيل لجالينوس‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ إيضاح المُعْضِل وفَك
المُشكل‏.‏
وقيل للخليل بن أحمد‏:‏ ما البلاغة فقال‏:‏ ما قَرُب طَرَفاه وبعُدَ مُنتهاه‏.‏
وقيل لخالد
بن صَفْوان‏:‏ ما البلاغة قال‏:‏ إِصابةُ المعنى والقَصْد للحُجًة‏.‏
وقيل لآخرً‏:‏ ما البلاعة
قال‏:‏ تَصْوير الحقّ في صُورة الباطل والباطل في صورة الحق‏.‏
وقيل لإبراهيم الإمام‏:‏ ما البلاغة
فقال‏:‏ الجزالة والإصابة‏.‏

تضمين الأسرار في الكتب
وأما تَضْمين الأسرار في الكُتب حتى لا يقرؤها غيرُ المكتوب إليه ففيه أدبٌ تجب معرفتُه‏.‏


وقد تعلّقت العامّةُ بكتاب القُمّيّ والأصبهانيّ‏.‏
وكان أبو حاتم سهل بن محمد قد وصف لي
منهما أشياءَ جليلة من تبديل الحروف وذلك مُمكن لكل إنسان‏.‏
غير أنّ اللطيف من ذلك‏:‏ أن
تأخذ لَبَنا حليبا فتكتب به في القِرْطاس فَيَذرّ المكتوبُ له عليه رَماداً سُخْنا من رَماد
القراطيس فيظهرُ ما كتبتَ به إن شاء الله‏.‏
وإن شئتَ كتبتَ بماء الزَّاج الأبيض فإذا وصل إلى
المكتوب إليه أمر عليه شيئاً من غُبار الزَّاج وإن أحببتَ أن لا يُقرأ الكتاب بالنهار وُيقرأ بالليل
فاكتُبه بمرارة السُّلحفاة
قولهم في الأقلام
قالوا‏:‏ القلم أحدُ اللَسانين وهو المخاطب للعًيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة من معان
مَعْقودة بحروف مَعْلومة مؤلفة متباينات الصور مختلفات الجهات لقاحُها التفكير ونتاجها
التَّدبير تَخْرس مُنفردات وتَنْطق مُزْدوجات بلا أصوات مسموعة ولا ألْسن مَحدودة ولا
حركات ظاهرة خلا قلمٍ حَرف باريه قطّته ليتعلّق المِداد به وأرهف جانبيه ليُرَد ما انتشر عنه
إليه وشَقَّ رأسه ليحتبس المِدادُ عليه فهنالك استمد القلم بشقّه ونثر في القرطاس بخَطه
حروفاً أحكمها التفكّر وجرى على أسلته الكلام الذي سَدّاه العقل وألحمه اللسان ونَهسته

اللهوات وقطّعته الأسنان ولفظته الشّفاه ووعته الأسماع عن أنحاء شتى من صفات وأسماء‏.‏

وقالت الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي‏:‏
وأسمرَ طاوِي الكَشْح أخْرَسَ ناطقٍ له ذَمَلان في بُطون المَهارِقِ
إذا استعجلْته الكفُّ أمطرَ وبْلهَ بلا صوت إِرعاد ولا ضَوْء بارق
إذا ما حدَا غرَّ القوافي رأيتَها مُجلية تمضي أمام السوابق
كأن عليه من دجى الليل حلةً إذا ما استهلت مًزْنه بالصواعق
كأنَ اللآلي والزَبَرْجدُ نُطْقَهُ ونَوْرُ الخُزامى في عُيون الحدائق
وقال العلويُ في صِفة القلم‏:‏
وعُرْيانَ من خِلْعةٍ مُكْتَسٍ يميس من الوَشيْ في يَلْمَقِ
تَحدّرُ من رأسه ريقة تَسيل على ذِرْوة المَفْرِق
فكم من أسيرٍ له مُطْلَق وكم من طَليق له مُوثَق
يُقيم ويُوطن غربَ البلاد ويَنهي ويأمر بالمَشرْق
قليلٌ كثيرُ ضُروب الخُطوط وأخرس مُسْتَمع المَنْطق
يَسير بَركْبِ ثلاث عِجالٍ إذا ما حدا الفكرُ فِي مُهْرق

لك القَلم المُطيعك غير أنَا وَجدنا رسْمه خيرَ المُطاع
له ذَوْقان من أريٍ هَنِيٍ ومن شَرْيٍ وَبّي ذي امتناع
أحذُ اللَفظ يُنْطق عن سِواه فيًسمع وهو ليسً بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك استهلَت عليه سماءُ فِكْرك باندفاع
وبيتٍ بعَلْيَاء العَلاة بنيته بأسمرَ مَشقوق الخَياشيم يُرْعَفُ
كأنَّ عليه مَلْبساً جلدَ حيّة مُقيم فما يَمضي وما يتخلف
جليلُ شُؤون الخَطْب ما كان راكباً يسيرُ وإنْ أرجلتَه فمضعّف
وقال حبيبُ بن أوس وهو من أحسن ما قيل فيه‏:‏
لك القلمُ الأعلى الذي بشَباته يُصاب من الأَمر الكُلَى والمفاصلُ
لُعاب الأفاعِي القاتلاتِ لُعابُه وأرْي الجَنَى اشتارتْه أيدٍ عواسِل
له ريقةٌ طَل ولكن وَقْعَها بآثاره في الشَرق والغَرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجل

وقد رَفَدته الخِنْصران وسَدّدت ثلاِثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل
رأيتَ جليلَاً شأنهُ وهو مُرْهَفٌ ضَنَىً وسَميناً خَطْبهُ وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا الشعرَ حَسده الخَثْعميّ فقال لابن الزيّات‏:‏
ما خُطبة القلم التي أنبيتُها وردت عليك لشاعر مَجدودِ
وأنشد البُحتريّ لنفسه يَصف قلم الحسن بن وهْب‏:‏
وإذا تألّق في النَديّ كلامُه الْ مصقول خِلْتَ لسانَه مِن عَضْبِه
وإذا دَجت أقلامُه ثم انتحت بَرَقت مَصابيح الدُّجى في كُتْبه
باللَفظ يَقْربُ فَهْمُه في بُعده منّا وَيبْعد نَيلُه في قُرْبِه
حِكَم فسائحُها خِلالَ بَنانه مَتدفّق وقَليبُها في قَلبه
وكأنها والسمعُ مَعْقُودٌ بها شَخْص الحبيب بدا لعين مُحبّه
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في بَعض الكُتَاب ويصف القلم‏:‏
قَلم الكتابة في يَمينك آمِن ممّا يَعود عليه فيما يَكْتُبُ
قلم به ظُفْرُ العدوِ مُقلم وهو الأمانُ لما يُخاف وُيرْهَب

بكفّه ساحرُ البيان إذا أداره في صَحيفة سَحَرَا
يَنْطِق في عُجمة بلَفْظته نُصَمُّ عنها وتسمع البَصرا
نوادرٌ يَقْرع القُلوبَ بها إنْ تَسْتَبنها وجدتَها صُورا
نظام دُرّ الكلام ضمنه سِلْكاً لخطّ الكِتاب مُسْتَطَرا
إذا امتطى الخِنْصرين أذكرَ مِن سَحْبان فيما أطال واختصرا
يُخاطب الغائب البعيد بما يُخاطب الشاهدَ الذي حَضرا
تَرى المَقادير تَستدفّ له وتُنْفِذ الحادثاتً ما أمرا
شَخْت ضئيلٌ لفِعْله خَطَر أعظِم به في مُلمة خَطرا
تَمُجّ فكّاه ريقةً صَغرت وخَطْبها في القُلوب قد كَبُرا
تُواقع النفسُ منه ما حَذِرت وربما جنبت به الحَذرا
مُهَفهف تَزْدهي به صُحف كأنما حُلًيت به دُررا
كأنما تَرتع العيونُ بها خلالٍَ رَوْض مُكلَّل زَهَرا

كأن أنوف الطَّير في عَرَصاتها خراطيمُ أقلام تَخُط وتُعْجِمُ
ومثلُه قول عديّ بن الرِّقاع في ولد البقرة‏:‏
تُزْجى أغنَ كأن إبرة رَوْقه قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
ومن قولنا‏:‏
يَخرُجْن من فُرجات النّقع داميةً كأنّ آذانها أطرافُ أقلام
ومنه قول المأمون‏:‏
كأنما قابلَ القرطاسُ إذ مُشقت منها ثلاثةَ أقلام على قلم
ومثله قولنا
إذا أدارت بنانُه قَلماً لم تَدْر للشِّبْه أيّها القلمُ
ومن قولنا في الأقلام‏:‏
ومَعشر تنطق أقلامُهم بحكمة تَلقنها الأعينُ
تَلفِظَها في الصكّ أفلامُهم كأنما أقلامهم ألسنُ
ومن قوِلنا في الأقلام‏:‏
يا كاتباً نقشت أناملُ كفّه سحرَ البيان بلا لسانٍ يَنْطِقُ

فإذا تكلّم رغبةً أو رَهْبَةً في مَغرب أصغَى إليه المَشرْق
يَجرى بريقةِ أريه أو شَرْيه يَبكي ويَضحك من سُراه المُهرق
ولعبد اللهّ بن المعتز كلامٌ يصف فيه القلم‏:‏ القلم يَخدُم الإرادةَ ولا يملّ الأستزادة يسكت واقفاً
وينطق ساكتاً على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء‏.‏
وقال سليمان بنُ وَهْب وزير
المهديّ‏:‏ كل قلم تطيل جِلْفته فإن الخط يخرج به أوقص‏.‏

وكتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط فكتب إليه‏:‏ أما بعد فليكن قلمك
بحْرياً لا سمينا ولا رقيقاً ما بين الرقّة والغِلَظ ضيّق النًقْب‏.‏
فابرِه بَرْيا مُستوِيا كمِنْقار الحمامة
اعطِف قطّته ورقّق شَفْرته‏.‏
وليكن مدادُك صافيا خفيفاً إذا استمددت منه فانقعه ليلة ثم
صفه في الدواة‏.‏
وليكن قِرْطاسك رقيقاً مستوي النَسج تخرج السِّحاة مُستوية من أحد الطرفين
إلى الآخر فليست تستقيم السطور إلا فمِما كان كذلك‏.‏
وليكن أكثر تَمْطيطك في طرف
القرطاس الذي في يَسارك وأقلًّه في الوسط ولا تمط في الطرف الآخر ولا تمطّ كلمة ثلاثة أحرف
ولا أربعة ولا تترك الأخرى بغير مطّ فإنك إذا فرّقت القليل كان قبيحاً وإذا جمعتَ الكثير كان
سَمِجا‏.‏
ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله وإخطُطه بعوضه واختمه بأسفله‏.‏
وأكتب الباء والتاء
والسين والشين والمطًّة العليا من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين ورأس كلِّ

مُرسل برأس القلم‏.‏
واكتُب الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء والمطَّة السفلى من الصاد
والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسنّ السّفلى من القلم وامطُط بعرض القلم‏.‏

والمطّ نِصف الخط ولا يقوى عليه إلا العاقل ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضاً إلا بالنَظر إلى
اليد في استعمالها الحركة والسلام‏.‏

وقال ابنُ طاهر لكاتبه‏:‏ ألقِ دَوَاتك وأطل سِنّ قلمك وفَرج بين السطور وقَرْمط بين الحروف‏.‏

وقال إبراهيم بن جَبلة‏:‏ مَرّ بي عبدُ الحميد وأنا أخط خطا رديئاً فقال لي‏:‏ أتحب أن يجود
خطّك قلت‏:‏ بلى‏.‏
قالت‏:‏ أطِل جِلْفة القلم وأسمِنها وحَرف قَطًتك وأيمنها‏.‏
ففعلت فجاد
خطي‏:‏ وقال العتِّابي‏:‏ ببُكاء القلم تبتسم الكُتب‏.‏
وقال بعض الحكماء‏:‏ أمرُ الدّيِن والدنيا تحت
شباة السيف والقلم‏.‏
وقال حبيب الطائي‏:‏
لولا مُناشدةُ القربى لغادركم حَصائدَ المُرْهَفَين‏:‏ السيفِ والقلم
وقال أرسطاطاليس‏:‏ عقول الرجال تحت سنِّ أقلامهم وقال أبو حَكِيمة‏:‏ كنتُ أكتب
المصاحف فمر بي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال‏:‏ أجلل قلمك‏.‏
فقصمتُ من قلمي
قُصمة‏.‏
فقال‏:‏ هكذا نوًره كما نَوًره الله‏.‏
وكان ابن سيرين يكره أن يُكتب القرآن مَشْقا وقال‏:‏
أجود الخط أبينه‏.‏



وقال سليمان بن وهب‏:‏ زينوا خطوطكم بإسبال ذوائبها‏.‏
وقال عمرو بن مسعدة‏:‏ الخط صورة
ضئيلة لها معان جليلة وربما ضاق على العيون وقد ملأ أقطار الظنون‏.‏
وذكر على بن عُبيدة
القلم فقال‏:‏ أصم يسمع النَّجوى أعيا من باقل وأبلغ من سَحبان وائل يُجهل الشاهد ويخبر
الغائب ويجعل الكتب بين الإخوان ألسُنا ناطقة وأعيُنا لاحظة وربما ضَمّنها من ودائع القلوب
ما لا تَبوح به الألسن عند المشاهدة‏.‏
وقال أحمد بن يوسف الكاتب‏:‏ ما عبراتُ الغواني في
خُدودهنّ بأحسن من عبرات الأقلام في خُدود الكتب‏.‏
وقال العتّابي‏:‏ الأقلام مطايا الفِطن‏.‏

وتَخاير غلامان في بعض الدواوين فقاما إلى أستاذهما يَعْرضان عليه خُطوطهما فكَره أن يُفضَل
أحدهما على الآخرً فقال لأحدهما‏:‏ أما خطُّك أنت فَوَشي مَحوك‏.‏
وقال للآخرً‏:‏ وأما خطّك
أنت فذَهب مَسْبوك تكافيتُما في غاية وتوافيتما في نهاية‏.‏
وقال آخرً‏:‏ دخلتُ الديوان فنظرت
إلى غلام بيده قلم كأنه قضيبُ عِقْيان وعليه مكتوب‏:‏
وا بأبي وا بأبي من كفّ من يكتب بِي
وقال أبو هِفّان يصف القلم‏:‏
وإذا أمرّ على المَهارق كفّه بأنامل يحملن شَخْتاً مُرْهفَا
ومقصِّراً ومُطولاً ومقطعاً ومُوصِّلا ومشتتا ومؤَلِّفا

يهفو بها قلمٌ يمُجّ لُعابَه فيعود سيفاً صارماً ومُثففا
وقال آخر في وصف الدواة‏:‏
ومُسودّة الأرجاء قد خُضت حالَها وروَيت من قَعرٍ لها غير مُنْبَط
خميصَ الحشي يَرْوَى على كل شرب أميناً على سرّ الأمين المُسلَط
وقال بعض الكتّاب‏:‏
وما رَوض الربيع وقد زهاه ندَى الأسحار يَأرَج بالغَداةِ
بأضْوعَ أو بأسطعَ من نسيمٍ تؤديه الأفاوه من دواة
وقال آخرً في وصف محبرة‏:‏
ولُجّةِ بحرِ أجَم العبا ب بادٍ وأمواجُه تَزْخَرُ
إذا غاص فيَه أخو غَوْصة سريعُ السباحة ما يَفْتر
فأنفِس بذلك من غائص بديعُ الكلام له جَوهر
وأكْرم ببحرٍ له لجة جواهرُها حكَمٌ تُنثر
وقال ثُمامةُ بن أشرس‏:‏ ما أثْرته الأقلام لم تَطمع في دَرْسه الأيام‏.‏
ونظر المأمون إلى جارية من

أصمُ سميع ساكنٌ متحرّك ينال جَسيمات المُنى وهو أعْجَف
وقال بعض الكُتّاب‏:‏
إذا ما التقينا وانتضينا صَوارما يكاد يُصمّ السامعين صَريرُها
تساقطُ في القِرْطاس منها بدائع كمِثْل اللآلى نَظْمُها ونثيرُها
قال بِشْر بن المُعتمر‏:‏ القلب مَعدن والحِلْم جوهر واللسان مُستنبط والقلم صائغ والخطّ
صيغة‏.‏
وقال سهل بن هارون‏:‏ القلم لسان الضَمير إذا رَعَف أعلن أسراره وأبان آثاره‏.‏

وقالوا‏:‏ حُسن الخط يُناضل عن صاحبه ويُوضح الحُجة وُيمكن له دَرَك البُغية‏.‏
وقال آخرً‏:‏
الخطّ الردىء زَمانةُ الأديب‏.‏
وقال الحسن بن وهب‏:‏ يحتاج الكاتب إلى خلال منها‏:‏ جَوْدة بَرْي
القلم وإطالة جِلْفته وتحريف قَطَّته وحُسن التأتي لإمطاء الأنامل وإرسالُ المَدّة بقدر اتساع
الحروف والتحرز عند فراغها من الكسوف وتركُ الشكل على الخطأ والإعجام على
التًصحيف واستواء الرسوم وحلاوة المقاطع‏.‏

وقال سعيد بن حُميد‏:‏ من أدب الكاتب أن يأخذ قلمَه في أحسن أجزائه وأبعد ما يتمكَّن المداد
فيه ويُعطيه من القرطاس حقًه‏.‏
وقال عبد الله بن عباس‏:‏ كل كتاب غير مختوم فهو غُفْل‏.‏
وفي
تفسير قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنِّي ألْقِي إلي كتاب كريم ‏"‏ قال‏:‏ مختوم‏.‏
ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة

وقال أبو عبيدة‏:‏ لا يقال‏:‏ كأس إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهي زجاجة ولا مائدة إلا إذا
كان عليها طعام وإلا فهي خِوان ولا قلم إلا إذا بُريَ وإلا فهو قصبة‏.‏
وقاك آخرً‏:‏ جلوس
الأدباء عند الورّاقين وجلوس المخمنين عند النخَّاسين وجلوس الطُّفيليين عند الطبَّاخين‏.‏

وكتب علِىّ بن الأزهر إلى صديق له يسأله أقلاماً يبعث بها إليه‏:‏ أما بعد فإنِّا على طول
المُمارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم ولزمت لزوم الوَسم فحلَّت محل الأنساب
وجَرت مَجْرى الألقاب وجدنا الأقلام الصُحرية أسرع في الكَواغد وأمرَّ في الجلود كما أنَّ
البحرية منها أسلسَ في القراطيس وألين في المعاطف وأشدَّ لتصريف الخطّ فيها‏.‏
ونحن في بلد
قليل القَصب رديئه وقد أحببتُ أن تتقدّم في اختيار أقلام بَحْريّة وتتأنَّق في انتقائها قِبَلك
وتَطلبها في مظانّها ومنابتها من شُطوط الأنهار وأرجاء الكروم وأن تتيمم باختيارك منها
الشديدة المُحْص الصّلبة المَعضّ النقيّة الخدود القليلة الشُّحوم المكتنزة اللحوم الضيقة
الأجواف الرَّزينة المَحْمَل فإنها أبقى على الكتابة وأبعدُ من الحَفاء وأن تقصد بانتقائك الرقاق
القضبان المقومات المعون المُلس المعاقد الصافية القُشور الطويلة الأنابيب البعيدة ما بين
الكُعوب الكريمة الجواهر المعتدلة القَوام المُستحكمة يُبساً وهي قائمة على أصولها لم تُعْجَل
عن إبان يَنْعها ولم تؤخر إلى الأوقات المَخوفة عليها من خَصَر الشتاء وعَفن الأنداء فإذا

استجمعَتْ عندك أمرت بقَطعها ذراعا ذراعا قَطعاً رقيقاً ثم عبأت منها حزَما فيما يصونها
من الأوعية ووجهتَها مع مَن يؤدي الأمانة في حِراستها وحِفْظها وإيصالها وكتبتَ معه رقعة
بعدّتها وأصنافها بغير تأخير ولا توان إن شاء الله تعالى‏.‏


قولهم في الحبر
قال بعض الكتاب‏:‏ عطَروا دفاتر آدابكم بجيد الحِبْر فإن الأدب غَواني والحِبر غوالي‏.‏
ونظر
جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثرُ المداد وهو يستره فقال له‏:‏
لا تجزعنّ من المِداد فإنه عِطْرُ الرِّجال وحِلْية الكُتابِ
وأَتى وكيعَ بن الجرّاح رجلٌ يمت إليه بحُرمة فقال له‏:‏ وما حُرمتك وْقال له‏:‏ كنتَ تكتب من
مِحبرتي عند الأعمش فوثب وكيع ودخل منزله تم أخرج له بضعة دنانير وقال له‏:‏ أعذُر فما
أملك غيرها‏.‏

الأقلام
أهدى ابنً الحَرون إلى رجل من إخوانه من الكُتّاب أقلاماً وكتب إليه‏:‏ إنه لما كانت الكتابة
أبقاك اللّه أعظمَ الأمور وقِوامَ الخلافة وعمودَ المملكة خصصتُك من آلتها بما يَخف مَحْمله
وتَثْقل قيمته ويَعْظُم نَفْعه ويجل خَطَره وهي أقلام من القَصب النابت في الصُحْر الذي نَشِف
في حَر الهجير ماؤه وسَتره من تلويحه غشاؤه فهي كاللالىء المَكْنونة في الصَدف والأنوار
المَحجوب في السُّدَف تِبْريَّة القُشور دُرّية الظّهور فِضِّية الكًسور قد كستها الطبيعة جواهرَ

قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب‏!‏
لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر‏:‏
ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ المَثاني وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب‏:‏
لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني وأندَى على كبدي من الزَّهر الجنَيّ

قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب‏!‏
لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر‏:‏
ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ المَثاني وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب‏:‏
لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني وأندَى على كبدي من الزَّهر الجنَيّ

قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب‏!‏
لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر‏:‏
ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ المَثاني وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب‏:‏
لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني وأندَى على كبدي من الزَّهر الجنَيّ

قولهم في الصحف
نعم الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب‏!‏
لا مُفْشِياً سرًّا إذا استودعتَه وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر‏:‏
ولكُل صاحبِ لذةٍ متنزه أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ الغراب وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ المَثاني وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى وشَوْقاً إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته من عند الحسن بن وَهْب‏:‏
لقد جَلى كتابك كلَّ بَثٍّ جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه فتبلَّجتْ لي غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني وأندَى على كبدي من الزَّهر الجنَيّ

وضمَن صدرُه ما لم تِضمَن صدورُ الغانيات من الحُليّ
فكائن فيه من مَعنَى خطير وكائن فيه من لَفْظ بهي
فيا ثَلَج الفًؤاد وكان رَضْفاً ويا شِبَعي بروْنقه وريِّي
فكم أفصحتَ عن برٍّ جليل به ووأيتَ من وَأْيٍ سَني
كتبتَ به بلا لَفْظ كريهٍ على أذن ولا خَط قَمِيّ
رسالةَ من تمتّع منذ حين ومَتعنا من الأدب الرَّضيّ
لئن غربتها في الأرض بِكراً لقد زُفت إلى قلب وفيّ
وإنْ يكُ من هَداياك الصَفايا فربّ هديةٍ لك كالهَديّ
وقال ابن أبي طاهر في ابن ثوابة‏:‏
في كل يَوم صدورُ الكُتْب صادرةُ من رأيه وندَى كَفَيه عن مثُل
عن خطّ أقلامه خَطٌ القَضاءُ على ال أعداء بالموت بين البِيض والأسَل
لُعابها عِلَلٌ في الصَّدر تَنفثه وِربما كان فيه النَفع للعِلَل

في نظام من البلاغة ما شكّ امرؤ أنَه نظامٌ فريد
وبَديع كأنه الزًهَر الضا حك في رَوْنق الرَّبيع الجديد
ما أعيرت منه بُطون القراطي س وما حُمِّلت ظُهورُ البريد
حُجج تُخرِس الألدَّ بألفا ظٍ فُرادى كالْجَوْهر المَعْدود
حُزْنَ مُستعمل الكلام اختيارا وتَجنَّبن ظُلْمة التعقيد
كالعَذارى غَدَوْن في الحُلل البي ض إذا رُحْن في الخُطوط السُّود
وقال عليّ بن الجهم في رقعة جاءتْه بخطّ جيّد‏:‏
ما رُقعة جاءتك مَثْنيّةً كأنها خدًّ على خَدِّ
نَثْر سواد في بياضٍ كما ذرّ فتيت المِسْك في الوَرْد
ساهمةُ الأسْطُر مصروفة عن جهة الهَزْل إلى الجدّ
يا كاتباً أسلمني عَتْبُه إليكَ حَسْبي منك ما عندي
وقال محمد بن إبراهيم بن محمد الشيباني‏:‏ رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى
بن خالد رقعة بأبيات له يصف فيها قامته وكَثافة لحيته وحلاوة شمائله وبراعة أدبه وبلاغة

كاتبٌ حاسبٌ أديبٌ لبيبٌ ناصحٌ زائد على النُّصاح
شاعرٌ مُفلق أخفّ من الري شة مما تكون تحت الجناح
ليَ في النَّحو فِطنةٌ ونَفاذ أنا فيه قِلادة بوِشَاح
لو رَمى بي الأميرُ أصلحه الله رِماحاً صدمتُ حدَّ الرماح
ثم أروَى من ابن سيرين في الفِق ه بقول مُنوّر الإفصاح
لستُ بالضَخم في رُوائي ولا الفَدْ م ولا بالمُجعد الدَّحْداح
لحية كَثّة وأنص طويل واتقاد كشعلة المصباح
وكثير الحديث من مُلح النا س بصير بخافياتٍ مِلاَح
كم وكم قد خبأتُ عندي حديثاً هو عند الأمير كالتّفاح
أيمنُ الناس طائراً يومَ صَيْدٍ في غُدوٍّ أو بُكرة أو رَواح
أعلم الناس بالْجَوارح والصي د وبالخُرّد الحِسانِ المِلاح
كلُ هذا جمعتُ والحمد لل ه على أنني ظريفُ المِزاح

قال‏:‏ فدعاه‏.‏
فلما دخل عليه أتاه كتاب من إرْمِينيَة فرمى به إليه وقال له‏:‏ أجِبْ‏.‏
فأجاب بما
في غرضه وأحسن‏.‏
فأمر له بألف ألف درهم وكنا نراه أول داخل وآخر خارج وكان إذا
ركب فركابه مع ركابه‏.‏
قال محمد بن يزيد‏:‏ فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال‏:‏
أنت أولى بقِلّة الحظّ منّي يا مُسمَّى بالبُلبل الصدّاح
قِبُلوا منه حين عزَّ لديهم أخرسَ القَول غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه النَّفس في الخِف ه مما يكون تحت الجناح
إذا الشم من شماريخِ رَضْوى خِفّة عنده نوى المِسْباح
لم يكُن فيك غيرُ شيئين مما قلتَ في نَعت خَلْقك الدَّحْداح
ِلحْية جَعْدة وأنفٌ طويلٌ وسِوَى ذاك ذاهبٌ في الرِّياح
فيك ما يحمل الملوك على السخ فِ ويُزْرِي بالماجد الجَحْجاح
بارِد الطرف مُظلم اللُب تيا ه مُعيد الحديث سَمْج المِزاح
قال‏:‏ فبعث إليه أبان بأن لا تُذيعها وخُذ الألفَ ألفِ دِرهم‏.‏
فبعث إليه أبو نُواس‏:‏ لو أعطيتَني
مائةَ ألفِ ألفِ دِرْهم لم أجد بدُّا من إذاعتها‏.‏
فيقال‏:‏ إنً الفضل بن يحيى لما سمع شعرَ أبي
نُواس قال‏:‏ لا حاجةَ لي في أبان لقد رُمي بخَمس في بيتٍ لا يقبل على واحدة منهن إلا جاهل

فقيل له‏:‏ كذب عليه‏.‏
فقال‏:‏ قد قبل ذلك فأقصاه‏.‏
وإنما أغرى أبا نُواس بهذا الكاتب أبانِ بن
عبد الحميد اللاحقي أن الفضل بن يحيى أعطاه مالًا يُفرقه في الشعراء ويُعطى كل واحدٍ على
قَدْره فبعث إلى أبي نواس بدِرْهم زائف ناقص وقال‏:‏ إني أعطيتُ كل شاعر على مقدار
شعره وكان
هذا أوفرَ نصيبك عندي‏.‏
فهجاه لذلك‏.‏


توقيعات الخلفاء
عمر بن الخطاب
رضي اللّه عنه
كتب إليه سعدُ بن أبي وقّاص في بُنيان يَبنيه فوقَع في أسفل كتابه‏:‏ ابن ما يُكِنَّك من الهواجر
وأَذى المَطر‏.‏
ووقَع إلى عمرو بن العاص‏:‏ كُن لرعيَّتك كما تُحب أن يكونَ لك أميرُك‏.‏

عثمان بن عفان
رضي اللّه عنه
وقع في قِصَّة قوم تظلّموا من مَروان بنِ الحَكَم وذكروا أنَه أمر بوَجْءِ أعناقهم‏:‏ فإنْ عَصوْك فقُل إنّي
بريء مما تَعملون‏.‏
ووقع في قصَّة رجل شكا عَيْلةً‏:‏ قد أَمرنا لك بما يُقيمك وليس من مال اللّه
فَضْل للمُسرف‏.‏

علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه

وقَّع إلى طلحة بن عُبيد اللّه‏:‏ في بيته يُؤتىَ الحَكَم‏.‏
ووقِّع في كتاب جاءه من الحسن بن عليّ
رضي اللهّ عنهما‏:‏ رأْيُ الشَّيخ خير من مَشهد الغلام‏.‏
ووقَّع في كتاب لسَلْمان الفارسيّ وكان
سأله كيف يُحاسَب الناسُ يوم القيامة‏:‏ يًحاسَبون كما يُرْزَقون‏.‏
ووقَّع في كتاب الحُصين بن المُنذر
إله يذكر أنّ السيف قد أكثر في ربيعة‏:‏ بقيّة السِّيف أنمى عددا‏.‏
وفي كتاب جاءه من الأشتر
النَّخَعي فيه بعضً ما يَكره‏:‏ مَن لك بأخيك كله وفي كتاب صَعصعة ابن صَوْحان يسأله في
شيء‏:‏ قيمةُ كلّ امرىء ما يُحسن‏.‏

معاوية بن أبي سفيان
كتب إليه عبدُ اللّه بن عامر في أمر عاتَبه فيه فوقَع في أسفل كتابه‏:‏ بَيتُ أميَّة في الجاهليّة
أشرف من بيت حَبيب‏.‏
فأما في الإسلام فأنت تراه‏.‏
وفي كتاب عبد اللّه بن عامر يسأله أنْ
يُقطعه مالاً بالطائف‏:‏ عِشْ رَجَباً تَرى عجبا‏:‏ وفي كتاب زياد يُخبره بطَعن عبد اللّه بن عبَّاس في
خلافته‏:‏ إنّ أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهليَّة في مِسْلاخ واحد وذلك حِلْف لا يَحُلّه سُوءُ
أدبك‏.‏
وكتب إليه ربيعةُ بن عِسْل اليَربوعيّ يسأله أن يُعينه في بناء داره بالبَصرة باثنى عشر ألف
جِذع‏:‏ أدارُك في البَصرة أم البَصرةُ في دارك

وقَّع في كتاب عبد اللّه بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصَّته‏:‏ احكُم لهم بآمالهم إلى منتهى
آجالهم‏.‏
فحَكم بتسعمائة ألف فأجازها‏.‏
وكتب إليه مُسلم ابن عُقبة المُرِّي بالذي صَنع أهلُ
الحرة فوقع في أسفل كتابه‏:‏ فلا تَأْس على القوم الفاسقين‏.‏
وفي كتاب مُسلم بن زياد عامله على
خُراسان وقد استبطأه في الخراج‏:‏ قليلُ العِتاب يُحْكم مَرائر الأسباب وكثيرُه يَقطع أواخي
الإنتساب‏.‏
ووقَّع إلى عبد الرحمن بن زياد وهو عامله على خُراسان‏:‏ القرابة واشجة والأفعال
مُتباينة فخُذ لرَحمك مِن فِعلك‏.‏
وإلى عُبيد اللّه بن زياد‏:‏ أنت أحدُ أعضاء ابن عمّك فأحرص
أن تكون كُلَّها‏.‏

عبد الملك بن مروان
وقَّع في كتاب أتاه من الحجّاج‏:‏ جَنَبني دماء بني عبد المُطلب فليس فيها شفاء
من الطَّلب‏.‏
وكتب إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يُقاسي منهم ويستأذنه في
قتل أشرافهم فوقّع له‏:‏ إنّ من يُمن السائس أنْ يتألّف به المختلفون ومن شُؤمه أن يَختلف به
المُؤتلفون‏.‏
وفي كتاب الحجاج يُخبره بقوّة ابن الأشعث‏:‏ بضَعْفك قَوي وبخُرقك طَلع‏.‏
ووقَّع في
كتاب ابن الأشعث‏:‏

ووقع أيضاً في كتاب‏:‏
كيف يرْجون سِقاطي بعدما شَمل الرأْسَ مَشيبٌ وصَلَعْ
الوليد بن عبد الملك
كتب إليه الحجاج لا بلغه أنه خَرق فيما خَلّف له عبد الملك يُنكر ذلك عليه ويُعرِّفه أنه على
غير صواب فوقَّع في كتابه‏:‏ لأجمعن المال جَمْع مَن يعيش أبداً ولا فرقنَّه تفريق مَن يموت غدا‏.‏

ووقع إلى عمر بن عبد العزيز‏:‏ قد رَأب الله بك الداء وأوْذم بك السقاء‏.‏

سليمان بن عبد الملك
كتب قتيبة بن مُسلم إلى سليمان يتهدده بالخَلع فوقَع في كتابه‏:‏
زَعم الفرزدقُ أنْ سيَقْتل مَرْبَعِا أبشِرْ بطُول سلامةٍ يا مَرْبَعُ
ووقّع في كتابه أيضاً‏:‏ العاقبةُ للمتقين‏.‏
وإلى قُتيبة أيضاً جوابَ وَعيده‏:‏ وإنْ تَصْبروا وتتّقوا لا
يَضُرُّكم كيدُهم شيئاً‏.‏

عمر بن عبد العزيز
كتب بعض العُمال إليه يستأذنه في مرمّة مَدينته فوقَّع أسفلَ كتابه‏:‏ ابنها بالعَدْل ونَقِّ طُرقها من

الظلم‏.‏
وإلى بعض عُمَّاله في مِثل ذلك‏:‏ حَصَنها ونَفْسك بتَقْوى اللهّ‏.‏
وإلى رجل ولّاه الصَّدقات
وكان دميما فعدل وأحسن‏:‏ ولا أقولُ للذين تَزْدَري أعيُنكم لن يُؤْتِيَهم اللهّ خيراً‏.‏
وكتب إليه
صاحبُ العراق يُخبره عن سُوء طاعة أهلها فوقَّع له‏:‏ ارْضَ لهم ما تَرْضى لنفسك وخُذهم
بجرائمهمٍ بعد ذلك‏.‏
وإلى عديّ بن أرطاة في أمر عاتَبه عليه‏:‏ إنّ آخر آية أنزلت‏:‏ ‏"‏ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ‏"‏‏.‏
وإلى عامله على الكوفة وكتب إليه أنَّه فَعل في أمر كما فعل عمر بن
الخطَّاب‏:‏ أولئك الذينِ هَدَى اللّه فبهداهم اقتدِ‏.‏
وإلى الوليد بن عبد الملك وعمر عامله على
المدينة فوقع في كتابه‏:‏ اللّه أعلم أنك لستَ أوّل خليفة تموت‏.‏
وأتاه كتاب عديّ يُخبره بسوء
طاعة أهل الكُوفة فوقع في كتابه‏:‏ لا تَطلب طاعة مَن خَذل عليّا وكان إمامًا مَرْضيّا‏.‏
وإلى
عامله بالمدينة وسأله أن يُعطيه موضعاً يَبْنيه فوقَّع‏:‏ كُنْ من الموت على حذر وفي قصه متظلم‏:‏
العدل إمامك‏:‏ وفي رقعه محبوس‏:‏ تب تطلق وفي رقعت رجل قتل‏:‏ كتاب الله بيني وبينك وفي
رقعه متنصح‏:‏ لو ذكرت الموت شغلك عن نصيحتك وفي رقعته رجل شكا أهل بيته‏:‏ أنتما في
الحق سيان‏.‏
وفي رقعه امرأة حبس زوجها‏:‏
الحق َحبسه‏.‏
وفي رُقعة رجل تظلّم من ابنه‏:‏ إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك

وقَع إلى صاحب خراسان‏:‏ لا يَغرنّك حُسن رأي فإنما تفسده عثرة وإلى صاحب المدينة عثر
فاستقل وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته‏:‏ ما كان عليك لو صفحت عنه واستوصلتني
هشام بن عبد الملك
في قصه متظلم‏:‏ أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحل بك النكال إن كنت كاذباً فتقدم أو تأخرً‏.‏

في قصه قوم متظلم شكوا أميرهم‏:‏ إن صح ما أدعيتم عليه عزلناه وعاقبناه‏.‏
وإلى صاحب
خراسان حين أمره بمحاربة الترك‏:‏ أحذر ليالي البيات‏.‏
وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره بوثوب
أبناء الأنصار‏:‏ احفظ فيهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَبْهم له ووقَّع في رُقعة محبوس لَزِمه الحد‏:‏ نزل بحدك
الكتاب‏.‏
ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجةَ وكَثرة العِيال وذَكر أنَ له حُرمة‏:‏ لعِيالك في بيت
مال المسلمين سهم ولك بحرمتك مِنَّا مثلاه وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج‏:‏ ضَع سَيفك
في كلاب النّار وتقرب إلى اللّه بقَتل الكفار‏.‏
وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم لنفوّضكم
دونكم‏.‏
وفي كتاب عامله يُخوه قيه بقلة الأمطار في بلده‏:‏ مرهم بالاستغفار وإلى لسَهل ابن
سَيَار‏:‏ خَف اللهَ وإمامك فإنه يأخذه عند أول زلهّ

وقَع إلى مروان‏:‏ أراك تقدّم وِجْلاً وتؤخّر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما
شئت‏.‏
وإلى صاحب خُراسان في المُسودة‏:‏ نَجم أمرٌ أنت عنه نائم وما أراك منه أو مني سالم‏.‏

مروان بن محمد
كتب إلى نَصر بن سيّار في أمر أبي مسلم‏:‏ تحوّل الظاهر يدلّ على ضعف الباطن واللّه
المُستعان‏.‏
ووقّع إلى ابن هُبيرة أمير خُراسان‏:‏ الأمر مُضطَرب وأنت نائم وأنا ساهر‏.‏
وإلى حوثرة
بن سُهيل حين وجَّهه إلى قَحْطبة‏:‏ كُن من بَيات المارقة على حَذر‏.‏
ووقَّع حين أتاه غرق قَحْطبة
وانهزام ابن هُبيرة‏:‏ هذا والله الإدبار وإلا فمن رأى مَيْتا هَزم حيّا‏.‏
وفي جواب أبيات نصر بن
سيّار إذ كتب إليه‏:‏
أرى خَلَلَ الرَّماد وَمِيضَ جَمْرٍ ويُوشك أن يكونَ له ضِرَامُ
الحاضر يَرى ما لا يَرى الغائب فاحسم الثّؤْلول‏.‏
فكتب نصر‏:‏ الثُّؤْلول قد اْمتدت أغصانه
وعظُمت نِكايته‏.‏
فوقَع إليه‏:‏ يداك أوكَتَا وفُوكَ نَفَخ‏.‏


توقيعات بني العباس
السفاح
كتب إليه جماعه من أهل الأنبار يذكرون أنّ منازلهم أخذت منهم وأدخلت في البناء الذي أمر
به ولم يُعطوا أثمانها فوقع‏:‏ هذا بناء أسس على غير تَقْوى ثم أَمر بدَفع قيم منازلهم إليهم‏.‏
ووقّع
في كتاب أبي جَعفر وهو يحارب ابن هبيرة بعد أن أرجعه فيه غير مرة‏:‏ لست منك ولستَ منَي
إن لم تقتله‏.‏
وجاءه كتاب من أبي مُسلم يستأذنه في الحجّ وفي زيارته فوقّع إليه‏:‏ لا أَحول بينك
وبين زيارة بيت اللّه الحرام أو خَليفته وإذنك لك‏.‏
ووقّع في كتاب جماعة من بطانته يشكون
احتّباس أرزاقهم‏:‏ مَن صَبَر في الشدّة شارك في النّعمة ثم أَمر بأرزاقهم‏.‏
وإلى عامل تُظلّم منه‏:‏
وما كنتُ متّخذَ المضلّين عَضُداً‏.‏
وفي قومٍ شَكَوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة‏:‏ وقيل بُعْداً
للقَوم الظالمين‏.‏

أبو جعفر
وقِّع في كتابه إلى عبد الله بن عليّ عمَه‏:‏ لا تَجعل للأيام وفي وفيك نصيباً من حوادثها‏.‏
ووقّع
إليه أيضاً‏:‏ ادْفَع بالّتي هي أَحسن إلى قوله‏:‏ وما يلقاه إلا ذُو حَظ عظيم‏.‏
فاجعل الحظّ لي دونك

يكن لك كله‏.‏
ووقّع إلى عبد الحميد صاحب خُراسان‏:‏ شكوتَ فأشْكيناك وعتبتَ فأعْتبناك
ثم خرجتَ عن العامة فتأهّب لفراق السلامة‏.‏
وإلى أهل الكوفة وشَكَوْا عاملَهم‏:‏ كما تكونون
يُؤمر عليكم‏.‏
وإلى قوم تظلّموا من عاملهم‏:‏ لا ينال عهدي الظالمين‏.‏
وفي قصَّة رجل شكا عَيْلة‏:‏
سَل اللّه مِن رِزْقه‏.‏
وفي قصَة رجل سأله أن يَبني بقربه مسجداً فإنّ مُصلّاه على بُعد‏:‏ ذلك
أعظم لثوابك‏.‏
وفي قصَّة رجل قُطعت عنه أرزاقهُ‏:‏ ‏"‏ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ‏"‏ الآية‏.‏
وفي قصّة رجل شكا الدين‏:‏ إن كان دَيْنك في مَرضاة اللّه قَضاه‏.‏
وإلى صارورةٍ سأله
أنْ يَحًج‏:‏ ‏"‏ للّه عَلَى النَّاس حِجُّ البَيْتِ مَن استطاع إليه سَبيلاً ‏"‏‏.‏
وإلى صاحب مصر حين كتب
يذكر نُقصان النِّيل‏:‏ طَهِّر عسكرك من الفساد يُعْطك النِّيلُ القِياد‏.‏
وإلى عامله على حِمْص
وجاءه منه كتابٌ فيه خطأ‏:‏ استبدل بكاتبك وإلا استُبدل بك‏.‏
وإلى صاحب أرمينية‏:‏ إنّ لي في
قَفاك عيناً وبين عَيْنيك عينا ولهما أربع آذان‏.‏
وإلى رجل استوصله‏:‏ لا مانعَ لما أعطاه الله‏.‏

وفي كتاب أتاه من صاحب الهِند يُخبره أنّ جُنْداً شَغِبوا عليه وكَسروا أقفال بيت المال فأخذوا
أرزاقهم منه‏:‏ لو عدلتَ لم يَشْغبوا ولو وفيت لم يَنهبوا‏.‏

المهدي
وقّع في قصّة متظلّمين شكَوْا بعض عُمّاله‏:‏ لو كان عيسى عاملَكم قُدناه إلى الحق

كما يُقاد الجمل المَخشوش - يريد عيسى ولدَه‏.‏
ووقّع إلى صاحب إرمينية وكتب إليه يشكو
سًوء طاعة رعاياه‏:‏ خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرض عن الجاهلين‏.‏
وإلى صاحب خُراسان في
أمر جاءه‏:‏ أنا ساهر وأنت نائم‏.‏
وفي قصة قوم أصابهم قَحْط‏:‏ يُقدّر لهم قُوت سنةَ القَحط
والسَّنة التي تليها‏.‏
وإلى شاعر أظنه مروان بن أبي حفصة‏:‏ أسرفتَ في مديحك فقَصرنا في
حِبائك‏.‏
وفي قصة رجل من الغارمين‏:‏ خُذ من بيت مال المسلمين ما تَقْضي به دينَك وتُقرُّ به
عَينَك‏.‏
وفي قصّة رجل شكا الحاجة‏:‏ أتاك الغوثً‏.‏
وإلى رجل مِن بطانته استوصله‏:‏ ليت
إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك‏.‏
وفي قصة قوم تظلَموا من عاملهم وسألوه إشخاصه إلى بابه‏:‏
قد أنصف القارةَ مَن راماها‏.‏
وفي قصّة رجل حُبس في دم‏:‏ ولكم في القصاص حياة يا أولي
الألباب‏.‏
وإلى صاحب خُراسان وكتب إليه يخبِره بغلاء الأسعار‏:‏ خُذْهم بالعدل في المِكيال
والميزان‏.‏
وإلى يوسف البَرَم حين خرج بخراسان‏:‏ لك أماني ومُؤكَّد أيمانِي‏.‏

موسى الهادي
كتب إلى الحسن بن قَحطبة في أَمر راجعه فيه‏:‏ قد أنكرناك منذُ لزمتَ أبا حنيفة كفاناه اللّه‏.‏

وإلى صاحب إفريقية في أمر فَرط منه‏:‏ يا بن اللًخناء أنيَّ تَتمرَّس‏.‏

هارون الرشيد

وقَّع إلى صاحب خراسان‏:‏ داوِ جرْحك لا يَتّسع‏.‏
وإلى عامله على مصر‏:‏ احذر أنْ تُخرِّب
خِزانتي وخِزانة أخي يوسف فيأتيَك منّي ما لا قِبَل لك به ومن اللّه أكثر منه‏.‏
وقيع في قصة
رجل من البرامكة‏:‏ أنبتَتْه الطاعةُ وحَصدته المعصية وإلى عامله على فارس‏:‏ كن منّي على مِثل
ليلة البَيات‏.‏
والى عامل خراسان‏:‏ إنّ المُلوك يُؤْثَر عنهم الحَزْم‏.‏
وإلى خزيمة بن خازم إذ كتب إليه
أنه وضع فيهم السيفَ حين دخل أرض أرمينية‏:‏ لا أم لك‏!‏ تقتل بالذَنب مَن لا ذَنب له‏.‏
وفي
قصَّة محبوس‏:‏ مَن لجأ إلى اللّه نجا‏.‏
وفي قصة متظلم‏:‏ لا يُجاوَز بك العدل لا يُقصرَّ بك دون
الإنصاف‏.‏
وإلى صاحب السِّند إذ ظهرت العصبية كل من دعا إلى الجاهلية تَعجلَيَ إلى
المنية‏.‏
وإلى عامله على خراسان‏:‏ كُل من رفعِ رأسه فأنزله عن بدنه وفي رُقعة متظلّم من عامله
على الأهواز وكان بالمتظلم عارفاً قد وليناك موضعه فتنكَّب سيرته‏.‏
وفي كتاب بكّار الزًّبيريّ
وفي كتاب بكّر الزبيري إليه يخبره بسّر من أسرار الطالبين‏:‏ جزى اللهّ الفضلَ خيرَ الجزاء فاختياره
إياك وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف بحسن نيِّتك‏.‏
وإلى محفوظ صاحب خراج مِصر‏:‏ يا
محفوظ اجعل خَرج مصر خرجاً وأحداً وأنت أنت‏.‏
وإلى صاحب المدينة‏.‏
ضع رجليك على
رقاب أهل هذا البَطن فإنهمِ قد أطالوا ليلي بالسُّهاد ونَفوا عن عيني لذيذَ الرقاد‏.‏
ووقِّع إلى
السِّنْديِّ بن شاهك‏:‏ خفِ اللّه وإمامَك فهما نجاتُك‏.‏
وإلى سُليمان بن أبي جعفر في كتاب وَرد

عليه منه يذكر فيه وُثوب أهل دِمشق‏.‏
استحييتُ لشيخٍ وَلده المَنصور أن يَهْرُب عمّن وَلَدته
كِنَدة وطيء فهلا قابلتهِم بوجهك وأبديتَ لهم صَفحتك وكنتَ كمروان ابن عمك إذ خرج
مُصلتاً سيفه متمثلًا ببيت الجحّاف بن حُكيم‏:‏
مُتقلِّدين صَفائحاً هِنْديةً يَتْركن مَن ضربوا كمن لم يولد
فجلَد به حتى قُتل للّه أم ولدته وأبٌ انهضه‏!‏ وكتب متملكُ الروم إلى هارون الرشيد‏:‏ إني
متوجّه نحوك بكل صليب في مملكتي وكُل بَطل في جندي فوقع في كتابه‏:‏ سيَعلم الكافر لمن عُقْبى
الدَّار‏.‏
وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحسَّ بالموت‏:‏ قد تقدَّم الخَصم‏!‏ إلى موقف
الفَصل وأنت بالأثر واللهّ الحكم العادل
وستُقدَم فَتعلم فوقّع فيه الرشيد‏:‏ الحَكَم الذي رَضيتَه في الآخرًة لك هو الذي أعدى الخَصم في
الدنيا عليك وهو مَن لا يُرد حُكمه ولا يُصرف قضاؤه‏.‏


المأمون
وقّع إلى علي بن هشام في أَمر تظلَّم فيه منه‏:‏ مِن علامة الشَّريف أن يَظلم مَن فوقه ويَظلمه مَن
دونه فأيّ الرجلين أنت وإلى هشام‏:‏ لا أدْنيك ولك ببابي خَصم‏.‏
وإلى الرُّستمي في قصة من
تظلّم منه‏:‏ ليس من المروءة أن تكون آنيتُك من ذهب وفضّة وغريمُك خاوٍ وجارك طاو‏.‏
وفي

قَصّة متظلم من عمرو بن مسعدة‏:‏ يا عمرو اعمر نِعْمَتك بالعدل فإنّ الجَور يَهْدمها‏.‏
وفي قصة
متظلِّم من أبي عيّاد‏:‏ يا ثابت ليس بين الحق والباطل قرابة‏.‏
وفي قصة متظلم من أبي عيسى
أخيه‏:‏ فإذا نُفخ في الصُور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏.‏
وفي قصة متظلّم من حُميد
الطوسيّ‏:‏ يا أبا غانم لا تَغترَّ بموضعك من إمامك فإنك وأخسُّ عَبيده في الحق سيِّان‏.‏
وإلى
طاهر صاحب خراسان‏:‏ أحمد اللهّ أبا الطيّب إذا أحلّك من خليفته محل نفسه فما لك مَوضع
تسمو إليه نفسُك إلا وأنت فوقه عنده‏.‏
وفي كتاب بِشْر بن داود‏:‏ هذا أمان عاقدتُ اللّه عليه في
مُناجاتي إياه‏.‏
وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فَدَك حين أمره بردّها‏:‏ قد أرضيتَ خليفة الله في
فَدك كما أرضى اللهّ رسولَه فيها‏.‏
وفي قصة متظلّم من محمد بن الفَضل الطُّوسي‏:‏ قد احتملنا
بَذاءك وشَكاسة خُلقك فأمَّا ظُلمك للرعيّة فإنا لا نَحتمله‏.‏
ووقّع إلى بعض عمّاله‏:‏ طالعْ كل
ناحية من نواحيك وقاصية من أقاصيك بما فيه استصلاحُها‏.‏
وكتب إليه إبراهيم بن المهديّ
في كلام له‏:‏ إن غَفرت فبفَضلك وإن أخذت فبحقّك‏.‏
فوقع
في كتابه‏:‏ القُدرة تُذهب الحَفيظة والنَّدم جُزء من التوبة وبينهما عفوُ الله‏.‏
ووقع في رُقعة مولى
طلب كُسوة‏:‏ لو أردت الكُسوة للزمتَ الخدمة ولكنك آثرت الرُّقاد فحظك الرًّؤيا‏.‏
ووقع في يوم
عاشوراء

لبعض أصحابه وقد وافته الأموال‏:‏ يُؤمر له بخمسمائة ألف لطول هِمّته‏.‏
ولثُمامة بن أشرس
بثلثمائة ألف لتركة ما لا يَعنيه‏.‏
ولأبي محمد اليَزيدي‏:‏ يُؤمر له بخمسمائة ألف لكِبَره‏.‏
وللمعلَّى
بخمسمائة ألف لصحيح نيّته‏.‏
ولإسحاق بن إبراهيم بخمسمائة ألفٍ لِصدْق لَهجته‏.‏
وللعبّاس
بخمسمائة ألف لفصاحة مَنطقه‏.‏
ولأحمد بن أبي خالد بأَلف ألف لمُخالفة شهوته‏.‏
ولإبراهيم بن
بُويه كذلك لسرعة دَمعته‏.‏
وللمريسي بثلثمائة ألف لإسباغ وَضوئه‏.‏
ولعبد اللهّ بن بِشْر بمثلها
لحُسن وجهه‏.‏


توقيعات الأمراء والكبراء
زياد وقّع إلى بعض عمّاله
قد كنتَ على الدُّعّار وأخالك داعراً‏.‏
وكتبتْ إليه عائشةُ في وَصاة برجلِ فوقَّع في كتابها‏:‏
هو بَينْ أبويه‏.‏
وإلى صاحب خُراسان في أمرِ خالفه فيه‏:‏ اشتَر بعض دينك ببعض وإلّا ذهب كله‏.‏

وإلى عامله بالكوفة‏:‏ أمط الحُدَود عن ذوي المُروآت‏.‏
وفي قصة متظلّم‏:‏ أنا معك‏.‏
وفي قصة قوم
رفعوا على عامل رفيعةً مَن أماله الباطل قَوَّمه الحق‏.‏
وفي قصة مُستمنح‏:‏ لك المُواساة‏.‏
وإلى
عامله في خوارج خرجوا بالبصرة‏:‏ النِّساء تُحاربهم دونك‏.‏
وفي قصة سارق‏:‏ القَطْع جزاؤك‏.‏

وفي قصة امرأة حُبس زوجُها‏:‏ حُكْمه إلى اللّه‏.‏
وفي قصة قوم نَقبوا‏:‏ تُنْقب ظُهورهِمِ‏.‏
وفي قصة
نبّاش‏:‏ يُدفن حيًّا في قبره‏.‏
وفي قصة متظلّم‏.‏
الحق يَسعك‏.‏
وفي قصة مًتنصِّح‏:‏
مهلاً فقد أبلغتَ إسماعي
وفي قصة متظلّم‏:‏ كُفِيت‏.‏
وفي قصة رجل شكا إليه عُقوق ابنه‏:‏ ربما كان عُقوق الولد من سُوء
تأديب الوالد‏.‏
وقي قصة رجل شكا الحاجة‏:‏ لك في مال اللّه نَصيب أنت آخذه‏.‏
وفي قصة
رجل جارح‏:‏ الُجْروح قصاص‏.‏
وفي قصّة محبوس‏:‏ التائب من الذَّنب كمن لا ذنبَ له‏.‏
وفي قصة

قوم شكوا غَرق ضِياعهم‏:‏ لا نَعوض فيما تفرد اللهّ به‏.‏
وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد
لزروعهم‏:‏ لا حُكم فيما استأثر اللّه به‏.‏

الحجاج بن يوسف
وقَّع في كتاب أتاه من قُتيبة بن مُسلم يشكو كَثرة الجراد وذَهاب الغَلات وما حل بالناس من
القَحط‏:‏ إذا أزف خراجُك فانظر لرعيّتك في مصالحها فبيتُ المال أشدّ اضطلاعاً بذلك من
الأرْمَلة واليتيم وذي العَيْلة‏.‏
وفي كتاب قُتيبة إليه أنه على عُبور النَّهر ومُحاربة الترك‏:‏ لا تُخاطر
بالمُسلمين حتى تعرفَ موضعَ قدمك ومَرمى سهامك‏.‏
وفي كتاب صاحب الكوفة يُخبره بسوء
طاعتهم وما يقاسي من مُداراتهم‏:‏ ما ظَنَّك بقوم قَتلوا مَن كانوا يَعْبدونه‏.‏
وفي قصة مَحبوس
ذكروا أنه تاب‏:‏ ما على المُحسنين من سبيل‏.‏
وإلى قُتيبة‏:‏ خُذ عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع
من حُصونك‏.‏
وفي كتابه إلى بعض عُماله‏:‏ إيّاك والملاهيَ حتى تستنظف خراجَك‏.‏
وفي كتابه إلى
ابن أخيه‏:‏ ما رَكِب يهوديٌّ قبلكَ مِنْبراً‏.‏
وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مُسلم‏:‏ أنت أبو عبيدة هذا
القَرْن‏.‏

أبو مسلم

وقّع يا كتاب سليمان بن كَثير الخُزاعيّ‏:‏ لِكل نَبأ مُسْتقر وسَوْف تَعْلَمون‏.‏
وإلى أبي العبّاس في
يزيد بن عمر بن هُبيرة‏:‏ قَلّ طريق سَهل تُلقى فيه الحجارة إلا عاد وَعْراً واللّه لا يَصْلًح طريقٌ فيه
ابن هبيرة أبداً‏.‏
وإلى ابن قحطبة‏:‏ لا تَنْسَ نَصيبك من الدنيا‏.‏
وإليه‏:‏ ادع إلى سبيل ربّك بالحِكمة
والمَوعظة الحسنة‏.‏
وإليه‏:‏ لا تَركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار‏.‏
وإلى محمد بن صُول وكتب
إليه بسلامة أطرافه‏:‏ وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث‏.‏
وكتب إليه قَحطبة‏:‏ إِن بعض قُوّاده خَرج إلى
عسكر ابن ضُبارة راغباً فوقّع في كتابه‏:‏ ‏"‏ ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نِعْمة اللّه كفرا ‏"‏ الآية‏.‏
وإلى عامله
ببَلْخ‏:‏ لا تُؤخّر عمل اليوم لغد‏.‏
وإلى أبي سَلَمة الْخَلّال حين أنكر نيّته‏:‏ وإذا لَقُوا الذين آمنوا قالوا
آمنا وإذا خلَوْا إلى شياطِينِهم قالوا إنِّا معكم‏.‏

جعفر بن يحيى
وقّع في قصّة محبوس‏:‏ لكلّ أجل كتاب‏.‏
وفي مِثْله‏:‏ العَدْل يُوبقه والتوبة تطلقه‏.‏
وفي قصه
متنصح‏:‏ بعض الصدق قَبيح‏.‏
وإلى بعض عُمَّاله‏:‏ قد كثر شاكوك وقَل شاكروك فإما عدلت
وإما اعتزلت‏.‏
وفي قصة رجل شكا بعضَ خَدمه‏:‏ خُذ بأذنه ورأسه فهو مالك وإلى عامل
فارس في رجل كتب إليه بالوَصاة‏:‏ كُن له كأبيه لو كان مكانك وإلى عامل مصر رجل من بطانته

يُوصيه‏.‏
إنه رغب إلى شعبك‏.‏
فاْرغب في اصطناعه‏.‏
وفي قصه متظلَم من بعض عماله‏:‏ أني
ظلمتك دونه وفي قصة عبوس‏:‏ الجناية حسبه والتوبة تطلقه وإلى قوم عين الخليفة تكلؤكم وفي
رقعه صارورة استأذنه في الحج‏:‏ من سافر إلى الله أنجح وفي قصه رجل شكا عزوبه‏:‏ الصوم
لك وجاء وفي رقعه رجل سأل ولاية‏:‏ لا أولى بعض الظالمين بعضاً وفي قصه رجل سأله أن يقفل
ابنه فقد طالت غَيبته عنه‏:‏ غَيبة يوسف صلى الله عليه وسلم كانت أطول رجل تظلّم من بعض
عُماله‏:‏ أنا لمثله حتى بنصفك وفي قصة قوم شكوا سوء جوار بعض قرابته‏:‏ يرحل عنكم وفي
قصه مستمنح قد كان وصله مراراً‏:‏ دع الضرع يدر لغيرك كما در لك‏.‏
وإلى الفضل بن الربيع
وجاءه منه كتاب غمه وأكربه‏:‏ كثرة ملاحاة الرجال ربما أراقت الدماء‏.‏
وإلى منصور بن زياد في
أمر عاتبه فيه‏:‏ لم نزرعك لنحصدك‏.‏
وإلى بعض عماله اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا وإلى
بعض ندمائه‏:‏ لا تبعد عمن ضمك ووقع إلى منتصل من ذنب‏:‏ حكم الفلتات خلاف حكم
الإصرار‏.‏

الفضل بن سهيل
كتب إلى أخيه الحسن‏:‏ أحمد اللّه يا أخي فما يَبيتُ خليفة اللّه إلا على ذِكْرك‏.‏
وإلى طاهر‏:‏

لِخَيْرِ ما اتّضَعت‏.‏
وإليه‏:‏ لشرّ ما سموتَ‏.‏
وإلى هرثمة وأشار عليه برأي‏:‏ لا يُحَل مَا عَقدت‏.‏

وفي قصة متظالم‏:‏ كَفى بالله للمَظلوم ناصراً‏.‏
ويا قصة رجل نَقب بيت المال‏:‏ يدرأ عنه الحد إن
كان له فيه سهم‏.‏
ووقع إلى حاجبه‏:‏ تَمهَّل وتَسهل‏.‏
وإلى صاحب الشرطة‏:‏ تَرفَّق توفق‏.‏
وإلى
رجل شكا غَلبة الدين‏.‏
قد أَمرنا لك بثلاثين ألفاً وسنَشفعهما بمثلها ليرغب المستمنحون وفي
قصه متظلم‏:‏ طب نفساً فإن الله مع المظلوم وإلى رجل شكا إليه الدين‏:‏ الدين سوء يَهيض
الأعناق وقد
أمرنا بقضائه‏.‏
وفي قصة قوم قَطعوا الطريق إنما جَزاءُ الذين يحاربون اللّه ورسوله ويَسْعون في
الأرض فساداً الآية‏.‏
وفي امرىء قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه‏:‏ كتاب الله أحق أن يتبع‏.‏
وفي
قصه رجل شهد عليه أنه شتم أبا بكر وعمر‏:‏ يضرب دون الحد ويشهر ضربه‏.‏

الحسن بن سهل ذو الرياستين
وقع في قصة متظلم‏:‏ ينظر فيما رفع‏:‏ فإن الحق منيع وإلا فشفاء السقيم دواء السقيم‏.‏
وفي
قصة قوم تظلموا من واليهم‏:‏ الحق أولى بنا والعدل بغيتنا وإن صح ما أدعيتم عليه صرفناه
وعاقبناه‏.‏
وفي قصة امرأة حبس زوجها‏:‏ الحق يحبسه والإنصاف يطلقه‏.‏
وفي رقعة رائد قد

أمرنا لك بشيء وهو دون قدرك في الأستحقاق وفوق الكفاية مع الاقتصاد‏.‏
وكتب إليه رجل
من الشعراء يقول له‏:‏
رأيت في النوم إني راكب فرساً ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة رأيت خيراً وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غداً عند الأمير تجد في الحلم خيراً وفي النوم التباشير
فوقع في أسفل كتابه‏:‏ أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏.‏
وأطلق له ما التمسه‏.‏

ودخل بعض الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده‏:‏
أغفيت عند الصبح نوم مسهد في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت إنك رعتني بوليدةٍ رعبوبةٍ حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة دهماء مُشرفة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة عوضاً يصيبك بردها وسلامها
ليت المنابر يا بن مروان الندى أضحت وأنت خطيبها وإمامها
فقال له عبد الملك بن بشر‏:‏ في كُل شيء أصبتَ إلا البغلة فإني لا أملك إلا شَهباء‏.‏
فقال له‏:‏
امرأتي طالق أن كنت رأيتُها إلا شهباء إلا أنّي غَلِطت‏.‏


وقَّع في كتاب رجل تظلم من أصحاب نَصْر بن شَبِيب‏:‏ طلبتَ الحق في دار الباطل‏.‏
وفي قصة
رجل طلب قَبالة بعض أعماله‏:‏ القَبالة مفتاح الفساد ولو كانت صلاحاً ما كنتَ لها موضعاً‏.‏

وإلى السندي بن شاهك وجاءه منه كتاب يستعطفه وفيه‏:‏ عِشْ ما لم أرك‏.‏
وإلى خُزيمة بن
خازم‏:‏ الأعمال بخواتيمها والصَّنيعة باستدامتها وإلى الغاية ما جرى الجواد فحُمد السابق
وذُمَ الساقط‏.‏
وإلى العباس بن موسى الهادي واْستبطأه قي خراج ناحيته‏:‏
وليس أخو الحاجات مَن بات نائماً ولكنْ أخوها مَن يبيت على رَحْل
وفي رُقعة مُتنصّح‏:‏ سننظر أصدقتَ أم كُنت من الكاذبين‏.‏
وفي قصة محبوس‏:‏ يُطلق وُيعتق‏.‏

وفي رقعة مُستوصل‏:‏ يُقام أوَده‏.‏
وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عُبيد‏:‏ أبا عثمان أعِنّي
بأصحابك فإنهم أهلُ العدل وأصحابُ الصادق والمُؤثرون له فوقَّع في كتابه‏:‏ ارفع علمَ الحق
يَتْبعك أهله‏.‏


توقيعات العجم
وقّع أرْدشير في أَزْمة عمّت المملكة‏:‏ مِن العدل أن لا يفرح الملك ورعيتُه مَحزونون‏.‏
ثم أَمر
ففرَّق في الكُور جميعَ ما في بُيوت الأموال‏.‏
وِرَفع رجل إلى كِسرى بن قُباذ رُقعة يُخبره فيها أنّ
جماعة مِن بطانته قد فسدت نياتهم وخبُثت ضمائرهم منهم فلان وفلان‏.‏
فوقَّع في أسفل كتابه‏:‏
إنما أملك ظاهرَ الأجسام لا النيات وأحكم
بالعدل لا بالهوى وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر‏.‏
ووقع كسرى في رقعة مَدْح‏:‏ طُوبى
للممدوح إذا كان للمَور مُستحقّا وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً‏.‏
وكتب إليه مُتنصِّح‏:‏ إن قوماً
من بطانته اجتمعوا للمُنادمة فعابوه وثَلموه‏.‏
فوقّع‏:‏ لئن كانوا نَطقوا بألسنة شتَّى لقد اجتمعت
مساويهم على لسانك فجُرْحك أرغب وِلسانك أَكذب‏.‏
ورفع إليه جماعةٌ من بطانته رُقعةً
يَشكون فيها سًوء حالهم‏.‏
فوقع‏:‏ ما أنصفكم من إلى الشَّكيَّة أحوَجكم ثم فَرّق بينهم ما
وسعهم وأغناهم‏.‏
ووقع أنوشروان إلى صاحب خراجه‏:‏ ما استُغزر الخراج بمثل العَدْل ولا
استُنزر بمثل الجَوْر‏.‏
ووقّع في قصة رجل تَظلّم منه‏:‏ لا يَنبغي للملك الظلم ومِن عنده يُلتمس
العَدل ولا البُخلُ ومن عنده يُتوقَع الجُود ثم أمر بإحضار الرّجل وقَعد منه بين يدي المُوبَذ‏.‏


ووقّع في قصّة محبوسِ‏:‏ مَن ركب ما نُهي عنه حيل بينه وبين ما يَشتهي‏.‏
ورَفع إليه بعضُ خَدمه
رقعةَ يُخبره فيها بكثرة عِياله وسُوء حاله فَعرف كذبه فوقَّع‏:‏ إنّ اللهّ خَفّف ظَهرك فثقّلته
وأحسن إليك فكَفرته فتُب إلى الله يَتُبْ عليك‏.‏
ووقع في قصّة رجل سَعى إليه بباطل‏:‏ باللسان
احفَظ رأسَك‏.‏
ووقّع في قصة رجل ذَكر أنّ بعض قرابة المَلك ظَلَمه وأخذ مالَه‏:‏ لا تَصلح العامّة
إلا ببَعض الحَيْف على الخاصة فإن كنتَ صادقاً أبحتُك جميع ما يَملكه‏.‏
فلم يتظلّم بعدها أحدُ
من قرابته‏.‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:32 AM

فصول في المودة
كتب عبدُ الرحمن بن أحمد الحَراني إلى محمد بن سهل‏:‏ أعزّك الله إنّ كل مجازاة قاصرةٌ عن
حقّ السابق إلى اْفتتاح الوُدّ وقد علمتَ أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم تَسْتدعه
واعتمدتُك من الرَّغبة فيك بما لم تُوله‏.‏

وفصل لأبي عليّ البَصير‏:‏ قد أكّد اللّه بيننا من الودّ ما نأمن الدهرَ على حل عَقده ونَقض
مرائره وما يَستوي فيه ثقتنا بأنفسنا لك وثقتنا بما عندك‏.‏
وفصل له‏:‏ الحالُ فيما بيننا تَحتمل
الدالّة وتُوجب الأنس والثِّقة وبَسْطَ اللسان بالاستزادة وأنا أمت إليك بالحُرمة المتقدِّمة

وفصل‏.‏
لإبراهيم بن العباس‏:‏ المودّة يَجمعنا حَبلها والصناعةُ تُؤلّفنا أسبابها وما بين ذلك من
تراخٍ في لِقاء أو تخلّف قي مُكاتبة موضوع بيننا يجب العُذر فيه‏.‏
وفصل لسعيد بن عبد
الملك‏:‏ أنا صَبّ إليك سامي الطَّرف نحوك وذِكْرك مُلْصق بلساني واسمُك حُلْو على لَهواتي
وشخصُك ماثلٌ بين عيني وأنت أقربُ الناس من قلبي أخذهم بمجامع هواي‏.‏

وفصل له‏:‏ لنحنُ أحقّ بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصّلة إلا أنك أحقًّ بالفَضل الذي سبقت
إليه‏.‏

وفصل لسعيد بن حميد‏:‏ إنِّي أهديت مودتي إليك رغبةً ورَضِيتُ بالقبول منك مثوبةً فصِرتَ
بقَبولها قاضياً لحق ومالكاً لرقّ وصرتُ بالتسرّع إلى الهديّة والتَّنظًّر للمَثوبة مُرتهن اللّسان
بالجزاء واليدين بالوفاء‏.‏

وفصل له‏:‏ إني صادفت منك جوهرَ نفسي فأنا غيرُ محمود على الانقياد لك بغير زمام لأنّ
النفس يقود بعضُها بعضاً‏.‏
ولمحال أبو العتاهية‏:‏
وللقَلْب على القَلْبِ دَليلٌ حين يَلْقاهُ
وللنّاس مِنَ النّاس مَقاييس وأشباه
وفصل ل‏:‏ لساني رَطْب بذكرك وقَلبي مَعْمور بمحبتك حضرتَ أو غِبْتَ

لَعمري لئن قَرت بقُرْبك أعينٌ لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ
فسِرْ أو أقِمْ وَقْفٌ عليك مودّتي مكانُك من قلبي عليك مَصون
وفصل لإبراهيم بن المهدي‏:‏ كتابي إليك كتاب مُخبر وسائل فأمّا الإخبار فعن تصرُف
الخطوب بما يُوجب العُذر عنه صديقي العزي عَلَيَّ في إبطائي بالتعهّد له وأما السؤال فعن
إمساك هذا الأخ الوَدود المَودود عن مثل ذلك وإن العُذر كاشفٌ ما سَلف مُصلح لما
استؤنف‏.‏




فصول في الزيارة
كتب الحسين بن الحسن بن سَهل إلى صديق له‏:‏ نحن في مأدُبة لنا تشرف على روضة تضاحك
الشمسَ حُسناً قد باتت السماء تَطلُّها فهي شَرقة بمائها حاليةٌ بنُوّارها فبادر إلينا لنكون
على سواء من استمتاع بعضنا ببعض‏.‏
فكتب إليه‏:‏ هذه صفة لو كانت في أقاصي الأطراف
لوجب انتجاعُها وحثُّ المطيّ في ابتغائها فكيف في موضع أنت تَسْكنه وتَجمع إلى أنيق
مَنْظره حُسْنَ وجهِك وطَيّب شمائلك وأنا الجواب‏.‏

وفصل‏:‏ كتب حكيم إلى حكيم‏:‏ يا أخي إن أيام العمر أقلُّ من أن تحتمل
الهَجر والسلام
وفصل‏:‏ كتب إسحاق بين إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المَصير إليه
وعند أحمد بن يوسف إبراهيمُ بن المهدي فكتب إليه‏:‏ عندي من أنا عنده وحُجّتنا عليك
إعلامُنا إياك‏.‏

وفصل‏:‏ إنه مَن ظمىء شوقُه من رؤيتك استوجب الري من زيارتك‏.‏
ثم كتب تحت هذا‏:‏
سِرْ إلينا تَفْديك تَفْسي من السو ء فقد طال عهدنا بالتَلاقِي

وفصل‏:‏ إلى الله أشكو شِدَة الوَحشة لغَيْبتك وفَرْط الحُزن من فِراقك وظُلْم
الأيام بَعدك وأقول كما قال بعضُ المُحدثين‏.‏

غَضارة دنيا أظلم العيشُ بعدَها وعند غُروب الشمس يًعرف فَقْدُها
وفصل‏:‏ الشوقُ إليك وإلى عهد أيًامنا التي حَسُنت بك حتى كأنها أعياد وقَصرُت بك حتى
كأنها ساعات يفوت الصفات ومما يجدَده ويُكثر دواعيه تَصاقُب الدَيار وقُرب الجوار تَمَم
الله لنا النَعمة المجددة فيك بالنّظر إلى الغُرة المُباركة التي لا وَحشة معها ولا أنس بعدها‏.‏

وفصل‏:‏ مَثُلنا - أعزك الله - في قُرب تجاورنا وبُعد تزاورنا ما قِيل في أهل
القُبور‏:‏
هُمُ جيرة الأحياء أما مزارهم فدانٍ وأما المُلتقى فَبعيد
وكل عِلّة معك مُحتملة وكل جَفْوة مغفورة للشّغف بك والثقة بحَسن نيِّتك وسنأخذ بقول
أبي قَيس بن الأسْلت‏:‏
وُيكْرِمها جاراتُها فيزُرْنَها وتَغفل عن إتيانهنّ فَتُعْذَرُ
وفصل‏:‏ كتب حكيم إلى حكيم‏:‏ يا أخي إن أيام القمر أقل من أن تحتمل
الهجر والسلام

وفصل‏:‏ كتب أحمدُ بن يوسف‏:‏ لا تجوز قَطيعة الصديق لأنها لا تَخْلو من أحد وَجْهن‏:‏ إمّا
ضَعف في نفس الاختيار وإمّا مَلل‏.‏
وكلاهما لا حُجة فيه‏.‏

وفصلِ‏:‏ طال العهدُ بالاجتماع حتى كِدْنا نَتناكر عند الالتقاء وقد جعلك الله للسُّرور نِظاماَ
ولأنس تَمامًا وجَعل المَشاهد مُوحِشة إذا خَلت منك‏.‏
وكتب الحسنُ بن وَهب إلى محمد بن
عبد الملك الزيات‏:‏
أوجبَ العُذرَ في تراخي اللِّقاءِ ما توالَى مِن هذه الأنواءِ
فسلامُ الإِله أهديهِ منَي كلّ يوم لسيدِ الوُزراء
لستُ أدْري ماذا أقول وأشْكو مِن سماء تَعوقُني عن سَماء
غير أني أدعو على تِلك بالثّكُ ل وأدعو لهذه بالبَقاء
وقال آخر‏:‏
أزور محمداً فإذا التقينا تكلّمت الضمائرُ في الصّدورِ
فأرجع لم ألمه ولم يَلُمني وقد رضيَ الضَّمير عن الضمير

كتب الحسنُ بن وَهب إلى مالك بن طَوْق في ابن أبي الشَيص‏:‏ كتابي إليك خططتًه بيميني
وفرّغت له ذهني فما ظنّك بحاجة هذا موقعُها مني أتراني أقبل العُذر فيها أو أقصّر في
الشكر عليها وابن أبي الشّيص قد عرفته وعرفت نسبه وصفاته ولو كانت أيدينا تَنبسط
ببره ما عدانا إلى غيرنا فاكتفِ بهذا منا‏.‏

وفصل‏:‏ كتابي إليك كتاب مَعْني بمن كُتب له واثق بمن كُتب إليه ولَن يَضيع
بين الثقة والعناية حاملُه‏.‏

وفصل‏:‏ كتب العتابي فكاد أن يُخل بالمعنى من شدة الاختصار فكتب‏:‏ حاملُ كتاب إليك
أنا فكن له أنا والسلام‏.‏

وفصل للحسن بن سهل‏:‏ فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تَحْريكي إياك
في أمره فإن الصنيعة حُرمة للمَصنوع إليه ووسيلةٌ إلى مُصطنِعه فبسَط الله يدَك بالخيرات
وجعلك من أهلها ووَصل بك أسبابَها‏.‏

وفصل له‏:‏ مُوصِّك كتابي إليك أنا فكُن له أنا وتأمّله بعين مُشاهدتي وخُلتي فلسانُه أشكرُ ما
آتيتَ إليه وأذمُّ ما قصرتَ فيه‏.‏





فصول في عتاب
كتب أحمد بن يوسف‏:‏ لولا حُسن الظن بك - أعزك الله - لكان في إغضائك
عنّي ما يَقبضني عن الطَّلبة إليك ولكنْ أمسك بَرمق من الرَّجاء عِلْمي برأيك في رعاية الحق
وبَسطُ يدك إلى الذي لو قبضتَها عنه لم يكن له إلا كَرمُك مُذكراً وسُؤددك شافعا‏.‏

فصل‏:‏ ما أبعد البُرءَ من مريض داؤُه في دوائه وعلَته في حِمْيته وأنا منك كالغاصّ بالماء لا
مَساغ له‏.‏
وكما قال الشاعر‏:‏
كنتُ من كُرْبتي أفر إليهم وهمُ كُربتي فأين الفِرارُ
فصل‏:‏ أنا مُنتظرٌ واحدة من اثنتين‏:‏ عُتَبى تكون منك أو عُتبِى تُغني عنك‏.‏

فصل‏:‏ أما بعد فقد كنتَ لنا كلُك فاجعل لنا بعضَك ولا نرضى إلا بالكًل
لك منا
فصل‏:‏ أنا ابقي على وُدك من عارض يغيره أو عتاب يقدح فيه وآمُلُ
عائداً من حُسن رأيك يغني عن اقتضائك‏.‏

فصل‏:‏ ألهمك الله من الرُشد بحَسب ما مَنحك من الفَضل‏.‏
ولو أنَ كل مَن نَزع إلى الصرم

فصل‏:‏ لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين‏:‏ أما بعد فقد عاقَني الشكّ في
أمرك عن عزيمة الرأي فيك ابتدأني بلُطف عن غير خِبرة وأعقبتَه جفاء من غير ذنب فاطْمَعني
أولك في إخائك وآيسني أخرك من وفائك فسبحان من لو شاء لكَشف من أمرك عن عَزيمة
الرأي فيك فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف‏.‏

وفصل‏:‏ إذا جعلتَ الظنً شاهداً تُعدل شهادته بعد أن جعلتَه حَكما يَحيف في حكومته
فأين المَوئل من جَوْرك ولستُ أسلك طريقا من العَتب عليك إلا سده ما أنطوى عليه من
مودتك‏.‏
ولا سبيل إلى شِكايتك إلا إليك ولا استعانة إلا بك وما أحق مَن جعلك على أمره
عَوناً أن تكون له إلى النجاح سَببا‏.‏
وقال الشاعر‏:‏
عجبتُ لقلبكَ كيف انقلبْ ومن طول ودّك أنَّى ذهبْ
وأعجب من ذا وذا أنِّني أراك بعين الرِّضا من الغَضب
وفصل‏:‏ إن مسألتي إليك حوائجي مع عَتبك عليّ لمن اللؤم خالط إمساكي عنها في حالة
ضرورة إليها مع عِلْمي بكرامك في السخط والرضا لعَجز غيرَ أني أعلم أقرَب الوسائل في طلب
رضاك مُساءلتك ما سَنح من الحاجة إذ كنتَ لا تجعل عَتبك سبباً لمنع مَعْروفك‏.‏

وفصل‏:‏ لو كانت الشَكوك تحتلجني في صِحّة مودًّتك وكريم إخائك ودَوام عهدك لطال عَتْبي

عليك في تواتر كتبي واحتباس جَواباتها عني ولكنّ الثقةَ بما تقْدِّم عندي تعذرك وتحسّن ما
يُقبِّحه جفاؤك والله يديم نعمته لك ولنا بك‏.‏

وفصل لابن المدبر‏:‏ وَصل كتابُك المُفتتْح بالعِتاب الجميل والتَّقريع اللطيف‏:‏
فلولا ما غَلب عليّ من السرور بسلامتك لتقطّعتُ غما بعتابك الذي لَطُف حتى كاد يَخفى
عن أهل الرِّقة والفِطنة وغَلُظ حتى كاد يَفهمه أهلُ الجهل والبَلَه‏.‏
فلا أعْدمني الله رضاك
مُجازياً على ما استحقّه عَتبك وأتً ظالم فيه فهو وليُّ المخرج منه‏.‏
وقالت أبو الدرداء‏:‏
عتابُ الأخ خير من فَقْده وقال الشاعر‏:‏
إذا ذَهب العتابُ فليس وُد وَيبقى الوُدُّ ما بَقِي العِتابُ
وقال آخر في هذا المعنى‏:‏
إذا كنت تَغضب من غير ذَنبٍ وتَعْتِبُ في كل يَوم عَليَّا
طلبتُ رِضاك فإنْ عَزَني عَددتُك مَيْتاً وإنْ كنتَ حيّا
فلا تَعجبنّ بما في يَديْك فأكثرُ منه الذي في يَديا
وفصل في عتاب‏:‏ العِتابُ قبل العِقاب فليكن إيقاعُك بعد وَعيدك ووعيدُك بعد وَعدك‏.‏

وفصل‏:‏ قَد حميتُ جانبَ الأمل فيك وقطعتُ أسباب الرجاء منك وقد أسلمني اليأسُ منك



فصول في التنصل
كتب ابن مكرم‏:‏ لا وعظيم أملى فيك ما أتيت فيما بيني وبينك ذنْباً مُخطئاً ولا متعمَدًا ولعلّ
فَلتة لم ألْقِ لها بالاً فأوطىء لها اعتذارًا وإن تكن فَنَفثُة حاسد زَخرفها على لسان واش
َنبذها إليك في بعض غِرّاتك أصابت مني مَقْتلاً وشَفت منه غليلاً‏.‏

وفصل‏:‏ ليس يُزِيلني عن حُسن الظن بك فِعلٌ حَملك الأعداء عليه ولا يَقطعني عن رجائك
عَتْبُ حَدث منك عليّ بل أرجو أن يَتقاضى كَرَمُك إنجاز وَعْدك إذ كان أبلغَ الشُفعاء إليك
وأوجبَ الوَسائل لَديك‏.‏

وفصل‏:‏ أنت - أعزك الله - أعلم بالعَفو والعُقوبة من أن تُجازيني بالسُّوء على ذَنب لم أجنه بيد
ولا لسان بك جَناه عليّ لسان واش‏.‏
فأما قولُك إنك لا تُسَفَك سبيل العُذر فأنت أعلم
بالكَرم وأرعى لحُقوقه وأعرف بالشّرَف وأحفظُ لذِماماته منِ أن تَرُدَّ يدَ مُؤمِّلك صِفْراً من
عَفْوك إذا التمسه ومن عُذرك إذا جعل فضلكَ شافعاً فيه وذَريعة له‏.‏

وفصل لإبراهيم بن العباس‏:‏ الكريم أوسع ما تكون مَغفرته إذا ضاقت بالمُذنب معذرته‏.‏

وفصل‏:‏ يا أخي أشكو إلى اللّه وإليك تحامل الأيام عليّ وسُوء أثر الدهر عندي وأنّي مُعلَّق

في حبائِل من لا يعرف موضعي ولا يَحلو عنده موقعي أطلبُ منه الخلاص فيزيدني كُلفاً
وأرْتجي منه الحقّ فيزداد به ضَنًا فالثَّواءُ ثواء مقيم والنيّة نيّة ظاعن والزَماع زَماع مُرتحل‏.‏
ما
أذهب إلى ناحية من الحِيلة إلا وجدتُ من دونها مانعًا من العوائق فأحمل الذنبَ على الدهر
وارجع إلى الله بالشَّكوى وأسأله جميلَ العُقبى وحُسن الصبر‏.‏


http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول في حسن التواصل
للمُفضل أن يَخُص بفضله مَن شاء وله الحمد فيما أعطى‏.‏
ولا حًجة عليه
فيما مَنع و كنْ كيف شئت فإني قد أوليتك خالصةَ سريرتي أرى ببقائك بقاءَ سرُوري
وبدوام النِّعمة عندك دوامَها عندي‏.‏

وفصل‏:‏ قد أغنى اللّه بكرمك عن الذَّريعة إليك والاستعانة عليك لأنّ
حُسن الظن فيك وتأميلَ نُجح الرَّغبة إليك فوق الشفعاء عندك‏.‏

وفصل‏:‏ قد أفردتُك برجَائي بعد اللّه وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوَعد
ويَضن بالإنجاز ويُحسِّن الفضل ويَزهد في أن يتفضل ويَعيب الكَذب ولا يَصدق‏.‏
وفصل‏:‏
ضَعْني - أكرمك اللّه - من نَفسك حيثُ وضعتُ نفسي من رجائك

وفصل‏:‏ لا أزال - أبقاك الله - أسألً الكتابَ إليك‏.‏
فمرّة أتوقف توقّف المُخفّف عنك من
المؤونة ومَرِّة أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة والمُعتمد منك على المِقة‏.‏
لا أعدمنا اللّه دوام
عزك ولا سَلب الدنيا بهجتها بك ولا أخلانا من الصُّنع لك فإنا لا نعرف إلا نِعمتك ولا نجد
للحياة طَعْماً إلا في ظِلك ولئن كانت الرغبة إلى نَفر من الناس خَساسة وذلاً لقد جعل الله
الرَّغبة إليك كرامة وعزًّا لأنك لا تعرف حُرًّا قعد به دهرُه إلا سَبقْتَ مسألته بالعطيِّة وصُنت
وجهه عن الطلب والذّلة‏.‏

وفصل‏:‏ لي عليك حقُّ التَأميل في الزيادة بما ابتدأتَ منِ المعروف ولك عليًّ حقُ الاصطناع
والفضل والتَّنويه بالاسم والشكر وليس يمنعني عِلْمي بزيادة حقك على ما أبلغه من شُكرك من
مُساءلتك المَزيد إذ كنت قد انتهيتُ إلى ما بلغه المجهود وخرجتُ من منزله الإضاعة والتًقصير
وإذ كنتَ تسمح بالحق عليك وتَطيب نفسًا عن حقك وتُنكر اليَسير ولا تكفَف أحداً شُكرَك
على الكثير‏.‏

وفصل‏:‏ لك - أصلحًكَ الله - عندي أيادٍ تَشفع لي إلى محبَتك ومَعروف يُوجب عليك الرًبَّ
والإتمام‏.‏

وفصل‏:‏ أنا أسأل الله أن يُنجز لي ما لم تَزل الفِراسة تَعِدُنيه فيك‏.‏


وفصل‏:‏ قد أجلّ الله قَدْرك عن الاعتذار وأغناك في القول عن الاعتلال وأوجب علينا أن
نَقنع بما فعلتَ ونرضى بما أتيت وصلتَ أو قطعت‏.‏





فصول في الشكر
كتب محمدُ بن عبد الملك الزيات كتاباً عن المُعتصم إلى عبد اللهّ بن طاهر الخراسانيّ فكان في
فصل منه‏:‏ لو لم يكن من فَضل الشُّكر إلا أنك لا تراه إلا بين نِعمة مقصورة عليك أو زيادة
مُنتظرة لها الكَفَى‏.‏
ثم قال لمحمد بن إبراهم بن زياد‏:‏ كيف ترى قال‏:‏ كأنهما قُرطان بينهما وَجْه
حَسن‏.‏

وفصل للحسن بن وهب‏:‏ فَي شَكرك على درجة رفعتَه إليها أو ثَرْوة أفدتَه إياها فإنِّ
شكري لك على مُهجة أحْييتَها وحُشاشة أبقيتَها ورَمَق أمسكتَ به وقُمتَ بين التَلف وبينه‏.‏

فلكلّ نعمة من نِعم الدُّنيا حدٌ تنتهي إليه ومَدًى يُوقف عنده وغاية من الشُّكر يَسمو إليها
الطَرف خلا هذه النَعمة التي قد فاقت الوَصْفَ وطالت الشُكر وتجاوزت كل قَدْر وأتت
مِن وراء كل غاية ردتْ عنا كيدَ العدو وأرغمت أنف الحسود فنحن نلجأ منها إلى ظل
ظليل وكَنف كريم‏.‏
فكيف يشكر الشاكر وأين يبلغ جَهد المجتهد
وقال إبراهيم بن المهديّ يشكر المأمون‏:‏
رددتَ مالي ولم تَمنُن عليّ به وقَبل رَدٌك مالِي قد حَقَنْتَ دَمِي

فلو بذلتُ دمِي أبْغي رِضاك به والمالَ حتى أسُل النَعل من قَدمي
ما كان ذاك سِوَى عارية رَجعت إليك لو لم تعِرْها كنتَ لم تُلَم
البِرُّ بي مِنك وَطي العُذر عندك لي فيما أتيتُ فلم تَعتب ولم تَلُم
وقام عِلمًك بي يَحتَجُّ عندك لَي مقامَ شاهدِ عَدْلٍ غير مُتَّهم


فصول في البلاغة
كتب الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العبّاس‏:‏ وَصَل كِتابُك فما رأيتُ كِتاباً
أسهلَ فُنوناً ولا أملسَ مُتوناً ولا أكثر عيوناً ولا أحسن مقاطع ومطالعِ منه أنجزتَ فيه عِدَة
الرأي وبشرى الفِراسة وعاد الظن يقيناً والأمل مَبْلوغاً والحمدُ للّه الذي بنِعْمتِه تتمّ
الصالحات‏.‏

فصل‏:‏ الكلامُ كثيرةٌ فُنونه قليلةٌ عُيونه فمنه ما يُفكِّه الأسماعَ ويؤْنس القُلوب ومنه ما يُحمِّل
الآذانَ ثِقْلاً ويملأ الأذهان وحشة‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول في المدح
وكتب ابن مكرم إلى أحمد بن المُدبر‏:‏ إن جميع أكفائك ونُظرائك يَتنازعونَ الفضل فإذا انتَهْوا

إليك أقرُّوا لك ويَتنافسون في المنازل فإذا بلغوك وقفوا دونك فزادَك اللّه وزادنا بك وفيك
وجَعلنا ممن يَقبله رأيُك وُيقدمُه اختيارك ويقَع من الأمور بموقع مُوافقتك ويجري فيها على
سبيل طاعتك‏.‏

وفصل له‏:‏ إنّ من النَعمة على المثنى عليك أنه لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير ويأمن أنْ
تَلحقه نَقيصةُ الكذب ولا يَنتهي به المدحُ إلى غاية إلا وجد فضلَك تجاوزها‏.‏
ومن سعادة جدِّك
أن الدّاعي لا يعدم كثرة المشايعين له والمُؤمّنين منه
وفصل‏:‏ أَن مما يُطمعني في بقاء النعمة عندك ويَزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك أنك
أخذتَها بحقّها واستوجبتها بما فيك من أسبابها ومن شْأن الأجناس أنْ تتألف وشأن الأشكال
أنْ تتقارب وكل شيء يَتقلقل إلى مَعدنه ويَحن إلى عُنصره فإذا صادف منيتَه ونزل في
مَغْرسه ضَرب بعِرْقه وسفق بفَرْعه وتمكن تمكن الإقامة وتبنك تبنك الطبيعة‏.‏

وفصل‏:‏ إني فيما أتعاطى من مَدْحك كالمُخبر عن ضوء النهار الزاهر والقمر الباهر الذي لا
يَخفى على كل ناظر‏.‏
وأيقنتُ أني حيث انتهى بي القولُ مَنْسوب إلى العَجْز مقصر عن الغاية
فانصرفتُ من الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكَلْتُ الإخبار عنك إلى علم الناس بك‏.‏

وفصل‏:‏ لمحمد بن الجَهْم‏:‏ إنك لزِمتَ من الوفاء طريقةً محمودة وعرفتَ مناقبها وشُهرت

بمحاسنها فتنافس الإخوان فيك يَبتدرون وُدَّك ويَتمسّكون بحَبلك فمن أَثبت اللّه له عندك وُدًّا
فقد وُضعت خُلّته موضعَ حِرْزها‏.‏

وفصل لابن مكرم‏:‏ السيفُ العَتيق إذا أصابه الصّدا استغنى بالقليل من الجلاء حتى تعود جدّته
ويظهر فِرنده لِلِين طبيعته وكَرَم جَوْهره ولم أَصِف نفسي لك عُجباً بل شُكراً‏.‏

وفصل له‏:‏ زاد مَعْرُوفك عِندي عِظَماً أنه عِندك مَسْتورٌ حَقِير وعِند الناس مَشهور كبير‏.‏

أخذه الشاعر فقال‏:‏
زاد مَعْرُوفَك عِندي عِظَماً أنّه عِندك مَستور حَقِير
تَتَناساه كأنْ لم تَأْتِه وهو عند النَّاس مَشهور كَبير
وفصل العتَّابي‏:‏ أنت أيها الأمير وارثُ سَلفك وبقيًة أَعلام أهل بَيْتك المَسدود به ثَلْمهم
المُجدَّد به قديم شرفهم والمُحْيَا به أيام سَعْيهم‏.‏
وإنه لم يَخْمل من كنتَ وارثه ولا دَرست آثار
من كنت سالكَ سبيله ولا انمحت أعلام مَن خَلَفْتَه في رُتبته‏.‏



فصول في الذم
كتب أحمد بن يوسف‏:‏ أما بعد فإني لا أعرف للمعروف طريقاً أوعرَ من طريقه إليك

فالمَعروف لديك ضائع والشُّكر عندك مَهْجور وإنما غايتُك في المعروف أن تَحْقِره وفي وليّه أن
تَكْفره‏.‏

وكتب أبو العتاهية إلى الفَضْل بن مَعْن بنِ زائدة‏:‏ أما بعد فإنّي توسّلت في
طلب نائلك بأسباب الأمل وذرائع الحَمد فِراراً من الفَقر ورجاءَ للغنَى فازددتُ بهما بُعْداً
مما فيه تقرّبت وقُرِبا مما فيه تبعَّدت‏.‏
وقد قَسمتً اللائمة بيني وبينك لأني أخطأتُ في سُؤالك
وأخطأت في مَنْعي أمرتُ باليأس من أهل البخل فسألتُهم ونُهيتَ عن مَنع أهل الرغبة فمنعتَهم‏.‏

وفي ذلك أقول‏:‏
فررتُ من الفَقر الذي هو مُدْركي إلى بُخل مَحْظور النَوال مَنُوع
فأعقبني الحِرْمانَ غِبًّ مَطامعي كذلك مَن تَلْقاه غير قنوع
وغيرُ بديعِ مَنْع ذي البُخل مالَه كما بَذْلُ أهل الفَضل غيرُ بديع
إذا أنت كَشفت الرجالَ وجدتَهم لأعْراضهم منِ حافظٍ ومُضيع
وفصل لإبراهيم بن المهدي‏:‏ أما بعد فإنك لو عرفت فضل الحَسنِ لتجنبت
شَيْن القبيح ورأيتك آثَرُ القول عندك ما يضرُّك فكنتُ فيما كان منك ومنَا كما قال زهير بن
أبي سُلْمى‏:‏

عبأتَ له حِلْماً وأكرمتَ غيرَه وأعرضتَ عنه وهو بادٍ مَقاتلُه

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:43 AM

فصل
إنَ مودة الأشرار متصلةٌ بالذلّة والصَّغار تَميل معهما وتَتصرّف في آثارهما‏.‏
وقد كنتُ أحل مودتك بالمحل النَفيس وأنزلها بالمَنزل الرفيع حتى رأيتُ ذلتك عند الضِّعة
وضرَعك عند الحاجة وتغيّرك عند الاستغناء واطراحك لإخوان الصّفاء فكان ذلك أقوى
أسباب عُذْري في قطِيعتك عند مَن يتصفّح أمري وأمرك بعين عَدْل لا يَميل إلى هوى ولا يَرى
القَبيح حَسنا‏.‏


http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصل
للعتَّابي‏:‏ تأتيِّنا إفاقتك من سَكْرتك وترقًبنا انتباهك من وَقْدتك وصَبْرنا
على تجرّع الغيظ فيك‏.‏
فها أنا قد عرفتُك حق معرفتك في تَعدَيك لطَوْرك وأطراحك حقّ من
غَلِط في اختيارك‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول في الأدب
كتب سعيدُ بن حُميد‏:‏ إنَ مِن أمارات الْحَزْم وصحة الرأي في الرجل تركَه التماس ما لا سبيلَ
إليه إذ كان ذلك داعيةً لعناء لا ثمرة له وشقاء لا دَرَك فيه وقد سمحت في أمرٍ تُخبرك أوائلُه
عن أواخره وُينبيك بَدْؤُه عن عواقبه لو كان لهذا الخبر الصادق مُستمِع حازم‏.‏
ورأيتُ رائدَ

الهوى مال بك إلى هذا الأمر ميلًا أيأس من رَغب فيك ودل عدوّك على مَعايبك وكشف له
عن مَقاتلك‏.‏
ولولا عِلْمي بأنّ غِلْظة الناصح تؤدي إلى نَفْع في اعتقاد صواب الرأي لكان غير
هذا القول أولى بك‏.‏
والله يوفَقك لما يحب وُيوفق لك ما تحب
وفصل‏:‏ أنت رجل لسانُك فوق عقلك وذكاؤك فوق عَزْمك فقدم على نَفْسك مَن قدمك
على نفسه‏.‏

وفصل‏:‏ من أخطأ في ظاهر دُنياه وفيما يُؤخذ بالعين كان أحرى أن يُخطىء في أمر دينه وفيما
يُؤخذ بالعَقْل‏.‏

وفصل‏:‏ قد حَسدك مَن لا ينام دون الشِّفاء وطَلبك من لا ينام دون الظَّفر فاشدُد حيازيمَك
وكُن على حَذر‏.‏

وفصل‏:‏ قد آن أن تدعَ ما تَسمع بما تعلم ولا يكن غيرُك فيما يُبلِّغه أوثقَ من نفسك فيما تَعرفه‏.‏

وفصل‏:‏ لستَ بحال يرضىَ بها حُرّ ولا يُقيم عليها كريم وليس يَرْضى لك
بهذا إلا مَن يَبتغي لك أن ترْضى به‏.‏

وفصل‏:‏ أنت طالب مُقيم وأنا دافع مُغرم فإن كنتَ شاكراً فيما مضى فاعذُر فيما بقى‏.‏

وفصل‏:‏ للعتابي أما بعد فإن قريبك من قَرُب منك خيرُه وابن عمّك من عَمّك نفعُه وعشيرَك


http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول إلى عليل
ليست حالي - أكرمَك الله - في الاغتمام بعلتك حالَ المُشارِك فيها بأن ينالني نصيب منها
وأسلمُ مِن أكثرها بل اجتمع علي منها أني مخصوص بها دونك مُؤلَم منها بما يُؤلمك فأنا عليل
مَصْروف العِناية إلى عليل كأني سليم يسهر على سليم فأنا أسأل اللّه الذي جَعل عافِيتي في
عافيتك أن يخصني بها فيك فإنها شاملةٌ لي ولك‏.‏
وفصل‏:‏ إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك
قادر على المُدافعة عن حَوْبائك‏.‏
فلو قلتُ إن الحق قد سَقط عني في عِيادتك لأني عَليل بعلتك
لقام لي بذلك شاهدٌ عَدْل في ضميرك وأثر بادٍ في حالي لِعينك‏.‏
وأصدق الخَبر ما حقَقه الأثر
وأفضلُ القول ما كان عليه دليل مِن العقل‏.‏

وفصل‏:‏ لئن تخلَفتُ عنِ عيادتك بالعُذر الواضح مِن العفة لمَا أغْفَلَ قلبي ذِكْرَك ولا لساني
فَحْصاً عن خبرك فَحْص من تقسم جوارحَه وصبُك وزاد
في ألمها ألمُك ومن تَتّصل به أحوالُك في السّراء والضّراء‏.‏
ولما بَلغتْني إفاقتًك كتبتُ مُهنِّئاً
بالعافية مُعفِيًا من الجواب إلا بخَبرِ السلامة إن شاء اللهّ‏.‏

ولأحمد بن يوسف‏:‏ قد أذهب اللّه وَصَب العلَة ونصبها ووَفّر أَجْرها وثوابَها وجعل فيها من

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول إلى خليفة وأمير
منها‏:‏ كتب الحجَّاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ كُلّ من عنَّيت به
فِكْرتَك فما هو إلا سعيد يُوثْر أو شقيُّ يُوتر‏.‏

كتب الحسنُ بن لسَهْل يَصف عقل المأمون‏:‏ وقد أصبح أميرُ المُؤمنين عمودَ السِّيرة عفيفَ
الطُّعْمة كريمَ الشِّيمة مُبارك الضَّريبة محمودَ النَّقيبة مُوفِّيا بما أخذ اللّه عليه مُضطلعاً بما
حَمَّله منه مُؤدِّيا إِلى اللّه حقَّه مُقرًّا له بنِعْمته شاكراً لآلائه لا يأمُر إلا عَدْلا ولا ينطِق إلا
فَصْلا راعيا لدينه وأَمانته كافًّا ليده ولسانه‏.‏
وكتب محمدُ بن عبد الملك الزيّات‏:‏ إن حقّ
الأولياء على السلطان تنفيذُ أمورهم وتقويمُ أَودهم ورياضةُ أخلاقهم وأن يَميزَ بينهم فيقدِّم
مُحسنهم ويؤخَر مُسيئهم ليزدادَ هؤلاء في إحسانهم ويزدجر هؤلاء عن إساءتهم‏.‏

وفصل له‏:‏ إنّ أعظمَ الحقّ حقًّ الدِّين وأَوْجبَ الْحُرمة حُرمة المُسلمين‏.‏
فحَقِيق لمن راعَى ذلك
الحق وحَفِظ تلك الحُرمة أن يُراعَى له حَسب ما رعاه اللّه به ويُحْفظ له حَسب ما حَفظ اللّه
على يدَيه‏.‏

وفصل له‏:‏ إنّ اللّه أَوْجب لخُلفائه على عباده حقَّ الطاعة والنَّصيحة ولعَبيده

على خُلفائه بَسط العَدْل والرَّأفة وإحياءَ السُّنن الصالحة‏.‏
فإذا أدى كلٌّ إلى كلّ حقَّه‏.‏
كان
سببا لتمام المَعونة واتصال الزِّيادة واتساق الكلمة ودوام الألفة‏.‏

وفصل‏:‏ ليس من نِعمة يُجدِّدها اللّهُ لأمير المُؤمنين في نفسه خاصَّة إلا اتصلت
برعيته عامَّة وشَملت المُسلمين كافّة وعظُم بلاء اللهّ عندهم فيها ووجب عليهم شكرُه
عليها لأنّ الله جعل بنعمته تمام نعْمتهم وبتَدبيره وذَبّه عن دِينه حِفْظَ
حَريمهم وبحياطته حَقْنَ دمائهم وأمْن سبيلهم‏.‏
فأطال اللّه بقاء أمير المُؤمنين مُؤيَّداً بالنَّصر
معزّزاً بالتمكين مَوْصول البقاء بالنَّعيم المُقيم‏.‏

فصل‏:‏ الحمد للّه الذي جَعل أميرَ المُؤمنين معقودَ النِّية بطاعته مُنطوي القَلْب على مُناصحته
مشحوذ السَّيف على عدوّه ثم وَهب له الظفرِ ودوخ له البلاد وشرّد به العَدوّ وخصَّه
بشَرف الفُتوح شرقاً وغربا وبرًّاً وبحراً‏.‏

وفصل‏:‏ أفعال الأمير عندنا مَعْسولة كالأماني مُتَّصلة كالأيَّام ونحن نُواتر الشُكر لكريم فِعْله
ونُواصل الدُّعاء له مُواصلةَ برّه إنه الناهض بكَلِّنا والحامل لأعبائنا والقائم بما ناب من حُقوقنا‏.‏

وفصل‏:‏ أما بعد فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره ولا يخلو من إحدى منزلتين ليس في
واحدة منهما عُذر يوجب حُجَّة ويُزيل لائمة‏:‏ إمَّا تَقصيرٌ في عمل دعاك للإخلال بالحَزْم

والتَّفريط في الواجب وإمَا مُظاهرة لأهل الفساد ومُداهنة لَأهلِ الرِّيب‏.‏
وأيّة هاتين كانت منك
لمُحِلّة النُّكْر بك ومُوجبة العُقوبة عليك لولا ما يلقاك به أميرُ المؤمنين من الأناة والنَّظِرة والأخْذ
بالْحُجة والتقدّم في الإعذار والإنذار‏.‏
وعلى حَسب ما أقِلْتَ من عَظيم العَثْرة يجب اجتهادُك
في تلافي التَّقصير والإضاعة والسلام‏.‏

وكتب طاهرُ بن الحُسين حين أَخذ بغداد إلى إبراهيم بن المهديّ‏:‏ أما بعد
فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى أحد من بَيت الخِلافة بغير كلام الإمرة وسَلامها غيرَ أنه بلغني عنك
أنك مائلُ الهوى والرأي للناكث المَخلوع فإن كان كما بَلغني فكثيرُ ما كتبت به قليلٌ لك وإن
يكن غيرَ ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمةُ اللّه وبركاته‏.‏
وقد كتبتً في أسفل كتابي أبياتاً
فتدبَّرها‏:‏
رُكوبُك الهَوْلَ ما لم تُلْفِ فُرْصته جَهل رَمى بك بالإقحام تَغريرُ
أهْوِنْ بدُنيا يُصيب المخطئون بها حظ المصيبين والمَغرورُ مَغرور
فازرع صوابا وخُذ بالحَزْم حَيْطته فلن يُذَمّ لأهل الْحَزم تَدبير
فإنْ ظَفرِت مُصيباً أو هَلكتَ به فأنتَ عند ذوي الألباب مَعذور
وإن ظَفِرت على جَهلً فَفُزتَ به قالوا جَهولٌ أعانتْه المَقادير

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصل
للحسن بن وهب‏:‏ أما بعد فالحمدُ للّه مًتمِّم النَعم برحمته الهادي إلى شُكره بفَضله
وصلّى اللّه على سيدنا محمد عبدِه ورسوله الذي جَمع له من الفضائل ما فَرّقه في الرُّسل قبلَه
وجَعل تُراثَه راجعاً إلى من خَصّه بخلافته وسلّم تسليما‏.‏


http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif فصول لعمرو بن بحر الجاحظ
منها فصول في عتاب‏:‏ أما بعد فإنّ المُكافأة بالإحسان فَريضة والتفضّلَ على غير ذوي
الإحسان نافلة‏.‏

أما بعد فليكن السكوتُ على لسانك إن كانت العافيةُ من شأنك‏.‏

أما بعد فلا تَزهد فيمن رَغب إليك فتكون لحظّك مُعاندا وللنعمة جاحدا‏.‏

أما بعد فإنَّ العقل والهوى ضدان فقَرينُ العقل التوفيق وقَرينُ الهوى الخِذْلان والنفسُ طالبة
فبأيهما ظَفِرتْ كانت في حِزْبه‏.‏

أما بعد فإنً الأشخاصَ كالأشجار والحركاتِ كالأغصان والألفاظَ كالثمار‏.‏

أما بعد فإن القلوب أوعية والعقولَ معادن فما في الوعاء يَنفد إذا لم يُمدّه المعدن‏.‏

أما بعد فكَفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عِظة وبأخلاق مَن عاشرت مَعرفة وبذِكرك
الموت زاجرا‏.‏

أما بعد فإن احتمال الصبر على لَذع الغَضب أهونُ من إطفائه بالشَّتم والقَذع‏.‏

أما بعد فإن أهل النَظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب وما عَظمت

نِعْمة امرىء إلا استغرقت الدنيا همتُه ومَن فَرغ لطلب الآخرة شُغله جعلَ الأيام مطايا عمله
والآخرة مَقيل مُرتحله‏.‏

أما بعد فإن الاهتمام بالدنيا غيرُ زائد في الرزق والأجل والاستغناءَ غير ناقص للمقادير‏.‏

أما بعد فإنه ليس كل مَن حَلُم أمسك وقد يُستجهل الحليم حين
يستخفه الهُجر‏.‏

أما بعد‏:‏ فإن أحببتَ أن تَتم لك المِقةُ في قلوب إخوانك فاستقلّ كثيراً مما توليهم‏.‏

أما بعد فإن أنظر الناس في العاقبة مَن لَطُف حتى كف حربَ عدوه بالصَّفح والتجاوز
واستلّ حقدَه بالرفق والتحبب‏.‏

وكتب إلى أبي حاتم السِّجِسْتاني وبلغه عنه أنه نال منه‏:‏ أما بعد فلو كففتَ عنّا من غَرْبك
لكنا أهلاً لذلك منك والسلام‏.‏
فلم يَعُد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح‏:‏
وله فصول في وصاة‏:‏ أما بعد فإن أحق فَي أسعفتَه في حاجته وأجبته إلى طَلِبته مَن توسّل
إليك بالأمل ونَزع نحوك بالرجاء‏.‏

أما بعد فما أقبحَ الأحدوثة من مُستمنح حَرمْتَه وطالبِ حاجة رددتَه ومًثابر حَجبتَ
ومُنبسط إليك قبضتَه ومُقبل إليك بعًنانه لويتَ عنه‏.‏
فتثبَّت في ذلك ولا تُطِع كل حلاَّف مهين

أما بعد فإن فلاناً أسبابه متَصلة بنا يُلزمنا ذِمامُه عندنا بُلوغَ موافقته من أياديك وأنت لنا
مَوضع الثقة من مًكافأته‏.‏
فأولنا فيه ما نَعرف به موقعَنا من حُسن رأيك ويكون مُكافأةً لحقِّه
علينا‏.‏

أما بعد فقد أتانا كتابُك في فلان وله لدينا من الذًمام ما يُلزمنا مكافأته ورعايةَ حقه ونحن
من العناية بأمره على ما يُكافى حُرمته ويؤدي شكره‏.‏

وله فصول في استنجاز وعد‏:‏ أما بعد فقد رَسفنا في قُيود مواعيدك وِطال مقامنا في سُجون
مَطْلك فأطلِقنا - أبقاك الله - من ضِيقها وشديد غمَها بنعَمْ منك مُثمرة أو لا مُريحة‏.‏

أما بعد فإن شجرة مواعيدك قد أورقت فليكن ثمرُها سالماً من جَوائِح المَطْل‏.‏

أما بعد فإنَ سحابَ وَعْدك قد بَرقت فليكن وَبْلها سالماً من صواعق المَطل
والاعتلال‏.‏

وله فصِول في الاعتذار‏:‏ أما بعد فنِعْمَ البديلُ من الزلة الاعتذار وبئس العِوَضُ من التَوبة
الإصرار‏.‏

أما بعد فإنّ أحقَّ منِ عَطفت عليه بحِلمك مَن لم يَتشفَّع إليك بغيرك‏.‏

أما بعد فإنه لا عوض من إخائك ولا خَلف من حُسن رأيك وقد انتقمتَ مني في زلَّتي

أما بعد فإنني بمَعرفتي بمبلغ حِلْمك وغاية عَفوك ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك‏.‏

أما بعد فإنَّ مَن جَحد إحسانَك بسوء مَقالَته فيك مًكذِّب نفسه بما يبدو للناس
أما بعد فقد مَسَّني من الألم بقطيعتك ما لا يشفيه غيرُ مُواصلتك مع حَبْسك الاعتذار من
هَفوتك لكن ذَنبك تغتفره مودّتك فان علينا بصلَتك تكن بدلًا مِن مَساءتك وعِوَضاً من
هَفْوتك‏.‏

أما بعد فلا خيرَ فيمن استغرقت موجدتُه عليك قَدْرَ ليُ عنده ولم يتّسع لِهنات الإخْوان
صدرُه‏.‏

أما بعد فإن أوْلى الناس عندي بالصَفح مَن أسلمه إلى مِلكك التماس رضاك من غير مَقدرة
منك عليه‏.‏

أما بعد فإن كنت ذمَمتَني على الإساءة فلمَ رَضيت لنفسك المكافأة‏.‏

وله فصول فيِ التعازي‏:‏ أما بعد فإنَّ الماضيَ قَبْلك الباقيَ لك والباقيَ بعدك المأجورُ فيك
وإنما يُوفِّى الصابرون أجرَهم بغير حِساب‏.‏

أما بعد فإنَّ في اللّه العَزاء من كل هالك والخَلف من كل مصاب وإن من
لم يتعزّ بعزَاء اللّه تَنقطع نفسه على الدنيا حَسْرة‏.‏


أما بعد فإنَّ الصبر يعقبه الأجر والجَزع يَعقبه الهلعً فتمسَّك بحظّك من الصبر تَنل به الذي
تطلب وتُدرك به الذي تَأمل‏.‏

أما بعد فقد كفى بكتاب الله واعظاً ولذَوي الألباب زاجراً فعليك بالتلاوة
تَنْج مما أوعد الله به أهلَ المعصية‏.‏

صدور إلى خليفة‏:‏ وَفق الله أميرَ المؤمنين بالظفر فيما قلّد وأيّده وأصلح به
وعلى يديه - أكرم اللهّ أميرَ المؤمنين بالظَّفر وأيده بالنَّصر قي دوام نعْمته وحاط الرعيًة بطول
مدته‏.‏

صدور إلى ولي عهد‏:‏ مَتَّع اللهّ أميرَ المؤمنين بطُول مدًّة الأمير وأجرى على يديه فِعْل الجميل
وانسَ بولايته المؤمنين - مدَّ اللّه للأمير النِّعمة وأسعد بطُول عمره
الأمة وجعله غياثاً ورَحمة - أكمل اللهّ له الكرامة وحاطه بالنِّعمة والسلامة ومتَع به الخاصّة
والعامَّةَ - متَّع اللهّ بسَلامتِك أهلَ الحرْمة وجَمع لك شَمْل الأمة‏.‏
واستَعْمَلك بالرَأفَةِ والرحمة‏.‏

صدور إلى ولي شرطة‏:‏ أنصف اللهّ بك المظلوم وأغاث بك الملهوف وأيَّدك بالتثبّت ووفّقك
للصواب - أرشدك اللّه بالتوفيق وأنطقك بالصواب وجعلك عِصمة للدِّين وحصناً للمسلمين
- أعانك اللهّ على ما قلّدك وحَفظ لك ما استعملك بما يًرضي من فعلك - سدَّدك اللّه

وأرشدك وأدام لك فضل ما عَوّدك - زادك اللهّ شرفاً في المنزلة قدراً في قلوب الأمة وزُلفة
عِند الخليفة - نصر اللهّ بعدلك المظلوم وكشف بك كربة الملهوف وأعانك على أداء الحقَوق‏.‏

صدور إلى قاضي‏:‏ ألهمك اللّه الحُجة وأيدك بالتثبّت وردّ بك الحقوق‏.‏
- ألهمك اللّه
الاعتصام بحَبله بالعلم والتثبّت في الحُكم - ألهمك اللهّ الحِكْمة وفَصل الخطاب وجلك إماماً
لذوي الألباب - زيَّن اللّه بفَضلك الزِّمان وأنطق بشُكرك اللسان وبَسط يدك في اصطناع
المعروف وأدام اللّه لك الإفضال وحقّق فيك الآمال‏.‏

صدور إلى عالم‏:‏ جَعل اللهّ لك العِلْم نوراً في الطاعة وسبباً إلى النجاة وزُلفة عند اللهّ - نفع
اللهّ بعلمك المستفيدين وقضى بك حوائج المُتحرّمين وأوضح بك سُنن الدّين وشرِائع المُسلمين
- أدام اللّه لك التطوّل بإسعاف الراغب وأنجح بك حاجة الطالب وأمِّنك مكروه العواقب‏.‏

صدور إلى أخوان‏:‏ مَتًّع الله أبصارنا برُؤيتك وقلوبنا بدوام الفتك ولا أَخْلانا من جَميل
عِشْرتك ووَهب لك من كريم نَفسك بحسب ما تنطوي عليه مودّتك وأبهج اللّه إخوانك بقُربك
وجمع ألفتهم بالأنس بك وصَرف اللّه عن ألفتنا عواقبَ القدَر وأعاذ صَفْو إخائنا من الكَدر
وجعلنا ممن أنعم اللهّ عليه فشَكر - مَنَّ اللّه علينا بطول مُدتك وآنس أيامنا بمواصلتك وهنأنا
النِّعمة بسلامتك - قَرّب اللّه منّا ما كُنا نأمل منك وجَمع شِمل السُّرور بك - نَزَّه اللهّ بقُربك

القلوب وبرُؤيتك الأبصار وبحديثك الأسماع - أقبل اللّه بك على أودَّائك ولا ابتلاهم بطُول
جفائك - أدال اللهّ حِرْصَنا من فُتورك عنّا ورَغبتنا فيك من تَقصيرك في أمورنا - حَفظ اللّه
لنا منك ما أَوْحشنا فقدُه وردّ إلينا ما كُنا نَألفه ونَعهده - رحم الله فاقةَ الحَنين إليك وما بي
من تَباريح الحُزن عليك وجَعل حُرمتنا منك الشًفيعَ لديك - يَسَر الله لنا من صَفحك ما يَسع
تقصيرنا ومن حلمك ما يرد سخطك عنّا زَين الله ألفتنا بمُعاودة صِلتك واجتماعنا بزيارتك -
أعادَ اللهّ علينا من إخائك وجميل رأيك ما يكون معهوداً منك ومألُوفاً لك‏.‏

صدور في عتاب‏:‏ أنصف الله شوقنا إليك من جَفائك لنا وأخذ لبرنا بك من تَقصيرك عنّا‏.‏

وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص وبلغه عنه أمر‏:‏ وفّقك اللهّ لرًشدك‏.‏

بلغني كلامُك فإذا أوّله بَطر وآخره خَوَر ومن أبطره الغِنى أذلّه الفقر وهما ضدَّان مُخادعان
للمرء عن عَقله وأولى الناس بمَعرفة الدَّواء من يَبين له الداء والسلام‏.‏
فأجابه‏:‏ طاولتْك النِّعمِ
وطاولت بك‏.‏
عُلو إنصافك يُؤمَن سطوة جَورِك ذكرتَ أني نطقتُ بما تكره وأنا مخدوع وقد
علمتُ أني مِلْت إلى محبتك ولم أخدع ومثلُك من شَكر سعي مُعتذر وعفا زَلّة مُعترف‏.‏


http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء
وتواريخهم وأيامهم
قال الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه الله‏:‏ قد مَضى لنا قولُنا في التوقيعات
والفصول والصدور والكتابة وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم وأيامهم وأسماء
كُتّابهم وحجابهم‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif أخبار الخلفاء
نسب المصطفى
صلى الله عليه وسلم
رَوى أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه‏:‏ هو
محمدٌ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المُطلب بن هاشم ابن عبد مَناف
بن قُصيّ بن كِلاَب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة بن
خُزيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عَدْنان‏.‏
وأمه آمنةُ بنت وهب بن عبد

مولد النبي
صلى الله عليه وسلم - قالوا‏:‏ وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
الفيل لاثنتي عشرةَ ليلةً خلت
من ربيع الأول‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ لليلتين خَلَتا منه‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ بعد الفِيل بثلاثين يومًا‏.‏
فهذا
جَمع ما اختلفوا فيه عن مولده‏.‏
وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاماً‏.‏
وأقام بمكة عشرًا
وبالمدينة عشرا‏.‏
وقال ابن عبّاس‏:‏ أقام بمكة خمسَ عشرَة وبالمدينة عشرا‏.‏
والمُجمع عليه أنه أقام
بمكة ثلاثَ عشرةَ وبالمدينة عشرا‏.‏

اليوم والشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة يومَ الاثنين لثلاث عشرة
خلت من ربيع الأول‏.‏
ومات يومَ الاثنين لثلاثَ عشرةَ خلت من ربيع الأول اليوم والشهر الذي
هاجر فيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

جعلنا اللّه ممن يرد حوضَه وينال مُرافقته في أعلى عِليين من درجات الفِرْدوس وأسأل اللّهَ
الذي جعلنا من أمته ولم نَره أن يتوفّانا على مِلّته ولا يَحْرمنا رُؤْيته في الدُّنيا والآخرة‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif صفة النبي صلى الله عليه وسلم
- رَبيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان

رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أبيضَ مُشرباً حُمرة ضَخم الرأس أزجَّ الحاجبين عظيمَ
العينين أدعجَ أهدبَ شثْن الكّفين والقدمين‏.‏
إذا مشى تكفّأ كأنما ينحطّ من صَبَب ويَمْشي في
صُعد كأنما يتقلّع من صَخر‏.‏
إذا التفت التفت جميعا‏.‏
ليس بالجَعْد القَطَط ولا السَّبْط‏.‏
ذا وَفْرة
إلى شحمة أُذنيه‏.‏
ليس بالطَّويل البائن ولا بالقصير المُتطامن‏.‏
عَرْفه أطيبُ من المسك الَأذْفر‏.‏
لم
تَلد النساءُ قبله ولا بعده مثلَه‏.‏
بين كَتفيهَ خاتَمُ النبوّة كبَيضة الحمَامة‏.‏
لا يَضْحك إلا تَبسُّماً‏.‏
في
عَنْفقته شعرات بيض لا تكاد تبين‏.‏
وقال أنس بن مالك‏:‏ لم يبلغ الشيبُ الذي كان برسول اللهّ
صلى الله عليه وسلم عشرين شِعرة‏.‏
وقيل له‏:‏ يا رسول اللّه عجّل عليك الشيّب‏.‏
قال‏:‏
شَيَّبتني هودٌ وأخواتُها‏.‏

هيئة النبي وقعدته
صلى الله عليه وسلم - كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض ويجلس على
الأرض
ويمشي في الأسواق ويلبس العَبَاءة ويُجالس المساكين ويَقْعد القُرفصاء ويتوسّد يدَه ويلْعق
أصابعَه ولا يأكل مُتَّكئا ولم يُرقطُّ ضاحكاً مِلْء فيه‏.‏
وكان يقول‏:‏ إنما أنا عبد آكلُ كما يأكل

شرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنا سيّد البَشر ولا
فَخْر وأنا أفصحُ العرب وأنا أوّل مَن يَقرع بابَ الحنة وأنا أول من يَنشقّ عنه التراب‏.‏
دعا لي
إبراهيم وبشرّ بي عيسى ورأت أمي حين وَضعتني نُورًا أضاء لها ما بين المَشرق والمغرب‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ اللّه خَلق الخَلْق فجعلني في خير خَلْقه وجعلهم فِرَقاً فجعلني في
خَيرهم فِرْقة وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بُيوتا فجعلني في خَير بيت فأنا
خيرُكم بيتاً وخيرُكم نَسبا‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏.‏
أنا ابن الفواطم والعَواتك من سُليم
واستُرضعتُ في بني سعد بن بكر‏.‏
وقال‏:‏ نَزل القرآن بأعرب اللّغات فلكل العرب فيه لغة ولبني
سَعد بن بكر سبعُ لغات‏.‏
وبنو سعد ابن بكر بن هوازن أفصحُ العرب فهم من الأعجاز وهي
قبائلُ من مُضر متفرقة وكانت ظِئْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعتْه حليمةُ بنت أبي
ذُؤيب من بني ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سَعد بن بكر بن هوازن‏.‏
وإخوته في الرّضاعة‏:‏
عبد اللهّ بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وخِذامة بنت الحارث وهي التي أتى بها النبيّ صلى
الله عليه وسلم في أَسْرى حُنين فَبسط لها رداءه ووهب لها أَسرى قومها‏.‏
والعواتك من سُليم
ثلاث‏:‏ عاتكة بنت مُرّة ابن هلال ولدت هاشماَ وعبدَ شمس ونوفلاً وعاتكة بنت الأوقص بن
هلال ولدت وَهْب بن عبد مناف بن زهرة وعاتكة بنت هِلٍال بن فالج‏.‏
وقال عليّ للأَشعث

إذ خَطب إليه‏:‏ أَغرّك ابن أبي قُحافة إذ زَوَّجك أمّ فَروَة وإنها لم تكن من الفواطم من قُريش ولا
العواتك من سُلَيم‏.‏


أبو النبي
صلى الله عليه وسلم - عبدُ اللّه بن عبد المُطّلب ولم يكن له ولدُ غيرًه صلى الله
عليه وسلم وتُوفي وهو في بَطن أمه‏.‏
فلما وُلد كَفله جدُّه عبدُ المًطلب إلى أن توفِّي
فكَفله عمُّه أبو طالب وكان أخا عبد اللهّ لأمه وأبيه فمن ذلك كان أشفقَ أعمام النبيّ
صلى الله عليه وسلم وأَوْلاهم به‏.‏
وأمّا أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم وعَمّاته فإنّ
عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصُلبه عشرة من الذُّكور وستّة من الإناث‏.‏

وأسماء بنيه‏:‏ عبدُ اللهّ والد النبيّ عليه الصلاة والسلام والزبير وأبو طالب واسمه
عبدُ مَناف والعبّاس وضِرار وحَمزة والمُقوِّم وأبو لهَب واسمه عبد العُزّى
والحارث والغَيداق واسمه حجل وقال نَوفل‏.‏
وأسماء بناته عمّات النبيّ صلى الله
عليه وسلم‏:‏ عاتكة والبَيضاء وهي أم حكيم و بَرة وأميمة وأروى وصَفيّة‏.‏

ولد النبي
صلى الله عليه وسلم - وُلد له من خَديجة‏:‏ القاسمُ والطيب وفاطمةُ وزَينب ورُقَية

أزواجه
صلى الله عليه وسلم - أولهن خديجةُ بنت خُويلد بن أسد بن عَبْد العُزى ولم يتزوج عليها
حتى ماتت‏.‏
ثم تزوِّج سَوْدة بنت زَمْعة وكانت تحت السكران بن عمرو وهو من مهاجرة
الحَبشة فمات ولم يُعقب فتزوجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده‏.‏
ثم تزوّج عائشةَ بنت أبي
بكر بِكراً ولم يتزوّج بِكرًا غيرها وهي ابنة ستّ وابتنى عليها ابنة تسع وتُوفي عنها وهي ابنة
ثمانِ عشرةَ سنة وعاشت بعده إلى أيام معاوية وماتت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت
السبعين ودُفنت ليلاً بالبقيع وأوصت إلى عبد اللّه بن الزًبير‏.‏
وتزوَّج حفصةَ بنت عمرَ بن
الخطاب وكانت تحت خُنيس بن حُذافة السَّهمي وكان رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم
أرسله إلى كِسرى ولا عَقِب له‏.‏
ثم تزوج زينَبَ بنت خُزيمة من بني عامر بن صعصعة وكانت
تحت عُبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب أول شهيد كان ببدر‏.‏
ثم تزوّج زينب بنت جَحش
الأسدية وهي بنت عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي أوّل مَن مات من أزواجه في خلافة
عُمر‏.‏
ثم تزوّج أم حَبيبة واسمعها رَمْلة بنت أبي سُفيان وهي أختُ معاوية وكانت تحت
عُبيد الله بن جَحش الأسدي فتنصر ومات بأرض الحبشة‏.‏
وتزوّج أم سَلمة بنت أبي أمية بن

المُغيرة المخزوميّ وكانت تحت أبي سَلمة فتُوفي عنها وله منها أولاد وبقيت إلى سن تسع
وخمسين‏.‏
وتزوَّج ميمونة بنت الحارث من بني عامر بن صَعصعة وكانت تحت أبي رُهم
العامرِيّ‏.‏
وتزوّج صفية بنت حُييِّ بن أخطب النًضرية وكانت تحت رجل من يهود خيبر يقال
له كِنانة فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُنقه وسَبى أهله‏.‏
وتزوّج جُويرية بنت
الحارث وكانت من سَبي بني المُصطلق‏.‏
وتزوْج خَولة بنت حَكيم وهي التي وَهبت نفسها للنبيّ
صلى الله عليه وسلم‏.‏
وتزوّج امرأة يقال لها عمْرة فطلقها ولم يَبْن بها وِذلك أن أباها قال له‏:‏
وأزيدك أنّها لم تمرض قطْ‏.‏
فقال‏:‏ ما لهذه عند اللّه من خير
فطلقها‏.‏
وتزوّج امرأة يقال لها‏:‏ أميمة بنت النعمان فطلقها قبل أن يَطأها‏.‏
وخَطب امرأة من
بني مُرة بن عَوْف فردّه أبوها وقال‏:‏ إنّ بها بَرَصا‏.‏
فلما رجع إليها وجدها بَرْصاء‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وخدامه
- كُتّاب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ زيْد بن
ثابت ومُعاوية بن أبي سُفيان وحَنْظلة بن الربيع الأسديّ وعبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح
ارتد ولحق بمكة مُشركا‏.‏
وحاجبُه‏:‏ أبو أنسة مولاه وخادمه‏:‏ أنس بن مالك الأنصاريّ ويكنى

أبا حَمزة‏.‏
وخازنُه على خاتَمه‏:‏ مُعيقيب بن أبي فاطمة‏.‏
ومؤذّناه‏:‏ بلال وابن أم مَكتوم‏.‏

وحُرّاسه‏:‏ سعدُ بن زَيد الأنصاري والزُّبير بن العوام وسَعد بن أبي وقّاص‏.‏
وخاتَمه فِضّة
وفصّه حبشيّ مكتوب عليه‏:‏ محمد رسول اللّه في ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر ورسول سطر
واللهّ سطر‏.‏
وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وبه تَختّم أبو بكر
وعُمر وتَختّم به عثمانُ ستةَ أشهر ثم سقط منه في بئر ذي أرّوَان فطُلب فلم يوجد‏.‏

وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم - توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاثَ عشرة ليلةً خلت من ربيع
الأول
وحُفر له تحت فِراشه في بيت عائشة‏.‏
وصلى عليه المسلمون جميعاً بلا إمام الرجالُ ثم النساء
ثم الصِّبيان ودُفن ليلةَ الأربعاء في جوف الليل ودَخل القبرَ عليٌ والفَضل وقُثَم ابنا العبّاس
وشُقْران مولاه ويقال‏:‏ أسامة بن زيد وهم تولّوا غسلَه وتَكفينه وأمره كلَّه وكفن في ثلاثة أثواب
بيض سَحُولية ليس فيها قميصٌ ولا عِمامة‏.‏
واختلف في سِنَه‏.‏
فقال عبد اللهّ ابن عبَّاس
وعائشةُ وجريرُ بن عبد اللهّ ومعاوية‏:‏ توفي وهو ابن ستين سنة‏.‏
وقال عُروة بن الزُبير وقَتادة‏:‏

نسب أبي بكر الصديق وصفته
رضي اللّه عنه
هو عبد اللّه بن أبي قُحافة واسم أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كَعب بن سَعد بن تَيم بن
مُرة وأمه أمُّ الخَير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سَعد بن تيم بن مُرة‏.‏

وكاتبُه‏:‏ عثمان بن عفَّان‏.‏
وحاجبُه‏:‏ رشيدٌ مولاه‏.‏
وقيل‏:‏ كتب له زيدُ بن ثابت أيضاً‏.‏
وعلى
أمره كلّه وعلى القضاء عمرُ بن الخطّاب وعلى بيت المال أبو عُبيدة بن الجَرّاح ثم وجّهه إلى
الشام‏.‏
ومُؤذّنه‏:‏ سعدُ القَرَظ مولى عمار بن ياسر‏.‏

قيل لعائشة‏:‏ صِفي لنا أباك‏.‏
قالت‏:‏ كان أبيَض نحيفَ الجسم خفيفَ العارضين أحنى لا
يستمسك إزاره مَعروق الوجه غائر العينين ناتىء الجبهة عاري الأشاجع أقرع‏.‏
وكان عمر
بن الخطاب أصلع‏.‏
وكان أبو بكر يَخْضب بالحنّاء والكَتَم‏.‏
وقال أبو جعفر الأنصاريّ‏:‏ رأيتُ أبا
بكر كأنّ لِحْيته ورأسَه جَمر الغَضىَ‏.‏
وقال أنس بن مالك قَدِم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم
المدينةَ وليس في أصحابه أَشمطُ غَيْر أبي بكر‏.‏
فغّلفها بالحِنّاء والكَتَم‏.‏

وتوفيَ مساء ليلة الثلاثاء لثمانِ ليالٍ بَقين من جُمادى الآخرة سنةَ ثلاثَ عشرةَ من التاريخ‏.‏


خلافة أبي بكر رضي الله عنه - شُعبة عن سَعد بن إبراهيم عن عُروة عن عائشة‏:‏ إنّ النبيّ
صلى الله عليه وسلم قال في مَرضه‏:‏ مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس‏.‏
فقلتُ‏:‏ يا رسولَ اللّه إنَّ أبا
بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع الناسَ من البُكاء فَمُر عُمرَ فليصلِّ بالناس‏.‏
قال‏:‏ مُروا أبا بكر
فَلْيصلِّ بالناس‏:‏ قالت عائشة‏:‏ فقلتُ لِحَفصة‏:‏ قُولي له‏:‏ إنَ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع
الناس من البكاء فمُر عُمر ففعلت حفصة‏.‏
فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ مه‏!‏ إنكن
صواحبُ يوسف مُروا أبا بكر فَلْيصل بالناس‏.‏

أبو جَعدة عن الزُّبير قال‏:‏ قالت حفصة‏:‏ يا رسولَ اللّه إنك مَرِضتَ فقدَّمت أبا بكر‏.‏
قال‏:‏
لستُ الذي قدمتُه ولكنّ اللّه قَدّمه‏.‏

أبو سَلمة عن إسماعيل بن مُسلم عن أنس قال‏.‏
صلَّى أبو بكر بالنّاس ورسولُ اللّه صلى الله
عليه وسلم مريض ستةَ أيام‏.‏

النضرُ بن إسحاق عن الحَسن قال‏:‏ قيل لعليّ‏:‏ علامَ بايعتَ أبا بكر فقال‏:‏ إنَّ رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم لم يَمُت فَجْأة كان يَأْتيه بلالُ في كل يوم في مَرضه يُؤذّنه بالصلاة فيأمر أبا بكر
فيصلِّي بالناس وقد تَركني وهو يَرى مكاني فلما قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَضي
المسلمون لدنياهم مَن رَضيه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لدينهم فبايعوه وبايعتُه‏.‏


ومن حديث الشَّعبيّ قال‏:‏ أَوَّل مَن قَدِم مكةَ بوفاة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي
بكر عبدُ ربّه بن قيس بن السائب المَخزوميّ فقال له أبو قُحافة‏:‏ مَن ولي الأمر بعده قال‏:‏ أبو
بكر ابنك‏.‏
قال‏:‏ فرضي بذلك بنو عبد مَناف قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لا مانعَ لما أَعطى الله ولا
مُعطيَ لما مَنع اللّه‏.‏

جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال‏:‏ تُوفي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان
غائب في مَسعاة أخرجه فيها رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم فلما انصرف لقي رجلاً في
بعض طر مُقبلاً من المدينة فقال له مات محمد قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فمن قام مَقامه قال‏:‏ بكر‏.‏

قال أبو سفيان‏:‏ فما فعل المُستضعفان عليّ والعبّاس قال‏:‏ جالسين‏.‏
قال‏:‏ أما واللهّ لئن بقِيت
لهما لأرفعنّ من أعقابهما ثم قال‏:‏ إني أرى غَيرةً لا يُطفئها إلا دم‏.‏
فلما قدم المدينةَ جعل يطوف
في أزقّتها ويقول‏:‏
بني هاشم لا تَطمع الناسُ فيكم ولا سيما تَيمُ بن مُرة أو عَدِي
فما الأمرُ إلا فيكمُ وإليكمُ وليس لها إلا أبو حَسن عَلى
فقال عمر لأبي بكر‏:‏ إنّ هذا قد قَدم وهو فاعل شرًّا وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم
يستألفه على الإسلام فدَع له ما بيده من الصَّدقة فَفَعل‏.‏
فرضي أبو سفيان وبايعه‏.‏


سقيفة بني ساعدة
أحمد بن الحارث عن أبي الحَسن عن أبي مَعشر عن المَقْبريّ‏:‏ أن المهاجرين بينما هم في حُجرة
رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وقد قَبضه اللهّ إليه إذ جاء مَعْن بن عديّ وعُويم ساعدة
فقالا لأبي بكر‏:‏ بابً فِتْنة إن يُغلقه اللهّ بك هذا سعدُ بن عُبادة والأنصار يُريدون أن يُبايعوه‏.‏

فَمضى أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة حتى جاءوا سَقيفة بني ساعدة وسَعد على طِنّفس مُتكئاً
على وِسادة وبه الحًمّى فقال له أبو بكر‏:‏ ماذا ترى أبا ثابت قال‏:‏ أنا رجلٌ منكم‏.‏
فقال
حُباب بن المُنذر‏:‏ منّا أمير ومنكم أمير فإنّ عمل المُهاجريّ في الأنصاري شيئاً ردّ عليه وإن
عمل الأنصاريُّ في المهاجري شيئاً رد عليه وإن لم تَفعلوا فأنا جذيلها المُحكّك وعُذَيقها
المُرجّب لَنُعيدنَّها جَذَعة‏.‏

قال عمر‏:‏ فأردتُ أن أتكلم وكنتُ زَوّرت كلاماً في نفسي‏.‏
فقال أبو بكر‏:‏ على رِسْلك يا
عمر فما ترَك كلمةً كنتُ زوَّرتها في نَفسي إلا تكلّم بها وقال‏:‏ نحن المهاجرون أول الناس
إسلاماً وأكرمُهم أحساباً وأوسَطُهم داراً وأحسنُهم وُجوهاً وأمسُّهم برسول اللّه صلى الله
عليه وسلم رَحِماً وأنتم إخوانُنا في الإسلام وشُركاؤنا في الدَين نَصرتم وواسيتم فجزاكم اللهّ

خيراً فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تَدين العربُ إلا لهذا الحيّ من قُريش فلا تَنْفَسوا على
إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم اللّه به فقد قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ الأئمة من
قُريش‏.‏
وقد رضيت لكم أحدَ هذين الرجلين - يعنى عمرَ ابن الخطاب وأبا عُبيدة بن الجَراح -
فقال عمر‏:‏ يكون هذا وِأنتَ حيّ‏!‏ ما كان أحد لِيُؤخّرك عن مَقامك الذي أقامك فيه رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم ثُم ضرب على يده فبايعه وبايعه الناس وازدحموا على أبي بكر‏.‏
فقالت
الأنصار‏:‏ قتلتم سعداً‏.‏
فقال عمر‏:‏ اقتُلوه قَتله الله فإنه صاحبُ فتنة‏.‏
فبايع الناسُ أبا بكر
وأتوا به المسجدَ يُبايعونه فسمع العبّاسُ وعليٌّ التَكبيرَ في المسجد ولم يَفرُغوا من غَسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال عليّ‏:‏ ما هذا قال العّباس‏:‏ ما رُئِي مثلُ هذا قطّ أما قلتُ
لك‏!‏
ومن حديث النًعمان بن بَشير الأنصاري‏:‏ لما ثَقل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم الناس
مَن يقوم بالأمر بعده فقال قوم‏:‏ أبو بكر وقال قومٌ‏:‏ أبي بن كعب‏.‏
قال النُّعمان بن بَشير‏:‏ فأتيتُا
أبيّا فقلت‏:‏ يا أبيّ إن الناسَ قد ذكروا أنَ رسول صلى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو
إياك فانطلق حتى نَنظر في هذا الأمر‏.‏
فقال‏:‏ إنَّ عندي في هذا الأمر من رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم شيئاً ما أنا بذاكره حتى يَقبِضه اللّه إليه ثم انطلق‏.‏
وخرجت معه حتى دخلنا على

النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الصُّبح وهو يَحسو حَسْوا في قَصعة مَشْعوبة‏.‏
فلما فرغ أقبل
على أبيّ فقال‏:‏ هذا ما قلتُ لك‏.‏
قال‏:‏ فأوص بنا‏.‏
فخرج يخطّ برجليه حتى صار على المِنبر
ثم قال‏:‏ يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تَزيدون وأصبحت الأنصارُ كما هي لا تزيد ألا وإن
الناس يَكْثرون وتَقِلّ الأنصار حتى يكونوا كالمِلْح في الطعام فمن وَلى من أمرهم شيئاً فَلْيَقبَل من
مُحسنهم ولْيعفُ عن مُسيئهم ثم دخل‏.‏
فلما توفي قيل لي‏:‏ هاتيك الأنصارُ مع سعد بن عُبادة
يقولون‏:‏ نحن الأولى بالأمر والمهاجرون يقولون‏:‏ لنا الأمر دونكم‏.‏
فأتيت أبيّا فقرعتُ بابه فخرج
إليّ مُلتحفا فقلت‏:‏ ألا أراك إلا قاعداً ببيتك مُغلقاً عليك بابَك وهؤلاء قومُك من بني ساعدة
يُنازعون المُهاجرين فأخرج إلى قومك‏.‏
فخَرج فقال‏:‏ إنكم واللّه ما أنتم من هذا الأمر في شيء
إنه لهم دونكم يليها من المُهاجرين رجلان ثم يُقتل الثالث ويُنزع الأمرُ فيكون هاهنا وأشار
إلى الشام وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أغلق بابَه ودخل‏.‏

ومن حديث حذيفة قال‏:‏ كنَا جلوساً عند رسول اللهّ عظيم فقال‏:‏ إني لا أدري ما بقائي
فيكم فاقتدُوا بالذين من بَعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر واهتدُوا بهَدْي عمار وما حَدّثكم
ابن مسعود فصدقوه‏.‏
الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - في والعباس والزبير وسعد بن عُبادة‏.‏

فأما عليّ والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بَعث إليهم أبو بكر عمرَ ابن الخطاب

ليُخرِجهم من بيت فاطمة وقال له‏:‏ إِن أبوا فقاتِلْهم‏.‏
فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم
الدار فلقيته فاطمةُ فقالت‏:‏ يا بن الخطاب أجئت لتُحرق دارنا قال‏:‏ نعم أو تدخلوا فيما
دخلتْ فيه الأمة‏.‏
فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه فقال له أبو بكر‏:‏ أكرهتَ
إمارتي فقال‏:‏ لا ولكني آليتُ أن لا أرتدي بعد موت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى
أحفظَ القرآن فعليه حَبست نفسي‏.‏


ومن حديث الزُّهري عن عُروة عن عائشة قالت‏:‏ لم يُبايع عليٌ أبا بكر حتى ماتت فاطمة
وذلك لستة أشهر من موت أبيها صلى الله عليه وسلم‏.‏
فأرسل علي إلى أبي بكر فأتاه في
منزله فبايعه وقال‏:‏ واللهّ ما نَفسنا عليك ما ساق الله إليك من فَضل وخَير ولكنّا كُنَا نرى أن
لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددْتَ به دوننا وما نُنكر فضلك‏.‏
وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل
إلى الشام‏.‏
أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال‏:‏ بث عمرُ رجلاً إلى الشام فقال‏:‏ ادْعه إلى
البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه فإن أيَ فاستعن اللّهَ عليه‏.‏
فقَدم الرجل الشام فلقيه
بحُوران في حائطٍ فدَعاه إلى البيعة فقال‏:‏ لا أبايع قُرشياً أبداً‏.‏
قال‏:‏ فإني أقاتلك‏.‏
قال‏:‏ وإن
قاتلتَني‏!‏ قال‏:‏ أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة قال‏:‏ أمّا من البَيعة فأنا خارج‏.‏
فرَماه بسَهم
فقتله‏.‏
ميمون بن مِهران عن أبيه قال‏:‏ رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام فقُتل‏.‏
سعيد بن أبي

عَروبة عن ابن سيرين قال‏:‏ رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده‏.‏
فمات فبكته
الجنّ فقالت‏:‏
وقَتلنا سيّد الخَزْ رج سعدَ بن عُبادة
ورَميناه بسهمي نِ فلم نُخْطِىء فُؤاده
فضائل أبي بكر رضي اللّه عنه - محمد بن المَنكدر قال‏:‏ نازع عمرَ أبا بكر فقال رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أنتم تاركوِني وصاحبي إنّ اللّه بَعثني بالهُدى ودين الحق إلى الناس
كافّة فقالوا جميعاً‏:‏ كذبت وقال أبو بكر‏:‏ صدقتَ‏.‏
وهو صاحبُ رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم وجليسه في الغار وأوّل من صلّى معه أمن به واتّبعه‏.‏
وقال عمر بن الخطّاب‏:‏ أبو بكر
سيّدنا وأعتق سيّدَنا‏.‏
يريد بلالاً‏.‏
وكان بلال عبداً لأميّة بن خَلف فاشتراه أبو بكر وأَعتقه
وكان من مُولَّدي مكّة أبوه رَباح وأمه حَمامة‏.‏
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَن أول من
قام معك في هذا الأمر قال‏:‏ حُرّ وعَبد‏.‏
يريد بالحُر أبا بكر وبالعَبد بلالاً‏.‏
وقال بعضُهم‏:‏ عليّ
وخبّاب‏.‏
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ دخل هارون الرشيدً مسجدَ رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم فبعث إلى مالك بن أنس فقيه المدينة فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم واْلمِنبر فلما قام بين يديه وسلّم عليه بالخلافة قال‏:‏ يا مالك صف لي مكان أبي

بكر وعُمر من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا‏.‏
فقال‏:‏ مكانُهما منه يا أمير
المؤمنين كمكان قَبريهما من قبره‏.‏
فقال‏:‏ شَفيتَني يا مالك‏:‏ الشَّعبي عن أبي سَلمة‏:‏ إنّ عليا سُئل
عن أبي بكر وعمرِ فقال‏:‏ على الخَبير سقطتَ كانا واللّه إمامَين صالحين مُصلحين خَرجا من
الدنيا خميصِين‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب‏:‏ سَبق رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم وثَنّى أبو
بكر وثَلّث عمر ثم خَبطتنا فتنةٌ عَمياء كما شاء اللّه‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ تُوفّي رسولُ اللّه عظيم
بين سَحْري ونَحري فلو نَزل بالْجبال الراسيات ما نَزل بأبي لهدّها اشرأبّ النِّفاق وارتدت
العرب فواللّه ما اختلفوَا في لفظة إلا طار أبي بحظّها وغنائها في الإسلام‏.‏
عمرو بن عثمان عن
أبيه عن عائشة أنه بلغها أن أُناساً يتناولون من أبيها فأرسلت إليهم فلما حضروا قالت‏:‏ إنّ
أبي واللّه لا تعطوه الأيدي طَوَد مًنيف وظل ممدود أنجح إذ أكديتم وسبق إذ ونيتم سَبْقَ
الجواد إذا استولى على الأمد‏.‏
فتى قريش ناشئاً وكَهفها كهلا‏.‏
يَفك عانيها ويَريش مُملقها
ويرأب صَدْعها ويَلُمّ شَعثها‏.‏
فما برحت شكيمتُه في ذات اللهّ تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجداً
يحيى فيه ما أمات المُبطلون‏.‏
وكان وقيد الجوامح عزير الدَّمعة شجّي النشيج‏.‏
وأصفقت إليه
نسوان مكة وولدانها يَسخرون منه ويستهزئون به واللّهُ يستهزىء بهم وَيمُدّهم في طُغيانهم
يَعمهوِن وأكبرت ذلك رجالات قريش فما فَلّوا له صفاة ولا قصفوا قناة حتى ضرب الحقُّ

بجِرانه وألقىِ بَرْكه ورست أوتادُه‏.‏
فلما قَبض اللّه نبيَّه ضَرب الشيطانُ رُواقَه ومدّ طنبه
ونصب حبائلَه وأجلب بخيله ورَجْله فقام الصدِّيق حاسراً مشمِّراً‏.‏
فردّ نَشر الإسلام على
غره وأقام أَوَده بثِقافه فابذعرّ النِّفاق بوطئه وانتاش الناسَ بعَدْله حتى أراح الحق على أهله
وحَقن الدماءَ في أهبها‏.‏
ثم أتته منيّته فسدّ ثُلمتَه نظيرُه في المَرحمة وشقيقُه في المَعدلة ذلك ابن
الخطّاب‏.‏
للّه دَرّ أم حَفلت له ودَرّت عليه‏.‏
ففتح الفًتوح وشرد الشِّرْك وبَعَج الأرض فقاءت
أُكًلَها ولفظت جَناها ترأمه ويأباها وتريده ويَصْدِف عنها ثم تَركها كما صَحبها‏.‏
فأَرُوني
ما ترتابون وأيَّ يومي أبي تَنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظَعنه إِذ نَظر لكم أقول
قولي هذا واستغفر الله لي ولكم‏.‏

وفاة أبي بكر الصديق
رضي اللّه عنه
الليثُ بن سَعد عن الزُّهري قال‏:‏ أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحارث ابن كَلَدة فأكلا منه
فقال الحارث‏:‏ أكلنا سّم سَنة وإني وإياك لميتان عند رأس الحًوِل
فماتا جميعاً في يوم واحد عند انقضاء السنة‏.‏
وإنما سمته يهود كما سمّت النبيّ صلى الله عليه

وسلم بخيبر في ذِراع الشاة‏.‏
فلما حضرت النبيّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ قال‏:‏ ما زالت أكلُه
خَيبر تُعاودني حتى قَطعت أبْهري‏.‏
وهذا مثلُ ما قال الله تعالى ‏"‏ ثم لَقَطَعنا منه الوَتين ‏"‏‏.‏
والأبهر
والوتين‏:‏ عرقانِ في الصُلب إِذا انقطع أحدُهما مات صاحبه‏.‏
الزُهري عن عُروة عن عائشة
قالت‏:‏ اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خَلون من جُمادى الآخرة وكان يوماً بارداً فحُم خمسةَ
عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة وكان يأمر عمر يصلَي بالناس‏.‏
وتُوفي ليلةَ الثلاثاء لثمانٍ بقين من
جُمادى الآخرةِ سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ‏.‏
وغسلته امرأته أسماءُ بنت عُميسٍ‏.‏
وصلٌى عليه
عمرُ بن الخطاب بين القبر والمِنبر وكبّر أربعا‏.‏
الزُّهري عن سعيد بن المُسيّب قال‏:‏ لما تُوفى أبو
بكر أقامت عليه عائشة النَوح فبلغ ذلك عمرَ فنهاهنَ فأبين‏.‏
فقال لهشام بنِ الوليد‏:‏ أخرج إلي
بنت أبي قُحافة فأخرج إليه أم فَروة فعلاها بالدرّة ضرباً فتفرَقت النوائح‏.‏
وقالت عائشة
وأبوها يَغمِض رضي الله عنه‏:‏
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوَجهه ربيع اليتامى عِصْمة للأرامِل
قالت عائشة‏:‏ فنظر إلي وقال‏:‏ ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم أغمي عليه‏.‏
فقالت‏:‏
لعمرُك ما يُغنى الثرَّاءُ عن الفَتى إذا حَشْرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
فنظر إلي كالغَضبان وقال‏:‏ قولي‏:‏ ‏"‏ وجاءتْ سَكْرةُ الموِت بالحقّ ذلك ما كُنت منه تَحِيد ‏"‏ ثم قال‏:‏

عُروة بن الزبير والقاسم بن محمد قالا‏:‏ أوصى أبو بكر عائشةَ أن يدفن إلى جنب رسول اللهّ
صلى الله عليه وسلم‏.‏
فلما تُوفى حُفر له وجعل رأسُه بين كَتِفي رسول اللهّ صلى الله عليه
وسلم ورأسُ عمرَ عند حَقْوي أبي بكر‏.‏
وبقي في البيت موضع قبر‏.‏
فلما حضرت الوفاةُ الحسنَ
بن عليّ أوصى بأن يُدفن مع جدّه في ذلك الموضع‏.‏
فلما أراد بنو هاشم أن يَحفِروا له مَنعهم
مروانُ وهو والي المدينة في أيام معاوية‏.‏
فقال أبو هُريرة‏:‏ علام تمنعه أن يُدفن مع جدّه فأشهدُ
لقد سمعتُ رسول الله عليه يقول‏:‏ الحسن والْحُسين سيّدا شباب أهل الجنة‏.‏
قال له مروان‏:‏ لقد
ضَيّع الله حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يَرْوه غيرُك‏.‏
قال‏:‏ أنا والله لقد قلتُ
ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبُ ومن أبغض ومن نَفى ومن أقرّ ومن دعا له ومن دعا
عليه‏.‏
قال‏:‏ وسُطح قبرُ أبي بكر كما سُطح قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ورُش بالماء‏.‏

هشام بن عُروة عن أبيه‏:‏ إن أبا بكر صُلّي عليه ليلا ودُفن ليلا‏.‏
ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين
سنة ولها مات النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهراً وأياماً
ووهب نصيبَه في ميراثه لولد أبي بكر‏.‏
وكان نَقش خاتم أبي بكر‏:‏ نعم القادر اللّه‏.‏
ولما قُبض أبو
بكر سُجّى بثوب فارتجت المدينة من البكاء ودَهشِ القوم كيوم قُبض فيه رسولُ اللّه صلى
الله عليه وسلم‏.‏
وجاء عليّ بن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وهو

يقول‏.‏
رَحِمك اللهّ أبا بكر كنتَ واللهّ أولَ القوم إسلاماً وأصدَقهم إيماناً وأشدَّهم يقينا
وأعظَمهم غَناء واحفظهم على رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وأحدبَهم على الإسلام
وأحماهم عن أهله وأنسبَهم برسول الله خُلقا وفضلا وهَديا وسَمْتا فجزاك اللّه عن الإسلام
وعن رسول اللهّ وعن المسلمين خيرا‏.‏
صدقت رسول الله حين كذّبه الناس وواسيتَه حين بخلوا
وقمتَ معه حين قعدوا وسمّاك اللهّ في كتابه صدَيقاً فقال‏:‏ ‏"‏ والذي جاء بالصِّدق وصَدّق به ‏"‏
يريد محمداً ويريدك‏.‏
كنت والله للإسلام حِصناً وللكافرين ناكباً لم تضلل حجّتك ولم تَضعف
بصيرتك ولم تَجبن نفسُك‏.‏
كنت كالجبلِ لا تحركه العواصف ولا تُزيله القواصف‏.‏
كنت كما
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ضعيفاً في بدنك قوياً في دينك متواضعاً في نفسك
عظيماً عند اللّه جليلاً في الأرض كبيراً عند المؤمنين‏.‏
لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى
فالضعيفُ عندك قويّ والقويّ عندك ضعيف حتى تأخذ الحق من القوي وتأخذه للضعيف
فلا حَرمك اللّه أجرك ولا أضلّنا بعدك‏.‏
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت
على أبيها في مرضه الذي تُوفي فيه فقالت‏:‏ يا أبت اعهد إلى خاصّتك وأنفذ رأيك في عامّتك
وانقل من دار جهازك إلى دار مُقامك إنك مَحضور ومتّصل بي لوعتُك وأرى تخاذلَ أطرافك
وانتقاع لونك فإلى اللهّ تَعْزيتي عنك ولديه ثوابُ حُزني عليك‏.‏
أرقأ فلا أرْقأ وأشكو فلا

أُشكى‏.‏
قال‏:‏ فَرفع رأسه وقال‏:‏ يا أمّه هذا يوم يُخلَّى لي فيه عن غطائي وأشاهد جَزائي
إن فرحاً فدائم وان ترحاً فمُقيم‏.‏
إني اضطلعتُ بإمامة هؤلاء القوم حين كان النُّكوص إضاعة
والخَزَل تفريطا فشهيدي اللّه ما كان بقلبي إلا إياه فتبلّغت بصَحفتهم وتعلّلت بدرّة لِقْحتهم
فأقمت صلايَ معهم لامختالًا أشِراً ولا مُكاثراً بَطِراً‏.‏
لم أعْدُ سدّ الجَوعة وتَوْرية العَوْرة
وإقامة القِوام من طوى مُمعض تهفو منه الأحشاء وتجفّ له الأمعاء فاضطررت إلى ذلك
اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيفِ الآجن‏.‏
فإذا أنا مِتّ فردّي إليهم صَحْفتهم وعبدهم ولقحتهم
ورَحاهم ودثارةً ما فوقي اتقيت بها البرد ووِثارةً ما تحتي اتقيتُ بها أذى الأرض كان حشوها
قِطَع السعف‏.‏
قال‏:‏ ودخل عليه عمر فقال‏:‏ يا خليفة رسول اللهّ لقد كلفت القوم بعدك تعباً
وولّيتهم نصباً فهيهات من شَقَّ غُبارك‏!‏ فكيف اللحاقُ بك‏!‏‏.‏


استخلاف أبي بكر لعمر
عبد اللّه بن محمد التّيمي عن محمد بن عبد العزيز‏:‏ إن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاةُ كتب
عَهده وبَعث به مع عثمان بن عفان ورجلٍ من الأنصار ليقرآه على الناس فلما اجتمع الناسُ
قاما فقالا‏:‏ هذا عهدُ أبي بكر فإن تُقِرُّوا به نقرأْه وإن تُنكروه نرجعه‏.‏
فقال‏:‏ بسم اللّه الرحمن
الرحيم‏.‏
هذا عهد أبي بكر بن أبي قُحافة عند آخر عهده بالدُّنيا خارجا منها وأوّل عهده
بالآخرة داخلاً فيها حيثُ يُؤمِن الكافر ويتقي الفاجر ويَصدق الكاذب‏.‏
إني أَمّرت عليكم
عمرَ بن الخطّاب فإن عَدل واتقى فذاك ظنِّي به ورجائي فيه وإن بدّل وغيّر فالخيرَ أردت لا
يعلم الغيب إلا الله قال أبو صالح‏:‏ أخبرنا محمد بن وضاح قال‏:‏ حدّثني محمد بن رُمْح بن المهاجر
التُّجيبي قال‏:‏ حدّثني الليثُ بن سعد عن عُلوان عن صالح بن كَيسان عن حميد ابن‏.‏
عبد الرحمن
بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأصابه مُفيقا
فقال‏:‏ أصبحت بحمد اللهّ بارئاً‏.‏
قال أبو بكرِ‏:‏ أتراه قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أما إني على ذلك لشديدُ
الِوَجع ولما لقيتُ منكم يا معشر المُهاجرين أشدُّ عليَّ من وَجعي‏.‏
إني وَليت أمَركم خيركم في
نفسي فكلّكم وَرِم من ذلك أنفه يريد أن يكون له الأمر من دونه ورأيتم الدنيا مُقبلة ولن تقبل

- وهي مُقبلة - حتى تتخذوا سُتور الحرير ونضائد الدِّيباج وتألموا الاضطجاع على الصوف
الأَذربيّ كما يألم أحدُكم الاضطجاع على شَوك السّعدان‏.‏
والله لأن يُقدّم أحدكم فتُضرب عُنقه
في غير حدّ خير له من أن يَخوض في غَمْرة الدنيا‏.‏
ألا وإنكم أول ضالّ بالناس غدا فتصدّوهم
عن الطريق يميناً وشمالاً‏.‏
يا هاديَ الطريق إنما هو الفَجر أو البَحْر‏.‏
قال‏:‏ فقلتُ له‏:‏ خَفِّض عليك
يَرحمك اللّه فإن هذا يَهيضك على ما بك إنما الناس في أَمرك بين رجلين إما رجل رأى ما
رأيتَ فهو معك وإما رجل خالفَك فهو يُشير عليك برأيه وصاحبَك كما تُحب ولا نَعلمك
أردتَ إلا الخير ولم تزل صالحا مُصلحا مع أنك لا تأسي على شيء من الدنيا‏.‏
فقال‏:‏ أجل
إني لا آسىَ على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وودتُ أني تركتهن وثلاثٍ تركتهن
ووددتُ أني فعلتهن وثلاثٍ وددتُ أني سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهن‏.‏
فأما
الثلاث التي فعلتهن ووددتُ أني تركتُهن‏:‏ فوددتُ أني لم أكشف بيتَ فاطمة عن شيء وإن كانوا
أغلقوه على الحرب ووددتُ أني لم أكن حَرقت الفَجَاءة السلمي وأني قتلته سريحاً أو خلَيته
نجيحا ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميتُ الأمر في عُنق أحد الرجلين فكان
أحدُهما أميراً وكنتُ له وزيراً - يعني بالرجلين عمرَ بن الخطاب وأبي عُبيدة بن الجراح - وأما
الثلاث التي تركتُهن ووددتُ أني فعلتُهن‏:‏ فوددتُ أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربتُ

عنقه فإنه يُخيل إلي أنه لا يرى شرُّا إلا أعان عليه ووددتُ أني سيرت خالدَ بن الوليد إلى أهل
الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظَفروا وإن انهزموا كنتُ بصدد لقاء أو مَدد ووددت
أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهتُ عمر ابن الخطاب إلى العِراق فأكون قد بسطت
يدَي كلتيهما في سبيل اللّه‏.‏
وأما الثلاث التي وددتُ أني أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
عنهن‏:‏ فإني وددتُ أني سألته‏:‏ لمن هذا الأمر من بعده فلا يُنازعه أحد وأني سألته هل
للأنصار يا هذا الأمر نصيب فلا يُظلموا نصيبَ منه ووددتُ أني سألته عن بنت الأخ والعَمة
فإنَ في نفسي منهما شيئاً‏.‏


نسب عمر بن الخطاب وصفته
أبو الحسن عليّ بن محمد قال‏:‏ هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزى بن رِياح بن عبد اللّه
بن قُرط بن رَزاح بن عَدِيّ بن كعب بن لُؤي بن غالب ابن فِهْر بن مالك‏.‏
وأُمه حَنْتمة بنت
هاشم بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرِ بن مَخزوم‏.‏
وهاشم هو ذو الرُمحين‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ كان
عمر رجلاً آدمَ مُشْرَباً حُمرة طويلاً أصلِع له حِفَافان حسنَ الخدّين والأنف والعينين غليظَ
القدمين والكفين مَجُدول الفحم حسن الخَلق ضخم الكراديس أعسَر يَسَر إذا مَشى كأنه
راكب‏.‏
وَلى الخلافةَ يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرة سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ‏.‏

وطعن لثلاث بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين من التاريخ‏.‏
فعاش ثلاثةَ أيام‏.‏
ويقال سبعة
أيام‏.‏
مَعْدان بن أبي حَفصة قال‏:‏ قُتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث
وعشرين وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة في رواية الشعبيّ‏.‏
ولها مات أبو بكر ولها مات النبي
صلى الله عليه وسلم‏.‏

فضائل عمر بن الخطاب
أبو الأشهب عز الحسن قال‏:‏ عاتب عُيينةُ عثمانَ فقال له‏:‏ كان عمر خيراً لنا منك أعطانا

فأغنانا وأخشانا فأتْقانا‏.‏
وقيل لعثمان‏:‏ ما لك لا تكون مثلَ عمر قال‏:‏ لا أستطيع أن أكون
مثلَ لُقمان الحَكيم‏.‏
القاسم بن عمر قال‏:‏ كان إسلام عمر فَتحاً وهجرته نصراً وإمارته رحمة‏.‏

وقيل‏:‏ إن عمر خَطب امرأة من ثقيف وخطبها المُغيرة فزوَجوها المُغيرة‏.‏
فقال النبيُ صلى الله
عليه وسلم‏:‏ ألا زوجتم عمر فإنه خير قريش أولها وآخرها إلا ما جعل اللهّ لرسوله‏.‏
الحسن بن
دينار عن الحسن قال‏:‏ ما فَضل عمرُ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أطولَهم
صلاة وأكثرَهم صياماً ولكنه كان أزهدهم في الدنيا وأشدهم في أمر الله‏.‏
وتظلّم رجل من
بعض عًمال عمر وادًعى أنه ضَربه وتعدَى عليه فقال‏:‏ اللهم إِني لا أحلُّ لهم أشعارَهم ولا
أبشارهم‏.‏
كلُ من ظَلمه أميرُه فلا أميرَ عليه دوني ثم أقاده منه‏.‏
عَوَانُة عن الشًعبي قال‏:‏ كان
عمر يطوف في الأسواق ويقرأ القرآن ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم‏.‏
وقال المُغيرة بن
شُعبة وذكر عُمَر فقال‏:‏ كان والله له فضلٌ يمنعه من أن يَخدع وعقل يَمنعه من أن يَنخدع‏.‏

فقال عمر‏:‏ لست بِخَب ولا الَخب يَخدعني‏.‏
عِكرمة عن ابن عباس قال قال‏:‏ بينما أنا أمشي
مع عُمرَ بن الخطاب في خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الذَرة فأنا أمشي خلفه وهو
يُحدّث نفسَه ويَضرب وحشي قَدميه بدِرَّته إذ التفت إليّ فقال‏:‏ يا بن عبّاس أتدري ما
حَملني على مَقالتي التي قلتُ يوم تُوفّي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ الذي

حَملني على ذلك أنِّي كنتُ أقرأ هذه الآية‏:‏ ‏"‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شًهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ‏"‏ فواللّه إني كنت لأظنّ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
سيبقى في أمته حتى يَشهد علينا بأخفّ أعمالنا فهو الذي دَعاني إلى ما قلت‏.‏
ابن دأب قال‏:‏
قال ابن عبّاس‏:‏ خرجت أريد عمر في خلافته فألفيتُه راكباً على حمار قد أَرْسنه بحَبل أسود
وفي رجليه نَعلان مخصوفتان وعليه إزار قصير وقميص قصير قد انكشفت منه ساقاه
فمشيتُ إلى جَنبه وجعلتُ أجبِذُ الإزار عليه فجعل يَضحك ويقول‏:‏ إنه لا يطيعك‏.‏
حتى أتى
العالية فَصنع له قومٌ طعاماً من خُبز ولحم فدَعه إليه وكان عمر صائماً فجعل يَنبُذ إليّ
الطعام ويقول‏:‏ كُلْ لي ولك‏.‏
ومن حديث ابن وَهْب عن اللَّيث بن سعد‏:‏ أن أبا بكر لم يكن يأخذ
من بيت المال شيئاً ولا يُجري عليه من الفيء درهما إلا أنه استلف منه مالاً فلما حَضرته
الوفاةُ أمر عائشةَ بردّه‏.‏
وأما عمرُ بن الخطاب فكان يُجرى على نفسه دِرْهمين كلَّ يوم‏.‏
فلما وَلى
عمرُ بن عبد العزيز قيل له‏:‏ لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطّاب قال‏:‏ كان عمرُ لا مالَ له
وأنا مال يُغنيني بم فلم يأخذ منه شيئاً‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ قال عمر وقام على الرَّدم‏:‏
أين حقك يا أبا سفيان مما هنا قال‏:‏ ممّا تحت قَدميك إليّ‏.‏
قال‏:‏ طالما كنتَ قديمَ الظّلم ليس
لأحد فيما وراء قدميّ حق إنما هي منازل الحاج‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ وكان رجلٌ من قريش قد

تقدَّم صدرٌ من داره عن قدمَي عمر فهدمه‏.‏
وأراد أن يُغوِّر البئر فقيل له‏:‏ في البئر للناس
مَنفعة فتركها‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ إذا ودَّع الحاجًّ ثم بات خلفَ قدمي عمرَ لم أرَ عليه أن يرجع‏.‏

يقول‏:‏ قد خرج من مكة‏.‏

مقتل عمر
أبو الحسن‏:‏ كان للمُغيرة بن شُعبة غلام نَصراني يقال له‏:‏ فَيْروز أبو لؤلؤة وكان نجَّاراً لطيفاً
وكان خِراجُه ثقيلاً فشكا إلى عمر ثِقل الخراج وسأله أن يكلِّم مولاه أن يُخفِّف عنه من خراجه
فقال له‏:‏ وكم خِراجك قال ثلاثة دراهم في كل شهر‏.‏
قال وما صناعتُك قال‏:‏ نجَّار‏.‏
قالت‏:‏
ما أرى هذا ثقيلاً في مثل صناعتك‏.‏
فخرج مُغضَباً فاستلّ خِنْجراً محدودَ الطَّرفين‏.‏
وكان عمر
قد رأى في المَنام ديكاً أحمر ينقره ثلاث نَقرات فتأوله رجلاً من العجم يَطعنه ثلاثَ طَعنات‏.‏

فطعنه أبو لُؤِلؤة بخِنْجره ذلك في صلاة الصُّبح ثلاثَ طَعنات إحداها بين سرُّته وعانته فخرقت
الصِّفاق وهي التي قتلته‏.‏
وطُعن في المسجد معه ثلاثةَ عشرَ رجلاً مات منهم سَبعة‏.‏
فأقبل
رجلٌ من بني تميم يقال له حِطَّان فألقى كِساءه عليه ثم احتضنه‏.‏
فلما علم العِلج أنه مأخوذ
طَعن نفسه وقدَّم عُمر صُهيباً يصلِّي بالناس فقرأ بهم في صلاة الصُّبح‏:‏ ‏"‏ قل هو اللّه أَحد ‏"‏ في

الرَّكعة الأولى و ‏"‏ قُل يأيها الكافرون ‏"‏ في الرّكعة الثانية‏.‏
واحتُمل عمر إلى بيته فعاش ثلاثةَ أيام ثم
مات‏.‏
وقد كان استأذن عائشةَ أن يُدفن في بيتها مع صاحبيه فأجابته وقالت‏:‏ واللّه لقد كنتُ
أردتُ ذلك المَضجع لنفسي ولأوثرنّه اليوم على نفسي‏.‏
فكانت ولايةُ عمر عشرَ سنين‏.‏
صلّى
عليه صُهيب بين القَبر والمِنْبر ودُفن عند غروب الشمس‏.‏
كاتبُه‏:‏ زيدُ بن ثابت وكتب له
مًعَيقب أيضاً‏.‏
وحاجبُه‏:‏ يرْفأ مولاه‏.‏
وخازِنُه‏:‏ يسار‏.‏
وعلى بيت ماله‏:‏ عبدُ اللّه ابن الأرقم‏.‏

وقال الليثُ بن سعد‏:‏ كان عمرُ أول من جَنّد الأجناد ودَوَّن الدَّواوين وجعل الخلافة شُورى بين
ستّة من المسلمين وهم‏:‏ عليّ وعُثمان وطِلْحة والزًّبير وسَعد بن أبي وقَّاص وعبدُ الرحمن بن
عوف ليختاروا منهم رجلاً يولّونه أمرَ المسلمين‏.‏
وأوصى أن يَحضُر عبدُ اللهّ بن عُمر معهم
وليس له من أمر الشُّورى شيء‏.‏


أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان
صالح بن كيسان قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ دخلت على عُمر في أيام طَعْنته وهو مُضطجع على
وسادة من أدم وعنده جماعةٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال له رجل‏:‏ ليس
عليك بأس‏.‏
قال‏:‏ لئن لم - يكن علِيّ اليوم ليكونّ بعد اليوم وإنّ للحياة لنصِيباً من القلب وإن
للموت لكُربة وقد كنتُ أحب أن أُنجيَ نفسي وأنجوَ منكمِ وما كنتُ من أمركم إلا كالغَريق يرى
الحياة فيرجوها ويخشى أن يموت دونها فهو يرْكض بيديه ورجليه وأشدُ من الغريق الذي يرى
الجنَة والنار وهو مشغول‏.‏
ولقد تركتُ زَهرتكم كما هي ما لبستُها فأخلقتُها وثمرتَكم يانعة في
أكمامها ما أكلتُها وما جَنيت ما جنيت إلا لكم وما تركتُ ورائي دِرْهما ما عدا ثلاثين أو
أربعين درهما ثم بكى وبكى الناسُ معه‏.‏
فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أبشر فواللّه لقد مات رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ومات أبو بكر وهو عنك راضٍ وإن المسلمين
راضون عنك‏.‏
قال‏:‏ المَغْرور واللّهَ من غَررتموه أما واللّه لو أن لي ما بين المشرق والمغرب
لافتديتُ به من هَوْل الُمَطّلَع‏.‏
داود بن أبي هِند عن قَتادة قال‏:‏ لما ثقُل عمر قال لولده عبد اللّه‏:‏
ضَع خَدّي على الأرض‏.‏
فَكَره أن يفعل ذلك‏.‏
فوضع عمرُ خذَه على الأرض وقال‏:‏ ويل لعمر

ولام عمر إن لم يَعْفُ اللّه عنه‏.‏
أبو أمية بن يَعلى عن نافع قال‏:‏ قيل لعبد اللّه بن عُمر‏:‏ تُغسل
الشهداء قال‏:‏ كان عمر أفضلَ الشُّهداء فغُسّل وكُفن وصلُيَ عليه‏.‏
يونس عن الحسن وهشامُ
بن عُروة عن أبيه قالا‏:‏ لما طُعن عمرُ بن الخطّاب قيل له‏:‏ يا أمير المُؤمنين لو استخلفتَ قال‏:‏
إن تركتُكم فقد تَرككم مَن هو خيرٌ منّي وإِن استخلفتُ فقد استخلف عليكم من هو خير
مني ولو كان أبو عُبيدة بن الجَراح حيًّا لاستخلفتُه فإن سألني ربَي قلت‏:‏ سمعتُ نبيك يقول‏:‏ إنه
أمينُ هذه الأمة ولو كان سالمٌ مولًى أبي حُذيفة حيا لاستخلفتُه فإن سألني ربِّي قلت‏:‏ سمعتُ
نبيَّك يقول‏:‏ إنّ سالماً ليُحب اللّه حُبَا لو لم يَخفه ما عصاه‏.‏
قيل له‏:‏ فلو أنك عهدتَ إلى عبد اللّه
فإنه له أهلٌ في دينه وفَضله وقديم إسلامه‏.‏
قال‏:‏ بِحَسْب آل الخطَّاب أن يُحاسَب منهم رجلٌ
واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولوددتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً لا لي ولا
علي‏.‏
ثم راحوا فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين لو عهدتَ فقال‏:‏ قد كنتُ أجمعتُ بعد مقالتي لكم أن
أولّي رجلاً أمركم أرجو أن يَحملكم على الحق - وأشار إلى عليّ - ثم رأيتُ أن لا أتحملها
حيّا وميتاً فعليكم بهؤلاء الرًهط الذين قال فيهم النبيٌ صلى الله عليه وسلم‏.‏

إنهم من أهل الجنة منهم سَعيد بن زيد ابن عمرو بن نُفيل ولستُ مُدخِلَه فيهم ولكن الستَة‏:‏
علي وعثمان ابنا عبد مناف وسعد وعبد الرحمن بن عوف خال رسول اللهّ صلى الله عليه

وسلم والزبير حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته وطَلحة الخير فليختاروا
منهم رجلاً فإذا ولَوكم والياً فأحسِنوا مُؤازرته‏.‏
فقال العباس لعلي‏:‏ لا تَدخل معهم‏.‏
قال‏:‏ أكره
الخلاف‏.‏
قال‏:‏ إذن ترى ما تكره‏.‏
فلما أصبح عُمرُ دعا عليا وعثمان وسعداً والزُّبير وعبد
الرحمن ثم قال‏:‏ إني نظرت فوجدتُكم رؤساءَ الناس وقادَتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم
وإني لا أخاف الناسَ عليكم ولكني أخافكم على الناس وقد قُبض رسول اللهّ صلى الله عليه
وسلم وهو عنكم راض فاجتمعوا إلى حُجرة عائشة بإذنها فتشاوروا واختاروا منكم رجلاً
ولْيُصل بالناس صُهيب ثلاثة أيام ولا يأتي اليومُ الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم ويحضركم عبدُ الله
مُشيراً ولا شيءَ له من الأمر وطلحة شريككم في الأمر فإن قَدِم في الأيام الثلاثة فأحضروه
أمركم وإن مَضت الأيام الثلاثة قبل قدُومه فأمضُوا أمركم‏.‏
ومن لي بطَلحة فقال سعد‏:‏ أنا لك
به إن شاء الله‏.‏
قال لأبي طَلحة الأنصاري‏:‏ يا أبا طلحة إنَ الله قد أعزّ بكم الإسلام فاختر
خَمسين رجلاً من الأنصار وكُونوا مع هؤلاء الرهط حتى يَختاروا رجلاً منهم‏.‏
وقال للمِقْداد بن
الأسود الكِنديّ‏:‏ إذا وضعتُموني في حُفرتي فاجمع هؤلاء الرَّهط حتى يختاروا رجلاً منهم‏.‏

وقال لصُهيب‏:‏ صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل عليًّا وعثمان والزُّبير وسعداً وعبد الرحمن
وطَلحة إن حَضر بيت عائشة وأحْضِر عبدَ الله بن عمر وليس له في الأمر شيء وقُم على

رُؤوسهم فإن اجتمع خمسةٌ على رأي واحد وأبى واحدٌ فاشدَخ رأسه بالسيف وإن اجتمع
أربعةٌ فرضُوا وأبى اثنان فاضرب رأسيهما فإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكِّموا عبدَ
الله بن عمر فإن لم يرضَوا بعبد الله فكُونوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف واقتُلوا الباقين
إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس وخرجوا‏.‏
فقال علي لقوم معه من بني هاشم‏:‏ إن أطيع فيكم
قومُكم فلن يومروكم أبداً‏.‏
وتلقاه العبَّاس فقال له‏:‏ عَدلتْ عنا‏.‏
قال له‏:‏ وما أعلمك قال‏:‏ قَرن
بي عثمان ثم قال‏:‏ إن رضي ثلاثةٌ رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف فسَعد لا
يخالف ابن عَمه عبد الرحمن وعبدُ الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فلو كان الآخران معي ما
نَفعاني فقال العبّاس‏:‏ لم أدفعك في شيء إلا رجعتَ إليّ مستأخرا بما أكره أشرتُ عليك عند
وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت وأشرتُ عليك بعد
وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر فأبيت وأشرتُ عليك حين سمَّاك عمر في
الشُّورى أن لا تدخل معهم فأبيت فاحفظ عنّي واحدة‏:‏ كل ما عرَض عليك القوم فأمسك إلى
أن يولّوك واحذر هذا الرهطَ فإنهم لا يَبْرَحون يدفعوننا عن هذا الَأمر حتى يقوم لنا به غيرُنا‏.‏

فلما مات عمر وأخرجت جِنازته تصدَّى عليّ وعثمان أيهما يصلّي عليه‏.‏
فقال عبدُ الرحمن‏:‏
كلا كما يحب الأمر لستما مِن هذا في شيء هذا صُهيب استخلفه عمرُ يصلّي بالناس ثلاثاً

حتى يجتمع الناس على إمام‏.‏
فصلّى عليه صُهيب‏.‏
فلما دُفن عمر جمع المِقدادُ بن الَأسود أهل
الشُّورى في بيت عائشة بإذنها وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة
فَحجبهم‏.‏
وجاء عمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة فجلسا بالباب فَحصبهما سعد وأقامهما
وقال‏:‏ تُريدان أن تقولا‏:‏ حضرنا وكُنَّا في أهل الشُّورى‏!‏ فتنافس القومُ في الأمر وكثُر بينهم
الكلام كلٌّ يرى أنه أحقُّ بالأمر‏.‏
فقال أبو طلحة‏:‏ أنا كنتُ لأن تدفعوها أخوفَ مني لأن
تنافسوها لا والذي ذَهب بنفس محمد لا أَزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر أو أَجلس
في بيتي‏.‏
فقال عبدُ الرحمن‏:‏ أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يُولّيها أفضَلكم فلم يُجبه
أحد‏.‏
قال‏:‏ فأنا أنخلع منها‏.‏
قال عثمان‏:‏ أنا أولُ مَن رضي فإني سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله
عليه وسلم يقول‏:‏ عبدُ الرحمن أمين في السماء أمين في الأرض‏.‏
فقال القوم‏:‏ رضينا وعليّ
ساكت‏.‏
فقال‏:‏ ما تقول يا أبا الحسن قال‏:‏ إن أعطيتَني مَوْثقا لتُؤْثرنّ الحق ولا تَتبع الهوى ولا
تَخُص ذا رَحم ولا تألو الأمة نُصحاً‏.‏
قال‏:‏ أعطوني مواثيقَكم على أن تكونوا معي على مَن
نَكل وأنْ ترضوا بما أخذتُ لكم‏.‏
فتوثّق بعضُهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن‏.‏

فخَلا بعليّ فقال‏:‏ إنك أحق بالأمر لقَرابتك وسابقتك وحُسن أثرك ولم تَبْعد فمن أحقُّ بها
بعدك مِن هؤلاء قال‏:‏ عثمان‏.‏
ثم خلا بعثمان فسأل عن مثل ذلك‏.‏
فقال‏:‏ علي ثم خلا

بسعد‏.‏
فقال عثمان ثم خلا بالزبير‏.‏
فقال‏:‏ عثمان‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ لما خاف عليُّ بن أبي طالب
عبدَ الرحمن بن عوف والزُّبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان لقي سعدا ومعه الحسنُ والحُسين فقال
له‏:‏ ‏"‏ اتقُوا اللّهَ الَّذي تَساءلون به والأرحام إنَ اللّه كان عليكم رَقِيباً ‏"‏‏.‏
أسألك برَحم ابنيّ هذيِنِ
من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبرَحم عمِّي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن ظهيراً
عليّ لعُثمان فإنّي أدلي إليك بما لا يُدلي به عثمان‏.‏
ثم دار عبدُ الرحمن لياليَه تلك على مشايخ
قُريش يُشاورهم فكلّهم يُشير بعثمان حتى إذا كان في الليلة آلتي استكمل فيم صَبيحتها الأجل
أتى منزلَ المِسْورِ ابن مخْرمة بعد هَجْعة من الليل فأيقظه فقال‏:‏ ألا أراك إلا نائما ولم أذق في
هذه الليالي نوما فانطلِقْ فادعُ لي الزًّبير وسعداً فدعا بهما‏.‏
فبدأ بالزُّبير في مُؤخَّر المسجد
فقال له‏:‏ خَلِّ بني عبد مناف لهذا الأمر‏.‏
فقال‏:‏ نَصيبي لعلّي‏.‏
فقال لسعد‏:‏ أنا وأنت كالآلة
فاجعل نصيبَك لي فأختار‏.‏
قال‏:‏ أما إن اخترت نفسك فنَعم وأما إن اخترت عثمان فعليٌّ
أحب إليَّ منه‏.‏
قال‏:‏ يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار ولو لم أفعل
وجُعل إليَّ الخيارُ ما أردتُها إني رأيت كأني في رَوْضة خضراء كثيرةِ العُشب فدخل فَحْل لم
أر مثلَه فحلاً أكرمَ منه فمرّ كأنه سَهم لا يلتفت إلى شيء مما في الرَّوضة حتى قَطعها ودَخل
بعير يتلوه فأتبع أثرَه حتى خرج إليه من الرّوضة ثم دخل فحلٌ عَبقريّ يَجر خُطامه يلتفت يميناً

وشمالًا وَيمضي قَصْد الأولَيْن ثم خرج من الرَّوضة ثم دخل بعير رابع فرَتع في الروضة ولا واللّه
لا أكون البعيرَ الرابع ولا يقوم بعد أبي بكر وعُمَر أحدٌ فيرضى الناسُ عنه‏.‏
ثم أرسل المِسْورَ إلى
عليّ وهو لا يَشك أنه صاحب الأمر‏.‏
ثم أرسل المِسْورَ إلى عثمان فناجاه طويلاً حتى فرَّق
بينهما آذان الصُّبح‏.‏
فلما صَلوا الصبحَ جَمع إليه الرهطَ وبعث إلى مَن حَضره من المُهاجرين
والأنصار وإلى أمراء الأجناد حتى ارتج المسجد بأهله فقال‏:‏ أيها الناس إنِّ الناس قد احبُّوا
أن تلحق أهلُ الأمصار بأمصارهم وقد عَلموا مَن أميرُهم‏.‏
فقال عمَّار بن ياسر‏:‏ إن أردت أن لا
يختلف المسلمون فبايع عليا‏.‏
فقال المِقداد بن الأسود‏:‏ صدق عمَّار إن بايعتَ عليّا قلنا‏:‏ سَمِعنا
وأطعنا‏.‏
قال ابن أبي سَرْحٍِ‏:‏ إنْ أردتَ أن لا تختلف قريش فبايع عُثمان إن بايعتَ عثمان
سمعنا وأطَعْنا‏.‏
فشتم عمار ابن أبي سَرْح وقال‏:‏ متي كنتَ تَنصح المسلمين‏!‏ فتكلم بنو هاشم
وبنو أمية‏.‏
فقال عمار‏:‏ أيها الناس إن اللّه أكرمنا بنبيّنا وأعزّنا بدينه فأنى تَصْرفون هذا الأمرَ
عن بيت نبيّكم‏!‏ فقال له رجلَ من بني مخزوم‏:‏ لقد عدوتَ طَوْرك يا بن سُمية وما أنت وتأميرُ
قريش لأنفسها‏.‏
فقال سعدُ بن أبي وقَاص‏:‏ يا عبد الرحمن افرُغ قبل أن يفتتن الناسُ‏.‏
فقال عبد
الرحمن‏:‏ إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلُن أيها الرهطُ على أنفسكم سبيلا‏.‏

ودعا عليّاً فقال‏:‏ عليك عهدُ الله وميثاقُه لتعملنّ بكتاب الله وسُنة نبيه وسيرة الخَليفتين من

بعده قال‏:‏ أعمل بمبلغ علمي وطاقتي‏.‏
ثم دعا عثمان فقال‏:‏ عليك عهدُ اللّه وميثاقُه لتعملنَّ
بكتاب اللّه وسُنة نبيّه وسرة الخليفتين من بعده فقال‏:‏ نعم فبايعه‏.‏
فقال عليّ‏:‏ حبوتَه محاباةً
ليس ذا بأول يوم تَظاهرتم فيه علينا أمَا والله ما ولّيتَ عثمانَ إلا ليردّ الأمر إليك والله كل يومٍ
هو في شأن‏.‏
فقال عبدُ الرحمن‏:‏ يا علي لا تَجعل على نفسك سبيلا فإِنّي قد نظرتُ
وشاورتُ الناسَ فإذا هم لا يَعْدلون بعثمانَ أحدا‏.‏
فخرج عليّ وهو يقول‏:‏ سيَبلغ الكتابُ أجلَه‏.‏

فقال المقدادُ‏:‏ يا عبد الرحمن أمَا والله لقد تركتَه من الذين يَقْضون بالحقّ وبه يَعْدلون‏.‏
فقال‏:‏ يا
مقداد والله لقد اجتهدتُ للمُسلمين‏.‏
قال‏:‏ لئن كنتَ أردتَ بذلك الله فأثابك الله ثوابَ المحسنين‏.‏

ثم قال‏:‏ ما رأيتُ مثلَ ما أوتي أهلُ هذا البيت بعد نبيِّهم إني لأعجب من قريش أنهم تركوا
رجلاً ما أقول إن أحداً أعلم منه ولا أقضيَ بالعَدْل ولا أعرفَ بالحق أما واللّه لو أجد أعوانا‏!‏
قال له عبدُ الرحمن‏:‏ يا مقداد اتق الله فإني أخشى عليك الفِتْنة‏.‏
قال‏:‏ وقدم طلحة في اليوم
الذي بُويع فيه عثمان فقيلِ له‏:‏ إنَ الناسَ قد بايعوا عثمان‏.‏
فقال‏:‏ أكُلّ قُريش رضُوا به قالوا‏:‏
نعم‏.‏
وأتى عثمان فقال له عثمانُ‏:‏ أنت على رأس أمرك‏.‏
قال طلحة‏:‏ فإنْ أبيتُ أتردُها قال‏:‏
نعم‏.‏
قال‏:‏ أكل الناس بايعوك قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ قد رضيتُ لا أرغب عما اجتمعت الناسُ
عليه وبايعه‏.‏
وقال المغيرة بن شُعبة لعبد الرحمن‏:‏ يا أبا محمد قد أصبتَ إذ بايعتَ عثمان ولو

بايعت غيرَه ما رضيناه‏.‏
قال‏:‏ كذبتَ يا أعور لو بايعتُ غيره لبايعتَه وقلت هذه المقالة‏.‏
وقال
عبدُ الله بن عباس‏:‏ ماشيتُ عمرَ بن الخطاب يوماً فقال لي‏:‏ يا ابن عبّاس ما يمنع قومَكم منكم
وأنتم أهلَ البيت خاص قلت‏:‏ لا أدري‏.‏
قال‏:‏ لكني أدري إنكم فَضلتموهم بالنّبوة فقالوا‏:‏ إن
فَضلوا بالخلافة مع النبوّة لم يُبقوا لنا شيئاً وإن أفضل النَّصيبين بأيديكم بل ما إخالها إلا مُجتمعة
لكم وإن نزلت على رغم أنف قريش‏.‏
فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من
أهل بيته على الجلّة من أصحاب محمد قيل لعبد الرَّحمن‏:‏ هذا عملُك قال‏:‏ ما ظننتُ هذا ثمَ
مَضى ودَخل عليه وعاتَبه وقال‏:‏ إنما قَدَّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر
فخالفتَهما وحابيتَ أهل بيتك وأوطأتَهم رِقاب المُسلمين‏.‏
فقال‏:‏ إنَ عمر كان يَقطع قرابته في الله
وأنا اصِل قَرابتي في الله‏.‏
قال عبدُ الرحمنِ‏:‏ للّه عليّ أن لا أكلمك أبدا فلم يُكلَمه أبداً حتى
مات ودخل عليه عثمان عائداً له في مرَضه فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يُكلِّمه‏.‏
ذكروا أنَ زياداً
أوفد ابن حُصين على معاوية فأقام عنده ما أقام ثم إنَ معاويةَ بعث إليه ليلا فخلا به فقال
له‏:‏ يا بن حُصين قد بلغني أنَّ عندك ذِهناً وعَقلا فأَخبرني عن شيء أسألُك عنه‏.‏
قال‏:‏ سَلْني
عما بدا لك‏.‏
قال‏:‏ أخبرني ما الذي شتَت أمرَ المسلمين وفَرق أهواءهم وخالف بينهم قال‏:‏
نعم قَتْل الناسِ عثمانَ‏.‏
قال‏:‏ ما صنعتَ شيئاً‏.‏
قال‏:‏ فمسيرُ عليّ إليك وقِتالًه إياك‏.‏
قال‏:‏ ما

صنعت شيئاً‏.‏
قال‏:‏ ما عندي غيرُ هذا يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فأنا أخبرك إنه لم يُشتت بين
المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشُّورى التي جعلها عمرُ إلى ستّة نفر وذلك أنَّ
اللّه بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كَره المُشركون فَعَمل بما أمره اللّه
به ثم قَبضه الله إليه وقدَم أبِا بكر للصلاة فرضُوه لأمر دُنياهم إذ رَضِيه رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم لأمر دينهم فَعمل بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار بسَيْره حتى قبضه
اللّه واستخلف عمرَ فعمل بمثل سِيرته ثم جعلها شورى بي ستة نفر فلم يكن رجلٌ منهم إلا
رجاها لنفسه ورجاها له قومُه وتطلعت إلى ذلك نفسُه‏.‏
ولو أنَّ عمرَ استخلف عليهم كما
استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف‏.‏
وقال المُغيرة بن شُعبة‏:‏ إني لعند عمرَ بن الخطاب
وليس عنده أحد غيري إذا أتَاه آتٍ فقال‏:‏ هل لك يا أميرَ المؤمنين في نَفر من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنَ الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له وأنه كان بغير
مَشورة ولا مُؤامرة وقالوا‏:‏ تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها‏.‏
قال عمر‏:‏ وأين هم قال‏:‏ ي دار
طَلْحة‏.‏
فخرج نحوهم وخرجتُ معه وما أعلمه يُبصرني من شدّة الغضب فلما رأواه كَرهوه
وظنوا الذي جاء له‏.‏
فوقف عليهم وقال‏:‏ أنتم القائلون ما قلتم والله لن تتحابوا حتى يتحابّ
الأربعة‏:‏ الإنسان والشيطان يُغويه وهو يَلعنه والنار والماء يطفئها وهي تُحرقه ولم يأنِ لكم بعدُ

وقد آن ميعادُكم ميعاد المسيخ متى هو خارج‏.‏
قال‏:‏ فتفرّقوا فسلك كلُّ واحد منهم طريقا‏.‏
قال
المُغيرة‏:‏ ثم قال لي‏:‏ أدرك ابن أبي طالب فاحْبِسه عليّ‏.‏
فقلت‏:‏ لا يفعل أميرُ المؤمنين وهو مُغِدّ‏.‏

فقال‏:‏ أدرِكه وإلا قلتُ لك يا بن الدباغة‏.‏
قال‏:‏ فأدركتُه فقلت له‏:‏ قِف مكانَك لإمامك واحلُم
فإنه سُلطان وسيَندم وتَندم‏.‏
قال‏:‏ فأقبل عمر فقال‏:‏ والله ما خَرج هذا الأمر إلا من تحت
يدك‏.‏


قال عليّ‏:‏ اتق أن لا تكون الذي نُطيعك فَنَفْتِنك‏.‏
قال‏:‏ وتُحب أن تكون هو قال‏:‏ لا ولكنَّنا
نُذكّرك الذي نَسيتَ‏.‏
فالتفت إليّ عمر فقال‏:‏ انصرف فقد سمعتَ منَا عند الغضب ما كفاك
فتنجّيتُ قريباً وما وقفتُ إلا خشيةَ أن يكون بينهما شيء فأكونَ قريباً فتكلَما كلاماً غير
غَضْبانين ولا راضيَين ثم رأيتُهما يَضحكان وتفرقا‏.‏
وجاءني عمر فمشيتُ معه وقلت‏:‏ يَغفر
الله لك أغضبتَ قال‏:‏ فأشار إلى علي وقال‏:‏ أما واللهّ لولا دُعابهٌ فيه ما شككتُ في ولايته
وإن نزلتْ على رَغم أنف قريش‏.‏

العُتبي عن أبيه‏:‏ إن عُتبة بن أبي سُفيان قال‏:‏ كنتُ مع معاوية في دار كِنْدة إذ أقبل الحسنُ
والحُسين ومحمد وبنو علي بن أبي طالب فقلت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنَّ لهؤلاء القوم أشعاراً
وأبشاراً وليس مثلهم كَذب وهم يزعمون أنّ أباهم كان يعلم‏.‏
فقال‏:‏ إليك من صَوْتك فقد

قَرُب القوم فإذا قاموا فذكِّرني بالحديث فلما قاموا قلت يا أميرَ المؤمنين ما سألتُك عنه من
الحديث قال‏:‏ كل القوم كان يَعلم وكان أبوهم مِن أعلمهم‏.‏
ثم قال‏.‏
قدمتُ على عمرَ بن
الخطاب فإني عنده إذ جاءه عليِّ وعثمان وطلحةُ والزبير وسعدٌ وعبد الرحمن بن عوف
فاستأذنوا فأذِن لهم فدخلوا وهم يتدافعون ويَضْحكون فلما رآهم عمرُ نَكس فعلموا أنه
عِلى حاجة فقاموا كما دخلوا‏.‏
فلما قاموا أتبعهم بصرَه فقال‏:‏ فِتْنة أعُوذ بالله من شرهم
وقد كَفاني الله شرَهم‏.‏
قال‏:‏ ولم يكن عمر بالرجل يُسأل عما لا يُفسَّر‏.‏
فلماِ خرجت جعلت
طريقي على عثمان فحدَثته الحديثَ وسألته الستر‏.‏
قال‏:‏ نعم على شريطة‏.‏
قلت‏:‏ هي لك‏.‏

قال‏:‏ تَسمع ما أخبرك به وتَسكت إذا سكتُ‏.‏
قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ ستة يُقدح بهم زِناد الفِتنة
يجري الدمُ منهم على أربعة‏.‏
قال‏:‏ ثم سكت‏.‏
وخرجتُ إلى الشام فلما قدمتُ علىِ عمر
فَحدث من أمره ما حَدث فلما مضت الشُورى ذكرتُ الحديث فأتيت بيت عثمان وهو
جالس وبيده قَضيب فقلت‏:‏ يا أبا عبد اللّه تذكر الحديثَ الذي حدَثتَني قال‏:‏ فأزَمَ على
القضيب عَضًا ثم أقلع عنه وقد أثر فيه فقال‏:‏ ويحك يا معاوية أيَ شيء ذَكَرتني‏!‏ لولا أن يقول
الناسُ خاف أن يُؤخذ عليه لخرجتُ إلى‏.‏
الناس منها‏.‏
قال‏:‏ فأبى قضاءُ الله إلا ما ترى‏.‏
ومما
نَقم الناسُ على عثمان أنه آوى طريدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكَم بن أبي العاص ولم

يُؤْوه أبو بكر ولا عُمر وأعطاه مائةَ ألف وسَير أبا ذَرّ إلى الربذة وسير عامرَ بن عبد قيس من
البَصرة إلى الشام وطَلب منه عُبيد الله بنُ خالد بن أسِيد صلةً فأعطاه أربعمائة ألف وتصدّق
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمهزور - موضِع سوق المدينة - على المُسلمين فأقطعها
الحارثَ بن الحَكم أخا مَرْوان وأقطع فدك مروانَ وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وافتتح إفريقية وأخذ خُمسه فوهبه لمَروان‏.‏
فقال عبد الرحمن بن حَنْبل الْجُمحي‏:‏
فأحْلِفُ بالله رَبّ الأنا م ما كتب اللّه شيئا سُدَى
ولكنْ خلِقت لنا فِتْنةً لكَي نُبتَلى بك أو تبتلى
فإن الأمينَينْ قد بَينا مَناراً لحق عليه الهُدى
فما أخذا دِرْهما غِيلةً وما تَركا دِرْهما في هَوى
وأعطيتَ مَرْوان خمس العبا د هيهات شأوك ممن شَأى

نسب عثمان وصفته
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏
أمه أروى بنت كُريز
بن رَبيعة بن حَبيب بن عبد شمس‏.‏
وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عم النبيّ صلى
الله عليه وسلم‏.‏
وكان عثمان أبيضَ مُشرباً صُفرة كأنها فضة وذهب حَسنَ القامة حَسن
الساعدين سَبط الشعر أصلع الرأس أجمل الناس إذا اعتمَّ مُشرف الأنف عَظيم الأرْنبة
كثير شَعر السّاقين والذّراعين ضَخْم الكَراديس بعيدَ ما بين المَنْكبين‏.‏
ولما أسنَ شدّ أسنانه
بالذَهب وسَلِس بَوْلُه فكان يتوضَّأ لكل - صلاة وَلِي الخلافةَ مُنْسلخَ ذي الحِجّة سنة ثلاث
وعشرين وقُتل يوم الجمعة صَبيح عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين‏.‏
وفي ذلك يقول حسان‏:‏
ضَحوا بأشمطَ عُنوان السُّجود به يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا
لنسمعنّ وشيكاً في دِيارهمُ اللّه أكبرُ يا ثاراتِ عُثمانا
فكانت ولايتُه اثنتي عشرةَ سنة وستةَ عشر يوما‏.‏
وهو ابن أربع وثمانين سنة‏.‏
وكان على
شرُطته - وهو أوّل من - اتخذ صاحبَ شرطة - عبيدُ اللّه ابن قُنفذ‏.‏
وعلى بيت المال عبدُ
اللّه بن أرقم ثم استعفاه‏.‏
وكاتبه‏:‏ مروان‏.‏
وحاجبه‏:‏ حُمران مولاه‏.‏


سالمُ بن عبد اللّه بن عُمر قال‏:‏ أصاب الناسَ مجاعة في غَزوة تبوك فاشترى عثمان طعاماً على
ما يُصلح العسكر وجَهز به عِيراً‏.‏
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سواد مُقبل فقال‏:‏ هذا
جمل أشقر قد - جاءكم بميرة‏.‏
فأنيخت الركائب فرَفع رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يديه
إلى السماء وقال‏:‏ اللهم إني قد رضيتُ عن عثمان فارضَ عنه‏.‏
وكان عثمان حليما سخيًا
مُحببا إلى قريش حتى كان يقال‏:‏ ‏"‏ أحبك والرحمن حب قُريش عثمان ‏"‏‏.‏
وزوجه النبي صلى
الله عليه وسلم رُقية ابنته فاتت عنده فزوّجه أم كلثوم ابنته أيضاً‏.‏

الزهري عن سعيد بنُ المُسيب قال‏:‏ لما ماتت رُقية جَزع عثمانُ عليها وقال‏:‏ يا رسول الله
انقطع صِهْري منك‏.‏
قال‏:‏ إن صهرك مني لا ينقطع وقْد أمرني جبريلُ أن أزوجك أختَها بأمر
الله‏.‏
عبد اللّه بن عباس قال‏:‏ سمعتُ عثمان بن عفان يقول‏:‏ دخل عليّ رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم في هذا البيت فراني ضجيعا لأم كلثوم فاستعبر فقلت‏:‏ والذي بَعَثك بالحق ما
اضطجعتْ عليه أنثى بعدها‏.‏
فقال‏:‏ ليس لهذا استعبرتُ فإن الثياب للحيّ وللميت الحَجر ولو
كُن يا عثمان عشراً لزوجتُكهن واحدةً بعد واحدة‏.‏
وعرض عمرُ بن الخطاب ابنته حَفصة على
عُثمان فأبى منها فشكاه عمرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ سيزوج اللّه ابنتك خيراً من
عثمان ويزوج عثمان خيراً من ابنتك‏.‏
فتزوج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَفصة وزوج

ابنته من عثمان بن عفان‏.‏
‏"‏ ومن حديث الشَّعبي أن النبي عليه إسلام دخل عليه عثمان فسوّى
ثوبه
عليه وقال‏:‏ كيف لا أستحي ممن تَستحي منه الملائكة‏!‏
مقتل عثمان بن عفان
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أرِبعة‏:‏ عبدُ
الرحمن بن عُديس التَنوخيّ وحَكيم بن جَبلة العَبْديّ والأشتر النَخَعي وعبدُ الله بن فُديك
الخُزاعي‏.‏
فقدمُوا المدينةَ فحاصروه وحاصره معهم قومٌ من المهاجرين والأنصار حتى دخلوا
عليه فقتلوه والمصحف بين يديه‏.‏
ثم تقدّموا إليه وهو يقرأ يومَ الجمعة صَبيحة النَّحر وأرادوا أن
يقطعوا رأسه ويَذهبواِ به فرمَت نفسها عليه امرأتُه نائلةُ بنت الفُرافصة وابنة شَيبة بن ربيعة
فتركوه وخرجوا‏.‏
فلما كان ليلةَ السبت انْتَدب لدفنه رجال منهم‏:‏ خبير ابن مُطعم وحَكيم بن
حِزام وأبو الجَهم بن حُذيفة وعبدُ الله بن الزُبير فوضعوه على باب صَغير وخرجوا به إلى
البَقيع ومعهم نائلةُ بنتُ الفُرافصة بيدها السَراج‏.‏
فلما بلغوا به البَقيع مَنعهم من دَفْنه فيه رجالٌ
من بني ساعدة فردّوه إلى حُش كَوكب فدفنوه فيه وصلّى عليه خبير بن مُطعِم ويقال‏:‏ حَكيم

بن حِزام‏.‏
ودَخلت القبرَ نائلةُ بنت الفُرافصة وأمُ البنين بنت عُيينة زوجتاه وهما دلّتاه في
القبر‏.‏
والحُش‏:‏ البستان‏.‏
وكان حُشَّ كوكب اشتراه عثمان فجعله أولادُه مقبرة للمُسلمين‏.‏

يعقوب بن عبد الرحمن‏:‏ عن محمد بن عِيسى الدِّمشقي عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذِئب
عن محمد بن شهاب الزُّهري قال‏:‏ قلتُ لسعيد بن المُسيّب‏:‏ هل أنت مُخبري كيف قتل عثمان
وما كان شأن الناسِ وشأنه ولم خَذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قُتل
عثمان مَظلوماً ومَن قتله كان ظالماً ومَن خذله كان مَعذوراً‏.‏
قلت‏:‏ وكيف ذاك قال‏:‏ إنّ
عثمان لما وَلي كَره ولايتَه نفرٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأنّ عثمان كان
يُحب قومه فوَلي الناسَ اثنتي عشرة سنةً وكان كثيراً ما يُولّي بني أمية ممن لم يكن له من لرسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم صُحبة وكان يَجيء من أمرائِه ما يُنكره أصحابُ محمد فكان
يُستعتب فيهم فلا يَعزلهم‏.‏
فلما كان في الحِجج الآخرة استأثر ببني عمه فولّاهم وأمرهم بتقوى
اللّه فخرجوا‏.‏
وولّى عبدَ اللّه بن أبي صح مصرَ فمكث عليها سِنين فجاء أهلُ مصر يشكونه
ويتظلّمون منه‏.‏
ومن قبل ذلك كانت من عثمان هَناةٌ إلى عبد اللّه بن مسعود وأبي ذَرّ وعمّار بن
ياسر‏.‏
فكانت هُذيل وبنو زُهرة في قلوبهم ما فيها لابن مَسعود‏.‏
وكانت بنو غِفار وأحلافها ومن
غَضب لأبي ذرّ في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخَزوم قد حَنِقت على عثمان بما نال عمّارَ بن

ياسر‏.‏
وجاء أهلُ مصر يشكون من ابن أبي سرَح فكتب إليه عثمانُ كتاباً يتهدّده فأبى ابن
أبي سرح أن يَقبل ما نهاه عثمانُ عنه وضَرب رجلاً ممن أتى عثمانَ فقتله‏.‏
فخرج من أهل
مصر سبعُمائة رجل إلى المدينة فنزلوا المسجدَ وشكوا إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم في مواقيت الصلاة ما صَنع ابن أبي سَرْح‏.‏
فقام طلحةُ بن عُبيد اللّه فكلَّم عثمانَ بكلام
شديد‏.‏
وأرسلت إليه عائشةُ‏:‏ قد تقدَّم إليك أصحابُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم
وسألوك عَزل هذا الرجل فأبيتَ أن تعزلَه فهذا قد قَتل منهم رجلاً فأنْصِفهم من عاملك‏.‏

ودخل عليه عليٌّ وكان متكلّمَ القوم فقال‏:‏ إنما سألوك رجلاً مكَان رجل وقد ادعوا قِبله دماً
فاعزله عنهم واقض بينهم وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه‏.‏
فقال لهم‏:‏ اختاروا رجلاً أولِّه
عليكم مكانَه‏.‏
فأشار الناسُ عليهم بمحمد ابن أبي بكر‏.‏
فقالوا‏:‏ استعمل علينا محمدَ بن أبي
بكر‏.‏
فكَتب عهدَه وولاّهَ وأخرج معهم عِدَّة من المُهاجرين والأنصار يَنظرون فيما بين أهل مِصر
وابن أبي سَرْح‏.‏
فخرج محمد ومَن معه فلما كان على مَسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغُلام
أسود على بعير يَخبط الأرض خَبْطا كأنه رجل يَطلب أو يُطلب‏.‏
فقال له أصحابُ محمد‏:‏ ما
قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب‏.‏
فقال‏:‏ أنا غلامُ أمير المؤمنين وجّهني إلى عامل
مصر‏.‏
فقالوا‏:‏ هذا عامل مصر معنا‏.‏
قال‏:‏ ليس هذا أريد‏.‏
وأخبر بأمره محمدُ بن أبي بكر

فبعث في طلبه فأتي به فقال له‏:‏ غلامُ من أنت قال‏:‏ فأقبل مرة يقول‏:‏ غلام أمير المؤمنين
ومرة‏:‏ غلامُ‏.‏
مَروان حتى عَرفه رجل منهم أنَّه لعثمان‏.‏
فقال له محمد‏:‏ إلى من أرسلت قال‏.‏

إلى عامل مصر‏.‏
قال‏:‏ بماذا قال‏:‏ برسالة‏.‏
قال‏:‏ معك كتاب قال‏:‏ لا‏.‏
ففتّشوه فلم يُوجد معه
شيء إلا إداوة قد يَبِست فيها شيء يَتقلقل فحركوه ليخرج فلم يَخْرج فشقُوا الإداوة فإِذا فيها
كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرَح‏.‏
فجمع محمدٌ مَن كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم
ثم فُكّ الكتاب بِمَحضر منهم فإذا فيه‏:‏ إذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقَتْلهم وأبْطل
كتابَهم وقَرَّ على عملك حتى يأتيَك رأي واحتبس مَن جاء يتظلّم منك ليأتيك في ذلك رأي إن
شاء اللّه‏.‏
فلما قرأوا الكتاب فَزعوا وعَزموا على الرُّجوع إلى المدينة وخَتم محمد الكتاب بخواتم
القوم الذين أرسلوا معه ودَفعوا الكتاب إلى رجل منهم وقَدِموا المدينة فجمعوا عليًّا وطلحةَ
والزُّبير وسعداً ومَن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ فكّوا الكتاب بمَحضر
منهم وأخبروهم بقصّة الغلام وأقرأوهم الكتابَ فلم يبق أحدٌ في المدينة إلا حَنِق على عثمان
وازداد مَن كان منهم غاضباً لابن مسعود وأبي ذر وعمّار بن ياسر غَضباً وحَنقا وقام
أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم فلحقوا منازلَهم ما منهم أحد إلا وهو مُغتم بما قرأوا في
الكتاب‏.‏
وحاصرَ الناسُ عثمان وأجلب عليه محمدُ بن أبي بكر بنِي تَيم وغيرهم وأعانه طلحةُ

بن عبيد اللهّ على ذلك‏.‏
وكانت عائشة تُقرّضه كثيراً‏.‏
فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحةَ
والزُبير وسَعد وعَمَّار ونفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّهم بَدْري ثم دخل
على عثمان ومعه الكتابُ والغلام والبعير وقال له علي‏:‏ هذا الغلام غلامك قال‏:‏ نعم‏.‏
والبعيرُ
بعيرك قال‏:‏ نعم‏.‏
والخاتَم خاتمك قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فأنت كتبتَ الكِتاب قال‏:‏ لا وحَلف
بالله‏:‏ ما كتبتُ الكتاب ولا أمرتُ به ولا وجّهت الغلامَ إلى مصر قط‏.‏
وأما الخط فعرفوا أنه خط
مَرْوان وشكّوا في أمر عثمان وسألوه أن يَدفع إليهم مَروان فأبى‏.‏
وكان مَروان عنده في الدار‏.‏

فخرج أصحابُ محمد من عنده غِضاباً وشكّوا في أمر عثمان وعَلِموا أنه لا يَحْلف باطلاً إلا
أن قوماً قالوا‏:‏ لا نُبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مَروان حتى نَمتَحنه ونَعْرف أمرَ هذا الكتاب
وكيف يأمر بقَتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق‏!‏ فإن يك عثمانُ كَتبه
عَزلناه وإن يك مروان كَتبه على لسانه نَظرنا في أمره ولزموا بيوتَهم‏.‏
وأبى عثمانُ أن يُخرج إليهم
مروانَ وخَشي عليه القتل‏.‏
وحاصرَ الناسُ عثمانَ ومَنعوه الماء فأشرف عليهم فقال‏:‏ أفيكم
عليّ قالوا‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ أفيكم سَعد قالوا‏:‏ لا‏.‏
فسكت ثم قال‏:‏ ألا أحدٌ يبلغ عليّا فَيسقينا
ماء فبلغ ذلك عليا فبعث إليه ثلاث قِرَب مملوءة ماء فما كادت تصلُ إليه وجُرح بسببها عِدَّة
من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل إليه الماء‏.‏
فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قَتله فقال‏:‏ إنما

أردنا منه مَروان فأما قَتلِ عثمان فلا‏.‏
وقالت للحسن والحُسين‏:‏ اذهبا بسَيْفيكما حتى تَقوماً
على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه‏.‏
وبعث الزُّبيرُ ولدَه وبعث طَلحة ولدَه على
كُره منه وبعث عِدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ليمنعوا الناسَ أن
يَدخلوا على عثمان وسألوه إخراج مَرْوان‏.‏
ورَمى الناس عثمان بالسِّهام حتى خضب الحسن
بن عليّ الدِّماء على بابه وِأصاب مَروانَ سهْمٌ في الدار وخُضب محمد بن طلحة وشجّ قُنبر
مولى عليّ‏.‏
وخشي محمد بن أبي بكر أن تَغضب بنو هاشم لحال الحَسن والحُسين فيُثيرونها
فأخذ بيدي رجلين فمال لهما‏:‏ إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحَسن والحُسين
كُشف الناس عن عثمان وبَطل ما نُريد ولكن مُرّوا بنا حتى نتسوّرَ عليه الدار فنقتلِه من غير
أن يعلم أحد‏.‏
فتسوَّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار‏.‏
ويقال من دار
محمد بن حَزْم الأنصاري‏.‏
ومما يدل على ذلك قولُ الأحوص‏:‏
لا تَرْثينّ لَحزميٍّ ظَفِرتَ به طُرًّا ولو طُرح الحَزْميُّ في النارِ
الناخِسين بمروان بذي خُشب والمُدْخِلين على عُثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه إلا امرأته نائلة بنت الفُرافصة والمُصحف في حجره ولا يعلم أحد فّي
كان معه لأنهم كانوا على البيوت‏.‏
فتقدم إليه محمد وأخذ بلحيته فقال له عثمان‏:‏ أرسل لِحْيتي

يا بن أخي فلو رآك أبوك لساءه مكانُك‏.‏
فتراخت يدُه من لِحْيته وغَمز الرجلين فوجاه بمشَاقص
معهما حتى قتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا‏.‏
وخرجت امرأتُه فقالت‏:‏ إنّ أمير المؤمنين
قد قُتل‏.‏
فدخل الحسن والحْسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مَذْبوحاً فأكبّوا عليه يَبكون‏.‏

وبلغ الخبرُ عليًّا وطَلحة والزُبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخَرجوا وقد ذهبت عقولُهم حتى
دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا‏.‏
وقال عليّ لابنيْه‏:‏ كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما
على الباب ورَفع يدَه فلَطم الحُسين وضرب صدر الحَسن وشتم محمدَ بن طلحة ولَعن عبدَ
اللّه بن الزُبير‏.‏
ثم خرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان عليه‏.‏
فلقيه طلحةُ فقال‏:‏ ما لك يا
أبا الحسن ضربت الحَسن والْحُسين فقال‏:‏ عليك وعليهما لعنةُ الله يُقتل أمير المؤمنين ورجل من
أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بَدْريّ ولم تقم بيّنة ولا حُجة‏!‏ فقال طلحة‏:‏ لو دَفع مروانَ لم
يُقتل‏.‏
فقال‏:‏ لو دفع مروانَ قُتل قبل أن تَثبت عليه حُجة‏.‏
وخرج علي فأتى منزلَه‏.‏
وجاءه القوم
كُلهم يُهرعون إليه أصحافُ محمد وغيرهم يقولون‏:‏ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فقال‏:‏ ليس
ذلك إلا لأهل بدر فمن رَضي به أهلُ بدر فهو خليفة فلم يبق أحدٌ من أهل بدر إلا أتى عليًّا
فقالوا‏:‏ ما نرى أحداً أولى بها منك فمُد يدَك نُبايعك‏.‏
فقال‏:‏ أين طلحة والزُبير وسَعْد فكان
أول من بايعه طلحةُ بلسانه وسعدٌ بيده‏.‏
فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد فَصعد المنبر

فكان أولا مَن صعد طلحةُ فبايعه بيده وكانت إصبعه شلاّء فتطيّر منها عليّ وقال‏:‏ ما
أخلَقه أن يَنْكث‏.‏
ثم بايعه الزّبير وسعدٌ وأصحاب النبيّ جميعاً‏.‏
ثمِ نزل ودعا الناسِ وطلبَ
مروان فهرب منه‏.‏
خرجت عائشة باكيةَ تقول‏:‏ قُتل عثمان مظلوماً‏!‏ فقال لها عمار‏:‏ أنتِ
بالأمس تُحرضين عليه واليومَ تَبْكِين عليه‏!‏ وجاء عليٌّ إلى امرأة عثمان فقال لها‏:‏ من قَتل
عثمان قالت‏:‏ لا أدري دخل رجلان لا أعرفهما إلا أن أرى وجُوههما وكان معهما محمدُ بن
أبي بكر وأخبرتْه بما صَنع محمد بن أبي بكر‏.‏
فدعا علي بمحمد فسأله عما ذكرت امرأةُ
عثمان‏.‏
فقال محمد‏:‏ لم تكذب وقد والله دخلتُ عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمتُ وأنا
تائب والله ما قتلتُه ولا أسكته‏.‏
فقالت امرأة عثمان‏:‏ صَدق ولكنه أدخلهما‏.‏
لمُعتمر عن أبيه
عن الحسن‏:‏ إن محمد بن أبي بكر أخذ بلِحية عثمان فقال له‏:‏ ابن أخي لقد قعدتَ منّي مقعداً
ما كان أبوك ليقعده‏.‏
وفي حديث آخر‏:‏ إنه قال‏:‏ يا بن أخي لو رآك أبوك لساءه مكانُك‏.‏

فاسترخت يدُه وخرج محمد‏.‏
فدخل عليه رجل والمصحف في حجره فقال له‏:‏ بيني وبينك
كتابُ اللّه فأهوى إليه بالسيف فاتقاه بيده فقطعها‏.‏
فقال‏:‏ أما إنها أول يد خَطّت المُفَصَّل‏.‏


القواد الذين أقبلوا إلى عثمان
الأصمعي عن أبي عَوانة قال‏:‏ كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان‏:‏ عَلقمة ابن عثمان وكِنانة بن
بِشْر وحَكيم بن جَبلة والأشتر النَّخعيّ وعبدُ اللّه بن بُديل‏.‏
وقال أبو الحسن‏:‏ لما قدم القواد
قالوا لعليّ‏:‏ قُم معنا إلى هذا الرجل‏.‏
قال‏:‏ لا واللهّ لا أقوم معكم‏.‏
قالوا‏:‏ فلم كتبتَ إلينا قال‏:‏
والله ما كتبتُ إليكم كتاباً قط‏.‏
قال‏:‏ فنظر القوم بعضُهم إلى بعض وخرج عليّ من المدينة‏.‏

الأعمش عن عُيينة عن مَسروق قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ مُصْتموه مَوْص الإناء حتى تركتموه كالثَّوب
الرَّحيض نقيًّا من الدنس ثم عَدوتم فقتلتموه‏!‏ فقال مَرْوان‏:‏ فقلت لها‏:‏ هذا عَملك كتبتِ إلى
الناس تأمرينهم بالخروج عليه‏.‏
فقالت‏:‏ والذي آمن به المُؤمنون وكَفر به الكافرون ما كَتبتُ إليهم
بسواد في بَياض حتى جلستُ في مجلسي هذا‏.‏
فكانوا يَرَون أنه كُتب على لسان عليّ وعلى
لسانها كما كُتب أيضاً على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر‏.‏
فكان اختلاف هذه
الكتب كلها سبباً للفتنة‏.‏
وقال أبو الحسن‏:‏ أقبل أهلُ مصر عليهم عبدُ الرحمن بن عُديس البَلويّ
وأهلُ البصرة عليهم حَكيم بن جَبلة العَبدي وأهل الكوفة عليهم الأشتر - واسمه مالك بن
الحارث النّخعي - في أمر عُثمان حتى قَدِموا المدينة‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ لما قدم وفدُ أهل مصر

دخلوا على عُثمان فقالوا‏:‏ كتبتَ فينا كذا وكذا قال‏:‏ إنما هما اثنتان أن تُقيموا رجلين من
المسلمين أو يَميني باللّه الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمْليت ولا عَلِمت وقد يُكتب الكتاب
على لسان الرجل ويُنقش الخاتَم على الخاتم‏.‏
قالوا‏:‏ قد أحلّ اللّه دمَك وحَصروه في الدار‏.‏

فأرسل عثمان إلى الأشتر فقال له‏:‏ ما يريد الناسُ مني قال‏:‏ واحدة من ثلاث ليس عنها بُدّ‏.‏

قال‏:‏ ما هي قال‏:‏ يُخيّرونك بين أن تَخلع لهم أمرَهم فتقول‏:‏ هذا أمركم فقفَدوه من شئتم وإما
أن تقتصّ من نفسك فإن أبيتَ فالقوِم قاتلوك‏.‏
قال‏:‏ أما أن أخلع لهم أمرَهم فما كنتُ لأخلع
سربالاً سربلنيه اللّه فتكون سُنةً مِن بعدي كلما كَره القوم إمامهم خَلعوه وأما أن أقتص من
نفسي فواللّه لقد علمتُ أن صاحبيّ بين يدي قد كانا يُعاقبان وما يقوى بدَني على القِصاص
وأما أن تقتلوني فلئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبداً ولا تُصلّون بعدي جميعاً أبداً‏.‏
قال أبو
الحسن‏:‏ فواللّه لن يزالوا على النَّوى جميعاً وإن قلوبهم مختلفة‏.‏
وقال أبو الحسن‏:‏ أشرف عليهم
عثمان وقال‏:‏ إنه لا يحِل سفك دم امرىء مُسلم إلا في إحدى ثلاث‏:‏ كُفر بعد إيمان أو زنا بعد
إحصان أو قَتل نَفس بغير نَفس فهل أنا في واحدة منهن فما وَجد القوم له جوابا‏.‏
ثم قال‏:‏
أنشدكم اللّه هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حِراء ومعه تِسعة من
أصحابه أنا أحدهم فتزلزل الجبلُ حتى همَّت أحجارُه أن تتساقط فقال‏:‏ اسكُن حِراء فما

عليك إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد قالوا‏:‏ اللهم نعم‏.‏
قال‏:‏ شهدوا لي وربِّ الكعبة‏.‏
قال أبو
الحسن‏:‏ أشرف عليهم عثمان فقال‏:‏ السلامُ عليكم فيا ردّ أحدٌ عليه السلام‏.‏
فقال‏:‏ أيها الناس
إن وجدتم في الحق أن تَضعوا رجلي في القَبر فضعُوها‏.‏
فما وجد القومُ له جوابا‏.‏
ثم قال‏:‏
أستغفر اللّه إن كنت ظَلمتُ وقد غفرتُ إن كنت ظُلمت‏.‏

يحيى بن سعيد عن عبد اللّه بن عامر بنِ ربيعة قال‏:‏ كنتُ مع عثمان في الدار فقال‏:‏ أعزم على
كل مَن رأى أنّ لي عليه سمعاً وطاعة أن يكُف يدَه ويُلقى سلاحه‏.‏
فألقى القومُ أسلحتَهم‏.‏
ابن
أبي عَروبة عن قتادة‏:‏ إن زَيد بن ثابت دخل على عُثمان يومَ الدار فقالت‏:‏ إن هذه الأنصار
بالباب وتقول‏:‏ إن شئتَ كُنَا أنصارَ اللّه مرّتين‏.‏
قال‏:‏ لا حاجة لي في ذلك كُفّوا‏.‏
ابن أبي عَروبة
عن يَعلى بن حَكيم عن نافع‏:‏ إن عبد اللّه بن عمر لَبس دِرْعه وتقلّد سيفه يوم الدار فَعزم عليه
عثمانُ أن يخرج ويَضع سلاحَه ويكفّ يده ففعل‏.‏
محمد بن سيرين قال قال سَلِيط‏:‏ نهانا عثمان
عنهم ولو أذِن لنا عثمان فيم لضَربناهم حتى نُخرجهم من أقطارنا‏.‏


ما قالوا في قتلة عثمان
العُتبيّ قال‏:‏ قال رجل من ليث‏:‏ لقيتُ الزبيرَ قادماً فقلت‏:‏ أبا عبد الله ما بالُك قال‏:‏
مَطلوب مَغلوب يَغلبني ابني ويطلبني ذَنبي‏.‏
قال‏:‏ فقدمتُ المدينة فلقيتُ سعدَ بن أبي وقّاص
فقلت‏:‏ أبا إسحاق من قتل عثمان قال‏:‏ قتله سيفٌ سلته عائشة وشَحذه طلحة وسمّه
عليّ‏.‏
قلت‏:‏ فما حال الزُبير قال‏:‏ أشار بيده وصَمت بلسانه‏.‏
وقالت عائشة‏:‏ قَتل اللّه مذمماً
بسعيه على عثمان تريد محمداً أخاها وأهرق دمَ ابن بُديل على ضَلالته وساق إلى أعينَ بني
تميم هواناً في بيته ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يُشوِي‏.‏
قال‏:‏ فما منهم أحد إلا أدركته
دعوةُ عائشة‏.‏
سفيان الثوري قال‏:‏ لقي الأشترُ مَسروقاً فقال له‏:‏ أبا عائشة ما لي أراك غَضبان
على ربّك من يوم قُتل عثمان بن عفان لو رأيتَنا يوم الدار ونحن كأصحاب عِجل بني
إسرائيل‏!‏ وقال سعدُ بن أبي وقاص لعمار بن ياسر‏:‏ لقد كنتَ عندنا من أفاضل أصحاب محمد
حتى إذا لم يَبق من عمرك إلا ظِمء الحمار فعلتَ وفعلتَ يُعرّض له بقتل عثمان‏.‏
قال عمار‏:‏ أي
شيء أحبُّ إليك مودةٌ عَلَى دَخَل أو هَجْر جميل قال‏:‏ هَجْر جميل‏.‏
قال‏:‏ فللّه عليٌ ألاّ
أكلمك أبدا‏.‏
دخل المُغيرة بن شُعبة على عائشة فقالت‏:‏ يا أبا عبد الله لو رأيتني يومَ الجمل وقد

نفذتْ النِّصالُ هَوْدجي حتى وصل بعضُها إلى جِلْدي‏.‏
قال لها المغيرة‏:‏ وددتُ والله أن بَعضها
كان قتلك‏.‏
قالت‏:‏ يرحمك الله ولم تقول هذا قال‏:‏ لعلَها تكون كَفّارة في سَعْيك على عُثمان‏.‏

قالت‏:‏ أما والله لئن قلتَ ذلك لما عَلم الله أني أردتُ قتله ولكن علم اللّه أني أردتُ أن يُقاتَل
فقوتلتُ وأردتً أن يُرمى فرُميت وأردت أن يعصى فعُصيت ولو علم مني أني أردتُ قتلَه
لقُتلت‏.‏
وقال حسان بن ثابت لعليّ‏:‏ إنك تقول‏:‏ ما قتلتُ عثمان ولكن خذلتُه ولم آمُر به ولكن
لم أنه عنه فالخاذل شريك القاتل والساكتُ شريك القاتل‏.‏
أخذ هذه المعنى كعبُ بن جُعيل
التَّغلبي وكان مع معاوية يوم صِفّين فقال في عليّ بن أبي طالب‏:‏
وما في علّي لمستحدِث مقالٌ سوى عَصْمه المُحْدِثينَا
وإيثارِه لأهالي الذُنوب ورَفْع القَصاص عن القاتلينا
إذا سِيل عنه زوى وجهه وعمى الجواب على السائلينا
فليس براضٍ ولا ساخطٍ ولا في النُهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساهُ ولا سرَّه ولا آمن بعضَ ذا أن يكونا
وقال رجل من أهل الشام في قَتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه‏:‏
خذلْته الأنصارُ إذ حَضر المو تُ وكانت ثِقاتِه الأنصارُ

حُرْم بالبلاد من حُرم الل ه ووالٍ من الوُلاة وجار
أين أهلُ الحَياء إذ مُنع الما ءَ فَدته الأسماعُ والأبصار
مَن عَذيرى مِن الزُّبير ومِن طَ لحة هاجا أمراً له إعصار
تَركوا النّاس دونهم عبرةُ العِجْ ل فشبّت وسطَ المدينة نار
هكذا زاغت اليَهود عن الح ق بما زَخْرفت لها الأحبار
ثم وافى محمدُ بن أبي بك رجهاراً وخَلْفه عَمّار
وعليّ في بيته يسأل النا سَ ابتداء وعنده الأخبار
باسطاً للتي يُريد يديه وعليه لسَكينة ووَقار
يَرقُب الأمر أن يُزفّ إليه بالذي سببت له الأقدار
قد أرى كثرةَ الكلام قبيحاً كُل قول يشينه إكثار

وقال حسان يرثيِ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه‏:‏
مَن سرِّه الموتُ صِرْفاً لا مِزَاج له فَلْيأتِ مَأْسَدة في دارِ عُثمانا

يا لي شِعْري ولي الطَّير تُخبرني ما كان شأنُ عليّ وابن عَفّانا
لتسمعينّ وشيكا في ديارهمُ الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا بأشمطَ عُنوانُ السُّجود به يًقطَع الليلَ تَسبيحاً وقرآنا
مقتل عثمان بن عفان
أبو الحسن عن مَسْلمة عن ابن عون‏:‏ كان ممن نصر عُثمانَ سبعُمائة فيهم الحسنُ بن عليِّ وعبدُ
اللهّ بن الزُبير‏.‏
ولو تَركهم عثمانُ لضربوهم حتى أخرجوهم من أقطارها‏.‏

أبو الحسن عن جُبير بن سِيرين قال‏:‏ دخل ابن بُدَيل على عثمان وبيده سيف وكانت‏!‏ بينهما
شَحناء فضربه بالسيف فاتقاه بيده فقَطعها فقال‏:‏ أما إِنها أول كف خَطّت المُفَضَل‏.‏

أبو الحسن قالت‏:‏ يوم قُتل عثمان يقال له‏:‏ يوم الدار‏.‏
وأغلق على ثلاثة من القَتلى‏:‏ غلام أسود
كان لعثمان وكنانة بن بِشر وعُثمان‏.‏

أبو الحسن قال‏:‏ قال سلامة بن رَوْح الخُزاعي لعمرو بن العاص‏:‏ كان بينكم وبين الفتنة فكسرتموه
فما حَملكم على ذلك قال‏:‏ أردنا أن نُخرج الحق من حَفيرة الباطل وأن يكون الناس في الحق
سواء‏.‏
عن الشّعبي قال‏:‏ كتب عثمان إلى مُعاوية‏:‏ أن أمدّني‏.‏
فأمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن

أسَد بن كرز البَجَليّ‏.‏
فتلقاه الناس بقتل عثمان فانصرف فقال‏:‏ لو دخلتُ المدينة وعثمان حيّ
ما تركت بها مُختلفا إلا قتلتُه لأن الخاذل والقاتل سواء‏.‏
قيس بن رافع قال قال زيدُ بن ثابت‏:‏
رأيتُ عليّا مُضطجعاً في المسجد فقلت‏:‏ أبا الحسن إن الناس يَرَوْن أنك لو شئت رددتَ
الناس عن عثمان‏.‏
فجلس ثم قال‏:‏ واللّه ما أمرتُهم بشيء ولا دخلتُ في شيء من شأنهم‏.‏

قال‏:‏ فأتيتُ عثمان فأخبرتُه فقال‏:‏
وحَرّق قيس عليّ البلا دَ حتى إذا اضطرمت أجذما
الفضلُ عن كَثير عن سَعيد المَقبريٌ قال‏:‏ لما حَضروا عثمان ومَنعوه الماء قال الزُّبير‏:‏ وحِيلَ بينهم
وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قَبل‏.‏
ومن حديث الزُّهري قال‏:‏ لما قَتل مُسلمُ بن عُقبة
أهلَ المدينة يوم الحَرّة قال عبد الله بن عمر‏:‏ بفعلهم في عُثمان ورب الكعبة‏.‏
ابن سيرين عن ابن
عباس قال‏:‏ لو أمطرت السماء دماً لقَتْل عثمان لكان قليلاً له
أبو سعيد مولى أبي حُذيفة قال‏:‏ بَعث عثمانُ إلى أهل الكوفة‏:‏ مَن كان يُطالبني بدينار أو دِرْهم
أو لطمة فليأت يأخذ حقَه أو يتصدًق فإن اللّه يجزي المتصدقين‏.‏
قال‏:‏ فبكى بعضُ القوم
وقالوا‏:‏ تصدَقنا‏.‏
ابن عون عن ابن سيرين قال‏:‏ لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم أشدَ على عثمان من طَلحة‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ كان عبدُ الله بن عباس يقوِل‏:‏ ليغلبنّ معاويةُ

وأصحابُه عليَّا وأصحابَه لأن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ ومَن قُتِلَ مَظْلُوماَ فقد جَعلنا لوليّه سُلطاناً ‏"‏‏.‏
أبو
الحسن قال‏:‏ كان ثُمامة الأنصاري عاملًا لعثمان فلما أتاه قَتْلُه بكى وقال‏:‏ اليومَ انتُزعت خلافةُ
النبوة من أمة محمد وصار المُلك بالسيف فَمن غَلب على شيء أكله‏.‏
أبو الحسن عن أبي
مخْنف عن نُمير بن وَعْلة عن الشعبي‏:‏ أنَّ نائلةَ بنت الفُرافصة امرأة عثمان بن عفّان كَتبت إلى
معاوية كتاباً مع النعمان بن بَشير وبَعثت إليه بقميص عثمان محضوباً بالدماء‏.‏
وكان في كتابها‏:‏
مِن نائلة بنت الفُرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد‏:‏ فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم
عليكم وعلّمكم الإسلام وهداكم من الضلالة وأنقذكم في الكُفر ونَصركم على العدو وأسبغ
عليكم نعمَه ظاهرةً وباطنة وأنشُدكم الله وأذكِّركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعَزم اللهّ
عليكم فإنه قال‏:‏ ‏"‏ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏"‏‏.‏
فإن أمير المؤمنين بُغي عليه ولو لم يكن
لعُثمان عليكم إلا حقَّ الولاية لحقَّ على كل مُسلم يرجو إمامته أن ينصره فكيف وقد علمتم
قِدَمه في الإسلام وحُسن بلائه وأنه أجاب اللّه وصَدّق كتابه وأتبع رسولَه والله أعلم به إذ
انتخبه فأعطاه شرفَ الدنيا وشرفَ الآخرة‏.‏
وإني أقُص عليكم خَبره إني شاهدةٌ أمرَه كُلَّه‏:‏ إنّ
أهل المدينة حَصروه في داره وحَرسوه ليلَهم ونهارَهم قياماً على أبوابه بالسِّلاحِ يَمنعونه من كل

شيء قَدروا عليه حتى مَنعوه الماء فمكث هو ومَن معه خمسين ليلةً وأهلُ مصر قد أسندوا
أمرَهم إلى عليّ ومحمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر وطلحة والزُبير فأمروهم بقتله وكان معهم
من القبائل خُزاعة وسَعد بن بكر وهُذيل وطوائف من جُهينة ومُزينة وأنباط يثرب فهؤلاء كانوا
أشدَّ الناس عليه‏.‏
ثم إنه حُصر فَرُشق بالنَّبل والحجارة فجُرح ممن كان في الدار ثلاثةُ نفر معه
فأتاه الناس يصرْخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلَهم فردُّوها
عليهم فما زادهم ذلك في القتل إلا جُرٍأة وفي الأمر إلا إغراقاً فَحرقوا باب الدار‏.‏
ثم جاء نفر
من أصحابه فقالوا‏:‏ إن ناساً يريدون أن يأخذوا بين الناس بالعَدل فاخُرج إلى المسجد يأتوك‏.‏

فانطلقَ فجلس فيه ساعةً وأسلحة القوم مُطلّة عليه من كل ناحية فقال‏:‏ ما أرى اليوم أحداً
يَعْدِل فدخل الدارَ‏.‏
وكان معه نفرٌ ليس على عامّتهم لسِلاح فلبس دِرْعه وقال لأصحابه‏:‏ لولا
أنتم ما لَبست اليوم دِرْعي‏.‏
فوثب عليه القوم فكلَمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في
صحيفة بعث بها إلى عثمان‏:‏ عليكم عهدُ اللّه وميثاقه أن لا تَقربوه بسوء حتى تكلّموه وتَخْرجوا
فوضع السلاح ولم يكن إلا وضعه‏.‏
ودخل عليه القومُ يَقْدُمهم محمدُ بن أبي بكر فأخذ بلحيته
ودَعَوْه باللقب‏.‏
فقال‏:‏ أنا عبدُ الله وخليفتُه عثمان‏.‏
فضربوه على رأسه ثلاثَ ضرَبات وطَعنوه
في صَدْره ثلاث طعنات وضَربوه على مَقْدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العَظْم

فسقطتُ عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يُريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنةُ
شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوُطِئنا وَطْئا شديداً وعُرِّينا من حَلْينا‏.‏
وحُرمةُ أمير
المؤمنين أعظم فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهوراً على فِراشه‏.‏
وقد أرسلتُ إليكم بثوبه عليه
دمُه فإنه واللّه إِن كان أثم مَن قَتله فما سَلِم مَن خذله فانظُروا أينِ أنتم مِن اللهّ‏.‏
وأنا أشتكي
كل مَا مَسنا إلى الله عز وجل وأستصرخ بصالِحي عبادِه‏.‏
فرحم الله عثمانَ ولَعن قتلَته
وصَرعهم في الدُنيا مَصارع الخزْي والمَذلًة وشَفى منهم الصدور‏.‏
فحلف رجال من أهل الشام
أن لا يمسوا غُسلاً حتى يقتلوا عليا أو تَفْنَى أرواحُهم‏.‏
وقال الفرزذق في قتل عثمان‏:‏
إن الخلافةَ لما أظعَنت ظَعنت عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا
صارتْ إلى أهلِها منهم ووارثِها لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافِكي دمِه ظُلْماً ومَعْصِيَة أي دمٍ لا هدوا من غَّيهم سفكوا
وقال حسان‏:‏
إِن تُمس دارُ بني عثمانَ خاويةً بابٌ صريعٌ وبيتٌ مُحرَق خَرِبُ
فقد يُصادف باغِي الخَير حاجتَه فيها ويَأوي إليها المجدُ والحسَب
يا معشَر الناس أبْدُوا ذات أنفسكم لا يَستوي الحق عند الله والكَذِب

تبرؤ علي من دم عثمان
قال عليّ بن أبي طالب على المنبر‏:‏ واللهّ لئن لم يَدْخل الجنة إلا مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبدَاً
ولئن لم يَدخل النارَ إلا مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبداً‏.‏
وأشرف علي من قَصرْ له بالكُوفة فنظر
إلى سَفينة في دِجْلة فقال‏:‏ والذي أرسلها في بَحره مُسخَّرة بأمره ما بدأتُ في أمر عثمان بشيء
ولئن شاءت بنو أمية لأباهلنهم عند الكعبة خمسين يميناً ما بدأتُ في حق عثمان بشيء‏.‏
فبلغ
هذا الحديثُ عبدَ الملك بن مروان فقال‏:‏ إني لا أحسبه صادقاً‏.‏
قال معبدٌ الخُزاعي‏:‏ لقيتُ عليّا
بعد الجمل فقلت له‏:‏ إني سائلُك عن مسألة كانت منك ومن عثمان فإن نجوتَ اليوم نجوتَ
غداً إن شاء اللّه‏.‏
قال‏:‏ سَل عما بدا لك‏.‏
قلتُ‏:‏ أخبرني أي منزلة وسعتْك إذ قُتل عثمان ولم
تنصره قال‏:‏ إن عثمان كان إماماً وإنه نهى عن القِتال وقال‏:‏ مَن سَل سيفَه فليس مني فلو
قاتلنا دونه عَصَينا‏.‏
قال‏:‏ فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم حتى قُتل قال‏:‏ المنزلةُ التي
وسعت ابن آدم إذ قال لأخيه‏:‏ ‏"‏ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ فهلاّ وَسِعَتْك هذه المنزلةُ يومَ الجمل قال‏:‏ إنا قاتلنا يومَ
الجمل مَن ظَلَمنا قال الله‏:‏ ‏"‏ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم مِن سبيل‏.‏
إنما السبيل على

الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الْحق أولئك لهم عذاب أليم‏.‏
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ‏"‏‏.‏
فقاتلنا نحن من ظلمنا وصبر عثمان وذلك من عزم الأمور‏.‏
ومن
حديث بكر بن حماد‏:‏ إن عبد الله ابن الكَّواء سأل عليِّ بن أبي طالب يوم صِفين فقال له‏:‏
أخْبِرْني عن مَخْرجك هذا تَضرب الناسَ بعضهم ببعض أعهدٌ إليك عهدَه رسولُ اللّه صلى الله
عليه وسلم أم رَأْي ارتأيته قال عليّ‏:‏ اللهم إني كنتُ أولَ من آمن به فلا أكون أولَ مَن كذب
عليه لم يكن عندي فيه عَهْد مِن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولو كان عندي فيه عَهد مِن
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تركتُ أخا تَيم وعدي على منابرها ولكنّ نبّينا صلى الله
عليه وسلم كان نبيّ رحمة مَرِض أياماً وليالي فقدَم أبا بكر على الصلاة وهو يراني ويَرى
مكاني‏.‏
فلما تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَضيناه لأمر دُنيانا إذ رَضِيه رسولُ اللهّ
لأمرِ ديننا‏.‏
فسلّمتُ له وبايعتُ وسمعتُ وأطعتُ فكنتُ
آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأقيم الحُدود بين يديه‏.‏
ثم أتته مَنيّتُه فرأى أنَّ عمرَ أطوقُ
لهذا الأمر مِن غيره وواللّه ما أراد به المُحاباة ولو أرادها لجعلها في أحد ولدَيْه‏.‏
فسلّمتُ له
وبايعتُ وأطعتُ وسمعت فكنتُ أخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأقيم الحدودَ بين يديه‏.‏

ثم أتته منيّتُه فرأى أنه من استخلف رجلاً فعمل بغير طاعة اللّه عَذّبه الله به في قَبره فجعلها

شُورى بين ستَة نفر من أصحاب رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكنتُ أحدَهم فأخذ عبدُ
الرحمن مَواثيقنا وعُهودنا على أن يَخْلع نفسه ويَنظر لعامة المُسلمين فبَسط يدَه إلى عثمان فبايعه‏.‏

اللهم إن قلتُ إني لم أجد في نفسيِ فقد كذبت ولكنني نظرتُ في أمري فوجدتُ طاعتي قد
تقدمت مَعْصيتي ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غير لم‏.‏
فسلّمت وبايعتُ
وأطعت وسمعتُ فكنت أخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأقيم الحدود بين يديه‏.‏
ثم نَقم
الناس عليه أموراً فقَتلوه ثم بقيتُ اليومَ أنا ومُعاوية فأرى نفسي أحق بها من معاوية لأني
مُهاجريّ وهو أعرابيّ وأنا ابن عم رسول اللّه وصِهره وهو طليق ابن طليق‏.‏
قال له عبدُ اللّه بن
الكَوّاء‏:‏ صدقتَ ولكن طلحةَ والزُبير أما كان لهما في هذا الأمر مثلُ الذي لك قال‏:‏ إن
طلحة والزُبير بايعاني في المدينة ونَكثا بَيعَتي بالعراق فقاتلتُهما على نَكْثهما ولو نَكثا بيعة أبي
بكر وعمر لقاتلاهما على نَكثهما كما قاتلتُهما على نَكْثهما قال‏:‏ صدقت ورجع إليه‏.‏

واستعمل عبدُ الملك بن مَرْوان نافعَ بن عَلْقمة بن صَفْوان على مكة فخطب ذات يوم وأبان بن
عثمان قاعدٌ عند أصلى المِنْبر فنال مِن طلحة والزُبير فلما نزل قال لأبان‏:‏ أرضيتُك من
المًدهنين في أمر أمير المؤمنين قال‏:‏ لا ولكنّك سُؤتني حَسبي أن يكونا بريئين من أمره‏.‏
وعلى
هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى‏:‏ أعيذ عليًّا بالله أن يكون قَتل عثمان وأعيذ عثمان أن

يكون قَتله عليّ‏.‏
وهذا الكلامُ على مذهب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ أشد الناس
عذاباً يومَ القيامة رجل قتل نبيا أو قَتله نبيّ‏.‏
سعيد بن جُبير عن أبي الصّهباء‏:‏ إن رجالاً ذكروا
عُثمان فقال رجلٌ من القوم‏:‏ إني أعرفُ لكم رأيَ عليّ فيه‏.‏
فدخل الرجلُ على علي فنال من
عثمان فقال عليّ‏:‏ دَع عنك عُثمان فواللّه ما كان بأشرِّنا ولكنه وَلي فاستأثر فحرمَنا فأساء
الحرمان‏.‏
وقال عثمان بن حُنَيف‏:‏ إني شهدتُ مَشهداً اجتمع فيه علي وعمّار ومالك الأشتر
وصَعْصعة فذكروا عثمان فوقَع فيه عمّار ثم أخذ مالكٌ فحذا حَذْوه ووجهُ عليّ يَتَمَعَّر ثم
تكلّم صعصعة فقال‏:‏ ما على رجل يقول‏:‏ كان والله أولَ مَن وَلي فاستأثر وأوّل مَن تفرقت عنه
هذه الأمة‏!‏ فقال علي‏:‏ إلي أبا اليَقظان لقد سَبقت لعثمان سوابقُ لا يُعذِّبه اللّه بها أبداً‏.‏
محمدُ
بن حاطب قال‏:‏ قال لي علي يومَ الجمل‏:‏ انطلقْ إلى قومك فأبلغهم كُتبي وقَوْلي‏.‏
فقلت‏:‏ إن قَومي
إذا أتيتُهم يقولون‏:‏ ما قوْلُ صاحبك في عُثمان فقال‏:‏ أخبرهم أن قولي في عثمان أحسنُ القول
إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ ثم اتقَوْا وآمنوا واحسنوا واللّه يحب المُحسنين‏.‏

جرير بن حازم عن محمد بن سِيرين قال‏:‏ ما علمتُ أن عليا اتُّهم في دم عُثمان حتى بُويع فلما
بويع اتهمه الناس‏.‏
محمد بن الحنفيّة‏:‏ إنّي عن يمين في يومَ الجمل وابن عبّاس عن يساره إذ سمع
صوتاً فقالت‏:‏ ما هذا قالوا‏:‏ عائشةُ تلعن قَتلة عثمان‏.‏
فقال عليّ‏:‏ لعن اللهّ قتلةَ عثمان في

ما نقم الناس على عثمان
ابن دأب قال‏:‏ لما أنكر الناس على عُثمان ما أنكروا مِن تأمير الأحداث من أهل بَيْته على الجلّة
الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ هذا عملُك
واختَيارك لأمة محمد‏.‏
قال‏:‏ لم أظنَّ هذا به‏.‏
ودخل على عثمان فقال له‏:‏ إني إنما قدمتك على
أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر وقد خالفتَهما‏.‏
فقال‏:‏ عمر كان يقطع قرابته في اللّه وأنا أصل
قرابتي في اللهّ‏.‏
فقال له‏:‏ لله عليّ أن لا أكلمك أبداً‏.‏
فمات عبدُ الرحمن وهو لا يُكلّم عثمان‏.‏
ولما
ردّ عثمان الحكم بن أبي العاصي طريدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم طريد أبي بكر وعمر إلى
المدينة تكلِّم الناسُ في ذلك فقال عثمان‏:‏ ما ينقَم الناسُ مني‏!‏ إني وصلتُ رحما وقربت قرابة‏.‏

حُصين بن زَيد بن وَهْب قال‏:‏ مَررنا بأبي ذَرّ بالربذة فسألناه عن منزله‏.‏
فقال‏:‏ كنتُ بالشام
فقرأت هذه الآية‏:‏ ‏"‏ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب
أليم ‏"‏‏.‏
فقال معاويةُ‏:‏ إنما هي في أهل الكتاب‏.‏
فقلت‏:‏ إنها لَفينا وفيهم‏.‏
فكتَب إليّ عثمانُ‏:‏
أقبل‏.‏
فلما قدمتُ رَكبتني الناسُ كأنهم لم يَرَوْني قط فشكوتُ ذلك إلى عثمان‏.‏
فقال‏:‏ لو
اعتزلتَ فكنت قريباً‏.‏
فنزلتُ هذا المنزل فلا أدع قَوْلي ولو أمروا عليّ عبداً حبشيا لأطعتُ‏.‏


الحسنُ بن أبي الحسن عن الزُبير بن العوام في هذه الآية‏:‏ ‏"‏ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ لقد نزلتْ وما ندري من يختلف لها‏.‏
فقال بعضهم‏:‏ يا أبا عبد الله فلم جئتَ
إلى البصرة قال‏:‏ ويحك إننا نَنظر ولا نُبصر‏.‏
أبو نضرة عن أبي سَعيد الخُدريّ قال‏:‏ إنّ ناساً
كانوا عند فُسطاط عائشة وأنا معهم بمكة فمرّ بنا عثمان فما بقي أحدٌ من القوم إلا لعنه غيري
فكان فيهم رجلٌ من أهل الكوفة فكان عثمان على الكُوفيّ أجرأ منه على غيره فقال‏:‏ يا كُوفي
أتشتُمني فلما قدم المدينةَ كان يتهدّده‏.‏
قال‏:‏ فقيل له‏:‏ عليك بطَلحة‏.‏
قال‏:‏ فانطلق معه حتى
دَخل على عثمان‏.‏
فقال عُثمان‏:‏ واللّه لأجلدنَه مائة سَوط‏.‏
قال طلحة‏:‏ والله لا تَجلدنه مائةَ إلاّ
أن يكون زانياً‏.‏
قال‏:‏ والله لأحرمنه عَطاءه‏.‏
قال‏:‏ اللّهُ يرزقه‏.‏
ومن حديث ابن أبي قُتيبة عن
الأعمش عن عبد الله بن سِنان قال‏:‏ خرج علينا ابن مَسعود ونحن في المَسجد وكان على بيت
مال الكُوفة وأميرُ الكوفة الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط فقال‏:‏ يا أهل الكوفة فُقِدت من بيت
مالكم الليلةَ مائةُ آلف لم يأتني بها كتابٌ من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة‏.‏
قال‏:‏ فكتب
الوليدُ بن عُقبة إلى عثمان في ذلك فنَزعه عن بيت المال‏.‏
ومن حديث الأعمش يَرويه أبو بكر بن
أبي شيبة قال‏:‏ كَتب أصحابُ عُثمان عَيْبه وما يَنْقم الناسُ عليه في صحيفة ثم قالوا‏:‏ مَن
يذهب بها إليه قال عمٌار‏:‏ أنا‏.‏
فذهب بها إليه‏.‏
فلما قرأها قال‏:‏ أرغمِ اللّهُ أنفك‏.‏
قال‏:‏ وأنف

أبي بكر وعمر‏.‏
قال‏:‏ فقام إليه فوَطئه حتى غُشى عليه‏.‏
ثم ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزُّبير
يقولان له‏:‏ اختر إحدى ثلاث‏:‏ إما أن تَعْفو هاما أن تأخذ الأرْش وإما أن تَقْتَص‏.‏
فقال‏:‏ واللّه
لا قبلتُ واحدة منها حتى ألقى الله‏.‏
قال أبو بكر‏:‏ فذكرتُ هذا الحديث للحَسن بن صالح
فقال‏:‏ ما كان على عُثمان أكثرُ مما صنع‏.‏

ومن حديث اللّيث بن سعد قال‏:‏ مَر عبدُ اللهّ بن عُمر بحُذيفة فقال‏:‏ لقد اختلف الناسُ بعد
نبيّهم فما منهم أحدٌ إلا أعطى من دينه ما عدا هذا الرجلَ‏.‏
وسُئل سعدُ بن أبي وقاص عن
عثمان فقال‏:‏ أما والله لقد كان أحسنَنا وُضوءاً وأطولَنا صلاة وأتلانا لكتاب اللّه وأعظمَنا
نَفقةً في سبيل اللّه‏.‏
ثم وَلي فأنكروا عليه شيئاً فأتَوْا إله أعظَمَ مما أنكروا‏.‏

وكتب عثمان إلى أهل الكوِفة حين ولاّهمِ سعيدَ بن العاص‏:‏ أما بعد‏.‏
فإني كنت ولَّيتكم الوليدَ
بن عُقبة غلاماً حين ذَهَب شرْخه وثاب حِلْمه وأوصيتُه بكم ولم أوصكم به فلما أعْيتكم
علانيته طَعَنتم في سرَيرته‏.‏
وقد ولَيتكم سعيدَ بن العاص وهو خيرُ عَشيرته وأوصيكم به خيراً
فاستوصوا به خيراً‏.‏
وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه وكان عاملَه على الكوفة فصلَّى بهم
الصبحَ ثلاث ركعات وهو سَكران ثم التَفت إليهم فقال‏:‏ وإن شئتُم زِدْتُكم‏.‏
فقامت عليه البيّنة
بذلك عند عثمان فقال لطلحة‏:‏ قُم فاجلده‏.‏
قال‏:‏ لم أكن من الجالدين‏.‏
فقام إليه عليّ فَجلده‏.‏


شَهد الحطيئةُ يَوم يَلْقى رَبَّه أنَّ الوليدَ أحقُّ بالعُذْرِ
لِيزِيدَهم خيراً ولو قَبلوا لجمعتَ بين الشَّفع والوِتْر
مَسكوا عنانَك إذ جَريت ولو تَركوا عِنانَك لم تَزل تَجْرِي
ابن دأب قال‏:‏ لما أنكر الناسُ على عثمان ما أنكروا واجتمعوا إلى علي وسَألوه أن يَلقى لهم
عُثمانَ‏.‏
فأقبلَ حتى دَخل عليه فقال‏:‏ إنَ الناسَ ورائي قد كلَّموني أنْ أكلمك واللهّ ما أدرى ما
أقولُ لك ما أعرف شيئاً تًنكره ولا أعلمك شيئاً تَجهله وما ابن الخطّاب أولى بشيء من الخير
منك وما نُبصرك من عَمى وما نَعْلمك مَن جهل وإن الطريق لبيِن واضح‏.‏
تَعلم يا عثمان أن
أفضل الناس عند اللهّ إمامٌ عَدْل هُدِي وهَدى فأحيا سُنة مَعلومة وأمات بدعة مَجهولة وأن
شر الناس عند الله إمامُ ضَلالة ضَل وأضل فأحيا بدْعة مجهولة وأمات سنة معلومة‏.‏
وإني
سمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ يُؤتى بالإمام الجائر يومَ القيامة ليس معه ناصرٌ ولا
له عاذر فيُلْقى في جَهنم فيَدُور دَوْرَ الرحى يَرْتطم بجَمْرة النار إلى آخر الأبد‏.‏
وأنا أحذَرك أن
تكون إمامَ هذه الأمة المقتول يُفتح به بابُ القَتل والقتال إلى يوم القيامة يَمْرَج به أمرُهم
وَيمرَجون‏.‏
فخرج عثمان ثم خطب خُطبته التي أظهر فيها التوبة‏.‏
وكان عليّ كلما اشتكى
الناسُ إليه أمرَ عثمان أرسل ابنه الحسن إليه فلما أكثر عليه قال له‏:‏ إن أباك يرى أن أحداً لا يَعلم

ما يَعلم ونحن أعلم بما نَفعل فكُفّ عنَا‏.‏
فلم يَبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك‏.‏
وذكروا أنّ
عثمان صَلى العصر ثم خَرج إلى علي يعوده في مرضه ومَروان معه فرآه ثقيلا‏.‏
فقالت‏:‏ أما
والله لولا ما أرى منك ما كنتُ أتكلَم بما أريد أن أتكلَم به والله ما أدري أيّ يومَيك أحبُّ إليَّ
أو أبغض أيومُ حياتك أو يومُ موتك أما واللهّ لئن بقيتَ لا أعدم شامتاً يَعُدّك كَنفاً ويَتخذْك
عَضدا ولئن مَتّ لأفجعنِ بك‏.‏
فحظِّى منك حظّ الوالد المُشفق من الولد العاق إنْ عاش
عقه وإن مات فجعه‏.‏
فليتك جعلت لنا من أمرك عَلَماً نَقف عليه ونعرفه إما صديقٌ مسالم
وإما عَدو مُعاند ولم تَجعلني كالمُختنق بين السماء والأرض لا يَرْقى بيد ولا يَهبط برجل‏.‏
أما
والله لئن قتلتك لا أصيب منك خَلَفا ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا وما أحب أن أبقى
بعدَك‏.‏
قال مروان‏:‏ أيْ والله وأخرى إنه لا يُنال ما وراء ظُهورنا حتى تُكسر رماحُنا وتُقطع
سيوفنا فما خيرُ العيش بعد هذا‏.‏
فضَرب عثمان في صَدره وقال‏:‏ ما يُدْخلك في كلامنا
فقال على‏:‏ إني والله في شُغل عن جوابكما ولكني أقول كما قال أبو يوسف‏:‏ فَصَبر جميل واللهّ
المُستعان على ما تَصِفون‏.‏
وقال عبدُ الله بن العباس‏:‏ أرسل إليً عُثمان فقال لي‏:‏ اكْفِني ابن
عمك‏.‏
فقلت‏:‏ إنَ ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ولكنَه يَرى لنفسه فأرسِلني إليه بما أحببتَ‏.‏

قال‏:‏ قُل له فَليَخرج إلى مالِه باليَنبُع فلا أغتمّ به ولا يَغتم بي‏.‏
فأتيتُ عليًّا فأخبرتُه‏.‏
فقال‏:‏ ما

فكيف به أنّي أداوِي جراحَه فيَدْوَى فلا مُلّ الدواءً ولا الداءُ
أما واللّه إنه ليختبر القوم‏.‏
فأتيتُ عثمانَ فحدّثته الحديثَ كله إلا البيت الذي أنشده‏.‏
وقوله‏:‏
إنه ليختبر القوم‏.‏
فأنشد عثمان‏:‏
فكيف به أنّي أداوِي جراحَه فيَدْوَى فلا مُلَّ الدواء ولا الداءُ
وجعل يقول‏:‏ يا رحيم انصرُني يا رحيم انصرني يا رحيم انصرني‏.‏

قال‏:‏ فخرج عليّ إلى يَنْبع فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر‏:‏ أما بعد‏.‏
فقد بلغ السيل الزُّبى
وجاوز الحِزام الطُّبْيين وطَمِع فيّ مَن كان يَضْعُف عن نفسه‏:‏
فإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ ضعيف ولم يَغْلِبْك مثلُ مُغلَّبِ
فأقبِل إليَّ على أيّ أمريك أحبَبتَ وكُن لي أم علي صديقاً كنتَ أم عدوًّا‏:‏
فإنْ كنتُ مأكولاً فكُن خيرَ آكلٍ وإلّا فأدركني ولما أمزَّق
خلافة علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنه
قال‏:‏ لما قُتل عثمان بن عفان أقبل الناس يُهْرعون إلى علي بن أبي طالب فتراكمت عليه الجماعةُ

في البَيعة فقال‏:‏ ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بَدْر ليُبايعوا‏.‏
فقال‏:‏ أين طلحة والزبير وسعد
فأقبلوِا فبايعوا ثم بايعه المهاجرون والأنصار ثم بايعه الناسُ‏.‏
وذلك يومَ الجمعة لثلاث عشرةَ
خلتْ من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وكان أولَ مَن بايع طلحةُ فكانت إصبعه شلاّء فتطيِّر
منها عليّ وقال‏.‏
ما أخلقه أن يَنْكث‏.‏
فكان كما قال عليّ رضي اللّه عنه‏.‏


نسب علي بن أبي طالب وصفته
هو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمه فاطمة بنت أسد بن
هاشم بن عبد مناف‏.‏
وصفته كان أصلعَ بطيناً حَمْش الساقين‏.‏
صاحبُ شرُطته مَعْقل بن
قيس الرِّياحي وما لك بن حَبيب اليَرْبوعي وكاتبُه سعيد ابن نِمران وحاجبُه قُنْبر مولاه‏.‏

وقُتل يوم الجمعة بالكوفة وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصِبح لسبع بَقين من شهر رمضان
فكانت خلافته أربعَ سنين وتسعةَ أشهر صلى عليه ولدُه الحسن ودُفن برَحْبة الكوفة ويقال في
لِحف الحِيرة وعُمِّي قبره‏.‏
واختُلف في سنه فقال الشعبي‏:‏ قُتل علي رحمه الله وهو ابن ثمان
وخمسين سنة ووُلد علي بمكة في شِعب بني هاشم‏.‏

فضائل علي بن أبي طالب
كرم اللّه وجهه
أبو الحسن قال‏:‏ أسلم علي وهو ابن خمسَ عشرةَ سنة وهو أول من شَهد أن لا إله إلا اللهّ وأن
محمداً رسولُ الله‏.‏

وقال النبي عليه الصلاة والسلام مَن كنتُ مولاه فعلي مولاه‏.‏
اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن

عاداه‏.‏
وقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما تَرضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
غيرَ أنه لا نبيّ بعدي وبهذا الحديث سَمَّت الشيعةُ علي بن أبي طالب الوصيِّ وأولوا فيه أنه
استخلفه على أمته إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى لأنّ هارون كان خليفة موسى على
قومه إذا غاب عنهم‏.‏
وقال السيد الْحِمْيري رحمه اللّه تعالى‏:‏
إني أدينُ بما دانَ الوَصَّي به وشاركتْ كفّه كَفَيّ بصفَينا
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ وعليا والحسَنَ والْحُسين فألقى عليهم كساءَه وضمهم
إلى نفسه ثم تلا هذه الآية‏:‏ إنما يُريد اللّهُ ليُذهبَ عنكمِ الرجسَ أهلَ البَيت ويُطهَركم تَطْهيرا‏.‏

فتأولت الشيعةُ الرجس هاهنا بالخَوض في غمرة الدُّنيا وكُدورتها‏.‏
وقال النبيّ صلى الله عليه
وسلم يومَ خَيبر‏:‏ لأعطين الراية غداً رجلاً يُحب الله ورسولَه ويُحبه الله ورسولُه لا يُمسي
حتى يَفتح الله له‏.‏
فدعا عليًّا وكان أرمدَ فَتفَل في عينيه وقال‏:‏ اللهم‏.‏
قِه داءَ الحر والبرد‏.‏

فكان يلبس كُسوة الصيف في الشتاء وكُسوة الشتاء في الصيف ولا يضره‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ ذُكر
عليّ عند عائشة فقالت‏:‏ ما رأيت رجلاً أحبَّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منه ولا
رأيتُ امرأة كانت أحبَّ إليه من امرأته‏.‏
وقال عليُّ بن أبي طالب‏:‏ أنا أخو رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم وابن عمه لا يقولها بعدي إلا كذّاب‏.‏
الشَّعبي قال‏:‏ كان عليّ بن أبي طالب في هذه

الأمة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل أحبّه قومٌ فكفروا في حُبه وأبغضه قوم فكفروا في
بُغضه‏.‏
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحسنُ والْحُسين سيِّدا شباب أهل الجنة وأبوهما خيرٌ
منهما‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يُقَسم بيت المال في كل جمعة
حتى لا يبقي منه شيئاً ثم يُفرش له ويَقيل فيه‏.‏
ويتمثَل بهذا البيت‏:‏
هذا جَنايَ وخِيَاره فيه إذ كُلّ جانٍ يدُه إلى فيه
كان علي بن أبي طالب إذا دَخل بيتَ المال ونَظر إلى ما فيه من الذَّهب والفضة قال‏:‏
ابيَضيِّ واصفري وغري غيري إنّي من اللّه بكُل خَيْر
ودخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال‏:‏ يا أبا سعيد إَنهم يَزعمون أنك تُبغض
عليّا‏.‏
قال‏:‏ فبكى الحسنُ حتى اخضلَّت لِحْيته ثم قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً
من مَرامي الله على عدوّه ورباني هذه الأمة وذا فَضْلها وسابقتها وذا قرابة قريبة من رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا المَلولة في
ذات الله ولا السَّروفة لمال اللّه‏.‏
أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مُونقة وأعلام بَينة ذلك
علي بن أبي طالب يا لُكع‏.‏


أبو اليَقظان قال‏:‏ قَدِم طلحةُ بن عُبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين البَصرة‏.‏
فتلقاهم
الناس بأعلى المِرْبد حتى لو رَمَوا بحَجر ما وقع إلا على رأس إنسان فتكلَّم طلحة وتكلمت
عائشة وكثر اللغط فجعل طلحةُ يقول‏:‏ أيها الناس أنصتوا‏.‏
وجعلوا يركبونه ولا يُنصتون‏.‏
فقال‏:‏
أف أف‏!‏ فَراش نار وذُباب طمع‏.‏
وكان عثمان بن حُنيف الأنصاري عاملَ عليّ بن أبي طالب
على البَصرة فخرج إليهم في رِحاله ومن مَعه فتواقفوا حتى زالت الشمس ثم اصطلحوا
وكَتبوا بينهم كتاباً أن يكفّوا عن القتال حتى يَقْدَم علي بن أبي طالب ولعثمان بن حُنيف دارُ
الإمارة والمَسجد الجامع وبيتُ المال فكفّوا‏.‏
ووجّه عليُّ بن أبي طالب الحسن ابنه وعمّار بن
ياسر إلى أهل الكوفة يَستنفر انهم فنَفر معهما سبعةُ آلاف من أهل الكوفة‏.‏
فقال لهم عمار‏.‏

أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها لتتْبِعوه أو تَتبعوها‏.‏

وخَرج عليٌ في أربعة آلاف من أهل المدينة فيهم ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن شَهد بيعه
الرضوان مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
ورايةُ علي مع ابنه محمد ابن الحنفيّة وعلى مَيمنته
الحسنُ وعل ميسرته الحُسين وعلى الخَيل عمّار بن ياسر وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر
وعلى المُقدَمة عبدُ الله بن عبّاس‏.‏
ولواء طَلحة والزُبير مع عبد اللهّ بن حَكيم بن حِزام وعلى
الخيل طلحةُ بن عبيد اللهّ وعلى الرجِّالة عبدُ الله بن الزبير‏.‏
فالتقوا بموضع قصر عُبيد الله بن

وقالوا‏:‏ لما قَدِم علي بن أبي طالب البصرَة قال لابن عباس‏:‏ ائت الزُّبير ولا تأت طلحة فإن
الزُبير ألينُ وأنت تجد طلحةَ كالثور عاقصاً بقَرنه يركب الصُعوبة ويقول‏:‏ هي أسهل فأقْرِئه
السلام وقُل له‏:‏ يقول لك ابن خالك‏:‏ عرفتَني بالحجاز وأنكرتني بالعِراق فما عدا ما بدا قال
ابن عباس‏:‏ فأتيته فأبلغتُه‏.‏
فقال‏:‏ قل له‏:‏ بيننا وبينك عهدُ خليفة ودمُ خليفة واجتماع ثلاثة
وانفراد واحد وأم مَبرورة ومشاورة العشيرة ونَشْر المصاحف نُحِل ما أحلت ونُحرَم ما
حَرمت‏.‏
وقال عليّ بن أبي طالب‏:‏ ما زال الزُبير رجلاً منا أهلَ البيت حتى أدركه ابنه عبد
الله فلفَته عنا‏.‏
وقال طلحةُ لأهل البصرة وسألوه عن بَيعة علي فقال‏:‏ أدخَلوني في حُش ثم
وَضعوا الفُج على قَفي فقالوا‏:‏ بايع وإلا قَتلناك‏.‏
قوله‏:‏ اللج يريد السيف وقوله‏:‏ قفي لغة
طىء وكانت أمه طائية‏.‏

وخطبت عائشةُ أهلَ البصرة يوم الجمل فقالت‏:‏ أيها الناس صَه صه كأنما قُطعت الألسن في
الأفواه‏.‏
ثم قالت‏:‏ إن لي عليكم حُرمَة الأمومة وحق الموعظة لا يتّهمني إلا من عَصى ربَّه‏.‏

مات رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري وأنا إحدى نسائه في الجَنة له
ادخرني ربِّي وسلّمني من كل بضُع وبي مَيّز بين مُنافقكم ومؤمنكم وبي أرخص لكم في صَعِيد
الأبواء‏.‏
ثم أبي ثالثُ ثلاثةٍ من المُؤمنين وثاني اثنين في الغار وأول من سُمَي صديقاً‏.‏
مَضى

رسولُ الله صلى الله عليه وسلما راضياً عنه وطَوَّقه طَوق الإمامة‏.‏
ثم اضطرب حبلُ الدين
فمسَك أبي بطَرَفيه ورتق لكم أثناءه فوَقم النفاق وأغاض نبعَ الردة وأطفأ مَا حَشت يهود
وأنتم يومئذ جُحظ العيون تنظرون العَدوة وتسمعون الصيحة فَرأب الثأي وأوذم العَطِلة
وانتاش من الهًوة واجتحى دفين الداء حتى أعطن الوارد وأورد الصادر وعَلّ الناهل
فقَبضه الله واطئاً على هامات النفاق مذكِياً نارَ الحرب للمشركين‏.‏
وانتظمت طاعتُكم بحَبله‏.‏

ثم ولي أمرَكم رجلاً مَرْعياً إذا رُكن إليه بَعيداً ما بين اللابتين إذا ضُل عَرُوكة للأذاة بجَنْبه
يَقْظان الليل في نُصرة الإسلام فسلك مسلك السابقين ففرق شمل الفِتنة وجَمَّع أعضاد ما جمع
القرآن وأنا نصْب المسألة عنِ مسيري هذا‏.‏
لم ألتمس إثماً ولم أورِّث فتنة أوطئكموها‏.‏
أقول
قولي هذا صِدْقاً وعدلاً وإعذاراً وإنذاراً وأسأل اللّه أن يصلي على محمد وأن يَخلفه فيكم
بأفضل خلافة المُرسلين‏.‏
وكتبت أم سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين
إذ عزمت على الخروج يوم الجمل‏:‏ من أم سَلَمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم
المؤمنين فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو‏.‏
أما بعد إنك سُدّة بين رسول اللهّ صلى الله
عليه وسلم وبين أمته حجاب مضروب على حُرمته‏.‏
قد جَمّع القرآنُ ذيلك فلا تَنْدحيه وسَكَّر
خَفارتك فلا تَبْتذليها‏.‏
فاللهّ مِن وراء هذه الأمة‏.‏
لو علم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ

النساء يَحتملن الجهاد عهِد إليك‏.‏
أما علمتِ أنه قد نَهاك عن الفَراطة في البلاد فإن عمود الدين
لا يَثبت بالنساء إن مال ولا يُرأب بهن إن انصدع جهاد النساء غَضُّ الأطراف وضَمًّ الذُّيول
وقَصر المُوادة‏.‏
ما كنتِ قائلةً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات
ناصَّةً قَعودا من مَنهل إلى مَنهل وغداً تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأقسم لو
قيل لي‏:‏ يا أم سلمة ادخُلي الجنة لاستحييتُ أن ألقى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم هاتكةً
حجابا ضرَبه عليّ‏.‏
فاجعليه سِتْرك وقاعةَ البيت حِصْنك فإنك أنصح ما تكونين لهذه الأمة
ما قعدتِ عن نُصرتهم‏.‏
ولو أني حدثتُك بحديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
لنَهشتِني نهش الحيةِ الرقشاء المُطرقة‏.‏
والسلام‏.‏


فأجابتها عائشة‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى أم سَلمة سلام عليك فإني أحمدُ الله إليك الذي لا
إله إلا هو‏.‏
أما بعد‏.‏
فما أقبلني لوَعْظك وأعرفني لحق نَصيحتك وما أنا بمُعتمرة بعد تَعْريج
ولنِعم المَطلع مَطلع فَرَقتُ فيه بين فئتين مُتشاجرتين من المُسلمين فإن أقعد فعن غير حَرج وإن
أمض فإلى ما لا غِنى بي عن الازدياد منه‏.‏
والسلام‏.‏
وكتبت عائشة إلى زيد بن صُوحان إذ
قدمت البصرة‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن صُوحان سلام عليك‏.‏
أما بعد
فإنّ أباك كان رأساً في الجاهلية وسيداً في الإسلام وإنك من أبيك بمنزلة المُصلّى من السابق

يقال كاد أو لَحق وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مُصاب عثمان بن عفان ونحن قادمون
عليك والعِيان أشفى لك من الخَبر‏.‏
فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط الناسَ عن في بن أبي طالب
وكُن مكانَك حتى يأتيك أمري والسلام‏.‏
فكتب إليها‏:‏ مِن زيد بن صُوحان إلى عائشة أم
المؤمنين‏.‏
سلامٌ عليك أما بعد فإِنك أمرتِ بأمر وأمرنا بغيره أمرتِ أن تَقرّي في بَيتك وأمرنا
أن نُقاتل الناس حتى لا تكون فتنة‏.‏
فتركتِ ما أمرت به وكتبتِ تَنْهينا عما أمرنا به والسلام
وخطب علي رضي اللّه عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذ أقبلوا إليه مع الحسن بن علي فقام فيهم
خطيباً فقال‏:‏ الحمد للهّ رب العالمين وصلّى الله علي سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المُرسلين
أما بعد‏.‏
فإن الله بعث مُحمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثَقَلين كافة والناسُ في اختلاف
والعربُ بِشر المنازل مُستضعَفون لما بهم فرأب اللهّ به الثّأي ولأم به الصّدع ورَتق به الفَتق
وأمَّن به السبيل وحَقَن به الدماء وقَطَع به العداوة المُوغِرة للقلوب والضَّفائنِ المُشحنة للصدور
ثم قَبضه اللّه تعالى مشكوراً سعيُه مَرْضيا عمله مَغْفوراً ذنبه كريماً عند اللّه نزله‏.‏
فيالها من
مُصيبة عمِّت المسلمين وخَصَت الأقربين‏.‏
وَوَليَ أبو بكر فسار فينا بسيرة رِضا رَضي بها
المسلمون‏.‏
ثم وَلي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما‏.‏
ثم ولي عُثمان فنال منكم ونلتم
منه‏.‏
ثم كان من أمره ما كان أتيتموه فقتلتموه ثم أتيتموني فقُلتم‏:‏ لو بايعتنا فقلتُ‏:‏ لا أفعل

وقبضتُ يدي فبسَطتموها ونازعتُكم كفًي فجذبتُموها وقلتم‏:‏ لا نَرضى إلا بك ولا نَجتمع إلا
عليك وتراكمتم علي تراكم الإبل الهِيم على حِياضها يومَ وُرودها حتى ظننتُ أنكم قاتلي وأن
بعضَكم قاتلٌ بعضاً فبايَعتُموني وبايعني طلحةُ والزبير ثم ما لَبثا أنْ استأذناني إلى العُمرة‏.‏

فسارا إلى البَصرة فقاتَلا بها المسلمين وفَعلا بها الأفاعيل وهما يَعلمان واللهّ أني لستُ بدون من
مَضى ولو أشاء أن أقول لقلت‏:‏ اللهم إنهما قَطعا قَرابتي ونَكثا بَيْعتي وألّبا عليّ عدوّي‏.‏
اللهمّ
فلا تُحكم لهما ما أبرما وأرهما المَساءة فيما عَملا‏.‏
وأملى عليّ بن محمد عن مسلمة بن
مُحارب عن داود عن أبي هِند عن أبي حَرْب عن أبي الأسود عن أبيه قال‏:‏ خرجتُ مع عِمران
بن حُصين وعثمانَ بن حُنيف إلى عائشة فقلنا‏:‏ يا أمَّ المؤمنين أَخبرينا عن مَسيرك هذا‏.‏
عهدٌ
عَهدَه إليك رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيتيه قالت‏:‏ بل رأي رأيتُه حين قُتل
عثمان بن عفَّان إنا نَقمنا عليه ضربه بالسَّوط ومَوقع المِسحاة المُحماة وإمرة سَعيد والوليد
فعدوتُم عليه فاستحللتم منه الثلاثَ الحُرم‏:‏ حُرمة البلد وحُرمة الخلافة وحُرمة الشهر الحرام بعد
أن مُصْتموه كما يُماص الإناء‏.‏
فغَضِبنا لكم من سَوط عثمان ولا نَغضب لعثمان من سَيْفكم
قلنا‏:‏ ما أنتِ وسيفُنا وسوطُ عثمان وأنتِ حَبيس رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم‏!‏ أمرك أنْ
تَقَرِّي في بيتك فجئتِ تَضربين الناس بعضَهم ببعض‏!‏ قالت‏:‏ وهل أحذ يقاتلني أو يقوله غير

هذا قُلنا‏:‏ نعم‏.‏
قالت‏:‏ ومَن يفعل ذلك هل أنت مُبلغ عني يا عِمران قال‏:‏ لستُ مُبلغاً
عنك حَرفاً واحداً‏.‏
قلت‏:‏ لكنّني مُبلغ عنك فهاتِ ما شئت‏.‏
قالت‏:‏ اللهم اقتُل مًذمَّما
قِصاصاً بعثمان وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يُشْوِى وأدرك عمّاراً بخَفَره بعُثمان أبو بكر
بن أبي شَيبة قال‏:‏ حدَّثنا عبد الله بن إدريس عن حُصين عن الأحنف بن قيس قال‏:‏ قَدمنا
المدينة ونحن نُريد الحج فانطلقت فأتيتُ طلحة والزبير فقلت‏:‏ إِني لا أرى هذا إلا مَقتولا فمن
تأمراني به كما تَرضيانه لي قالا‏:‏ نأمرك بعليّ‏.‏
قلت‏:‏ فتأمراني به وتَرضيانه لي قالا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ثم انطلقتُ حتى أتيتُ مكة فبينما نحن بها إذ أتانا قَتْل عثمان وبها عائشة أم المؤمنين
فانطلقتُ إليها فقلت‏:‏ مَن تأمريني أنْ أبايع قالت‏:‏ عليّ بن أبي طالب‏.‏
قلتُ‏:‏ أتأمريني به
وتَرْضينه لي قالت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فممرتُ على عليّ بالمدينة فبايعتُه ثم رجعتُ إلى البصرة وأنا
أرى أن الأمر قد استقام فما راعنا إلا قدومُ عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جَناب
الخُرَيبة‏.‏
قاد‏:‏ فقلت‏:‏ ما جاء بهم قالوا‏:‏ قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عُثمان إنه قُتل
مظلوما‏.‏
قال‏:‏ فأتاني أفظع أمر لم يأتني قطُّ‏.‏
قلت‏:‏ إنَّ خِذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لشديد وإنّ قتال ابن عم رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم
أمروني ببَيعته لشديد‏.‏
قال‏:‏ فلما أتيتُهم قالوا‏:‏ جِئناك نَسْتصرخك على دم عُثمان قُتل مظلوماً‏.‏


قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين أنشدك الله أقلتُ لك‏:‏ مَن تأمريني به وتَرضينه لي فقلت‏:‏ عليّ
قالت‏:‏ بلى ولكنه بَدّل‏.‏
قلتُ‏:‏ يا زُبير يا حواريّ رسول اللّه ويا طَلحة نَشْدتكما باللّه قلتُ
لكما‏:‏ مَن تأمراني به وتَرْضيانه لي فقلتما عليّ قالا‏:‏ بلى ولكنه بدّل‏.‏
قال‏:‏ والله لا أقاتلكم
ومعكم أمّ المؤمنين ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولكنْ اختاروا مني
إحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن تفتحوا لي باب الجسرِ فألحق بأرض الأعاجم حتى يَقضي اللّه من
أمره ما يقضي وإمَا أن ألحق بمكة فأكَون بها أو أتحوّل فأكون قريبا قالوا‏:‏ نَأتمر ثم نُرسل إليك‏.‏

قال‏:‏ فأتمروا وقالوا‏:‏ نَفتح له باب الجسر فيلحق به المُفارق والخاذل أو يلحق بمكة فيَفْحشكم في
قُريش ويُخبرهم بأخباركم اجعلوه هاهنا قريباً حيث تَنظُرون إليه‏.‏
فاعتزل بالجَلحاء من
البَصرة على فرسخين واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم‏.‏


مقتل طلحة
أبو الحسن قال‏:‏ كانت وقعة الجَمل يوم الجُمعة في النَصف من جُمادى الآخرة التَقوا فكان أوَلَ
مَصْروع فينا طلحةُ بن عُبيد الله أتاه سَهمُ غَرْب فأصاب رُكبتَه فكان إذا أمسكوه فَتر الدم
وإذا تَركوه انفجر فقال لهم‏:‏ اتركوه فإنما هو سهم أرسله اللّه‏.‏

حمّاد بن زيد عن يَحيى بن لسَعيد قال‏:‏ قال طلحةُ يوم الجمل‏:‏
نَدمتُ ندامةَ الكُسعي لما طلبتُ رضَا بني حَزم بزَعمِي
للهم خُذ مني لعثمان حتى يَرضى‏.‏

ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ لما رأى مروانُ بن الحكم يوم الجمل طلحة بن عُبيد الله
قال‏:‏ لا أنتظر بعد اليوم بثأري في عُثمان فانتزع له سهماً فقَتله‏.‏

ومن حديث سُفيان الثّوري قال‏:‏ لما انقضى يومُ الجمل خرج علي بن أبي طالب في ليلة ذلك
اليوم ومعه مولاه وبيده شَمعة يتصفّح وجوه القتلى حتى وَقف على طلحة بن عُبيد الله في بَطن
وادٍ مُتعفّراً فجعل يمسح الغبار عن وجهه وبقول‏:‏ أعزِزْ علي يا أبا محمد أن أراك متعفراً تحت
نجوم السماء وفي بطون الأودية إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏
شَقيت نفسي وقَتلتُ معشري إلى اللهّ

أشكو عُجَري وبُجري‏.‏
ثم قال‏:‏ واللهّ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين
قال الله فيهم‏:‏ ‏"‏ ونَزَعنا ما في صُدورهم من غِلٍ إخوانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتقابِلين ‏"‏ وإذا لم نكن نحن فمَن
هم أبو إدريس عن ليث بن طَلحة عن مُطَرف‏:‏ أن عليّ بن أبي طالب أجلس طلحةَ يوم الجمل
ومَسح الغُبار عن وجهه وبَكى عليه‏.‏
ومن حديث سًفيان‏:‏ أنَ عائشة بنت طلحة كانت ترى في
نَومها طلحةَ وذلك بعد موته بعشرين يوماً فكان يقول لها‏:‏ يا بُنية أخرجيني من هذا الماء
الذي يُؤذيني‏.‏
فلما انتبهت من نَومها جَمعت أعوانَها ثم نَهضت فنَبشته فوجدته صَحيحاً كما
دُفنِ لم تَنْحَسر له شعرة وقد اخضر جَنبه كالسَّلق من الماء الذي كان يسيل عليه فلفته في
الملاحف واشترت له عَرصة بالبَصرة فدفنته فيها وبَنت حوله مسجدا‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتُ المرأة
من أهل البَصرة تُقبل بالقارورة من البان فتصبّها على قبره حتى تُفرغها فلم يَزلن يَفعلن ذلك
حتى صار تراب قَبره مِسْكا أذفر‏.‏
ومن حديث الخُشني قال‏:‏ لما قُتل طلحة بن عُبيد اللهّ يوم
الجمل وجدوا في تَركته ثلثمائة بُهار من ذَهب وفضّة‏.‏
والبُهار‏:‏ مِزْود من جلد عِجل‏.‏
وقع قومٌ
في طلحة عند عليّ بن أبي طالب فقال‏:‏ أما والله لئن قُلتم فيه إنه لكما قالِ الشاعر‏:‏
فتَى كان يُدْنيه الغِنَى من صَديقه إذا ما هو استغنى وُيبعده الفَقْرُ
كأنَ الثّريّا عُلِّقت في يَمينه وفي خَدِّه الشِّعري وفي الآخرَ البَدْر

شَريك عن الأسود بن قيس قال‏:‏ حدّثني مَن رأى الزُبير يوم الجمل يَقْعص الخيل بالرُّمح قَعصا
فنوِّه به علي‏:‏ أيا عبد اللّه أتذكر يوماً أتانا النبيُ صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال‏:‏
أتناجيه‏!‏ واللّه ليُقاتلنَك وهو ظالم لك‏.‏
قال‏:‏ فصرَف الزُبير وَجْه دابّته وانصرف‏.‏
قال أبو الحُسن‏:‏
لما انحاز الزُّبير يومَ الجمل مر بماء لبني تَميم فقيل للأحنف بن قيس‏:‏ هذا الزُّبير قد أقبل‏.‏
قال‏:‏
وما أصنع به أن جَمع بين هذين الغَزِيَّيْن وتَرك الناس وأقبل - يريد بالغَزييْن المُعسكرين - وفي
مجلسه عمرو بن جُرموز المجاشعيّ فلما سمع كلامَه قام من مجلسه واتبعه حتى وجده بوادي
الطباع نائماً فقَتله وأقبل برأسه على عليّ بن أبي طالب‏.‏
فقال عليّ‏:‏ أبْشر بالنار سمعتُ
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ بشروا قاتل الزّبير بالنار‏.‏
فخرج عمرو بن جُرموز وهو
يقول‏:‏
أتيتُ عليَّا برأس الزُبير وقد كنتُ أحسبها زُلْفَه
فبشِّر بالنار قَبل العِيان فبئس بشارة ذي التّحفه
ومن حديث ابن أبي شيبة قال‏:‏ أقبل رجلٌ بسيف الزّبير إلى الحسن بن علي فقال‏:‏ لا حاجة لي
به أدخله إلى أمير المؤمنين‏.‏
فدخل به إلى عليّ فناوله إياه وقال‏:‏ هذا سيفُ الزّبير‏.‏
فأخذه
عليّ فنظر إليه مليّا ثم قال‏:‏ رَحم اللّه الزبير‏.‏
لطالما فَرَّج به الكُرب عن وجه رسول الله صلى

غَدر ابن جُرْموز بفارس بُهْمةٍ يومَ الهِياج وكان غيرَ مُعَدََّدِ
يا عمرو لو نبَّهته لوجدته لا طائشاً رَعِش الْجَنان ولا اليَدْ
ثَكِلْتك أمك أن قَتلت لمُسلما حلت عليك عُقوبة المتعمد
وقال جرير يَنعي على ابن مُجاشع قتلَ الزبير رضي الله تعالى عنه‏:‏
إني تُذكِّرني الزبيرَ حمامةٌ تَدعو ببَطن الواديين هَدِيلا
قالت قُريش ما أذلَّ مُجاشعاً جاراً وأكرمَ ذا القتيلَ قَتيلا
لو كُنتَ حرًّا يا بن قَين مُجاشعٍ شيعت ضَيفك فَرْسخاً أو مِيلاً
أفبعد قَتْلكم خليلَ محمدٍ تَرْجو القُيون مع الرسول سَبِيلا
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ دعاني أبي يومَ الجمل فقمتُ عن يمينه
فقال‏:‏ إنه لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم وما أراني إلا سأقتل مظلوما وإن أكبر همّي دَيني فبع
مالي ثم اقض ديني فإِن فَضل شيء فثُلثه لولدك وإن عجزتَ عن شيء ما بُني فاستعِن مولاي‏.‏

قلت‏:‏ ومن مولاك يا أبت قال‏:‏ الله‏.‏
قال عبدُ الله بن الزبير‏:‏ فواللّه ما بقيتُ بعد ذلك في كُربة
من دَينه أو عُسرة إلا قلت‏:‏ يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيَه‏.‏
قال‏:‏ فقُتل الزبير ونظرتُ في
دَينه فإذا هو ألفُ ألف ومائة ألف‏.‏
قال‏:‏ فبِعت ضَيعهً له بالغابة بألف ألف وستمائة ألف ثم

ناديتُ‏:‏ مَن كان له قِبل الزّبير شيء فليأتنا نقضِه‏.‏
فلما قضيتُ دينَه أتاني إخوتي فقالوا‏:‏ أقسم
بيننا ميراثَنا‏.‏
قلت‏:‏ والله لا أقسم حتى أنادي أربعَ سنين بالمَوْسم‏:‏ من كان له على الزبير شيء
فليأتنا نَقْضِه‏.‏
قال‏:‏ فلما مَضت الأربع السنين أخذت الثّلث لولدي ثم قسمتُ الباقي‏.‏
فصار
لكل امرأة من نسائه - وكان له أربع نسوة - في ربع الثمن ألف ألف ومائة ألف‏.‏
فجميع ما تَرك
مائة ألف ألف وسبعمائة ألف ألف‏.‏
ومن حديث ابن أبي شَيبة قال‏:‏ كان علي يُخرج مُناديه يوم
الجمل يقول‏:‏ لا يُسلبن قتيل ولا يُتْبع مُدْبر ولا يجهز على جَريح‏.‏
قال‏:‏ وخرج كعب بن ثَور من
البصرة قد تقلّد المُصحف في عُنقه فجعل يَنْشره بين الصّفين ويُناشد الناس في دِمائهم إذ أتاه
سَهم فقَتله وهو في تلك الحال لا يدري مَن قتله‏.‏
وقال في بن أبي طالب يوم الجمل للأشتر وهو
مالك بن الحارث وكان الميمنة‏:‏ أحمل‏.‏
فحمل فكَشف من بإزائه‏.‏
وقال لهاشم بن عُقْبة أحد
بني زُهرة بن كِلاب وكان على المَيسرة‏:‏ احمل‏.‏
فحمل فكَشف من بإزائه‏.‏
فقال علي
لأصحابه‏:‏ كيف رأيتم مَيسرتي ومَيمنتي‏!‏

من حديث الجمل
الخُشني عن أبي حاتم الجّستاني قال‏:‏ أنشدني الأصمعي عن رجل شَهد الجملَ يقول‏:‏
شهدتُ الحُروب وشيبنيِ فلم تر عيني كيوم الجَملْ
اضرّ على مُؤمنٍ فِتنةً وأفتك منه لِخرْق بَطل
فليت الظّعينةَ في بيتها وليتك عَسكرُ لم تَرْتحل
ابن مُنْيَة وَهبه لعائشة وجعل له هَوَدجاً من حديد وجَهز من ماله خَمسمائة فارس بأسلحتهم
وأزودتهم‏.‏
وكان أكثرَ أهل البصرة مالاً‏.‏
وكان عليّ بن أبر طالب يقول‏:‏ بُليت بأنَضّ الناس وأنطق
الناس وأطوع الناس في الناس‏.‏
يُريد بأنَض الناس‏:‏ يَعلَى بن مُنْية وكان أكثرَ الناس ناضا ويريد
بأنطق الناس‏:‏ طَلحة بن عُبيد الله وأطوع الناس في الناس عائشةَ أم المؤمنين‏.‏
أبو بكر بن أبي
شيبة عن مَخْلد بن عُبيد الله عن التَّميمي قال‏:‏ كانت رايةُ علي يومَ الجمل سوداء وراية أهل
البصرة كالجَمل‏.‏
الأعمش عن رجل سمّاه قال‏:‏ كنتُ أرى عليًّا يومَ الجمل يَحمل فيضرب بسَيفه
حتى يَنثني ثم يَرجع فيقول‏:‏ لا تلوموني ولُوموا هذا ثم يعود ويُقوَمه‏.‏
ومن حَديث أبي بكر بن
أبي شَيبة قال‏:‏ قال عبد اللّه بن الزبير‏:‏ التقيتُ مع الأشتر يوم الجمل فما ضرَبتُه ضربةً حتى

ضَربني خمسة أو ستة ثم جَرّ برجلي فألقاني في الخَندق وقال‏:‏ والله لولا قُربُك من رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم ما اجتمع فيك عُضو إلى آخر‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ أعطت عائشة
الذي بَشَّرها بحياة ابن الزُّبير إذ التقى مع الأشتر يوم الجمل أربعة آلاف‏.‏
سعيدُ عن قَتادة قال‏:‏
قُتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفاً منهم ثمانمائة من بني ضبة‏.‏
وقالت عائشةُ‏:‏ ما أنكرتُ
رأس جَملي حتى فقدتُ أصواتَ بني عديّ‏.‏
وقُتل من أصحاب عليّ خمسمائة رجل لم يُعرف
منهم إلا عِلْباء بن الهيثم وهِند الجملّي قَتلهما ابن اليَثربيّ وأنشأ يقول‏:‏
إِني لِمَن يَجهلني ابن اليَثرُبي قتلتُ عِلْباءَ وهِنْد الجَملي
عبدُ الله بن عَوْن عن أبي رجَاء قال‏:‏ لقد رأيت الجَمل حينئذ وهو كظهر القُنفذ من النَبل
ورجلٌ من بني ضَبًّة أخذ بخُطامه وهو يقول‏:‏
نحنُ بنو ضَبَّة أصحابُ الجملْ الموتُ أحلى عندنا من العَسلْ
نَنْعَي ابن عَفان بأطراف الأسَلْ
غندَر قال‏:‏ حَدثنا شعبة بن عمرو بن مُرة قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن سَلمة وكان مع في بن أبي
طالب يوم الجمل والحارثَ بن سُويد وكان مع طَلحة والزُّبير وتذاكرا وقعة الجمل فقال
الحارث بن سُويد‏:‏ والله ما رأيتُ مثلَ يوم الجمل لقد أشرعوا رِماحَهم في صُدورنا وأشرعنا

رماحَنا في صُدورهم ولو شاءت الرجال أن تَمشي عليها لمشت يقول هؤلاء‏:‏ لا إله إلا الله
والله أكبر ويقول هؤلاء‏:‏ لا إله إلا اللّه والله أكبر فوالله لَوددتُ أني لم أشهد ذلك اليوم وأني
أعمى مَقطوعُ اليدين والرِّجلين‏.‏
وقال عبدُ الله بن سَلمة‏:‏ واللّه ما يُسرّني أني غِبْتُ عن ذلك
اليوم ولا عن مَشهد شَهِدَه عليّ بن أبي طالب بحُمر النَّعم‏.‏
علي بن عاصم عن حُصين قال‏:‏
حدّثني أبو جُميلة البكّاء قال‏:‏ إني لفي الصَف مع علي بن طالب إذ عُقر بأم المُؤمنين جملُها
فرأيتُ محمدَ بن أبي بكر وعمار بن ياسر يشتدّان بين الصَفين أيهما يَسبق إليها فقَطعا عارضة
الرّحل واحتملاها في هَودجها‏.‏
ومن حديث الشَعبي قال‏:‏ مَن زَعم أنه شهد الجمل من أهل بَدر
إلا أربعةٌ فكذبه كان عليّ وعمار في ناحية وطَلحة والزُبير في ناحية‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة
قال‏:‏ حدَثني خالدُ بن مَخلد عن يعقوب عن جَعفر بن أبي المُغيرة عن ابن أبْزَى قال‏:‏ انتهى عبد
اللّه بن بُديل إلى عائشة وهي في الهَوْدج فقال‏:‏ يا أم المؤمنين أنشدُك باللهّ أتعلمين أني أتيتُكِ يَومَ
قُتل عثمان فقلتُ لك‏:‏ إن عثمان قد قُتل فما تأمرينني به‏.‏
فقلتِ لي‏:‏ الزم عليّا فواللّه ما غير
ولا بدَّل‏.‏
فسكتت‏.‏
ثم أعاد عليها‏.‏
فسكتت‏.‏
ثلاثَ مرات‏.‏
فقال‏:‏ اعقِروا الجَمل فعَقروه‏.‏

فنزلتُ أنا وأخوها محمد بن أبي بكر فاحتملنا الهودَج حتى وَضعناه بين يدي علي فسُرّ به
فأدخل في منزل عبد اللّه بن بُديل‏.‏


وقالوا‏:‏ لما كان يومَ الجَمل ما كان وظَفِر عليُّ بن أبي طالب دنا من هَودج عائشة فكلّمها
بكلام‏.‏
فأجابته‏:‏ ملكتَ فأسْجع‏.‏
فجهَّزَها عليّ بأحسن الجِهَاز وبَعث معها أربعين امرأة - وقال
بعضُهم‏:‏ سبعين امرأة - حتى قَدِمَت المدينة‏.‏
عكرمةُ عن ابن عباس قال‏:‏ لما انقضى أمرُ الجمل
دعا علي بن أبي طالب بآجرتين فعلاهما فَحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ يا أنصارَ المرأة
وأصحابَ البَهيمة رَغا فجئتُم وعُقر فهُزمتم نَزلتم شرَّ بلاد أبعدها من السماء بها مَغيض
كل ماء ولها شرُّ أسماء هي البَصرة والبُصيرة والمُؤتفكة وتَدْمر أين ابن عباس قال‏:‏ فدُعيت
له من كل ناحية فأقبلت إليه فقال‏:‏ ائت هذه المرأة فَلْترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تَقَر
فيه‏.‏
قال‏:‏ فجئتُ فاستأذنتُ عليها فلم تَأذن لي فدخلتُ بلا إذن ومَددت يدي إلى وِسادة في
البيت فجلستُ عليها‏.‏
فقالت‏:‏ تاللّه يا بن عباس ما رأيتُ مثلك‏!‏ تَدخل بيتَنا بلا إذننا
وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا‏.‏
فقلت‏:‏ واللّه ما هو بيتُكِ ولا بيتُكِ إلا الذي أمرك اللّه أن
تَقرِّي فيه فلم تَفعلي إن أمير المؤمنين يأمرك أن تَرجعي إلى بلدك الذي خرجتِ منه‏.‏
قالت‏:‏
رحم اللّه أميرَ المؤمنين ذاك عمرُ بن الخطّاب‏.‏
قلتُ‏:‏ نعم وهذا أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي
طالب‏.‏
قالت‏:‏ أبيتُ أبيت‏.‏
قلت‏:‏ ما كان إباوك إلا فُوَاقَ ناقة بكيئة ثم صرتِ ما تُحْلِينَ ولا
تُمرِّين ولا تَأمرين ولا تَنْهين‏.‏
قال‏:‏ فبكت حتى علا نشيجًها‏.‏
ثم قالت‏:‏ نعم أرجعُ فإن أبغض

البلدان إلي بلدٌ أنتم فيه‏.‏
قلت‏:‏ أما واللّه ما كان ذلك جزاؤُنا منك إذ جَعلناك للمُؤمنين أمًّا
وجعلنا أباك لهم صِدِّيقاً‏.‏
قال‏:‏ أتمُنُّ فيَ برسول الله يا بن عباس قلتُ‏:‏ نعم نمنّ عليك بمن لو
كان منكِ بمنزلته منَا لمننتِ به علينا‏.‏
قال ابن عبّاس‏:‏ فأتيتُ عليًّا فأخبرتُه فقبّل بين عينيَّ
وقال‏:‏ بأبي ذريَّة بعضا من بعض واللّه سميع عليم‏.‏
ومن حديث ابن أبي شَيبة عن ابن فًضيل
عن عَطاء بن السائب‏:‏ أن قاضيا من قُضاة أهل الشام أتى عمرَ بن الخطاب فقال‏:‏ يا أميرَ
المؤمنين رأيتُ رؤيا أفْظعتني‏.‏
قال‏:‏ وما رأيتَ قال‏:‏ رأيتُ الشمس والقمر يَقتتلان والنجومَ
معهما نصفين‏.‏
قال‏:‏ فمع أيهما كنتَ قال‏:‏ مِع القمر على الشمس‏.‏
قال عمرُ بن الخطاب‏:‏
‏"‏ وجعلنا اللَيل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آيةَ النهار مبصرة ‏"‏ فانطلِقْ فوالله لا تَعمل لي
عملاً أبداً‏.‏
قال‏:‏ فبلغني أنه قُتل مع مُعاوية بصفين‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ أقبل سُليمان بن
صرُد وكانت له صُحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب بعد وقعة
الجمل فقال له‏:‏ تنأنأت وتَزحزحت وتربّصت فكيف رأيت الله صنَع قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ
الشوط بَطِين وقد بقي من الأمور ما تَعرف به عدوك من صَديقك‏.‏
وكتب عليُّ بن أبي طالب
إلى الأشعث بن قيس بعد الجَمل وكان والياً لعثمان على أذْرَبيجان‏:‏ سلامٌ عليك أما بعد‏.‏

فلولا هَنات كنّ منك لكنت أنت المُقدم في هذا الأمر قبل الناس ولعل أمركَ يحمل بعضُه بعضاً

إن اتقيتَ اللّه وقد كان من بَيعة الناس إِيَّاي ما قد بَلغك وقد كان طلحةُ والزبير أولَ من بايعني
ثم نَكثا بيعتي من غير حَدَث ولا سَبب وأخرجا أمَّ المؤمنين فساروا إلى البَصرة وسرتُ إليهِم
فيمن بايعني من المُهاجرين والأنصار فالتقينا فدعوتهم إلى أن يَرجعوا إلى ما خَرجوا منه فأبوْا
فأبلغتُ في الدُعاء وأحسنتُ في البُقيا وأمرتُ ألا يُذفّ على جريح ولا يُتبع مُنهزم ولا يُسلب
قَتيل ومَن ألقى سلاحَه وأغلق بابه فهو آمن‏.‏
واعلم أن عملك ليس لك بطُعْمة إنما هو أمانة في
عُنقك وهو مال من مال اللّه وأنت من خُزَاني عليه حتى تُؤديه إليّ إن شاء الله ولا قُوةَ إلا
بالله‏.‏
فلما بلغ الأشعث كتابُ عليّ قام فقال‏:‏ أيها الناس إن عثمان بن عفان ولّاني أذربيجان
فهلك وقد بقيتْ في يدي وقد بايع الناسُ عليًّا وطاعتُنا له واجبة وقد كان من أمره وأمر
عدوّه ما كان وهو المأمون على مَن غاب من ذلك المَجْلس ثم جلس‏.‏

قولهم في أصحاب الجمل
أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ سُئل علي عن أصحاب الجمل‏:‏ أمشركون هم قال‏:‏ من الشّرَك
فَروا‏.‏
قال‏:‏ فَمنافقون هم قال‏:‏ إن المنافقين لا يَذكرون الله إلا قليلاً‏.‏
قال‏:‏ فما هم‏!‏ قال‏:‏
إخوانُنا بَغَوْا علينا‏.‏
ومَر علي بقتلى الجمل فقال‏:‏ اللهم اغفر لنا ولهم ومعه محمدُ بن أبي بكر
وعمار بن ياسر فقال أحدُهما لصاحبه‏:‏ أما تسمع ما يقول‏!‏ قال‏:‏ اسكت لا يَزيدك‏.‏
وكيع عن

مِسْعَر عن عبد الله بن رَباح عن عمار قال‏:‏ لا تقولوا‏:‏ كَفر أهل الشام ولكن قُولوا‏:‏ فَسقوا
وظَلموا‏.‏
وسُئل عمار بن ياسر عن عائشة يوم الجمل فقال‏:‏ أما والله إنا لنعلم أنها زوجتُه في
الدُنيا والآخرة ولكنّ اللّه ابتلاكم بها ليعلم أتتبعونه أم تَتبعونها‏.‏
وقال عليُّ بن أبي طالب يومَ
الجمل‏:‏ إن قوماً زَعموا أن البَغي كان منّا عليهم وزَعمنا انه منهم علينا وإنما اقتتلنا على البَغي
ولم نقتتل على التَّكفير‏.‏

أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ أول ما تكلمت به الخوارجُ يومَ الجمل قالوا‏:‏ ما أحلَّ لنا دماءَهم وحرّم
علينا أموالهم‏!‏ فقال عليّ‏:‏ هي السنة في أهل القِبلة‏.‏
قالوا‏:‏ ما نَدري ما هذا قال‏:‏ فهذه
عائشةُ رأس القوم أتتساهمون عليها‏!‏ قالوا‏:‏ سُبحان الله‏!‏ أمنا‏.‏
قال‏:‏ فهي حَرام قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإنه يَحرم من أبنائها ما يَحرم منها‏.‏
قال‏:‏ ودخلتْ أم أوفى العَبْدية على عائشة بعد وَقعه
الجمل فقالت لها‏:‏ يا أمّ المؤمنين ما تقولين في امرأةٍ قَتلت ابناً لها صغيراً قالت‏:‏ وَجبت لها
النار‏.‏
قالت‏:‏ فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً في صَعيد واحد قالت‏:‏
خُذوا بيد عدوّة اللّه‏.‏
وماتت عائشةً في أيام مُعاوية وقد قاربت السبعين‏.‏
وقيل لها‏:‏ تُدفنين مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لا إني أحدثت بعده حَدثاً فادفِنُوني مع إخوتي
بالبقيع‏.‏
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ يا حُميراء كأني بك تَنْبحك كِلابُ

الحُوّب‏.‏
تقاتلين علياً وأنت له ظالمة‏.‏
والحُوب بضم الحاء وتثقيل الواو وقد زَعموا أن الحُوَّب
ماء في في طريق البصرة‏.‏
قال في ذلك بعضُ الشيعة‏:‏
إني أدينُ بحُب آل محمدٍ وبَني الوَصيّ شهودِهم والغُيبِ
وأنا البريء من الزُّبير وطَلحة ومِن التي نَبحت كلابُ الحُوّب

أخبار علي ومعاوية
كتب عليّ بن أبي طالب إلى جرير بن عبد الله وكان وجهّه إلى مُعاوية في أخذ بيعته فأقام
عنده ثلاثة أشهر يُماطله بالبيعة فكتب إليه عليّ‏:‏ سلام عليك فإذا أتاك كتابي هذا فَاحمل
مُعاوية على الفَصل وخَيَره بين حرب مَجْلية أو سَلم مَحظية‏.‏
فإن اختار الحربَ فانبذ إليهم
على سواء إن اللّه لا يُحب الخائنين وإن اختار السلم فخُذ بَيعته وأقبل إلي‏.‏
وكتب عليّ إلى
معاوية بعد وقعة الجمل‏:‏ سلام عليك‏.‏
أما بعد‏.‏
فإن بَيعتي بالمدينة لزمتْك وأنت بالشام لأنه
بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه‏.‏
فلم يكن للشاهد أنْ يختار ولا
للغائب أن يردّ وإنما الشُورى للمهاجرين والأنصار فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان
ذلك للّه رضاً وإن خَرج عن أمرهم خارجٌ ردّوه إلى ما خَرج عنه فإن أبى قاتلوه على أتباعه
غيرَ سبيل المؤمنين وولّاه اللّه ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مَصيراً‏.‏
وإن طلحةَ والزُبير بايعاني
ثم نَقضا بيعتهما وكانَ نَقضُهما كردَتهما فجاهدتُهما بعد ما أعذرت إليهما حتى جاء الحقُّ
وظَهر أمرُ الله وهم كارهون‏.‏
فادخُل فيما دَخل فيه المسلمون فإنَ أحب الأمور إليّ قَبولُك
العافية‏.‏
وقد أكثرتَ في قتلة عثمان فإن أنت رجعتَ عن رأيك وخلافك ودخلتَ فيما دخل

فيه المسلمون ثم حاكَمت القوْمَ إلي حملتُك وإياهم على كتاب الله‏.‏
وأما تلك التي تُرِيدها فهي
خُدعة الصّبي عن اللبن‏.‏
ولَعمي لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنَي أبرأ قُريش من دم عثمان‏.‏

واعلم أنك من الطُّلقاء الذين لا تَحل لهم الخلافة ولا يدخلون في الشُّورى وقد بعثتُ إليك وإلى
مَن قبلك جَريرَ بن عبد اللّه وهو من أهل الإيمان والهِجرة فبايعْه ولا قُوة إلا باللهّ‏.‏
فكَتب إليه
معاوية‏:‏ سلام عليك‏.‏
أما بعد فلَعمري لو بايعك الذين ذكرتَ وأنت بريء من دم عثمان لكنتَ
كأبي بكر وعمر وعثمان ولكنَك أغريتَ بدم عثمان وخَذلت الأنصار فأطاعك الجاهلُ وقوي
بك الضعيف‏.‏
وقد أبي أهلُ الشام إلا قتالَك حتى تَدفع إليهم قتلَة عثمان فإن فعلتَ كانت
شورى بين المسلمين‏.‏
وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم فلما فارقوه كان
الحُكَام على الناس أهلُ الشام‏.‏
ولَعمري مَا حُجَّتك على أهل الشام كحجتك على أهل البَصرة
ولا حُجَّتك عليّ كحُجتك على طلحة والزُّبير إن كانا بايعاك فلم أبايعك أنا‏.‏
فأما فضلك في
الإسلام وقرابتُك من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلسْتُ أدفعه‏.‏
فكتب إليه عليٌّ‏:‏ أما
بعد‏.‏
فقد أتانا كتابُك كتابُ امرىء ليس له بصرٌ يهديه ولا قائد يُرشده دعاه الهوى فأجابه
وقاده فاتبعه‏.‏
زعمتَ أنك إنما أفسد عليك بَيعتي خُفُوري لعثمان‏.‏
ولَعمري ما كنتُ إلا رجلاً
من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرتُ كما أصدروا‏.‏
وما كان اللّه ليجمعهم على ضَلالة

ولا ليضربهم بالعَمى‏.‏
وما أمرتُ فلزمَتْني خَطيئةُ الأمر ولا قتلتُ فأخاف على نَفسي قِصاص
القاتل‏.‏
وأما قولُك إن أهل الشام هم حُكام أهل الحجاز‏.‏
فهات رجلاً من أهل الشام يُقبَل في
الشورى أو تحلّ له الخلافة فإن سَمَّيتَ كَذَّبك المهاجرون والأنصار‏.‏
ونحن نأتيك به من أهل
الحجاز‏.‏
وأما قولُك‏:‏ ادفعِ إليّ قتلة عثمان‏.‏
فما أنت وذاك وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك
منك‏.‏
فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منه فارجع إلى البيعة التي لزمتْك وحاكم
القومَ إليّ‏.‏
وأما تمييزك بين أهل الشام والبَصرة وبينك وبين طلحة والزبير‏.‏
فلعمري ما الأمر هناك
إلا واحد لأنها بيعة عامة لا يتأتىّ فيها النظر ولا يُستأنف فيها الخيار‏.‏
وأما قرابتي من رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم وقِدمِي في الإسلام فلو استَطعت دفعَه لدفَعتَه‏.‏
وكتب معاويةُ إلى
علي‏:‏ أما بعد‏.‏
فإِنك قتلتَ ناصرَك واستنصرت واترَك‏.‏
فوايم الله لأرْمينّك بشهاب تُزكيه الريح
ولا يُطفئه الماء‏.‏
فإذا وقع وَقب وإذا مسّ ثَقب فلا تحسبَنّي كسُحيم أو عبد القيس أو حُلوان
الكاهن‏.‏
فأجابه عليّ‏:‏ أما بعد‏.‏
فواللّه ما قَتل ابن عمّك غيرُك‏!‏ أني أرجو أن ألحقك به على
مثل ذَنبه وأعظِم من خطيئته‏.‏
وإن السيف الذي ضربتُ به أهلَك لمعي دائم‏.‏
واللهّ ما
استحدثْت ذنباً ولا استبدلت نبيّا وإني على المِنْهاج الذي تركتُموه طائعين وأدخلتم فيه
كارهين‏.‏
وكتب معاوية إلى علي بن أبي طالب‏:‏ أما بعد‏.‏
فإن اللّه اصطفى محمداً وجعله الأمين

علَى وحيه والرسول إلى خَلقه واختار له من المسلمين أعواناً أيّده بهم وكانوا في منازلهم عنده
على قدر فضائِلهم في الإسلام فكان أفضلَهم في الإسلام وأنصحَهم لله ولرسوله الخليفةُ وخليفةُ
الخليفة والخليَفة الثالث فكلّهم حسدْتَ وعلى كُلهم بَغيتَ‏.‏
عَرفنا ذلك في نظرك الشَزْر
وتنفُسك الصُعداء وإبطائك على الخُلفاء وأنت في كل ذلك تُقاد كما يُقاد البعير المَخْشوش
حتى تُبايع وأنت كاره‏.‏
ولم تكن لأحد منهم أشدَّ حسداً منك لابن عمك عثمان وكان أحقَّهم
أن لا تفعل ذلك في قَرابته وصِهْره‏.‏
فقطعتَ رحمه وقبَّحت محاسنه وألَّبت عليه الناس حتى
ضُربت إليه آباطُ الإبل وشُهر عليه السلاح في حَرم الرسول فقُتل معك في المحلّة وأنت تسمعِ في
داره الهائعة لا تُؤَدّي عن نفسك في أمره بقَوْلِ ولا فعل برّ‏.‏
أقسم قسماً صادقاً لو قصتَ في أمره
مقاماً واحداً تنهينّ الناس عنه ما عَدل بك ممن قَبِلنا من الناس أحد ولمَحا ذلك عنك ما كانوا
يَعرفونك به من المجانبة لعثمان فهم بطانتك وعَضدك وأنصارك‏.‏
فقد بَلغني أنك تَنتفي من دمه
فإن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلَته نَقتلهم به ثم نحن أسرعُ الناس إليك وإلا فليس لك ولا
لأصحابك عندنا إلا الصيف‏.‏
والذي نفسُ معاوية بيده لأطلبنَّ قتلةَ عثمان في الجبال والرّمال
والبَرّ والبَحر حتى نقتلهم أو تَلحقَ أرواحُنا بالله‏.‏
فأجابه عليّ‏:‏ أما بعد‏.‏
فإِنّ أخا خَوْلان قَدِم
علي بكتاب منك تَذكر فيه محمداً صلى الله عليه وسلم وما أنعم اللّه به عليه من الهُدى

والوَحْي‏.‏
فالحمدُ للهّ الذي صَدقه الوعد وتَمَّم له النصر ومكّنه في البلاد وأظهره على
الأعادي من قومه الذين أظهروا له التَّكذيب ونابذوه بالعداوة وظاهروا على إخراجه وإخراج
أصحابه وألَبوا عليه العرب وحَزّبوا الأحزاب حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون‏.‏

وذكرتَ أن اللهّ اختار من المسلمين أعوانَاً أيّده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم
في الإسلام فكان أفضلَهم في الإسلام وأنصحَه للّه ولرسوله الخليفةُ من بعده‏.‏
ولعمري إن كان
مكانُهما في الإسلام لعظيما وإن كان المُصاب بهما لجُرْحا في الإسلام شديداً فرحمهما اللّه
وغَفر لهما‏.‏
وذكرتَ أن عثمان كان في الفَضل ثالثاً فإنْ كان مُحسناً فسيلقىِ رباً شكوراً
يُضاعف له الحسنات ويَجزيه الثوابَ العظيم وإن يك مُسيئاً فسيلقى رباً غفوراً لا يَتعاظمه
ذنبٌ يغفره‏.‏
ولعمري إني لأرجو إذا اللّه أعطى الأسْهم أن يكون سَهْمُنا أهلَ البيت أوفَر
نصيب‏.‏
وايم اللّه ما رأيتُ ولا سمعتُ بأحد كان أنصحَ لله ورسوله ولا أنصحَ لرسول اللهّ في
طاعة اللّه ولا أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف مِن هؤلاء النفر من أهل بيته الذي
قُتلوا في طاعة اللّه‏:‏ عُبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم أُحد وجعفر وزيد
يوم مُؤتة‏.‏
وفي المهاجرين خير كثير جزاهم اللّه بأحسن أعمالهم‏.‏
وذكرتَ إبطائي عن الخلفاء
وحسدي إياهم والبَغي عليهم‏.‏
فأما البغي فمعاذَ اللّه أن يكون‏.‏
وأما الكَراهة لهم فواللّه ما

اعتذر للناس من ذلك‏.‏
وذكرتَ بَغْيي على عثمان وقَطْعي رحمه فقد عمل عثمان بما قد
علمتَ وعَمل به الناسُ ما قد بلغك‏.‏
فقد علمتَ أني كنتُ من أمره في عُزلة إلا أن تجنَّى
فتجنَ ما شئتَ وأما ذِكْرك قَتلةَ عثمان وما سألتَ من دفعهم إليك فإني نظرتُ في هذا الأمر
وضربت أنفَه وعَينَه فلم يَسعني دَفْعهُم إليك ولا إلى غيرك وإن لم تَنْزع عن غَيك لنعرفنك عما
قليل يطلبونك ولا يكلفونك أن تَطلبهم في سَهل ولا جَبل ولا بَرّ ولا بحر‏.‏
وقد كان أبوك أبو
سفيان أتاني حين قُبض رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏.‏
ابسط يدَك أبايعك فأنت أحقُّ
الناس بهذا الأمر‏.‏
فكنتُ أنا الذي أبيت عليه مخافةَ الفُرقة بين المسلمين لقُرب عهد الناس
بالكفر‏.‏
فأبوك كان أعلَمَ بحقَي منك وإن تعرف من حقَي ما كان أبوك يعرفه تُصِب رشْدك
وإلا فنَستعين الله عليك‏.‏
وكتب عبدُ الرحمن بن الحكم إلى معاوية‏:‏
ألا أبْلغ مُعاويةَ بنَ حَرْب كتاباً من أخِي ثِقَةٍ يَلومُ
فإنَك والكتابَ إلى علَيٍّ كدابغةٍ وقد حَلِم الأدِيم

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:48 AM

يوم صفين
أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ خَرج عليُ بن أبي طالب من الكُوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين

ألفاً وخرج مُعاوية من الشام في بضع وثمانين ألفاً فالتقوا بصفِّين‏.‏
وكان عسكر علي يُسمَى
الزَّحزحة لشدة حَركته وعسكرُ معاوية يسمى الخُضْرية لاسوداده بالسلاح والدروع‏.‏
وأبو
الحسن قال‏:‏ كانت أيامُ صِفّين كلّها موافقَة ولم تكن هَزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرون‏.‏

أبو الحسن قال‏:‏ كان مُنادي على يخرج كل يوم وينادي‏:‏ أيها الناس لا تُجهزُنّ على جريح ولا
تَتبعُنَّ موِلِّياً ولا تَسلبنّ قتيلا ومن ألقى سلاحه فهو آمن‏.‏
أبو الحسن قال‏:‏ خرج معاوية إلى عليٍّ
يوم صفّين ولم يُبايعه أهلُ الشام بالخلافة وإنما بايعوه عَلَى نُصرة عثمان والطلب بدمه‏.‏
فلما كان
من أمر الحَكَمين ما كان بايعوه بالخلافة‏.‏
فكتب معاويةُ إلي سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام
معه في دم عثمان‏:‏ سلام عليك‏:‏ أما بعد‏.‏
فإن أحقَّ الناس بنُصرة عثمان أهلُ الشُّورى من
قُريش الذين اثبتوا حقَّه واختاروِه عَلَى غيره ونُصرةِ طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر
ونظيراك في الإسلام‏.‏
وخفّت لذلك أم المؤمنين فلا تَكره ما رضوا ولا تَردّ ما قبلوا وإنما نريد
أن نردّها شورى بين المسلمين‏.‏
والسلام‏.‏

فأجابه سعد‏:‏ أما بعد‏.‏
فإن عُمَر رضي الله عنه لم يُدخل في الشورى إلا مَن تَحِل له الخلافة
فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه‏.‏
غَير أنَ عليًّا كان في ما فينا ولم يكن
فينا ما فيه ولو لم يطلبها ولزم بيتَه لطلَبتْه العربُ ولو بأقصى اليمن‏.‏
وهذا الأمر قد كرهنا أولَه

وكَرِهنا آخره‏.‏
وأما طلحة والزُّبير فلو لزما بيوتَهما لكان خيراً لهما‏.‏
واللّه يَغفر لأم المؤمنين ما
أتتْ‏.‏
وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن عُبادة‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنما أنت يهوديّ ابن يهوديّ إن
ظَفر أحبُّ الفريقين إليك عَزلك واستبدل بك وإن ظَفر أبغضُ الفريقين إليك قَتلك ونَكّل بك‏.‏

وقد كان أبوك أوترَ قوسَه ورَمى غرضَه فأكثر الحزَّ وأخطأ المَفْصِل فخذله قومُه وأدركه يومهُ
ثم مات طريداً بحَوْران‏.‏

فأجابه قيس‏:‏ أما بعد‏.‏
فأنت وثنيّ ابن وثنيّ‏.‏
دخلتَ في الإسلام كُرهاً وخرجتَ منه طوعاً لم
يَقْدُم إيمانك ولم يحذَر نفاقك‏.‏
ونحن أنصارُ الدين الذي خرجتَ منه وأعداء الدين الذي
دخلتَ فيه‏.‏
والسلام‏.‏

وخطب عليُ بن أبي طالب أصحابَه يوم صِفّين فقال‏:‏ أيها الناس إنَّ الموتَ طالبٌ لا يُعجزه
هارب ولا يفوته مُقيم أقْدِموا ولا تَنْكُلوا فليس عن الموتِ مَحيص‏.‏
والذي نفسُ ابن أبي
طالب بيده إن ضَربة سيف أهونُ من مَوت الفِراش‏.‏

أيها الناس اتقوا السيوفَ بوجُوهكم والرماح بصُدوركم ومَوعدي وإياكم الرايةُ الحمراء‏.‏

فقال رجلٌ من أهل العراق‏:‏ ما رأيتُ كاليوم خطيباً يَخْطبنا‏!‏ يأمرنا أن نَتقي السيوفَ بوجُوهنا
والرماحَ بصُدورنا ويَعدنا رايةً بيننا وبينها مائةُ ألف سيف‏.‏


قال أبو عُبيدة في التاج‏:‏ جَمعِ عليُّ بن أبي طالب رياسةَ بكر كُلٌها يوم صِفين لحُضين بن المُنذر
بن الحارث بن وعْلة وجعل ألويتها تحت لوائه وكانت له رايةً سوداء يَخْفِق ظِلُّها إذا أقبل فلم
يُغن أحد في صِفين غَناءه‏.‏
فقال فيه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏
لمن رايةً سَواءُ يَخْفِق ظِلَّها إذ قِيل قدَّمها حُضينُ تَقدمَا ُ
يقدَمُها في الصفِّ حتى يُزِيرَها حياضَ المَنايا تَقْطُر السَمَّ والدَّما
جَزى اللّه عنّي والجزاءُ بكَفَّه ربيعة خيراً ما أعفَّ وأكرما
وكان من هَمْدان في صِفين حُسن‏.‏
فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يزينهم وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْن كلام
فلو كُنتُ بوِّاباً على باب جَنَّة لقلتُ لهمدان ادخُلوا بسَلام
أبو الحسن قال‏:‏ كان فيُ بن أبي طالب يَخرج كلّ غداة لصفّين في سرًعان الخيل فيقف بين الصفين
ثم ينادي‏:‏ يا معاوية علامَ يقتتل الناس ابرُز إلي وأبْرز إليك فيكون الأمرُ لمن غَلب‏.‏
فقال له
عمرو بن العاص‏:‏ أنصفك الرجلُ‏.‏
فقال له معاوية‏:‏ أردتَها يا عمرو والله لا رضيتُ عنك حتى
تُبارز عليَّا‏.‏
فبرز إليه متنكّرأ فلما غَشيه علي بالسَّيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له
سوأته فضرب عليَّ وجهَ فَرسه وانصرف عنه‏.‏
فجلس معه معاوية يوماً فنظر إليه فضحك‏.‏


فقال عمرو‏:‏ أضحك الله سِنَّك ما الذي أضحكك قال‏:‏ من حُضور ذهنك يوم بارزتَ عليًّا
إذ اتّقيتَه بعَورتك‏.‏
أما واللهّ لقد صادفتَ منّاناً كريماً ولولا ذلك لَخَرم رَفغَيك بالرُمح‏.‏
قال
عمرو بن العاص‏:‏ أما واللّه إني عن يمينك إذ دعاك إلى البِراز فأحولت عيناك ورَبا لسَحْرُك
وبدأ منك ما أكره ذِكرَه لك‏.‏
وذكر عمرو بن العاصي عند علي بن أبي طالب فقال فيه عليّ‏:‏
عجباً لابن النابغة‏!‏ يزعم أنّي بلقائه أعافِس وأمارِس أنىّ وشَرُّ القول أكذبُه إنه يَسأل فيُلحف
ويسأل فيَبخل‏.‏
فإذا أحمرّ البأس وحَمِي الوطيس وأخذت السيوفُ مأخذها من هام الرجال‏.‏

لم يكن له هتٌم إلا نَزْعُه ثيابه وَيمنح الناس استه أغَضه الله وتَرحَه‏.‏

مقتل عمار بن ياسر
العُتبي قال‏:‏ لما التقى الناس بصفٌين نَظَر معاويةُ إلى هاشم بن عُتبة الذي يقال له‏:‏ المِرْقال لقول
النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرَّقَل لِيَمون‏.‏
وكان أعورَ والرايةُ بيده وهو يقول‏.‏

أعور يَبغي نَفْسَه محلاَّ قد عالَجِ الحياةَ حتى مَلاّ
لا بُد أن يَفُل أو يُفلا
فقال معاويةُ لعمرو بن العاص‏:‏ يا عمرو هذا المر قال واللهّ لئن زَحف بالراية زَحْفاً إنه ليومُ

أهل الشام الأطْول‏.‏
ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه يعني عماراً وفيه عَجلة في الحرب
وأرجو أن تُقدمه إلى الهَلكة‏.‏
وجعل عمار يقول‏:‏ أبا عتبة تقدّم‏.‏
فيقول‏:‏ يا أبا اليقظان أنا
أعلم بالحَرْب منك دَعني أزْحف بالراية زَحْفاً‏.‏
فلما أضجره وتقدم أرسل معاويةُ خيلاً
فاختطفوا عماراً فكان يُسمَي أهلً الشام قتلَ عمار فَتحَ الفُتوح‏.‏
أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ عن
يزيد بن هارون عن العوّام بن حَوْشب عن أسود بن مسعود عن حَنْظلة بن خُويلد قال‏:‏ إني
لجالس عند مُعاوية إذ أتاه رجلاًن يَختصمان في رأس عمار كل واحد منهما يقول‏:‏ أنا قتلتُه‏.‏

فقال لهما عبدُ اللهّ بن عمرو بن العاص‏:‏ لِيَطِبْ به أحدُكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ تقتلك الفئة الباغية‏.‏
أبو بكر بن أبي عشيبة عن ابن عُلَية عن
ابن عَون عن الحسن عن أم سَلَمة قالت‏:‏ سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ تقتل
عماراً الفئةُ الباغية‏.‏
أبو بكر قال‏:‏ حدَثنا عليُّ بن حَفص عن أبي مَعشر عن محمد بن عُمارة
قال‏:‏ ما زال جَدّي خزيمة بن ثابت كافًّا سلاحَه يوم صِفَين حتى قُتل عمّار فلما قُتل سًلّ سيفَه
وقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ تَقتل عمَّاراً الفئةُ الباغية‏.‏
فما زال يُقاتل
حتى قُتل‏.‏
أبو بكر عن غُنْدَر عن شُعبة عن عمرِو بن مُرة عن عبد اللّه بن سَلَملَمة قال‏:‏ رأيتُ
عمِّاراً يومَ صِفين شيخاً آدم طُوالا أخذاً الحربةَ بيده ويدهُ ترعد وهو يقول‏:‏ والذي نفسي بيده

لقد قاتلتُ بهذه الحَرْبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات وهذه الرابعة‏.‏
والذي
نفسي بيده لو ضرَبونا حتِى يبلغوا بنا سَعفات هَجر لعرفتُ أنّا على حق وأنهم على باطل‏.‏
ثم
جعل يقول‏:‏ صبراَ عبادَ اللّه الجنةُ تحت ظلال السيوف‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة عن وَكيع عن
سُفيان عن حَبيب عن أبي البحتريّ قال‏:‏
لما كان يوم صِفين واشتدت الحربُ دعا عمَار بشَربة لبن وشَربها وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لي‏:‏ إن آخر شرَبة تَشربها من الدنيا شربةُ لبن‏.‏
أبو ذَرْ عن محمد بن يحيى عن
محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جَدَته أم سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما بَنى
رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مسجدَه بالمدينة أمر باللَّبِن يُضرب وما يُحتاج إليه ثم قام
رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فوَضع رداءه فلما رأى ذلك الهاجرون والأنصار وضعوا
أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون‏:‏
لئن قَعدنا والنبيّ يَعملُ ذاك إذاً لعملٌ مُضلّلُ
قالت‏:‏ وكان عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً مُتنظِّفاً فكان يَحمل اللَّبنة ويُجافي بها عن ثوبه فإذا
وَضعها نفض كفّيه ونظَرَ إلى ثوبه فإذا أصابه شيء من التراب نَفَضه‏.‏
فنظر إليه علي رضي اللّه
عنه فأنشده‏:‏

وقائماً طَوْراً وطوْراً قاعدَا ومَن يُرى عن التَّراب حائدَا
فسمعها عمَّارُ بن ياسر فجعل يَرتجزها وهو لا يدري من يعني‏.‏
فَسمعه عثمانُ فقال‏:‏ يا بن
سُميَّة ما أعْرَفني بمَن تُعَرِّض ومعه جريدة فقال‏:‏ لتكفّن أو لأعترضنَ بها وجهَك‏.‏
فسمعه النبي
صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظِل حائط فقال‏:‏ عمَّار جِلْدة ما بين عَينيّ وأنفي فمن بَلغ
ذلك منه فقد بلغ مني وأشار بيده فوَضعها بين عينيه‏.‏
فكفَّ الناسُ عن ذلك وقالوا لعمّار‏:‏ إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غَضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن‏.‏
فقال‏:‏ أنا أرْضيه
كما غضب‏.‏
فأقبل عليه فقال‏:‏ يا رسول اللّه مالي ولأصحابك قال‏:‏ وما لك ولهم قال‏:‏
يريدون قَتلي يَحمِلون لبِنة ويَحملون على لَبِنتين‏.‏
فأخذ به وطاف به في المسجِد وجعل يمسح
وجهه من التراب ويقول‏:‏ يا بن سُميّة‏.‏
لا يَقتنك أصحابي ولكن تَقتلك الفئةُ الباغية‏.‏
فلما قُتل
بصفّين ورَوى هذا الحديثَ عبدُ اللّه بن عمرو بن العاص قال معاوية‏:‏ هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى
القتل‏.‏
فلما بلغ ذلك عليًّا قال‏:‏ ونحن قَتلنا أيضاً حمزة لأنا أخرجناه‏.‏

من حرب صفين
أبو الحسن قال‏:‏ كانت أيامُ صِفّين كُلها مُوافقةً ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على حامية ثم

يَكرون‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ انفضت وقعة صفّين عن سَبعين ألف قَتيل خمسين ألفاً من
أهل الشام وعشرين ألفاً من أهل العراق‏.‏
ولما انصرف الناس من صِفّين قال عمرو بن العاص‏:‏
شَبًت الحربُ فأعددتُ لها مُشْرِف الحارك مَحْبوك الثَّبَجْ
يصِل الشرّ بشّر فإذا وَثب الخيلُ من الشرّ مَعَج
جُرْشُع أعظَمُه جُفْرته فإذا ابتل من الماء خَرج
وقال عبدُ اللّه بن عمرو بن العاص‏:‏
فإن شهدتْ جُمْلٌ مَقامي ومَشْهدي بصفّين يوماً شاب منها الذوائبُ
عشيّةَ جا أهلُ العراق كأنّهم سَحابُ خريف صَفَفَتْه الجَنائبُ
إذا قلتُ قد وَلّوا سراعاً بدت لنا كتائبُ منهم وارْجَحَنت كتائب
فدارت رَحانا وِاستدارت رَحاهُم سراةَ النّهار ما تُولّى المَناكب
وقالوا لنا إنا نرى أن تُبايعوا عليًّا فقُلنا بل نَرى أن تُضاربوا
وقال السّيد الحميري وهو رأس الشيعة وكانت الشَيعة مِن تعظيمها له تلقي له وساداً بمسجِد
الكوفة‏:‏
إنّي أدينُ بما دان الوصيُّ به وشاركتْ كَفُّه كفّي بصفِّينَا

تلك الدِّماء معاً يا ربّ في عُنقِي ثم اسقني مِثلها آمين أمينا
آمين مِن مِثلهم في مِثل حالهمُ في فِتية هاجَروا في اللهّ شارِينا
ليسوا يُريدون غيرَ اللهّ ربّهمُ نِعْم المُراد توخّاه المُريدونا
وقال النّجاشي يوم صِفين وكتب بها إلى معاوية‏:‏
يِا أيها الملك المّبْدي عداوتَه انظر لنفسك أيّ الأمر تَأتَمِرُ
فإن نفَسْتَ على الأقوام مَجْدَهم فابسُط يَديك فإنّ الخيرَ مُبْتَدر
واعلم بأنّ علي الخير مِن نَفر شُمِّ العَرانين لا يَعْلوهم بَشَر
نِعْمَ الفتى أنت إلّا أنِّ بينكما كَما تَفاضل ضوءُ الشّمس والقمر
وما إخالك إلا لستَ مُنْتهياً حتى ينالَك من أظفاره ظُفر

خبر عمرو بن العاص مع معاوية
سُفيان بن عُيينةَ قالت‏:‏ أخبرني أبو موسى الأشعري قال‏:‏ أخبرني الحسنُ قال‏:‏ عَلم معاوية والله
إن لم يبايعه عمرو لن يَتم له أمر فقال له‏:‏ يا عمرو اتبعني‏.‏
قال‏:‏ لماذا للآخرة فواللّهِ ما مَعك
آخرة أم للدُنيا فواللّه لا كان حتى أكونَ شريكَك فيها‏.‏
قال‏:‏ فأنت شريكي فيها‏.‏
قال‏:‏
فاكتُب لي مصرَ وكُوَرها‏.‏
فكتب له مصرَ وكُورها وكتب في آخرً الكتاب‏:‏ وعِلى عمرٍ و
السمعُ والطاعة‏.‏
قال عمرو‏:‏ واكتب‏:‏ إن السمع والطاعة لا يَنْقصان من شرْطه شيئاً‏.‏
قال
مُعاوية‏:‏ لا ينظر الناس إلى هذا‏.‏
قال عمرو‏:‏ حتى تكتب‏.‏
قال‏:‏ فكتب واللّه ما يجد بدّاً من
كتابتها‏.‏
ودخل عتبةُ بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلّمُ عمراً في مصر وعمرو يقول له‏:‏ إنما
أبايعك بها ديني‏.‏
فقال عُتبة‏:‏ ائتمِنِ الرجل بدينه فإِنه صاحبٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم‏.‏

وكتب عمرو إلى معاوية‏:‏
مُعاويَ لا أُعطيك دِيني ولم أنلْ به منك دُنيا فانظرَنْ كيف تَصنَعُ
وما الدينُ والدُنيا سواءٌ وإنني لآخُذ ما تُعطي ورَأسي مُقَنع

وقالوا‏:‏ لما قَدِم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن عليّ بعد أن جعل له مصر
طُعمة قال له‏:‏ إن بأرضك رجلاً له شرَف واسم واللّه إنْ قام معك استهويتَ به قلوبَ
الرجال وهو عُبادة بن الصامت‏.‏
فأرسل إليه معاوية‏.‏
فلما أتاه وَسّع له بينه وبين عمرو بن
العاص فَجَلس بينهما‏.‏
فحَمد اللّهَ معاوية وأثَنى عليه وذكر فضلَ عُبادة وسابقَته وذكر فضلَ
عُثمان وما ناله وحضّه على القيام معه‏.‏
فقال عُبادة‏:‏ قد سمعتُ ماِ قلتَ أتدريانِ لمَ جلستُ
بينكما في مكانكما قالا‏:‏ نعم لفضلك وسابقتك وشرفك‏.‏
قال‏:‏ لا واللّه ما جلستُ بينكما
لذلك وما كنتُ لأجلس بينكما في مكانكما ولكن بينما نحن نسير مع رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم في غَزاة تَبوك إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان فالتفت إلينا فقال‏:‏ إذا
رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً‏.‏
وأنا أنها كما عن
اجتماعكما‏.‏
فأما ما دعوتماني إليه من القيام معكما فإن لكما عدواً هو أغلظ أعدائكما وأنا
كامنٌ من ورائكم في ذلك العدوّ إن اجتمعتم على شيء دخلتُ فيه‏.‏

أمر الحكمين
أبو الحسن قال‏:‏ لما كان يوم الهرير وهو أعظم يوم بصفّين زَحف أهلُ العراق على أهل الشام

فأزالوهم عن مراكزهم حتى انتهوا إلى سُرادق معاوية فدعا بالفَرس وهمّ بالهزيمة ثم التفت
إلى عمرو بن العاص وقال له‏:‏ ما عندك قال‏:‏ تَأمر بالمصاحف فتُرفَع في أطراف الرّماح ويقال‏:‏
هذا كتابُ اللّه يحكم بيننا وبينكم‏.‏
فلما نظر أهلُ العراق إلى المصاحف ارتدوا واختلفوا وقال
بعضُهم‏:‏ نحاكمهم إلى كتاب اللهّ‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ لا نحاكمهم لأنا على يقين من أمرِنا ولسنا على
شك‏.‏
ثم أجمع رأيهُم على التحكيم‏.‏
فهمّ عليّ أن يُقدم أبا الأسود الدّؤلي فأبى الناس عليه‏.‏

فقال له ابن عباس‏:‏ اجعلني أحدَ الْحَكمين فواللّه لأفتلنّ لك حبلاً لا ينقطع وسطُه ولا يُنشر
طرفاه‏.‏
فقال له عليّ‏:‏ لستَ من كيدك ولاحت كيد معاوية في شيء لا أعطيه إلا السيف حتى
يَغلبه الحق‏.‏
قال‏:‏ وهو واللّه لا يُعطيك إلا السيف حتى يَغلبك الباطل‏.‏
قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏
لأنك تُطاع اليوم وتُعصى غداً وإنه يُطاع ولا يُعصى‏.‏
فلما انتشر عن عليّ أصحابُه قال‏:‏ للّه بلاءُ
ابن عباس إنه لينظر إلى الغَيب بستر رَقيق‏.‏
قال‏:‏ ثم اجتمع أصحابُ البرانس وهِم وجُوه
أصحاب عليّ على أن يقدّموا أبا موسى الأشعري وكان مُبرنساً وقالوا‏:‏ لا نرضى بغيره
فقدَّمه عليِّ‏.‏
وقدَم معاويةُ عمرو بن العاص‏.‏
فقال مُعاوية لعمرو‏:‏ إنكَ قد رُميتَ برَجل طويل
الِّلسان قصير الرأي فلا تَرْمه بعَقلك كلِّه‏.‏
فأخليَ لهما مكان يجتمعان فيه فأمهله عمرو بن
العاص ثلاثةَ أيام ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهيِّه بها حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه

عمرو فقال له‏:‏ يا أبا موسىَ إنك شيخ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذو فضْلها وذو
سابقتها وقد تَرى ما وَقعتْ فيه هذه الُأمة من الفُتنة العَمياء التي لا بقاءَ معها فهل لك أن
تكونَ ميمون هذه الأمة فَيَحْقِن الله بك دِماءَها فإنه يقول في نفس واحدة‏:‏ ‏"‏ ومَن أحْياها فكأنما
أحْيا الناسَ جَميعاً ‏"‏ فكيف بمن أحيا أنفُسَ هذا الخلقِ كلّه‏!‏ قال له‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ تَخلع
أنت عليّ بن أبي طالب وأخلع أنا معاويةَ بن أبي سُفيان ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يَحضُرْ في
شيء من الفتنة ولم يَغمِس يده فيها‏.‏
قال له‏:‏ ومَن يكون ذلك وكان عمرو بن العاص قد فَهِم
رأي أبي موسى في عبد اللّه بن عُمر فقال له‏:‏ عبدُ اللهّ بن عمر‏.‏
فقال‏:‏ إنه لكما ذكرت ولكن
كيف لي بالوثيقةِ منك فقال له‏:‏ يا أبا موسى ألا بذِكْرِ اللّهِ تطمئنُّ القلوب خُذ من العُهود
والمواثيق حتى ترضى‏.‏
ثم لم يُبق عمروِ بنُ العاص عَهداً ولا مَوْثقاً ولا يَميناً مُؤكَدة حتى حلف
بها حتى بَقيَ الشيخُ مَبهوتاً وقال له‏:‏ قد أحببتُ‏.‏
فنُودي في الناس بالاجتماع إليهما
فاجتمعوا‏.‏
فقال له عمرو‏:‏ قُم فاخطب الناسَ يا أبا موسى‏.‏
فقال‏:‏ قُم أنت أخطبهم‏.‏
فقال‏:‏
سبحان اللّه‏!‏ أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحابِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم والله لا فعلتُ
أبداً‏!‏ قال‏:‏ أو عسى في نفسك أمر فزاده أيمانَاً وتوكيداً‏.‏
حتى قام الشيخ فخطب الناس
فَحَمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إني قد اجتمعتُ أنا وصاحبي على أن أخلعَ أنا علي

بن أبي طالب ويعزلَ هو معاويةَ بن أبي سفيان ونجعل هذا الأمر لعبد اللّه بن عمر فإنه لم
يَحضُرْ في فتنة ولم يَغْمِس يده في دم امرىء مسلم‏.‏
ألا وإني قد خلعتً عليَّ بن أبي طالب كما
أختلع سيفي هذا ثم خلع سيفه من عاتقه وجلس وقال لعمرو‏:‏ قُم‏.‏
فقام عمرو بن العاص
فحَمد اللهّ وأثنى عليه وقال‏:‏ أيها الناس إِنه كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم وانه قد
أشهدكم أنه خَلعَ عليَّ بن أبي طالب كما يخلع سيفَه وأنا أُشهدكم أني قد أثبت معاوية بن أبي
سفيان كما أُثبت سيفي هذا وكان قد خَلع سيفَه قبل أن يقومَ إلى الخطبة فأعاده على نفسه‏.‏

فاضطرب الناسُ وخرجت الخوارج‏.‏
وقال أبو موسى لعمرو‏:‏ لعنك الله‏!‏ فإنّ مثلَك كمثل
الكلب إن تحمِلْ عليه يَلهثْ أو تتركه يَلْهث‏.‏
قال عمرو‏:‏ لَعنك اللّه‏!‏ فإنّ مثلك كمثل الحِمار يحمل
أسفاراً‏.‏
وخرٍ ج أبو موسى من فَوره ذلك إلى مكةَ مُستعيذاً بها من عليّ وحلف أن لا يكلمه
أبدا‏.‏
فأقام بمكة حيناً حتى كتب إليه معاوية‏:‏ سلامٌ عليك أما بعد فلو كانت النيّة تدفع
الخطأ لنجا المُجتهد وأعذر الطالب والحقّ لمن نَصب له فأصابه وليس لمن عَرض له فأخطأ‏.‏

وقد كان الحكمان إذ حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما وقد اختاره القومُ عليك فاكره
منهم ما كرهوا منك وأقبل إلى الشام فإني خيرٌ لك من عليّ ولا قوة إلا باللّه‏.‏
فكتب إليه أبو
موسى‏:‏ سلامٌ عليك أما بعد فإني لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من عمرو فيك غير أني

أردتُ بما صنعتُ ما عند الله وأراد به عمرو ما عندك‏.‏
وقد كان بيني وبينه شروط وشُورى
عن تراض فلما رجع عمرو رجعتُ‏.‏
أما قولك‏:‏ إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له
الخيار عليهما‏.‏
فإنما ذلك في الشاة والبعير والدّينار والدِّرهم‏.‏
فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد
فيما يَكره حُكم ولن يُذهب الحقَّ عجزُ عاجز ولا خُدعة فاجر‏.‏
وأما دعاؤك إياي إلى الشام
فليس لي رغبة عن حَرم إبراهيم‏.‏
فبلغ عليّاً كتابُ معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه‏:‏
سلام عليك أمّا بعد‏.‏
فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغًرور حقّق بك حُسنَ الظن
لزومُك بيتَ اللّه الحرام غير حاجّ ولا قاطن فاستَقِل اللهّ يُقِلك فإن اللّهَ يَغفر ولا يغفل وأحبَّ
عباده إليه التوابون‏.‏
وكتبه سماك بن حَرب‏.‏
فكتب إليه أبو موسى‏:‏ سلامٌ عليك‏.‏
فإنه واللّه لولا
أني خشيتُ أن يَرفعك مني منعُ الجواب إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك لأنه ليس لي عندك
عُذر ينفعني ولا قُوّة تمنعني‏.‏
وأما قولك ‏"‏ ولزومي بيت اللهّ الحرام غير حاجِ ولا قاطن ‏"‏ فإني
اعتزلت أهلَ الشام وانقطعت عن أهل العراق وأصبت أقواماً صغّروا من ذنبي ما عظَمتم
وعظموا من حقَي ما صغّرتم إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير‏.‏
وكان علي بن أبي طالب إذ
وجه الحَكمان قال لهما‏:‏ إنما حُكْمنا كما بكتاب الله فُتحْييان ما أحيا القرآن وتُميتان ما
أمات‏.‏
فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطربَ الناس على عليّ واختلفوا وخرجت

لِي زلّة إليكمُ فأعتذرْ سوف أكيس بعدها وأنشَمِرْ
وأجْمع الأمر الشَتيت المنتَشِرْ
أبو الحسن قال‏:‏ لما قَدِمَ أبو الأسود الدؤلي على معاوية عامَ الجماعة قال له معاوية‏:‏ بلغني يا أبا
الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يَجعلك أحد الحَكمين فما كنتَ تحكم به قال‏:‏ لو
جعلني أحدهما لجمعتُ ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ثم
ناشدتُهم اللهّ‏:‏ المُهاجرين وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء قال له معاويةُ‏:‏ لله أبوك‏!‏
أي حَكم كنتَ تكون لو حكَمت‏!‏

احتجاج علي وأهل بيته في الحكمين
أبو الحسن قال‏:‏ لما انقضى أمرُ الحَكمين واختلف أصحابُ عليّ قال بعض الناس‏:‏ ما مَنع أميرَ
المؤمنين أن يأمر بعضَ أهل بيته فيتكلّم فإنه لم يبق أحدٌ من رؤساء العرب إلا وقد تكلّم‏.‏
قال‏:‏
فبينما علي يوماً على المِنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال‏:‏ قُم يا حسن فقل في هذين الرجلين‏:‏
عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص‏.‏
فقام الحسن فقال‏:‏ أيها الناس إنكم قد أكثرتم في هذين
الرجلين وإنما بُعِثا ليحكما بالكتاب على الهوى فَحكما بالهَوى على الكتاب‏.‏
ومَن كان هكذا
لم يُسَم حَكَماً ولكنه مَحكوم عليه‏.‏
وقد أخطأ عبدُ الله بن قيس إذ جعلها لعبدِ الله بن عُمر
فأخطأ في ثلاث خصال‏:‏ واحدة أنه خالف أباه إذ لم يَرضه لها ولا جعله من أهل
الشُورى وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه وثالثة أنه لم يَجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين
يعقدون الِإمارة ويحكمون بها على الناس‏.‏
وأما الحكومة فقد حَكم النبيّ عليه الصلاةُ والسلام
سعدَ بن مُعاذ في بني قُريظة فحَكم بما يُرضي اللهّ به ولا شكّ ولو خالف لم يَرضه رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم ثم جلس‏.‏
فقال لعبد اللهّ بن عبّاس‏:‏ قُمِ‏.‏
فقال عبدُ اللهّ بن عبّاس بعد
أن حَمِد اللهّ وأثنى عليه‏:‏ أيها الناس إنّ للحق أهلا أصابوه بالتوفيق فالناسُ بين راض به

وراغب عنه فإنه بَعث عبدَ اللهّ بن قَيس بًهدًى إلى ضلالة وبَعث عمرو بن العَاص بضَلالًة إلى
هُدًى فلما التقيا رَجع عبدُ اللّه بن قَيس عن هُداه وثَبت عمرو على ضلاله‏.‏
وايم اللّه لئن
كانا حَكما بما سارا به لقد سار عبدُ اللّه وعليّ إمامه وسار عمرو ومعاوية إمامه فما بعد
هذا من عَيب يُنتظر فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏:‏ قُم‏.‏
فقام فَحمد اللهّ وأثنَى
عليه وقال‏:‏ أيها الناس إنّ هذا الأمر كان النظر فيه إلى عليّ والرّضا إلى غيره‏.‏
فَجئتم إلى عبد
اللهّ بن قَيسِ مُبرنساً فقلتم‏:‏ لا نَرضى إلا به‏.‏
وايم اللهّ ما استفدنا به عِلماً ولا انتظر نامنه
غائباَ وما نَعرفه صاحباً‏.‏
وما أفسدا بما فعلا أهلَ العراق وما أصلحا أهل الشام ولا وَضعا
حق عليّ ولا رفعا باطل معاوية ولا يُذهب الحق رُقية راق ولا نَفَحة شيطان ونحن اليوم
على ما كُنّا عليه أمس‏.‏

احتجاج عليّ على أهل النهروان
قالواٍ‏:‏ إنّ عليَّا لما اختلف عليه أهلُ النهروان والقُرى وأصحابُ البَرانس ونَزلوا قريةً يقال لها حَرُ
وراء وذلك بعدَ وَقعَة الجمل فرجع إليهم عليُّ بن أبي طالب فقال لهم‏:‏ يا هؤلاء مَن
زعيمُكم قالوا‏:‏ ابن الكَوًاء‏.‏
قال‏:‏ فَليَبرُز إليَّ‏.‏
فَخرج إليه ابنُ الكَوَاء فقال له عليّ‏:‏ يا بن

الكَوَّاء ما أخرجَكم علينا بعد رضاكم بالحَكمين ومُقامكم بالكوفة قال‏:‏ قاتلت بنا عدواً لا
نشك في جِهاده فزعمتَ أن قتلانا في الجنة وقَتلاهم في النار فبينما نحن كذلك إذ أرسلتَ
منافقاً وحكّمت كافراً وكان مما شَكك في أمر الله أن قُلت للقوم حين دعوتَهم‏:‏ كتابُ الله بيني
وبينكم فإن قَضى فيَ بايعتُكم وإن قَضى عليكم بايعتُموني‏.‏
فلولا شكُك لم تَفعل هذا والحق في
يدك‏.‏
فقال عليّ‏:‏ يا بن الكوّاء إنما الجوابُ بعد الفراغ أفرَضتَ فأُجيبك قالت‏:‏ نعم‏.‏
قال
عليّ‏:‏ أما قتالك معي عدوّاً لا نشكّ في جِهاده فصدقْتَ ولو شككتُ فيهم لم أُقاتلهم‏.‏
وأما
قَتلانا وقَتلاهم فقد قال اللهّ في ذلك ما يُستغنى به عن قولي وأما إرسالي المُنافق وتَحْكيمي
الكافر فأنت أرسلتَ أبا موسى مُبَرْنَساً ومعاوية حَكّم عَمْراً أتيت بأبي موسى مُبرنساً
فقلت‏:‏ لا نَرضى إلا أبا موسى فهلا قام إليِّ رجل منكم فقال‏:‏ يا عليّ لا نُعطَى هذه الدنيّة
فإنها ضلالة‏.‏
وأما قولي لمعاوية‏:‏ إن تجَرَّني إليك كتابُ اللّهِ تَبعْتُك وإنْ جَرَّك إليً تبعتَنِي‏.‏

زعمتَ أني لم أعط ذلك إلّا من شكٍّ فقد علمتُ أنِّ أوثق ما في يدك هذا الأمر فحدَّثني
ويحك عن اليهوديِّ والنِّصرانيِّ ومُشركي العرب أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام
قال‏:‏ بل معاوية وأهل الشام أقرب قال عليّ‏:‏ أفر سولُ الله صلى الله عليه وسلم كان أوثقَ بما في
يديه من كتاب اللهّ أو أنا قال‏:‏ بل رسولُ اللّه‏.‏
قال‏:‏ فرأيتَ اللّهَ تبارك وتعالى حين يقول‏:‏ ‏"‏ قُلْ

فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتَبعه إن كنتم صادقين ‏"‏ أمَا كان رسولُ اللّه يَعلم أنَهً لا
يُؤتى بكتاب هو أهدى مما في يَديه قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فلِمَ أعطى رسولُ اللّه القومَ ما أعطاهم
قال‏:‏ إنصافاً وحُجة قال‏:‏ فإني أعطيت القومَ ما أعطاهم رسوِلُ اللّه‏.‏
قال ابنُ الكوَاء‏:‏ فإني
اخطأتُ هذه واحدة زدْني‏.‏
قال عليّ‏:‏ فما أعظمُ ما نقمتم عَلَيَّ قال‏:‏ تحْكيم الحَكَمين نظرنا
في أمرنا فوجدنا تحكيمَهما شكاًّ وتَبْذيراً‏.‏
قال عليّ‏:‏ فمتى سُمِّي أبو موسى حَكَماً‏:‏ حين
أُرسل أو حين حَكَم قال‏:‏ حين أُرسل‏.‏
قال‏:‏ أليس قد سار وهو مُسلم وأنتَ ترجو أن
يَحكم بما أنزل الله قال‏:‏ نعم‏.‏
قال عليّ‏:‏ فلا أرى الضلالَ في إرساله‏.‏
فقال ابنُ الكوَاء‏:‏ سمَي
حَكَماً حين حَكَمٍ‏.‏
قال‏:‏ نعم إذاً فإرسالُه كان عَدْلاً‏.‏
أرأيتَ يا بن الكوَاء لو أنّ رسولَ اللّه
بَعث مُؤمنا إلى قوم مُشركين يدعوهم إلى كتاب الله فارتدَ على عَقبه كافراً كان يَضرٌّ نبيَّ اللّه
شيئاً قال‏.‏
لا‏.‏
قال عليّ‏:‏ فما كان ذَنبي أن كان أبو موسى ضَلَّ هل رضيتُ حكومته حين
حَكم أو قولَه إذ قال قال ابن الكوَاء‏:‏ لا ولكنَك جعلتَ مُسلماً وكافراً يحَكمان في كتاب الله‏.‏

قال عي‏:‏ ويلك يا بن الكوَاء‏!‏ هل بَعث عَمْراً غيرُ معاوية وكيف أُحكَمُه وحُكْمه على ضرَب
عُنقي إنما رَضي به صاحبهُ كما رضيتَ أنت بصاحبك وقد يَجتمع المؤمن والكافر يحكمان
في أمر الله‏.‏
أرأيتَ لو أنّ رجلاً مؤمناً تزوَج يهوديًة أو نصرانية فَخافا شِقاقاً بينهما ففَزع الناسُ

إلى كتاب الله وفي كتابِه ‏"‏ فابْعثُوا حَكَماً مِن أهلهِ وحَكَماً مِن أهلِها ‏"‏ فَجاء رجلٌ من اليَهود أو
رجل من النَّصارى ورجل من المُسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله فَحَكَما قال
ابن
الكَوَّاء‏:‏ وهذه أيضاً أمهِلنا حتى ننظر‏.‏
فانصرفَ عنهم عليّ‏.‏
فقال له صَعصَعة بن صُوحان‏:‏
يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام القوة‏.‏
قال‏:‏ نعم ما لم تَبْسط يداً‏.‏
قال‏:‏ فنادى صَعصعةُ ابنَ
الكَوَّاء فَخَرج إليه فقال‏:‏ أنْشُدكم باللّه يا معشرَ الخارجين ألّا تكونوا عاراً على مَن يَغزو لغيره
وألاّ تَخْرجوا بأرض تُسمّوا بها بعد اليوم ولا تَستعجلوا ضلالَ العام خشيةَ ضلال عامٍ قابل‏.‏

فقال له ابنُ الكَوَّاء‏:‏ إنَ صاحبك لقينا بأمرٍ قولُك فيه صغير فامسك‏.‏
قالوا‏:‏ إنّ عليّاً خرج بعد
ذلك إليهم فَخَرج إليه ابنُ الكوَّاء فقال له عليّ‏:‏ يا بن الكوَاء إنه مَن أذنب في هذا الدِّين ذَنباً
يكوِن في الإسلام حَدَثاً استتبناه من ذلك الذنب بعَينه وإن توَبتك أن تَعرف هُدى ما خرجتَ
منه وضلالَ ما دخلتَ فيه‏.‏
قال ابن الكوَّاء‏:‏ إننا لا ننكر أنا قد فًتِنّا‏.‏
فقال له عبدُ اللّه بن عمرو
بن جُرموز‏:‏ أدرَكْنا والله هذه الآية ‏"‏ ألم‏.‏
أحَسِبَ الناسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقولوا آمَنَّا وهُم لا يُفتَنون ‏"‏
وكان عبدُ الله من قُرّاء أهل حَرُوراء فرجعوا فصلّوا خلفَ عليّ الظهرِ وانصرفوا معه إلى
الكوفة ثم اختلفوا بعد ذلك في رَجعتهمِ ولامَ بعضهم بعضاَ‏.‏
فقال زيدُ بن عبد الله الرَّاسبي

شَكَكتم ومن أرسى ثبيراً مكانَه ولو لم تَشُكُّوا ما أنثنيتم عن الحَرْب
وتَحْكيمكم عَمراً على غير تَوْبةٍ وكان لعبد اللّه خَطْباً من الخطْبَ
فأنكَصَه للعَقْبِ لما خلا به فأصبح يَهوْى من ذُرى حالقٍ صَعْب
وقال الرَياحي‏:‏
ألم تَر أنّ اللّه أنزل حُكمَه وعَمْرٌ و وعبدُ اللّه مُخْتلفانِ
وقال مُسلم بن يزيد الثقفي وكان من عُبَّاد حَرُوراء‏:‏
إن كان ما عِبْناه عَيْباً فحسبُنا خَطايا بأخْذ النّصح من غير ناصِح
َإن كان عَيْباً فاعظمنَّ بتَركنا عليّاً على أمرٍ من الحقِّ واضح
نحنُ أُناسٌ بين بين وعَلَّنا سُررنا بأمرٍ غبه غيرُ صالح
ثم خرجوا عَلَى علي فقتلهم بالنهروان‏.‏

خروج عبد اللّه بن عباس على عليّ
قال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ كان عبدُ الله بن عباس مِن أحبّ الناس إِلى عمر بن الخطاب وكان
يُقدّمه على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يَستعمله قط فقال له يوماً‏:‏

كِدت استعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل‏.‏
فلما صار الأمرُ إلى عليّ استعمله
على البصرة‏.‏
فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى ‏"‏ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله
خمسه وللرسول ولذي القربى ‏"‏ واستحلّه من قَرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَوى
أبو مِخْنف عن سُليمان بن أبي راشد عن عبد الرحمن بن عُبيد قال‏:‏ مَرَّ ابن عباس على أبي
الأسود الدُؤلي فقال له‏:‏ لو كنتَ من البهائم لكنتَ جَملاً ولو كنتَ راعياً ما بلغت المَرعى‏.‏

فكَتب أبو الأسود إلى علي‏:‏ أما بعد‏.‏
فإِن الله جَعلك والياً مُؤتمناً وراعياً مسؤولاً وقد بَلوناك
رحمك الله فوجدناك عظيمَ الأمانة ناصحاً للأمة تُوَفّر لهم فَيئَهم وتَكفّ نفسك عن دُنياهم
فلا تأكلُ أموالهم ولا تَرتشي بشيء في أحكامهم‏.‏
وابنُ عمّك قد أكل ما تحت يديه من غير
عِلْمك فلم يَسَعْني كتمانُك ذلك‏.‏
فانظر رحمك اللّه فيما هنالك وأكتب إليَّ برأيك فما
أحببتَ أتبعه إن شاء اللّه‏.‏
والسلام‏.‏
فكتب إليه عليّ‏:‏ أما بعد‏.‏
فمثلُك نَصح الإمام والأمة
ووالَى على الحق وفارق الْجَوْر‏.‏
وقد كتبتُ لصاحبك بما كتبتَ إلي فيه ولم أُعلمْه بكتابك
إلي‏.‏
فلا تدع إعلامي ما يكون بِحضرتك مما النظرُ فيه للأمة صلاح فإنّك بذلك جَدير وهو
حق واجب للّه عليك‏.‏
والسلام‏.‏
وكتب عليّ إلى ابن عبِّاس‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنه قد بلغني عنك أمرٌ
إن كنتَ فعلتَه فقد أسخطتَ الله وأخرَبتَ أمانتك وعَصيتَ إمامك وخنتَ المسلمين‏.‏
بلغني

أنك خَرّبت الأرض وأكلت ما تحت يدك‏.‏
فارفعْ إلي حسابك واعلم أنّ حسابَ الله أعظم من
حساب الناس‏.‏
والسلام‏.‏
وكتب إليه ابنُ عباس‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنّ كلَّ الذي بلغك باطلٌ وأنا لِمَا
تحت يدي ضابط وعليه حافظ فلا تُصَدَق عليً الظنين‏.‏
فكتب إليه عليّ‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنه لا
يَسعني تَرْكُك حتى تُعلمني ما أخذتَ من الجزْية من أين أخذتَه وما وضَعتَ منها أين وضعته‏.‏

فاتَّقِ الله فيما ائتمنتُك عليه واسترعيتُك إياه ٍ فإن المَتاع بما أنت رازمُه قليل وتَبِعاتُه وبيلة لا
تَبيد‏.‏
والسلام‏.‏
فلما رأى أن عليا غيرُ مُقلع عنه كتب إليه‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنه بَلغني تعظيمُك عليََّ
مَرْزِئة مالٍ بلغك أني رزأتُه أهلَ هذه البلاد‏.‏
وايم الله لأنْ ألقى الله بما في بَطن هذه الأرض من
عِقيانها ومخبئها وبما على ظهرها من طِلاعها ذَهباً أحب إليً من أن ألقي اللّه وقد سَفكتُ
دماء هذه الأمة لأنالَ بذلك المُلك والإمرة‏.‏
ابعث إلى عملك مَن أحبيْتَ فإني ظاعنٌ‏.‏
والسلام‏.‏

فلما أراد عبدُ الله المسيرَ من البَصرة دعا أخوالَه بني هلال بن عامر بن صَعصعة ليمنعوه‏.‏
فَجاء
الضحاك بنِ عبد الله الهِلاليُ فأجاره ومعه رجل منهم يقال له‏:‏ عبدُ الله بن رَزين‏.‏
وكان
شجاعاً بَئيساً فقالت بنو هلال‏:‏ لا غنى بنا عن هَوازن‏.‏
فقالت هوازن‏:‏ لا غنى بنا عن بني
سُليم‏.‏
ثم أتتهم قَيس‏.‏
فلما رأى اجتماعَهم له حَمل ما كان في بيت مال البَصرة وكان فيما
زعموا ستة آلاف ألف فَجعله في الغرائر‏.‏
قال‏:‏ فحدثني الأزرق اليَشكريُ قال‏:‏ سمعنا

أشياخَنا من أهل البَصرة قالوا‏:‏ لما وَضع المالَ في الغرائر ثم مَضى به تَبِعَتْه الأخْماس كلها
بالطَّف على أربع فراسخِ من البَصرة فوافقوه‏.‏
فقالت لهِم قَيسِ‏:‏ واللّه لا تصلوا إليه ومنا عين
تطْرف‏.‏
فقال ضمْرة وكان رأسَ الأزد‏:‏ والله إنَ قيساَ لإخوتُنا في الإسلام - وجيرانُنا في
الدار وأعواننا على العدوّ‏.‏
إن الذي تَذهبون به المال لو رُدَ عليكم لكان نصيبُكم منه الأقلّ
وهم خيرٌ لكم من المال‏.‏
قالوا‏:‏ فما ترى قال‏:‏ انصرفوا عنهم‏.‏
فقالت بكرُ بن وائل وعبدُ
القَيس‏:‏ نِعمَ الرَّأي رَأي ضَمْرة واعتزلوهم‏.‏
فقالت بنو تميم‏:‏ واللهّ لا نُفارقهم حتى نقاتلَهم عليه‏.‏

فقال الأحْنَفُ بن قَيس‏:‏ أنتم والله أحق ألاّ تقاتلوهم عليه وقد تَرك قتالَهم مَن هو أبعد منكم
رَحِماً‏.‏
قالوا‏:‏ والله لنُقاتلنّهم‏.‏
فقال‏:‏ واللهّ لا نعاونكم على قتالهم وانصرف عنهم‏.‏
فقدم عليهم
ابن المُجاعة فقاتَلهم‏.‏
فحمَل عليه الضحاكُ ابن عبد الله فَطعنه في كَتفه فصَرَعه فسقط إلى
الأرض بغير قَتل‏.‏
وحَمَل سَلمة بن ذُؤيب السَّعدي على الضّحاك فصرعه أيضاً وكثرُت بينهم
الجراح من غير قَتل‏.‏
فقال الأخْماسُ الذين - اعتزلوا‏:‏ والله ما صنعتم شيْئاً‏.‏
اعتزلتم قتالهم
وتركتموهم يَتشاجرون‏.‏
فجاءوا حتى صرَفوا وجوه بَعضهم عن بعض وقالوا لبني تميم‏:‏ والله إن
هذا اللُؤم قَبيح لنحن أسخى أنفساً منكم حين تركنا أموالَنا لبني عمكم وأنتم تقاتلونهم عليها
خلوا عنهم وأرواحهم فإن القومَ فُدحوا‏.‏
فانصرفوا عنهم ومَضى معه ناسٌ من قَيس فيهم

الضّحاك بن عبد اللّه وعبدُ اللّه بن رَزين حتى قدموا الحجازَ فنزل مكةَ فَجعل راجزٌ لعبد
اللّه بن عبّاس يسوق له في الطريق ويقول‏:‏
صَبّحتُ من كاظمةَ القَصرَ الخَرِبْ مع ابن عبّاس بن عبد المُطّلبْ
وجعل ابن عبّاس يرتجز ويقول‏:‏
آوِي إلى أهلِك يِا رَباب آوِي فقد حان لكِ الإيابُ
وجعلِ أيضاً يرتجز ويقول‏:‏
وهُنّ يمشين بناء‏.‏
هميساً إنْ يصْدُق الطَّيرُ نَنِك لَميسَا
فقيل له‏:‏ يا أبا العبّاس أمِثلك يَرْفث في هذا الموضع قال‏:‏ إنما الرفث ما يقال عند النّساء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلما نزل مكةَ اشترى من عطاء بن جُبير مولى بني كعب من جواريه ثلاثَ
مولّدات حجازّيات يقال لهن‏:‏ شاذن وحَوراء وفُتون‏.‏
بثلاثة آلاف دينار‏.‏

وقال سليمانُ بن أبي راشد عن عبد اللّه بن عبيد عن أبي الكَنُود قال‏:‏ كنت من أعوان عبد
اللّه بالبَصرة فلما كان من أمره ما كان أتيتُ عليًّا فأخبرتُه فقال‏:‏ ‏"‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتِنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏"‏‏.‏
ثم كتب معه إليه‏:‏ أما بعد فإني كنتُ
أشْركتُك في أمانتي ولم يَكن من أهل بيتي رجل أوْثقَ عندي منك بمواساتي ومؤزرتي بأداء

الأمانة فلما رأيتَ الزَّمان قد كَلب عَلَى ابن عمك والعدوّ قد حَرِدَ وأمانةَ الناس قد خَربت
وهذه الُأمة قد فُتنت قلبتَ لابن عمك ظهر المجن ففارقتَه مِع القوم المفارقين وخَذلَته أسوأ
خِذلان وخُنته مع مَن خان‏.‏
فلا ابنَ عمكِ آسيت ولا الأمانةَ إليه أدَيتَ كأنك لم تكني على
بَينة من ربك وإنما كِدت أُمة محمد عن دُنياهم وغَدرتهم عن فَيئهم‏.‏
فلما أمكنتْك الفُرصة في
خِيانةِ الأمة أسرعتَ الغَدرة وعالجتَ الوَثْبة فاخْتَطفْتَ ما قَدرت عليه من أموالهم وَانْقلبْتَ
بها إلى الحجاز كأنك إنما حُزت عن أهلك ميراثَك من أبيك وأُمك‏.‏
سبحان اللّه‏!‏ أما تُؤمن
بالمَعاد أما تخاف الحِساب‏!‏ أما تَعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً‏!‏ وتَشتري الإماءَ
وتنكحهم بأموال اليتامى والأرامل والمُجاهدين في سبيل الله التي أفاء الله عليهم‏!‏ فاتَقِ الله وأد
إلى القوم أموالَهم فإنك والله لئن لم تَفعل وأمكنني اللّه منك لُأعذرن إلى الله فيك‏.‏
فوالله لو أنَّ
الحَسن والحسين فعلا مثلَ الذي فعلتَ ما كانت لهما عندي هَوادة ولما تركتُهما حتى أخذَ الحقَّ
منهما‏.‏
والسلام‏.‏
فكتب إليه ابن عبَّاس‏:‏ أما بعد‏.‏
فقد بَلغني كتابُك تُعظم عَلي أمانة المال الذي
أصبتُ من بيت مال البَصْرة‏.‏
ولعمري إن حقّي في بيت مالك الله أكثر من الذي أخذتُ‏.‏

والسلام‏.‏
فكتب إليه عليّ‏:‏ أما بعد فإن العَجب كل العجب منك إذ ترى لنفسك في بيت مال
اللهّ أكثرَ مما لرجل من المسلمين قد أفلحتَ إن كان تمنيك الباطلَ وادعاءَك مالا يكون يُنجيك

من الإثم ويُحل لك ما حَرم الله عليك‏.‏
عَمْرك الله‏!‏ إنك لأنت البعيد قد بلغني أنك اتخذت
مكة وَطناً وضربتَ بها عَطناً تشتري المولّدات من المدينة والطائف وتختارهن على عينك
وتُعطيِ بهنّ مالَ غيرك‏.‏
وإني أقسم بالله ربه وربك ربِّ العزة ما أُحبّ أن ما أخذت من
أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً لعَقبي‏.‏
فما بال اغتباطِك به تأكلُه حراماً‏!‏ ضحِّ رُوَيداً‏.‏
فكأنك قد
بلغتَ المَدى وعُرضتْ عليك أعمالُك بالمَحل الذي يُنادَى فيه بالحَسرة ويَتمنّى المُضيع التَوبة
والظالم الرًجعة‏.‏
فكتَب إليه ابنُ عبّاس‏:‏ والله لئن لم تَدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية
يُقاتلك به‏.‏
فكف عنه عليّ‏.‏


مقتل علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنه
سُفيان بن عُيينة قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد‏.‏
فقال
أناسٌ من أصحابه‏:‏ نخشى أن يصيبَه بعضُ عدوٌه ولكن تعالوا نحرسه‏.‏
فَخرج ذات ليلة فإذا هو
بنا‏.‏
فقال‏:‏ ما شأنُكم فْكتمناه‏.‏
فعَزم علينا‏.‏
فأخبرناه‏.‏
فقال‏:‏ تحْرسُوني مِن أهل السماء أو
من أهل الأرض قلنا‏:‏ من أهل الأرض‏.‏
قال‏:‏ إنه ليس يقضى في الأرض حتى يُقضى في
السماء‏.‏
التميميَّ بإسناد له قال‏:‏ لما تواعَد ابنُ مُلْجَم وصاحباه بقَتل عليّ ومعاوية وعمرو بن
العاص دخَل ابنُ مُلجم المسجدَ في بُزوغ الفجر الأول فدخل في الصلاةِ تطوُّعاً ثم افتتح في
القراءة وجعل يُكرِّر هذه الآية ‏"‏ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ‏"‏‏.‏
فأقبل ابنُ أبي
طالب بيده مخْفَقة وهو يُوقظ الناس للصلاة ويقول‏:‏ أيها الناسِ الصلاة الصلاة‏.‏
فمرّ بابن مُلْجَم
وهو يردّد هذه الآية فظن عليّ أنه ينسى فيها ففتح عليه فقال‏:‏ واللهّ رَؤوف بالعبادِ‏.‏
ثم
انصرف علِىّ وهو يريد أن يدخل الدار فاتبعه فضَربه على قَرْنه ووقع السيف في الجدار
فأطار فِدْرة من آخره فابتدره الناس فأخذوه ووقع السيف منه فجعل يقوِلَ‏:‏ أيها الناس

احذروا السيفَ فإنه مَسموم‏.‏
قال‏:‏ فأُتي به عليّ فقال‏:‏ احبِسوه ثلاثاً وأطعموه واسقُوه فإن
أعش أر فيه رَأي وإنْ أمت فاقتُلوه ولا تمثّلوا به‏.‏
فمات من تلك الضرِبة‏.‏
فأخذه عبدُ اللّه بن
جعفر فقَطع يديه ورجليه فلم يَفزع ثم أراد قطعَ لسانه ففزع‏.‏
فقيل له‏:‏ ِ لم لَم تَفْزع لقطع يديك
ورِجْليك وفزعت لقَطْع لسانك قال‏:‏ إني أكره أن لا تَمُر بي ساعة لا أذْكر اللّه فيها‏.‏
ثم قطعوا
لسانه وضربوا عُنقه‏.‏
وتوجّه الخارجيّ الآخرً إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلاً‏.‏
وتَوخه الثالث إلى
عمرو فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يَخْرج إلى الصلاة وقدم مكانه رجلاً يقال له خارجة
فضَربه الخارجيّ بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص فقتلَه‏.‏
فأخذه الناسُ فقالوا‏:‏ قتلتَ
خارجة‏.‏
قال‏:‏ أو ليس عمراً قالوا له‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ أردتُ عمراً وأراد اللّه خارجة‏.‏
وفي
الحديث‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعلي‏:‏ ألا أُخبرك بأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة
قال‏:‏ أخبرني يا رسول الله‏.‏
قال‏:‏ فإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عاقرُ ناقة ثمود وخاضبُ
لْحِيتك بدم رأسك‏.‏


وقال كُثير عَزّة‏:‏
ألا إن الأئِمة من قُريش وُلاة العَهْد أربعةٌ سواءُ
علي والثلاثةُ من بَنِيه همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء

وسِبْط لا يَذُوق الموتَ حتى يَقُودَ الخيلَ يَقدمها الَلواء
تَغيْب لا يُرى عنهم زماناً برَضْوى عنده عَسَل وماء
قال الحسن بن عليّ صبيحة الليلة التي قتل فيها في بن أبي طالب رضي الله
عنه‏:‏ حدِّثني أبي البارحة في هذا المسجد فقال‏:‏ يا بني إني صلّيت البارحة ما رزق اللهّ ثم
نمت نومة فرأيت رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم فشكوتُ له ما أنا فيه من مخالفة أصحابي
وقلِة رَغْبتهم في الجهاد فقال لي‏:‏ ادْع اللّه أن يُريحك منهم فدعوت اللّه‏.‏
وقال الحسنُ صبيحةَ
تلك الليلة‏:‏ أيها الناس إنه قتل فيكم الليلة رجلٌ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يبعثه
فيَكْتنفه جبريلُ عن يمينه وميكائيلُ عن يساره فلا يَنثني حتى يَفْتح الله له ما ترك إلا ثلثَمائة
درهم‏.‏

خلافة الحسن بن علي
ثم بُويع للحسن بن عليّ‏.‏
وأُمّه فاطمة بنت رسوله الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان
سنة أربعين من التاريخ فكتب إليه ابنُ عباس‏:‏ إن الناس قد ولوك أمرَهم بعد عليّ فاشدُد
عن يمينك وجاهد عدوَك واستُر من الظنين ذنبه بما لا يَثْلم دينك واستعمل أهلَ البيوتات

تَسْتصلح بهم عشائرَهم‏.‏
ثم اجتمع الحسنُ بن علي ومعاوية بمَسكن من أرض السَّواد من ناحية
الأنبار واصطلحا وسلمَ الحسنُ الأمرَ إلى معاوية وذلك في شهر جمادى الأولى سنة إحدى
وأربعين ويسمى عام الجماعة‏.‏
فكانت ولاية الحسن سبعةَ أشهر وسبعة أيام ومات الحسنُ في
المدينة سنة تِسْع وأربعين وهو ابن ست وأربعين سنة‏.‏
وصلى عليه سعيدُ بن العاص وهو
والي المدينة‏.‏
وأوصى أن يُدفن مع جدّه وفي بيت عائشة فمنعه مروانُ بن الحكم فردوه إلى
البقيع‏.‏
وقال أبو هريرة لمروان‏:‏ علامَ تمنع أن يُدفن مع جده فلقد أشهدُ أني سمعتُ رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحسنُ والحُسين سيدا شباب أهل الجنة‏.‏
فقال له مروان‏:‏ لقد ضيع
الله حديثَ نبيه إذ لم يَرْوِه غيرك‏.‏
قال‏:‏ أما إنك إذ قلت ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن
أحبَّ ومن أبغضَ ومن نَفىِ ومن أقر ومن دعا له ومن دعا عليه‏.‏
ولما بلغ معاويةَ موتُ الحسن
بن علي خر ساجداً لله ثم أرسل إلى ابن عباس وكان معه في الشام فعزاه وهو مُستبشر
وقال له‏:‏ ابن كم سنة مات أبو محمد فقال له‏:‏ سنِه كان يُسمع في قُريش فالعجب من أن يجهله
مثلُك‏!‏ قال‏:‏ بلغني أنه ترك أطفالاً صغاراً‏.‏
قال‏:‏ كُل ما كان صغيراً يَكْبُر وإن طِفْلَنَا لكَهْل وإن
صغيرَنا لكَبير‏.‏
ثم قال‏:‏ مالي أراك يا معاويةُ مُستبشراً بموت الحسن ابن علي فوالله لا ينْسأ في
أجلك ولا يَسُد حُفرتك وما أقَل بقاءَك وبقاءَنا بعده‏.‏
ثم خرج ابنُ عباس فبعث إليه معاوية

ابنَه يزيد فقعد بين يديه فعزّاه واستعبر لموت الحَسن فلما ذهب أتبعه ابنُ عباس بَصره وقال‏:‏
إذا ذهب آل حَرب ذَهب الْحِلم من الناس‏.‏
ثم اجتمعِ الناسُ على معاوية سنةَ إحدى وأربعين
وهو عام الجماعة فبايعه أهلُ الأمصار كلها وكتب بينه وبين الحَسن كتاباً وشروطاً ووصله
بأربعين ألفا‏.‏
وفي رواية أبي بكر بن أبي شَيبة أنه قال له‏:‏ واللّه لأجيزنك بجائزة ما أجزتُ بها
أحداً فبلك ولا أجيز بها أحداً بعدك فأمر له بأربعمائة ألف‏.‏


خلافة معاوية
هو معاوية بن أبي سفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف‏.‏
وكُنيته أبو عبد
الرحمن وأُمه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏
ومات مُعاوية بدمشق
يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب سنة ستّين وصلى عليه الضحَاك بن قَيس وهو ابنُ ثلاث
وسبعين سنة ويقال ابن ثمانين سنة‏.‏
كانت ولايتَه تسع عشرةَ سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين
يوماً‏.‏
صاحب شرطته يزيد بن الحارث العَبْسي‏.‏
وعلى حَرَسه - وهو أود من اتخذ حرساً -
رجل من الموالي يقال له المختار‏.‏
وحاجبُه سعد مولاه‏.‏
وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني‏.‏

وولد له عبدُ الرحمن وعبد اللّه مات فاختة بنت قرظة‏.‏
أما عبدُ الرحمن فمات صغيراً وأما
عبدُ اللّه فمات كبيراً وحنان ضعيفاً ولا عقب له من الذكور‏.‏
وكان له بنت يقال لها عاتكة
تزوّجها يزيدُ بن عبد الملك وفيها يقول الشاعر‏.‏

يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَلُ حَذَر العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ
ويزيدُ بن معاوية وأُمه ابنة بَحْدل كَلْبية‏.‏

فضائل معاوية

ذكر عمرو بنُ العاص معاوية فقال‏:‏ احذروا قرْم قريش وابنَ كريمها مَن يضحك عند الغضب
ولا ينام إلا على الرِّضا ويَتناول ما فوقه من تحته‏.‏
سُئل عبد اللّه بن عبُّاس عن معاوية فقال‏:‏
سَما بشيء أسرة واستظهر عليه بشيء أعلنه فحاول ما أسرَّ بما أعلن فنالَه‏.‏
كان حِلْمه قاهراً
لغَضبه وجُوده غالباً على مَنْعه يصل ولا يَقطع ويجمع وِلا يفرِّق فاستقام له أمره وجرى إلى
مُدًته‏.‏
قيل‏:‏ فأخبرنا عن ابنه‏.‏
قال‏:‏ كان في خير سَبيله وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونَهاه
فتعلّق بذلك وسَلك طريقاً مُذللا له‏.‏
وقال معاوية‏:‏ لم يكن في الشَّباب شيء إلا كان مني فيه
مُستمتع غير أني لم أكن صُرَعةً ولا نُكَحة ولا سِبّاً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ الحب‏:‏ كثير السباب‏:‏ ميمون
بن مِهرْان قال‏:‏ كان أوّلَ من جَلس بين الخُطبتين معاويةُ وأوّلَ من وَضع شرفَ العطاء ألفين معاوية
وقال معاوية‏:‏ لا زلتُ أطمع في الخلافة منذ قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا معاوية
إذا ملكتَ فأحْسن‏.‏
العُتْبي عن أبيه قال‏:‏ قال معاوية لقُريش‏:‏ ألا أخبركم عني وعنكم قالوا‏:‏
بلى‏.‏
قال‏:‏ فأنا أطير إذا وقعتم وأقع إذا طِرْتم ولو وافق طَيراني طيرانَكم سَقَطنا جميعاً‏.‏
قال
معاوية‏:‏ لو أن بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعت أبداً‏.‏
قيل له‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ كنت إذا
مدوها أرخيتها ماذا أرْخوها مددتها‏.‏
وقال زياد‏:‏ ما غلبني أميرُ المؤمنين معاويةُ قَط إلا في أمر
واحد طلبتُ رجلاً منة عُمالي كَسر عليّ الخِراج فلجأ إليه فكتبتُ إليه‏:‏ إن هذا فساد عَمليِ

وعملك‏.‏
فكتب إلي‏:‏ إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ سياسةً واحدة لا نلين جميعاً فيمرحَ
الناسُ في المَعصية ولا نَشتد جميعاً فنَحملَ الناسَ على المَهالك ولكن تكون أنت للشدة
والفَظاظة والغِلظة وأكون أنا للرأفة والرحمة‏.‏

أخبار معاوية
قدم معاويةُ المدينةَ بعد عام الجماعة فدخل دارَ عثمان بن عفّان فصاحت عائشة بنت
عثمان وبكت ونادت أباها‏.‏
فقال معاوية‏:‏ يا ابنة أخي إنّ الناس أعْطَوْنا طاعةً وأعطيناهم
أماناً وأظهرنا لهِم حِلْماً تحته غَضب وأظهروا لنا ذُلّاً تحته حِقْد ومع كل إنسان سيفُه ويرى
موضع أصحابه فإن نكثناهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أمْ لنا‏.‏
لأن تكوني ابنةَ عمِّ أمير
المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرض الناس‏.‏

القَحْذَميّ قال‏:‏ لما قَدم معاويةُ المدينة قال‏:‏ أيها الناس إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يُرد الدنيا
ولم تُرده وأما عمر فأرادتْه ولم يُردها وأما عثمان فنال منها ونالتْ منه وأما أنا فمالتْ بي
وملتُ بها وأنا ابنُها فهي أُمي وأنا ابنُها فإن لم تَجدوني خيركم فأنا خيرٌ لكم‏.‏
ثم نزل‏.‏
قال
جُويرية بن أسماء‏.‏
نال بُسْرُ بن أرطأة مِن عليّ بن أبي طالب عند معاوية وزيدُ بن عمر بن

الخطاب جالس فعلا بُسْراً ضرباً حتى شَجّه‏.‏
فقال معاويةُ‏:‏ يا زيد عمدتَ إلى شيخ قُريش
وسيّد أهل الشام فضربتَه‏!‏ وأقبل على بُسْر وقال‏:‏ تَشتم عليا وهو جدُه وأبوه الفاروق على
رؤوس الناس‏!‏ أفكنتَ تراه يَصبر على شَتْم عليّ‏!‏ وكانت أمَ زيد أمُ كُلثوم بنت علي بن أبي
طالب‏.‏
ولما قدم معاويةُ مكةَ وكان عمر قد استعمله عليها دخل على أُمه هِنْد فقالت له‏:‏ يا
بني‏.‏
إنه قلما وَلدت حُرة مثلَك وقد استعملك هذا الرجل فاعمل بما وافقه أحببت ذلك أم
كرهتَه‏.‏
ثم دخل على أبيه أبي سفيان فقال له‏:‏ يا بني‏.‏
إن هؤلاء الرهط من المُهاجرين سَبقونا
وتأخرنا فرفعهم سبقُهم وقصر بنا تأخيرُنا فصرْنا أتباعاً وصاروا قادةً وقد قلّدوك جَسيماً
من أمرهم فلا تُخالفن رأيَهم فإنك تَجري إلى أمد لم تَبلغه ولو قد بلغتَه لتنفست فيه‏.‏
قال
معاوية‏:‏ فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ‏.‏
العتبي عن أبيه‏:‏ أن عمر بن
الخطاب قَدِمِ الشام على حِمار ومعه عبدُ الرحمن بن عوف على حِمار فتلقاهما معاويةُ في
موكب نبيل فجاوز عمرَ حتى أُخبر فرجع إليه فلما قَرُب منه نزل فأعرض عنه عمر فجعل
يمشي إلى جنبه راجلاً‏.‏
فقال له عبدُ الرحمن بن عوف‏:‏ أتعبتَ الرجل‏.‏
فأقبل عليه عمر فقال‏:‏ يا
معاوية أنت صاحبُ الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك قال‏:‏ نعم يا
أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ ولم ذلك قال‏:‏ لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ فلا بُدّ لهم مما

يُرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه وإن نهيتني عنه انتهيت‏.‏
قال‏:‏ لئن كان
الذي قلتَ حقاً فإنه رأيُ أريب ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة أحب ولا أمرك به ولا أنهاك
عنه‏.‏
فقال عبدُ الرحمن بن عوف‏:‏ لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردتَه فيه‏.‏
قال‏:‏ لحسن
مَصادرهِ وموارده جشّمناه ما جشمناه‏.‏
وقال معاوية لابن الكَوّاء‏:‏ يا بن الكواء أنشدك اللّه ما
عِلْمُك فيًّ قال‏:‏ أنشدَتَني اللّه‏!‏ ما أعلَمُكَ إلا واسع الدُّنيا ضيق الآخرة‏.‏
ولما مات الحسنُ بن
عليّ حَجّ معاوية فدخل المدينة وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله صلى عليه وسلم‏.‏

فقيل له‏:‏ إن هاهنا سعدَ بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخُذ رأيه‏.‏
فأرسل
إليه وذكر له ذلك‏.‏
فقال‏:‏ إن فعلت لأخرُجن من المسجد ثم لا أعود إليه‏.‏
فأمسك معاوية عن
لعنه حتى مات سعد‏.‏
فلما مات لَعنه عَلَى المنبر وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر
ففعلوا‏.‏
فكتبتْ أم سَلمة زوج النبيّ صلى عليه وسلم إلى معاوية‏:‏ إنكم تلعن اللّه ورسولَه على
منابركم وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه وأنا أشهد أن اللّه أحبَّه ورسولَه
فلم يلتفت إلى كلامها‏.‏
وقالت بعضُ العلماء لولده‏:‏ يا بني إن الدنيا لم تَبْن شيئاً إلا هَدمه الدِّين
وإنّ الدين لم يبْن شيئاً فهدمتْه الدنيا ألا ترى أنّ قوماً لعنوا عليّا ليخْفِضوا منه فكأنما أخذوا
بناصيته جرّاً إلى السماء‏.‏
ودخل صعصعة بن صُوحان على مُعاوية ومعه عمرو بن العاص

جالسٌ على سريره فقال‏:‏ وَسِّع له على تُرابيّة فيه‏.‏
فقال صعصعةُ‏:‏ إني واللّه لتُرابيّ منه
خُلقت وإليه أعود ومنه أبعث وإنك لمارج من مارج من نار‏.‏
العُتبي عن أبيه قال قال معاويةُ
لعمرو بن العاص‏:‏ ما أعجبُ الأشياء قال غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقّ على حقه‏.‏
قال معاوية‏:‏
أعجبُ من ذلك أن يُعطى من لا حق له ما ليس له بحق من غير غَلبة‏.‏
وقال معاويةُ‏:‏ أُعنت
على عليّ بأربعة كنت أكتم سري وكان رجلاً يُظهِره وكنتُ في أصلح جند وأطوعه وكان في
أخْبَث جُند وأعْصاه وتركتُه وأصحابَ الجمل وقلتُ‏:‏ إن ظَفروا به كانوا أهونَ علي منه وإن
ظَفِر بهم اغتر بها في دِينه وكنتُ أحب إلى قُريش منه‏.‏
فيالك مِن جامع إلي ومُفرق عنه‏!‏
العتبي قال‏:‏ أراد معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة فكره ذلك يزيد فأبى معاوية إلى أن
يفعل فكتب إليه يزيد يقول‏:‏
نجيٌّ لا يزال يعد ذنباً لتقطع وصل حبلك من حبالي
فيوشك أن يريحك من أذاتي نزولي في المهالك وارتحالي
وتجهز للخروج فلم يتخلف عنه أحد حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي
صلى الله عليه وسلم
قال العتبي‏:‏ وحدثني أبو إسحاق إبراهيم قال‏:‏ أرسل معاوية إلى ابن عباس قال‏:‏ يا أبا العباس

إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقربك وتشير عليه برأيك‏.‏
ولا يدخل الناس بينك
وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه‏.‏
وأقل من ذكر حقك فإنه إن كان لك فقد تركته
لمن هو أبعد منا حبّاً وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره مع أنه صائر إليك وكل آت
قريب ولتجدن إذا كان ذلك خيراً لكم منا‏.‏

فقال ابن العباس‏:‏ والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد وأما ما
سألتني من الكف عن ذكر حقي فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني‏.‏
ولئن صار
هذا الأمر إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلك إلا ما يحبون‏.‏

قال‏:‏ فخرج يزيد فلما صار على الخليج ثقل أبو أيوب الأنصاري فأتاه يزيد عائداً فقال‏:‏ ما
حاجتك أبا أيوب فقال‏:‏ أما دنياكم فلا حاجة لي فيها ولكن قدمني ما استطعت في بلاد
العدو فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ يدفن عند سور القسطنطينية رجلٌ
صالح أرجو أن أكون هو‏.‏
فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحمل على سريره ثم أخرج الكتائب‏.‏

فجعل قيصر يرى سريراً يحمل والناس يقتتلون‏.‏
فأرسل إلى يزيد‏:‏ ما هذا الذي أرى قال‏:‏
صاحب نبينا وقد سألنا أن تقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله‏.‏

فأرسل إليه‏:‏ العجب كل العجب‏:‏ كيف يدهى الناس أباك وهو يرسلك فتعمد إلى صاحب

نبيك فتدفنه في بلادنا فإذا وليت أخرجناه إلى الكلاب‏!‏ فقال يزيد‏:‏ إني والله ما أردت أن
أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له لئن بلغني أنه نبش
من قبره أو مثل به لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته ولا كنيسة إلا هدمتها‏.‏
فبعث إليه
قيصر‏:‏ أبوك كان أعلم بك فوحق المسيح لأحفظته بيدي سنةً‏.‏
فلقد بلغني أنه بني على قبره قبة
يسرج فيها إلى اليوم‏.‏

طلب معاوية البيعة ليزيد
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما مات زياد وذلك سنة ثلاث وخمسين أظهر معاوية عهداً مفتعلاً
فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده وإنما أراد أن يسهل بذلك بيعة يزيد‏.‏
فلم يزل
يروض الناس لبيعته سبع سنين ويشاور ويعطى الأقارب ويداني الأباعد حتى استوثق له من
أكثر الناس‏.‏
فقال لعبد الله بن الزبير‏:‏ ما ترى في بيعة يزيد قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا
أناجيك إن أخاك من صدقك فانظر قبل أن تتقدم‏.‏
وتفكر قبل أن تندم فإن النظر قبل
التقدم والتفكر قبل التندم‏.‏
فضحك معاوية وقال‏:‏ ثعلب رواغ تعلمت السجع عند الكبر في
دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك‏.‏
ثم التفت إلى الأحنف فقال‏:‏ ما ترى في بيعة

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه‏.‏
فوفد عليه من
كل مصر قومُ‏.‏
وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم فخلا به معاوية وقال
له‏:‏ ما ترى في بيعة يزيد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحدٌ هو أحب إلي
رشداً من نفسك سوى نفسي وإن يزيد أصبح غنياً في المال وسيطاً في الحسب وإن الله
سائل كل راع عن رعيته فاتق الله وانظر مَن تولى أمرَ أمة محمد‏.‏
فأخذ معاويةَ بَهْر حتى
تنفّس الصُعداء وذلك في يوم شات ثم قال‏:‏ يا محمد إنك امرؤ ناصحٌ قلت برأيك ولم يكن
عليك إلا ذاك‏.‏
ثم قال معاوية‏:‏ إنه لم يَبق إلا ابني وأبناؤهم فابني أحبّ إليّ من أبنائهم اخرُج
عني‏.‏
ثم جلس معاويةُ في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدَّم إلى أصحابه أن يقولوا
في يَزيد فكان أوَّلَ من تكلَّم الضحاكُ بن قيس فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إنه لا بُد للناس مِن والٍ
بعدك والأنفس يُغْدَى عليها ويًراح‏.‏
وإن اللّه قال‏:‏ كُلّ يومٍ هو في شَان‏.‏
ولا ندري ما يختلف به
العصرْان ويزيدُ ابن أمير المؤمنين في حُسن مَعْدِنه وقَصْد سيرته من أفضلنا حِلما وأحكمنا
عِلماً فولّه عهدك واجعله لنا عَلماً بعدك‏.‏
وإنّا قد بَلَونا الجماعةَ والُألفة فوجدناه أحقن للدماء
وآمَن للسُّبل وخيراً في العاجلة والآجلة‏.‏
ثم تكلَّم عمرو بن سَعيد فقال‏:‏ أيها الناس إن يزيدَ أملٌ
تأمُلونه وأجل تأمنونه طويل الباع رَحْب الذراع إذا صِرْتم إلى عَدله وَسِعكم وإِن طلبتم

رِفْده أغناكم جَذَع قارح سُوبق فسَبق ومُوجِد فمَجَد وقُورعِ فقَرع خلف من أمير المؤمنين
ولا خَلف منه‏.‏
فقال‏:‏ اجلس أبا أمية فلقد أوسعت وأحسنت‏.‏
ثم قام يزيد بن المُقفّع فقال‏:‏
أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد فمن أي فهذا وأشار
إلى سيفه‏.‏
فقال معاوية‏:‏ اجلس فإنك سيّد الخطباء‏.‏
ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال‏:‏ يا أميرَ
المؤمنين أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعَلانيته ومَدخله ومَخرجه فإن كنت تَعلمه لله
رضا ولهذه الأمة فلا تُشاور الناسَ فيه وإن كنت تعلم منه غيرَ ذلك فلا تُزوّده الدنيا وأنت
تذهب إلى الآخرة‏.‏
قال‏:‏ فتفرّق الناس ولم يذكروا إلا كلامَ الأحنف‏.‏
قال‏:‏ ثم بايع الناسُ ليزيد بن
معاوية فقال رجل وقد دُعي إلى البيعة‏:‏ اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية‏.‏
فقال له معاوية‏:‏
تَعوذ من شر نفسك فإنه أشدّ عليك وبايعْ‏.‏
قال‏:‏ إني أبايع وأنا كاره للبَيعة‏.‏
قال له معاوية‏:‏
بايع أيها الرجل فإن الله يقول‏:‏ ‏"‏ فعَسى أن تَكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ‏"‏‏.‏
ثم كتب إلى
مروان بن الحكم عامِله على المدينة‏:‏ أن ادْعُ أهلَ المدينة إلى بيَعة يزيد فإن أهل الشام والعِراق
قد بايعوا‏.‏
فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحَذّرهم الفِتنة ودعاهم إلى بيَعة يزيد وقال‏:‏
سُنه أبي بكر الهادية المهْديَة‏.‏
فقال له عبدُ الرحمن بن أبي بكر‏:‏ كذبْتَ‏!‏ إن أبا بكر ترك الأهل
والعشيرة وبايع لرجل من بني عَدي رضي دينَه وأمانته واختاره لُأمة محمد صلى الله عليه

وسلم‏.‏
فقال مروان‏:‏ أيها الناس إن هذا المُتكلم هو الذي أنزل اللّه فيه‏:‏ ‏"‏ والذي قالَ لوالدَيْه أُفٍّ لكما أتعِدَانني أن أُخْرَج وقد خَلَت القُرونُ من قَبلي ‏"‏‏.‏
فقال له عبدُ الرحمن‏:‏ يا بن الزرقاء أفينا
تتأوَل القرآن‏!‏ وتكلّم الحُسين بن علي وعبدُ الله بن الزبير وعبدُ الله بن عمرَ وأنكروا بيعةَ يزيد
وتفرّق الناس‏.‏
فكتب مروان إلى معاوية بذلك‏.‏
فخرج معاويةُ إلى المدينة في ألف فلما قَرُب
منها تلقَاه الناس فلما نظر إلى الحُسين قال‏:‏ مرحباً بسيّد شباب المسلمين قرّبوا دابّةً لأبي عبد
اللهّ‏.‏
وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر‏:‏ مرحبَاَ بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق‏.‏
وقال لابن
عمر‏:‏ مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق‏.‏
وقال لابن الزُبير‏:‏ مرِحباً بابن حواريّ رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم وابن عمته ودعا لهم بدواب فَحملهم عليها‏.‏
وخرج حتى أتى مكة
فقضى حَجَّه ولما أراد الشُّخوص أمر بأثقاله فقدِّمت وأمر بالمِنبر فقرب من الكعبة وأرسل إلى
الحُسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزُبير فاجتمعوا‏.‏
وقالوا لابن الزبير‏:‏ اكفنا كلامه
فقال‏:‏ علَى أن لا تُخالفوني‏.‏
قالوا‏:‏ لك ذلك ثم أتوا معاويةَ فرحّب بهم وقال لهم‏:‏ قد علمتم
نَظري لكم وتَعطُّفي عليكم وصِلتي أرحامَكم ويزيدُ أخوكم وابنُ عَمكم وإنما أردتُ أن
أُقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرِون وتَنْهون‏.‏
فسكتوا وتكلّم ابنُ الزبير فقال‏:‏ نخيرك بينِ
إحدى ثلاث أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خِيار‏:‏ فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسولُ

الله صلى الله عليه وسلم قَبضه الله ولم يَسْتخلف فدع هذا الأمرَ حتى يختارَ الناسُ لأنفسهم
وإن شئت فما صنع أبو بكر عَهد إلى رجل من قاصية قُريش وتَرك مِن ولده ومن رهطه
الأدْنين مَن كان لها أهلاً وإن شئت فما صَنع عمر صيرها إلى ستة نفر من قُريش يختارون
رجلاً منهم وترك ولده وأهلَ بيته وفيهم من لو وَليها لكان لها أهلَاَ‏.‏
قال معاوية‏:‏ هل غيرُ هذا
قال‏:‏ لا‏.‏
ثم قال للآخرين‏:‏ ما عندكم قالوا‏:‏ نحن على ما قال ابنُ الزبير‏.‏
فقال معاوية‏:‏ إني
أتقدّم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائل مقالة فأُقسم باللهّ لئن رَدّ عليً رجلٌ منكم كلمة
في مَقامي هذا لا تَرْجع إليه كَلِمته حتى يُضرب رأسُه فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه ولا
يُبقى إلا عليها‏.‏
وأمر أن يقوم على رأس كُلِّ رجل منهم رجلاًن بسَيفيْهما فإن تكّلَم بكلمة يَرُدّ
بها عليه قولَه قتلاه‏.‏
وخرج وأخرجهم معه حتى رَقي المِنبر وحَفّ به أهل الشام واجتمع
الناسُ فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه‏:‏ إنا وجدنا أحاديث الناس ذاتَ عَوار قالوا‏:‏ إن حًسيناً
وابن أبي بكر وابن عمرِ وابن الزّبير لم يُبايعوا ليزيد وهؤلاء الرهط سادةُ المسلمين وخيارُهم لا
نبرم أمراً دونهم ولا نقضي أمراً إلا عن مشورتهم وإني دعوتُهم فوجدتهم سامعين مُطيعين
فبايعوا وسَلّموا وأطاعوا‏.‏
فقال أهلُ الشام‏:‏ وما يَعْظُم من أمر هؤلاء ائذن لنا فنضربَ أعناقهم
لا نرضى حتى يُبايعوا علانيةً‏!‏ فقال معاوية‏:‏ سبحان اللهّ‏!‏ ما أسرعَ الناسَ إلى قُريش بالشرّ

وأحلى دماءَهم عندهم‏!‏ أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد‏.‏
ودعا الناسَ إلى البيعة
فبايعوا‏.‏
ثم قربت رواحله فركب ومضى‏.‏
فقال الناس للحُسين وأصحابه‏:‏ قلتم‏:‏ لا نُبايع فلما
دُعيتم وأُرضيتم بايعتم‏!‏ قالوا لم نَفعل‏.‏
قالوا‏:‏ بلى قد فعلتم وبايعتم أفلا أنكرتم‏!‏ قالوا‏:‏ خِفنا
القتل وكادكم بنا وكادنا بكم‏.‏

وفاة معاوية
عن الهيثم بن عديّ قال‏:‏ لما حَضرت معاويةَ الوفاةُ ويزيدُ غائب دعا الضحاكَ بن قيس
الفِهريَّ ومُسلم بن عُقبة المُرّيِّ فقال‏:‏ أبلغا عنّي يزيد وقُولا له‏:‏ انظُر إلى أهل الحِجاز فهم أصلُك
وعِتْرتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومَن قَعد عنك فتعاهدْه‏.‏
وانظر أهلَ العراق فإن سألوك عَزْل
عامل في كل يوم فاعْزِله فإنّ عَزْلَ عامل واحد أهونُ من سَلِّ مائة ألف سيف ولا تَدري على
من تكون الدائرة ثم انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار فإن رابك من عدوّك
رَيْب فارمه بهم ثم اردُد أهلَ الشام إلى بَلدهم ولا يُقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم‏.‏
لستُ
أخاف عليك إلا ثلاثة‏:‏ الحُسينَ بن عليّ وعبدَ الله بن الزّبير وعبدَ اللّه بن عمر‏.‏
فأما الحُسين بن
عليّ فأرجو أن يَكفيكه اللّه فإنه قَتل أباه وخَذل أخاه وأما ابنُ الزُبير فإنه خَبّ ضَبّ وإن

ظَفرت به فقَطِّعه إرْباً إرْباً وأما ابنُ عمر فإنه رجل قد وَقذه الورع فخل بينه وبين آخرته
يُخل بينك وبين دُنياك‏.‏
ثم أخرج إلى يزيدَ بريداً بكتاب يَستقدمه ويستحثّه‏.‏
فخرج مُسرعاً‏.‏

فتلقاه يزيد فأخبره بموت مُعاوية فقال يزيد‏:‏
جاء البريدُ بقرطاس يَخُبّ به فأوجَس القلبُ من قرطاسه فَزَعَا
قُلنا لك الويلُ ماذا في صَحيفتكم قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجِعا
فمادت الأرضُ أو كادت تَميد بنا كأنّ أغبرَ من أركانها انقلعا
ثم انبعَثنا إلى خوصٍ مُزممة نرمي العَجاج بها ما نأتلي سرعا
فما نُبالي إذا بَلغْن أرْحُلَنا ما مات منهن بالمَوْماة أو ظَلعا
أوْدَى ابنُ هِنْد وأودَى المجدُ يَتْبعه كذاك كُنا جميعاً قاطنين معا
أغرّ أبلجُ يستسقى الغمام به لو قارع الناسَ عن أحلامهم قَرعا
ا يَرقع الناس ما أوهى ولو جَهدوا أن يَرْقعوه ولا يُوهون ما رَقَعا
قال محمدُ بن عبد الحكم‏:‏ قال الشافعيْ‏:‏ سَرق هذين البيتين من الأعشى‏.‏
ابن دأب قال‏:‏ لما
هَلك معاويةُ خَرج الضحاكُ بن قيس الفِهْريّ وعلى عاتقه ثيابَ حتى وقف إلى جانب المِنبر ثم
قال‏:‏ أيها الناس إن معاوية كان إلْف العرب ومَلِكَها أطفأ اللهّ به الفِتْنة وأحيا به السُّنة وهذه

أكفانه ونحن مدْرجوه فيها ومخُلون بينه وبين ربه فمن أراد حُضوره صلاة الظُهر فَلْيَحْضُره‏.‏

وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفِهْرِيّ‏.‏
ثم قدم يزيدُ من يومه ذلك فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته
حتى دخل عليه عبدُ الله بن هَمّام السَّلولي فقال‏:‏
اصْبر يزيدُ فقد فارقتَ ذا مقَةٍ واشكُر حِباء الذي بالمُلك حَاباكا
لا رُزْءَ أعظمُ في الأقوام قد عَلموا مما رُزئت ولا عُقْبى كعُقباكا
أصبحتَ راعيَ أهل الأرض كُلًهمُ فأنتَ ترعاهمُ واللّه يرَعاكا
وفي مُعاويةَ الباقي لنا خلفٌ إذا بَقيتَ فلا نَسْمع بمنَعاكا
فافتتح الخُطباء الكلام‏.‏
ثم دخل يزيد فأقام ثلاثةَ أيام لا يخرج للناس ثم خرج وعليه أثرُ الحزن
فَصعِد المِنبر وأقبل الضحَّاك فجلس إلى جانب المنبر وخاف عليه الحَصرَ‏.‏
فقال له يزيد‏:‏ يا
ضحاك أجئتَ تعلم بني عبد شمس الكلام‏!‏ ثم قام خطيباً فقال‏:‏ الحمدُ للّه الذي ما شاء
صَنع مَن شاء أعطى ومَن شاء مَنع ومَن شاء خَفض ومن شاء رَفع‏.‏
إنّ مُعاوية بن أبي
سُفيان كان حَبلاً من حبال اللّه مدّه اللّه ما شاء أن يَمُدّه ثم قَطعه حين شاء أن يقطعه فكان
دون مَن قَبله وخيراً ممن يأتي بعده ولا أزكيه وقد صار إلى ربّه فإن يَعفُ عنه فبِرَحْمته وإن
يُعذبه فبِذَنبه‏.‏
وقد وَليتُ بعده الأمرَ ولستُ أعتذر من جهل ولا أنِي عن طلب وعلى

خلافة يزيد بن معاوية ونسبه وصفته
هو يزيد بن مُعاوية بن أبي سُفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف‏.‏
وأُمه
مَيْسون بنت بَحْدل بن أُنيف بنِ دلجة بنِ قُنافة أحد بني حارثة بن جَناب‏.‏
وكنيته أبو خالد
وكان آدمَ جعداً مَهْضوماً أحورَ العين بوجهه آثار جُدريّ حسنَ الِّلحية خَفِيفَها وَلي الخلافة في
رجب سنة ستين ومات في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين ودُفن بحُوَارين
خارجاً من المدينة‏.‏
وكانت ولايته أربع سنين وأياماً‏.‏
وكان على شرُطته حُميد بن حُرَيث بن
بَحْدل‏.‏
وكاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور‏.‏
وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني‏.‏
وعلى
الخراج مَسلمة بن حديدة الأزْدي‏.‏

أولاد يزيد‏:‏ معاوية وخالد وأبو سُفيان وأمهم فاختةُ بنت بي هاشم بن عُتبة بن ربيعة وعبدُ
الله وعمرو أمهما أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عبّاس‏.‏
وكان عبدُ اللّه ولدُه ناسكاً وولدُه خالد
عالماً لم يكن في بني أمية أزهدَ من هذا ولا أعلم من هذا‏.‏
الأصمعي عن أبي عمرو قال‏:‏ أعرق
الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان أبوها خليفة وجدّها معاوية
خليفة وأخوها مُعاوية بن يزيد خليفة وزوجها عبدُ الملك بن مروان خليفة وأرِباؤها‏:‏ الوليدُ

مقتل الحسين بن علي
علِيّ بن عبد العزيز قال‏:‏ قرأ عليّ أبو عُبيد القاسم بن سلّام وأنا أسمع فسألتُه‏:‏ نروي عنك كما
قُرىء عليك قال‏:‏ نعم‏.‏
قال أبو عُبيد‏:‏ لما مات مُعاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاتُه إلى
المدينة وعليها يومئذ الوليدُ بن عُتبة فأرسل إلى الحُسين بن عليّ وعبدِ اللّه بن الزُّبير فدعاهما
إلى البيعة ليزيد فقالا‏:‏ بالغد إن شاء الله على رؤوس الناس وخرجا من عنده‏.‏
فدعا الحسينُ
برواحله فركبها وتوجّه نحو مكة على المَنهج الأكبر وركب ابنُ الزبير بِرْذونا له وأخذ طريق
العَرْج حتى قدم مكة‏.‏
ومرّ حسينُ حتى أتى على عبد اللّه بن مُطيع وهو على بئر له فنزل
عليه فقال للحسين‏:‏ يا أبا عبد اللّه لا سَقانا اللهّ بعدَك ماءً طيباً أين تريد قال‏:‏ العراق‏.‏
قال‏:‏
سبحان اللّه‏!‏ لمَ قال‏:‏ مات معاويةُ وجاءني أكثرُ من حِمْل صُحف‏.‏
قال‏:‏ لا تفعل أبا عبد اللهّ
فواللّه ما حَفظوا أباك وكان خيراً منك فكيف يِحفظونك ووالله لئن قُتلت لا بَقيتْ حُرْمة بعدك
إلا استُحّلت‏.‏
فخرج حسين حتى قَدِم مكة فأقام بها هو وابنُ الزبير‏.‏
قال‏:‏ فقدم عمرو بنُ
سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم وعُزل الوليد بن عُتبة‏.‏
فلما استوى على المنبر
رَعَف‏.‏
فقال أعرابيّ‏:‏ مه‏!‏ جاءنا واللهّ بالدم‏!‏ قال‏:‏ فتلقّاه رجل بعمامته‏.‏
فقال‏:‏ مه‏!‏ عًمّ الناسَ

والله‏!‏ ثم قام فخطب فناولوه عصاً لها شُعبتان‏.‏
فقال‏:‏ تشعَّب الناسُ واللّه‏!‏ ثم خرج إلى مكة
فقَدِمها قبل يوم التَّروية بيوم ووفدت الناسُ للحُسين يقولون‏:‏ يا أبا عبد اللّه لو تقدَّمت فصلّيت
بالناس فأنزلتَهم بدارك إذ جاء المؤذّن فأقام الصلاة فتقدّم عمرو بن سعيد فكَبّر فقيل
للحُسين‏:‏ اخرج أبا عبد اللّه إذ أبيت أن تتقدّم‏.‏
فقال‏:‏ الصلاة في الجماعة أفضل‏.‏
قال‏:‏ فصلّى
ثم خرج‏.‏
فلما انصرف عمرو بنُ سعيد بلغه أن حُسيناً قد خرج‏.‏
فقال‏:‏ اطلبوه اركبوا كل بعير
بين السماء والأرض فاطلُبوه‏.‏
قال‏:‏ فعجب الناسُ من قوله هذا فطلبوه فلم يُدركوه‏.‏
وأرسل
عبدُ اللّه بن جعفر ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا حُسينا‏.‏
فأبى حُسين أن يرجع‏.‏
وخرج ابنا عبد اللّه
بن جعفر معه‏.‏
ورجع عمرو بنُ سعيد إلى المدينة وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيَه فأبى أن يأتيَه‏.‏


وامتنع ابنُ الزبير برجال من قُريشٍ وغيرهم من أهل مكة‏.‏
قال‏:‏ فأرسلَ عمرو بنُ سعيد لهم
جيشاً من المدينة وأمًر عليهم عمرو بنَ الزبير أخا عبد الله بن الزبير وضَرب على أهل الديوان
البَعْث إلى مكة وهم كارهون للخروج فقال‏:‏ إما أنْ تأتوني بأدلاَء وإما أن تَخرجوا‏.‏
قال‏:‏
فبعثهم إلى مكة فقاتلوا ابن الزبير فانهزم عمرو بنُ الزبير وأسره أخوه عبدُ اللّه فحبَسه في
السجن‏.‏
وقد كان بَعَث الحُسين بن عليّ مسلمَ بن عَقيل بن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليأخذ
بَيعتهم وكان على الكوفة حين مات معاوية فقال‏:‏ يا أهل الكوفة ابن بنت رسول اللّه صلى

الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحَدل‏.‏
قال‏:‏ فبلِغ ذلك يزيدَ فقال‏:‏ يا أهل الشام أشيروا
عليّ مَن استعمل على الكوفة فقالوا‏:‏ ترضى من رَضي به معاويةُ قال‏:‏ نعم‏.‏
قيل له‏:‏ فإنّ
الصكّ بإمارة عُبيد اللّه بن زياد على العراقين قد كُتب في الديوان فاستَعْمِلْه على الكوفة‏.‏

فقَدِمها قبل أن يَقْدم حُسين‏.‏
وبايع مُسلمَ بن عَقيل أكثرُ من ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة وخرجوا
معه يريدون عُبيدَ اللّه بن زياد فجعلوا كلما انتهوا إلى زُقاق انسلّ منهم ناس حتى بقي في
شرذمة قليلة‏.‏
قال‏:‏ فجعل الناسُ يَرْمونه بالآجُر من فوق البيوت‏.‏
فلما رأى ذلك دَخل دار
هانىء بن عُروة المُراديِّ وكان له شَرَف ورأي فقال له هانيء‏:‏ إنَ لي من ابن زياد مكاناً وإني
سوف أتمارض فإذا جاء يَعودني فاضْرِب عنقه‏.‏
قال‏:‏ فبلغ ابنَ زياد أن هانيء بن عُروة مريضٌ
يقيء الدم وكان شرَب المَغْرة فجعل يَقيؤها فجاءه ابنُ زياد يعوده‏.‏
وقال هانيء‏:‏ لا قلت لكم‏:‏
اسقوني فاخرُج إليه فاضرب عنقه يقولها لمُسلم ابن عقيل‏.‏
فلما دخل ابنُ زياد وجلس قال
هانيء‏:‏ اسقوني فَتثبّطوا عليه‏.‏
فقال‏:‏ ويحكم‏!‏ اسقوني ولو كان فيه نفسي‏.‏
قال‏:‏ فخرج ابنُ
زياد ولم يَصنع الآخر شيئاً‏.‏
قال‏:‏ وكان أشجعَ الناس ولكن أُخذ بقَلْبه‏.‏
وقيل لابن زياد ما
أراده هانيء فأرسل إليه‏.‏
فقال‏:‏ إني شاكٍ لا أستطيع‏.‏
فقال‏:‏ أئتوني به وإن كان شاكياً‏.‏

فأُسرجت له دابة فركب ومعه عصا وكان أعرج فجعل يسير قليلاً قليلاً ثم يقف ويقول‏:‏ ما

أذهبُ إلى ابن زياد حتى دخل على ابن زياد فقال له‏:‏ يا هانيء أما كانت يدُ زياد عندك
بيضاء قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ ويدي قال‏:‏ بلى‏.‏
ثم قال له هانيء‏:‏ قد كانت لك عندي ولأبيك
وقد أمنْتُك في نفسي ومالي‏.‏
قال‏:‏ اخرج فخرج‏.‏
فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى
كَسرها ثم قَدّمه فضرب عُنقه‏.‏
وأُرسل إلى مُسلم بن عَقيل فخرج إليهم بسيفه فما زال
يقاتلهم حتى أثْخنوه بالجراح فأسروه‏.‏
وأُتي به ابنَ زياد فقدّمه ليضرب عنقَه فقالت له‏:‏ دَعْني
حتى أُوصي فقال له‏:‏ أَوْص‏.‏
فنظر في وجوه الناس فقالت لعمر بن سعد‏:‏ ما أرى قرشيّاً هنا
غيرَك فادْن مني حتى أُكَلِّمَك‏.‏
فدنا منه فقال له‏:‏ هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت
قريش إنّ حُسيناً ومَن معه وهم تِسْعون إنساناً ما بين رجل وامرأة في الطريق فاردُدهم
واكتب لهم ما أصابني ثم ضُرب عنقه‏.‏
فقال عمر لابن زياد‏:‏ أتدري ما قال لي قال‏:‏ اكتُم
على ابن عمك‏.‏
قال‏:‏ هوِ أعظم من ذلك‏.‏
قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ قال لي‏:‏ إنّ حُسينا أقبل وهم
تسعون إنساناَ ما بين رجل وامرأة فاردُدهم واكتُب إليه بما أصابني‏.‏
فقال له ابنُ زياد‏:‏ أما واللّه
إذ دَللتَ عليه لا يُقاتله أحد غيرك‏.‏
قال‏:‏ فبعث معه جَيْشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم
بشَرَاف فهمّ بأن يرجعِ ومعه خمسةٌ من بني عَقيل فقالوا‏:‏ تَرجع وقد قُتل أخونا وقد جاءك من
الكُتب ما نثق به‏!‏ فقال الحسينُ لبعض أَصحابه‏:‏ واللّه مالي على هؤلاء من صَبر‏.‏
قال‏:‏ فلقيه

الجيشُ على خُيولهم وقد نزلوا بكَرْبلاء‏.‏
فقال حسين‏:‏ أي أرض هذه قالوا‏:‏ كَرْبلاء قال‏:‏ أرض
كَرْب وبلاء‏.‏
وأحاطت بهم الخَيل‏.‏
فقال الحُسين لعمر بن سعد‏:‏ يا عمر اختر منّي إحدى ثلاث
خِصال‏:‏ إما أن تتركني أرجع كما جئتُ وإما أن تُسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده وإمّا أن
تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت‏.‏
فأرسل إلى ابن زياد بذلك فهمّ أن يُسيره إلى يزيد‏.‏
فقال
له شَمِر بن ذي الجَوْشن‏:‏ أمكنك اللّه من عدوّك فتسيّره‏!‏ إلّا أن ينزل في حُكمك‏.‏
فأرسل إليه
بذلك‏.‏
فقال الحسين‏:‏ أنا أنزل على حُكم ابن مَرْجانة‏!‏ والله لا أفعل ذلك أبداً‏.‏
قال‏:‏ وأبطأ عمر
عن قِتاله‏.‏
فأرسل ابنُ زياد إلى شَمِر بن ذي الجَوشن وقال له‏:‏ إن تقدّم عمر وقاتَل وإلا فاتركه
وكُن مكانه‏.‏
قال‏:‏ وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة فقالوا‏:‏ يَعرض عليكم
ابنُ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ خصال فلا تَقْبلون منها شيئاً‏!‏ فتحَولوا مع
الحُسين فقاتلوا‏.‏
ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن عليّ وكان من أجمل الناس
فقال‏:‏ لأقتلن هذا الفتى‏.‏
فقال له رجل‏:‏ ويحك‏!‏ ما تصنع به دعه‏.‏
فأبى وحمل عليه فضرَبه
بالسيف فقتله فلما أصابته الضربة قال‏:‏ يا عمّاه قال‏:‏ لبّيك صوتاً قَل ناصرُه وكَثر واتره‏.‏

وحمل الحُسين على قاتله فقطع يَده ثم ضَربه ضربةً أخري فقَتله ثم اقتتلوا‏.‏
عليّ بن عبد العزيز
قال‏:‏ حدّثني الزبير قال حدّثني محمد بن الحسن قال‏:‏ لما نَزل عمر بنُ سعد بالحُسين وأيقن أنهم

قاتلوه قام في أصحابه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ قد نَزل بي ما تَرَوْن من الأمر
وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفُها واشمعلّت فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء
الأخْنس عيش كالمرْعى الوبيل‏.‏
ألا تَرون الحقّ لا يُعمل به والباطلَ لا يُنهى عنه لِيرغب المؤمنُ
في لقاء اللّه فإني لا أرى الموتَ إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا ذُلا ونَدَما‏.‏
قُتل الحسينُ رضي
اللّه عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات بموضع
يدعى كَربلاء‏.‏
وولد لخمس ليالٍ من شعبان سن أربع من الهِجرة‏.‏
وقُتِل وهو ابن سِتٍّ وخمسين
سنة وهو صابغٌ بالسواد قَتله سِنان بن أبي أنس وأجهز عليه خولةُ بن يزيد الأصْبحِي من
حِمْير‏.‏
وحَز رأسه وأتى به عُبيد الله وهو يقول‏:‏
أوْقِر رِكابي فِضّةً وذَهبَا أنا قتلتُ المَلِك المُحجّبَا
خيرَ عباد اللهّ أمّا وأبَا
فقال له عبيدُ الله بن زياد‏:‏ إذا كان خير الناس أمَّا وأبَا وخير عباد اللهّ فلِمَ قتلتَه قَدّموه
فاضربوا عنقه فضُربت عنقه‏.‏
رَوْح بن زِنْباع عن أبيه عن الغاز بن ربيع الجُرشي قال‏:‏ إني
لعند يزيدَ ابن معاوية إذا أقبل زَحْر بن قيس الجُعفي حتى وقف بين يَدَي يزيد فقال‏:‏ ما وراءك
يا زَحرِ‏!‏ فقال‏:‏ أبشرّك يا أمير المؤمنين بفَتح الله ونَصره قَدِم علينا الحُسين في سبعةَ عشرَ رجلاً

من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته فبَرزنا إليهم وسألناهم أن يَسْتسلموا وينزلوا على حُكم
الأمير أو القتال فأبوا إلا القتال فغدونا عليهم مع شُروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية
حتى أخذت السيوفُ مأخَذَها من هام الرجال فجَعلوا يلوذون منّا بالآكام والحُفر كما يلوذ
الحَمام من الصَقر فلم يكنَ إِلا نَحر جَزور أو قَوم قائم حتى أتينا على أخرهم فهاتيك
أجسامَهم مُجزَّرة وهامَهم مُرمَلة وخدودَهم مُعفَّرة تَصهرُهمِ الشمس وتَسفي عليهم الريحُ
بقاع سَبْسب زوارهم العِقْبان والرخم‏.‏
قال‏:‏ فَدمعت عينا يزيد وقال‏:‏ لقد كنت أقنع من
طاعتكم بدون قتل الحُسين لعن اللهّ ابنَ سُمية‏!‏ أما واللّه لو كنتُ صاحبَه لتركتُه رحم اللّه أبا
عبد اللّه وغَفر له‏.‏
عليّ بن عبد العزيز عن محمد بن الضحّاك بن عثمان الخُزاعي عن أبيه قال‏:‏
خرج الحسين إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيدَ بن معاوية‏.‏
فكتب يزيدُ إلى عُبيد اللهّ بن زياد وهو
واليه بالعراق‏:‏ إنه بلغني أن حُسيناً سار إلى الكوفة وقد ابتُلي به زمانُك بين الأزمان وبلدُك بين
البلدان وابتليت به من بين العُمال وعنده تُعتق أو تعود عبدا‏.‏
فقتله عبيدُ اللّه وبعث برأسه
وثَقَله إلى يزيد‏.‏
فلما وُضع الرأسُ بين يديه تمثّل بقول حُصين بن الحُمام المُرِّي‏:‏
نُفلِّق هامًا من رجال أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعق وأظْلمَا
فقال له عليّ بن الحُسين وكان في السبْي‏:‏ كتابُ الله أولى بك من الشِّعر يقول اللّه‏:‏ ‏"‏ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نَبرأها إن ذلك علىِ الله يسير‏.‏ لكي لا تَأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كُل مختال فخور ‏"‏‏.‏
فغضب
يزيدُ وجعل يَعبث بلِحْيته ثم قال‏:‏ غيرُ هذا من كتاب اللّه أولى بك وبأبيك قال اللهّ‏:‏ ‏"‏ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ‏"‏‏.‏
ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء
فقال له رجل منهم‏:‏ لا تَتخذ من كَلْب سَوْء جَرْوا‏.‏
قال النعمان بن بَشير الأنصاريّ‏:‏ انظُر ما
كان يَصنعه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصْنعه بهم‏.‏
قال‏:‏
صدقت خَلّوا عنهم واضربوا عليهم القِباب‏.‏
وأمال عليهمِ المَطبخ وكساهم وأخرج إليهم جوائزَ
كثيرة‏.‏
وقال‏:‏ لو كان بين ابن مَرجانة وبينهم نسب ما قَتلهم‏.‏
ثم رَدّهم إلى المدينة‏.‏
الرٍّياشي قال‏:‏
أخبرني محمّد بن أبي رَجاء قال‏:‏ أخبرني أبو مَعشر عن يزيدَ ابن زياد عن محمد بن الحُسين بن
عليّ بن أبي طالب قال‏:‏ أتي بنا يزيدُ بن معاوية بعدما قُتل الحسين ونحن اثنا عشر غُلاما
وكان أكبَرنا يومئذ عليُّ ابن الحُسين فأدْخِلْنا عليه وكان كل واحد منا مَغلولةً يدُه إلى عُنقه
فقال لنا‏:‏ أحرزتْ أنفسَكم عَبيدُ أهل العراق‏!‏ وما علمتُ بخروج أبي عبد اللّه ولا بقَتْله‏.‏
أبو
الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سُفيان عن أبي موسى عن الحَسن البصري قال‏:‏
قتِل مع الحسين ستةَ عشرَ من أهل بيته‏.‏
واللّه ما كان على الأرض يومئذ أهلُ بيت يُشبّهون بهم‏.‏


وحَمل أهلُ الشام بناتِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايَا على أحقاب الإبل‏.‏
فلما أدخلن
على يزيد قالت فاطمةُ بنت الحُسين‏:‏ يا يزيد أبناتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايا‏!‏
قال‏:‏ بلى حرائر كرام ادخُلي على بنات عمك تجديهنّ قد فَعلن ما فعلتِ‏.‏
قالت فاطمة‏:‏
فدخلتُ إليهن فما وجدت فيهن سِفيانيّة إلا مُلْتدمة تبكي‏.‏
وقالت بنت عقيل بن أبي طالب
تَرثِي الحُسين ومن أصيب معه‏:‏
عَيْني ابكي بعَبْرةٍ وعَويل واندُبي إن ندبتِ آل الرَّسولِ
ستة كُلّهم لصُلْبِ علّي قد أصيبوا وخَمسة لعَقيل
ومن حديث أم سَلمة زوج صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ كان عندي النبيّ على ومعي الحُسين
فدنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذتُه فبكى فتركتُه فدنا منه فأخذتُه فبكى فتركتُه‏.‏

فقال له جبريل‏:‏ أتحبه يا محمد قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أمَا إن أمتك ستَقتله وإن شئت أريتُك من تُربة
الأرض التي يُقتل بها‏.‏
فبسط جناحَه فأراه منها‏.‏
فبكى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
محمدُ بن
خالد قال‏:‏ قال إبراهيم النَخَعي‏:‏ لو كنتُ فيمن قَتل الحسينَ ودخلتُ الجنة لاستحييتُ أن أنظُر إلى
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
ابن لَهيعة عن أبي الأسود قال‏:‏ لقيتُ رأسَ الجالوت
فقال‏:‏ إن بيني وبين داود سبعين أبا وإن اليهود إذا رأوني عظَموني وعَرفوا حقَي وأوجبوا

حِفْظي وإنه ليس بينكم وبين نبيّكم إلا أبٌ واحد قتلتم ابنه‏.‏
ابن عبد الوهاب عن يَسار بن
عبد الحكم قال‏:‏ انتُهب عسكَرُ الحسين فوُجد فيه طِيب فما تطيّبت به امرأة إلا بَرِصت‏.‏
جعفر
بن محمد عن أبيه قال‏:‏ بايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الحسنُ والحسين وعبد اللهّ بن جعفر
وهم صغار ولم يُبايع قطُّ صغيرٌ إلا هم‏.‏
عليُ بن عبد العزيزِ عن الزُّبير عن مُصعب بن عبد اللّه
قال‏:‏ حَجِّ الحُسين خمسةً وعشرين حِجَّة مُلبِّياً ماشياً‏.‏
وقيل لعلّي بن الحسين‏:‏ ما كان أقلً ولدِ
أبيك‏!‏ قال‏:‏ العَجب كيف وُلدتُ له كان يصلِّي في اليوم والليلة ألْفَ ركعة فمتى كان يتفرّغ
للنساء‏.‏
يحيى بن إسماعيل عن الشَعبي أنّ سالما قال‏:‏ قيل لأبي‏:‏ عبدِ اللّه بن عمر‏:‏ إن الحُسين
توجه إلى العراق فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة وكان غائباً عند خروجه فقال أين
تريد فقال‏:‏ أريد العراق وأخرج إليه كُتب القوم ثم قال‏:‏ هذه بيعتهم وكُتبهم‏.‏
فناشده اللّه أن
يرجع فأبى‏.‏
فقال‏:‏ أحدثك بحديث ما حَدَّثتُ به أحداً قبلك‏:‏ إنّ جبريل أتى النبيّ صلى الله
عليه وسلم يُخيّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة وإنكم بِضعة منه فواللّه لا يليها أحد من
أهل بيته أبداً وما صَرفها اللّه عنكم إلا لما هو خيرٌ لكم فارجع فأنت تَعرف غدر أهل
العراق وما كان يَلقى أبوك منهم‏.‏
فأبى فاعتنقه وقال‏:‏ استودعتك اللّهَ من قَتيل‏.‏
وقالت
الفرزذق‏:‏ خرجتُ أريد مكةَ فإذا بقِباب مضروبة وفَساطيط فقلت‏:‏ لمن هذه قالوا‏:‏

للحُسين فعدلتُ إليه فسلّمت عليه فقالت‏:‏ من أين أقبلتَ قلت‏:‏ من العراق‏.‏
قال‏:‏ كيف
تركت الناس قلتُ‏:‏ القلوب معك والسيوف عليك والنَصر من السماء‏.‏

تسمية من قتل مع الحسين بن علي
رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم قال أبو عبيد‏:‏ حدَّثنا حجاج عن أبي مَعشر قال‏:‏
قتل الحُسين بن عليِّ وقتل معه عثمان بن عليّ وأبو بكر بن عليّ وجعفر بن عليّ والعباس بن
علي وكانت أمهم أمٌ البنين بنت حَرام الكِلابيّة وإبراهيم بن عليّ لأم ولد له وعبدُ الله بن
حسن وخمسةٌ من بني عَقِيل بن أبي طالب وعَوْن ومحمد ابنا عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب
وثلاثة من بني هاشم‏.‏
فجميعهم سبعةَ عشر رجلاً‏.‏
وأسر اثنا عشر غُلاماً من بنى هاشم
فيهم‏:‏ محمدُ بن الحُسين وعلي بن الحُسين وفاطمةُ بنت الحسين‏.‏
فلم تَقم لبني حَرب قائمة حتى
سَلَبهم الله مُلكَهم‏.‏
وكَتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف‏:‏ جنِّبْني دماء أهل هذا
البيت فإني رأيت بني حَرب سُلبوا مُلْكهم لما قتلوا الحُسين‏.‏

حديث الزهري في قتل الحسين
رضي الله عنه حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن مَيسرة قال‏:‏ حدَثنا محمد بن مُوسى الحَرَشيّ قال‏:‏
حدَّثنا حمَاد بن عيسى الجُهني عن عمر بن قيس قال‏:‏ سمعتُ ابن شهاب الزُهري يُحدِّث عن

سعيد بن المُسَيِّب عن أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال حمَاد بن عيسى‏:‏ وحدَّثني
به عبّاد بن بِشرْ عن عَقيل عن الزُّهري عن سَعيد بن المسيّب عن أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم قال‏:‏ لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرّتين‏.‏
وقالا‏:‏ قال الزهري‏:‏ خرجتُ مع قُتيبة أريد
المَصيصة فقَدِمنا على أمير المُؤمنين عبد الملك بن مروان وإذا هو قاعد في إيوان له وإذا
سماطان من الناس على باب الإيوان فإذا أراد حاجةً قالها للذي يَليه حتى تَبْلغ المسألة بابَ
الإيوان ولا يمشي أحدٌ بين السماطين‏.‏
قال الزُّهري‏:‏ فجئنا فقمنا على باب الإيوان فقال عبدُ
الملك للذي عن يمينه‏:‏ هل بَلغكم أي شيء أصبحَ في بيت المقدس ليلة قُتل الحسين بن عليّ
قال‏:‏ فسأل كل واحد منهما صاحبَه حتى بلغت المسألةُ البابَ فلم يَردّ أحدٌ فيها شيئاً‏.‏
قال
الزًهري‏:‏ فقلت‏:‏ عندي في هذا عِلْم‏.‏
قال‏:‏ فرجعت المسألةُ رجلاً عن رجل حتى انتهت إلى
عبد الملك‏.‏
قال‏:‏ فدُعيتُ فمشيتُ بين السماطين فلما انتهيتُ إلى عبد الملك سَلّمت عليه‏.‏

فقال لي‏:‏ من أنت قلت‏:‏ أنا محمد بن مسلمٍ بن عُبيد اللّه بن شهاب الزُّهري‏.‏
قال‏:‏ فعرِّفني
بالنَّسب وكان عبدُ الملك طلّابة للحديث فعرّفتُه‏.‏
فقال‏:‏ ما أصبح ببيت المَقدس يوم قُتل
الحُسين بن عليّ بن أبي طالب - وفي رواية عليّ بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد اللّه عن
أبي مَعشر عن محمد بن عبد اللّه ابن سعيد بن العاص عن الزُّهري أنه قال‏:‏ الليلةَ التي قُتل في

صبيحتها الحُسين بن عليّ قال الزُّهري‏:‏ نعم حدَّثني فلان - ولم يُسَمِّه لنا - أنه لم يُرفع تلك
الليلة التي صبيحتها قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب حجرٌ في بيت المقدس إلا وُجد تحته دمٌ
عَبيط‏.‏
قال عبدُ الملك‏:‏ صدقتَ حدَّثني الذي حدَّثك وإني وإياك في هذا الحديث لَغريبان‏.‏

ثم قال لي‏:‏ ما جاء بك قلت‏:‏ جئتُ مُرابطاً‏.‏
قال‏:‏ الزم الباب فأقمتُ عنده فأعطاني مالاً
كثيراً‏.‏
قال‏:‏ فاستأذنتُه في الخروج إلى المدينة فأذِن لي ومعي غلامٌ لي ومعي مالٌ كثير في عَيبة
ففقدتُ العَيبة فاتهمتُ الغلام فوعدتُه وتواعدتُه فلم يُقر لي بشيء‏.‏
قال‏:‏ فصرعتُه وقعدتُ
عَلَى صَدْره ووضعتُ مِرْفقي على وجهه وغمزتُه غمزةً وأنا لا أريد قتلَه فمات تحتي وسُقط
في يدي‏.‏
وقَدِمتُ المدينة فسألت سعيدَ بن المُسيّب وأبا عبد الرحمن وعُروة بن الزُّبير والقاسمَ
بن محمد وسالِم بن عبد اللّه فكلُّهم قال‏:‏ لا نعلم لك توبةً‏.‏
فبلغ ذلك عليَّ بن الحُسين فقال‏:‏
عليَ به‏.‏
فأتيتُه فقصصتُ عليه القِصة‏.‏
فقال‏:‏ إن لذنبك توبةَ صُمْ شهرين مُتتابعين وأعتق رَقبة
مُؤْمنة وأطعم ستين مسكيناً ففعلتُ‏.‏
ثم خرجتُ أريد عبد الملك وقد بلغه أني أتلفتُ المال
فأقمتُ ببابه أياماً لا يُؤذن لي بالدُّخول فجلستُ إلى مُعلِّم لولده وقد حَذِق ابنَ لعبد الملك
عنده وهو يُعلمه ما
يتكلّم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه فقلت لمؤدّبه‏:‏ ما تأمُل من أمير المؤمنين أن يَصلك

به فلك عندي ذلك على أن تُكلِّم الصبيّ إذا دخل عَلَى أمير المؤمنين فإذا قالَ له‏:‏ سَل
حاجتكَ يقول له‏:‏ حاجتي أن تَرضى عن الزهري‏.‏
ففَعل فضحك عبدُ الملك وقال‏:‏ أين هو
قال‏:‏ بالباب‏.‏
فأذن لي فدخلت حتى إذا صرتُ بين يديه قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين حَدَّثني سعيدُ
بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ لا يُلدغ المؤمن من جُحر
مرتين‏.‏


وقعة الحرة
أبو اليقظان قال‏:‏ لما حضرة معاويةَ الوفاةُ دعا يزيدَ فقال له‏:‏ إن لك من أهل المدينة يوماً فإذا
فعلوا فارمهم بمُسلم بن عُقبة فإنه رجل قد عرَفْنا نصيحتَه‏.‏
فلما كانت سنة ثلاث وستين قدم
عثمانُ بن محمد بن أبي سُفيان المدينةَ عاملاً عليها ليزيدَ بن معاوية وأوفد على يزيد وفداً من
رجال المدينة فيهم عبدُ اللّه بن حَنْظلة غَسيل الملائكة معه ثمانيةُ بنين له فأعطاه مائةَ ألف
درهم وأعطى بنيه كل رجل منهم عشرةَ آلاف سوى كُسوتهم وحُملانهم‏.‏
فلما قدم عبدُ اللّه
بن حنظلة المدينة أتاه الناس فقالوا‏:‏ ما وراءك قال‏:‏ أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا
بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم‏.‏
قالوا‏:‏ فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك‏.‏
قال‏:‏ قد فَعل وما
قبلتُ ذلك منه إلا أن أتقوّى به عليه أي عَلَى قتال يزيد - وحضَّ الناسَ عَلَى يزيدَ فأجابوه‏.‏

فكتب عثمانُ بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهلُ المدينة من الخلاف‏.‏
فكتب إليهم يزيد بن
معاوية‏:‏ بسم اللهّ الرحمن الرحيمٍ أما بعد‏.‏
فإن اللّه لا يُغيرُ ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم وإذا
أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال‏.‏
وإني قد لَبستكم فأخلفتُكم
ورفعتكمِ عَلَى رأسي ثم عَلَى عَيني ثم على فَمي ثم عَلَى بطني واللّه لئن وضعتكم تحت

قدمي لأطانكم وطأة أقِلّ بها عددَكم وأترككم بها أحاديث تنتسخ أخبارُكم مع أخبار عاد
وثمود‏.‏
فلما أتاهم كتابُه حَمِي القوم فقدَّمت الأنصار عبدَ اللّه بن حنظلة عَلَى أنفسهم
وقدَّمت قُريش عبدَ اللهّ بن مُطيع ثم أخرجوا عثمانَ بن محمد بن أبي سفيان من المدينة
ومروانَ بن الحكم وكُل من كان بها من بني أمية‏.‏
وكان عبدُ اللّه بن عباس بالطائف فسأل
عنهم فقيل له‏:‏ استعملوا عبدَ اللّه بن مُطيع عَلَى قريش وعبد اللّه بن حَنظلة عَلَى الأنصار‏.‏

فقال‏:‏ أميران‏!‏ هَلك القوم‏.‏
ولما بلغ يزيد ما فعلوا أمر بقُبة فضُربت له خارجاً عن قَصره وقَطع
البُعوث عَلَى أهل الشام فلم تمْض ثالثةٌ حتى توافت الحشود‏.‏
فقَدِم عليهم مُسلم بن عُقبة المُرِّي
فتوجّه إليهم‏.‏
وقد عَمد أهلُ المدينة فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام فصبّوا فيه زِقّاً
من قَطران وغَوّروه فأرسل اللّه عليهم المطر فلم يَسْتقوا شيئاً حتى وردوا المدينة‏.‏
قال أبو
اليقظان وغيره‏:‏ إنّ يزيدَ بن مُعاوية ولّى مسلمَ بن عُقبة وهو قد اشتكى فقال له‏:‏ إن حَدث بك
حَدَث فاستعمل حُصين بن نمير‏.‏
فخرج حتى قدم المدينةَ فخرج إليه أهلُها في عُدة وهيئة
وجُموع كثيرة لم يُرَ مثلها‏.‏
فلما رآهم أهلُ الشام هابوهم وكرهوا قتالَهم‏.‏
فأمر مُسلم بن عقبة
بسَريره فوُضع بين الصَّفين وهو عليه مريض وأمر مُنادياً ينادي‏:‏ قاتِلوا عن أميركم أو دَعوه‏.‏
فجدّ
الناس في القتال فَسمعوا التكبيرَ من خلفهم في جوف المدينة فإذا هم قد أقْحَم عليهم بنو

حارثة أهلَ الشام وهم عَلَى الجُدر فانهزم الناس‏.‏
وعبد الله بن حَنظلة متساند إلى بعض بَنيه
يَغُطُّ نوماً فلما فتحِ عينيه فرأى ما صَنعوا أمر أكبر بنيه فتقدَم حتى قُتل فلم يزل يقدِّم واحداً
وأحدا حتى أتي عَلَى آخرهم ثم كسر غِمْد سيفه وقاتل حتى قُتِل‏.‏
ودخل مسلمُ بن عقبة
المدينة وتغلّب عَلَى أهلها ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خوَلٌ ليزيد ابن معاوية يَحكم في
دمائهم وأموالهم وأهليهم فبايعوا حتى أتي بعبد اللّه ابن زَمعة فقال له‏:‏ عَلَى أنك خَوَل لأمير
المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك‏.‏
قال‏:‏ لن أبايع على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي
ومالي وأهلي‏.‏
فقال مسلم بن عقبة‏:‏ اضربوا عنقَه فوثب مروان بن الحكم فضمّه إِليه وقال‏:‏
نُبايعك على ما أحببت‏.‏
فقال‏:‏ لا واللّه لا أقيلها إياه أبداً إن تَنح وإلا فاقتلوهما جميعاً‏.‏
فتركه
مروان وضُرب عنقه‏.‏
وهَرب عبدُ الله بن مطيع حتى لحق بمكة فكان بها حتى قُتل مع عبد
اللّه بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان وجعل يُقاتل أهلَ الشام وهو يقول‏:‏
أنا الذي فررتُ يوم الحَرّه والشيخُ لا يَفرُّ إلا مَرة
فاليومَ أجْزى كَرّة بقَرّة لا بأس بالكَرة بعد الفَرّة
أبو عَقيل الدوْرقيّ قال‏:‏ سمعتُ أبا نَضرة يحدّث قال‏:‏ دخل أبو سعيد الخدريّ يوم الحَرّة في
غار فدخل عليه رجل من أهل الشام وفي عُنق أبي سعيد السّيف فوضع أبو سَعيد السيفَ

وقال‏:‏ بُؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين‏.‏
فقال‏:‏ أبو سعيدٍ الخدري
أنت قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فاستغفر لي قال‏:‏ غَفر اللّه لك‏.‏
وأمر مُسلم بن عُقبة بقتل مَعقلِ بن
سِنان الأشجَعي صبراً ومحمد بن أبي الجهم بن حُذيقة العَدوي صبراً وكان جميعُ من قتل يوم
الحرة من قريش والأنصار ثلثَمائة رجل وستة رجال‏.‏
ومن الموالي وغيرهم أضعافُ هؤلاء‏.‏

وبعث مًسلم بن عُقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد فلما ألقيت بين يديه جَعل يتمثل بقول ابن
الزِّبْعري يوم أحد‏:‏
ليت أشياخِي ببدرٍ شَهِدُوا جَزَع الخَزْرج من وَقْع الأسَل
لأهلّوا واستهلوا فرحاً ولقالوا ليزيدَ‏:‏ لا فَشَل
فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارتددتَ عن الإسلام يا أمير
المؤمنين‏!‏ قال‏:‏ بلى نَستغفر الله‏.‏
قال‏:‏ والله لا ساكنتُك أرضاً أبداً وخرج عنه‏.‏
ولما انقضى
أمرُ الحَرّة توجه مُسلم بن عُقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يُريد ابنَ الزُبير وهو ثقيل فلما كان
بالأبواء حَضره أجلُه فدعا حُصين ابن نمير فقال له‏:‏ إني أرسلتُ إليك فلا أدري أقدَمك على
هذا الجيش أم أقدَمك فأضرب عنقك قال‏:‏ أصلحك اللّه أنا سهمُك فارم بي حيثُ شئت‏.‏

قال‏:‏ إنك أعرابي جلْف جافٍ وإنّ هذا الحي من قريش لم يمكنهَم أحد قط من أذنه إلا غَلبوه

على رأيه فسِر بهذا الجيش فإذا لقيتَ القومَ فإياك أن تُمكنهم من أذنك لا يكن إلا على
الوِقاف ثم الثقاف ثم الانصراف‏.‏

ومات مُسلم بن عُقبة وليصل بالناس الضحّاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم فلمّا مات
صلى عليه الوليد بن عقبة لا رحمه الله‏.‏
ومضى حُصين بن نُمير بجَيشه ذلك‏.‏
فلم يزل محاصرًا
لأهل مكة حتى مات يزيدُ لا رحمه الله وذلك خمسون يوماً‏.‏
ونَصب المجانيق على الكعبة
وحَرَقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين وفيها مات يزيد بن معاوية
بِحوارين‏.‏

وفاة يزيد بن معاوية
مات يزيد بن معاوية بحُوارين من بلاد حِمْص وصلى عليه ابنُه معاوية ابن يزيد بن مُعاوية ليلة
البدرِ في شهر ربيع الأول‏.‏
وأم يزيد ميسون بنت بَحْدل الكَلْبي ومات وهو ابنُ ثمانٍ وثلاثين
سنة وكانت ولايتُه ثلاثَ سنين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوماً‏.‏


خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية
واستُخلف معاويةُ بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وهو ابنُ إحدى
وعشرين سنة ومات بعد أبيه بأربعين يوماً ولم يزل مريضاً طولَ ولايته لا يَخرج من بيته فلما
حضرتْه الوفاةُ قيل له‏:‏ لو عهدتْ إلى رجل من أهل بيتك واستَخلفت خليفةً قال‏:‏ لم أنتفع بها
حيا فلا أقلدها ميتا لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرّع مرارتها ولكن إذا مِت فَلْيصل عليّ
الوليدُ بن عُقبة وليصلِّ بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم‏.‏
فلما مات صلّى
عليه الوليد بن عقبة وصلّى بالناس الضَحاك بن قيس بدمشق حيث قامت دولة بني مروان‏.‏

فتنة ابن الزبير
قال عليّ بن عبد العزيز‏:‏ حدّثنا أبو عُبيد عن حجَّاج عن أبي معشر قال‏:‏ لما مات مُسلم بن
عُقبة سار حُصين بن نُمير حتى أتى مكة وابنُ الزبير بها فدعاهم إلى الطاعة فلم يُجيبوه
فقاتلهم وقاتله ابن الزبير‏.‏
فقُتل المُنذرُ بن الزُبير يومئذ ورجلاًن من إخوته ومُصعب بن عبد
الرحمن بن عوف والمسور بن مخرمة‏.‏
وكان حُصين بن نُمير قد نَصب المجانيق على أبي قُبيس
وعلى قُعيْقعان فلم يكن أحدٌ يقدر أن يطوف بالبيت‏.‏
فأسند ابنُ الزبير ألواحاً من ساجٍ على

البيت وألقى عليها الفُرشَ والقطائف فكان إذا وَقع عليها الحجر نبا عن البيت‏.‏
فكانوا يطوفون
تحت الألواح فإذا سمعوا صوتَ الحَجر حين يقع على الفرش والقطائف كَبَروا وكان ابن الزبير قد
ضَرب فُسطاطا في ناحية فكلما جُرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط فجاء رجل
من أهل الشام بنار في طرف سنانه فأشعلها في الفُسطاط وكان يوماً شديد الحر فتمزّق
الفُسطاط فوقعت النار على الكَعبة فاحترق الخشب والسقف وانصدعِ الرُّكن واحترقت
الأستار وتساقطت إلى الأرض‏.‏
قال‏:‏ ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياماً بعد حريق الكعبة‏.‏
قال أبو
عبيد‏:‏ احترقت الكعبة يوم السبت لست خَلون من ربيع الأول سنة أربع وستين فجلس أهلُ
مكة في جانب الحِجْر ومعهم ابنُ الزبير وأهل الشام يَرمونهم بالنَّبل والحجارة فوقعت نَبلة بين
يدي ابن الزبير فقال‏:‏ في هذه خبر‏.‏
فأخذها فوجد فيها مكتوباً‏:‏ مات يزيدُ بن معاوية يوم
الخميس لأربعَ عشرةَ خلت من ربيع الأول‏.‏
فلما قرأ ذلك قال‏:‏ يا أهل الشام يا أعداء الله
ومُحرِّقي بيت اللّه علامَ تُقاتلون وقد مات طاغيتُكم‏!‏ فقالت حُصين بن نمير‏:‏ موعدُك البطحاء
الليلة أبا بكر‏.‏
فلما كان الليل خَرج ابنُ الزًّبير بأصحابه وخَرج حُصين بأصحابه إلى البطحاء‏.‏
ثم
ترك كُلّ واحد منهما أصحابه وانفردا فنزلا‏.‏
فقال حُصين‏:‏ يا أبا بكر أنا سيّد أهل الشام لا
أدافَع وأرى أهلَ الحجاز قد رَضُوا بك فتعالَ أُبايعْك الساعةَ ويهدر كل شيء أصبناه يومَ

الحَرّة وتَخرج معي إلى الشام فإني لا أحب أن يكون المُلك بالحجاز‏.‏
فقال‏:‏ لا واللّه لا أفعل ولا
أمنُ مَن أخافَ الناسَ وأحرق بيتَ اللّه وانتهك حُرمته‏.‏
قال‏:‏ بل فافعل على أن لا يَختلف عليك
اثنان‏.‏
فأبي ابنُ الزبير‏.‏
فقال له حُصين‏:‏ لَعنك اللّه ولَعن مَن زعم أنك سيّد‏!‏ واللهّ لا تُفلح أبداً‏!‏
اركبوا يا أهل الشام‏.‏
فركبوا واْنصرفوا‏.‏
أبو عُبيد عن الحجّاج عن أبي مَعشر قال‏:‏ حَدّثنا بعضُ
المَشيخة الذين حَضروا قِتَالَ ابن الزبير قال‏:‏ غَلب حُصين بن نُمير على مكّة كُلها إلا الحِجْر‏.‏

قال‏:‏ فواللّه إني لجالس عنده معه نفر من القُرشيين‏:‏ عبدُ اللّه بن مطيع والمختار بن أبي عُبيد
والمِسْور بن مَخْرمة والمُنذر بن الزُبير‏:‏ إذ هَبّت رُويحة فقال المختار‏:‏ واللّه إني لأرى في هذه
الرُّويحة النَّصر فاحملوا عليهم‏.‏
فحملوا عليهم حتى أَخرجوهم من مكة وقَتل المختارُ رجلاً
وقَتل ابنُ مطيع رجلاً ثم جاءنا على إثر ذلك موتُ يزيدَ بعد حريق الكعبة بإحدى عشرةَ ليلة
وانصرف حُصين بن نُمير وأصحابه إلى الشام فوجدوا مُعاويةَ بن يزيد قد مات ولم يَستخلف
وقال‏:‏ لا أتحمّلها حيّا وميتا‏.‏
فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهلَ الشام كلّهم ابنَ الزبير إلا أهلَ
الأرْدُنّ وبايع أهلُ مصر أيضاً ابنَ الزبير‏.‏
واستخلف ابنُ الزبير الضحّاكَ بن قيس الفِهريِّ على
أهل الشام‏.‏
فلما رأى ذلك رجالُ بني أمية وناسٌ من أشراف أهل الشام ووجوههم منهم رَوحُ
بن زِنْباع وغيره قال بعضهم لبعض‏:‏ إنّ المُلك كان فينا أهلَ الشام فانتقل عنّا إلى الحجاز لا

نرضى بذلك هل لكم أنْ تأخذوا رجلاً منّا فينظرَ في هذا الأمر فقال‏:‏ استخيروا اللّه‏.‏
قال‏:‏
فرأى القومُ أنه غلامٌ حَدث السن فخرجوا من عنده وقالوا‏:‏ هذا حَدث‏.‏
فأتوا عمرَو بنَ سعيد
بن العاص فقالوا له‏:‏ ارفع رأسك لهذا الأمر فرأوه حَدثاً فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية
فقالوا له‏:‏ ارفع رأسَك لهذا الأمر فرأوه حَدثا حريصاً على هذا الأمر‏.‏
فلما خرجوا من عنده
قالوا‏:‏ هذا حدث‏.‏
فأتوا مروانَ ابن الحكم فإذا عنده مصباح وإذا هم يَسمعون صوته بالقُرآن
فاستأذنوا ودخلوا عليه قالوا‏:‏ يا أبا عبد اْلملك ارفع رأسَك لهذا الأمر‏.‏
فقال‏:‏ استخيروا اللهّ
واسألوا أن يختار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها وأعدلها‏.‏
فقال له روحُ ابن زِنباع‏:‏ إنّ
معي أربعَمائة من جُذام فأنا أمرهم أن يتقدّموا في المسجد غداً ومُر أنت ابنك عبدَ العزيز أن
يخطب الناسَ ويَدْعوهم إليه فإذا فعل ذلك تنادَوْا من جانب المسجد‏:‏ صدقتَ صدقتَ
فيظنّ الناسُ أن أمرَهم واحد‏.‏
فلما اجتمع الناسُ قام عبدُ العزيز فحَمِد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏
ما أحدٌ أولى بهذا الأمر من مَروان كبير قُريش وسيّدها والذي نفسي بيده لقد شابت ذراعاه
من الكِبَر‏.‏
فقال الجُذاميون‏:‏ صدقتَ صدقتَ‏.‏
فقال خالدُ بن يزيد‏:‏ أمر دبِّر بليل‏.‏
فبايعوا مروانَ
بن الحكم‏.‏
ثم كان من أمره مع الضّحاك بن قيس بمَرْج راهط ما سيأتي ذكرُه بعد هذا في دولة
بني مروان‏.‏



أبو الحسن قال‏:‏ لما مات معاوية بن يزيد اختلف الناسُ بالشام فكان أوّلَ من خالف من أمراء
الأجناد النعمانُ بن بَشير الأنصاري وكان على حِمْص فدعا لابن الزُبير فبلغ خبرُه زفرَ بن
الحارث الكِلابيّ وهو بقِنَسْرين فدعا إلى ابن الزبير أيضاًً بدمشق سراً ولم يُظهر ذلك لمن بها
من بني أمية وكلب‏.‏
وبلغ ذلك حسان بن مالك بن بَحْدل الكَلْبي وهو بفِلسطين فقال لرَوْح بن
زنباع‏:‏ إني أرى أمراء الأجناد يبايعون لْابن الزبير وأبناء قيس بالأردن كثير وهم قومي فأنا
خارج إليها وأقم أنت بفلسطين فإنّ جُل أهلها قومك من لَخْم وجُذام فإن خالفك أحدٌ فقاتلْه
بهم‏.‏
فأقام رَوْحٌ بفلسطين وخرج حسان إلى الأردُن‏.‏
فقام ناتل بن قيس الْجُذاميّ فدعا إلى
ابن الزُبير وأخرج روحَ بن زِنْباع من فلسطين ولحق بحسّان بالأردن‏.‏
فقال حسانُ‏:‏ يأهل
الأردن قد علمتم أن ابن الزبير في شِقاق ونفاق وعصيان لخلفاء اللّه ومفارقةٍ لجماعة المسلمين
فانظُروا رجلاً من بني حَرب فبايعوه‏.‏
فقالوِا‏:‏ اختر لنا من شئتَ من بني حَرب وجَنِّبنا هذين
الرجلين الغلامين‏:‏ عبدَ اللّه وخالداً ابني يزيد بن معاوية فإنّا نكره أن يدعوَ الناسُ إلى شيخ
ونحن ندعو إلى صبيِّ‏.‏
وكان هَوَى حسّانَ في خالد بن يزيد وكان ابنَ أخته‏.‏
فلما رَموه بهذا
الكلام أمسك وكتب إلى الضحاك بن قيس كتاباً يُعظّم فيه بني أمية وبلاءهم عنده ويذُم ابن
الزبير ويذكر خِلافَه للجماعة وقال لرسوله‏:‏ اقرأ الكتاب على الضحّاك بمَحضر بني أمية وجماعة

الناس‏.‏
فلما قرأ كتابَ حسان تكلّم الناسُ فصاروا فِرْقتين فصارت اليمانية مع بني أمية
والقَيْسيةُ زُبيريّةً ثم اجتلدوا بالنّعال ومَشى بعضًهم إلى بعض بالسيوف حتى حَجز بينهم خالدُ
بن يزيد ودخل الضحاك دارَ الإمارة فلم يخرُج ثلاثةَ أيام‏.‏
وقدِم عُبيدُ الله بن زياد فكان مع
بني أمية بدمشق‏.‏
فخرج الضحاكُ بن قيس إلى المَرْج - مرج راهط - فعسكر فيه وأرسل إلى
أمراء الأجناد فأتوه إلّا ما كان من كَلْب‏.‏
ودعا مروانُ إلى نفسه فبايعته بنو أمية وكَلب وغسان
والسكاسك وطَيىء فعسكر في خَمسة آلاف‏.‏
وأقبل عَبَّاد بن يزيد من حُوران في ألفين من
مواليه وغيرهم من بني كلب فلحق بمروان‏.‏
وغلب يزيدُ بن أبي أنيس على دمشق فأخرج منها
عاملَ الضحاك وأمد مروان برجاليٍ وسلاح كثير‏.‏
وكتب الضحاك إلىِ أمراء الأجناد فقدم
عليه زفر بن الحارث من قِنَسرين وأمده النُّعمان بن بشير بشرَحبْيل بن ذي الكَلاع في أهل
حِمْص فتوافَوا عند الضحًاك بمرْج راهط فكان الضحاك في ستين ألفاً ومروان في ثلاثةَ عشر
ألفاً أكثرهم رجّالة وأكثرُ أصحاب الضحاك رُكبان‏.‏
فاقتتلوا بالمَرْج عشرين يوماً وصَبر
الفريقان‏.‏
وكان على مَيمنة الضحاك زيادُ بن عمرو بن معاوية العُقيلي وعلى مسيرته بَكْر بن
أبي بشير الهلالي‏.‏
فقال عُبيد اللّه بن زياد لمروان‏:‏ إنك على حق وابن الزبير ومن دعا إليه على
الباطل وهم أكثر منا عَدداً وعُدداً ومع الضحاك فُرسان قيس واعلم أنك لا تنال منهم ما

تريد إلا بمكيدة وإنما الحرب خدعة فادعهم إلى الموادعة فإذا أمنوا وكَفَوا عن القتال فكُرّ
عليهم‏.‏
فأرسل مروانُ السُّفَراء إلى الضحَاك يدعوه إلى الموادعة ووَضْع الحرب حتى يَنْظر‏.‏

فأصبح الضحَاك والقَيسية قد أمسكوا عن القتال وهم يطمعون أن يُبايع مروان لابن الزّبير وقد
أعد مروانُ أصحابَه فلم يشعر الضحاك وأصحابُه إلا والخيل قد شدَّت عليهم ففزع الناس إلى
راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيلُ فنادى الناسُ‏:‏ أبا أنيس أعَجْز بعد كَيْس -
وكُنية الضحاك‏:‏ أبو أنيس - فاقتتل الناسُ ولزم الناسُ راياتهم فترجل مروان وقال‏:‏ قَبّح اللّه من
ولأهم اليومَ ظهرَه حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين‏.‏
فقُتل الضحاكً بن قيس وصَبرت قيسُ
عند راياتِها يقاتلون فنظر رجل من بني عُقيل إلى ما تَلْقى قيس عند راياتها من القَتل فقال‏:‏
اللهم العنها من رايات‏!‏ واعترضَها بسيفه فجعل يَقْطعها فإذا سقطت الرايةً تفرق أهلها‏.‏
ثم
انهزم الناس فنادى مُنادِي مروان‏:‏ لا تَتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره‏.‏
فزعموا أن رجالاً من ليس لم
يَضحكوا بعد يوم المَرج حتى ماتوا جَزعا على من أصيب من فُرسان قيس يومئذ‏.‏
فقتل مِن
قَيس يومئذ ممن كان يأخذ شَرف العطاء ثمانون رجلاً وقُتل من بني سليم سِتّمائة وقُتل لمروان
ابنٌ يقال له عبدُ العزيز‏.‏
وشَهد مع الضحَّاك يوم مَرْج راهط عبدُ اللهّ بن معاوية بن أبي سُفيان‏.‏

فلما انهزم الناسُ قال له عُبيد اللّه بن زياد‏:‏ ارتدف خَلْفي فارتدف فأراد عمرو بن سَعيد

أن يقتلَه‏.‏
فقال له عبيدُ اللّه بن زياد‏:‏ ألا تكُفّ يا لَطِيمَ الشيطان‏!‏ وقال زفر بن الحارث وقد
قُتل ابناه يوم المَرْج‏:‏
لَعمري لقد أبقتْ وقيعة راهطٍ بمَروان صَدْعاً بيّنا مًتنائيا
فلم يُزَ مِنّي زَلةٌ قبلَ هذه فِراري وتَركي صاحبي ورائيا
أيذهبُ يومٌ واحدٌ إن أسأتُه بصالح أيامي وحُسْن بلائيا
أنترك كلْباً لم تَنَلها رماحُنا وتَذهب قَتْلى راهطٍ وهي ما هيا
وقد تَنْبُت الخَضراء في دِمَن الثرى وتَبقى حَزازاتُ النفوس كما هيا
فلا صُلْع حتى نَدْعس الخَيلَ بالقَنا وتثأر من أبناء كَلْب نسائيا
فلما قتل الضحاك وانهزم الناس نادى مروانُ أن لا يُتبع أًحد‏.‏
ثم أقبل إلى دمشق فدخلها ونَزل
دارَ مُعاوية بن أبي سفيان دارَ الِإمارة ثم جاءته بَيعة الأجناد فقال له أصحابه‏:‏ إنا لا نتخوّف
عليك إلا خالدَ بن يزيد فتزوّجْ أمه فإنك تَكْسره بذلك وأمه ابنة أبي هاشم بن عُتبة بن
ربيعة‏.‏
فتزوّجها مروان فلما أراد الخروجَ إلى مصر قال لخالد‏:‏ أعرْني سلاحاً إن كان عندك
فأعاره سلاحاً وخَرج إلى مصر فقاتل أهلَها وسَبى بها ناساً كثيراً فافتدوا منه‏.‏
ثم قَدم
الشام فقال له خالدُ‏.‏
بن يزيد‏:‏ رُدّ عليّ سلاحي‏.‏
فأبى عليه‏.‏
فألحّ عليه خالد‏.‏
فقال له

مَروان وكان فَحّاشا‏:‏ يا بن رَطْبة الإست‏.‏
قال‏:‏ فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما
قاله مروانُ على رؤوس أهل الشام‏.‏
فقالت له‏:‏ لا عليك فإنه لا يعود إليك بمثلها‏.‏
فلبث مروان
بعد ما قال لخالد ما قال أياماً ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها فأمرت جواريها فطَرحْن عليه
الوسائد ثم غَطّته حتى قتلته ثم خَرجن فصِحْن وشَقَقنَ ثيابهن‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ يا أمير
المؤمنين‏!‏ ثم قام عبدُ الملك بالأمر بعده فقال لفاخر أم خالد‏:‏ والله لولا أن يقول الناس إني قتلتُ
بأبي امرأةً لقتلتُكِ بأمير المؤمنين‏.‏
ووُلد مروانُ بن الحكم بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن
عبد مناف بمكة‏.‏
ومات بالشام لثلاث خلون من رَمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث
وستين سنة‏.‏
وصلى عليه ابنُه عبد الملك بن مروان‏.‏
وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر
يوماً‏.‏
وكان على شرُطته يحيى بن قيس الشّيباني‏.‏
وكاتبه سَرجون بن منصور الرُّومي‏.‏

وحاجبه أبو سَهل الأسود مولاه‏.‏

ولاية عبد الملك بن مروان
هو عبدُ الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية‏.‏
ويكنى‏:‏ أبا الوليد‏.‏
ويقال له‏:‏ أبو
الأملاك وذلك أنه ولى الخلافةَ أربع من ولده‏:‏ الوليدُ وسليمان ويزيد وهشام‏.‏
وكان تَدْمى لَثته

فيقع عليها الذُّباب فكان يُلقّب‏:‏ أبا الذُّباب‏.‏
أمه عائشة بنت معاوية بن المُغيرة بن أبي العاص بن
أمية‏.‏
وله يقول ابن قيس الرقيات‏:‏
أنت ابنُ عائشة التي فَضَلت أروم نسائها
لم تَلْتفت للِداتها ومَشَت على غُلَوائها
وَلدت أغر مباركاً كالشَّمْس وَسْط سمائها
وبُويع عبدُ الملك بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين ومات بدمشق للنصف
من شوال سنة ستّ وثمانين وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة فصلّى عليه الوليدُ بن عبد الملك‏.‏

ووُلد عبدُ الملك بالمدينة سنة ثلاثٍ وعشرين ويقال سنة ستٍّ وعشرين‏.‏
ويقال وُلد لسَبعة
أشهر‏.‏
وكان على شرُطته ابنُ أبي كَبْشة السَّكْسَكي ثم أبو نائل بن رِياح بن عُبيدة الغَسِّاني ثم
عبدُ الله بن يزيد الحَكميّ‏.‏
وعلى حَرسه الرَّيَّان‏.‏
وكاتبه على الخراج والجُند سرَجون ابن منصور
الرُّومي‏.‏
وكتبه على الرسائل أبو زُرعة مولاه‏.‏
وعلى الختم قَبيصة ابن ذُؤيب‏.‏
وعلى بُيوت
الأموال والخزائن رَجاء بن حَيْوَة‏.‏
وحاجبُه أبو يوسف مولاه‏.‏
ومات عبد الملك سنة ستٍّ
وثمانين وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة‏.‏
وصلّى عليه الوليد ابنُه‏.‏
وكانت ولايتُه منذ اجتُمع عليه
ثلاثَ عشرةَ سنة وثلاثة أشهر ودُفن خارجَ باب المدينة‏.‏
وفي أيام عبد الملك حُوّلت الدواوينُ

إلى العربيّة عن الرومية والفارسية حَوّلها عن الرُّومية سليمان بن سَعْد مولى خُشين‏.‏
وحولها
عن الفارسية صالحُ بن عبد الرحمن مولى عتبة امرأة من بني مُرة‏.‏
ويقال‏:‏ حُولت في زمن
الوليد‏.‏
ابنُ وَهب عن ابن لَهِيعة قال‏:‏ كان معاوية فَرض للموالي خَمسة عشر فبلَّغهم عبدُ الملك
عشرين ثم بلّغهم سليمانُ خمسة وعشرين ثم قام هشام فأتم للأبناء منهم ثلاثين‏.‏
وكتب عبدُ
اللّه بن عمر إلى عبد الملك بن مروان بَيعتَه لما قُتل ابنُ الزبير وكان كتابه إليه يقول‏:‏ لعبد الملك بن
مروان من عبد الله بن عُمر‏:‏ سلام عليك فإني أقررتُ لك بالسَّمع والطاعة على سُنة اللّه
وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وبيعةُ نافع مولاي على مثل ما بايعتُك عليه‏.‏

وكتب محمدُ بن الحنفيّة ببيعته لما قتل ابن الزبير وكان في كتابه‏:‏ إني اعتزلتُ الأمة عند
اختلافها فقعدتُ في البلد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً لأحْرزَ ديني وأمنعَ دمي وتركتُ
الناسَ ‏"‏ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبِيلا ‏"‏‏.‏
وقد رأيتُ الناسَ قد
اجتمعوا عليك ونحن عصابة من أمتنا لا نُفارق الجماعة وقد بعثتُ إليك منّا رسولا ليأخذ لنا
منك ميثاقا ونحن أحق بذلك منك‏.‏
فإن أبيتَ فأرضُ اللّه واسعة والعاقبة للمتقين‏.‏
فكتب إليه
عبدُ الملك‏:‏ قد بلغني كتابُك بما سألتَه منِ المِيثاق لك وللعصابة التي معك‏.‏
فلك عهدً اللهّ
وميثاقه أن لا تُهاج في سلطاننا غائباً ولا شاهداً ولا أحد من أصحابك ما وَفَوْا ببيعتهم فإن

أحببتَ المُقام بالحجاز فأقم فلن نَدع صِلتك وبِرَّك وإن أحببتَ المُقام عندنا فاشخَص إلينا
فلن نَدع مواساتِك‏.‏
ولعمري لئن ألجأتُك إلى الذهاب في الأرض خائفاً لقد ظَلمناك وقَطعنا
رَحِمك‏.‏
فاخرُج إلى الحَجاج فبايع‏.‏
فإنك أنت المحمود عندنا ديناً ورأيا وخيرٌ من ابن الزبير
وأرضى وأتقى‏.‏
وكتب إِلى الحجاج بن يوسف‏:‏ لا تَعْرِض لمحمد ولا لأحد من أصحابه وكان في
كتابه‏:‏ جنّبني دماء بني عبد المطلب فليس فيها شِفاء من الحَرَب وإني رأيتُ بني حَرْب سُلبوا
ملكهم لما قَتلوا الْحُسين بن علي‏.‏
فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيّين في أيامه‏.‏
أبو الحسن
المدائني قال‏:‏ كان يقال‏:‏ معاوية أحلم وعبدُ الملك أحزم‏.‏
وخطب الناسَ عبدُ الملك فقال‏:‏ أيها
الناس ما أنا بالخليفة المُستضعف - يريد عثمان بن عفان - ولا بالخليفة المُداهن - يريد معاوية
بن أبي سفيان - ولا بالخليفة المأفون - يريد يزيدَ بن معاوية فمن قال برأسه كذا قُلنا بسيفنا
كذا ثم نزل‏.‏
وخطب عبد الملك على المنبر فقال‏:‏ أيها الناس إن الله حدَ حُدوداً وفَرض
فروضاً فما زِلتم تَزْدادون في الذُنب ونزداد في العقوبة حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف‏.‏

أبو الحسن المدائني قال‏:‏ قَدِم عمرُ بن علي بن أبي طالب على عبد الملك فسأله أن يُصير إليه
صدقةَ علي‏.‏
فقال عبدُ اِلملك متمثلاً بأبيات ابن أبي الحقْيق‏:‏
إني إذا مالتْ دَواعي الهَوَى وأنصتَ السامعُ للقائل

لا نَجعل الباطلَ حقَّا ولا نَرْضى بدُون الحقّ للباطل
لا لعمري لا نُخرجها من ولد الحسين إليك‏.‏
وأمر له بصلة ورجع‏.‏
وقال عبد الملك بن مروان
لأيْمن بن خُريم‏:‏ إن أباك وعمك كانت لهما صحبة فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير‏.‏
فأبى فشتمه
عبد الملك‏.‏
فخرج وهو يقول‏:‏
فلستُ بقاتل رجلاً يُصلِّي على سلطان آخرَ من قُريش
له سلطانُه وعليً إثمِي معاذَ اللهّ من سَفَه وطَيْش
وقال أيمن بن خُريم أيضاً‏:‏
إنّ للفتنة هَيْطا بينا فرُويدَ المَيلَ منها يَعْتدِلْ
فإذا كان عطاءٌ فانتهز وإذا كان قِتال فاعتزل
إنما يُوقدها فُرْساننا حَطبَ النار فَدَعْها تشتعل
وقال زُفر بن الحارث لعبد الملك بن مَروان‏:‏ الحمد لله الذي نَصرك على كُره من المؤمنين‏.‏
فقال
أبو زعيزعة‏:‏ ما كره ذلك إلا كافر‏.‏
فقال زُفَر‏:‏ كذبت قال الله لنبيّه‏:‏ ‏"‏ كما أخرجك ربك من
بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ‏"‏‏.‏
وبعث عبد الملك بن مروان إلى المدينة حبيش بن
دلجة القيسي في سبعة آلاف‏.‏
فدخل المدينةَ وجلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

فدعا بخبز ولحم فأكل ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر ثم دعا جابر بن عبد الله صاحبَ النبي
صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تُبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعَهد الله عليك وميثاقه
وأعظم ما أخذ الله على أحد من خَلقه في الوفاء فإن خُنتنا فَهَراق اللّه دَمك على ضلال‏.‏

قال‏:‏ أنت أطوقُ لذلك مني ولكن أبايعه على ما بايعتُ عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
يوم الحُديبية على السمع والطاعة‏.‏
ثم خرج ابنُ دُلْجة من يومه ذلك إلى الربذة وقدم على أثره
من الشام رجلاًن مع كل واحد منهما جَيش ثم اجتمعوا جميعاَ في الربذة وذلك في رمضان
سنة خمس وستين‏.‏
وأميرُهم ابن دلجة‏.‏
وكتب ابنُ الزبير إلى العبّاس بن سَهل الساعديّ بالمدينة
أن يَسير إلى حُبيش بن دُلجة‏.‏
فسار حتى لَقِيه بالربذة‏.‏
وبعث الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة
- وهو عامل ابن الزبير على البصرة - مدداً إلى العباس بن سهل حُنيفَ بن السِّجف في
تسعمائة من أهل البصرة‏.‏
فساروا حتى انتهوا إلى الربذة‏.‏
فبات أهلُ البصرة وأهل المدينة يقرأون
القرآن ويُصلون‏.‏
وبات أهل الشام في المَعازف والخمور فلما أصبحوا غَدوا على القِتال فقُتل
حُبيش بن دُلجة ومن معه‏.‏
فتحصّن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على عمود الربذة وهو
الجبل الذي عليها وفيهم يوسف أبو الحجَّاج فأحاط بهم عباس بن سهل فطلبوا الأمان فقال‏:‏
انزلوا على حُكمي فنزلوا عَلى حكمه فضرب أَعناقَهم أجمعين‏.‏
ثم رجع عبّاس بن سهل إلى

المدينة وبعث عبدُ اللّه بن الزُّبير ابنَه حمزة عاملاً عَلَى البصرة فاستضعفه القومُ فبعث أخاه
مُصعب بن الزُّبير فقدم عليهم فقال‏:‏ يا أهل البصرة بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه
إني ألقَب لكم نفسي‏:‏ أنا القصَّاب‏.‏

خبر المختار بن أبي عبيد
ثم أرسل عبدُ اللّه بن الزبير إبراهيمَ بن محمد بن طلحة أميراً عَلَى الكوفة ثم عزله وأرسل
المختار بن أبي عُبيد‏.‏
وأرسل عبدَ الملك عبيدَ اللّه بن زياد إلى الكوفة‏.‏
فبلغ المختارَ إقبالُ
عبيد الله بن زياد فوجّه إليهم إبراهيم بن الأشتر في جيش فالتقوا بالجازِر وقَتل عبيدَ اللّه بن
زياد وحُصين بن نمير وذا الكَلاع وعامة من كان معهم‏.‏
وبعث برؤوسهم إلى عبد اللّه بن الزبير‏.‏

أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ حدٌثنا شرَيك بن عبد اللّه عن أبي الجُويرية الجَرْمي قال‏:‏ كنتُ فيمن
سار إلى أهل الشام يوم الجازِر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزَّاب فهبت الريحُ لنا عليهم
فأدبروا فقتلناهم عَشِيّتنا وليلتنا حتى أصبحوا‏:‏ فقال إبراهيم‏:‏ إني قتلت البارحة رجلاً
فوجدتُ عليه ريح طِيب فالْتَمِسوه فما أراه إلا ابن مَرْجانة‏.‏
فانطلقنا فإذا هو والله مَعْكوس
في بطن الوادي‏.‏

ولما التقى عُبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب قال‏:‏ مَن هذا الذي يُقاتلني قيل له‏:‏

إبراهيم بن الأشتر‏.‏
قال‏:‏ لقد تركته أمس صبيّا يلعب بالحَمام‏.‏
قال‏:‏ ولما قُتل ابن زياد بَعث
المختارُ برأسه إلى عليّ بن الحسين بالمدينة‏.‏
قال الرسول‏:‏ فقدمتُ به عليه انتصافَ النهار وهو
يتغدّى قال‏:‏ فلما رآه قال‏:‏ سبحان اللّه‏!‏ ما اغتر بالدًّنيا إلا مَن ليس للّه في عُنقه نِعْمة‏!‏ لقد
أدخل رأس أبي عبدِ اللّه على ابن زياد وهو يتغدّى‏.‏
وقال يزيد بن مُفَرّغ‏:‏
إنَّ الذي عاش ختّاراً بذمَّته وماتَ عَبداً قتيلُ الله بالزَّابِ
ثم إن المختار كتب كتاباً إلى ابن الزبير وقال لرسوله‏:‏ إذا جئت مكة فدفَعتَ كتابي إلى ابن
الزبير فأتِ المهديّ - يعني محمدَ بن الحفنية - فاقرأ عليه السلام وقل له‏:‏ يقول لك أبو إسحاق‏:‏
إني أحبك وأحب أهل بيتك‏.‏
قال‏:‏ فأتاه فقال له ذلك‏.‏
فقال‏:‏ كذبتَ وكذب أبو إسحاق
وكيف يُحبني ويُحب أهل بيتي وهو يُجلس عمر بن سعد عَلَى وسائده وقد قتل الحُسين‏!‏ فلما
قدم عليه رسولُه وأخبره‏.‏
قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه‏:‏ استأجر لي نوائح يَبكين
الحُسين على باب عمر بن سَعد ففَعل‏.‏
فلما بكيَن قال عمر لابنه حَفْص‏:‏ يا بني ايت الأمير
فقل له‏:‏ ما بالً النوائح يبكين الحسين على بابي فأتاه فقال له ذلك‏.‏
فقال‏:‏ إنه أهلٌ أن يُبكى
عليه‏.‏
فقال‏:‏ أصلحك اللهّ انههن عن ذلك‏.‏
قال‏:‏ نعم تم دعا أبا عمرو صاحبَ حَرسه قال
له‏:‏ اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه‏.‏
فأتاه فَقَام له‏:‏ قم إليّ أبا حفص‏.‏
فقام إليه وهو

مُلتحف بملحفة فجلّله بالسيف فقتله وجاء برأسه إلى المختار‏.‏
ثم قال‏:‏ ائتوني بابن عمر‏.‏
فلما
حضره قال‏:‏ أتعرف هذا قال‏:‏ نعم رحمه اللهّ‏.‏
قال‏:‏ أتحب أن نُلحقك به قال‏:‏ لا خير في
العَيش بعده‏.‏
فأمر به فضُرب عنقه‏.‏
ثم إن المختار لما قَتل ابنَ مَرْجانة وعمر بن سعد جعل يَتْبع
قتلة الحسين بن علي ومن خَذله فقتلهم أجمعين وأمر الحُسينية وهم الشيعة أن يطوفوا في أزقَّة
المدينة بالليل ويقولوا‏:‏ يا ثارات الحسين‏!‏ فلما أفناهم ودانت له العراق ولم يكن صادق النيَّة ولا
صحيحَ المذهب وإنما أراد أن يَستأصل الناس فلما أدرك بُغيته أظهر قُبح نيّته للناس فادّعى
أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من اللّه‏.‏
وكتب إلى أهل البصرة‏:‏ بلغني أنكم تُكَذبونني
وتكذبون رُسلي وقد كُذبت الأنبياء من قبلي ولست بخير من كثير منهم‏.‏
فلما انتشر ذلك
عنه كَتَب أهلُ الكوفة إلى ابن الزبير وهو بالبَصًرة فخرج إليه‏.‏
وبَرز إليه المختار فأسلمه
إبراهيمُ بن الأشتر ووُجوه أهل الكوفة فقتله مُصعب وقَتل أصحابَه‏.‏
أبو بكر بنُ أبي شَيبة قال‏:‏
قيل لعبد الله بن عمر‏:‏ إن المختار ليزعم أنه يوحَى إليه‏.‏
قال‏:‏ صَدق الشياطين يوحون إلى
أوليائهم‏.‏

وقَتل مصعبٌ من أصحاب المختار ثلاثةَ آلاف‏.‏
ثم حج سنة إحدى وسبعين
فقَدِم على أخيه عبد اللهّ بن الزبير ومعه وجوه أهل العراق فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد جئتُك

بوجوه أهل العراق ولم أدعْ لهم بها نظيراً فأعطهم من المال‏.‏
قال جِئتني بعبيد أهل العراق
لأعطيَهم من مال اللهّ وددتُ أنّ لي بكل عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام صَرْفَ الدينار
بالدرهم‏.‏
فلما انصرف مُصعب ومعه الوفدُ من أهل العراق وقد حِرمهم عبدُ الله بن الزبير ما
عنده فسدت قلوبهم فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله‏.‏
فيُ بن عبد
العزيز عن حجاج عن أبي معشر قال‏:‏ لما بَعث مُصعبٌ برأس المختار إلى عبد اللّه بن الزُّبير
فوُضع بين يديه قال‏:‏ ما مِن شيء حَدَثنيه كعبُ الأحبار إلا قد رأيتُه غيرَ هذا فإنه قال لي‏:‏
يَقتلك شاب من ثقيف فأراني قد قتلتُه‏.‏
وقال محمد بن سيرين لما بلغه هذا الحديث‏:‏ لم يعلم
ابنُ الزبير أنّ أبا محمد قد خُبىء له‏.‏
ولما قتل مصعب المختارَ بن أبي عُبيد ودانت له العراق
كلها‏:‏ الكوفة والبصرة
قال فيه عبيدُ اللهّ بن قيس الرّقيات‏:‏
كيف نَوْمي على الفِراش ولما تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعْوَاءُ
تُذْهلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدِي عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء
إنما مصعبٌ شهاب من الل ه تجلّت عن وَجْهه الظلْماء
وتزوج مُصعب - لما ملك العراقَ - عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحُسين ولم يكن لهما

نظير في زمانهما‏.‏
وقَتل مصعب امرأةَ المختار وهي ابنة النُّعمان بن بَشير الأنصاري فقال فيها
عمرُ بن أبي ربيعة المَخزومي‏:‏
إنَّ من أعظمِ المَصائب عندي قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول
قُتلت باطلاً على غير ذَنْب إن للّه دَرَّها مَن قَتيل
كُتب القَتل والقِتال عليناً وعلى الغَانيات جَرُ الذيول
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق
أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعشرِ قال‏:‏ لما قَدم مُصعب بوجوه أهل العراق على أخيه عبد
اللهّ بن الزُبير فلم يُعطهم شيئاً أبغضوا ابنَ الزُّبير وكاتَبوا عبد الملك بن مروان فخرج يُريد
مصعبَ بن الزبير فلما لِم أخذ في جَهازه وأراد الخُروج أقبلت عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية في
جَواريها وقد تزينت بالحُلى فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين لو قعدت في ظلال مُلكك ووجهت إليه
كلْباً من كلابك لكَفاك أمرَه‏.‏
فقال‏:‏ هيهات‏!‏ أما سمعت قولَ الأول‏:‏
قَوْمٌ إذا ما غَزَوْا شَدوا مآزرَهم دون النِّساء ولو باتت بأطْهارِ‏.‏

فلما أبى عليها وعَزم بكت وبكى معها جواريها‏.‏
فقال عبدُ الملك‏:‏ قاتل اللّه ابنَ أبي جُمعة
كأنه ينظر إلينا حيث يقول‏:‏

نهته فلما لم تَر النّهي عاقَه بَكت فَبكى مما دهاها قَطِينُها
ثم خرج يُريد مصعب فلما كان من دِمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشقَ
وخالف عليه فقيل له‏:‏ ما تصنعِ أتريد العراق وتَدع دمشق أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل
العراق فرجع مكانه فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سَعيد على أنه الخليفةُ بعدَه
وأن له مع كل عامل عاملا‏.‏
ففَتح له دمشق وكان بيت المال بيد عمرو بن سَعيد فأرسل إليه
عبدُ الملك‏:‏ أن أخْرِج للحَرس أرزاقهم‏.‏
فقال‏:‏ إذا كان لك حَرس فإنِّ لنا حَرساً أيضاً‏.‏
فقال
عبد الملك‏:‏ أخرج لحرسك أيضاً أرزاقَهم‏.‏
فلما كان يوم من الأيام أرسل عبدُ الملك إلى عمرو بن
سعيد نِصف النهارَ أن ائتني أبا أمية حتى أدبِّر معك أموراً‏.‏
فقالت له امرأته‏:‏ يا أبا أمية لا
تذهب إليه فإنني أتخوّف عليك منه‏.‏
فقال‏:‏ أبو الذباب‏!‏ واللّه لو كنت نائماً ما أيقظنِي‏.‏
قالت‏:‏
واللّه ما آمنُه عليك وإني لأجد ريح دم مَسْفوح‏.‏
فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه
فشجَّها‏.‏
فخرج وخرج مه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يُقدر على مثلهم مسلَحين
فأحدقوا بخَضراء دِمشق وفيها عبدُ الملك فقالوا‏:‏ يا أبا أُمية إن رابك رَيب فأَسمعنا صوتَك‏.‏

قال‏:‏ فدخل فجعلوا يصيحون‏:‏ أبا أمية‏!‏ أسمعنا صوتك وكان معه غلام أسحم شُجاع فقال
له‏:‏ اذهب إلى الناس‏!‏ فقل لهم‏:‏ ليس عليه بأس‏.‏
فقال له عبد الملك‏:‏ أمكراً عند الموت أبا

أمية‏!‏ خُذوه فأخذوه‏.‏
فقال له عبد الملك‏:‏ إني أقسمتُ إن أمكنتني منك يدٌ أن أجعل في
عُنقك جامعة وهذه جامعة من فِضَّة أريد أن أبِرّ بها قَسمي‏.‏
قال‏:‏ فطَرح في رقبته الجامعة ثم
طَرحه إلى الأرض بيده‏.‏
فانكسرت ثنيَته فجعل عبدُ الملك ينظر إليه‏.‏
فقال عمرو‏:‏ لا عليك يا
أمير المؤمنين عَظْم انكسر‏.‏
قال‏:‏ وجاء المُؤذنون فقالوا‏:‏ الصلاة يا أمير المؤمنين لصلاة الظهر
فقال لعبد العزيز بن مروان‏:‏ اقتله حتى أرجع إليك من الصلاة‏.‏
فلما أراد عبدُ العزيز أن يَضرب
عُنقه قال له عمرو‏:‏ نشدتُك بالرِّحم يا عبد العزيز أن لا تَقْتلني من بينهم فجاء عبدُ الملك فراه
جالساً فقال‏:‏ مالك لم تقتله‏!‏ لَعنك اللهّ ولعن أمَّا ولدتك‏.‏
ثم قال‏:‏ قَدِّموه إليّ فأخذ الحَرْبة
بيده فقال عمرو‏:‏ فعلتها يا بن الزَرقاء‏!‏ فقال له عبدُ الملك‏:‏ إني لو علمتُ أنك تَبقى ويَصْلح لي
ملكي لفديتُك بدم النَّاظر‏.‏
ولكن قلّما اجتمع فَحلان في ذَوْد إلا عدا أحدُهما على الآخر ثم
رفع إليه الحربة فقتله‏.‏
وقعد عبدُ الملك يُرْعَد ثم أمر به فأدرج في بساط وأدخل تحت السَرير‏.‏

وأرُسل إلى قَبيصة بن ذُؤيب الخُزاعيّ فدخل عليه فقال‏:‏ كيف رأيك في عَمرو بن سعيد
الأشدق قال‏:‏ وأبصر قبيصةُ رجلَ عمرو تحت السرير فقال‏:‏ اضرب عنقه يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ جَزاك اللّه خيراً أما علمتُ إنك لموفّق‏.‏
قال قبيصة‏:‏ اطْرح رأسه وانثُر على الناس الدَّنانير
يَتشاغلون بها‏.‏
ففعل وافترق الناس وهَرب يحيى بن سَعيد بن العاص حتى لحق بعبد اللهّ بن

الزُبير بمكة فكان معه‏.‏
وأرسل عبدُ الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان
يَستشيره وُيصْدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر فقال له‏:‏ ما ترى ما كان من فِعلي بعَمرو ابن
سعيد قال‏:‏ أمرٌ قد فات دَرَكه‏.‏
قال‏:‏ لتقولن‏.‏
قال‏:‏ حَزْم لو قتلتَه وحَييت أنت‏.‏
قالت‏:‏ أو
لستُ بحيّ قال‏:‏ هيهات‏!‏ ليس بحيّ من أوقف نفسَه موقفاً لا يُوثق منه بعهد ولا عَقد‏.‏
قال‏:‏
كلام لو تقدَّم سماعُه فِعلي لأمسكتُ‏.‏
ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ عمرو بن سعيد صَعد
المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إن عبد الملك بن مروان قتل لَطِيم الشيطان
كذلك نُولِّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون‏.‏

مقتل مصعب بن الزبير
فلما استقرت البيعةُ لعبد الملك بن مروان أراد الخُروج إلى مُصعب بن الزبير فجعل يَستنفر أهل
الشام فيُبطئون عليه فقال له الحجاجُ بن يوسف‏:‏ سَلطني عليهم فوالله لأخرجنَّهم معك‏.‏
قال
له‏:‏ قد سَلطتك عليهم‏.‏
فكان الحجَّاج لا يَمر على باب رجل منِ أهل الشام قد تخّلف عن
الخروج إلا أحرق عليه دارَه‏.‏
فلما رأى ذلك أهلُ الشام خرجوا وسار عبدُ الملك حتى دنا من
العراق‏.‏
وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة فالتقوا بين الشام والعراق‏.‏
وقد كان عبد الملك
كتب كُتباً إلى رجاله من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نَفسه ويَجعل لهم الأموال وكتب

إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك على أن يَخْذلوا مُصعبا إذا التقَوْا‏.‏
فقال إِبراهيم بن الأشتر
لمُصعب‏:‏ إن عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب وقد كتب إلى أصحابي بمثل ذلك فادعُهم
الساعةَ فاضرب أعناقَهم قال‏:‏ ما كنت لأفعل ذلك حتى يَستبين لي أمرهم‏.‏
قال‏:‏ فأخرى‏.‏
قال‏:‏
ما هي قال‏:‏ احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك‏.‏
قال‏:‏ ما كُنت لأفعل‏.‏
قال‏:‏ فعليك السلام وِالله
لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً‏.‏
وقد كان قال له‏:‏ دَعْني أدعو أهلَ الكوفة بما شرطه الله
فقال‏:‏ لا واللّه قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم‏!‏ قال‏:‏ فما هو إلا أن التَقوا فحولوا وُجوههم
وصاروا إلى عبد الملك‏.‏
وبقي مُصعب في شِرْذمة قليلة‏.‏
فجاءه عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان
وكان مع مُصعب فقال‏:‏ أين الناس أيها الأمير فقال‏:‏ قد غدرتم يا أهل العراق‏!‏ فرفع عُبيد اللّه
السيفَ ليضرب مُصعبا فبدره مُصعب فضربه بالسيف على البَيضة فنَشِب السيفُ في
البَيضة فجاء غلامُ لعُبيد اللّه ابن زياد بن ظَبيان فضرب مُصعبا بالسيف فقَتله‏.‏
ثم جاء عُبيدُ
اللّه برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول‏:‏
نُطيع مُلوك الأرض ما أقْسَطوا لنا وليس علينا‏.‏
قَتْلُهم بمُحَرم
قال‏:‏ فلما نظر عبدُ الملك إلى رأس مُصعب خَر ساجداً‏.‏
فقال عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان
وكان من فُتّاك العرب‏:‏ ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه برأس

مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم واحد‏.‏

وقال في ذلك عُبيد اللهّ ابن زياد بن ظَبيان‏:‏
هَممتُ ولم أفعل وكِدْتُ ولَيتني فعلتُ فأدْمنت البُكا لأقاربِه
فأوردتُها في النّار بكرَ بنَ وائلٍ وألحقتُ مَن قد خَرَّ شُكْراً بصاحبِه
الرياشي عن الأصمعي قال‏:‏ لما أُتي عبدُ الملك برأس مُصعب بن الزبير نظر إليه مليّاً ثم قال‏:‏
متى تَلد قُريش مثلَك‏!‏ وقال‏:‏ هذا سيّد شَباب قُريش‏.‏

وقيل لعبد الملك‏:‏ أكان مُصعب يَشرب الطَلاء فقال‏:‏ لو علم مُصعب أن الماء يُفسد مروءتُه ما
شرََبه‏.‏

ولما قُتل مُصعب دخل الناسُ على عبد الملك يُهنَئونه ودَخل معهم شاعرٌ فأنشده‏:‏
اللّه أعطاك التي لا فَوقَها وقد أراد المُلْحِدون عَوْقَها
عنك ويَأبَى اللًهُ سَوْقَها إليك حتى قَلّدُوكَ طَوْقها
فأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏
وقالوا‏:‏ كان مُصعب أجلَ الناس وأسخى الناس وأشجع الناس‏.‏
وكان تحته عَقيلتا قُريش‏:‏ عائشة بنت طلحة وسكَينةُ بنت الحسين‏.‏
ولما قُتل مُصعب خرجت
سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة فأطاف بها أهل العراق وقالوا‏:‏ أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ
رسول الله‏.‏
فقالت‏:‏ لا جزاكم الله عني خيراً ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد قتلتم أبي
وجدي وعمّي وزَوْجي أيتمتموني صغيرةً وأرملتموني كبيرة‏.‏
ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ
مصعب صَعِد المنبر فجلس عليه ثم سكت فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة فقال رجل من
قُريش لرجل إلى جنبه‏:‏ ماله لا يتكلم‏!‏ فوالله إنه لَلخطيب الَّلبيب‏.‏
فقال له الرجل‏:‏ لعلّه يريد أن
يَذْكر مَقتل سيّد العرب فيشتدِّ ذلك عليه وغير ملوم‏.‏
ثم تكلَم فقال‏:‏ الحمدُ لله الذي له الخَلقُ
والأمر والدنيا والآخرة يُؤتي المُلك مَن يشاء ويَنزع الملك ممن يشاء ويُعز من يشاء ويُذل مَن
يشاء أما بعد‏.‏
فإنه لم يَعِزّ مَن كان الباطل معه ولو كان معه الأنام طُراً ولم يَذِل من كان الحقّ
معه ولو كان فرداً‏.‏
ألا وإنّ خبراً من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا فأما الذي أحزننا فإنّ لفراق
الحميم لوعةً يجدها حميمهُ ثم يَرْعوى ذوو الألباب إلى الصبر وكريم الأجر وأما الذي أفرحنا
فإن قَتل مصعب له شهادةٌ ولنا ذَخيرة‏.‏
أسلمه الطغام والصلْم الآذان أهلُ العراق وباعوه بأقل
من الثمن الذي كانوا يأخذون منه فإن يُقتَل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه وكانوا الخيارَ
الصالحين‏.‏
أما والله لا نموت حتف أُنوفنا كما يموت بنو مروان ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت
ظلالِ السيوف فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر وإن تدْبر عني لم أبْك عليها
بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل‏.‏
ولما توطَّد لابن الزُبير أمرُه ومَلك الحرمين والعراقين أظهر بعضُ بني
هاشم الطعنَ عليه وذلك بعد موت الحسن والحسين فدعا عبدَ الله بن عبّاس ومحمدَ بن الحنفية
وجماعةً من بني هاشم إلى بيعته فأبَوْا عليه فجعل يَشْتمهم ويَتناولهم على المِنبر وأسقط ذكرَ
النبيّ صلى الله عليه وسلم من خُطبته فعُوتب على ذلك فقال‏:‏ واللّه ما يمنعني أني لا أذكره
علانية من ذِكْره سرّاً وأُصلّي عليه ولكن رأيتُ هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذِكْرَه
اشرأبت أعناقُهم وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم‏.‏
ثم قال‏:‏ لتبايعُنَ أو لأحرقنكم بالنار‏.‏
فأبوا
عليه فحبَس محمدَ بن الحنفية في خمسةَ عشر من بني هاشم في السجن وكان السجنُ الذي
حَبسهم فيه يقال له سِجن عارم‏.‏
فقال في ذلك كُثير عَزَّة وكان ابنُ الزُبير يُدعى العائذ لأنه عاذ
بالبيت‏:‏
تخبَرُ مَن لاقيتَ أنك عائذ بل العائذ المَظلوم يفي سِجْن عارِم
سَميُّ النبيّ المصطفى وابنُ عمه وفَكّاكُ أغلالٍ وقاضي مَغارم
وكان أيضاً يُدعى المحِلّ لإحلاله القِتال في الحَرم‏.‏
وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رَملة بنت
الزُّبير‏:‏
ألا مَن لِقَلْب مُعنَى غَزِلْ بذِكْر المُحِلّة أُخت المُحلّ
ثم إن المختارً بن أبي عُبيد وجّه رجالاً يثق بهم من الشِّيعة يَكْمنون النهارَ ويسيرون الليل

وخطب عبدُ اللّه بن الزبير بعد موت الحَسن والحُسين فقال‏:‏ أيها الناس إن فيكم رجلاً قد
أعمى اللّه قلبَه كما أعمى بصرَه قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم
وأفتى بزواج المُتعة‏.‏
وعبدُ اللّه بن عباس في المسجد فقام وقال لعِكرمة‏:‏ أقِم وَجْهي نحوه يا
عكرمة ثم قال هذا البيت‏:‏
إن يأخذ اللّهُ من عَيْنَيّ نورَهما ففي فُؤادِي وعَقْلي منهما نُورُ
وأما قولُك يا بن الزبير إني قاتلت أُمّ المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالُك وبنا سُمِّيت أُم
المؤمنين فكُنّا لها خيرَ بنين فتجاوزَ اللّه عنها‏.‏
وقاتلتَ أنت وأبوك عليّا فإن كان عليّ مؤمناً
فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين وإن كان كافراً فقد بؤُتم بسُخط من اللّه بفراركم من الزَّحف‏.‏
وأما
المُتعة فإني سمعتُ عليّ بن أبي طالب يقول‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص
فيها فأفتيتُ بها ثم سمعتهُ يَنهي عنها وأول مِجْمر سطَع في المُتعة مجمر آل الزبير‏.‏


مقتل عبد اللّه بن الزبير
أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعْشر قال‏:‏ لما بايع الناسُ عبدَ الملك بن مروان بعد قَتْل مُصعب
بن الزبير ودخل الكوفة قال له الحجّاج‏:‏ إني رأيتُ في المَنام كأني أسْلُخ ابنَ الزُّبير من رأسه إلى
قَدميه‏.‏
فقال له عبدُ الملك‏:‏ أنت له فاخرج إليه‏.‏
فخرج إليه الحجاج لا ألف وخمسمائة حتى
نزل الطائفَ‏.‏
وجعل عبدً الملك يُرسل إليه الجيوش رَسَلا بعد رَسَل حتى تَوافي إليه الناسُ
قدرَ ما يظن أنه يَقْوى على قتال ابن الزبيرِ وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين‏.‏
فسار
الحجاجُ من الطائف حتى نزل مِنَى فحجَّ بالناس وابنُ الزبير مَحصور ثم نَصب الحجاجُ المجانيق
على أبي قُبيس وعلى قُعيْقان ونواحي مكة كُلِّها يرمي أهلَ مكة بالحجارة‏.‏
فلما كانت الليلةُ
التي قُتل يا صبيحتها ابنُ الزبير جمع ابنُ الزبير مَن كان معه من القرشيين فقال‏:‏ ما ترون فقال
رجل من بني مخزوم مِن آل بني ربيعة‏:‏ واللّه لقد قاتلنا معك حتى لا نَجد مقيلًا ولئن صبرنا
معك ما نزيد على أن نموت وإنما هي إحدى خَصْلتين‏:‏ إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا
وإما أن تأذن لنا فَنخرج‏.‏
فقالت ابن الزبير‏:‏ لقد كنتُ عاهدتُ الله أن لا يبايعني أحدٌ فأُقيله
بيعتَه إلا ابن صفوان‏.‏
فقال ابن صفوان‏:‏ أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك وإنها

لتأخذني الحَفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة‏.‏
وقال له رجل آخر‏:‏ اكتب إلي عبد الملك بن
مروان‏.‏
فقال له‏:‏ كيف أكتب‏:‏ من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان فواللّه لا يَقبل
هذا أبداً أم أكتب‏:‏ لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير فواللّه لأن تقع
الخَضْراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك‏.‏
فقال عُروة بن الزُّبير وهو جالس معه على السرير‏:‏ يا
أمير المؤمنين قد جعل الله لك أُسوة‏.‏
قال‏:‏ من هو قال‏:‏ حسن بن عليّ خَلع نفسه وبايع
مُعاوية‏.‏
فرِفع ابنُ الزبير رِجْلَه فضرب بها عُروة حتى ألقاه عن السرِير وقال‏:‏ يا عروة قلبي إذاَ
مثلُ قَلبك‏!‏ واللّه لو قبلتُ ما تقولون ما عِشْت إلا قليلا وقد أخذت الدَنيَّة وإن ضربة بسيف
في عِزّ خيرٌ من لَطْمَة في ذُلّ‏.‏
فلما أصبح دخل عليه بعضُ نسائه وهي أُم هاشم بنت منصور
بن زياد الفَزارية فقال لها‏:‏ اصنعي لنا طعاماً فصنعت له كبداً وسَناماً‏.‏
فأخذ منه لُقمة
فلاكها ثم لفَظها ثم قال‏:‏ اسقوني لَبناً‏.‏
فأُتي بلبن فشرب منه‏.‏
ثم قال‏:‏ هَيِّئوا لي غُسلا فاغتسل
ثم تحنط وتَطيَّب ثم نام نومة وخَرج ودَخل على أمه أسماء بنت أبي بكر ذات‏.‏
النِّطاقين
وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة فقال‏:‏ يا أماه ما ترين قد خَذلني الناس وِخَذلني أهلُ
بيتي فقالت‏:‏ لا يلعبن بِك صِبيان بني أُمية عِشْ كريماً ومُت كريماً‏.‏
فخرج فأسند ظهرَه إلى
الكعبة ومعه نفرٌ يسير فجعل يُقاتلهم ويَهْزِمهم وهو يقول‏:‏ ويله‏!‏ يا له فتْحا لو كان له رجال‏!‏

فناداه الحجاج‏:‏ قد كان لك رجال فضيّعتَهم‏.‏
وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يَهْجُمون
عليه فيقول‏:‏ مَن هؤلاء فيقال له أهلُ مصر‏.‏
قال‏:‏ قَتلة عثمان‏!‏ فحمل عليهم وكان فيهم رجل
من أهل الشام يقال له خَلبوب فقال لأهل الشام‏:‏ أما تستطيعون إذا ولَّى ابنُ الزبير أن لأخذوه
بأيديكم قالوا‏:‏ وُيمكنك أنت أن تأخذَه بيدك قال نعم‏.‏
قالوا‏:‏ فشأنَك‏.‏
فاقبل وهو يريد أن
يَحتضنه وابنُ الزبير يَرتجز ويقول‏:‏
لو كان قِرْني واحداً كفيتُه
فضربه ابنُ الزبير بالسيف فقطع يده‏.‏
فقال خَلبوب‏:‏ حَس قال ابن الزبير‏:‏ اصبر خَلبوب‏.‏
قال‏:‏
وجاءه حجر من حِجارة المَنجنيق فأصاب قَفاه فسقط‏.‏
فاقتحم أهلُ الشام عليه‏.‏
فما فهموا
قتلَه حتى سمعوا جارية تَبكي وتقول‏:‏ وا أمير المؤمنيناه‏!‏ فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى الحجّاج‏.‏


وقُتل معه عبد اللّه بن صَفوان وعُمارة بن حَزم وعبد الله بن مُطيع‏.‏

قال أبو معشر‏:‏ وبعث الحجاجُ برؤوسهم إلى المدينة‏.‏
فنَصبوها للناس فجعلوا يُقرّبون رأسَ ابن
صفوان إلى ابن الزبير كأنه يسارّه ويَلعبون بذلك‏.‏
ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك بن مَروان‏.‏

فخرجت أسماء إلى الحجاج فقالت له‏:‏ أتأذن لي أن أدفنه فقد قضيتَ أربك منه قال‏:‏ لا‏.‏
ثم
قال لها‏:‏ ما ظنّك برجل قَتل عبدَ اللّه بن الزبير قالت‏:‏ حَسِيبُه اللهّ‏.‏
فلما منعها أن تدفنه

قالت‏:‏ أما إنّي سمعتُ رسول الله يقول‏:‏ يَخرج من ثقيف رجلاًن‏:‏ الكذاب والمُبير فأما الكَذاب
فالمُختار وأما المُبير فأنت‏.‏
فقال الحجاج‏:‏ اللهم مُبيرٌ لا كذّاب‏.‏
ومن غير رواية أبي عُبيد قال‏:‏
لما نَصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزُبير أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت
الصواعق ففزع الناس وامسكوا عن القتال‏.‏
فقام فيهم الحجاجُ فقال‏:‏ أيها الناس لا يهولنكم
هذا فإني أنا الحجاج بن يوسف وقد أصحرتُ لربِّي فلو ركبنا عظيماً لحال بيننا وبينه‏.‏

ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعقُ تنزل بها‏.‏
ثم أمر بكُرسيّ فطُرح له ثم قال‏:‏ يا أهل الشام
قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين‏.‏
فكان أهلُ الشام إذا رَموا الكعبة يَرْتَجزون ويقولون هذا‏:‏
خَطّارة مثل الفَتِيق المُزْبِد يُرمى بها عُوّاذ أهل المَسجد
ويقولون أيضاً‏:‏ دِري عُقاب بلبن وأشخاب‏.‏
فلما رأى ذلك ابن الزُّبير خرج إليهم بسيفه فقاتلهم
حيناً‏.‏
فناداه الحجِّاج‏:‏ ويلك يا بن ذات النَطاقين‏!‏ اقْبل الأمان وادْخل في طاعة أمير المؤمنين‏.‏

فدخل على أمه أسماء فقال لها‏:‏ سمعتِ - رحمك اللّه - ما يقول القومُ وما يَدْعونني إليه من
الأمان قالت‏:‏ سمعتُهم لعنهم الله‏!‏ فما أجهلهم وأعجب منهم إذ يُعيرُونك بذات النّطاقين‏!‏ ولو
علموا ذلك لكان ذلك أعظَم فَخرك عندهم‏.‏
قالت‏:‏ وما ذاك يا أماه قالت‏:‏ خرج رسولُ اللهّ
صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر فهيأت لهما سُفرة فطلبا شيئاً يَرْبطانها بها

فما وجداه فقطعتُ من مِئْزري لذلك ما احتاجا إليه فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏
أمَا إن لك به نِطاقين في الجنَة‏.‏
فقال عبد اللّه‏:‏ الحمد للّه حمداً كثيرِاً فما تأمريني به فإنهم قد
أعْطوني الأمان قالت‏:‏ أرى أن تموت كريماً ولا تتَّبع فاسقاً لئيماً وأن يكون آخر نهارك أكرمَ من
أوله‏.‏
فَقبَّل رأسها وودّعها وضمّته إلى نفسها‏.‏
ثم خرج من عندها فَصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنّ الموت قد تغشَاكم سحابُه وأحْدف بكم رَبابُه واجتمع بعد
تَفرّق وارجحنّ بعد تَمشّق ورَجَس نحوكم رعدُه وهو مُفْرغ عليكم وَدْقه وقاد إليكم البلايا
تَتْبعها المنايا فاجعلوا السيوفَ لها غرضاً واستعينوا عليها بِالصبر‏.‏
وتمثَّل بأبيات ثم اقتحم
يُقاتل وهو يقول‏:‏
قد جَدّ أصحابُك ضرْبَ الأعْناقْ وقامت الحربُ لها على ساقْ
ثم جعل يُقاتل وحده ولا يَهُدّه شيء كلما اجتمع عليه القومُ فرقهم وذادهم حتى أثخن
بالجراحات ولم يستطع النُّهوض‏.‏
فدخل عليه الحجّاج فدعا بالنَطع فحزّ رأسه هو بنفسه في
داخل مسجد الكعبة - لا رَحم اللّه الحجّاج - ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مَروان وقَتَل
من أصحابه مَن ظَفِر به‏.‏
ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزّيها فأذنت له
فقالت له‏:‏ يا حجّاج قتلتَ عبد الله قال‏:‏ يا ابنة أبي بكر إني لقاتلُ الملحدين‏.‏
قالت‏:‏ بل

أنت قاتل المُؤمنين الموحَدين‏.‏
قال لها‏:‏ كيف رأيتِ ما صنعتُ بابنك قالت‏:‏ رأيتك أفسدت
عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك ولا ضَير أنْ أكرمه اللّه على يَديك فقد أهدي رأس يحيى بن
زكريا إلى بَغيّ من بغايا بني إسرائيل‏.‏
هشامُ بن عُروة عن أبيه قال‏:‏ كان عُثمان استخلف عبد
اللّه بن الزُّبير على الدار يوم الدار فبذلك ادّعى ابنُ الزبير الخلافَة‏.‏
محمد بن سعيد قال‏:‏ لما
نَصب الحجاج رايةَ الأمان وتصرّم الناسُ عن ابن الزبير قال لعبد الله بن صَفْوان‏:‏ قد أقلتُك بيعتي
وجعلتُك في سَعة فخُذ لنفسك أماناً‏.‏
فقال‏:‏ مه والله ما أعطيتُك إياها حتى رأيتُك أهلاً لها
وما رأيتُ أحداً أولى بها منك فلا تَضربُ هذه الصلعةَ فتيانُ بني أمية أبداً وأشار إلى رأسه‏.‏

قال‏:‏ فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثَه فقال‏:‏ إني كنت لأراه أعرجَ جباناً‏.‏
فلما كانت
الليلة التي قُتل في صباحها ابنُ الزُّبير أقبل عبدُ اللّه بن صفوان وقد دنا أهلُ الشام من المسجد
فاستأذن‏.‏
فقالت الجاريةُ‏:‏ هو نائم‏.‏
فقال‏:‏ أو ليلةُ نوم هذه أيْقظيه فلم تَفعل‏.‏
فأقام ثم
استأذن‏.‏
فقالت‏:‏ هو نائم فانصرف‏.‏
ثم رجع آخرَ الليل وقد هجم القومُ على المَسجد‏.‏
فخرج
إليه فقال‏:‏ واللّه ما نِمْتُ منذُ عَقلت الصلاة نومي هذه الليلةَ وليلةَ الجمل ثم دعا بالسّواك
فاستاك متمكَناً ثم توضَّأ متمكناً ولبس ثيابَه ثم قال‏:‏ أنظرني حتى أودِّع أمَّ عبد اللّه فلم يَبقَ
شيء وكان يكره أن يأتيَها فتعزمَ عليه أن يأخذ الأمان فدخل عليها وقد كُفّ بصرُها فسلّم

فقالت‏:‏ مَن هذا فقال‏:‏ عبد الله فشمّته ثم قالت‏:‏ يا بُني مُت كريماً‏.‏
فقال لها‏:‏ إن هذا قد
أمّنني - يعني الحجاج - قالت‏:‏ يا بني لا تَرضَ الدنيَّة فإن الموت لا بُدّ منه‏.‏
قال‏:‏ إني أخاف
أن يُمثِّلِ بي‏.‏
قالت‏:‏ إن الكَبْش إذا ذُبح لم يأمن السلخ‏.‏
قال‏:‏ فخَرج فقاتل قتالاً شديداً‏.‏
فجعل
يَهْزِمهم ثم يَرجع ويقول‏:‏ يا له فتحاً لو كان له رجال‏!‏ أو كان المُصعب أخي حَيًّاً‏!‏ فلما حَضرت
الصلاة صلّى صلاته ثم قال‏:‏ أين باب أهل مصر حَنقاً لعثمان‏.‏
فقاتل حتى قتل وقُتل معه
عبدُ اللهّ بن صفوان‏.‏
وأتي برأسه الحجاجُ وهو فاتح عَينيه وفاه فقال‏:‏ هذا رجل لم يكن يعرف
القَتل ولا ما يَصير إليه المقتول لذلك فتح عَينيه وفاه‏.‏
هشام بن عُروة عن أبيه‏:‏ إن عبد اللهّ بن
الزُّبير كان أولَ مولود وُلد في الإسلام فلما وُلد كبّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولما
قُتل كبَر الحجاج ابن يوسف وأهلُ الشام معه‏.‏
فقال ابن عمر‏:‏ ما هذا قالوا‏:‏ كَبّر أهل الشام
لقتل عبد اللّه بن الزُّبير‏.‏
قال‏:‏ الذين كَبَروا لمولده خيرٌ من الذين كبَروا لقتله‏.‏
أيوب عن أبي قُلابة‏:‏
شهدتُ ابنةَ أبي بكر غَسّلت ابنها ابنَ الزُّبير بعد شهر وقد تقطعت أوصاله وذُهب برأسه
وكَفّنته وصلّت عليه‏.‏
هشام بن عُروة قال‏:‏ عبدُ اللّه بن عبَّاس للجائز به‏:‏ جَنِّبني خَشبة ابن
الزُّبير‏.‏
فلم يَشعر ليلة حتى عَثر فيها فقال‏:‏ ما هذا فقال‏:‏ خَشبة ابن الزبير‏.‏
فوقف ودعا له
وقال‏:‏ لئن عَلتْك رجلاك لطالما وقفتَ عليهما في صَلاتك‏.‏
ثم قال لأصحابه‏:‏ أما واللّه ما عرفتهُ

إلا صَوّاماً قَوّاماً ولكنني ما زلتُ أخاف عليه منذ رأيتهُ أن تُعجبه بَغلاتُ معاوية الشُهب‏.‏

قال‏:‏ وكان معاوية قد حَجّ فدخل المدينة وخلفه خمسَ عشرةَ بغلة شهباء عليها رحائل
الأرجوان فيها الجواري عليهن الجَلابيبُ والمُعَصفرات ففُتن الناس‏.‏

أولاد عبد الملك بن مروان
الوليد وسليمان من العَبْسية ويزيد وهشام وأبو بكر ومَسْلمة وسَعيد الخير وعبدُ اللّه
وعَنْبسة والحجاج والمُنذر ومَرْوان الأكبر ومَروان الأصغر - ولم يُعقب مروان الأكبر -
ومحمد ومُعاوية دَرَج‏.‏

وفاة عبد الملك بن مروان
توفّي عبد الملك بن مروان بدمشق للنِّصف من شوال سنة ست وثمانين وهو ابن ثلاث وستين
وصلّى عليه الوليد بن عبد الملك‏.‏
ووُلد عبدُ الملك في المدينة في دار مَروان سنة ثلاث
وعشرين وكتب عبدُ الملك إلى هشام بن إسماعيل المَخزوميّ وكان عاملَه على المدينة أن
يدعو الناسَ إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان‏.‏
فبايع الناسُ غيرَ سعيد بن المُسيِّب فإنه أبى
وقال‏:‏ لا أبايع وعبدُ الملك حيّ‏.‏
فضربه هشام ضرباً مُبرَحاً وألبسه المَسوح وأرسله إلى ثنيَّة
بالمدينة يَقتلونه عندها ويَصْلُبونه فلما انتهوا به إلى الموضع ردّوه‏.‏
فقال سَعيد‏:‏ لو علمتُ أنهم لا

يَصْلبونني ما لبستُ لهم التُّبّان‏.‏
وبلغ عبدَ الملك خبرهُ فقال‏:‏ قَبح اللّه هشاماً مِثل سعيد بن
المُسيِّب يُضرب بالسياط‏!‏ إنما كان ينبغي له أن يدعوَه إلى البَيعة فإن أب يَضْرب عنقه‏.‏
وقال
للوليد‏:‏ إذا أنا مِتُّ فَضعْني في قبري ولا تَعْصر في عَيْنيك عَصْر الأمة ولكن شَمِّر وائتزر
والبَس للناس جِلْد النمر فمن قال برأسه كذا فقُل بسَيْفك كذا‏.‏


ولاية الوليد بن عبد الملك
ثم بُويع للوليد بن عبد الملك في النِّصف من شوال سنة ست وثمانين‏.‏
وأم الوليد ولّادة بنت
العباس بن جَزْء بن الحارث بن زُهير بن جَذيمة العَبْسي‏.‏
وكان على شُرطته كَعْب بن حمّاد ثم
عَزله وولى أبا نائل بن رِياح ابن عَبدة الغساني‏.‏
ومات الوليد يوم السبت في النِّصف من شهر
ربيع الأول سنة ست وتسعين وهو ابن أربع وأربعين‏.‏
وصلّى عليه سليمان‏.‏
وكانت ولايته
عشرَ سنين غيرَ شهور‏.‏

ولد الوليد بن عبد الملك
عبد العزيز ومحمد وعَنْبسة ولم يُعْقِبوا - وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان -
والعباس وبه كان يُكنى ويقال‏:‏ إنه كان أكبرهم وعمر وبشر ورَوْح وتمّام ومبشر وحَزْم
وخالد ويزيد ويحيى وإبراهيم وأبو عُبيدة ومَسرور ومَنْصور ومَرْوان وصَدقة لأمهات
أولاد‏.‏
وأم أبي عُبيدة فَزارية‏.‏
وكان أبو عُبيدة ضَعيفاً‏.‏
وولي الخلافة من ولد الوليد إبراهيم
شهرين ثم خُلع‏.‏
وولي يزيد الكامل شهراً ثم مات‏.‏
وكان تمام ضعيفاً هجاه رجل فقال‏:‏
بنو الوليد كرامٌ في أرومتهمِ نالوا المكارمَ طُرًّا غيرَ تَمّام

ومَسرور بن الوليد وكان ناسكاً وكانت عنده بنتُ الحجاج‏.‏
وكان بِشْر من فتيانهم ورَوْح
من غلمانهم والعباس من فُرسانهم وفيه يقول الفرزدق‏:‏
إنَ أبا الحارث العباس نائله مثلُ السماك الذي لا يُخلِف المَطَرَا
وكانت تحته بنتُ قُطَريّ بن الفجاءة سباها وتزوجها‏.‏
وله منها‏:‏ المُؤمّل والحارث وكان عمر
من رجالهم كان له تسعون ولداً ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب‏.‏
وقال رجل من أهل
الشام‏:‏ ليس من ولد الوليد أحدٌ إلا ومَن رآه يَحسب أنه من أفضل أهل بيته ولو وُزن بهم
أجمعين عبدُ العزيز لرجحهم‏.‏
وفيهم يقول جرير‏:‏
وبنو الوليد مِن الوليد بمنزلٍ كالبدر حُفّ بواضحاتِ الأنجُم
وعبد العزيز بن الوليد أراد أبوه أن يُبايع له بعد سُليمان فأي عليه سليمان‏.‏
وحدّث الهيثم بن
عدي عن ابنٍ عياش قال‏:‏ لما أراد الوليدُ أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد سُليمان أبى ذلك سليمان
وشنِّع عليه فقيل للوليد‏:‏ لو أمرت الشعراء أن يقولوا في ذلك لعلّه كان يَسكت فتُشهد عليه
بذلك‏.‏
فدعا الأقبيل القَيني فقال له‏:‏ ارتجز بذلك وهو يَسمع‏.‏
فدعا سليمان فسايره والأقبيل
خلفه فرفع صوته وقال‏:‏
إنَ وليّ العَهد لابن أمه ثم ابنهُ وليّ عهد عمّه

يا ليتها قد خرجت من فمّه
فالتفت إليه سليمان وقال‏:‏ يا بن الخبيثة من رضي بهذا‏!‏

أخبار الوليد
أبو الحسين المدائني قال‏:‏ كان الوليد أسنَّ ولد عبد الملك وكان يُحبه فتراخَى في تأديبه لشدَة
حُبه إياه فكان لحّاناً‏.‏
وقال عبدُ الملك‏:‏ أضرَنا في الوليد حُبًّنا له‏.‏
فلم يُوجِّهه إلى البادية‏.‏
وقال
الوليد يوماً وعنده عُمر بن عبد العزيز‏:‏ يا غلام ادع لي صالح‏.‏
فقال الغلام‏:‏ يا صالحاً‏.‏
فقال له
الوليد‏:‏ انقص ألفاً‏.‏
فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ وأنت يا أمير المؤمنين فزِدْ ألفاً‏.‏
وكان الوليد عند
أهل الشام أفضلَ خلفائهم وأكثرَهم فُتوحا وأعظمَهم نفقة في سبيل اللّه بنى مسجدَ دمشق
ومسجدَ المدينة وَوضع المنابر وأعطىِ المجْذومين حتى أغناهم عن سُؤال الناس وأعطى كلِّ
مُقعد خادماً وكل ضرير قائداَ‏.‏
وكان يَمر بالبقَّال فيتناول قَبْضة فيقول‏:‏ بكمْ هذه فيقول‏:‏
بفَلْس فيقول‏:‏ زِدْ فيها فإنك تَربح‏.‏
ومَرَّ الوليدُ بمعلّم كُتَّاب فوجد عنده صَبيَّة فقال‏:‏ ما تَصنع
هذه عندك فقال‏:‏ أُعلّمها الكتابة والقرآن‏.‏
قال‏:‏ فاجعل الذي يُعلّمها أصغرٍ منها سناً‏.‏
وشكا
رجل من بني مخزوم دَيْناً لَزِمه فقال‏:‏ نَقْضيه عنك إن كُنت لذلك مُستحقّا‏.‏
قال‏:‏ يا أمير
المؤمنين وكيف لا أكوِن مُستحقًّا في مَنزلتي وقَرابتي قال‏:‏ قرأتَ القرآن قال‏:‏ لا‏.‏
ادْن مني فدنا
منه فنزع العِمامة عن رأسه بقَضيب في يده ثم قَرعه به قَرْعة وقال لرجل من جلسائه‏:‏ ضُمّ
إليك هذا العِلْج ولا تُفارقه حتى يَقرأ القرآن‏.‏
فقام إليه آخر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اقض دَيْني

فقال له‏:‏ أتقرأ القرآن قال‏:‏ نعم‏.‏
فاستقرأه عَشْراً من الأنفال وعَشْرا من براءة فقرأ‏.‏
فقال نعم
نَقضي دَينك وأنت أهلٌ لذلك‏.‏
وركب الوليدُ بعيراً وحادٍ يحدُو بين يديه والوليد يقول‏:‏
يا أيها البَكْر الذي أراكا ويحك تَعْلمُ الذي عَلاكا
خليفة الله الذي امتطاكا لم يُحْبَ بكْر مثلَ ما حباكا

ولاية سليمان بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني‏:‏ ثم بويع سُليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست وتسعين‏.‏
ومات سنة
تِسع وتسعين بدابِق يوم الجمعة لعشر خلون من صفر وهو ابنُ ثلاثٍ وأربعين‏.‏
وصلّى عليه عمرُ
بن عبد العزيز‏.‏
وكانت ولايتُه سنتين وعشرةَ أشهر ونصفاً‏.‏
وُلد سليمان فصيحاً جميلاً وسيماً
نشأ بالبادية عند أخواله بني عَبْس‏.‏
وكانت وِلايتُه يُمناً وبركة افتتحها بخير وختمها بخير‏.‏
أما
افتتاحه فيها بخير فردّ المظالم وأخرج المسجونين وبغَزاة مَسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ
القُسطنطينية‏.‏
وأما ختمها بخير فاستخلافُه عمرَ بن عبد العزيز‏.‏
ولبس يوماً واعتمّ بعمامة
وكانت عنده جارية حجازيّة فقال لها‏:‏ كيف تَرين الهيئة فقالت‏:‏ أنت أجملُ العرب لولا‏!‏
قال‏:‏ على ذلك لتقولِنِّ‏.‏
قالت‏:‏
أنت نِعْم المتاعُ لو كنتَ تَبْقى غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ
أنت خِلو من العُيوب ومما يكره الناسُ غير أنك فاني
قال‏:‏ فتنغّص عليه ما كان فيه فما لبث بعدها إلا أياماً حتى تُوفي رحمه الَلّه‏.‏
وتفاخر ولدُ
لعمر بن عبد العزيز وولدٌ لسليمان بن عبد الملك فذكر ولدُ عُمَر فضلَ أبيه وخالِه‏.‏
فقال له ولدُ

سُليمان‏:‏ إن شئتَ فأقْللْ وإن شِئتَ فأكثر فما كان أبوك إلا حسنةٌ من حسنات أبي‏.‏
محمد بن
سليمانَ قال‏:‏ فعل سُليمان في يوم واحد ما لم يَفعله عمرُ بن عبد العزيز في طول عمره‏:‏ أعتق
سبعين ألفاً ما بين مملوك ومملوكة وبتّتَهم أي كساهم‏.‏
والبَتُّ‏:‏ الكسوة‏.‏

ولد سليمان
أيوب وأمه أم أبان بنت الحَكم بن العاص وهو أكبر وَلد سليمان ووليّ عهده فمات في حياة
سليمان وله يقول جرير‏:‏
إنّ الإمام الذي ترجى فواضله بعد الإمام ولي العهد أيوبُ
وعبد الواحد وعبدُ العزيز أمهما أمُّ عامر بنت عبدا لله بن خالد بن أسيد‏.‏
وفي عبد الواحد
يقول القَضاميّ‏:‏
أهل المدينة لا يَحزُنْك حالهم إذا تَخطَأ عبدَ الواحد الأجلُ
قد يُدرك المتأنِّي بعضَ حاجته وقد يكون مع المُستعجل الزَّلل
ولما مات أيوب وليُّ عهد سليمان بن عبد الملك قال ابن عبد الأعلى يَرثيه وكان من خواصه‏:‏
ولقد أقولُ لذي الشَماتة إذ رَأى جَزَعي ومَن يَذُق الحوادثَ يَجزع
أبشرِ فقد قَرع الحوادثُ مروتي وأفْرَح بمَرْوتك التي لم تُقْرَع

أيوبُ مَن يَشْمَت بموتك لم يُطق عن نَفسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع

أخبار سليمان بن عبد الملك
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ لما بلغ قُتَيبَةَ بنَ مسلم أنّ سليمان بن عبد الملك عَزله عن خُراسان
واستعمل يزيدَ بن المهلب كتب إليه ثلاث صُحف وقال للرسول‏:‏ ادفع إليه هذه فإن دَفعها إلى
يزيد فادفع إليه هذه فإن شَتمني فادفع إليه هذه‏.‏
فلما سار الرسولُ إليه دفع الكتابَ إليه
وفيه‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كَيْتَ وكَيت‏.‏
فدفع كتابَه إلى يزيد‏.‏

فأعطاه الرسولُ الكتابَ الثاني وفيه‏:‏ يا أمير المؤمنين كيف تأمن ابنَ دَحْمة على أسرارك وأبوه
لم يَأْمنه على أمهات أولاده فلما قرأ الكتاب شَتمه وناوله ليزيد‏.‏
فأعطاه الثالثَ وفيه‏:‏ من قُتيبة
بن مُسلم إلى سليمان بن عبد الملك‏.‏
سلامٌ على من اتبع الهدى‏.‏
أما بعد‏.‏
فواللهّ لأوثقنَّ له أخيّةَ
لا ينزِعها المَهر الأرِن‏.‏
فلما قرأها قال سُليمان‏:‏ عَجّلنا على قُتيبة يا غلام جدِّد له عهداَ على
خُراسان‏.‏
ودخل يزيدُ بن أبي مُسلم كاتبُ الحجاج على سليمان‏.‏
فقال له سليمان‏:‏ أترى
الحجاج استقر في قَعْرِ جهنم أم هوِ يَهْوى فيها قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الحجاج يأتي يوم القيامة
بين أبيك وأخيك فضَعه من النار حيث شئت‏.‏
قال‏:‏ فأمر به إلى الحَبس فكان فيه طولَ
ولايته‏.‏
قال محمد بن يزيد الأنصاريّ‏:‏ فلما وَلي عمرُ بن عبد العزيز بعثني‏.‏
فأخرجتُ
مِن السجن مَن حَبسَ سليمان ما خلا يزيدَ بن أبي مُسلم فقد رُدِّ‏.‏
فلما مات عمرُ بن عبد

العزيز ولّاه يزيدُ بن عبد الملك إفريقية وأنا فيها فأخِذتُ فأتي بي إليه في شهر رمضان عند
الليل فقال‏:‏ محمد بن يزيد قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ الحمد للّه الذي مَكّنني منك بلا عَهد ولا عَقْد
فطالما سألتُ الله أن يُمكنني منك‏.‏
قلت‏:‏ وأنا واللّه طالما استعذت باللهّ منك‏.‏
قال‏:‏ فواللهّ ما
أعاذك اللّه منّي ولو أنَّ ملك الموت سابَقني إليك لسبقته‏.‏
قال‏:‏ فأقيمت صلاةُ المغرب فصلّى
ركعة فثارت عليه الجُند فقتلوه وقالوا لي‏:‏ خُذ أيّ طريق شئت‏.‏
وأراد سُليمان بن عبد الملك
أن يَحْجر على يزيد بن عبد الملك وذلك أنه تزوَج سُعدى بنت عبد اللّه بن عمرو بن عثمان
فأصدقها عشرين ألف دينار واشترى جارية بأربعة آلاف دينار‏.‏
فقال سليمان‏:‏ لقد هَممتُ
أن أضربَ على يد هذا السفيه ولكن كيف أصنع بوصيَّة أمير المؤمنين بابني عاتكة‏:‏ يزيد
ومروان‏!‏ وحبس سليمانُ بنُ عبد الملك موسى بنَ نُصير وأوحى إليه‏:‏ اغرم ديتك خمسين مرة‏.‏

فقال موسى‏:‏ ما عندي ما أغرمه‏.‏
فقال‏.‏
واللّه لتغرمنّها مائةَ مرة‏.‏
فحملها عنه يزيدُ بنِ المهلّب
وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلّب أيامَ بشْر بن مروان وذلك أن بشراَ هَمّ بالمهلّب فكتب
إليه مولى يُحذّره فتمارض المهلَب ولم يأته حين أرسل إليه‏.‏
وكان خالد بن عبد اللّه القَسريّ
والياً على المدينة للوليد ثم أقرّه سليمان وكان قاضي مكة طَلحةُ بن هَرم فاختصم إليه رجلٌ
من بني شَيبة الذين إليهم مفتاح الكعبة يقال له الأعجم مع ابن أخ له في أرض لهما فقضى

للشيخ على ابن أخيه وكان متَّصلاً بخالد بن عبد اللّه فأقبل إلى خالد فأخبره فحال خالد بين
الشيخ وبين ما قضى له القاضي‏.‏
فكتب القاضي كتاباً إلى سُليمان يشكو له خالداً ووجه
الكتاب إليه معِ محمد بن طلحة‏.‏
فكتب سُليمان إلى خالد‏:‏ لا سبيلَ لك على الأعجم ولا ولده‏.‏

فقدِم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال‏:‏ لا سبيلَ لك علينا هذا كتابُ أمير المؤمنين‏.‏

فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يُقرأ كتابُ سليمان‏.‏
فبعث القاضي ابنَه المضروب إلى
سليمان وبعث ثيابه التي ضُرب فيها بدمائها‏.‏
فأمر سليمان بقَطْع يد خالد‏.‏
فكلَّمه يزيدُ ابن
المهلب وقال‏:‏ إن كان ضربَه يا أمير المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تُقطع يده وإن كان ضَربه قبل
ذلك فَعفْو أمير المؤمنين أولى بذلك‏.‏
فكتب سُليمان إلى داود بن طلحة بن هرم‏:‏ إن كان ضَرب
الشيخَ بعدما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده وإن كان ضَرِبه قبل أن يَقرأ كتابي فاضربه
مائة سوط‏.‏
فأخذ داودُ بن طلحة لمّا قرأ الكتاب خالداً فضربه مائة سوط‏.‏
فَجزع خالد من
الضَّرب فجَعل يَرفع يديه‏.‏
فقال له الفرزدق‏:‏ ضُم إليك يديك يا بن النّصرانية‏.‏
فقال‏:‏ ليهنأ
الفرزدق وضَمّ يديه‏.‏
وقال الفرزدق‏:‏
لعمري لقد صُبّت على مَتن خالد شآبيبُ لم يُصْببن من صَبَب القطْرِ
فلولا يزيدُ بن المهلَب حلَقت بكفك فَتْخاء الجَناح إلى الوَكْر

لعمري لقد باع الفرزدقُ عِرضَه بخَسْف وصَلّى وجهَه حامِي الجَمرِ
فكيف يُساوي خالداً أو يَشينُه خَميصٌ من التقوى بَطين من الخَمر
وقال الفرِزدق أيضاً في خالد القَسريّ‏:‏
سلوا خالداً لا قدّس اللهّ خالداً متى مَلكت قَسْرٌ قريشاً تدينُها
أقبلَ رسول الله أو بعدَ عَهده فتلك قريش قد أغثَّ سَمينها
رَجَوْنا هُداه لا هَدى اللّه قلبَه وما أمه بالأمِّ يُهْدَى جَنينها
فلم يزل خالد محبوساً بمكة حتى حَج سليمان وكلمه فيه المُفضّلُ بن المهلَّب‏.‏
فقال سليمان‏:‏
لاطت بك الرحم أبا عثمان إنَ خالداً جَرعني غيظاً‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هبني ما كان من
ذنبه‏.‏
قال‏:‏ قد فعلتُ ولا بد أن يَمشي إلى الشام راجلًا‏.‏
فمشى خالدٌ إلى الشام راجلًا‏.‏
وقال
الفرزدق يمدحُ سليمان ابن عبد الملك‏.‏

سُليمان غَيّث المُمْحِلين ومَن به عن البائس المِسْكين حلَتْ سَلاسِلُه
وما قام من بَعد النبيّ محمدٍ وعُثْمانَ فوق الأرض راعٍ يماثلُه
جعلت مكان الجَوْر في الأرض مثلَه من العَدْل إذ صارت إليك محامله
وقد عَلموا أنْ لن يَميل بك الهَوى وما قلتَ منِ شيءٍ فإنك فاعله

زياد عن مالك‏:‏ إن سليمان بن عبد الملك قال يوماً لعمرَ بن العزيز‏:‏ كذبتَ‏!‏ قال‏:‏ واللّه ما
كذبتُ منذ شَدَدْتُ عليّ إزاري وإنّ في غير هذا المجلس لسَعة وقام مُغضباً فتجهّز يريد
مصر‏.‏
فأرسل إليه سليمان فدخل عليه فقال له‏:‏ يا بن عمّي‏.‏
إن المعاتبة تَشق عليّ ولكن
واللهّ ما أهمّني أمرٌ قط من دِيني ودنياي إلا كنتَ أولَ من أذْكره لك‏.‏

وفاة سليمان بن عبد الملك
قال رجاء بن حَيْوة‏:‏ قال لي سُليمان‏:‏ إلى من تَرى أن أعهد فقلتُ‏:‏ إلى عمر بن عبد العزيز‏.‏

قالت‏:‏ كيف نصنع بوصية أمير المؤِمنين بابني عاتكة مَن كان منهما حيا قلتُ‏:‏ تجعل الأمرَ
بعده ليزيد‏.‏
قالت‏:‏ صدقت‏.‏
قال‏:‏ فكتب عهدَه لعمر ثم ليزيد بعده‏.‏
ولما ثَقُل سليمانُ قال‏:‏
ائتوني بقُمُص بَني أنظر إليها‏.‏
فأتي بها فنَشرها فرآها قصاراً فقال‏:‏
إن بَني صِبْيَةٌ صِغَار أفلح مَن كان له كِبار
فقال لَه عمر‏:‏ أفلحَ مَنْ تَزَكَى‏.‏
وذَكَر اسم ربّه فصَلّى‏.‏

وكان سببُ موت سليمان بن عبد الملك أنَّ نصرانياً أتاه وهو بدابق بزِنْبيل مملوء بَيضاً وآخر
مَملوء تِيناً‏.‏
قال‏:‏ قشَروا فقَشرّوا‏.‏
فجعل يأكل بَيضة وتينة حتى أتى على الزِّنبيلين‏.‏
ثم أتوه
بقَصْعة مملوءة مُخا بسُكر فأكله فأتخم فَمرض فمات‏.‏
ولما حَجَّ سليمانُ تأذَى بحرّ مكة فقال له

عمرُ بن عبد العزيز‏:‏ لو أتيتَ الطائف‏.‏
فأتاها فلما كان بسَحقْ لَقِيه ابنُ أبي الزُّهير فقال‏:‏ يا
أميرَ المؤمنين
اجعل بعض منزلك عليّ‏.‏
قال‏:‏ كُل مَنزلي فرمى بنفسه على الرمل‏.‏
فقِيل له‏:‏ يُساق إليك
الوِطاء فقال‏:‏ الرمل أحدث إلي وأعجبه برده فألزق بالرَّمل بطنَه‏.‏
قال‏:‏ فأتي إليه بخَمْس
رُمَّانات فأكلها ثم قال‏:‏ أعندكم غيرُ هذه فجعلوا يأتونه بخَمْس بعد خَمس حتى أكل سَبْعين
رُمَّانة‏.‏
ثم أتوْه بجَدْي وستْ دجاجات فأكلهن‏.‏
وأتوه بزَبيب من زَبيب الطائف فنُثر بين يديه
فأكل عامَّته ونَعس‏.‏
فلما انتبه أتَوْه بالغداء فأكل كما أكل الناس‏.‏
فأقام يومَه ومن غد قال
لعمر‏:‏ أرانا قد أضرْرنا بالقوم‏.‏
وقال لابن أبي الزُّهير‏:‏ اتْبعني إلى مكة فلم يَفعل‏.‏
فقالوا له‏:‏ لو
أتيتَه فقال‏:‏ أقول ماذا‏:‏ أعْطِني ثمن قِراي الذي قريتُكه‏!‏ العُتبي عن أبيه عن الشَّمردل وكيل آل
عمرو بن العاص قال‏:‏ لما قَدِمٍ سليمان بن عبد الملك الطائفَ دَخل هو وعمر بن عبد العزيز
وأيوب ابنه بستانا لعمرو‏.‏
قال‏:‏ فجال في البستان ساعةً ثم قال‏:‏ ناهيك بمالِكم هذا مالاً‏!‏ ثم
ألْقى صدرَه على غُصن وقال‏:‏ ويلك يا شَمَرْدل‏!‏ ما عندك شيء تُطعمني قلت‏:‏ بلى والله
عندي جَدْي كانت تَغدو عليه بقرة وتروح أخرى‏.‏
قال‏:‏ عجٌل به ويحك‏!‏ فأتيتُه بن كأنه عُكٌة
سَمْن فأكله وما دعا عُمَرَ ولا ابنه حتى إذا بَقي الفَخِذ قال‏:‏ هلم أبا حَفْص‏.‏
قال‏:‏ أنا صائم

فأتى عليه‏.‏
ثم قال‏:‏ ويلك يا شَمَرْدل‏!‏ ما عندك شيء تُطعمني قلت‏:‏ بلى واللّه دَجاجتان
هِنْديتان كأنهما رَألا النعام فأتيتُه بهما فكان يأخذ برجل الدجاجة فيُلقى عظامَها نقية حتى
أتى عليهما‏.‏
ثم رفع رأسَه فقال‏:‏ وبلك يا شَمَرْدل‏!‏ ما عندك شيء تُطعمني قلت‏:‏ بلى
عندي حَريرة كأنها قُراضة ذهب‏.‏
قال‏:‏ عَجِّل بها ويلك‏!‏ فأتيتُه بعُس يَغيب فيه الرأس فجعل
يَتَلَقَّمها بيده ويَشرب‏.‏
فلما فرغ تجشَّأ فكأنما صاح في جُب‏.‏
ثم قال‏:‏ يا غلام أفرغِتَ من
غَدائي قال نعم‏.‏
قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ ثمانون قِدْراً‏.‏
قال‏:‏ ائتني بها قِدْراً قدراً‏.‏
قال‏:‏ فأكثرُ ما
أكل مِن كل قدر ثلاث لُقم وأقل ما أكل لقمة‏.‏
ثم مسح يده واستلقى على فِراشه ثم أذن
للناس ووُضعت الخِوانات وقَعد يأكل فما أنكرتُ شيئاً من أكْله‏.‏


خلافة عمر بن عبد العزيز
المدائني قال‏:‏ هو عمرُ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم وكُنيته أبو حَفْص‏.‏
وأمه أم عاصم
بنت عاصم بن عمر بن الخطاب‏.‏
وولي الخلافةَ يوم الجُمعة لعشر خَلْون من صَفر سنة تسع
وتسعين‏.‏
ومات يومَ الجمعة لستٍّ بقين من رَجب بدَيْرِ سِمْعان من أرض دِمَشق سنة إحدى
ومائة وصَلّى عليه يزيدُ بن عبد الملك‏.‏
علي بن زيد قال‏:‏ سمعتُ عمرَ بن عبد العزيز يقوله‏:‏
تمَت حُجّة اللّه على ابن الأربعين‏.‏
ومات لها‏.‏
وكان على شرطته يزيدُ بن بَشير الكِنانيّ‏.‏
وعلى
حرسه عمرو بن المُهاجر ويقال‏!‏ أبو العباس الهِلالي‏.‏
وكان كاتبَه على الرسائل ابنُ أبي رُقَيَّة
وكاتبه أيضاً إسماعيل بن أبي حَكيم‏.‏
وعلى خاتَم الخلافة نُعيم ابن أبي سَلامة‏.‏
وعلى الخراج
والجُند صالحُ بن أبي جُبير‏.‏
وعلى إذْنه أبو عُبيدة الأسود مولاه‏.‏
يعقوب بن داود الثَّقفي عن
أشياخ من ثَقيف قال‏:‏ قُرىء عهدُ عُمر بالخلافة وعُمر من ناحية فقام رجلٌ من ثقيف يقال له‏:‏
سالم من أخوال عمر فأخذ بضَبْعيه فأقامه‏.‏
فمال عمر‏:‏ أما والله ما الله أردتَ بهذا ولن
تُصيب بها مني ديناً‏.‏
أبو بِشر الخُراساني قال‏:‏ خَطب عمرُ بن عبد العزيز الناسَ حين استُخلف
فقال‏:‏ أيها الناس والله ما سألتُ الله هذا الأمرَ قَط في سر ولا علانية فمن كان كارهاً لشيء

مما وليتُه فالآن‏.‏
فقال سعيدُ بن عبد الملك‏:‏ ذلك أسرعُ فيما تَكره أتريد أن نَخْتَلف ويضرب
بعضُنا بعضاً قال رجل‏:‏ سبحان اللّه‏!‏ وليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يقولوا هذا ويقوله
عُمر‏!‏

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:49 AM

أخبار عمر بن عبد العزيز
بِشر بن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ كان عمر يخلو بنفسه ويَبْكي فنَسمع نَحيبَه بالبكاء وهو يقول‏:‏
أبعدَ الثلاثة الذين واريتهم بيدي‏:‏ عبدِ الملك والوليد وسليمان‏!‏ وقدم رجلٌ من خراسان على
عمرَ بن العزيز حين استُخلف فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إني رأيتُ في منامي قائلًا يقول‏:‏ إذا ولي
الأشجّ من بني أمية يملأ الأرضَ عدلًا كما مُلئت جَوراً‏.‏
فولي الوليدُ فسألتُ عنه فقيل لي‏:‏
ليس بأشجّ ثم ولي سليمان فسألتُ عنه فقيل‏:‏ ليس بأشجّ‏.‏
ووليتَ أنت فكنت الأشجّ‏.‏

فقال عمر‏:‏ تقرأ كتابَ الله قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فبالذي أنعم به عليك أحق ما أخبرتني قال‏:‏
نعم‏.‏
فأمره أن يُقيم في دار الضِّيافة‏.‏
فمكث نحواً من شهرين ثم أرسل إليه عمر فقال‏:‏ هل
تَدري لم احتبسناك قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ أرسلتُ إلى بلدك لنسألَ عنك فإذا ثناءُ صديقك وعدوّك
عليك سواء فانصرفْ راشداً‏.‏
وكان عمرُ بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئاً ولا
يُجري على نفسه من الفيء درهماً‏.‏
وكان عمرُ بن الخطاب يُجري على نفسه من ذلك دِرْهمين
في كلّ يوم‏.‏
فقيل لعمر بن عبد العزيز‏:‏ لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطاب فقال‏:‏ إنّ عمر
بن الخطاب لم يكن له مال وأنا مالي يُغنيني‏.‏
ولما ولي عمرُ بن عبد العزيز قام إليه رجل فقال‏:‏ يِا
أمير المؤمنين أعدِني على هذا وأشار إلى رجل‏.‏
قال فيم قال‏:‏ أخذ مالي وضرب ظهري‏.‏

فدعا به عمر فقال‏:‏ ما يقول هذا قال صَدق إنه كتب إليّ الوليدُ بن عبد الملك وطاعتُكم
فريضة‏.‏
قال‏:‏ كذبتَ لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله وأمر بالأرض فرُدتْ إلى صاحبها‏.‏

عبدُ اللّه بن المُبارك عن رجل أخبره قال‏:‏ كنتُ مع خالد بن يزيد بن معاوية في صَحن بيت
المَقدس فلقينا عمرُ بن عبد العزيز ولا أعرفه فاخذ بيد خالد وقال‏:‏ يا خالد أعلينا عَين
قلتُ‏:‏ عليكما من الله عينٌ بَصيرة وأذن سميعة‏.‏
قال‏:‏ فاستلّ يدَه من يد خالد وأرعد ودَمعت
عيناه ومَضى‏.‏
فقلت لخالد‏:‏ مَن هذا قال‏:‏ هذا عمرُ بن عبد العزيز إن عاش فيُوشك أن
يكون إماماً عدلًا‏.‏
وقال رياح بن عُبيدة‏:‏ اشتريتُ لعمر قبل الخلافة مُطرَفا بخمسمائة
فاستخشنه وقال‏:‏ لقد اشتريتَه خَشناً جداً واشتريت له بعد الخلافة كِساء بثمانية دراهم
فاستلانه وقال‏:‏ اشتريتَه ليِّناً جداً‏.‏
ودخل مسلمةُ بن عبد الملك على عمر وعليه رَيْطة من
رياط مصر فقال‏:‏ بكم أخذت هذه يا أبا سعيد قال‏:‏ بكذا وكذا‏.‏
قال‏:‏ فلو نقصتَ من ثمنها
ما كان ناقصاً من شرَفك‏.‏
فقال مسلمة‏:‏ إنّ الاقتصاد ما كان بعد الجدَة وأفضلَ العَفو ما كان

بعد القُدْرة وأفضلَ اللِّين ما كان بعد الولاية‏.‏
وكان لعمرَ غلامٌ يقال له دِرْهم يحتطب له فقال
له يوماً‏:‏ ما يقول الناس يا دِرْهم قال‏:‏ وما يقولون الناسُ كلهم بخير وأنا وأنت بشرّ‏.‏
قال‏:‏
وكيف ذلك قال‏:‏ إني عهدتُك قبل الخلافة عَطِراً لبّاساً فاره المَرْكب طَيّب الطعام فلما
وليتَ رجوتُ أن أستريح وأتخلّص فزاد عملي شدّة وصِرْتَ أنت في بلاء‏.‏
قال‏:‏ فأنت حُر
فاذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعلَ اللّه لي منه مخرجاً‏.‏
ميمون بن مهران قال‏:‏ كنتُ
عند عمرِ فكثُر بكاؤه ومسألتُه ربَّه الموت فقلت‏:‏ لمَ تسأل الموت‏!‏ وقد صَنع اللّه على يديك
خيراً كثيراً أحْيا بك سُننا وأمات بك بِدَعا‏.‏
قال‏:‏ أفلا أكون مثل العَبد الصالح حين أقرّ الله عينَه
وجَمع له أمره قال‏:‏ ‏"‏ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏"‏‏.‏
ولما وَلي عمرُ بن عبد
العزيز قال‏:‏ إن فَدك كانت مما أفاء الله على رسوله فسألتها فاطمةُ رسولَ اللهّ‏.‏
فقال لها‏:‏ ما
لَكِ أن تَسأليني ولا لي أن أعطيك‏.‏
فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصطنع فيها حيث
أمره اللهّ‏.‏
ثم وَلي أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يضعونها المواضعَ التي وَضعها رسولُ اللهّ صلى
الله عليه وسلم‏.‏
ثم وَلي معاوية فأقطعها مروانَ ووَهبها مروانُ لعبد الملك وعبدِ العزيز
فقسمناها بيننا أثلاثاً أنا والوليد وسليمان‏.‏
فلما ولي الوليدُ سألتُه نصيبَه فوهبه لي وما كان لي
مالٌ أحب إلي منها وأنا أشهدكم أني قد رددتُها إلى ما كانت عليه على عهد رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم‏.‏
وقال عمر‏:‏ الأمور ثلاثة أمر استبان رُشدُه فاتبِعْه وأمر استبان ضره
فاجتنبْه وأمر أشكل أمرهُ عليك فرُدّه إلى اللّه‏.‏
وكتب عمر إلى بعض عُماله‏:‏ الموالي ثلاثة‏:‏ مَولى
رَحِم ومولى عَتاقة ومولى عَقد فمولى الرحم يَرث ويُورَث ومولى العَتاقة يُورَث ولا يَرِث
ومولى العقد لا يَرث ولا يُورث وميراثه لعصبته‏.‏
وكتب عمر إلى عُمَّالة‏:‏ مُرُوا مَن كان على غير
الإسلام أن يَضعوا العمائم ويَلبسوا الأكسية ولا يَتشبهوا بشيء من الإسلام ولا تتركوا أحداً من
الكُفار يستخدم أحداً من المسلمين‏.‏
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عَدِيّ بن أرطاة عامِله علِي
العراق‏:‏ إذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرةَ الخالق القادر عليك واعلم أن مالَكَ عند
الله أكثرُ مما لك عند الناس‏.‏
وكتب عمرُ بن عبد العزِيز إلى عُمَّاِله‏:‏ مُروا من كان قِبَلكم فلا
يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم صغيراً ولا كبيراً وذكراً ولا أنثى إلا أخرج عنه صدقَة
فِطر رمضان‏:‏ مُدين من قمح أو صاعاً من تمر أو قيمة ذلك نصفَ درهم‏.‏
فأما أهل العطاء
فيُؤخذ ذلك من أعطياتهم عن أنفسهم وعيالاتهم‏.‏
واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة
يَقْبضان ما اجتمع من ذلك ثم يُقسّمانه في مَساكين أهل الحاضرة‏.‏
ولا يُقسّم على أهل البادية‏.‏

وكتب عبدُ الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر‏:‏ إنّ رجلاً شَتمك فأردتُ أن أقتله‏.‏
فكتب إليه‏:‏ لو

قَتلته لأقدتك به فإنه لا يُقتل أحد بشتم أحد إلا رجل شَتم نبيًّا‏.‏
وكتب رجل من عُمَّال عمر
إلى عمر‏:‏ إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت على الماء فما تَرى فيها فكتب إليه‏:‏
لسنا من الماء في شيء إن قامت عليها بيّنة وإلا خَلَ سبيلها‏.‏
كان عمرُ بن عبد العزيز يكتب
إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن عامِله علىِ المدينة في المظالم فيُرادّه فيها‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إنه يُخيل
لي أني لو كتبتُ لك أن تُعطِيَ رجلاً شاة لكتبت إلى‏:‏ أذكر أم أنثى ولو كتبتُ إليك بأحدهما
لكتبت إلي‏:‏ أصغيرة أم كبيرة ولو كتبتُ بأحدهما لكتبتَ‏:‏ ضائنة أم معز فإذا كتبت إليك
فنفّذ ولا تَردّ عليّ‏.‏
والسلام‏.‏
وخطب عمرُ فقال‏:‏ أيها الناس لا تستصغروا الذنوب والتمسوا
تمحيص ما سَلف منها بالتوبة منها‏.‏
إنَّ الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏.‏
وقال
عز وجل‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏"‏‏.‏
وقال عمر لبني مَروان‏:‏ أدُوا ما في أيديكم
من حُقوق الناس ولا تُلْجِئوني إلى ما أكره فأحْمِلَكم على ما تكرهون‏.‏
فلم يُجبه أحد منهم‏.‏
فقال‏:‏ أجيبوني‏.‏
فقال رجل منهم‏:‏ والله لا نُخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا فنُفقِرَ
أبناءنا ونُكَفِّرَ آباءنا حتى تُزايلَ رؤوسنا أجسادَنا‏.‏
فقال عمر‏:‏ أما واللهّ لولا أن تَستعينوا عليِّ
بمن أطلب هذا الحق له لأضرعتُ خُدودكم عاجلاً ولكنني أخاف الفتنة ولئن أبقاني الله
لأردّن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله‏.‏
وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية قال‏:‏ إني أرى
رقاباً ستُرد إلى أربابها‏.‏
ولما مات عمر بن عبد العزيز قَعد مسلمة على قبره فقال‏:‏ أما واللّه ما
أمِنْتُ الرِّق حتى رأيتُ هذا القبر‏.‏
العُتبي قال‏:‏ لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دَفن سُليمان
بن عبد الملك تَبعه الأمويون فما دَخلوا إلى منزله قال له الحاجب‏:‏ الأمويون بالباب‏.‏
قال وما
يريدون قال‏:‏ ما عَوَّدتْهم الخلفاءُ قبلك‏.‏
قال ابنُه عبدُ الملك وهو إذ ذاك ابنُ أربعَ عشرة سنة‏:‏
ائذن لي في إبلاغهم عنك‏.‏
قال‏:‏ وما تُبلغهم قال‏:‏ أقول‏:‏ أبي يُقرئكم السلام ويقول لكم‏:‏ إني
أخافُ إن عصيت ربي عذابَ يوم عَظيم‏.‏

زياد عن مالك قال‏:‏ قال عبدُ الملك بن عمرَ بن عبد العزيز لأبيه‏:‏ يا أبتِ مالك لا تْنفذ الأمور
فوالله ما أبالي لو أن القُدور غَلت بي وبك في الحق‏.‏
قال له عمر‏:‏ لا تَعجل يا بنيّ فإن الله ذَم
الخمر في القرآن مرتين وحَرَّمها في الثالثة وأنا أخاف أن أحمل الحقّ على الناس جملةً فيدفعونه
جُمْلة ويكونَ من ذلك فتنة‏.‏
ولما نزل بعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر‏:‏
كيف تجدك يا بُني قال‏:‏ أجدني في الموت فاحتسبني فثوابُ اللّه خيرٌ لك مني‏.‏
فقال‏:‏ يا بني
ولله لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكونَ في ميزانك‏.‏
قال‏:‏ أما والله لأن يكونَ ما تحب
أحب إلي من أن يكون ما أحب ثم مات‏.‏
فلما فَرغٍ من دفنه وقف على قبره وقال‏:‏ يَرحمك الله

يا بني فلقد كنت سارَّا مولوداً وبارَّا ناشئاً وما أحب أني دعوتُك فأجبتَني فرحم الله كل
عبد من حُر أو عبد ذكر أو أنثى دعا له برحمة وكان الناس يترحّمون على عبد الملك ليدخلوا
في دَعوة عمرِ - ثم انصرف‏.‏
فدخل الناسُ يُعزّونه فقال‏:‏ إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم نزل
نعْرفه فلما وَقع لم نُنكره‏.‏
وتُوفِّيت أختٌ لعمر بن عبد العزيز فلما فَرغ من دَفنها دنا إليه رجل
فعزّاه فلم يردّ عليه ثم آخر فلم يردّ عليه‏.‏
فلما رأى الناس ذلك أمسكوا ومشوا معه‏.‏
فلما
دخل الباب أقبل على الناس بوجهه فقال‏:‏ أدركتُ الناسَ وهم لا يُعزَّون في المرأة إلا أن تكون
أمًّا‏.‏


وفاة عمر بن عبد العزيز
مَرض عمرُ بن عبد العزيز بأرض حِمْص ومات بدير سِمعان فيرى الناس أنّ يزيدَ بن عبد
الملك سمّه دسّ إلى خادم كان يخدُمه فوضع السمّ على ظِفْر إبهامه فلما استسقى عمر غَمس
إبهامَه في الماء ثم سَقاه فمرض مرضَه الذي مات فيه‏.‏
فدخل عليه مَسلمةُ بن عبد الملك فوقف
عند رأسه فقال‏:‏ جزاك الله يا أمير المُؤمنين عنّا خيراً فلقد عطفتَ علينا قلوباً كانت عنّا نافرة‏:‏
وجعلتَ لنا في الصالحين ذكراً‏.‏
زياد عن مالك قال‏:‏ دَخل مسلمةُ بن عبد الملك على عمر بن
عبد العزيز في المَرْضة التي مات فيها فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك فطمتَ أفواه ولدك عن هذا
المال وتركتَهم عالة ولا بدّ لهم من شيء يُصلحهم فلو أوصيتَ بهم إليّ أو إلى نظرائك من أهل
بيتك لكفيتُك مؤونتهم إن شاء اللّه‏.‏
فقال عمر‏:‏ أجلسوني فأَجلسوه فقال‏:‏ الحمدُ للّه أبالفَقْر
تُخوفني يا مَسلمة أما ما ذكرت أني فطمتً أفواه ولدي عن هذا المال وتركتُهم عالة فإني لم
أمنعهم حقًا هو لهم ولم أعطُهم حقّا هو لغيرهم وأما ما سألتَ من الوَصاة إليك أو إلى نُظرائك
من أهل بيتي فإن وصيّتي بهم إلى الله الذي نزّل الكتابَ وهو يتولى الصالحين وإنما بنو عمر أحد
رجلين‏:‏ رجل اتقى الله فجعل اللهّ له من أمره يُسراً ورَزقه من حيثُ لا يحتسب ورجل غيّر
وفَجر فلا يكون عُمَرُ أوّلَ من أعانه على ارتكابه ادعوا إلى بَنيّ‏.‏
فدَعوهم وهم يومئذ اثنا

عشرَ غلاماً فجعل يُصَعّد بصره فيهم ويصوِّبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع ثم قال‏:‏ بنَفسي
فِتْيةً تركتهم ولا مالَ لهم‏.‏
يا بَنيّ إني قد تركتكم من اللهّ بخير إنكم لا تمرون على مُسلم ولا
مُعاهد إلا ولكم عليه حقّ واجب إن شاء اللهّ يا بَني‏:‏ مَثَّلت رأي بين أن تَفتقروا في الدنيا وبين
أن يَدخل أبوكم النار فكان أن تَفتقروا إلى آخر الأبد خيراً من دُخول أبيكم يوماً واحداً في
النار قُوموا يا بني عصمكم اللهّ ورَزقكم‏.‏
قال‏:‏ فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر‏.‏
واشترى عمرُ بن عبد العزيز من صاحب دَيْر سمعان موضعَ قبْره بأربعين درهماً‏.‏
ومرض تسعةَ
أيام‏.‏
ومات رضى اللّه عنه يومَ الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة‏.‏
وصلى عليه
يزيدُ بن عبد الملك‏.‏

وقال جريرُ بن الحَطفى يرثى عمرَ بن عبد العزيز‏:‏
يَنْعَى النُّعاةُ أميرَ المؤمنين لنا يا خير مَن حَج بيت اللهّ واعتمرَا
حُمَلت أمراً عظيماً فاصطبرتَ له وسرْت فينا بحكم اللّه يا عمرا
فالشمسُ طالعة ليست بكاسفةٍ تَبكي عليك نجومَ الليل والقمرا
وأنشد أبو عُبيد الأعرابيّ في عُمَر بن عبد العزيز‏.‏

مُقابَل الأعواق في الطِّيب الطابْ بين أبي العاص وآل الخَطَاب

خلافة يزيد بن عبد الملك
ثم ولي يزيدُ بن عبد الملك بِن مَروان بنِ الحَكم‏.‏
وأمه عاتكةُ بنت يزيدَ ابن معاوية يومَ الجمعة
لخمسٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة‏.‏
ومات ببلاد البَلْقاء يومَ الجمعة لخمس بقين من شعبان
سنة خمس ومائة وهو ابنُ أربع وثلاثين سنة‏.‏
صلّى عليه أخوه هشامُ بن عبد الملك‏.‏
وكانت
ولايتُه أربعَ سنين وشهراً‏.‏
وفيه يقول جرير‏:‏
سُرْبلتَ سِرْبالَ مُلكٍ غير مُغْتَصب قبلَ الثلاثين إنّ المُلك مُؤْتَشَبُ
وكان على شرُطته كعب بن مالكَ العَبْسي‏.‏
وعلى الحَرَس غيلانُ أبو سعيد مولاه‏.‏
وعلى خاتم
الخلافة مطرٌ مولاه وكان فاسقاً‏.‏
وعلى الخاتم الصغير بُكيّر أبو الحجَّاج‏.‏
وعلى الرسائل والجند
والخراج صالحُ بن جُبير الهَمداني ثم عَزله واستعمل أسامة بن زَيد مولى كَلب‏.‏
وعلى الخَزائن
وبُيوت الأموال هشام ابن مَصاد‏.‏
وحاجبه خالدٌ مولاه‏.‏

وكان يزيدُ بن عبد الملك صاحبَ لَهو ولذّات وهو صاحبُ حَبَابة وسلاّمة‏.‏
وفي ولايته خَرج يزيدُ بن المُهّلب‏.‏

أسماء ولد يزيد الوليدُ ويحيى وعبد الله والغَمْر وعبدُ الجبّار وسُليمان وأبو سفيان وهاشم وداود ولا عقب
ألا أبلغ معاوية بن حرب فقد ضاقت بما يأتي اليدان أتغضب أن يقال أبوك عفٌ وترضى أن يقال أبوك زان وأشهد أن قربك من زياد كقرب الفيل من ولد الأتان وقال زياد‏:‏ ما هجيت ببيت قط أشد علي من قول يزيد بن مفرغ الحميري‏:‏ فكرا ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير عاشت سمية ما عاشت وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير سبحان من ملك عباد بقدرته لا يدفع الناس محتوم المقادير وكان ولد سمية ثلاثا‏:‏ زياداً وأبا بكرة ونافعا‏.‏
فكان زياد ينسب في قريش وأبو بكرة في العرب ونافع في الموالي‏.‏
فقال فيهم يزيد بن مفرغ‏:‏ إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجب إن رجالاً ثلاثةً خلقوا من رحم أنثى محالفي النسب ذا قرشي فيما يقول وذا مولىً وهذا ابن عمه عربي فدع عنك الكتابة لست منها ولو غرقت ثوبك بالمداد وقال آخر في دعي‏:‏ لعينٌ يورث الأبناء لعناً ويلطخ كل ذي نسب صحيح ولما طالت خصومة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ونصر بن حجاج عند معاوية في عبد الله بن حجاج مولى خالد بن الوليد أمر معاوية حاجبه أن يؤخر أمرهما حتى يحتفل مجلسه‏.‏
فجلس معاوية وقد تلفع بمطرف خزٍ أخضر وأمر بحجر فأدني منه وألقى عليه طرف المطرف ثم أذن لهما وقد احتفل المجلس‏.‏
فقال نصر بن حجاج‏:‏ أخي وابن أبي عهد إلي أنه منه‏.‏
وقال عبد الرحمن‏:‏ مولاي وابن عبد أبي وأمته ولد على فراشه‏.‏
قال معاوية‏:‏ يا حرسي خذ هذا الحجر - وكشف عنه - فادفعه إلى نصر بن حجاج‏.‏
وقال‏:‏ يا نصر هذا مالك في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فإنه قال‏:‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر‏.‏
فقال نصر‏:‏ أفلا أجريت هذا الحكم في زياد أمير المؤمنين قال‏:‏ ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في الأرض أحمى من الأدعياء لتستحق بذلك العروبية‏.‏
قال الشاعر‏:‏ دعي واحدٌ أجدى عليهم من آلفي عالم مثل ابن داب وقال الأصمعي‏:‏ استمشى رجل من الأدعياء فدخل عليه رجل من أصحابه فوجد عنده شيحاً وقيصوماً فقال له‏:‏ ما هذا فقال ورفع صوته‏:‏ الطبيعة تتوق إليه‏.‏
يريد أن طبيعته من طباع العرب‏.‏
فقال فيه الشاعر‏:‏ يشم الشيح والقيصو م كي يستوجب النسبا وليس ضميره في الصد ر إلا التين والعنبا وعن إسماعيل بن أحمد قال‏:‏ رأيت على أبي سعيد الشاعر المخزومي كردوانياً مصبوغاً بتوريد فقلت‏:‏ أبا سعيد هذا خز قال‏:‏ لا‏.‏
ولكنه دعي على دعي‏.‏
وكان أبو سعيد دعياً في بني مخزوم‏.‏
وفيه قال الشاعر‏:‏ لم يته قط على النا س شريف يا أبا سعيد فته ما شئت إذ كن ت بلا أب ولا جد وإذ حظك في النس بة بين الحر والعبد وإذ قاذفك المفح ش في أمن من الحد وعن أحمد بن عبد العزيز قال‏:‏ نزلت في دار رجل من بني عبد القيس بالبحرين فقال لي‏:‏ بلغني أنك خاطب قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فأنا أزوجك‏.‏
قلت له‏:‏ إني مولى‏.‏
قال‏:‏ اسكت وأنا أفعل‏.‏
أمن قلةً صرتم إلى أن قبلتم دعاوة زراع وآخر تاجر وأصهب رومي وأسود فاحم وأبيض جعد من سراة الأحامر شكولهم شتى وكل نسيبكم لقد جئتم في الناس إحدى المناكر متى قال إني منكم فمصدق وإن كان زنجياً غليظ المشافر أكلهم وافى النساء جدوده وكلهم أوفى بصدق المعاذر وكلكم قد كان في أولية له نسبة معروفة في العشائر على علمكم أن سوف ينكح فيكم فجدعاً ورغماً للأنوف الصواغر فهلا أبيتم عفةً وتكرما وهلا وجلتم من مقالة شاعر تعيبون أمراً ظاهراً في بناتكم وفخركم قد جاز كل المفاخر متى شاء منكم مفرج كان جده عمارة عبس خير تلك العمائر وحصن بن بدر أو زرارة دارم وزبان زبان الرئيس ابن جابر فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسياً لعل نجاراً من هلال بن عامر وديلم من نسل ابن ضبة ناسل وبرجان من أولاد عمرو بن عامر بنو الأصفر الأملاك أكرم منكمٍ وأولى بقربانا ملوك الأكاسر أأطمع في صهري دعيا مجاهراً ولم نر شراً من دعي مجاهر ويشتم لؤماً عرضه وعشيره ويمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر وقال زرارة بن ثروان أحد بني عامر بن ربيعة بن عامر‏:‏ قد اختلط الأسافل بالأعالي وماج الناس واختلط النجار وصار العبد مثل أبي قبيس وسيق مع المعلهجة العشار وإنك لن يضيرك بعد حول أطرف كان أمك أم حمار وقال عقيل بن علفة‏:‏ وكنا بني غليظ رجالاً فأصبحت بنو مالك غيظاً وصرنا لمالك لحا الله دهراً زعزع المال كله وسود أستاه الإماء الفوارك وذكر جعفر بن سليمان بن علي يوماً ولده وأنهم ليسوا كما يحب‏.‏
فقال له ولده أحمد بن جعفر‏.‏
عمدت إلى فاسقات المدينة ومكة وإماء الحجاز فأوعيت فيهم نطفك ثم تريد أن ودخل الأشعث بن قيس على علي بن أبي طالب فوجد بين يديه صبية تدرج فقال‏:‏ من هذه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ هذه زينب بنت أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ زوجنيها يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ اغرب بفيك الكثكث ولك الأثلب أغرك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة إنها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سليم‏.‏
فقال‏:‏ قد زوجتم أخمل مني حسبا وأوضع مني نسباً‏:‏ المقداد بن عمرو وإن شئت فالمقداد بن الأسود‏.‏
قال علي‏:‏ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وهو أعلم بما فعل ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك‏.‏
وفي هذا المعنى قال الكميت بن زيد‏:‏ وما وجدت بنات بني نزار حلائل أسودين وأحمرينا وما حملوا الحمير على عتاق مطهمة فيلفوا مبغلينا بني الأعمام أنكحنا الأيامى وبالآباء سمينا البنينا أراد تزويج أبرهة الحبشي في كندة‏.‏
عن العتبي قال‏:‏ أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن خداش لخالد النجار‏.‏
اليوم من هاشم بخ وأنت غداً مولى وبعد غد حلف من العرب إن صح هذا فأنت الناس كلهم يا هاشمي ويا مولى ويا عربي قال‏:‏ وكان الهيثم بن عدي فيما زعموا دعياً‏.‏
فقال فيه الشاعر‏:‏ إذا اجتدى معشراً من فضل نسبتهم فلم ينيلوه عداهم إلى نسب فما يزال له حلٌ ومرتحل إلى النصارى وأحياناً إلى العرب إذا نسب عدياً في بني ثعل فقدم الدال فبل العين في النسب وقال بشار العقيلي‏:‏ إن عمراً فاعرفوه عربي من زجاج مظلم النسبة لا يع رف إلا بالسراج وقال فيه‏:‏ ارفق بنسبة عمرو حين تنسبه فإنه عربي من قوارير ما زال في كير حداد يردده حتى بدا عربياً مظلم النور وقال أيضا في أدعياء‏:‏ هم قعدوا فانتقوا لهم حسباً يدخل بعد العشاء في العرب حتى إذا ما الصباح لاح لهم بين ستوقهم من الذهب والناس قد أصبحوا صيارفةً أعلم شيءٍ بزائف الحسب إنما أنت من سليم كواوٍ ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو وقال فيه‏:‏ أيا متحيراً فيه لمن يتعجب العجب لأسماء تعلمهن أشجع حين ينتسب ولأحمد بن أبي الحارث الخراز في حبيب الطائي‏:‏ لو أنك إذ جعلت أباك أوساً جعلت الجد حارثة بن لام وسميت التي ولدتك سعدى فكنت مقابلاً بين الكرام وله فيه‏:‏ أنت عندي عربي ليس في ذاك كلام شعر فخذيك وساقي ك خزامى وثمام وضلوع الصدر من جسمك نبع وبشام وقذى عينيك صمغ ونواصيك ثغام لو تحركت كذا لان جفلت منك نعام أنا ما ذنبي إن ك ذبني فيك الكرام القفا يشهد إذ ما عرفت فيك الأنام كذبوا ما أنت إلا عربي والسلام وقال في المعلى الطائي‏:‏ معلى لست من طي فإن قبلتك فارهنها وابنك فارمٍ في أجأٍ فلا ترغب به عنها كأن دماملاً جمعت فصور وجهه منها ولآخر‏:‏ تعلمها وإخوته فكلهم بها درب لقد ربوا عجوزهم ولو زينتها غضبوا فيا لك عصبة إن ح دثوا عن أصلهم كذبوا لهم في بيتهم نسب وفي وسط الملا نسب كما لم تخف سافرة وتخفى حين تنتقب أآخر مرتين سبيتمونا وفي الإسلام ما كره السباء إذا استحللتم هذا وهذا فليس لنا على ذاكم بقاء فلا تأمن على حال دعياً فليس له على حالٍ وفاء وكيف يفي لأبعد من أبيه ونسبته إذا اتصل الدعاء الباه وما قيل فيه ذكر عند مالك بن أنس الباه فقال‏:‏ هو نور وجهك ومخ ساقك فأقل منه أو أكثر‏.‏
وقال معاوية‏:‏ ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه‏.‏
وقال الحجاج لابن شماخ العكلي‏:‏ ما عندك للنساء قال‏:‏ أطيل الظماء وأرد فلا أشرب‏.‏
وقيل للمدائني‏:‏ ما عندك يا أبا الجحاف قال‏:‏ يمتد ولا يشتد ويرد ولا يشرب‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ ما عندك لهن قال‏:‏ ما يقطع حجتها ويشفي غلمتها‏.‏
وقال كسرى كنت أراني إذا كبرت أنهن لا يحببنني فإذا أنا لا أحبهن‏.‏
وأنشد الرياشي لأعرابي من بني أسد‏:‏ تمنيت لو عاد شرخ الشباب ومن ذا على الدهر يعطى المنى وكنت مكيناً لدى الغانيات فلا شيء عندي لها ممكنا فأما الحسان فيأبينني وأما القباح فآبى أنا ودخل عيسى بن موسى على جارية فلم يقدر على شيء فقال‏:‏ النفس تطمع والأسباب عاجزةٌ والنفس تهلك بين اليأس والطمع أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ويشتكي الضيق منه حين يلقاه وقال آخر لجاريته‏:‏ ويعجبني منك عند الجماع حياة الكلام وموت النظر وقال آخر‏:‏ شفاء الحب تقبيل ولمسٌ وسبح بالبطون على البطون ورهز تذرف العينان منه وأخذ بالذوائب والقرون وقالت امرأة كوفية‏:‏ دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقيل هي مع زوجها في القيطون فسمعت زفيراً ونخيراً لم يسمع قط مثله ثم خرجت وجبينها يتفصد عرقاً فقلت لها‏:‏ ما ظننت أن حرة تفعل مثل هذا فقالت‏:‏ إن الخيل العتاق تشرب بالصفير‏.‏
وقيل لأعرابي‏:‏ ما عندك للنساء فأشار إلى متاعه وقال‏:‏ وتراه بعد ثلاث عشرة قائماً نظر المؤذن شكَّ يوم سحاب وقال الفرزدق‏:‏ أنا شيخٌ ولي امرأةٌ عجوز تراودني على ما لا يجوز وقالت رق أيرك مذ كبرنا فقلت لها بل اتسع القفيز لا يعقب التقبيل إلا زبي ولا يداوي من صميم الحب إلا احتضان الركب الأزب ينزع منه الأير نزع الضب روى زياد عن مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أن جدته عاتبت جده في قلة إتيانه إياها فقال لها‏:‏ أنا وأنت على قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏
قالت‏:‏ وما قضاء عمر قال‏:‏ قضى أن الرجل إذا أتى امرأته عند كل طهر فقد أدى حقها‏.‏
قالت‏:‏ أفترك الناس كلهم قضاء عمر وأقمت أنا وأنت عليه‏.‏
فقال‏:‏ أنا شيخ ولي امرأة عجوز تراودني على ما لا يجوز تريدني أنيكها في كل يوم وذلك عند أمثالي عزيز وقالت رق أيرك مذ كبرنا فقلت لها‏:‏ بل اتسع القفيز وقال أعرابي حين كبر وعجز‏:‏ عجبت من أيري وكيف يصنع أدفعه بإصبعي ويرجع يقوم بعد النشر ثم يصرع ودخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين زوج عبد الملك بن مروان فقالت لها‏:‏ أخبريني عن قول كثير‏:‏ ما هذا الدين الذي طلبك به قالت‏:‏ وعدته بقبلة فخرجت منها‏.‏
قالت‏:‏ وعدته بقبلة فخرجت منها‏.‏
قالت أنجزيها وعلي إثمها‏.‏
علي بن عبد العزيز قال‏:‏ كان أبو البيداء رجلاً عنينا وكان يتجلد ويقول لقومه‏:‏ زوجوني امرأتين‏.‏
فقالوا له‏:‏ إن في واحدة كفاية‏.‏
قال‏:‏ أما لي فلا‏.‏
فقالوا‏:‏ نزوجك واحدة فإن كفتك وإلا نزوجك أخرى فزوجوه أعرابية فلما دخل بها أقام معها أسبوعاً فلما كان في اليوم السابع أتوه فقالوا له‏:‏ ما كان من أمرك في اليوم الأول قال‏:‏ عظيم جداً‏.‏
فقالوا‏:‏ ففي اليوم الثالث قال‏:‏ لا تسلوني‏.‏
فاستجابت امرأته من وراء الستر فقالت‏:‏ كان أبو البيداء ينزو في الوهق حتى إذا أدخل في بيتٍ أنق فيه غزالٌ حسن الدل خرق مارسه حتى إذا ارفض العرق انكسر المفتاح وانسد الغلق أهديت جاريةٌ إلى حماد عجرد وهو جالس مع أصحابه على لذة فتركهم وقام بها إلى مجلس له فافتضها وكتب إليهم‏:‏ قد فتحت الحصن بعد امتناع بسنانٍ فاتحٍ للقلاع ظفرت كفي بتفريق جمع جاءنا تفريقه باجتماع آخر‏:‏ لم يوافق طباع هذا طباعي فأنا وهي دهرنا في صراع وتحريت أن أنال رضاها فأبت غير جفوة وامتناع فتفكرت لم بليت بهذا فإذا أن ذا لضعف المتاع وقع بين رجل وامرأته شر فجعل يحيل عليها بالجماع فقالت‏:‏ فعل الله بك كلما وقع بيننا شيء جئتني بشفيع لا أقدر على رده‏.‏
وأقبل رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال‏:‏ إن لي امرأةً كلما غشيتها تقول‏:‏ قتلتني قتلتني‏.‏
قال‏:‏ اقتلها وعلي اثمها‏.‏
وقال هشام بن عبد الملك للأبرش الكلبي‏:‏ زوجني امرأةً من كلب‏.‏
ففعل وصارت عنده‏.‏
فقال له هشام ودخل عليه‏:‏ لقد وجدنا في نساء كلب سعة‏.‏
فقال له الأبرش‏:‏ إن نساء كلب خلقن لرجال كلب‏.‏
وقالوا‏:‏ من ناك لنفسه لم يضعف أبداً ولم ينقطع ومن فعل ذلك لغيره فذاك الذي يصفي وينقطع‏.‏
يعنون من فعل ذلك ليبلغ أقصى شهوة المرأة ويطلب الذكر عندها‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ من ناك للذكر أصفى قبل مدته لا يقطع النيك إلا كل منهوم وقالوا‏:‏ من قل جماعه فهو أصح بدناً وأطول عمراً ويعتبرون ذلك بذكور الحيوان‏.‏
وذلك أنه ليس في الحيوان أطول عمراً من البغل ولا أقصر عمراً من العصافير وهي أكثر سفاداً‏.‏
والله أعلم

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:54 AM

العقد الفريد الجزء الثاني

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 02:56 AM

كتاب الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه‏:‏ قد مضى قولنا في النساء والأدعياء وما قيل في ذلك من الشعر ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في كتابنا هذا ذكر المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين فإن أخبارهم حدائق مونقة ورياض زاهرة لما فيها من كل طرفة ونادرة فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة دانية القطوف من جاني ثمرتها قريبة المسافة لمن طلبها‏.‏
فإذا تأملها الناظر وأصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع ومرتعاً للنظر وسكناً للروح ولقاحاً للعقل وسميراً في الوحدة وأنيساً في الوحشة وصاحباً في السفر وأنيساً في الحضر‏.‏
قال أبو الطيب اليزيدي‏:‏ أخذ رجل ادعى النبوة أيام المهدي فأدخل عليه فقال له‏:‏ أنت نبي قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ وإلى من بعثت قال‏:‏ أو تركتموني أذهب إلى أحد ساعة بعثت وضعتموني في الحبس‏.‏
فضحك منه المهدي وخلى سبيله‏.‏
أدعى رجل النبوة بالبصرة‏.‏
فأتي به سليمان بن علي مقيداً فقال له‏:‏ أنت نبي مرسل قال‏:‏ أما الساعة فإني نبي مقيد‏.‏
قال‏:‏ ويحك من بعثك قال‏:‏ أبهذا يخاطب الأنبياء يا ضعيف والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يدمدمها عليكم‏.‏
قال‏:‏ فالمقيد لا تجاب له دعوة قال‏:‏ نعم الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها‏.‏
فضحك سليمان‏:‏ فقال له‏:‏ أنا أطلقك وأمر جبريل فإن أطاعك آمنا بك وصدقناك‏.‏
قال‏:‏ صدق الله ‏"‏ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ‏"‏‏.‏
فضحك سليمان وسأل عنه فشهد عنده أنه ممرور فخلى سبيله‏.‏
قال ثمامة بن أشرس‏:‏ شهدت المأمون أتي برجل أدعى النبوة وأنه إبراهيم الخليل‏.‏
فقال المأمون‏:‏ ما سمعت أجرأ على الله من هذا‏.‏
قلت‏:‏ أكلمه قال‏:‏ شأنك به‏.‏
فقلت له‏:‏ يا هذا إن إبراهيم كانت له براهين‏.‏
قال‏:‏ وما براهينه قلت‏:‏ أضرمت له نار وألقي فيها فصارت برداً وسلاماً فنحن نضرم لك ناراً ونطرحك فيها فإن كانت عليك برداً كما كانت على إبراهيم آمناً بك وصدقناك‏.‏
قال‏:‏ هات ما هو ألين علي من هذا‏.‏
قال‏:‏ براهين موسى‏.‏
قال‏:‏ وما كانت براهين موسى قال‏:‏ عصاه التي ألقاها فصارت حية تسعى تلقف ما يأفكون وضرب بها البحر فانفلق وبياض يده من غير سوء‏.‏
قال‏:‏ هذا أصعب‏.‏
هات ما هو ألين من هذا‏.‏
قلت‏:‏ براهين عيسى‏.‏
قال‏:‏ وما براهين عيسى قلت‏:‏ كان يحيي الموتى ويمشي على الماء ويبرئ الأكمه والأبرص‏.‏
فقال‏:‏ في براهين عيسى جئت بالطامة الكبرى‏.‏
قلت‏:‏ لا بد من برهان‏.‏
فقال ما معي شيء من هذا قد قلت لجبريل‏:‏ إنكم توجهونني إلى شياطين فاعطوني حجة أذهب بها إليهم وأحتج عليهم‏.‏
فغضب وقال‏:‏ بدأت أنت بالشر قبل كل شيء أذهب الآن فانظر ما يقول لك القوم وقال‏:‏ هذا من الأنبياء لا يصلح إلا للحمر‏.‏
فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا هاج به مرار وأعلام ذلك فيه‏.‏
قال‏:‏ صدقت دعه‏.‏
أدعى رجل النبوة في أيام المهدي فأدخل عليه فقال له‏:‏ أنت نبي قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ ومتى نبئت قال‏:‏ وما تصنع بالتاريخ قال‏:‏ ففي أي الموضع جاءتك النبوة قال‏:‏ وقعنا والله في شغل ليس هذا من مسائل الأنبياء إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت لك فاعمل بقولي‏.‏
وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك‏.‏
فقال المهدي‏:‏ هذا ما لا يجوز‏.‏
إذ كان فيه فساد الدين‏.‏
قال‏:‏ واعجباً لك تغضب لدينك لفساده ولا أغضب أنا لفساد نبوتي أنت والله ما قويت علي إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة وما أشبههما من قوادك‏.‏
وعلى يمين المهدي شريك القاضي قال‏:‏ ما تقول في هذا النبي يا شريك قال‏:‏ شاورت هذا في أمري وتركت أن تشاورني‏.‏
قال‏:‏ هات ما عندك قال‏:‏ أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل‏.‏
قال‏:‏ رضيت‏.‏
قال‏:‏ أكافر أنا عندك أم مؤمن قال‏:‏ كافر‏.‏
قال‏:‏ فإن الله يقول‏:‏ ‏"‏ ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم ‏"‏ فلا تطعني ولا تؤذني ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم‏.‏
فضحك المهدي وخلى سبيله‏.‏
قال خلف بن خليفة‏:‏ أدعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن‏.‏
فأتى به خالد فقال له‏:‏ ما تقول قال‏:‏ عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا أعطيناك الكوثر‏.‏
فصل لربك وانحر‏.‏
إن شانئك هو الأبتر ‏"‏ فقلت أنا ما هو أحسن من هذا‏:‏ إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل ساحر وكافر‏.‏
فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب على خشبة‏.‏
فمر به خلف بن خليفة الشاعر وقال‏:‏ إنا أعطيناك العمود فصل لربك على عود وأنا ضامن عنك ألا تعود‏.‏
قال‏:‏ وإني لقاعد في مجلس عبد الله بن خازم وهو على الجسر ببغداد فإذا جماعة قد أحاطت برجل ادعى النبوة فقدم إلى عبد الله فقال له‏:‏ أنت نبي قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ وإلى من بعثت قال‏:‏ وما عليك بعثت إلى الشيطان فضحك عبد الله بن خازم وقال‏:‏ دعوه يذهب إلى الشيطان الرجيم‏.‏
وقال ثمامة بن أشرس‏:‏ كنت في الحبس فأدخل علينا رجل ذو هيئة وبزة ومنظر فقلت له‏:‏ من أنت جعلت فداك وما ذنبك وفي يدي كأس دعوت بها لأشربها‏.‏
قال‏:‏ جاء بي هؤلاء السفهاء لأني جئت بالحق من عند ربي أنا نبي مرسل‏.‏
قلت‏:‏ جعلت فداك معك دليل قال‏:‏ نعم معي أكبر الأدلة ادفعوا إلي امرأة أحبلها لكم فتأتي بمولود يشهد بصدقي‏.‏
قال ثمامة‏:‏ محمد بن عتاب قال‏:‏ رأيت بالرقة أيام الرشيد جماعة أحاطت برجل فأشرفت عليه فإذا رجل له جهارة وبنية قلت‏:‏ ما قصة هذا قالوا‏:‏ ادعى النبوة‏.‏
قلت‏:‏ كذبتم عليه‏.‏
مثل هذا لا يدعي الباطل‏.‏
فرفع رأسه إلي فقال‏:‏ وما علمك أنهم قالوا علي الباطل قلت له‏:‏ وأنت نبي قال‏:‏ نعم‏.‏
قلت له‏:‏ ما دليلك قال‏:‏ دليلي أنك ولد زنا‏.‏
قلت‏:‏ نبي يقذف المحصنات قال‏:‏ بهذا بعثت‏.‏
قلت‏:‏ أنا كافر بما بعثت به‏.‏
قال‏:‏ ومن كفر فعليه كفره‏.‏
فإذا حصاة عائرة جاءت حتى صكت صلعته قال‏:‏ ما رماها إلا ابن الزانية ثم رفع رأسه إلى السماء فقال‏:‏ ما أردتم بي خيراً حيث طرحتموني في أيدي هؤلاء الجهال‏.‏
ادعى رجل النبوة في أيام المأمون فقال ليحيى بن أكثم‏:‏ امض بنا مستترين حتى ننظر إلى هذا المتنبئ وإلى دعواه‏.‏
فركبنا متنكرين ومعنا خادم حتى صرنا إليه وكان مستتراً بمذهبه‏.‏
فخرج آذنه وقال‏:‏ من أنتما فقلنا‏:‏ رجلان يريدان أن يسلما على يديه‏.‏
فأذن لهما ودخلا‏.‏
فجلس المأمون عن يمينه ويحيى عن يساره‏.‏
فالتفت إليه المأمون فقال له‏:‏ إلى من بعثت قال‏:‏ إلى الناس كافة‏.‏
قال‏:‏ فيوحى إليك أم ترى في المنام أم ينفث في قلبك أم تناجى أم تكلم قال‏:‏ بل أناجي وأكلمك‏.‏
قال‏:‏ ومن يأتيك بذلك قال‏:‏ جبريل‏.‏
قال‏:‏ متى كان عندك قال‏:‏ قبل أن تأتيني بساعة‏.‏
قال‏:‏ فما أوحى إليك قال‏:‏ أوحى إلي أنه سيدخل علي رجلان فيجلس أحدهما على يميني والآخر عن يساري فالذي عن يساري ألوط خلق الله‏.‏
قال المأمون‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله‏.‏
وأنك رسول الله وخرجا يتضاحكان‏.‏
تنبأ رجل بالكوفة وأحل الخمر ولقي ابن عياش وكان مغرماً بالشراب فقال له‏:‏ أشعرت أنه بعث نبي يحل الخمر قال‏:‏ إذاً لا يقبل منه حتى يبرئ الأكمه والأبرص‏.‏
وأتي به عامل الكوفة فاستتابه‏.‏
فأبى أن يتوب ويرجع‏.‏
فأتته أمه تبكي فقال لها‏:‏ تنحي ربط الله على قلبك كما ربط على قلب أم موسى‏.‏
وأتاه أبوه يطلب إليه أن يرجع‏.‏
فقال له‏:‏ تنح يا آزر فأمر به العامل فقتل وصلب‏.‏
وذكر بعض الكوفيين قال‏:‏ بينا أنا جالس بالكوفة في منزلي إذ جاءني صديق لي فقال لي‏:‏ إنه ظهر بالكوفة رجل يدعي النبوة فقم بنا إليه نكلمه ونعرف ما عنده‏.‏
فقمت معه‏:‏ فصرنا إلى باب داره فقرعنا الباب وسألنا الدخول عليه‏.‏
فأخذ علينا العهود والمواثيق إذا دخلنا عليه وكلمناه وسألناه إن كان على حق اتبعناه وإن كان على غير ذلك كتمنا عليه ولم نؤذه‏.‏
فدخلنا فإذا شيخ خراساني أخبث من رأيت على وجه الأرض وإذا هو أصلع فقال صاحبي وكان أعور‏:‏ دعني حتى أسائله‏.‏
قلت‏:‏ دونك‏.‏
قال‏:‏ جعلت فداك ما أنت قال‏:‏ نبي‏.‏
قلت‏:‏ ما دليلك قال‏:‏ أنت أعور عينك اليمنى فاقلع عينك اليسرى حتى تصير أعمى ثم أدعو الله فيرد عليك بصرك فقلت لصاحبي‏:‏ أنصفك الرجل قال‏:‏ فاقلع أنت عينيك جميعاً وخرجنا نضحك‏.‏
وأتى المأمون بإنسان متنبئ فقال له‏:‏ ألك علامة قال‏:‏ نعم علامتي أني أعلم ما في نفسك‏.‏
قال‏:‏ قربت علي ما في نفسي قال له‏:‏ في نفسك أني كذاب‏.‏
قال‏:‏ صدقت وأمر به إلى الحبس‏.‏
فأقام به أياماً ثم أخرجه‏.‏
فقال‏:‏ أوحى إليك بشيء قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لأن الملائكة لا تدخل الحبس‏.‏
فضحك المأمون وأطلقه‏.‏
وتنبأ إنسان وسمى نفسه نوحاً صاحب الفلك وذكر أنه سيكون طوفان على يديه إلا من اتبعه ومعه صاحب له قد آمن به وصدقه فأتى به الوالي فاستتابه فلم يتب فأمر به فصلب واستتاب صاحبه فتاب‏.‏
فناداه من الخشبة‏:‏ يا فلان‏.‏
أتسلمني الآن في مثل هذه الحالة فقال‏:‏ يا نوح قد علمت أنه لا يصحبك من السفينة إلا الصاري‏.‏
قال‏:‏ وحمل إلى المأمون من أذربيجان رجل قد تنبأ فقال‏:‏ يا ثمامة ناظره‏.‏
فقال‏:‏ ما أكثر الأنبياء في دولتك يا أمير المؤمنين‏.‏
ثم التفت إلى المتنبئ فقال له‏:‏ ما شاهدك على النبوة قال‏:‏ تحضر لي ثمامة امرأتك أنكحها بين يديك فتلد غلاماً ينطق في المهد ويخبرك أني نبي فقال ثمامة‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏.‏
فقال المأمون‏:‏ ما أسرع ما آمنت به قال‏:‏ وأنت يا أخبار الممرورين والمجانين قال أبو الحسن‏:‏ كان بالبصرة ممرور يقال له عليان بن أبي مالك وكانت العلماء تستنطقه لتسمع جوابه وكلامه وكان راويةً للشعر بصيراً بجيده فذكر عن عبد الله بن إدريس صاحب الحديث قال‏:‏ أخرجه الصبيان مرة حتى هجم علينا في الدار فقال لي الخادم‏:‏ هذا عليان قد هجم علينا والصبيان في طلبه‏.‏
فقلت‏:‏ ادفع الباب في وجوه الصبيان وأخرج إليه طعاماً وطبقاً عليه رطب مشان وملبقات وأرغفة‏.‏
فلما وضعه بين يديه حمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ هذا من رحمة الله وأشار إلى الطعام كما أن أولئك من عذاب الله وأشار إلى الصبيان‏.‏
ثم جعل يأكل والصبيان يرجون الباب وهو يقول‏:‏ ‏"‏ فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ‏"‏‏.‏
قال ابن إدريس‏:‏ فلما انقضى طعامه قلت له‏:‏ يا عليان ما لك تروي الشعر ولا تقوله قال‏:‏ إني كالمسن أشحذ ولا أقطع‏.‏
وكان بصيراً بالشعر‏.‏
فقلت‏:‏ أي بيت تقوله العرب أشعر قال‏:‏ البيت الذي لا يحجب عن القلب‏.‏
قلت‏:‏ مثل ماذا قال‏:‏ مثل قول جميل‏:‏ ألا أيها النوام ويحكم هبو أسائلكم هل يقتل الرجل الحب قال‏:‏ فأنشد النصف الأول بصوت ضعيف وأنشد النصف الآخر بصوت رفيع‏.‏
ثم قال‏:‏ ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له قلت‏:‏ وماذا قال‏:‏ مثل قول الشاعر‏:‏ ندمت على ما كان مني فقدتني كما ندم المغبون حين يبيع ثم قال أتستطيب قوله ‏"‏ فقدتني ‏"‏ بالله يا بن إدريس قلت‏:‏ بلى‏.‏
فضرب بيده على فخذي وقال‏:‏ قم شيب الله قرنك‏.‏
وابن إدريس يومئذ ابن ثمانين سنة‏.‏
وحكى عنه عبد الله بن إدريس قال‏:‏ مررت به في مربعة كندة وهو جالس على رماد وبيده قطعة من جص وهو يخط بها في الرماد فقلت له‏:‏ ما تصنع هاهنا يا بن أبي مالك قال‏:‏ ما كان يصنع صاحبنا‏.‏
قلت‏:‏ ومن صاحبك قال‏:‏ مجنون بني عامر‏.‏
قلت‏:‏ وما كان يصنع قال‏:‏ أما سمعته يقول‏:‏ عشية ما لي حيلةٌ غير أنني بلقط الحصى والخط في الدار مولع قلت‏:‏ ما سمعته‏.‏
فرفع رأسه إلي متضاحكاً فقال‏:‏ أما يقول الله عز وجل ‏"‏ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ‏"‏ فأنت سمعته أو رأيته هذا كلام من كلام العرب لا علم لك به‏.‏
قلت‏:‏ يا بن أبي مالك متى تقوم القيامة قال‏:‏ ما المسؤول عنها بأعلم سائل غير أنه من مات فقد قامت قيامته‏.‏
قلت له‏:‏ فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال‏:‏ إن حقت عليه كلمة العذاب يعذب وما يدريك لعل جسده في عذاب من عذاب الله لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا فإن الله لطفاً لا يدرك‏.‏
قلت‏:‏ ما تقول في النبيذ حلال أم حرام قال‏:‏ حلال‏.‏
قلت‏:‏ أتشربه قال إن شربته فقد شربه وكيع وهو قدوة قلت‏:‏ أتقتري بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه وأنا أسن منه قال‏:‏ إن قول وكيع ما اتفاق أهل البلد عليه أحب إلي من قولك مع اختلاف أهل البلدة عليك‏.‏
قلت‏:‏ فما تقول في الغناء قال‏:‏ قد غنى البراء بن عازب وعبد الله بن رواحة وسمع الغناء عبد الله بن عمر وكان عبد الله بن جعفر‏.‏
قلت له‏:‏ أيشٍ كان عبد الله بن جعفر إنما سألتني عن الغناء ولم تسألني عن ضرب العيدان‏.‏
وكان بالبصرة مجنون يأوي إلى دكان خياط وفي يده قصبة قد جعل في رأسها أكرة ولف عليها خرقة لئلا يؤذي بها الناس فكان إذا أحرده الصبيان التفت إلى الخياط وقال له‏:‏ قد حمي الوطيس وطاب اللقاء فما ترى فيقول‏:‏ شأنك بهم فيشد عليهم ويقول‏:‏ أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها فإذا أدرك منهم صبياً رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له عورته فيتركه وينصرف ويقول‏:‏ عورة المؤمن حمى ولولا ذلك لتلفت نفس عمرو بن العاص يوم صفين‏.‏
ثم يقول وينادي‏:‏ أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر وكان بالبصرة رجل من التجار يكنى أبا سعيد وكانت له جارية تدعى خيزران وكان بها كلفا فمر يوماً بعليان وقد أحاط به الناس فقالوا له‏:‏ هذا أبو سعيد صاحب خيزران فناداه‏:‏ أبا سعيد‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أتحب خيزران قال‏:‏ نعم قال‏:‏ وتحبك قال‏:‏ نعم‏.‏
فأنشأ يقول‏:‏ نبئتها عشقت حشاً فقلت لهم ما يعشق الحش إلا كل كناس فضحك الناس من أبي سعيد ومضى‏.‏
ومر ابن أبي الزرقاء صاحب شرطة ابن أبي هبيرة بصباح الموسوس فقال له‏:‏ يا بن أبي الزرقاء أسمنت برذونك وأهزلت دينك أما والله إن أمامك عقبة لا يجاوزها إلا المخف‏.‏
فوقف ابن أبي الزرقاء‏.‏
فقيل له‏:‏ هو صباح الموسوس قال‏:‏ ما هذا بموسوس‏.‏
وقال إبراهيم الشيباني‏:‏ مررت ببهلول المجنون وهو يأكل خبيصا فقلت‏:‏ أطعمني‏.‏
قال‏:‏ ليس هو لي إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها‏.‏
وكان بهلول هذا يتشيع‏.‏
فقيل له‏:‏ اشتم فاطمة وأعطيك درهما‏.‏
فقال‏:‏ بل أشتم عائشة وأعطني نصف درهم‏.‏
وقال ابن عبد الملك‏:‏ يعرف حمق الرجل في أربع‏:‏ لحيته وشناعة كنيته وإفراط شهوته ونقش خاتمه‏.‏
فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال‏:‏ أما هذا فقد أتاكم بواحدة فانظروا أين هو من الثلاث‏.‏
فقيل له‏:‏ ما كنيتك قال‏:‏ أبو الياقوت‏.‏
قيل‏:‏ فنقش خاتمك قال‏:‏ ‏"‏ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏"‏‏.‏
قيل‏:‏ أي الطعام تشتهي قال‏:‏ خلنجبين‏.‏
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً ينادي‏:‏ يا أبا العمرين فقال‏:‏ لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما‏.‏
وقيل لداود المصاب في مصيبة نزلت به‏:‏ لا تتهم الله في قضائه‏.‏
قال‏:‏ أقول لك شيئاً على الأمانة قال‏:‏ قل‏.‏
قال‏:‏ والله ما بي غيره‏.‏
ودخل أبو عتاب على عمرو بن هداب وقد كف بصره والناس يعزونه فقال له‏:‏ أبا زيد لا يسوءك فقدهما فإنك لو دريت بثوابهما تمنيت أن الله قطع يديك ورجليك ودق عنقك‏.‏
ودخل على قوم يعود مريضاً لهم فبدأ يعزيهم‏.‏
قالوا‏:‏ إنه لم يمت‏.‏
فخرج وهو يقول‏:‏ يموت إن شاء الله يموت إن شاء الله‏.‏
ووقع بين أبي عتاب وبين ابنه كلام قال‏:‏ لولا أنك أبي وأنك أسن مني لعرفت‏.‏
أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع قال‏:‏ كان الغاضري من أحمق الناس فقيل له‏:‏ ما رأيت من حمقه فسكت‏.‏
فلما أكثر عليه قال‏:‏ قال لي مرة‏:‏ البحر من حفره وأين ترابه الذي خرج منه وهل يقدر الأمير أن يحفر مثله في ثلاثة أيام ودخل رجل من النوكى على الشعبي وهو جالس مع امرأته فقال‏:‏ أيكما الشعبي فقال‏:‏ هذه‏.‏
فقال‏:‏ ما تقول أصلحك الله في رجل شتمني أول يوم من رمضان هل يؤجر قال‏:‏ إن كان قال لك‏:‏ يا أحمق فإني أرجو له‏.‏
وسأل رجل آخر الشعبي فقال‏:‏ ما تقول في رجل أدخل أصبعه في الصلاة في أنفه فخرج عليها دم أترى له أن يحتجم قال الشعبي‏:‏ الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة‏.‏
وقال له آخر‏:‏ كيف كانت تسمى امرأة إبليس قال‏:‏ ذاك نكاح ما شهدناه‏.‏
العتبي قال‏:‏ سمعت أبا عبد الرحمن بشراً يقول‏:‏ كان في زمن المهدي رجل صوفي وكان عاقلاً عالماً ورعاً فتحمق ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومين‏:‏ الإثنين والخميس فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة‏.‏
فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلاً وينادي بأعلى صوته‏:‏ ما فعل النبيون والمرسلون أليسوا في أعلى عليين فيقولون‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ هاتوا أبا بكر الصديق‏.‏
فأخذ غلام فأجلس بين يديه فيقول‏:‏ جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية‏.‏
فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع ونزعت فيه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة اذهبوا به إلى أعلى عليين‏.‏
ثم ينادي‏:‏ هاتوا عمر‏.‏
فأجلس بين يديه غلام‏.‏
فقال‏:‏ جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام قد فتحت الفتوح ووسعت الفيء وسلكت سبيل الصالحين وعدلت في الرعية وقسمت بالسوية اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر‏.‏
ثم يقول‏:‏ هاتوا عثمان‏.‏
فأتي بغلام فأجلس بين يديه‏.‏
فيقول له‏:‏ خلطت في تلك الست السنين ولكن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ‏"‏‏.‏
وعسى من الله موجبة‏.‏
ثم يقول‏:‏ اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين‏.‏
ثم يقول‏:‏ هاتوا علي بن أبي طالب‏.‏
فأجلس غلام بين يديه‏.‏
فيقول‏:‏ جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن فأنت الوصي وولي النبي بسطت العدل وزهدت في الدنيا واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة اذهبوا به إلى أعلى عليين من الفردوس ثم يقول‏:‏ هاتوا معاوية‏.‏
فأجلس بين يديه صبي‏.‏
فقال له‏:‏ أنت القاتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة وأنت الذي جعل الخلافة ملكاً واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستنصر بالظلمة وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض أحكامه وقام بالبغي‏.‏
اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة ثم قال‏:‏ هاتوا يزيد‏.‏
فأجلس بين يديه غلام‏.‏
فقال له‏:‏ يا قواد أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحث المدينة ثلاثة أيام وانتهكت حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآويت الملحدين وبؤت باللعنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثلت بشعر الجاهلية‏:‏ وقتلت حسينا وحملت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا على حقائب الإبل اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار‏.‏
ولا يزال يذكر والياً بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ هاتوا عمر‏.‏
فأتى بغلام فأجلس بين يديه فقال‏:‏ جزاك الله يا عمر خيراً عن الإسلام فقد أحييت العدل بعد موته وألنت القلوب القاسية وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق‏.‏
اذهبوا به فألحقوه بالصديقين‏.‏
ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت فقيل له‏:‏ هذا أبو العباس أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ بلغ أمرنا إلى بني هاشم ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً‏.‏
ومن مجانين الكوفة‏:‏ عيناوة وطاق البصل‏.‏
قيل لعيناوة‏:‏ من أحسن أنت أو طاق البصل قال‏:‏ أنا شيء وطاق البصل شيء‏.‏
وكان طاق البصل يغني بقيراط ويسكت بدانق‏.‏
وكان عيناوة جيد القفا فربما مر به من يعبث فيصفعه فحشا قفاه خراء وقعد على قارعة‏.‏
فإذا صفعه أحد قال‏:‏ شم يدك يا فتى فلم يصفعه أحد بعد ذلك‏.‏
ووعد رجل رجلاً من الحمقى أن يهدي له نعلاً حضرمية فطال عليه انتظارها فبال في قارورة وأتى الطبيب وقال‏:‏ انظر في هذا الماء إن كان يهدي إلي بعض إخواني نعلاً حضرمية‏.‏
وكان بالكوفة امرأة حمقاء يقال لها مجيبة فقفد عيناوة فتىً كانت أرضعته مجيبة فقال له لما وجده‏:‏ كيف لا تكون أرعن ومجيبة أرضعتك فوالله لقد زقت لي فرخاً فما زلت أرى الرعونة في طيرانه‏.‏
ومن المجانين هبنقة القيسي وجرنفش السدوسي واسم هنبقة يزيد بن ثروان وكنيته أبو نافع وكان يحسن من إبله إلى السمان ويسيء إلى المهازيل‏.‏
فسئل عن ذلك فقال‏:‏ أما أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله‏!‏ وشرد بعير له فجعل بعيرين لمن دل عليه فقيل له‏:‏ أتجعل بعيرين في بعير قال‏:‏ إنكم لا تعرفون فرحة من وجد ضالته‏.‏
وافترس الذئب له شاة فقال لرجل‏:‏ خلصها من الذئب وخذها فإن فعلت فأنت والذئب واحد‏.‏
وسام رجل هبنقة بشاة فقال‏:‏ اشتريتها بستة وهي خير من سبعة وأعطيت فيها ثمانية وإن أردتها بتسعة وإلا فزن عشرة‏.‏
وكان باقل الذي يضرب به المثل في العي اشترى شاة بأحد عشر درهما فسئل‏:‏ بكم اشتريت الشاة ففتح يديه جميعاً وأشار بأصابعه وأخرج لسانه ليتم العدد أحد عشر‏.‏
ولما قرب الفرزدق رأس بغلته من الماء قال له الجرنفش‏:‏ نح رأس بغلتك حلق الله شأفتك‏.‏
قال‏:‏ لماذا عافاك الله قال له‏:‏ لأنك كذوب الحجرة زاني الكمرة فصاح الفرزدق‏.‏
يا بني سدوس فاجتمعوا إليه‏.‏
فقال‏:‏ سودوا الجرنفش عليكم فما رأيت فيكم أعقل منه‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ سوبق بين الجرنفش وهنبقة أيهما أجن وأحمق‏.‏
فجاء جرنفش بحجارة خفاف من جص وجاء هنبقة بحجارة ثقال وترس فبدأ الجرنفش فقبض على حجر ثم قال‏:‏ دري عقاب بلبن وأشخاب‏.‏
ثم رفع صوته وقال‏:‏ الترس فرمى الترس فأصابه فانهزم هنبقة فقيل له‏:‏ لم انهزمت فقال إنه قال‏:‏ الترس‏.‏
فرمى الترس فلم يخطئه فلو أنه قال العين ورماها أما كان يصيب عيني‏.‏
وتبع داود بن المعتمرة امرأة ظنها من الفواسد فقال لها‏:‏ لولا ما رأيت عليك من سيما الخير ما تبعتك فضحكت المرأة وقالت‏:‏ إنما يعتصم مثلي من مثلك بسيما الخير فأما إذ صارت سيما الخير من سيما الشر فالله المستعان‏.‏
ووقع داود هذا بجارية فلما أمعن في الفعل قال لها‏:‏ أثيب أم بكر فقالت له‏:‏ سل المجرب‏.‏
قالت أم غزوان الرقاشي لابنها وهو يقرأ في المصحف‏:‏ يا غزوان لعلك تجد في هذا المصحف حماراً كان أبوك في الجاهلية فقده‏.‏
فقال‏:‏ يا أماه‏.‏
بل أجد فيه وعداً حسناً ووعيداً شديداً‏.‏
ونظر رجل من النوكى إلى شيخ في الحمام وعليه سرة كأنها مدهن عاج‏.‏
فقال له‏:‏ يا شيخ مجانين القصاص قال أبو دحية القاص‏:‏ ليس في خير ولا فيكم‏.‏
فتبلغوا بي حتى تجدوا خيراً مني‏.‏
وقال في قصصه يوماً‏:‏ كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج‏.‏
قالوا‏:‏ إن يوسف لم يأكله الذئب‏.‏
قال‏:‏ فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف‏.‏
وقال ثمامة بن أشرس‏:‏ سمعت قاصاً ببغداد يقول‏:‏ اللهم ارزقني الشهادة أنا وجميع المسلمين‏.‏
ووقع الذباب على وجهه فقال‏:‏ ما لكم كثر الله بكم القبور‏.‏
قال‏:‏ ورأيت قاصاً يحدث الناس بقتل حمزة فقال‏:‏ ولما بقرت هند عن كبد حمزة استخرجتها فعضتها ولاكتها ولم تزدردها‏.‏
فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو ازدردتها ما مسها النار‏.‏
ثم رفع القاص يديه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم أطعمنا من كبد حمزة‏.‏

http://www.arabna.info/vb/./images/up.gif باب نوكى الأشراف من النوكى المتقدمين
مالك بن زيد مناة بن تميم دخل على امرأته ناجية مغضباً فلما رأت ما به من الجهل والجفاء قالت له‏:‏ ضع شملتك‏.‏
قال‏:‏ جسدي أحفظ لها‏.‏
قالت‏:‏ اخلع نعليك‏.‏
قال‏:‏ رجلاي أحق بهما‏.‏
فلما رأت ذلك قامت وجلست إليه‏.‏
فلما شم رائحة الطيب وثب ومن النوكى عجل بن لجيم‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ أرسل ابن لعجل بن لجيم فرساً في حلبة فجاء سابقاً فقال لأبيه‏:‏ كيف ترى أن أسميه يا أبت قال‏:‏ افقأ إحدى عينيه وسمه الأعور‏.‏
قال الشاعر‏:‏ رمتني بنو عجل بداء أبيهم وأي عباد الله أنوك من عجل أليس أبوهم عار عين جواده فأضحت به الأمثال تضرب في الجهل ومن بني عجل دغة التي يضرب به المثل في الحمق‏.‏
وقد ذكرنا نسبها وخبرها في كتاب الأمثال‏.‏
ومن نوكى الأشراف‏:‏ عبيد الله بن مروان عم الوليد بن عبد الملك‏.‏
بعث إلى الوليد قطيفة حمراء وكتب إليه‏:‏ إني قد بعثت إليك قطيفة حمراء حمراء فكتب إليه قد وصلت القطيفة وأنت والله يا عم أحمق أحمق‏.‏
ومنهم معاوية بن مروان وقف على باب طحان فرأى حماراً يدور بالرحا في عنقه جلجل فقال للطحان‏:‏ لم جعلت الجلجل في عنق الحمار قال‏:‏ ربما أدركتني سآمة أو نعاس فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه واقف فصحت به فانبعث‏.‏
قال‏:‏ أفرأيت إن وقف وحرك رأسه بالجلجل وقال هكذا وهكذا - وحرك رأسه - فقال له‏:‏ ومن لي بحمار يكون عقله مثل عقل الأمير وهو القائل وضاع له بازي‏:‏ اغلقوا أبواب المدينة حتى لا يخرج البازي‏.‏
وأقبل إليه قوم من جيرانه فقالوا‏:‏ مات جارك أبو فلان فمر له بكفن‏.‏
فقال‏:‏ ما عندنا اليوم شيء ولكن عودوا إلينا إذا نبش‏.‏
وأقبل إليه رجل أحمق منه فقال له‏:‏ تعيرنا أصلحك الله ثوباً نكفن فيه ميتاً قال‏:‏ أخشى أنه ينجسه فلا تلبسه إياه حتى يغسل ويطهر‏.‏
ومن النوكى الأشراف‏:‏ عيينة بن حصن دخل على عثمان بغير إذن وكانت عنده ابنته فقال له عثمان‏:‏ ألا استأذنت قال‏:‏ ما ظننت أن هنا من أحتاج أن أستأذن عليه‏.‏
قال‏:‏ ادن فتعش‏.‏
فقال‏:‏ أنا صائم‏.‏
قال‏:‏ تصوم الليل وتفطر النهار‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه السفيه المطاع‏.‏
ومن حمقى قريش‏:‏ أبان بن عثمان بن عفان‏.‏
قال الشعبي‏:‏ قدم أبان على معاوية‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين زوجني ابنتك‏.‏
قال‏:‏ يا بن أخي هما اثنتان‏.‏
إحداهما عند ابن عامر والأخرى عند أخيك عمرو‏.‏
قال‏:‏ كنت أظن أن لك ثالثة‏.‏
قال‏:‏ يا بن أخي تخطب إلي ولا تدري لي بنت أم لا رحم الله أباك‏.‏
ومر معاوية بن مروان بحقل له فلم ير فيها ما يعجبه فقال‏:‏ ما كذب من قال‏:‏ كل حقل لا ترى آست صاحبها لا تفلح أبداً‏.‏
ثم نزل عن دابته وأحدث فيها ثم ركب‏.‏
وهو الذي يقول لأبي امرأته‏:‏ ملأتني البارحة ابنتك دماً‏.‏
قال‏:‏ إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن فلو كنت خصياً ما زوجناك وعلى الذي غرنا بك لعنة الله‏.‏
وكان أبو العاج والياً بواسط فأتاه صاحب شرطته بقوادة فقال‏:‏ ما هذه قال‏:‏ قوادة‏.‏
قال‏:‏ وما تصنع قال‏:‏ تجمع بين الرجال والنساء قال‏:‏ إنما جئتني بها لتعرفها بداري خل عنها لعنك الله ولعنها‏.‏
وكان الربيع العامري والياً باليمامة فأتي بكلب قد عقر كلباً فأفاده فقال فيه الشاعر‏:‏ شهدت بأن الله حقاً لقاؤه وأن الربيع العامري رقيع أقاد لنا كلباً بكلب فلم يدع دماء كلاب المسلمين تضيع وقال عوانة‏:‏ أستعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده النار‏.‏
فقال‏:‏ لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي‏.‏
وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من بني عتاب بن أسيد كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول‏:‏ استشهد قبل أن يحج‏.‏
وكان الآخر يضحي عن أبي بكر وعمر ويقول‏:‏ أخطأ السنة في ترك الأضحية وكان الثالث يفطر أيام التشريق عن عائشة ويقول‏:‏ غلطت رحمها الله في صومها أيام التشريق‏.‏
ولعب رجل من النوكى بين يدي الرشيد بالشطرنج‏.‏
فلما رآه وقد استجاد لعبه قال له‏:‏ يا أمير المؤمنين ولني نهر بوق‏.‏
فقال له‏:‏ ويلك أوليك نصفه‏.‏
اكتبوا عهده علي بوق‏.‏
قال‏:‏ فولني أرمينية‏.‏
قال‏:‏ إذا يبطئ على أمير المؤمنين خبرك‏.‏
أهل العي والجهل المشبهون بالمجانين خطب وكيع بن أبي سود وهو والي خراسان فقال في خطبته‏:‏ إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر‏.‏
فقالوا له‏:‏ بل في ستة أيام‏.‏
فقال‏:‏ والله لقد قلتها وأنا أستقلها‏.‏
وخطب علي بن زياد الإيادي فقال في خطبته‏:‏ أقول لكم ما قال العبد الصالح لقومه‏:‏ ‏"‏ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ‏"‏‏.‏
فقالوا له‏:‏ إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون‏.‏
فقال‏:‏ من قاله فقد أحسن‏.‏
وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي فقال‏:‏ أقول لكم كما قال الله في كتابه‏:‏ كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وخطب والٍ باليمامة فقال في خطبته‏:‏ إن الله تبارك وتعالى لا يعاون عباده على المعاصي‏.‏
وقد أهلك أمة عظيمة على ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم فسمي مقوم الناقة‏.‏
وبكى حول ابن سنان أولاده وأهله حين ودعوه وهو يريد مكة حاجاً فقال‏:‏ لا تبكوا فإني ودخل قوم دار كردم السدوسي فقالوا له‏:‏ أين القبلة في دارك هذه فقال‏:‏ إنما سكناها منذ ستة أشهر‏.‏
ودخل كردم السدوسي على رجل فدعاه إلى الغذاء فقال‏:‏ قد أكلت‏.‏
قال‏:‏ وما أكلت قال‏:‏ قليل أرز فأكثرت منه‏.‏
وقيل لأبي عبد الملك عناق‏:‏ بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلام بن سليمان أبي المنذر قال‏:‏ لأنه لما مات سلام بن سليمان أبو المنذر مشى أبو علي في جنازته فلما مات أبو علي لم يمش سلام في جنازته‏.‏
ومرض كردم فقال له عمه‏:‏ أي شيء تشتهي فقال‏:‏ رأس كبشين قال‏:‏ لا يكون‏.‏
قال‏:‏ فرأسي كبش قال‏:‏ لا يكون‏.‏
فقال‏:‏ لست أشتهي شيئاً‏.‏
وقال مسعدة بن طارق الذراع‏:‏ إن لوقوف على حدود دار نقسمها إذ أقبل عيص سيد بني تميم والمصلي على جنائزهم‏.‏
ونحن في خصومة لنصلح بينهم فقال‏:‏ خبروني عن هذه الدار هل ضم بعضها إلى بعض أحد فأنا منذ ستين سنة أفكر في كلامه فما أدرك له معنى ولا مجازاً‏.‏
وأقبل كردم الذراع إلى قوم ليكسر لهم دوراً فوجد داراً منها فيه زنقة‏.‏
فقال‏:‏ ليست هذه الدار لكم فقالوا‏:‏ بلى والله ما نازعنا أحد قط فيها‏.‏
قال‏:‏ فليست الزنقة لكم‏.‏
قالوا‏:‏ فكسر ما صح عندك أنه لنا ودع الزنقة‏.‏
فكسر صحن الدار‏.‏
فقال‏:‏ عشرون في عشرين مائتان‏.‏
قالوا‏:‏ من هذا المعنى لم تكن الزنقة عندك لنا إذ عشرون في عشرين مائتان‏.‏
وسئل آخر كان ينظر في الفرائض عن فريضة لم يعرفها فالتمسها في كتابه فلم يجدها‏.‏
فقال‏:‏ لم يمت هذا الرجل بعد ولو مات لوجدت فريضته في كتابي‏.‏
وعزى قوماً فقال‏:‏ آجركم الله وأعظم أجوركم وأجركم‏.‏
فقيل له في ذلك فقال مثل قول مروان بن الحكم‏:‏ بارك الله فيكم وبارك لكم وبارك عليكم‏.‏
وكان أبو إدريس السمان يكتب‏:‏ فلا أصحبك الله إلا بالعافية ولا حيا وجهك إلا بالكرامة‏.‏
العتبي قال‏:‏ بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه ما عليه فرجع إليه مضروباً فقال‏:‏ ما لك ويلك قال‏:‏ سبك فسببته فضربني‏.‏
قال‏:‏ وبأي شيء سبني قال‏:‏ هن الحمار في حر أم الذي أرسلك‏.‏
قال له‏:‏ دعني من افترائه علي‏.‏
أخبرني أنت كيف جعلت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعل لحر أمي هلا قلت‏:‏ أير الحمار في هن أم من أرسلك وقال أبو نواس‏:‏ قلت لأحد الوراقين الذين يكتبون بباب البطوني‏:‏ أيما أسن أنت أم أخوك قال‏:‏ إذا جاء رمضان استوينا‏.‏
قال ثمامة بن أشرس للمأمون‏:‏ مررت في غب مطر والأرض ندية والسماء مغيمة والريح شمال وإذا بشخص أصفر كأنه جرادة وقد قعد على قارعة الطريق وحجام يحجمه على كاهله وأخدعيه بمحاجم كأنها قعاب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه فقلت‏:‏ يا شيخ لم تحتجم في هذا البرد قال‏:‏ لهذا الصفار الذي بي‏.‏
وقيل لأبي عتاب‏:‏ كيف برك بأمك قال‏:‏ والله ما قرعتها بسوط قط‏.‏
النوكى من نساء الأشراف دغة العجلية وجهيزة وشولة ودراعة وسارية الليل وريطة بنت كعب وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً‏.‏
وفيها يقال في المثل‏:‏ ‏"‏ خرقاء وجدت صوفة ‏"‏‏.‏
وقال عمرو بن عثمان‏:‏ شيعت القاضي عبد العزيز بن المطلب المخزومي قاضي مكة إلى منزله وبباب المسجد حمقاء تصفق بيديها وتقول‏:‏ أرق عيني ضراط القاضي‏.‏
فقال لي‏:‏ يا أبا حفص أتراها تعني قاضي مكة وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله كما قالوا‏:‏ رب رمية من غير رام‏.‏
قيل لدغة‏:‏ أي بنيك أحب إليك قالت‏:‏ الصغير حتى يكبر والمريض حتى يفيق والغائب ومن أخبار أهل العي المشبهين بالمجانين‏:‏ دخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد ليشتري طعاماً من طعامهم فقال لها‏:‏ قد رأيت متاعك وقلبته‏.‏
قالت له‏:‏ هلا قلبت طعامك يا أبا طالب قال‏:‏ وقد أدخلت يدي فيه فوجدته قد حمي وصار مثل الجيفة‏.‏
قالت‏:‏ يا أبا طالب ألست قد قلبت الشعير فأعطنا به ما شئت وإن كان فاسداً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ كان بين رجلين من النوكى عبد فقام أحدهما يضربه فقال له شريكه‏:‏ ما تصنع قال‏:‏ أنا أضرب نصيبي منه‏.‏
قال‏:‏ وأنا أضرب حصتي فيه وقام فضربه‏.‏
فكان من رأي العبد أن سلح عليهما وقال‏:‏ اقتسما هذه على قدر الحصص‏.‏
ومر بعضهم بامرأة قاعدة على قبر وهي تبكي فقال لها‏:‏ ما هذا الميت منك قالت‏:‏ زوجي‏.‏
قال‏:‏ وما كان عمله قالت‏:‏ كان يحفر القبور قال‏:‏ أبعده الله أما علم أنه من حفر حفرة وقع فيها‏.‏
وطلب رجل من النوكى من ثمامة بن أشرس أن يسلفه مالاً ويؤخره به‏.‏
فقال‏:‏ هاتان حاجتان وأنا أقضي لك إحداهما‏.‏
قال‏:‏ رضيت‏.‏
قال‏:‏ أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك‏.‏
وكان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل أبي رافع من فضلاء أهل المدينة وخيارهم مع بله فيهم وعي شديد - فمن ذلك أن امرأة أبي رافع رأته في نومها بعد موته فقال لها‏:‏ أتعرفين فلاناً الصيرفي قالت له‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فإن لي عليه مائتي دينار‏.‏
فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر وسألته عن المائتي دينار‏.‏
فقال‏:‏ رحم الله أبا رافع والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط‏.‏
فأقبلت إلى مسجد المدينة فوجدت مشايخ من آل أبي رافع كلهم مقبول القول جائز الشهادة فقصت عليهم الرؤيا وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع‏.‏
قالوا‏:‏ ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه‏.‏
فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤديها قال لهم‏:‏ إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا‏.‏
قالوا‏:‏ نعم والصلح خير ونعم الصلح الشطر فأد إليها مائة دينار من المائتين‏.‏
فقال لهم‏:‏ أفعل ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً يكون وثيقة لي‏.‏
قالوا‏:‏ وكيف تكون هذه الوثيقة قال‏:‏ تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صلحاً على المائتي دينار التي ادعاها أبو رافع علي في نومها وأنها قد أبرأتني منها وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى فيدعي علي بغير هذه المائتين فتجيء بفلان وفلان يشهدان علي لها‏.‏
فلما سمعوا الوثيقة فطن القوم لأنفسهم وقالوا‏:‏ قبحك الله وقبح ما جئت به‏.‏
ومنهم عامر بن عبد الله بن الزبير أتي بعطائه وهو في المسجد فقام ونسيه في موضعه فلما صار إلى بيته ذكره فقال‏:‏ يا غلام ائتني بعطائي الذي نسيت في المسجد‏.‏
قال‏:‏ وأين يوجد وقد دخل المسجد بعدك جماعة قال‏:‏ وبقي أحد يأخذ ما ليس له وسرقت نعله مرة فلم يلبس نعلاً بعدها حتى مات وقال‏:‏ أكره أن أتخذ نعلاً فيجيء من يسرقها فيأثم‏.‏
وفي هذا الضرب يقول أبو أيوب السختياني‏:‏ في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ كان الشعبي يحدث أنه كان في بني إسرائيل عابد جاهل قد ترهب في صومعته وله حمار يرعى حول الصومعة فاطلع عليه من الصومعة فرآه يرعى فرفع يديه إلى السماء فقال‏:‏ يا رب لو كان لك حمار كنت أرعيه مع حماري وما كان يشق علي‏.‏
فهم به نبي كان فيهم في ذلك الزمان فأوحى الله إليه دعه فإنا أثيب كل إنسان على قدر عقله‏.‏
هشام بن حسان قال‏:‏ أقبل رجل إلى محمد بن سيرين فقال‏:‏ ما تقول في رؤيا رأيتها قال‏:‏ وما رأيت قال‏:‏ كنت أرى أن لي غنماً فكنت أعطى بها ثمانية دراهم فأبيت من البيع ففتحت عيني فلم أر شيئاً فأغلقتهما ومددت يدي وقلت‏:‏ هاتوا أربعة فلم أعط شيئاً‏.‏
فقال له ابن سيرين‏:‏ لعل القوم اطلعوا على عيب في الغنم فكرهوها‏.‏
قال‏:‏ يمكن الذي ذكرت‏.‏
منهم أبو ياسين الحاسب وجعيفران وجرتفش وأبو حية النميري وريسيموس وصالح بن شيرزاذ الكاتب‏.‏
وكان أبو حية أجن الناس وأشعر الناس وهو القائل‏:‏ ألا حي أطلال الرسوم البواليا لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوم وليلةٌ تقاضاه أمر لا يمل التقاضيا وهو القائل أيضاً‏:‏ فلأبعثن مع الرياح قصيدةً مني مغلغلةً إلى القعقاع ترد المناهل لا تزال غريبةً في القوم بين تمتعٍ وسماع وهو القائل أيضاً‏:‏ فأبدت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كفٍ ومعصم وأما جعيفران الموسوس الشاعر وهو من مجانين الكوفة فإنه لقي رجلاً فأعطاه درهماً وقال له‏:‏ قل شعراً على الجيم‏.‏
فقال‏:‏ عادني الهم فاعتلج كل هم إلى فرج سل عنك الهموم بال كاس والراح تنفرج ما جعفرٌ لأبيه ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير فكلهم يدعيه هذا يقول بنيي وذا يخاصم فيه والأم تضحك منهم لعلمها بأبيه قال أبو الحسن‏:‏ استأذن جعيفران على بعض الملوك فأذن له وحضر غداؤه فتغدى معه فلما كان من الغد استأذن فحجبه ثم أتاه في الثالثة فحجبه‏.‏
فنادى بأعلى صوته‏:‏ عليك إذنٌ فإنا قد تغدينا لسنا نعود وإن عدنا تعدينا يا أكلة ذهبت أبقت حرارتها داءً بقلبك ما صمنا وصلينا العتبي قال‏:‏ قال أبو وائل لأبي‏:‏ إن في حماقةً ولكن إن طلبت الشعر وجدت عندي منه علما‏.‏
قال‏:‏ وهل تقول منه شيئاً قال‏:‏ نعم أقول أجود من قولك وأنا الذي أقول‏:‏ لو أن جومل كلمتني بعدما نسيت نوائحي البكاء وأقبر لحسبت ميت أعظمي سيجيبها أو أن باليها الرميم سينشر قال له أبي‏:‏ أما الشعر فحسن إلا أن اسم المرأة قبيح‏.‏
قال‏:‏ ألا إن اسم المرأة جمل ولكنني ملحته بجومل‏.‏
فقال له‏:‏ إن هذا من الحماقة التي برئ إلينا منها‏.‏
ما أوجع البين من غريب فكيف إن كان من حبيب يكاد من شوقه فؤادي إذا تذكرته يموت فقال له أبي‏:‏ إن هذا باء وهذا تاء‏.‏
قال‏:‏ لا تنقط أنت شيئاً‏.‏
قلت‏:‏ يا هذا إن البيت الأول مخفوض وهذا مرفوع‏.‏
قال‏:‏ أنا أقول لا تنقط وهو يشكل‏.‏
ولما توفيت أم سليمان بن وهب الكاتب أخي الحسن بن وهب دخل عليه رجل من نوكى الكتاب يسمى صالح بن شيرزاذ بشعر يرثيها فيه فأنشده‏:‏ لأم سليمان علينا مصيبةٌ مغلغلة مثل الحسام البواتر وكنت سراج البيت يا أم سالم فأمسى سراج البيت وسط المقابر فقال سليمان‏:‏ ما نزل بأحد من خلق الله ما نزل بي ماتت أمي ورثيت بمثل هذا الشعر ونقل اسمي من سليمان إلى سالم‏.‏
ومن قول صالح بن شيرزاذ هذا‏:‏ لا تعدلن دواء بالفساء فإن كان الضراط فذاك الآذريطوس ودخل بعض شعراء المجانين على أبي الواسع وحوله بنوه فاستأذنه في الذنه في الإنشاد فاستعفى‏.‏
فلم يزل به حتى أذن له‏.‏
فأنشده شعراً فلما انتهى فيه إلى قوله‏:‏ قال له‏:‏ ليتك تركتنا رأساً برأس‏.‏
وقيل‏:‏ وفد أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر تغزل فيه بمائة بيت ومدحه ببيتين فقال له‏:‏ والله ما تركت قافيةً لطيفة ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك‏.‏
قال‏:‏ سأقول غير هذا‏.‏
فغدا عليه بشعر يقول فيه‏:‏ هل تعرف الدار لأم الغمر دع وحبر مدحةٌ في نصر فقال له نصر‏:‏ لا ذا ولا ذاك‏.‏
وقال بعض العلماء‏:‏ ما شبهت تأويل الرافضة في قبح مذهبهم إلا بتأويل رجل من المجانين مجانين أهل مكة في الشعر فإنه قال‏:‏ ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل‏:‏ بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل فزعموا أن هذه أسماء رجال منهم‏.‏
قال بعض أهل الأدب‏:‏ قلت له‏:‏ وما عندك أنت فيه قال‏:‏ البيت بيت الله والزرارة الحجر زررت حول البيت ومجاشع زمزم تجشعت بالماء وأبو الفوارس هو أبو قبيس جبل مكة‏.‏
قلت له‏:‏ فنهشل قال‏:‏ نهشل وفكر فيه ساعة ثم قال‏:‏ قد أصبته هو مصباح الكعبة طويل أسود فذاك النهشل‏.‏
قال المبرد محمد بن يزيد النحوي‏:‏ خرجنا من بغداد نريد واسطا فملنا إلى دير هزقل ننظر في المجانين فإذا بالمجانين كلهم قد رأونا ونظرنا إلى فتى منهم قد غسل ثوبه ونظفه وجلس ناحية الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبث ما أجد نفسان لي نفس تضمنها بلد وأخرى حازها بلد وأرى المقيمة ليس ينفعها صبر وليس يفوقها جلد وأظن غائبتي كشاهدتي بمكانها تجد الذي أجد فقلت له‏:‏ أحسنت والله‏.‏
فأوما بيده إلى شيء ليرمينا به‏.‏
وقال‏:‏ أمثلي يقال له أحسنت‏.‏
قال‏:‏ فولينا عنه هاربين‏.‏
فقال‏:‏ أسألكم بالله إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت قلتم لي‏:‏ أحسنت وإن أسأت قلتم لي‏:‏ أسأت‏.‏
قال‏:‏ فرجعنا ووقفنا وقلنا له‏:‏ قل فأنشأ يقول‏:‏ لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ورحلوها وسارت بالدجى الإبل وقلبت من خلال السجف ناظرها ترنو إلي ودمع العين ينهمل وودعت ببنان عقده عنم ناديت‏:‏ لا حملت رجلاك يا جمل ويلي من البين ما ذا حل بي وبها من نازل البين حل البين وارتحلوا يا راحل العيس عرج كي نودعهم يا راحل العيس في ترحالك الأجل إني على العهد لم أنقض مودتهم يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا وقال محمد بن يزيد المبرد‏:‏ دخلنا دير هزقل فإذا بمجنون بيده حجر وقد تفرق الناس عنه وهو يقول‏:‏ يا معشر إخواني اسمعوا مني‏.‏
ثم أنشأ يقول‏:‏ وذي نفس صاعد يئن بلا عائد يكر على جحفل ويضعف عن واحد وأنشد أبو العباس لماني الموسوس‏:‏ له وجنات في بياض وحمرة فحافاتها بيض وأوساطها حمر رقاق يجول الماء فيها كأنها زجاج أجيلت في جوانبها الخمر وقال محمد بن يزيد‏:‏ أصابتنا سحابة جود ثم أقلعت سريعاً فمر بي ماني الموسوس فقال‏:‏ لا تظن الذي جرى مطراً كان ممطراً إنما ذاك كله دمع عيني تحدرا وتوالت غيومها من همومي تفكرا هكذا حال من يرى من حبيب تغيرا وقف ماني الموسوس على أبي دلف فأنشده‏:‏ كرات عينك في العدا تغنيك عن سل السيوف وقال أبو دلف‏:‏ والله ما مدحت قط بمثل هذا البيت وأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبضها وقال‏:‏ نقنع من هذا بنصف درهم في هريسة‏.‏
ولماني الموسوس‏:‏ من الظباء ظباء همها السحب ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب أفدى الظباء اللواتي لا قرون لها وحليها الدر والياقوت والذهب يا حسن ما سرقت عيني وما انتهب والعين تسرق أحياناً وتنتهب فتلك من حسن عينيها وهبت لها قلبي لو قبلت مني الذي أهب وما أريدهما إلا لرؤيتهما فإن تأبت فما لي فيهما أرب إذا يدٌ سرقت فالحد يقطعها والحد في سرق العينين لا يجب ومر علي بن الجهم بمبرسم قد اجتمع الناس عليه وتحلقوا حوله فلما رآه المبرسم قصد نحوه وأخذ بعنانه ثم أنشأ يقول‏:‏ لا تحفلن بمعشر ال همج الذين أراهم فوحق من أبلى بهم نفسي ومن عافاهم لو قيس موتاهم بهم كانوا هم موتاهم هذا السعيد لديهم قد صار بي أشقاهم قال أبو البختري الشاعر‏:‏ كان يبلغني أن ببغداد مجنوناً يكنى أبا فحمة له بديهة حسنة فتعرضت له فأتيح لي لقاؤه في بعض سكك بغداد فقلت له‏:‏ كيف أصبحت أبا فحمة فأشنأ يقول‏:‏ أصبحت منك على شفا جرفٍ متعرضاً لموارد التلف وأراك نحوي غير ملتفت متحرفاً عن غير منحرف يا من أطال بهجره كلفي أسفي عليك أشد من كلفي قال أبو البختري‏:‏ فأخرجت له قبضة نرجس كانت في كمي فحييته بها فجعل يشمها ملياً ثم أنشأ يقول‏:‏ لما تزوجت الجنوب بهاطل جون هتون زبرج دلاح أضحى يلقحها بوسمي الصبا فاستثقلت حملاً بغير نكاح حتى إذا حان المخاض تفجرت فأتت بولدان بلا أرواح حاك الربيع لها ثياباً وشيت بيد الندى وأنامل الأرواح من أصفر في أزهر قد زانه تبر على ورق من الأوضاح قال الحسن بن هانئ‏:‏ لقيت ماني الموسوس فأنشدني‏:‏ شعر حي أتاك من لفظ ميت صار بين الحياة والموت وقفاً قد برت جسمه الحوادث حتى كاد عن أعين البرية يخفى لو تأملتني لتبصر شخصي لم تبين من المحاسن حرفا ثم مضيت فأتيت جعيفران الموسوس وهو شيخ من بني هاشم أرت اللسان وعليه قيد من فضة وفي عنقه غل من ذهب فقال لي‏:‏ من أين دببت يا حسن قلت‏:‏ من بيت مانويه‏.‏
فقال‏:‏ في حر أم مانويه‏!‏ فدعا بدواة وقرطاس وقال لي اكتب‏:‏ ما غرد الديك ليلاً في دجنته إلا حثثت إليك السير مجهودا ولا هدت كل عين لذ راقدها بنومة في لذيذ العيش ممهودا إلا امتطيت الدجى شوقاً إليك ولو أصبحت في حلق الأقياد مصفودا أسعى مخاطرةً بالنفس يا أملي والليل مدرع أثوابه السودا فلم ترق ولم ترث لمكتئب زودته حرقات القلب تزويدا هيهات لا غدر في جن ولا بشر إلا يخال معداً فيك موجودا يلطم وجهه ويبكي وينادي‏:‏ أيها الناس الفراق مر المذاق‏.‏
فقلت له‏:‏ أبا محمد من أين أقبلت قال‏:‏ شيعت الحاج‏.‏
قلت‏:‏ وما الذي حملك على تشييعهم فقال‏:‏ لي فيهم سكن‏.‏
قلت‏:‏ فهل قلت فيهم شيئاً قال‏:‏ نعم وأنشدني‏:‏ هم رحلوا يوم الخميس غديةً فودعتهم لما استقلوا وودعوا فلما تولوا ولت النفس معهم فقلت ارجعي قالت إلى أين أرجع إلى جسد ما فيه لحم ولا دم وما هو إلا أعظمٌ تتقعقع وعينان قد أعماهما الحزن والبكا وأذن عصت عذالها ليس تسمع أبو بكر الوراق قال‏:‏ حدثني صديق لي قال‏:‏ رأيت رجلاً من أهل الأدب قد ذهب عقله بالمحبة وخلفه دابة له تدور معه فاستوقفته وقلت له‏:‏ يا فلان ما حالك وأين النعمة قال‏:‏ تغير قلبي فتغيرت النعمة‏.‏
قلت‏:‏ بم تغير قال‏:‏ بالحب ثم بكى وأنشأ يقول‏:‏ أرى التحمل شيئاً لست أحسنه وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه أم كيف صبر محب قلبه دنف الهجر ينحله والشوق يحزنه وإنه حين لا وصلٌ يساعفه يهوى السلو ولكن ليس يمكنه وكيف ينسى الهوى من أنت همته وفترة اللحظ من عينيك تفتنه فقلت‏:‏ أحسنت والله‏.‏
فقال‏:‏ قف قليلاً فوالله لأطرحن في أذنيك أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش الحواصل وأنشد‏:‏ للحب نارٌ على قلبي مضرمة لم تبلغ النار منها عشر معشار الماء ينبع منها من محاجرها يا للرجال لماء فاض من نار ثم وقف وأنشد‏:‏ أعاد الصدود فأحيا الغليلا وأبدى الجفاء فصبراً جميلا ورد الكتاب ولم يقره لئلا أرد إليه الرسولا وأحسب نفسي على ما ترى ستلقى من الهم هجراً طويلا وأحسب قلبي على ما أرى سيذهب مني قليلاً قليلا ثم ترك يدي ومضى‏.‏
وحكى أبو العباس المبرد قال‏:‏ دخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام زجاج فيه سكر طبرزذ وملح جريش‏.‏
قال‏:‏ فسلمت‏.‏
فرد وعرض علي الأكل‏.‏
فقلت‏:‏ ما أريد شيئاً هنأك الله يا أمير المؤمنين فلقد باكرت بالغداء فإني بت جائعاً‏.‏
ثم أطرق ورفع رأسه وهو فلا تكن سابري العرض محتشما من القليل فلست الدهر محتفلا ودعا برطل ودخل رجل من أجلة الفقهاء فمد يده إليه فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقنيها شيخاً‏.‏
فرد يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه وقال‏:‏ كنت يا أمير المؤمنين الله الله إني عاهدت الله في الكعبة إلا أشربها أبداً‏.‏
ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة حتى لقد ظن أنه سيأمر فيها‏.‏
ثم قال‏:‏ ردا علي الكأس إنكما لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت إلا بدمعكما من الوجد خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي خوف العقاب شربتها وحدي محمد بن يزيد الأسدي قال‏:‏ حدثني حبيب بن أوس قال‏:‏ كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت السحر أيام الخريف فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في الدجلة يسبح فيها وقد احمر جلده من برد الماء وإذا ماني الموسوس يرمقه ببصره فلما خرج من الماء قال‏:‏ خمش الماء جلده الرطب حتى خلته لابساً غلالة خمر قلت له‏:‏ لعنك الله يا ماني أبعد الجهاد والغزو تخمش غلاماً قد بات مؤاجرا في الحمامات فقال لي‏:‏ مثلك يخاطب يا أحمق وإنا يخاطب هذا وأشار إلى السماء وقال‏:‏ يكفيك تقليب القلوب وإنني لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي خلقت وجوهاً كالمصابيح فتنة وقلت اهجروها عز ذلك من خطب فإما أبحت الصب ما قد خلقته وإما زجرت القلب عن لوعة الحب أخذ هذا المعنى يزيد بن عثمان فقال‏:‏ أيا رب تخلق ما تخلق وتنهى عبادك أن يعشقوا إذا هكذا صغت حسن الوجوه فأي البرية لا يفسق خلقت الملاح لنا فتنة وقلت اعبدوا ربكم واتقوا وقال أبو بكر الموسوس في نصراني‏:‏ أبصرت شخصك في نومي تعانقني كما تعانق لام الكاتب الألفا يا من إذا درس لإنجيل ظل له قلب الحنيف عن القرآن منصرفا وله فيه‏:‏ زناره في خصره معقود كأنه من كبدي مقدود أخبار البخلاء أجمع الناس على بخل أهل مرو ثم أهل خراسان‏.‏
قال ثمامة بن أشرس‏:‏ ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها إلا في مرو فإني رأيته يأكل وحده فعلمت أن لؤمهم في المآكل‏.‏
ورأيت فيمرو طفلاً صغيراً في يده بيضة فقلت له‏:‏ أعطني هذه البيضة فقال‏:‏ ليس تسع يدك‏.‏
فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلة المفطورة‏.‏
واشتكى رجل مروزي ضرراً من سعال فدلوه على سويق اللوز فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الألم حتى أتيح له بعض الموفقين فدله على ماء النخالة وقال له‏:‏ إنه يجلو الصدر‏.‏
فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها فجلا صدره‏.‏
ووجده بعضهم فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله‏:‏ اطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر‏.‏
فقالت له زوجته‏:‏ قد جمع الله في هذا الدواء دواء وغذاء‏.‏
وقال خاقان بن صبيح‏:‏ دخلت على رجل ليلاً من أهل خراسان فإذا هو قد أتى بمسرجة فيها فتيل دقيق وقد ألقى في دهن المسرجة شيئاً من ملح وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة فإذا عشي المصباح أخرج به رأس الفتيل فقلت‏:‏ ما بال هذا العود مربوطاً فقال‏:‏ هذا عود قد شرب الدهن فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة‏.‏
قال‏:‏ فبينا أنا أتعجب واسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال‏:‏ أبا فلان فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء أو ليس كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج وأروى وهو عند إسراجك الليلة أعطش قد كنت أنا جاهلاً مثلك زماناً حتى وفقني الله إلى ما هو أرشد اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة فإن الحديد أبقى وهو مع ذلك غير نشاف والعود والقصبة ربما تعلقت بهما الشعرة من قطن الفتيلة فتشخص لها وربما كان ذلك سبباً لإطفائها‏.‏
قال الخراساني‏:‏ ألا وإنك تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ قال لي أبو محمد الخزامي واسمه عبد الله بن كاسب ونحن في العسكر إن الشيب سهك وبياض الشعر الأسود هو موته كما أن سواده حياته ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامة والطيب غال ممتنع الجانب فلست أرى شيئاً هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل فإن ريحه طيبة والشعر سريع القبول وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب حتى تكون حاله لا لنا ولا علينا‏.‏
وكان ثمامة بن أشرس يقول‏:‏ إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها واعلموا أن أعدى عدو له المملوح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل‏.‏
وكان يقول‏:‏ كلوا الباقلاء بقشرها فإن الباقلاء تقول‏:‏ من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته‏.‏
ومن البخلاء هشام بن عبد الملك‏.‏
قال خالد بن صفوان‏:‏ دخلت على هشام‏.‏
فأطرفته وحدثته‏.‏
فقال‏:‏ سل حاجتك فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين تزيد في عطائي عشرة دنانير‏.‏
فأطرق حينا وقال‏:‏ فيم ولم وبم ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين ألا لا يا بن صفوان ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال فقلت‏:‏ وفقك الله يا أمير المؤمنين وسددك‏.‏
فأنت والله كما قال أخو خزاعة‏:‏ إذا المال لم يوجب عليك عطاءه صنيعة قربى أو صديق توافقه منعت وبعض المنع حزم وقوةٌ ولم يفتلتك المال إلا حقائقه قيل لخالد بن صفوان‏:‏ ما حملك على تزيين البخل له قلت‏:‏ أحببت أن يمنع غيري فيكثر من وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي فمر براهب في دير فعدل إليه فأدخله الراهب بستاناً له وجعل يجتني له أطيب الفاكهة‏.‏
فقال له هشام‏:‏ يا راهب بعني بستانك‏.‏
فسكت عنه الراهب‏.‏
ثم أعاد عليه فسكت عنه‏.‏
فقال له‏:‏ ما لك لا تجيبني فقال‏:‏ وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك‏.‏
قال‏:‏ لماذا ويحك قال‏:‏ لعلك أن تشبع‏.‏
فالتفت هشام إلى الأبرش فقال‏:‏ ما سمعت ما قال هذا قال‏:‏ والله إن لقيك حر غيره‏.‏
ومن البخلاء‏:‏ عبد الله بن الزبير وكانت تكفيه أكلة لأيام ويقول‏:‏ إنما بطني شبر في شبر فما عسى أن يكفيه‏.‏
وقال فيه أبو وجرة مولى آل الزبير‏:‏ لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد أبقيت خبزاً كثيراً للمساكين فإن تصبك من الأيام جائحةٌ لم نبك منك على دنيا ولا دين ما زلت في سورة الأعراف تدرسها حتى فؤادك مثل الخز في اللين إن امرأ كنت مولاه فضيعني يرجو الفلاح لعندي حق مغبون وابن الزبير هو الذي قال‏:‏ أكلتم تمري وعصيتم أمري‏.‏
فقال فيه الشاعر‏:‏ رأيت أبا بكر وربك غالب على أمره يبغي الخلافة بالتمر وأقبل إليه أعرابي فقال‏:‏ أعطني وأقاتل عنك أهل الشام‏.‏
فقال له‏:‏ اذهب فقاتل فإن أغنيت أعطيناك‏.‏
قال‏:‏ أراك تجعل روحي نقداً ودراهمك نسيئة‏.‏
وأتاه أعرابي يسأله حملا ويذكر أن ناقته نقبت‏.‏
فقال‏:‏ انعلها من النعال السبتية واخصفها بهلب‏.‏
قال الأعرابي‏:‏ إنما أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك‏.‏
قال‏:‏ إن وصاحبها‏.‏
ومن رؤساء أهل البخل‏:‏ محمد بن الجهم وهو الذي قال‏:‏ وددت أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء وعشرة من الخطباء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي واستهلوا بشتمي حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق حتى لا يمتد إلي أمل آمل ولا ينبسط نحوي رجاء راج‏.‏
وقال له أصحابه‏:‏ إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا قال‏:‏ علامة ذلك أن أقول‏:‏ يا غلام هات الغداء‏.‏
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال‏:‏ لم يطمع أحداً قط في ماله إلا ليشغله عن الطمع في غيره ولا شفع في صديق ولا تكلم في حاجة محترم إلا ليلقن المسؤول حجة المنع ويفتح على السائل باب الحرمان‏.‏
ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر‏.‏
قال أبو عبيدة عن جهم قال‏:‏ أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة فقدم إلي تمراً وأرسل غلامه بفلس وسكرجة يشتري زيتاً‏.‏
فأتى الغلام بالزيت‏.‏
فقال له‏:‏ خنتني وسرقتني‏.‏
قال‏:‏ وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس قال‏:‏ أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت‏.‏
ومن البخلاء‏:‏ زبيدة بن حميد الصيرفي‏.‏
استلف من بقال على بابه درهمين وقيراطاً فمطله بها ستة أشهر ثم قضاه درهمين وثلاث حبات‏.‏
فاغتاظ البقال وقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ أنت صاحب مائة ألف دينار وأنا بقال لا أملك مائة فلس وإنما أعيش بكدي واستقضي الحبة على بابك والحبتين صاح على بابك حمال ولا يحضر تلك الساعة وكيلك فأعنتك وأسلفتك درهمين وأربع شعيرات فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات‏.‏
فقال زبيدة‏:‏ يا مجنون أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربعة صيفية لأن هذه ندية وتلك يابسة وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلاً‏.‏
قال الأصمعي‏:‏ كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم وكان عنده لبن كثير فسمع به رجل ظريف فقال‏:‏ لا أموت أو أشرب من لبنه‏.‏
فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن تغاشى وتماوت فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع فخرج إليه صاحب اللبن فقال‏:‏ ما باله يا سيدي قال‏:‏ هذا سيد بني تميم أتاه أمر الله هاهنا وكان قال لي‏:‏ اسقني لبناً‏.‏
قال صاحب اللبن‏:‏ هذا هين موجود ائتني يا غلام بعلبة من لبن‏.‏
فأتاه بها‏.‏
فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه حتى أتى عليها ثم تجشأ‏.‏
فقال صاحبه لصاحب اللبن‏:‏ أترى هذه الجشأة راحة الموت قال‏:‏ أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة‏.‏
ومن أمثال العرب في البخل قولهم‏:‏ ما هو إلا أبنة عصا أو عقدة رشا‏.‏
لأن عقدة الرشا المبلول لا تكاد تنحل‏.‏
قيل لبختى المدينة‏:‏ ما الجرح الذي لا يندمل قالت‏:‏ حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده‏.‏
قيل لها‏:‏ فما الذل قالت‏:‏ وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له‏.‏
قيل لها‏:‏ فما الشرف قالت‏:‏ اتخاذ المنن في رقاب الرجال‏.‏
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائباً‏:‏ ‏"‏ جاء فلان على غبيراء الظهر ‏"‏ و ‏"‏ جاء على حاجبه صوفة ‏"‏‏.‏
و ‏"‏ جاء بخفي حنين ‏"‏‏.‏
وقال أبو عطاء السندي في يزيد بن عمر بن هبيرة‏:‏ ثلاث حكتهن لقوم قيسٍ طلبت بها الأخوة والثناء رجعن على حواجبهن صوفٌ وعند الله نحتسب الجزاء قال الأصمعي‏:‏ كان يقول المروزي لزواره إذا أتوه‏:‏ هل تغذيتم اليوم فإن قالوا نعم قال‏:‏ والله لولا أنكم تغذيتم لأطعمتكم لونا ما أكلتم مثله ولكن ذهب أول الطعام بشهوتكم وإن قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ لولا أنكم لم تتغذوا لسقيتكم أقداحاً من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله فلا يصير في أيديهم منه شيء‏.‏
وكان ثمامة بن أشرس إذا دخل عليه أصحابه وقد تعشوا عنده قال لهم‏:‏ كيف كان مبيتكم ومنامكم فإن قال أحدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون قال النفس إذا أخذت قوتها اطمأنت‏.‏
وإذا قال أحدهم إنه لم ينم ليلته قال‏:‏ إنه من إفراط الكظة والإسراف من البطنة‏.‏
ثم يقول‏:‏ كيف كان شربكم للماء فإن قال أحدهم‏:‏ كثيراً قال‏:‏ التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير‏.‏
وإن قالوا قليلا‏.‏
قال‏:‏ ما تركت للماء مدخلاً‏.‏
وكان إذا أطعم أصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ‏"‏‏.‏
ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج فغطى الطبق بذيله وأدخل رأسه في جيبه وقال للرجل الداخل‏:‏ أدخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري‏.‏
وشوي لأبي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذاً من دجاجة فأمر فنودي في منزله‏:‏ من هذا الذي تعاطى فعقر والله لا أخبز في التنور شهراً أو ترد‏.‏
فقال ابنه الأكبر‏:‏ يا أبت لا تؤاخذنا وقال دعبل الشاعر‏:‏ كنا يوما عند سهل بن هارون فأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع فدعا بغذائه فإذا بصفحة عدملية فيها مرق لحم ديك قد هرم لا تحز فيها سكين ولا تؤثر فيه الضرس فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصفحة ففقد الرأس فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال‏:‏ أين الرأس قال‏:‏ رميت به‏.‏
قال‏:‏ لم قال‏:‏ لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه‏.‏
قال‏:‏ ولأي شيء ظننت ذاك فوالله إني لأبغض من يرمي برجله فضلاً عن رأسه والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس ومنه يصيح الديك وفيه العين التي يضرب فيها المثل في الصفاء فيقال‏:‏ شراب مثل عين الديك‏.‏
ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه فإن كان بلغ من جهلك ألا تأكله فعندنا من يأكله انظر أين هو قال‏:‏ والله ما أدري أين رميته‏.‏
قال‏:‏ لكني والله أدري أنك رميت به في بطنك‏.‏
وأهدى رجلٌ من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاماً فثقل عليه ذلك‏.‏
فقال‏:‏ اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه فجمعوا وكشف عن الطعام فإذا طعام له بالٌ فندم على الإرسال للمساكين وقال للغلام‏:‏ انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم‏:‏ إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان‏.‏
وقال‏:‏ دخلت على يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية وقوم يأكلون عنده فمد يده إلى رغيف الخوان فرفعه وجعل يرطله بيده ويقول‏:‏ يزعمون أن خبزي صغير فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه قال‏:‏ ودخلت عليه يوماً والمائدة موضوعة والقوم يأكلون وقد رفع بعضهم يده فمددت يدي لآكل فقال أجهز على الجرحى لا تتعرض للأصحاء يقول‏:‏ تعرض للدجاجة التي قد نيل منها والفرخ المنزوع الفخذ فأما الصحيح فلا تتعرض له‏.‏
فهذا معناه في الجرحى‏.‏
وسأل يحيى بن خالد أبا الحارث جمين عن طعام رجل فقال‏:‏ أما مائدته فمقببة وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل وبين الرغيف والرغيف فترة نبي‏.‏
قال‏:‏ فمن يحضرها قال‏:‏ الكرام الكانبون‏.‏
قال‏:‏ فمن يأكل معه قال‏:‏ الذباب‏.‏
قال له يحيى‏:‏ وأرى ثوبك مخرقاً فلا يكسوك ثوباً وأنت في صحبته قال‏:‏ جعلت فداك والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى الكوفة مملوءاً إبراً وفي كل إبرة منه خيط وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قد من دبر ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده لم يفعل‏.‏
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة فقال‏:‏ يهجوا ابن الأغلب‏:‏ لو أن قصرك يا ابن أغلب كله إبر يضيق بهن رحب المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرةً ليخيط قد قميصه لم تفعل وقيل لحصين‏:‏ أتغديت عند فلان قال‏:‏ لا ولكني مررت به يتغدى‏.‏
قيل‏:‏ فكيف علمت أنه يتغدى قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسي البندق يرمون الذباب به في الهواء‏.‏
وقال أبو الحارث جمين‏:‏ دخلت على فلان فوضع بين أيدينا مائدة كنا أشوق إلى الطعام إذا رفعت منا إليه إذا وضعت‏.‏
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي فقال له هشام‏:‏ عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي‏.‏
قال‏:‏ وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي‏!‏ والله لا أكلت عندك أبدا‏.‏
وخرج وهو يقول‏:‏ وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وقال آخر‏:‏ ولو عليك اتكالي في الغداء إذا لكنت أول مقتول من الجوع يقول عند دعاء الضيف مبتدئاً صوت ضعيف وداع غير مسموع قال المدائني‏:‏ كان للمغيرة بن أبي عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة جدي‏.‏
يوضع على مائدته بعد الطعام لا يمسه هو ولا أحد ممن يحضر‏.‏
فحضر مائدته أعرابي فبسط يده وأسرع في الأكل‏.‏
فقال‏:‏ يا أعرابي إنك لتأكل الجدي بحرد كأن أمه نطحتك‏.‏
فقال له الأعرابي‏:‏ أصلحك الله وأنت تشفق عليه كأن أمه أرضعتك‏.‏
ثم بسط الأعرابي يده إلى بيضة بين يديه فقال‏:‏ خذها فإنها بيضة العقر‏.‏
فلم يحضر طعامه بعد ذلك‏.‏
ودخل أشعب على والي المدينة فحضر طعامه وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر فبدر إليه أشعب فمزقه فقال له‏:‏ يا أشعب إن أهل السجن ليس لهم إمام يصلي بهم فإن رأيت أن تكون لهم إماماً تصلي بهم فإن في ذلك أجراً‏.‏
فقال‏:‏ والله ما أحب هذا الأجر ولك زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله‏.‏
قال عمرو بن ميمون‏:‏ تغديت يوماً عند الكندي فدخل عليه رجل كان جاراً وصديقاً لي فلم يعرض عليه الطعام ونحن نأكل فاستحيت أنا منه فقلت‏:‏ سبحان الله لو دنوت فأصبت معنا‏.‏
قال‏:‏ قد والله فعلت‏.‏
قال الكندي‏:‏ ما بعد الله شيء‏.‏
قال‏:‏ فكتف كتافا لو بسط يده إلى أكل بعد لكان كافراً‏.‏
قال‏:‏ ومررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جارا له‏.‏
فقلت‏:‏ ما بالكما فقال أحدهما‏:‏ إن صديقا لي زارني واشتهى علي رأساً فاشتريته له وتغدينا فأخذت عظامه فوضعتها عند باب داري أتجمل بها عند جيراني فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس‏.‏
قال رجل من البخلاء لولده‏:‏ اشتروا لي لحما فاشتروا له وأمر بطبخه حتى تهرأ فأكل منه حتى انتهت نفسه وشرعت إليه عيون ولده فقال‏:‏ ما أنا مطعمه أحداً منكم إلا من أحسن صفة أكله‏.‏
فقال الأكبر أتعرقه يا أبت حتى لا أدع للذرة فيه مقيلا قال‏:‏ لست بصاحبه‏.‏
فقال الأوسط‏:‏ أتعرقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول قال‏:‏ لست بصاحبه‏.‏
فقال الأصغر‏:‏ أتعرقه يا أبت ثم أدقه دقاً وأسفه سفاً قال‏:‏ أنت صاحبه وهو لك دونهم‏.‏
وقال عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ كان أبو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرؤوس ويصفها ويسميها العرس لما فيها من الألوان الطيبة وربما سماه الكامل والجامع ويقول‏:‏ الرأس شيء واحد وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة والرأس فيه الدماغ وطعمه مفرد وفيه العينان وطعمهما مفرد والشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها مفرد على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأرطب من الزبد وأدسم من السلاء‏.‏
وفي الرأس اللسان وطعمه مفرد والخيشوم والغضروف ولحم الخدين وكل شيء من هذه طعمه مفرد‏.‏
والرأس سيد البدن والدماغ هو معدن العقل وخاصة الحواس وبه قوام البدن وفيه يقول الشاعر إذا نزعوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري وقيل لأعرابي‏:‏ أتحسن أن تأكل كل الرأس قال‏:‏ نعم أبخص عينيه وأفك لحييه وأسحى ولا أبتغي المخ الذي في الجماجم وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له‏:‏ إيام ونهم الصبيان وبغر السباع وأخلاق النوابح ونهش الأعراب وكل ما بين يديك فإنما حظك منه ما قابلك‏.‏
وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف من لقمة كريمة أو مضغة شهية فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل ولست بواحد منهما‏.‏
وقد قالوا مدمن اللحم كمدمن الخمر‏.‏
أي بني لا تخضم خضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال ولا تنهش نهش السباع وعود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة فإن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة وأحذر صرعة الكظة وسرف البطنة فقد قال بعض الحكماء‏:‏ إذا كنت نهما فعد نفسك من الزمنى‏.‏
واعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه وقاتل نفسه ألأم من غيره‏.‏
أي بني والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو الكظة ولا خشع لله ذو بطنة والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين‏.‏
أي بني لأمر ما طالت أعمار الرهبان وصحت أبدان الأعراب ولله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء كله هو في فضول الطعام فكيف لا يرغب في شيء يجمع لك في صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح الدين والدنيا والقرب من عيش الملائكة أي بني ما صار الضب أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلغ بالنسيم وما زعم الرسول أن الصوم وجاءٌ إلا أنه جعله حجازا دون الشهوات فافهم تأديب الله وتأديب الرسول‏.‏
أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا عرفت وكف أنف ولا سيلان عين ولا سلس بول وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد‏.‏
فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك‏.‏
ومن البخلاء أبو الأسود الدؤلي وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر فقالت‏:‏ السلام عليك قال أبو الأسود كلمة مقبولة‏.‏
ووقف عليه أعرابي وهو يأكل فقال الأعرابي‏:‏ أدخل قال‏:‏ وراءك أوسع لك‏.‏
قال‏:‏ الرمضاء أحرقت رجلي‏.‏
قال‏:‏ بل عليهما يبردان‏.‏
قال‏:‏ أتأذن لي أن آكل معك قال‏:‏ سيأتيك ما قدر لك‏.‏
قال‏:‏ تالله ما رأيت رجلاً ألأم منك‏.‏
قال‏:‏ بلى قد رأيت إلا أنك نسيت‏.‏
ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يبق في الطبق إلا تميرات يسيرة نبذها له فوقعت تمرة منها فأخذها الأعرابي ومسحها بكسائه‏.‏
فقال أبو الأسود‏:‏ يا هذا إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها منه‏.‏
قال‏:‏ كرهت أن أدعها للشيطان‏.‏
قال‏:‏ لا والله ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ قال مر رجل بأبي الأسود الدؤلي وهو يقول‏:‏ من يعشي الجائع فقال أبو الأسود‏:‏ علي به فأتاه بعشاء كثير‏.‏
وقال‏:‏ كل حتى تشبع فلما أكد ذهب ليخرج قال‏:‏ أين تريد قال‏:‏ أريد أهلي‏.‏
قال‏:‏ لا أدعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك اطرحوه في الأدهم فبات عنده مكبولًا حتى أصبح‏.‏
قال الهيثم بن عدي‏:‏ نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة فأخلى له المنزل ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه ثم رجع وكتب له‏:‏ يأيها الخارج من بيته وهارباً من شدة الخوف ضيفك قد جاء بزادٍ له فارجع تكن ضيفاً على الضيف وقال آخر‏:‏ بت ضيفاً لهشام في شرابي وطعامي وسراجي الكوكب الدر ي في داجي الظلام لا حراماً أجد الخ بز ولا غير الحرام وله‏:‏ بت ضيفاً لهشام فشكا الجوع عدمته وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع فألح عليه أن يتغدى عنده في منزله فيمطله ابن المقفع فيقول‏:‏ أتراني أتكلف لك شيئاً لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي فلا تتثاقل علي‏.‏
فلم يزل به حتى أجابه وأتى به إلى منزله فإذا ليس عند إلا كسر يابسة وملح جريش فقدمه له‏.‏
ووقف سائل بالباب فقال له‏:‏ بورك فيك فألح في السؤال فقال‏:‏ والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك‏.‏
فقال ابن المقفع للسائل أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة‏.‏
وانتقل رجل من البخلاء إلى دار ابتاعها فلما حلها وقف سائل فقال له‏:‏ صنع الله لك ثم وقف ثان فقال له مثل ذلك ثم وقف ثالث فقال له مثل ذلك‏.‏
فقال لابنته‏:‏ ما أكثر السؤال في هذا المكان‏.‏
فقالت له‏:‏ يا أبت‏.‏
ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا أم قلوا الأصمعي قال‏:‏ تقول العرب‏:‏ ما علمتك إلا برما قروناً‏.‏
البرم‏:‏ الذي يأكل مع أصحابه ولا يجعل شيئاً والقرون‏:‏ الذي يأكل تمرتين تمرتين‏.‏
وألم اللئام كلهم وأبخل البخلاء حميد الأرقط الذي يقال له‏:‏ هجاء الأضياف وهو القائل في ضيف نزل به وأكله‏:‏ ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت وبين أخرى تليها قيد أظفور تجهز كفاح ويحدر حلقه إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل أتانا وما ساواه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل وله في الأضياف‏:‏ لا مرحباً بوجوه القوم إذ دخلوا دسم العمائم تحيكها الشياطين ألفيت جلتنا الشهريز بينهم كأن أيديهم فيها السكاكين فأصبحوا والنوى عالي معرسهم وليس كل النوى تلقى المساكين ما قالت الشعراء في طعام البخلاء فمن أهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب‏:‏ والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك أسته وتمثل الأمثالا وقوله فيهم‏:‏ قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رتاج الباب والدار قوم إذا نبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار اللاقطين النوى تحت الثياب كما مجت كوادن دهم في مخالبها فأين هؤلاء من الذين يقول فيهم الشاعر‏:‏ أبلج بين حاجبيه نوره إذا تغدى رفعت ستوره لآخر‏:‏ أبو نوح أتيت إليه يوماً فغداني برائحة الطعام وقدم بيننا لحماً سميناً أكلناه على طبق الكلام فلما أن رفعت يدي سقاني كؤوساً حشوها ريح المدام فكان كمن سقى ظمآن آلا وكنت كمن تغدى في المنام ولآخر‏:‏ تراهم خشية الأضياف خرساً يصلون الصلاة بلا أذان ولحماد عجرد‏:‏ حريث أبو الصلت ذو خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة تخوف تخمة إخوانه فعودهم أكلة واحدة إذا ما تنفس حول الخوان تطاير في البيت من خفته فنحن كظوم له كلنا يرد التنفس من خشيته فيكلمه اللحظ من رقة ويأكله الوهم من قلته نزل رجل من العرب ببخيل فقد إليه جرادا فعافه وأمر برفعه وقال‏:‏ لحا الله بيتاً ضمني بعد هجعة إليه دجوجي من الليل مظلم فأبصرت شيخاً قاعداً بفنائه هو العير إلا أنه يتكلم أتانا ببرقان الدبي في إنائه ولم يك برقان الدبي لي مطعم فقلت له غيب إناءك واعتزل فما ذاق هذا لا أبا لك مسلم ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة إلى عجوزٍ من محارب فلم تقره شيئاً فرحل عنها وقال‏:‏ تضيفت في برد وريح تلفني وفي طرمساء غير ذات كواكب إلى حيزبون توقد النار بعدما تلفعت الظلماء من كل جانب تصلى بها برد العشاء ولم تكن تخال وميض النار يبدو لراكب سرى في جليد الليل حتى كأنما تخزم بالأطراف شوك العقارب تقول وقد قربت كوري وناقتي إليك فلا تذعر علي ركائبي فسلمت والتسليم ليس يسرها ولكنه حق على كل جانب فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب فلما تنازعنا الحديث سألتها من الحي قالت معشر من محارب من المشتوين القد في كل شتوة وإن كان عام الناس ليس بناصب فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن علي مبيت السوء ضربة لازب وقمت إلى مهرية قد تعودت يداها ورجلاها حثيث المواكب إلا إنما نيران قيس إذا شتوا لطارق ليل مثل نار الحباحب وقال الخليل بن أحمد‏:‏ كفاه لم تخلقا للندى ولم بك بخلهما بدعه فكف عن الخر مقبوضه كما نقصت مائة سبعه إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم وليس يبلغنا ما تنضج النار وقال أحمد بن نعيم السلمي في بني حسان‏:‏ إذا احتفلوا لضيف لهوج قدرهم جراديم أشباه النخامة تبلع تبل ختان الضيف حتى تريبه ويصبح من عين أسته يتطلع ويقريك من أكرهته من سوادهم قرى الجن أو أدنى لجوعٍ وأبشع عظاماً وأرواثاً وبعراً وإن يكن لدى القوم نارٌ يشتوى لك ضفدع ولآخر‏:‏ فبتنا كأنا بينهم أهل مأتم على ميت مستودع بطن ملحد يحدث بعضٌ بعضنا بمصابه ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجلد ولآخر‏:‏ ذهب الكرام فلا كرام وبقي العضاريط اللئام من لا يقيل ولا يني ل ولا يشم له طعام ولآخر‏:‏ قد كان يعجبني لو أن غيرته على جرادقه كانت على حرمه ولآخر‏:‏ إن هذا الفتى يصون رغيفاً ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ئف في سلتين في منديل في جراب في جوف تابوت موسى والمفاتيح عند ميكائيل وقال أبو نواس في فضل الرقاشي‏:‏ رأيت قدور الناس سوداً من الصلى وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ويخرج ما فيه على طرف الظفر إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها أمامهم الحولي من ولد الذر وقال في إسماعيل الكاتب‏:‏ خبز إسماعيل كالوش ي إذا ما انشق يرفا عجباً من أثر الصن عة فيه كيف يخفى إن رفاءك هذا ألطف الأمة كفا ولآخر‏:‏ ارفع يمينك من طعامه إن كنت ترغب في كلامه سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه ولآخر‏:‏ رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا لتذب عنا ولكن خفت مرزئة الذباب ولآخر‏:‏ زرت امرأً في بيته مرةً له حباء وله خير يحذر أن يتخم إخوانه إن أذى التخمة محذور ويشتهي أن يؤجروا عنده بالصوم والصائم مأجور ومن قولنا في نحوه‏:‏ طعام من لست له ذاكرا دق كما دق بأن يذكرا لا يفطر الصائم من أكله لكنه صوم لمن أفطرا وقال آخر‏:‏ خليلي من كعب أعينا أخاكما عى دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ولم يدر أن المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا وفي كل معروف عليك يمين إذا جئته في حاجة سد بابه فلم تلقه إلا وأنت كمين باب من أخبار البخلاء الرياشي قال‏:‏ صاحب رجل رجلا من البخلاء فقال له‏:‏ احملني‏.‏
فقال‏:‏ ما كنت لأنزل وأحملك‏.‏
قال‏:‏ ما أنت بحاتمٍ حيث يقول‏:‏ أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب قال‏:‏ ما فيها محمل ولا بي طاقة على المشي‏.‏
وقد قال شاعرهم حاتم‏:‏ أماوي إما مانع فمبين وإما عطاء لا ينهنهه الزجر وقال كثير عزة‏:‏ مهين تلاد المال فيما ينوبه منوع إذا مانعته كان أحزما سأل عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من بعض الولاة حاجة فلم يقضها فتشفع إليه برجل فقضاها فقال‏:‏ ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب المجد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها احتاج أبو الأسود الدؤلي مرة فبعث إلى جار له موسر يستسلفه وكان حسن الظن به فاعتل عليه ورده فقال‏:‏ لا تشعرن النفس يأساً فإنما يعيش بجد حازمٌ وبليد ولا تطمعن في مال جارٍ لقربه فكل قريب لا ينال بعيد وكتب إلى آخر يستسلفه فكتب إليه‏:‏ المؤونة كثيرة والفائدة قليلة والمال مكذوب عليه‏.‏
فكتب إليه أبو الأسود‏:‏ إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً وإن كنت صادقاً فجعلك الله كاذباً‏.‏
وقال بعض الشعراء في بخيل‏:‏ ميت مات وهو في كنف العي ش مقيم في ظل عيش ظليل في عداد الموتى وفي عامر الدني ا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الحياة ولكن مات عن كل صالح وجميل ولآخر‏:‏ فأما قراه كله فلنفسه ومال يزيد كله ليزيد ولآخر‏:‏ فأما جوده فعلى النصارى وأما بأسه فعلى الكلاب ولآخر‏:‏ كدحت بأظفاري وأعملت معولي فصادفت جلموداً من الصخر أملسا تجهم لما جئت في وجه حاجتي وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى فأجمعت أن أنعاه لما رأيته يفوق فواق الموت حتى تنفسا وأنشد أبو جعفر البغدادي للجلودي‏:‏ جاء بدينارين لي صالحٌ أصلحه الله وأخزاهما أدناهما تحمله ذرةٌ وتلعب الريح بأوفاهما بل لو وزنالك ظليهما ثم عمدنا فوزناهما لكان لا كانا ولا أفلحا عليهما يرجح ظلاهما ولحماد عجرد‏:‏ أورق بخير تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ترى في الناس عفته حتى يقال غني وهو مجهود جاد ابن موسى من دنانيره لنا بدينارين أسرارا كلاهما في الكف من خفة لو نفخا من فرسخ طارا قلت وقلبي لهما منكر أريهما للحين قسطارا فكان هذا عنده بهرجا وكان هذا عنده بارا ثم وزنا واحداً منهما كان له القسطار مختارا فكان في كفة ميزانه ينقص قيراطاً ودينارا باب ما قيل في البخلاء سمع رجل أبا العتاهية ينشد‏:‏ فارمي بطرفك حيث شئت فلن تري إلا بخيلا فقال له‏:‏ بخلت الناس كلهم‏.‏
قال‏:‏ فأردني واحداً سمحا‏!‏ وقال ابن حازم‏:‏ وقالوا لو مدحت فتى كريماً فقلت وأين لي بفتى كريم بلوت ومر بي خمسون عاماً وحسبك بالمجرب من عليم ولآخر‏:‏ لما رآنا فر بوابه وانسد من غير يد بابه كلب له من بعضه حاجب يحجبه إن غاب حجابه ومن قولنا‏:‏ جعل الله رزق كل عدوٍ لي بكف لبعض من لا أسمي كف من لا يهز عطفيه يوماً لمديح ولا يبالي بذم يتلقى الرجاء منه بوجه راشح الخد والجبين بسم جئته زائراً فما زال يشكو لي حتى حسبته سيدمي ألف اللؤم فيه من كل طرف معرقاً فيه بين خال وعم قد نهاني النصيح عنه مراراً بأبي أنت من نصيح وأمي ومن قولنا‏:‏ يراعة غرني منها وميض سنىً حتى مددت إليه الكف مقتبسا فصادفت حجراً لو كنت تضربه من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا ومن قولنا‏:‏ صحيفة طابعها اللوم عنوانها بالبخل مختوم أهداكها والخلف في طيها والمطل والتسويف واللوم من وجهه نحس ومن قربه رجس ومن عرفانه شوم لا تهتضم إن كنت ضيفاً له فخبزه في الجوف هاضوم تكلمه الألحاظ من رقة فهو بلحظ العين مكلوم لا تأتدم شيئاً على أكله فإنه بالجوع مأدوم احتجاج البخلاء الأصمعي‏:‏ قال أبو الأسود الدؤلي‏:‏ لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حلاً منهم‏.‏
وقال لبنيه‏:‏ لا تطيعوا المساكين في أموالكم فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم‏.‏
وقال لهم أيضاً‏:‏ لا تجاودوا الله فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل ولكنه علم أن قوماً لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر وقوماً لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى‏.‏
وقال سهل بن هارون‏:‏ لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي‏.‏
وقال رجل من تغلب‏:‏ أتيت رجلاً من كندة أسأله فقال‏:‏ يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إلي منك وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبةً طوبة‏.‏
والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس‏.‏
وهذا نظير قول لآخر‏:‏ من أعطى في الفضول قصر في الحقوق‏.‏
وقال رجل لسهل بن هارون‏:‏ هبني ما لا مرزئة عليك فيه‏.‏
قال‏:‏ وما ذاك يا بن أخي قال‏:‏ درهماً واحداً‏.‏
قال‏:‏ يا بن أخي‏.‏
لقد هونت الدرهم وهو طابع الله في أرضه الذي لا يعصى والدرهم ويحك عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الألف والألف دية المسلم‏.‏
ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هونته وهل بيوت المال إلا درهم على درهم‏.‏
وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه‏:‏ يا بني أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما‏:‏ درهمك لمعاشك ودينك لمعادك‏.‏
وقال أبو الأسود‏:‏ إمساكك ما بيدك خير من طلبك ما بيد غيرك‏.‏
وأنشد في المعنى‏:‏ يلومونني في البخل جهلاً وضلةً وللبخل خير من سؤال بخيل ونظيره قول المتلمس‏:‏ وحبس المال خير من بغاه وضرب في البلاد بغير زاد وقيل لخالد بن صفوان‏:‏ ما لك لا تنفق فإن مالك عريض قال‏:‏ الدهر أعرض منه‏.‏
قيل له‏:‏ كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله قال‏:‏ لا ولكن أخاف ألا أموت في أوله‏.‏
وقال الجاحظ للحزامي‏:‏ أترضى أن يقال لك بخيل قال‏:‏ لا أعدمني الله هذا الاسم لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت‏.‏
قلت‏:‏ ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد وجمع لاسم البخل المال والذم‏.‏
قال‏:‏ بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي واسم البخيل فيه حزم واسم السخي فيه تضييع وحمد والمال ناض نافع وكرم لأهله والحمد ريح وسخرية وسمعة وطرمذة وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعرى ظهره وضاع عياله وشمت به عدوه‏.‏
وقال محمد بن الجهم‏:‏ من شأن من استغنى عنك ألا يقيم عليك ومن احتاج إليك ألا يزول عنك فمن حبك لصديقك وضنك بمودته ألا تبذل له ما يغنيه عنك وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك‏.‏
وقد قيل في مثل هذا‏:‏ أجع كلبك يتبعك وسمنه يأكلك‏.‏
فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر وقطع أسبابه من الشكر والمعين على الغدر شريك الغادر كما أن مزين الفجور شريك الفاجر‏.‏
وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه‏:‏ يا بني تعلموا الرد فإنه أسد من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني خيرٌ له من أن يقال له سخي وهو فقير‏.‏
وقال الجذامي‏:‏ يقولون‏:‏ ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك فما ظنك إن كان أقصر مني أليس يتخيل في قميصي‏!‏ وإن كان أطول مني أليس يصير آيةً للسائلين فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي فمتى يتفق هذا وقال أبو نواس‏:‏ كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد رجل من أهل خراسان وكان من فقهائهم وعقلائهم وكان يأكل وحده فقلت له‏:‏ لم تأكل وحدك فقال‏:‏ ليس علي في هذا مسألة‏.‏
إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف وأكلي وحدي هو الأصل وأكلي مع الجماعة تكلف ما ليس علي‏.‏
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم فجعل يقلبه ويقول‏:‏ في شق‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي شق آخر‏:‏ قل هو الله أحد ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذاً ورقية‏.‏
ورمى به في الصندوق‏.‏
وكان أبو عيسى بخيلاً وكان إذا وقع الدرهم بيده طنه بظفره وقال‏:‏ يا درهم كم من مدينة وقال رجل لثمامة بن أشرس‏:‏ إن لي إليك حاجةً‏.‏
قال‏:‏ وأنا لي إليك حاجة‏.‏
قال‏:‏ وما حاجتك إلي قال‏:‏ لا أذكرها حتى تضمن قضاءها‏.‏
قال‏:‏ قد فعلت‏.‏
قال‏:‏ فإن حاجتي إليك ألا تسألني حاجة‏.‏
فانصرف الرجل عنه‏.‏
وكان ثمامة يقول‏:‏ ما بال أحدكم إذا قال له الرجل‏:‏ اسقني أتى بإناء على قدر الري أو أصغر وإذا قال‏:‏ أطعمني أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة والطعام والشراب أخوان أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء‏.‏
الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في منبته ألا ترى الباقلاء الأخضر أطيب من الكمثري والباذنجان أطيب من الكمأة ولكن أهل التحصيل والنظر قليل وإنما يشتهون على قدر الثمن‏.‏
وكان يقول‏:‏ إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها وأعدى عدو له المالح فلولا أن الله أعان عليه بالماء لهلك الحرث والنسل‏.‏
وكان يقول‏:‏ كلوا الباقلاء بقشره فإن الباقلاء يقول‏:‏ من أكلني بقشري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته فما حاجتكم أن تصيروا طعاماً إلى طعامكم الأصمعي قال‏:‏ جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة فمت إليه بقرابة وسأله أن يعطيه فلم يعطه شيئاً ثم عاد إليه بعد أيام فقال‏:‏ أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام‏.‏
فقال له ابن هبيرة‏:‏ وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام‏.‏
فقال‏:‏ معذرة إليك إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي‏.‏
قال‏:‏ ذلك ألأم لك عندي وأهون بشأنك علي‏.‏
نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه ومات مثل يزيد ولم تعلم به يا حرسي اسفع بيده‏.‏
ومن أشعار البخلاء الذين يتمثلون بها‏:‏ وزهدني في كل خير صنعته إلى الناس ما جربت من قلة الشكر ولآخر‏:‏ ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل ولابن هرمة‏:‏ قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم‏:‏ تختلف الأقوال إذا اختلفت الأحوال‏.‏
وقولهم‏:‏ كلام الليل يمحوه النهار وقولهم‏:‏ بروق الصيف كاذبة الرعود رسالة سهل بن هارون في البخل بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
أصلح الله أمركم وجمع شملكم وعلمكم الخير وجعلكم من أهله‏.‏
قال الأحنف بن قيس‏:‏ يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار وقد كانوا يقولون‏:‏ إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عياباً فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب وقبيح أن تنهى مرشداً وأن تغري بمشفق وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم‏.‏
وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم‏.‏
ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه‏:‏ ‏"‏ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ‏"‏‏.‏
فما كان أحقكم في كريم حرمتنا بكم أن ترعوا قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم‏.‏
ولو كان ذكر العيوب يراد به فخراً لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا‏.‏
عبتموني بقولي لخادمي‏:‏ أجيدي العجين فهو أطيب لطعمه وأزيد في ريعه‏.‏
وقد قال عمر بن وعبتموني حين ختمت على سد عظيم وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة ومن رطبة غريبة على عبدٍ نهم وصبي جشع وأمة لكعاء وزوجة مضيعة وليس من أصل الأدب ولا في ترتيب الحكم ولا في عادات القادة ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس المأكول وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب التابع والمتبوع والسيد والمسود كما لا تستوي مواضعهم في المجالس ومواقع أسمائهم في العنوان ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين وعلف حماره السمسم المقشر‏.‏
وعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال‏:‏ طينة خير من ظنة‏.‏
فأمسكتم عمن ختم على لا شيء وعبتم من ختم على شيء‏.‏
وعبتموني أن قلت للغلام‏:‏ إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا طبخ أحدكم لحماً فليزد من الماء فمن لم يصب لحماً أصاب مرقاً‏.‏
وعبتموني بخصف النعل وبتصدير القميص حين زعمت أن المخصومة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنسك وأن الترقيع من الحزم والتفريق من التضييع والاجتماع من الحفظ‏.‏
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع أصابعه ويقول‏:‏ لو أهدى إلي ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت‏.‏
وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ من لم يشبع من الحلال خفت مؤنته وقل كبره‏.‏
وقال الحكماء‏:‏ لا جديد لمن لا يلبس الخلق‏.‏
وبعث زياد رجلاً يرتاد له محدثاً واشترط عليه أن يكون عاقلاً‏.‏
فأتاه به موافقاً فقال له‏:‏ أكنت به ذا معرفة قال‏:‏ لا ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديداً فتفرست فيه العقل والأدب‏.‏
وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه‏.‏
وقد جعل الله لكل شيء قدراً وسمى له موضعاً كما جعل لكل زماناً رجالاً ولكل مقام مقالاً‏.‏
وقد أحيا الله بالسم وأمات بالدواء وأغص بالماء‏.‏
وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين‏.‏
وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز وأمر مالك بن أنس بفرك البعر‏.‏
وقال عمر بن الخطاب‏:‏ من أكل بيضة فقد أكل دجاجة‏.‏
ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية‏.‏
وقال رجل لبعض الحكماء‏:‏ أريد أن أهدي إليك دجاجة‏.‏
فقال‏:‏ إن لا بد فاجعلها بيوضاً‏.‏
وعبتموني حين قلت‏:‏ من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي‏.‏
ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء وجدت في الأعضاء فضلاً عن الماء فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر فعبتموني بذاك وشنعتم علي‏.‏
وقد قال الحسن وذكر السرف‏:‏ أما إنه ليكون في الماء والكلأ‏.‏
فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ‏.‏
وعبتموني أن قلت‏:‏ لا يغترن أحدكم بطول عمره وتقويس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته وأن يرى نجوه أكثر من رزقه فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه فلعله أن يكون معمراً وهو لا يدري وممدوداً له في السن وهو لا يشعر ولعله أن يرزق الولد على اليأس ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على باله ولا يدركه عقله فيسترده ممن لا يرده ويظهر الشكوى إلى من لا يرجمه أصعب ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان له أن يطلب‏.‏
فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص‏:‏ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا‏.‏
وعبتموني بأن قلت‏:‏ إن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك وإن الحفظ إلى المال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما يعرض فيه بذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع وعبتموني أن قلت‏:‏ إن كسب الحلال مضمنٍ بالإنفاق في الحلال وأن الخبيث ينزع إلى الخبث وإن الطيب يدعو إلى الطيب وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهوى فعبتم علي هذا القول وقد قال معاوية‏:‏ لم أر تبذيراً قط إلا وإلى جنبه حق مضيع‏.‏
وقد قال الحسن‏:‏ إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله فانظروا فيماذا ينفقه فإن الخبيث إنما ينفق في السرف‏.‏
وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع‏.‏
وقال عمر بن الخطابرضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير‏:‏ فرقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين وقال ابن سيرين‏:‏ كيف تصنعون بأموالكم قالوا‏:‏ نفرقها في السفن فإن عطب بعض سلم بعض‏.‏
ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر‏.‏
قال ابن سيرين‏:‏ تحسبها خرقاء وهي صناع‏.‏
وعبتموني أن قلت لكم عند إشفاقي عليكم‏:‏ إن للغنى لسكراً وللمال لثروة فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله فعبتموني بذلك وقد قال زيد بن جبلة‏:‏ ليس أحد أقصر عقلاً من غني أمن الفقر وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر‏.‏
وقال الشاعر‏:‏ في يحيى بن خالد بن برمك‏.‏
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم لأن المال به يفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع‏.‏
فقلتم‏:‏ كيف هذا وقد قيل لرئيس الحكماء‏:‏ الأغنياء أفضل أم العلماء قال‏:‏ العلماء‏.‏
قيل له‏:‏ فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء قال‏:‏ ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم‏.‏
فقلت‏:‏ حالهما هي القاضية بينهما وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج‏.‏
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ إني لأبغض أهل البيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد‏.‏
وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده‏:‏ إذا بسط الله لك الرزق فابسط وإذا قبض فاقبض‏.‏
وعبتموني حين قلت‏:‏ فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت أن احتيج إليها استعملت وإن استغني عنها كانت عدة‏.‏
وقد قال الحصين بن المنذر‏:‏ وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه شيء‏.‏
قيل له‏:‏ فما كنت تصنع به قال‏:‏ لكثرة من كان يخدمني عليه لأن المال مخدوم‏.‏
وقد قال بعض الحكماء‏:‏ عليك بطلب الغنى فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك لكان الحظ فيه جسيماً والنفع فيه عظيماً‏.‏
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو ولستم علي تردون ولا رأيي تفندون فقدموا النظر قبل العزم وأدركوا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم والسلام عليكم‏.‏
ومن اللؤم التطفيل وهو التعرض للطعام من غير أن يدعى إليه‏.‏
أخبار الطفيليين أولهم طفيل العرائس وإيه نسب الطفيليون وقال لأصحابه‏:‏ إذا دخل أحدكم عرساً فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس لظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة فإن كان البواب غليظاً وقاحاً فتبدأ به وتأمره وتنهاه من غير تعنف عليه ولكن بين النصيحة والإدلال‏.‏
القحذمي قال‏:‏ يقول الطفيليون‏:‏ ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد‏:‏ عصا موسى وخشب منبر الخليفة وخوان الطعام‏.‏
وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه‏:‏ اللؤم شؤم‏.‏
فقيل له‏:‏ هذا رأس التطفيل‏.‏
أحمد بن علي الحاسب قال‏:‏ مر طفيلي بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس‏.‏
فقالوا له‏:‏ لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك قال‏:‏ إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة واطراحها صلة وقد جاء في الأثر‏:‏ ‏"‏ صل من قطعك وأعط من حرمك ‏"‏‏.‏
وأنشد‏:‏ فإذا ما رأيت آثار عرس أو دخاناً أو دعوة الأصحاب لم أعرج دون التقحم لا أر هب طعناً أو لكزة البواب مستهيناً بمن دخلت عليهم غير مستأذن ولا هياب فتراني ألف بالرغم منهم كل ما قدموه لف العقاب ومنهم أشعب الطماع قيل له‏:‏ ما بلغ من طمعك قال‏:‏ لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء‏.‏
وفيه يقال‏:‏ أطمع من أشعب‏.‏
وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقاً فقال له‏:‏ أسأل بالله إلا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين‏.‏
فقال له‏:‏ وما معناك في ذلك قال‏:‏ لعله يوماً أن يهدى إلي فيه شيء‏.‏
ساوم أشعب رجلاً في قوس عربية فسأله ديناراً فقال له‏:‏ والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشوياً بين رغيفين ما أعطيتك بها ديناراً‏.‏
وبينما قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أحدهم‏:‏ إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا‏.‏
وأذن له فقالوا له‏:‏ كيف رأيك في الحيتان فقال‏:‏ والله إن لي عليها لحرداً شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان‏.‏
قالوا له‏:‏ فدونك خذ بثأر أبيك‏.‏
فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال‏:‏ أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا‏:‏ لا ندري‏.‏
قال‏:‏ إنه يقول‏:‏ إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي‏:‏ عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته‏.‏
وكان رجل من الأمراء يستظرف طفيلياً يحضر طعامه وشرابه وكان الطفيلي أكولاً شروباً فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه فكتب إليه الطفيلي‏:‏ قد قل أكلي وعقل شربي وصرت من بابة الأمير فليدع بي وهو في أمان أن أشرب الراح بالكبير وأقبل طفيلي إلى صنيع فوجد باباً قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول فسأل عن صاحب الصنيع‏:‏ إن كان له ولد غائب أو شريك في سفر فأخبر عنه أن له ولداً ببلد كذا‏.‏
فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه ثم أقبل متدللاً فقعقع الباب قعقعة شديدة واستفتح وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل‏.‏
ففتح له الباب وتلقاه الرجل فرحاً وقال‏:‏ كيف فارقت ولدي قال له‏:‏ بأحسن حال وما أقدر أن أكلمك من الجوع‏.‏
فأمر بالطعام فقدم إليه وجعل يأكل ثم قال له الرجل‏:‏ ما كتب كتاباً معك قال‏:‏ نعم ودفع إليه الكتاب‏.‏
فوجد الطين طرياً‏.‏
فقال له‏:‏ أرى الطين طرياً قال‏:‏ نعم‏.‏
وأزيدك أنه من الكد ما كتب فيه شيئاً‏.‏
فقال‏:‏ أطفيلي أنت قال‏:‏ نعم أصلحك الله‏.‏
قال‏:‏ كل‏:‏ لا هنأك الله‏.‏
وقيل لأشعب‏:‏ ما تقول في ثريدة مغمورة بالزبدة مشقفة باللحم قال‏:‏ فأضرب كم قيل له‏:‏ بل تأكلها من غير ضرب‏.‏
قال‏:‏ هذا ما لا يكون ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة وقيل لمزبد المديني وقد أكل طعاماً كظه‏:‏ قئ‏.‏
قال‏:‏ أقئ خبزاً نقياً ولحم جدي امرأتي طالق‏:‏ لو وجدتهما قيئاً لأكلتهما‏.‏
وقيل لطفيلي‏:‏ ما أبغض الطعام إليك قال‏:‏ القريص‏.‏
قيل له‏:‏ ولم ذا قال‏:‏ لأنه يؤخر إلى يوم آخر‏.‏
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم فسلم ثم وضع يده يأكل معهم‏.‏
قالوا له‏:‏ أعرفت منا أحداً قال‏:‏ نعم عرفت هذا وأشار إلى الطعام‏.‏
فقالوا‏:‏ قولوا بنا فيه شعراً‏.‏
فقال الأول‏:‏ لم أر مثل سرطة ومطة وقال الثاني‏:‏ ولفة دجاجة ببطة وقال الثالث‏:‏ فقال الإثنان للثلث‏:‏ أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم فما يصنع جالينوس تحت إبطه قال‏:‏ يلقمه الجوارشن كلما خاف عليه التخمة يهضم بها طعامه‏.‏
ومر طفيلي على الجماز فقال له‏:‏ ما تأكل قال‏:‏ كلب في قحف خنزير‏.‏
ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال‏:‏ ما تأكلون فقالوا من بغضه‏:‏ سماً‏.‏
فأدخل يده وقال‏:‏ الحياة حرام بعدكم‏.‏
ومر طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه فتسور عليهم من الجدار وقال‏:‏ منعتموني من الأرض فجئتكم من السماء‏.‏
وقيل لطفيلي‏:‏ كم اثنان في اثنين قال أربعة أرغفة‏.‏
وقيل لآخر‏:‏ كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قال‏:‏ كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر درهما‏.‏
قال محمد بن أحمد الكوفي حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال‏:‏ أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له بالبصرة فجمعوا وأبصرهم طفيلي فقال‏:‏ ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع فانسل فدخل وسطهم ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعد لهم فدخل الزورق فقال الطفيلي‏:‏ هي نزهة‏.‏
فدخل معهم فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد معهم الطفيلي ثم سير بهم إلى بغداد فأدخلوا على المأمون فجعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً فيأمر بضرب رقابهم حتى وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدة فقال للموكلين‏:‏ ما هذا قالوا‏:‏ والله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به‏.‏
فقال له المأمون‏:‏ ما قصتك ويلك‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏.‏
امرأته طالق إن كان يعرف من أحوالهم شيئاً ولا مما يدينون الله به إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة‏.‏
فضحك المأمون وقال‏:‏ يؤدب‏.‏
وكان إبراهيم بن المهدي قائماً على رأس المأمون فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه وأحدثك عن حديث عجيب عن نفسي‏.‏
قال‏:‏ قل يا إبراهيم‏.‏
قال‏:‏ خرجت يا أمير المؤمنين من عنك يوماً فطفت في سكك بغداد متطرباً فانتهيت إلى موضع فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها فوقفت على خياط فقلت‏:‏ لمن هذه الدار قال‏:‏ لرجل من التجار البزازين قلت‏:‏ ما اسمه قال‏:‏ فلان بن فلان فنظرت إلى الدار فإذا بشباك فيها مطل فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدور وبقيت باهتاً ساعة ثم أدركني ذهني فقلت للخياط‏:‏ أهو ممن يشرب النبيذ قال‏:‏ نعم وأحسب أن عنده اليوم دعوة وليس ينادم إلا تجاراً مثله مستورين فبينا أنا كذلك إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب فقال الخياط‏:‏ هؤلاء منادموه‏.‏
فقلت‏:‏ ما اسماهما وما كناهما قال‏:‏ فلان وفلان‏.‏
فحركت دابتي وداخلتهما وقلت‏:‏ جعلت فداكما‏.‏
قد استبطأكم أبو فلان أعزه الله وسايرتهما حتى بلغا الباب فأجلاني وقدماني فدخلنا‏.‏
فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل أو قادم قدمت عليهما من موضع فرحب بي وأجلست في أفضل المواضع فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف وأتينا بتلك الألوان فكان طعمها أطيب من ريحها فقلت في نفسي‏:‏ هذه الألوان قد أكلتها وبقي الكف والمعصم كيف أصل إلى صاحبتهما ثم رفع الطعام وجاءونا بوضوء فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل علي بالحديث وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة حتى إذا شربنا أقداحاً خرجت علينا جارية كأنها جان تثنى كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة وثنيت لها وسادة فجلست وأتي بالعود فوضع في حجرها فجسته فاستبنت في جسها حذقها ثم اندفعت تغني‏:‏ توهمها طرفي فأصبح خدها وفيه مكان الوهم من نظري أثر وصافحها كفي فآلم كفها فمن مس كفي في أناملها عقر فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي وطربت لحسن شعرها ثم اندفعت تغني‏:‏ فحدت عن الإظهار عمداً لسرها وحادت عن الإظهار أيضاً على عمد فصحت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ السلاح وجاءني من الطرب ما لم أملك نفسي ثم اندفعت فغنت الصوت الثالث‏:‏ أليس عجيباً أن بيتاً يضمني وإياك لا نخلو ولا نتكلم سوى أعين تشكو الهوى بجفونها وتقطيع أنفاس على النار تضرم إشارة أفواه وغمز حواجب وتكسير أجفان وكف تسلم فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء وإصابتها لمعنى الشعر وأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت به فقلت‏:‏ بقي عليك يا جارية‏.‏
فضربت بعودها الأرض وقالت‏:‏ متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي فقلت‏:‏ أما عندكم عود غير هذا قالوا‏:‏ بلى‏.‏
فأتيت بعود فأصلحت من شأنه ثم غنيت‏:‏ ما للمنازل لا يجبن حزيناً أصممن أم قدم المدى فبلينا راحوا العشية روحةً مذكورة إن متن متنا أو حيين حيينا فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبت على رجلي تقبلها وقالت‏:‏ معذرةً إليك فوالله ما سمعت أحد يغني هذا الصوت عناءك وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها وطرب القوم أفي الحق أن تمسي ولا تذكرينني وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما فردي مصاب القلب أنت قتلته ولا تتركيه ذاهل العقل مغرما إلى الله أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبذل علقما إلى الله أشكو أنها مادرية وأني لها بالود ما عشت مكرما فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث‏:‏ هذا محبك مطويٌ على كمده حرى مدامعه تجري على جسده له يد تسأل الرحمن راحته مما جنى ويد أخرى على كبده فجعلت الجارية تصيح‏:‏ هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه وسكر القوم‏.‏
وكان صاحب المنزل حسن الشرب الصحيح العقل فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه فلما شربنا أقداحاً قال‏:‏ يا هذا ذهب ما مضى من أيامي ضياعاً إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولي ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر فقام وقبل رأسي وقال‏:‏ وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك وأني لجالس مع الخلافة ولا أشعر ثم سألني عن قصتي فأخبرته حتى بلغت خبر الكف والمعصم فقال للجارية‏:‏ قومي فقولي لفلانة تنزل ثم لم يزل ينزل جواريه واحدةً بعد أخرى وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول‏:‏ ليست هي حتى قال‏:‏ والله ما بقي غير زوجتي وأختي ووالله لأنزلنهما إليك فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت‏:‏ جعلت فداءك ابدأ بالأخت قبل الزوجة فعساها هي فبرزت فلما رأيت كفها ومعصمها قلت‏:‏ هي هذه فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه فأقبلوا بهم وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم فقال للمشايخ‏:‏ هذه أختي فلانة أشهدكم أني زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرين ألفاً فرضيت النكاح‏.‏
فدفع إليها البدرة وفرق الأخرى على المشايخ وقال لهم‏:‏ انصرفوا‏.‏
ثم قال‏:‏ يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك‏.‏
فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت‏:‏ بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي‏.‏
قال‏:‏ ما شئت فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين‏.‏
فعجب المأمون من كرم الرجل وأطلق الطفيلي وأجازه وألحق الرجل في أهل خاصته‏.‏
ومر طفيلي بقوم يتغدون فقال‏:‏ سلام عليكم معشر اللئام‏.‏
فقالوا‏:‏ لا والله بل كرام‏.‏
فثنى رجله وجلس وقال‏:‏ اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين‏.‏
ودخل طفيلي من أهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة فألقاها إليه وقال‏:‏ حياك الله يا مدني فلزمها وأكلها‏.‏
فقال له‏:‏ شؤم عليك يا مدني أتأكل التحيات قال‏:‏ إي والله والزاكيات الطيبات كنت آكلها‏.‏
وقال إبراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه‏:‏ نعم النديم نديم لا يكلفني ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج يكفيه لونان من كشك ومن عدس ولو يشاء فزيتون بطسوج وقال طفيلي في نفسه‏:‏ نحن قوم إذا دعينا أجبنا ومتى ننس يدعنا التطفيل ونقل علنا دعينا فغبنا وأتانا فلم يجدنا الرسول وقال آخر وأتى طعاماً لم يدع إليه فقيل له‏:‏ من دعاك فأنشأ‏:‏ دعوت نفسي حين لم تدعني فالحمد لي لا لك في الدعوة وكان ذا أحسن من موعد مخلفه يدعو إلى الجفوة ودخل طفيلي في صنيع رجل من القبط فقال له‏:‏ من أرسل لك فأنشأ‏:‏ أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم إن المحب إذا ما لم يزر زارا فقال له القبطي‏:‏ زر زارا ليس ندري من هو اخرج من بيتي‏.‏
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل فرأى لهم هيئة حسنة وثياباً نقية فظنهم يدعون إلى وليمة فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحداً منهم فلما بلغ صاحب الشرطة قال‏:‏ أصلحك الله لست والله منهم وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم‏.‏
فقال‏:‏ ليس هذا مما ينجيك مني اضربوا عنقه‏.‏
فقال‏:‏ أصلحك الله إن كنت ولا بد فاعلاً فأمر السياف أن يضرب بطني بالسيف فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة‏.‏
فضحك صاحب الشرطة وكشف عنه فأخبروه أنه طفيلي معروف فخلى سبيله‏.‏
وقال طفيلي‏:‏ ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً وخيلاً من البرني فرسانها الزبد فأطلب فيما بينهن شهادةً بموت كريم لا يشق له لحد وكان أشعب يختلف إلى ينة بالمدينة يطارحها الغناء فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها‏:‏ ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به‏.‏
قالت‏:‏ إنه ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود‏.‏
اصطحب شيخ وحدث من الأعراب فكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق ويتضور الشيخ لقد رابني من جعفر أن جعفراً يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسك الحب لم تبت سميناً وأنساك الهوى شدة الأكل وقال الحدث‏:‏ إذا كان في بطني طعامٌ ذكرتها وإن جعت يوماً لم تكن لي على ذكر ويزداد حبي إن شبعت تجدداً وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة ويظهر لها التعاشق إلى أن سألته سلفة نصف درهم فانقطع عنها وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقاً أخرى فصنعت له نشوقاً وأقبلت به إليه فقال لها‏:‏ ما هذا قالت‏:‏ نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك‏.‏
فقال‏:‏ اشربيه أنت للطمع فلو انقطع طمعك انقطع فزعي وأنشأ يقول‏:‏ أخلفي ما شئت وعدي وامنحيني كل صدِّ قد سلا بعدك قلبي فاعشق من شئت بعدي إنني آليت لا أع شق من يعشق نقدي وقيل لأشعب‏:‏ ما أحسن الغناء قال‏:‏ نشيش المقلي‏.‏
قيل له‏:‏ فما أطيب الزمان قال‏:‏ إذا كان عندك ما تنفق‏.‏
وكان أشعب يغني‏:‏ وكان الحب في القلب فصار الحب في المعده وقال آخر في طفيلي من أهل الكوفة‏:‏ زرعنا فلما تمم الله زرعنا وأوفى عليه منجل بحصاد بلينا بكوفي حليف مجاعة أضرّ بزرع من دبي وجراد وقال هشام أخو ذي الرُّمة لرجل أراد سفراً‏:‏ إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن تكون كلب الرفاق فافعل‏.‏
وخرج أبو نواس متنزهاً مع شطار من أصحابه فنزلوا روضة ووضعوا شراباً فمر بهم طفيلي فتطارح عليهم فقال أبو نواس‏:‏ ما اسمك قال‏:‏ أبو الخير‏.‏
فرحب به وقعد معهم‏.‏
ثم مرت بهم جارية فسلمت فرد عليها وقال لها‏:‏ ما اسمك قالت‏:‏ زانة‏.‏
قال أبو نواس لأصحابه‏:‏ اسرقوا الياء من أبي الخير فأعطوها زانة فتكون زانية ويكون أبو الخير أبا الخرء كما هو‏.‏
ففعلوا‏.‏
الجاحظ قال‏:‏ دعي أبو عبد الله الواسطي إلى صنيع فدعاني فدعوت أبا الفلوسكي‏.‏
فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له‏:‏ أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع فلم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا فوجدنا البواب ذا غلظ وجفا فمنعنا فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر أحداً يعلم أبا عبد الله الواسطي بحالنا‏.‏
فمكثنا حيناً حتى أتى من نعرفه فسألناه أن يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس فقعد فيه ثم قال لي‏:‏ ها هنا عندنا يا أبا عثمان‏.‏
فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي‏:‏ كيف تسمي العرب من أمالت أنفسها قال الفلوسكي‏:‏ تسميه ضيفاً فقال له الجاحظ‏:‏ وكيف تسمي من أماله الضيف قال‏:‏ تسميه ضيفاً‏.‏
قال الجاحظ‏:‏ وكيف تسمي من أماله الضيفان قال‏:‏ ما لمثل هذا عند العرب تسمية قال الجاحظ‏:‏ فقلت‏:‏ قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسماً ثم تتحكم تحكم صاحب البيت

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 03:02 AM

باب من أخبار المحارفين الظرفاء
منهم أبو الشمقمق الشاعر وكان أديباً طريقاً محارفاً وكان صعلوكاً متبرماً بالناس وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فينظر من فروج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه‏.‏
فأقبل إليه يوماً بعض إخوانه الملطفين له فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له‏:‏ أبشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث‏:‏ إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة‏.‏
فقال‏:‏ إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازاً ثم أنشأ يقول‏:‏ أنا في حال تعالى الله ربي أي حال ليس لي شيء إذا قي ل لمن ذا قلت ذا لي ولقد أفلست حتى محت الشمس خيالي ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي وله‏:‏ أتراني أرى من الدهر يوماً لي فيه مطية غير رجلي له والعوّام ولا عقب له‏.‏
وكتب يزيدُ بن عبد الملك إلى عُمال عمرَ بن عبد العزيز‏:‏ أما بعد فإن عمرَ كان مغروراً غررتموه أنتم وأصحابكم وقد رأيتُ كُتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة‏.‏
فإذا أتاكم كتابي هذا فدَعُوا ما كنتم تَعرِفون من عَهده وأعيدوا الناسَ إلى طَبقتهم الأولى أخْصَبوا أم أجْدَبوا أحبُّوا أم كَرِهوا حَيُوا أم ماتوا والسلام‏.‏
أبو الحسن المَدائني قال‏:‏ لما وَلي يزيدُ بن عبد الملك وجه الجيوشَ إلى يزيد بن المُهلب فعَقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش وللعبّاس بن الوليد على أهل دِمشق خاصة‏.‏
فقال له العباس‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أهل العراق قومُ إرجاف وقد خَرجنا إليهم محاربين والأحداثُ تَحدُث فلو عهدتَ إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏
قال‏:‏ غداً إن شاء الله‏.‏
وبلغ مَسلمةَ الخبرُ فأتاه فقال له‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أولاد عبد الملك أحب إليك أم أولاد الوليد قال‏:‏ ولدُ عبد الملك‏.‏
قال‏:‏ فأخوك أحقُّ بالخلافة أم ابنُ أخيك قال‏:‏ بل أخي إذا لم يكن ولدي أحقُّ بها من ابن أخي‏.‏
قال‏:‏ يا أمير المؤمنين فإن ابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ولابنك الوليد من بعده‏.‏
قال‏:‏ غدا أن شاء اللّه‏.‏
فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده والوليدُ يومئذ ابنُ إحدى عشرة سنة‏.‏
فلما انقضى أمرُ يزيدَ بن المهلَّب وأدرك الوليدُ نَدِم يزيد على استخلاف هشام فكان إذا نظر فكتب إليه هشام‏:‏ إن مثلي ومثلك كما قال الأول‏:‏ ومَن لم يُغمَض عينَه عنِ صديقِه وعَن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتبُ ومَن يَتتبّع جاهداً كل عَثرة يَجدْها ولا يَبقى له الدهرَ صاحب فكتب إليه يزيد‏:‏ نحن مُغتفرون ما كان منك ومُكذَبون ما بلغنا عنك مع حِفْظ وصيّة أبينا عبد الملك وما حَضَّ عليه من صلاح ذات البين‏.‏
وإني لأعلُم أنك كما قال مَعن بن أوس‏:‏ لَعمرك ما أدْرِي وإني لأوْجلُ علىِ أيّنا تَعْدو المنية أولُ وإني على أشياء منكَ تَريبني قديماً لذو صَفْح على ذاك مُجْمِل ستَقطع في الدُّنيا إذا ما قَطعتَني يمينَك فانظر أيّ كفِّ تبدَّل إذا سُؤْتني يوماً صفحتُ وإلى غدٍ ليَعْقُبَ يوماً منك آخَرُ مُقْبِل إذا أنتَ لم تُنْصف أخاك وجدتَه على طَرَف الهِجْران إن كان يَعْقل ويَركبُ حدَ السيف مَن أنْ تَضِيمَه إذا لم يكن عن شَفْرة السيف مَزْحل وفي الناس إن رثّت حبالُك واصلٌ وفي الأرض عن دار القِلَى مُتحوَّل فلما جاءه الكتابُ رَحل هشام إليه‏:‏ فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد وهو معه يا عسكره بن بكار قال‏:‏ كان يزيدُ بن عبد الملك كَلِفاً بحَبابة كلفاً شديداً فلما تُوفيت أكبّ عليها يتشمّمها أياماً حتى أنتنت فأخذ في جِهازها وخَرج بين يدي نَعشها حتى إذا بلغ القبرَ نزل فيه‏.‏
فلما فَرغ من دَفنها لصق به مَسلمة أخوه يُعزَيه ويؤنسه‏.‏
فقال‏:‏ قاتل الله ابنَ أبي جُمعة‏!‏ كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث يقول‏:‏ فإن تَسْلُ عنكِ النفسُ أو تَدَع الهوى فباليَأس تَسْلو عنك لا بالتجلدِ وكلّ خَليل زارني فهو قائلٌ من أجْلك هذا مَيِّت اليوم أو غدِ قال‏:‏ وطُعن في جَنازتها فدفنّاه إلى سبعة عشرَ يوماً‏.‏
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان ثم بُويع هشامُ بن عبد الملك بن مَرْوان يُكنى أبا الوليد‏.‏
وأمُّه أم هشام بنت هشامِ بن إسماعيل بن هشام المخزوميّ - يومَ الجمعة لخمس ليالي بَقين من شعبان سنة خمس ومائة‏.‏
ومات بالرُّصافة يوِم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابنُ ثلاث وخمسين سنة‏.‏
وصلّى عليه الوليدُ بن يزيد‏.‏
وكانت خلافته عشرين سنة‏.‏
أسماء ولد هشام بن عبد الملك معاوية وخَلف ومَسلمة ومحمد وسُليمان وسَعيد وعبدُ اللّه ويزيد - وهو الأبكم - ومَروان وإبراهيم ويحيى ومُنذر وعَبد الملك والوليد وقُريش وعبد الرحمن‏.‏
وكان على شُرطته كعب بن عامر العَبْسي‏.‏
وعلى الرَّسائل سالم مولاه‏.‏
وعلى خاتم الخلافة الرّبيعُ مولى لبني الْحريش وهو الربيع بن ساخبور‏.‏
وعلى الخاتم الصغير أبو الزُّبير مولاه‏.‏
وعلى ديوان الخراج والجُند أسامة بن زيد ثم عَزله وولّى الحَثْحاث‏.‏
وعلى إذنه غالبُ بن مسعود مولاه‏.‏
أخبار هشام بن عبد الملك أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان عبد الملك بن مَروان رَأى في مَنامه أنّ عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المُغيرة المَخزومي فلقَت رأسَه فقطعتْه عشرين قطعة‏.‏
فغمّه ذلك فأرسل إلى سعيد بن المُسيب فقصّها عليه‏.‏
فقال سعيد‏:‏ تلَد غلاماً يملك عشرِين سنة‏.‏
وكانت عائشةُ أم هشام حَمْقاء فطلقها عبدُ الملك لحُمْقها وولدتْ هشاماً وهي طالق ولم يكن في ولد عَبد الملك أكملُ من هشام‏.‏
قال خالدُ بن صَفوان‏:‏ دخلتُ على هشام بن عبد الملك بعد أن سَخط على خالد بن عبد الله القَسْريّ وسلّط عليه يوسفَ بن عمر عاملَه على العراق فلما دخلتُ عليه استدناني حتى كنتُ أقربَ الناس إليه فتنفّس الصُّعَداء ثم قال‏:‏ يا خالد رُب خالد قعد مقعدك هذا أشهى إلىّ حديثاً منك‏.‏
فعلمتُ أنه يريد خالدَ بن عبد الله القَسرىّ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أفلا تُعيده قال‏:‏ هيهات إن خالداً أدلّ فأملّ وأوجف فأعجف ولم يَدع لمُراجع مَرجعاً على أنه ما سألني حاجةً قط‏.‏
فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين فلو أدْنيتَه فتفَضّلت عليه قال‏:‏ هيهات‏!‏ وأنشد‏:‏ إذا انصرفتْ نَفْسي عن الشيَّء لم تَكُن عليه بوَجهٍ آخرَ الدَهر تُقْبِلُ قال أصبغ بن الفَرج‏:‏ لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام خَرج حاجًّا فحَمل ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل‏.‏
ودَخل المدينةَ فقال لرجل‏:‏ انظر مَن في المسجد‏.‏
فقال‏:‏ رجل طويل أدْلمِ‏.‏
قال‏:‏ هذا سالمُ بن عبد اللهّ ادعه‏.‏
فأتاه فقال‏:‏ أجِبْ أمير المؤمنين وإن شئت أرْسِل فتُؤْتى بثيابك‏.‏
فقال‏:‏ ويحك‏!‏ أتيتُ اللّه زائراً في رِداء وقَميص ولا أدخل بهما على هشام‏!‏ فدخل عليه فوصله بعشرة آلاف‏.‏
ثم قَدِم مكة فقَضى حجه فلما رجع إلى المدينة قيل له‏:‏ إن سالماً شديدُ الوَجع فدَخل عليه وسأله عن حاله‏.‏
ومات سالمٌ فصلِّى عليه هشام وقال‏:‏ ما أدْري بأي الأمرين أنا أسرّ‏:‏ بحِجتي أم بصَلاتي على سالم‏.‏
قال‏:‏ ووقف هشامٌ يوماً قريباً من حائط فيه زَيتون له فسمع نَفْض الزيتون فقال لرجل‏:‏ انطلق إليهم فقُل لهم‏:‏ التقطوه ولا تَنفُضوه فتفقئوا عُيونه وتَكسروا غصونه‏.‏
وخرج هشام هارباً من الطاعون فانتهى إلى دَير فيه راهب فأدخله الراهبُ بًستانَه فجعل يَنْتقي له أطايبَ الفاكهة والبالغَ منها‏.‏
فقال هشام‏:‏ يا راهب هَبْني بستانَك هذا‏.‏
فلم يُجبه‏.‏
فقال‏:‏ مالك لا تتكلِّم فقال‏:‏ وَدِدْتُ أن الناس كلَهم ماتوا غيرَك‏.‏
قال‏:‏ ولم قال‏:‏ لعلّك أن تَشبع‏.‏
فالتفت هشام إلى الأبرش فقال‏:‏ أتسمع ما يقول قال الأبرش‏:‏ بلى واللّه ما لقيك حر غيره‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ أنّي لقاعد عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيمُ ابن محمد بن طلحة وصاحب حَرَس هشام حتى قعدا بين يديه فقال الحَرَسي‏:‏ إن أمير المؤمنين جَراني في خصومة بينه وبين إبراهيم‏.‏
قال القاضي‏:‏ شاهدَيك على الجراية‏.‏
فقال‏:‏ أتُراني قلتُ على أمير المؤمنين ما لم يقل وليس بيني وبينه إلا هذه الستارة قال‏:‏ لا ولكنه لا يَثْبت الحقُّ لك ولا عليك إلا ببينة‏.‏
قال‏:‏ فقام فلم يَلْبث حتى قَعقعت الأبوابُ وخرج الحرسي فقال‏:‏ هذا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ فقام القاضي فأشار إليه فقَعد وبَسط له مُصلى فقعد عليه هو وإبراهيم وكُنّا حيث نَسمع بعضَ كلامهما ويحفى علينا البعضُ‏.‏
قال‏:‏ فتكلّما وأحضرت البيّنة فقضى القاضي على هشام‏.‏
فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخُرق فقال‏:‏ الحمد لله الذي أبان للناس ظُلمك‏.‏
فقال هشام‏:‏ لقد هَممتُ أنْ أضربَك ضربةً يَنْتثر منها لحمًك عن عَظمك‏.‏
قال‏:‏ أما والله لئن فعلتَ لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القَرابة واجب الحقّ‏.‏
قال له‏:‏ استُرها عليّ يا إبراهيم‏.‏
قلت‏:‏ لا سَتر الله عليَّ ذنبي إذاً يومَ القيامة‏.‏
قال‏:‏ إنّي مُعطيك عليها مائة ألف‏.‏
قال إبراهيم‏:‏ فسترتُها عليه طولَ حياته ثمناً لما أخذتُ منه وأذعتُها عنه بعد موته تزييناً له‏.‏
وذكروا عن الهَيثم ابن عَدي قال‏:‏ كان سعيدُ بن هشام بن عبد الملك عاملًا لأبيه على حِمْص وكان يُرْمَى بالنساء والشراب فقَدِم حِمصيُّ لهشام فلقيه أبو جَعد الطائي في طريق فقال له‏:‏ هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس فإني لا أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين ليس فيه حاجة بمسألة دينار ولا درهم فأخذها وأخذ الكتابَ‏.‏
فلما قدم على هشام سأله‏:‏ ما قِصة هذه الفرس فأخبره‏.‏
فقال‏:‏ هاتِ الكتاب فإذا فيه‏:‏ أبْلِغ إليك أميرَ المُؤمِنين فقدْ أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا عَوْراً يُخالف عمراَ في حَليلتِه وعند ساحته يُسْقَىَ الطِّلا دِينا قلما قرأ الكتاب بعث إلى سَعيد فأشخصه فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة وقال‏:‏ يا بن الخبيثة تَزني وأنت ابن أمير المؤمنين‏!‏ ويلك‏!‏ أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش أوَ تدري ما فُجور قريش لا أم لك قتْلِ هذا وأخْذ مال هذا واللهّ لا تلي لِه عملاً حتى تموت‏.‏
قال قال‏:‏ فما وَلى له عملاَ حتى مات‏.‏
أحمد بن عُبيد قال‏:‏ أخبرني هشام الكلْبي عن أبي محمد بن سُفيان القُرشيّ عن أبيه قال‏:‏ كُنَّا عند هشام بن عبد الملك وقد وَفد عليه وفدُ أهل الحجاز وكان شبابُ الكُتَّاب إذا قَدم الوفدُ حضروا لاستماع بلاغة خُطبائهم فحضرتُ كلامهم حتىِ قام محمد بن أبي الجهم بن حُذيفة العَدوىّ وكان أعظَم القوم قدراً وأكبَرهم سنّاَ فقال‏:‏ أصلح اللّه أميرَ المؤمنين إنّ خُطباء قريش قد قالت فيك ما قالت وأكثرتْ وأطنبت واللّه ما بلغ قائلُهم قدرَك ولا أحصى خطيبُهم فضلَك وإن أذنْتَ في القول قلتُ قالت‏:‏ قُل وأوجز‏.‏
قال‏:‏ تولاك الله يا أميرَ المؤمنين بالحُسنى وزينك بالتَقوى وجَمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال‏:‏ هاتها‏.‏
قال‏:‏ كَبُر سني ونال الدهرُ مني فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْبر كَسْري ويَنْفِيَ فَقري فَعل‏.‏
قال‏:‏ وما الذي يَنْفي فقرَكِ ويَجْبر كسرك قال‏:‏ ألفُ دينار وألفُ دينار وألفً دينار‏.‏
قال‏:‏ فأطرق هشام طويلاً ثم قال‏:‏ يا بن أبي الجهم بيتُ المال لا يَحتمل ما ذكرتَ ثم قال له‏:‏ هيه‏.‏
قال‏:‏ ما هيه أما والله إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك بمجلسك فإن تعطنا فحقّنا أديتَ وإن تمنعنا فنَسأل الله الذي بيده ما حَويتَ‏.‏
يا أمير المؤمنين إنّ الله جعل العَطاء محبّة والمنع مَبْغضة‏.‏
والله لأن احبك أحبُّ إليً من أن أبغضك‏.‏
قال‏:‏ فألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أقضي بها ديناً قد حان قضاؤُه وقد عَنَاني حملُه وأضرّ بي أهلُه‏.‏
قال‏:‏ فلا بأس نُنفِّس كرْبة ونؤدي أمانة‏.‏
وألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أزوَج بها من بَلغ من وَلدي‏.‏
قال‏:‏ نِعم المَسلكُ سلكتَ أغضضتَ بصراً وأعففتَ ذكَراً وأمَّرت نسلاً‏.‏
وألفُ دينار لماذا قال‏:‏ أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي‏!‏ وأستعين بفضلها على نوائب دَهري وتكون ذُخراً لمن بعدي‏.‏
قال‏:‏ فإنا قد أمرنا لك بما سألت‏.‏
قال‏:‏ فالمحمودُ اللّه على ذلك وخَرج‏.‏
فأتبعه هشام بصرَه وقال‏:‏ إذا كان القُرشي فليكن مثلَ هذا ما رأيتُ رجلاً أوجزَ في مقال ولا أبلغَ في بيان منه‏.‏
ثمِ قال‏:‏ أما والله إنّا لنعوف الحق إذا نزل ونَكْره الإسرافَ والبَخَلَ وما نُعطي تَبذيراً ولا نمنع تَقتيرا وما نحن إلا خُزَّانُ اللّه في بلاده وأمناؤه على عِباده فإذا أذن أعطينا وإذا مَنع أبينا ولو كان كل قائل يَصدُق وكل سائل يَستحق ما جَبَهْنا قائلًا ولا رَدَدنا سائلًا‏.‏
ونَسأل الذي بيده ما استحفَظَنا أن يُجْرِيه على أيدينا‏.‏
فإنه يَبْسط الرِّزق لمن يشاء ويَقدر إنه بعباده خَبير بصير‏.‏
فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد تكلّمت فأبلغتَ وما بلغ في كلامه ما قَصصت‏.‏
قال‏:‏ إنه مُبتدىء وذكروا أنّ العبّاس بن الوليدَ وجماعةً من بني مَرْوان اجتمعوا عند هشام فذكروا الوليد بن يزيدَ وعابوه وذمّوه وكان هشام يُبغضه ودخل الوليدُ فقال له العبّاس‏:‏ يا وليد كيف حُبّك للروميًات فإن أباك كان مشغوفاً بهن قال‏:‏ كيف لا يكون وهُن يَلدْن مثلَك قال‏:‏ ألا تسكت يا بن البَظْراء قال‏:‏ حَسْبك أيها المُفتخر علينا بخِتان أمه‏.‏
وقال له هشام‏:‏ ما شرابُك يا وليد قال‏:‏ شرابُك يا أمير المؤمنين وقام فخرج‏.‏
فقال هشام‏:‏ هذا الذي زَعمتموه أحمق‏!‏ وقَرَّب الوليدُ بن يزيد فرسَه جراميزَه ووَثب على سرجه ثم التفت إلى ولد هشام وقال له‏:‏ هل يقدر أبوك أن يصنع مثل هذا قال‏:‏ لأبي مائة عبد يَصنعون مثلَ هذا‏.‏
فقال الناس‏:‏ لم يُنصفه في الجواب‏.‏
العُتبي عن أبيه قال‏:‏ سمعتُ معاوية بن عَمرو بن عُتبة يحدَث قال‏:‏ إني لقاعد بباب هشام بن عبد الملك وكان الناسُ يتقرّبون إليه بعَيب الوليد ابن يزيد قال‏:‏ فسمعتُ قوماً يعيبونه فقلت‏:‏ دَعُونا من عَيب مَن يلزمنا مَدْحُه ووَضْع مَن يجب علينا رَفعُه‏.‏
وكانت للوليد بن يزيد عيونٌ لا يَبرحون بباب هشام فنقلوا إليه كلامي وكلامَ القوم فلم ألبث إلا يسيراً حتى راح إليّ مولُى للوليد قد التحف على ألف دينار فقال لي‏:‏ يقوِل لك مولاي‏:‏ أنفق هذه في يومك وغداً أمامَك‏.‏
قالت‏:‏ فمُلئت رُعباً من هشام وخشيت سطوتَه ورماه الله بالعلّة فدفنّاه لثمانيةَ عشرَ يوماً بعد ذلك اليوم‏.‏
فلما قام الوليدُ بعده دخلت عليه فقال لي‏:‏ يا بن عُتبة أتراني ناسياً قُعودَك بباب الأحول يَهْدَمني وتبنيني ويَضَعني وتَرْفعني فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين شاركتَ قومَك في الإحسان وتفردّت دونهم بإحسانك إليّ فلستُ أحمد لك نفسي في اجتهاد ولا اعذُرها في تَقصير وتَشهد بذلك ألسنةُ الجائزين بنا ويُصَدِّق قولَهم الفِعالُ منا‏.‏
قال كذلك أنتم لنا آلَ أبي سُفيان وقد أقطعتُك مالي بالبَثَنِيَّة وما أعلم لقُرشي مثلَه‏.‏
وقال عبدُ الله بن عَبْد الحَكم فقيه مِصْر‏:‏ سمعتُ الأشياخ يقولون‏:‏ سنةَ خمس وعشرين ومائة أديل من الشرف وذَهبت المُروءة وذلك عند مَوْت هشام بن عبد الملك‏.‏
قال أبو الحسن المدائنيّ‏:‏ مات هشامُ بن عبد الملك بالذبْحة يوم الأربعاء بالرُّصافة في ربيع الآخر لستٍ خلَوْن منه سنة خمس وعشرين ومائة وصلّى عليه مَسْلمة بن هشام أو بعضُ ولده واشتُريَ له كفَن من السوق‏.‏
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بُويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الآخر سنة خَمس وعشرين ومائة‏.‏
وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف‏.‏
وقُتل بالبخراء من تَدْمر على ثلاثة أميال يومَ الخميس لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة سنة ستٍ وعشرين ومائة وهو ابنُ خس وثلاثين أو لسِتٍ وثلاثين‏.‏
قال حاتم بن مُسلم‏:‏ ابن خَمس وأربعين وأشهر‏.‏
وكانت ولايتَه سنة وشَهرين واثنين وعشرين يوماً‏.‏
فأولُ شيء نَظر فيه الوليدُ أن كَتب إلى العباس ابن الوليد بن عبد الملك أن يَأْتي الرصافة يُحْصي ما فيها من أموال هشام وولده ويأخذُ عُماله‏!‏ وحَشمه إلا مَسلمة بن هشام فإنه كَتب إليه أن لا يَعْرض له ولا يدخل منزله‏.‏
وكان مَسلمة كثيراً ما يكلم أباه في الرفق بالوليد‏.‏
ففَعل العبًاس ما أمره به‏.‏
وكَتب الوليدُ بن يزيد إلى يوسف بن عمر فقَدِم عليه من العراق فدَفع إليه خالدَ بن عبد الله القَسريّ ومحمداً وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل المَخزومي وأمره بقَتلهم‏.‏
فحدث أبو بِشْر بن السرِيّ قال‏:‏ رأيتُهم قدِم بهم يوسفُ بن عُمر الحِيرةَ وخالدٌ في عَباءة في شِقِّ مَحْمُل فعذبهم حتى قَتلهم‏.‏
ثم عَكف الوليدُ على البَطَالة وحُب القِيان والمَلاهي والشراب ومُعاشقة النساء فتَعشَق سُعدى بنت سَعيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان فتزوّجها‏!‏ ثم تَعشَّق أختَها سَلْمى فطفَق أختَها سُعدى وتزوج سَلمى فرجعت سُعدى إلى المدينة فتزوّجت بِشْر بن الوليد بن عبد الملك‏.‏
ثم نَدِم الوليدُ على فِراقها وكلِف بحُبِّها فدَخلِ عليه أشعبُ المُضحك فقال له الوليد‏:‏ هل لك على أن تبلّغ سُعدى عني رسالةَ ولك عشرون ألفَ دِرْهم قال‏:‏ هاتِها فدَفعها إليه‏.‏
فقبَضها وقال‏:‏ ما رسالتُك قال‏:‏ إذا قدمتَ المدينة فاستأْذِنْ عليها وقل لها‏:‏ يقول لك الوليد‏:‏ أسُعْدى ما إليك لنا سَبيل ولا حَتَّى القيامة مِن تلاقِي بَلى ولعلّ دهراً أن يُؤَاتي بمَوْت مِن حلِيلكِ أو فِراق فأتاها أشعبُ فاستأذن عليها وكان نساءُ المدينة لا يَحْتجبن عنه فقالت له‏:‏ ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب قال‏:‏ يا سيدتي أرسلني إليك الوليدُ برسالة‏.‏
قالت‏:‏ هاتِها‏.‏
فأنشدها البيتين‏.‏
فقالت لجواريها‏:‏ خُذْن هذا الخبيث‏.‏
وقالت‏:‏ ما جَرأك على مثل هذه الرسالة قال‏:‏ إنها بعشرين ألفاً معجّلة مَقْبوضة‏.‏
قالت‏:‏ واللّه لأجلدنك أوْ لَتبلَغنه ما أبلغتني عنه‏.‏
قال‏:‏ فاجعلي لي جُعلا‏.‏
قالت‏:‏ بِساطِي هذا‏.‏
قال‏:‏ فقُومي عنه‏.‏
فقامت عنه وطَوى البِساط وضمه ثم قال‏:‏ هاتِي رسالتَك‏.‏
فقالت له‏:‏ قل له‏:‏ أتَبْكي على سُعْدى وأنت تَرَكْتها فقد ذَهبت سُعدى فما أنت صانعُ ولا بُدّ لك من إحداها‏:‏ إما أن أقْتلك وإما أن أطْرحك للسِّباعِ فتأكلَك وإما أن ألقيك من هذا القَصر فقال أشعبُ‏:‏ يا سيدي ما كُنتَ لتعذب عينين نَظرتا إلى سُعدى‏.‏
فضَحِك وخَلَّى سبيله وأقامت عنده سَلْمى حتى قُتل عنها‏.‏
وهو القائل في سَلْمى‏:‏ شاع شِعْري في سُليمى وظَهرْ ورَواه كل بَدْو وحَضَرْ وتَهادَتْه الغَواني بينها وتَغَنَين به حتى انتشر لو رأينا من سُليمى أثراً لسَجدنا ألفَ ألفٍ للَّاثر واتخذناها إماماً مُرْتضى ولكانت حَجَّنا والمُعْتَمر إنما بِنْتُ سعيدٍ قمر هل حَرِجْنا إنْ سَجدنا للقمر وفيها يقول قبل تزوّجه لها‏:‏ حدَّثوا أنَّ سليمى خَرجتْ يومَ المُصلّى فإذا طيرٌ مَليح فوق غُصْن يَتفلّى قلتُ‏:‏ يا طيرُادْنُ مني فدَنا ثم تَدلّى قلتُ هل تَعْرف سَلْمى قال لا ثم تَوَلى لعلّ اللهّ يَجمعني بسَلمَى أليس الله يَفْعل ما يشاء وَيَأتي بي ويَطْرحَني عليها فيُوقِظَني وقد قُضي القَضَاء وُيرْسلَ ديمةً مِن بعد هذا فتغسلها وليس بنا عَناء وقال فيها بعد تزوّجه لها‏:‏ أنا في يُمْنى يَدَيْها وهي في يُسرى يدَيَّه إنّ هذا لقَضاء غيرُ عَدْل يا أخيه ليتَ مَن لام مُحِبًّا في الهَوى لًاقَى منيّه فاستراح الناسُ منه مِيتةً غير سويّة قال‏:‏ ولهج الوليدُ بالنساء والشرّاب والصَّيْد فأرسل إلى المدينة فحملوا له المُغَنِّين فلما قَربوا منه أمر أن يَدْخلوا العسكرَ ليلا وكَره أن يراهم الناس فأقاموا حتى أمسَوا غيِرَ محمد بن عائشة فإنه دخل نهاراً فأمر الوليدُ بحَبسه فلم يزل محبوساً حتى شرب الوليدُ يوماً فطَرِب فكلمه مَعبد فأمر الوليدُ بإخراجه ودعاه فغنَاه فقال‏:‏ أنت ابنُ مسلنطح البِطاح ولم تَطْرُق عليك الحُنِيّ والوُلجُ فرضي عنه وكان سعيدٌ الأحوصُ ومَعبَد حين قدما على الوليد نزلا في الطريق على غَدير يا بيتَ عاتكة الذي أتعزّل حَذَرَ العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ فقال لها‏:‏ يا جارية لمن أنت فقالت‏:‏ كنت لآل الوليد بن عُقبة بالمدينة فاشتراني مولاي وهو من بنى عامر بن صعصعة أحد بني الوَحيد من بني كلاب وعنده بنتُ عمّ له فوهبنى لها فأمرتني أن أستقي لها‏.‏
فقالا لها‏:‏ فلمن الشعرُ قالت‏:‏ سمعتُ بالمدينة أن الشعرَ للأحوص والغناء لمعبد فقال مَعبد للأحوص‏:‏ قل شيئاً أغنِّى عليه‏.‏
فقال‏:‏ إنّ زَين الغدير مَن كسر الْج رِّ وغَنَى غِناء فَحْل مُجيدِ قلتُ‏:‏ مَن أنتِ يا مَليحة قالت‏:‏ كنتُ فيما مَضى آل الوليد ثم قد صِرْتُ بعد عِز َقريش في بنى عامرٍ آل الوَحيد وغِنائي لمعبدٍ ونشيدِي لفتَى الناس الأحوص الصِّنديد فتضاحكت ثم قلتً أنا الأحْوص والشيخُ مَعبدٌ فأعيدي فأعادتْ وأحسنت ثم ولّت تتهادَى فقلتُ أمّ سعيد يَقْصر المال عن شِراكِ ولكن أنت في ذِمه الإمام الوليد وأمّ سعيد كانت للأحوص بالمَدينة فغنّى مَعبد على الشِّعر‏.‏
فقال‏:‏ ما هذا فاخبراه فاشتراها الوليد‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ وقال ابنُ أبي الزِّناد‏:‏ إنِّي كنتُ عند هشام وعنده الزّهري فذُكر الوليد فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه فاستأذن فأذن له فدَخل وأنا أعرفُ الغَضب لا وجهه فجَلس قليلاً ثم قام‏.‏
فلما مات هشام‏:‏ كَتب بي فحُملت إليه فرحّب بي وقال‏:‏ كيف حالك يا بن ذكوان وألطفَ المسألة‏.‏
ثم قال‏:‏ أتذكر هشاماً الأحول وعنده الفاسقُ الزُّهري وهما يَعيباني فقلت‏:‏ أذكر ذلك ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه‏.‏
قال‏:‏ صدقتَ أرأيتَ الغُلام الذي كان على رأس هشام قائماً قلتُ‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فإنه نَمّ إلىّ بما قالاه‏.‏
وايم اللّه لو بقى الفاسقُ الزهري لقتلتُه‏.‏
قلت‏:‏ قد عرفتُ الغضبَ في وجهك حين دخلتَ‏.‏
قال‏:‏ يا بن ذكوان ذَهب الأحولُ‏.‏
قلت‏:‏ يُطيل اللّه عُمرك وُيمتّع الأمة ببقائك‏.‏
ودعا بالعشاء فتعشَّينا وجاءت المغرب فصلًينا وتحدّثنا حتى حانت العشاء الآخرة فصلّينا وجلس‏.‏
فقال‏:‏ اسقني فجاؤوا بإِناء مُغطَّى وجيء بثلاث جوار فصُفِفن بيني وبينه حتى شرب وذَهَبْن فتحدثّنا واستسقى فصنعوا مثلَ ذلك‏.‏
فما زال كذلك يَستَسقى ويتحدّث ويَصنعون مثل ذلك حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحاً‏.‏
على بن عياش قال‏:‏ إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشُراعة من الكوفة فواللّه ما سأله عن نَفسه ولا عن مَسيره حتى قال له‏:‏ يا شُراعة إني والله ما بعثتُ إِليك لأسألك عن كتاب الله وسُنِّة رسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال‏:‏ واللّه لو سألتَني عنهما لوجدتَني فيهما حماراً قال‏:‏ إنما أرسلتُ إِليك لأسألك عن القهوة‏.‏
قال‏:‏ دِهْقانُها الخَبير ولُقمانها الحكيم وطبيبُها العليم‏.‏
قالت‏:‏ فأخبرني عن الشراب قال‏:‏ يَسأل أميرُ المؤمنين عما بدا له‏.‏
قال‏:‏ ما تقول في الماء قال‏:‏ لا بُد لي منه والحمارُ شريكي فيه‏.‏
قالت‏:‏ ما تقول في اللَّبن ما رأيتُه قط إِلا استحييتُ من أمي لطُول ما أرْضَعتني به‏.‏
قال‏:‏ ما تقول في السويق قال‏:‏ شرابُ الحَزين والمُستعجل والمَريض‏.‏
قال‏:‏ فنبيذُ التمر قال‏:‏ سريعُ المَلْء سريعُ الآنفشاش‏.‏
قال‏:‏ فنبيذ الزَبيب قال‏:‏ تلهَّوْا به عن الشراب‏.‏
قال‏:‏ ما تقول في الخَمر قال‏:‏ أوهِ‏!‏ تلك صَديقة رُوحي‏.‏
قال‏:‏ وأنت والله صديقُ رُوحي‏.‏
قال‏:‏ فأيّ المجالس أحبُّ قال‏.‏
ما شُرب الكأسُ قطُّ على وَجه أحسنَ من السماء‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ كان أبو كامل مُضحكا غَزِلا مُغنّيا‏!‏ فغنّى الوليدَ يوماً فطَرِب فأعطاه قَلَنْسوة بَرُودا كانت عليه فكان أبو كامل لا يَلبسها إلا في عيد ويقول‏:‏ كَسانيها أميرُ المؤمنين فأنا أصُونها وقد أمرتُ أهلي إذا مِتُّ أن تُوضع في أكفاني‏.‏
وله يقول الوليد‏:‏ مَن مُبْلِغ عني أبا كامل أنّي إذا ما غاب كالهابِل وزادني شوقاً إلى قُرْبه ما قد مَضىَ من دَهرنا الحائل إنّي إذا عاطيتُه مُزَّةً ظَلْت بيوم الفَرَح الجاذل قال‏:‏ وجلس الوليدُ يوماً وجاريةٌ تُغَنيه فأنشدها الوليدُ‏:‏ قالت الجارية المغنية‏:‏ لو أتممتَ الشعر غنيتُ به‏.‏
قال‏:‏ لست أرويه وكتب إلى حماد الراوية فحُمل إليه‏:‏ فلما دخل عليه قال له الوليد‏:‏ قينة في يمينها إِبريق فأنشد حماد الراوية‏:‏ ثم نادى ألا أصبحُوني فقامتْ قينةٌ في يمينها إِبريقُ فَذَمَته على عُقار كعَينْ الدِّيك صَفَّى لسُلافَه الرَّاووق مُزَةً قبل مَزْجها فإذا ما مُزِجت لذَ طَعْمُها مَن يذوق وكتب الوليدُ إلى المدينة فحمل إليه أشعب فألبسه سراويل جِلد قِرْد له ذَنب وقال له‏:‏ ارقُص وغَنّ صوتاً يعجبني فإن فعلتَ أعطيتُك أسف درهم‏.‏
فرَقص‏!‏ وغَنى فأعجبه فأعطاه ألف درهم‏:‏ وأنشد الوليدُ هذا الصوتَ‏:‏ علِّلاني واسقيانِي مِن شَراب أصْفهاني من شَراب الشيخ كِسْرَى أو شرابً الهُرْمزَان إنَّ بالكأس لمِسْكاً أو بكَفَّيْ من سَقاني إنما الكأسُ ربيعٌ يُتعاطى بالبَنانْ وصَفْراء في الكأس كالزَعْفَران سَباها الدَهاقينُ من عَسْقلانِ لها حَبَبٌ كلما صفقت تراها كلَمعة بَرْق يَماني وقال أيضاً‏:‏ ليت حَظي اليومَ من كل ل مَعاش لي وزَادِ قهوة أبذُل فيها طارفي بعد تِلادي فيظل القلبُ منها هاشماً في كل وادِي إنّ في ذاك فَلاحي وصَلاحي ورشادي وقال امدح الكأسَ ومَن أعملها واهجُ قوماً قتلونا بالعَطشْ إنما الكأس ربيعٌ باكر فإذا ما لم نَذُقها لم نعِشْ وبلغ الوليدَ أن الناس يَعيبونه ويتنقصونه بالشراب وطَلب اللّذات فقال في ذلك‏:‏ ولقد قضيتُ ولم يُجَلِّل لمتي شَيب على رَغم العِدا لذَّاتي مِن كاعباتٍ كالدُّمَى ومَناصفٍ ومَراكب للصَّيد والنّشوات وقال معاويةُ بن عمرو بن عُتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناسُ وطَعنوا عليه‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه يُنطقني الأنْس بك وتُسْكتني الهيبةُ لك وأراك تأمن أشياء أخافُها عليك أفأسكت مُطيعاً أم أقول مُشفقاً قال‏:‏ كل مَقْبول منك وللهّ فينا عِلمُ غيب نحن صائرون إليه‏.‏
فقُتل بعد ذلك بأيام‏.‏
وقال الوليد إذا أكثر الناسُ القولَ فيه‏:‏ خُذوا مُلْكَكم لا ثَبت الله مُلْكَكم ثباتاً يُساوى ما حييتُ عِقالَا دَعُوا لي سُليْمى معْ طِلاء وقَيْنة وكأسٍ ألا حَسْبي بذلك مالا أبا لملكِ أرْجو أن أخلَد فيكم ألا رب مُلكٍ قد أزيل فَزالا ألا رُب دارٍ قد تحَمّل أهلُها فأضحتْ قِفاراً والقِفار حِلالا قال إسحاق بن محمد الأزرق‏:‏ دخلتُ على مَنصور بن جُمْهور الكَلْبي بعد قَتْل الوليد بن يزيد وعنده جاريتان من جَواري الوليد فقال لي‏:‏ اسمع مِن هاتين الجاريتين ما يقولان‏.‏
قالتا‏:‏ قد حدَثناك‏.‏
قال‏:‏ بل حَدَثاه كما حَدّثتُماني‏.‏
قالت إحداهما‏:‏ كُنّا أعزَّ جواريه عنده فنَكح هذه وجاء المُؤذّنون يؤذّنونه بالصلاة فأخرجها وهي سَكْرى جُنبة متلثّمة فصلّت بالناس‏.‏
مقتل الوليد بن يزيد إسماعيل بن إبراهيم قال‏:‏ حدثني عبدُ اللّه بن واقد الجَرْمي وكان شَهدَ مقتل الوليد قال‏:‏ لما أجمعوا على قَتله فقدوا أمرَهم يزيدَ بن الوليد بن عبد الملك فخرج يزيدُ بن الوليد بنِ عبد الملك فأتى أخاه العباس ليلاً فشاوره في قَتل الوليد فنهاه عن ذلك فأقبل يزيد ليلاً حتى دخل دمشقَ في أربعين رجلاً فكسروا باب المَقصورة ودخلوا على واليها فأوثقوه وحَمل يزيدُ الأموال على العَجل إلى باب المِضمار وعَقد لعبد العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك ونادى مًناديه‏:‏ من انتدب إلى الوليد فله ألفان فانتدب معه ألفا رجل وضَم مع عبد العزيز ابن الحجاج يعقوبَ بن عبد الرحمن ومنصور بن جُمْهور‏.‏
وبلغ الوليدَ بن يزيد بن عبد الملك ذلك فتوجّه من البلقاء إلى حِمْص وكتب إلى العباس ابن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص وهو منها قريب وخرج حتى انتهى إلى قمر في بَرية ورَمل من تَدْمر على أميال وصبحت الخيلُ الوليدَ بالبخراء‏.‏
وقدم العباسُ بن الوليد بغير خَيل فحَبسه عبدُ العزيز ابن الحجّاج خلفه ونادى مُنادي عبد العزيز‏:‏ مَن أتى العبّاسَ بن الوليد فهو آمن وهو بيننا وبينكم‏.‏
وظَن الناس أن العبّاس مع عبد العزيز فتفرقوا عن الوليد وهجم عليه الناس‏.‏
فكان أول من هجم عليه السريّ بن زياد بن أبي كَبشة السَّكْسكيّ وعبد السلام اللِّخمي فأهوى إليه السري بالسيف وضَربه عبد السلام على قَرنه فقُتل‏.‏
قال إسماعيل‏:‏ وحدَثني عبدُ الله بن واقد قال‏:‏ حدّثني يزيد بن أبي فَرْوة مولى بني أمية قال‏:‏ لما أتي يزيدُ برأس الوليد بن يزيد قال لي‏:‏ انْصِبه للناس قلتُ‏:‏ لا أفعل إنما ينصب رأسُ الخارج‏.‏
فحلف ليُنصبنّ ولا يَنصبه غيري‏.‏
فوُضع على رمح ونصب على دَرج مَسجد دمشق‏.‏
ثم قال‏:‏ اذهب فطُف به في مدينة دمشق‏.‏
خليفة بن خَيّاط قالت‏:‏ حدِّثني الوليد بن هشام عن أبيه قال‏:‏ لما أحاطوا بالوليد أخذ المُصْحف وقال‏:‏ أقتل كما قُتل ابن عمي عثمان‏.‏
أبو الحسن المدائني قال‏:‏ كان الوليدُ صاحبَ لهو وصَيْد وشرِاب ولذَّات‏.‏
فلما وَلي الأمرَ جعل يَكره المواضعَ التي يراه الناسُ فيها فلم يدخل مدينةَ من مدائن الشام حتى قُتل ولم يزل يتنقلِ ويتصيّد حتى ثَقُل على الناس وعلى جُنده‏.‏
واشتد على بني هشام وأضرّ بهم وضرب سليمانَ بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولِحيته وغرّ به إلى عُمان فلم يزل محبوساً حتى قُتل الوليد‏.‏
وحَبس يزيد بن هشام وهو الأفقم فرَماه بنو هشام وبنو الوليد‏.‏
وكان أشدَّهم قولاً فيه يزيدُ بن الوليد وكان الناسُ إلى قوله أميلَ لأنه كان يُظهر النُّسك‏.‏
ولما دفع الوليدُ خالدَ بن عبد الله القَسريّ إلى يوسف بن عمر فقَتله غَضبت له اليمانية كلها وغيرُهم فأتوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البَيعة وخَلْع الوليد فامتنع عليهم وخاف أن لا تُبايعه الناس ثم لم يزل الناسُ به حتى بايعوه سرًا‏.‏
ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيدُ بن الوليد خطيباً فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنّي واللهّ ما خرجتً أشراً ولا بطراً ولا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في المُلك وما بي إطرِاء نَفْسي وتزكيةُ عمَلي وإنّي لَظَلوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربي ولكنني خرجتُ غضباَ للهّ ودينه وداعياً إلى كتاب اللهّ وسُنّة نبيّه حين دَرَستْ معالمُ الهدى وطَفِىء نور التقوى وظهر الجبّار العنيد المُستحلّ للحًرمة والرَّاكب للبِدْعة والمُغيّر للسنة فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ أن غَشِيتَكم ظلمة لا تُقلع عنكم على كَثرةٍ من ذنوبكم وقَسوة من قلوبكم وأشفقتُ أن يدعو كثيراً من الناس إلى ما هو عليه فيُجيبه من أجابه منكم فاستخرتُ اللهّ في أمري وسألتهُ أن لا يَكِلَني إلى نفسي ودعوتُ إلى ذلك مَن أجابني من أهلي وأهل ولايتي وهو ابنُ عمّي في نسبي وكُفْئي في حَسبي فأراح الله منه العباد وطَفر منه البلاد ولايةً من الله وعونَاَ بلا حَوْل منّا ولا قُوة ولكنْ بحَوْل الله وقوته وولايته وعَوْنه‏.‏
أيها الناس‏:‏ إنّ لكم علي إن وَليت أمورَكم أنْ لا أضعَ لَبِنةً على لبنة وحجراً على حجر ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسُد ثُغَرَه وأقسّم بين أهله ما يَقْوون به فإن فَضل رددتُه إلى أهل البلد الذي يَليه ومَن هو أحوج إليه حتى تستقيمَ المعيشةُ بين المُسلمين وتكونوا فيه سواء ولا أجمركم في بُعوثكم فَتُفْتنوا ويُفْتن أهاليكم فإن أردتُم بَيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به وإن مِلْتُ فلا بيعةَ لي عليكم وإن رأيتم أحداً هو أقوى عليها مني فأردتم بيعتَه فأنا أولُ من بايع ودَخل في طاعته أقوله قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏
وقال خلفُ ين خليفة في قَتل الوليد بن يزيد‏:‏ لقتل خالد بن عبد الله‏:‏ لقد سَكَنتْ كلبٌ وأسيافُ مَذْحج صَدىً كان يَزْقْو ليلَه غيرَ راقدِ ترَكْنَا أميرَ المؤمنين بخالدٍ مُكِبا على خَيْشومه غيرَ ساجدِ فإن تَقطعوا منّا مَناط قِلادةٍ قَطعنا بها منكم مَناط قَلائد وإن تَشغلوه عَن أذان فإنّنا شَغلنا الوليدَ عن غِناء الولائد ولاية يزيد الناقص ثم بُويع يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏
وأمه ابنة يَزْدجرد بن كِسْرى سَباها قُتيبة بن مُسلم بخُراسان وبَعث بها إلى الحجّاج بن يوسف فبعث بها الحجَّاج إلى الوليد بن عبد الملك فاتخذها فولدتْ له يزيدَ الناقص ولم تَلده غيرَه‏.‏
ومات يزيدُ بن الوليد بدمشق لعشر بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏
وهو ابن خس وثلاثين سنة‏.‏
وصلّى عليه أخوه إبراهيم بنُ الوليد بن عبد الملك‏.‏
قال عبدُ العزيز‏:‏ بُويع وهو ابنُ تسع وثلاثين سنة ومات ولم يبلغ الأربعين وعلى شُرطته بُكَير بن الشماخ اللَّخْمي‏.‏
وكاتب الرسائل ابنُ سليمان ابن سعد‏.‏
وعلى الخراج والجُنْد والخاتَم الصغير والحَرس النَصرُ بن عَمرو من أهل اليمن‏.‏
وعلى خاتَم الخلافة عبدُ الرحمن بن حًميد الكلْبيّ ويقاد قَطن مولاه‏.‏
وكتب يزيدُ بنُ الوليد إلى مَروان بن محمد بالجزيرة وبَلغه عنه تلكّأ في بَيعته‏:‏ أما بعد‏.‏
فإني أراك تُقدّم رجلاً وتُؤخِّر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئتَ والسلام‏.‏
ثم قَطع إليه البُعوث وأمر لهم بالغطاء‏.‏
فلم يَنْقُص‏!‏ عطاؤهم حتى مات يزيد‏.‏
ولما بلغ مروانَ أنّ يزيد قَطع البعوث إليه كتب ببيعته وبَعث وفداً عليهم سليمانُ بن عُلاثة العُقيلي‏.‏
ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع العلاء بن يزيد بن سِنان قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حضرت يزيدَ بن الوليد حين حضرتْهُ الوفاةُ فأتاه قَطن فقال‏:‏ أنا رسوِلُ مَن وراءَ بابك يسألونك بحق الله لو ولًيتَ أمرهم أخاك إبراهيمَ بن الوليد‏.‏
فغضِب وضرب بيده على جَبهته وقال‏:‏ أنا أوَلّي إبراهيم‏!‏ ثم قال لي‏:‏ يا أبا العلاء إلى مَن ترى أن أعهد قلت‏:‏ أمر نهيتُك عن الدخول قي أوله فلا أشير عليك بالدُّخول في آخره‏.‏
قال‏:‏ فأصابتْه إغماءةٌ حتى ظننتُ أنه قد مات ففعَل ذلك غير مرة ثم خرجتُ من عنده‏.‏
فقعَد قَطن وافتعل عهداً على لسان يزيدَ بن الوليد لإبراهيم بن الوليد ودعا ناساً فأشهدهم عليه‏.‏
قال‏:‏ والله ما عَهد إليه يزيدُ شيئاً ولا إلى أحد من الناس‏.‏
وقال يزيدُ في مرَضه‏:‏ لو كان سعيدُ بن عبد الملك قريباً مني لرأيتُ فيه رأيي‏.‏
وفي رواية أبي الحسن المَدائنيّ قال‏:‏ لما مَرض يزيدُ قيل له‏:‏ لو بايعتَ لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج بعدَه فقال له قيسُ بن هانيء العبسي‏:‏ اتق اللّه يا أمير المؤمنين وانظُر لنفسك وأرْض الله في عباده فاجعل وليّ عهدك عبد الملك بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك‏.‏
فقال يزيد‏:‏ لا يَسألني الله عن فلك ولو كان سعيدُ بن عبد الملك منّي قريباً لرأيتُ فيه رأي‏.‏
وكان يزيدُ يرى رأي القَدَرية ويقول بقَوْل غيلان‏.‏
لا يَحل لك إهمالُ أمر الأمة فبايعْ لأخيك إبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده‏.‏
فلم يزالوا به حتى بايع لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز من بعده‏.‏
ومات يزيدُ لعشرٍ بَقين من ذي الحجة سنة ستّ وعشرين ومائة‏.‏
وكان ولايتهُ خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً‏.‏
فلما قَدم مروان‏.‏
نبش يزيدَ من قَبره وصَلبه‏.‏
وكان يُقرأ في الكتب‏:‏ يا مُبذّر الكُنوز يا سجّاداً بالأسحار كانت ولايتُك لهم رحمة وعليهم حجة‏.‏
نَبشوك فَصَلبوك‏.‏
وبويع إبراهيم بن الوليد وأمه بَرْبَرية فلم يَتم له الأمر وكان يدخل عليه قومٌ فيسلِّمون بالخلافة وقوم يسلّمون بالإمرة وقوم لا يُسلمون بخلافة ولا بإمرة وجماعة تُبايع وجماعة يَأبون أن يبايعوا‏.‏
فمكث أربعة أشهر حتى قدم مروانُ بن محمد فخَلع إبراهيم وقَتل عبد العزيز بن الحجَّاج ووَلِي الأمر بنفسه‏.‏
وفي رواية خَليفة بن خَياط قال‏:‏ لما أتى مروانَ بن محمد وفاةُ يزيدَ بن الوليد دعا قيساً وربيعة ففرَض لستَّة وعشرين ألفاً من قيس وسَبعة آلاف من ربيعة وأعطاهم أعطياتهم وولى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة ثم خرج يريد الشام واستخلف على الجزيرة أخاه عبدَ العزيز بن محمد بن مَروان فتلقّاه وُجوه قيس‏:‏ الوثيق بن الهُذَيل بن زُفَر ويزيدُ بن عمر بن هُبيرة الفَزاري وأبو الوَرْد بن الهُذَيل بن زفر وعاصم بن عبد اللّه بن يزيد الهلاليّ في خمسة آلاف من قَيس‏.‏
فساروا معه حتى قَدِم حلب وبها بِشر ومَسرور ابنا الوليد بن عبد الملك أرسلهما إبراهيم بن الوليد حين بلغه مسيرُ مروان بن محمد فالتقوا فانهزم بِشْر ومَسرور من ابن محمد من غير قتال فأخذهما مَروان فحبسهما عنده‏.‏
ثم سار مَروان حتى أتى حِمْص فدعاهم للمسَير معه والبيعة لوليي العهد‏:‏ الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما مَحبوسان عند إبراهيم بن الوليد بدمشق فبايعوه وخرجوا معه حتى أتى عسكر سًليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتال شديد‏.‏
وبلغ عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك ما لقي سُليمان وهو مُعسكر في ناحية عَيْن الجَرّ فأقبل إلى دمشق وخرج إبراهيمُ بن الوليد من دمشق ونزل بباب الجابية وتهيأ للقتال ومعه الأموال على العجل ودعا الناس فخَذلوه‏.‏
وأقبل عبدُ العزيز بن الحجاج وسُليمان بن الوليد فدَخلا مدينة دمشق يُريدان قتل الحكم وعثمان ابني الوليد وهما في السجن‏.‏
وجاء يزيد بن خالد بن عبد الله القَسري فدخل السجن فقَتل يوسف بن عمر والحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد وهما الحَمَلان وأتاهم رسولُ إبراهيمُ فتوجّه عبد العزيز بن الحجاج إلى داره ليُخرج عياله فثار به أهل دمشق فقَتلوه واحتزّوا رأسه فأتوا به أبا محمد بن عبد اللّه بن يزيد ابن معاوية وكان محبوساً مع يوسف بن عمر وأصحابه فأخرجوه ووضعوه على المنبر في قُيوده ورأسُ عبد العزيز بين يديه وحلّوا قُيوده‏.‏
فخطبهم وبايع لمروان وشَتمٍ يزيد وإبراهيم ابني الوليد وأمر بجُثة عبد العزيز فصُلبت على باب الجابية منكوسا وبعث برأسه إلى مروان بن محمد‏.‏
واستأمن أبو محمد لأهل دمشق فأمنهم مروان ورضي عنهم‏.‏
وبلغ إبراهيمَ فخرج هارباً حتى أتى مروان فبايعه وخلع نفسه فقَبِل منه وأمنه فسار إبراهيمُ فنزل الرّقة على شاطىء الفرات ثم أتاه كتابُ سليمان بن هشام يَستأمنه فأمّنه فأتاه فبايعه‏.‏
واستقامت لمروان بن محمد‏.‏
وكانت ولاية إبراهيم بن الوليد المخلوع أشهراً‏.‏
قال أبو الحسن‏:‏ شَهرين ونصفاً‏.‏
ولاية مروان بن محمد بن مروان ثم بويع مَروان بن محمد بن مروان بن الحكم‏.‏
أمه بنت إبراهيم بن الأشتر‏.‏
قال بعضهم‏:‏ بل كانت أمه لخباز لمصعب بن الزبير أو لابن الأشتر‏.‏
واسم الخَبّاز رُزبا وقال بعضهم‏:‏ كان رُزبا عبداً لمسلم بن عمرو الباهلي‏.‏
وقال أبو العباس الهلالي حين دخل على أبي العباس السفاح‏:‏ الحمد لله الذي أبدلنا بحِمار الجزيرة وابن أمة النخع ابنَ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنَ عبد المطلب‏.‏
وكان مروان بن محمد أحزَم بني مروان وأنجدهم وأبلغهم ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر ألا فِتْيَانَ من مُضرٍ فَيحْمُوا أسارى في الحديد مُكَبلينا أتذهبُ عامر بدمي ومُلْكي فلا غَثا أصبتُ ولا سَمينا فإن أهلك أنا ووليّ عَهدي فمروانٌ أميرُ المؤمنينا فأرِّثْ لا عدمتُك حربَ قيس فتُخرجَ منهمُ الداءَ الدًفينا ألا من مُبلغ مروانَ عني وعمي الغَمْرَ طال بدا حَنينا بأني قد ظُلمت وطال حَبْسي لدى البَخْراء في لِحِفِ مَهينا وقُتل مروانُ ببُوصير من أرض مصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏
الوليد بن هشام عن أبيه وعبد الله بن المُغيرة عن أبيه وأبو اليَقْظان قالوا‏:‏ وُلد مَروان بالجزيرة سنة اثنتين وسبعين وقُتل بقَرية من قُرى مِصر يقال لها بوصير يومَ الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏
وكانت ولايتهُ خمسَ سنين وستة أشهر وعشرة أيام وأم مَروان أمة لمُصعب ابن الزبير‏.‏
وقُتل وهو ابنُ ستين سنة‏.‏
ولد مروان عبدُ الملك ومحمد وعبد العزيز وعُبيد اللّه وعبد الله وأبان ويزيد ومحمد الأصغر وأبو عثمان‏.‏
وكاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى بني عامر بن لُؤي وكان معلَماً وكان على القضاء سُليمان بن عبد الله بن عًلاثة وعلى شُرطته الكوثر بن عُتبة وأبو الأسود الغَنوي‏.‏
وكان للحرس نُوب في كل ثلاثة أيام نوبة يلي ذلك صاحبُ النَوبة‏.‏
وعلى حِجابته صقلا ومقْلاص‏.‏
وعلى الخام الصغير عبدُ الأعلى ابن ميمون بن مِهران وعلى ديوان الجُند عمْران بن صالح مولى بني هذيل‏.‏
مقتل مروان بن محمد بن مروان قالوا‏:‏ والتقى مروانُ وعامرُ بن إسماعيل ببوِصِيرَ من أرض مِصر فقاتلوهم ليلاً وعبدُ الله وعبيدُ اللّه ابنا مروان واقفان ناحيةَ في جَمع من أهل الشام فحمل عليهم أهل خُراسان فأزالوهم عن مَراكزهم ثم كروا عليهم فهزموهم حتى ردُوهم إلى عَسْكرهم ورَجعوا إلى موِقفهم‏.‏
ثم إنّ أهلَ الشام بدَأوهم فحملوا على أهل خراسان فكُشفوا كَشْفاً قَبيحاَ ثم رجعوا إلى أماكنهم وقد مَضى عبيدُ اللّه وعبدُ الله فلم يروا أحداً من أصحابهم فمَضوا على وجوههم وذلك في السحر‏.‏
وقُتل مروان وانهزم الناسُ وأخذوا عسكر مَروان وما كان فيه وأصبحوا فاتّبعوا الفَلّ وتفرق الناس فجلعوا يَقتلون من قَدروا عليه ورجع أهلُ خراسان عنهم‏.‏
فلما كان الغدً لَحِق الناسُ بعبد الله وعُبيد اللّه ابني مروان وجعلوا يأتونهما مُتقطّعين العشرةَ والعشرين وأكثرَ وأقلَّ فيقولان‏:‏ كيف أميرُ المؤمنين فيقول بعضُهم‏:‏ تركناه يُقاتلهم ويقول بعضهم‏:‏ انحاز وثاب إليه قومٌ ولا ينْعونه حتى أتوا الحَرونَ فقال‏:‏ كنت معه أنا ومولىً له فصُرع فجرَرتُ برجله فقالت‏:‏ أوجعتَني‏.‏
فقاتلت أنا ومولاه عنه وعلموا أنه مروان فألحّوا عليه فتركتُه ولحقتُ بكم‏.‏
فبكى عبدُ اللّه‏.‏
فقال له أخوه عبيدُ اللّه‏:‏ يا ألأمَ الناس‏!‏ فررتَ عنه وتبكي عليه‏!‏ ومَضوا‏.‏
فقال بعضهم‏:‏ كانوا أربعة آلاف‏!‏ وقال بعضُهم كانوا ألفين‏.‏
فأتوا بلادَ النوبَة فأجرى عليهم ملكُ النوبة ما يُصلحهم ومعهم أمُّ خالد بنت يزيد وأمُّ الحكم بنت عًبيد الله - صبية جاء بها رجل من عسكر مَرْوان حين انهزموا فدَفعها إلى أبيها - ثم أجمع ابنا مَروان على أن يَأتيا اليمن وقالا‏:‏ نأتيها قبل أن يأتيها المسوِّدة فنتحصن في حُصونها ونَدْعو الناس‏.‏
فقال لهم صاحب النُّوبة‏:‏ لا تفعلوا إنكم في بلاد السًودان وهم في عدد كَثير ولا آمن عليكم فأقيموا فأبَوْا‏.‏
قال‏:‏ فاكتُبوا إلي كتاباً فكتبوِا له‏:‏ إنا قَدِمنا بلادَك فأحسنتَ مَثْوانا وأشرت علينا أن لا نَخرج من بلادك فأبينا وخرجنا من عندك وافرَيْن راضيَيْن شاكرَيْن لك بطيبِ أنْفُسنا‏.‏
وخرجوا فأخذوا في بلاد العدوّ‏.‏
فكانوا ربما عَرضوا لهم ولا يأخذون منهم إلا السلاحَ وأكثرَ من ذلك لا يعرضون له‏.‏
حتى أتوا بعضَ بلادهم فتلقّاهم عظيمُهم فاحتبسهم فطلبوا الماء فمَنعهم ولم يُقاتلهم ولم يُخلّهم وعطًشهم وكان يبيعهم القِرْبة بخمسين درهماً حتى أخذ منهم مالا عظيماً‏.‏
ثم خَرجوا فساروا حتى عَرض لهم جبلٌ عظيم بين طريقين فسلك عبدُ الله أحدَهما في طائفة وسلك عبيدُ اللّه الآخر في طائفة أخرى وظنُوا أن للجبل غايةً يَقطعونها ثم يَجْتمعون عند آخرها فلم يلتقوا‏.‏
وعَرض قومٌ من العدوّ لعُبيد الله وأصحابه فقاتلوهم فقُتل عبيد الله وأخذت أم الحكم بنته وهي صبية وقُتل رجلٌ من أصحابه وكَفُوا عن الباقين وأخذوا سلاحَهم‏.‏
وتقطع الجيشُ فجعلوا يتنكّبون العُمران فيأتون الماء فيُقيمون عليه الأيامَ فتَمْضي طائفة وتُقيم الأخرى حتى بلغ العطشُ منهم فكانوا يَنْحرون الدابّة فيَقْطعون أكراشها فيشربونه حتى وَصلوا إلى البحر بحيال المندب ووافاهم عبدُ اللّه وعليه مِقْرمة قد جاء بها‏.‏
فكانوا جميعاً خمسين أو أربعين رجلاً فيهم الحجاجُ بن قُتيبة بن مسلم الحَرون وعفْان مولِى بني هاشم فعبّر التجار السُّفن فعبروا بهم إلى المندب فأقاموا بها شهراً فلم تحملهم فخرجوا إلى مكة‏.‏
وقال بعضهم‏:‏ أعْلِم بهم العاملُ فخرجوا مع الحُجاج عليهم ثيابٌ غِلاظ وجِباب الأكرياء حتى وافَوْا جَدّة وقد تقطعت أرجلهم من المشي‏.‏
فمروا بقوم فرقُّوا لهم فحملوهم‏.‏
وفارق الحُجاج عبد الله بجدة‏.‏
ثم حجّوا وخرجوا من مكة إلى تَبَالة‏.‏
وكان على عبد اللهّ فصّ أحمر كان قد غيّبه حين عَبَر إلى المَندب فلما أمِن استخرجه وكانت قيمتُه ألفَ دينار وكان يقول وهو يمشي‏:‏ ليتَ به دابّة‏.‏
حتى صار في مِقْرَمة تكون عليه بالنهار وَبلْبسها بالليل‏.‏
فقالوا‏:‏ ما رأينا مثلَ عبد اللهّ قاتلوا فكان أشدَّ الناس ومَشَوا فكان أقواهم وجاعُوا فكان أصبرهم وعَرُوا فكان أحسنهم عُرياً‏.‏
وَبعَث وهو بالمندب إلى العدو الذين أخذوا أمَّ الحكم بنتَ أخيه عُبيد اللّه ففداها وردّها إليه فكانت معه‏.‏
ثم أخذ عبدُ اللّه فقُدم به على المهديّ فجاءت امرأتُه بنت يزيد بن محمد بن مَروان بن الحكم فكلّمت العباسَ بن يعقوب كاتِب عيسى بن عليّ وأعطتْه لُؤلؤاً ليكلِّم فيه عيسى‏:‏ فكلَّمه وأعلمه بما أعطته فلم يُكلّم فيه عيسى بنً عليّ المهديَ وأراد المهديُّ أن يقتله فقال له عيسى‏:‏ إن له في أعناقنا بَيعة وقد أعطى كاتبي قيمةَ ثلاثين ألف درهم فحَبسه المهديُ‏.‏
وكان عبد اللهّ بن مروان تزوّج أمّ يزيد بنت يزيد بن محمد بن مروان وكانت في الحبس فلما أخرجهم العبّاس خرجت إلى مكة فأقامت بها وقدم عبدُ اللّه بن مروان سًّراً فتزوّجها‏.‏
وقال مولى مروان‏:‏ كنتُ مع مَروان وهو هارب فقال لي يوماً‏:‏ أين عزبت عنا حلومُنا في نِسائنا‏!‏ ألا زوّجناهم من أكفائهن من قُريش فكُفينا مُؤْنتهن اليومَ‏.‏
وقال‏:‏ بعض آل مروان ما كان شيء أنفعَ لنا في هَربنا من الجوهر الخفيف الثّمن الذي يُساوي خمسة دنانير فما دون كان يُخرجه الصبيّ والخادم فيَبيعه وكنا لا نستطيع أن نُظهر الجوهرَ الثّمين الذي له وقيمة كثيرة‏.‏
وقال مصعب بن الرَّبيع الخَثْعَميّ كاتبُ مروان بن محمد‏:‏ لما انهزم مروانُ وظَهرَ عبد اللهّ بن عليّ على أهل الشام طلبتُ الإذنَ فأنا عنده يوماً جالس وهو مُتَكىء إذ ذَكر مروانَ وانهزامه فقال‏:‏ شهدتَ القتالَ قلت‏:‏ نعم أصلح اللهّ الأمير وقال لي مروان‏:‏ احزُر القوم فقلت‏:‏ إنما أنا صاحبُ فلم ولستُ بصاحب حَرْب فأخذ يَمنة ويسَرة ثم نظر فقال لي‏:‏ هم اثنا عشرَ ألف رجل‏.‏
وقال مصب‏:‏ قيل لمروان‏:‏ قد انتُهب بيت المال الصغير فانصرفَ يُريد بيتَ المال‏.‏
فقيل له‏:‏ قد انتُهب بيتُ المال الأكبر انتهبه أهلُ الشام‏.‏
وقال أبو الجارود السُّلميّ‏:‏ حدثني رجل من أهل خراسان قال‏:‏ لقِينا مروانَ على الزاب فحمَل علينا أهلُ الشام كأنّهم جبالُ حديد فجَثونا على الرّكَب وأشْرعنا الرماح فزالوا عنّا كأنهم سَحابةٌ ومَنَحنا اللّه أكتافَهم وانقطع الجسْر مما يليهم حين عَبروا فبقي عليه رجلٌ من أهل الشام فخرج إليه رجلٌ منّا فَقتَله الشاميُّ‏.‏
ثمِ خرج إليه آخر فقَتله حتى والَى بين ثلاثة‏.‏
فقال رجل منَّا‏:‏ اطلُبوا إليَّ سيفاً قاطعاً وتُرساً صلبا فأعطيناه ومشى إِليه فضَر به بالشافي فأتقاه بالتُّرس وضَرب رجلَه فقَطعها وقَتله ورجع فحملناه وكَبَّرنا فإِذا هو عُبيد اللّه الكابُلي‏.‏
سَمَر المنصورُ ذاتَ ليلة فذَكر خُلفاء بني أمية وسيرَهم‏.‏
وأنهم لم يَزالوا على استقامة حتى أفضى أمرُهم إلى أبنائهم المُترفين وكانت هِمتهم مع عِظم شأن المُلك وجَلالة قَدْره قَصْدَ الشهوات وإِيثارَ اللذات والدخولَ في معاصي اللّه ومساخطه جهلاً باستدراج اللهّ وأمْنا لمَكْره فسَلبهم الله العزَ ونَقل عنهم النِّعمة‏.‏
فقال له صالح بن عليّ‏:‏ يا أمير المؤمنين إن عبد اللّه بن مَروان لما دخل النّوبة هارباً فيمن تَبعه سأل ملكُ النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبد اللّه فكلّمه بكلام عَجيب في هذا النَّحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده فإِن رأى أمير المؤمنين أن يَدْعو به من الحَبس بحَضرتنا في هذه الليلة وشماله عن ذلك فأمر المنصورً بإحضاره وسأله عن القصة‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قَدمنا أرض النوبة وقد خُبِّر المَلِك بأمرنا فدخل عليّ رجلٌ أقنى الأنف طُوالٌ حسنُ الوجه فقَعد على الأرض ولم يَقْرُب الثياب‏.‏
فقلت‏:‏ ما يَمنعك أن تَقعد على ثيابنا قال‏:‏ لأنّي ملك ويحقّ على الملك أن يتواضع لعَظمة اللّه إذ رَفعه الله‏.‏
ثم قال‏:‏ لأي شيء تَشْربون الخمر وهي مُحرمة عليكم قلتُ‏:‏ اجترأ على ذلك عبيدُنا وغِلْماننا وأتباعنا لأنّ المُلك قد زال عنا‏.‏
قال‏:‏ فلم تطئون الزروع بدوابكم والفسادُ مُحرّم عليكم في كتابكم قلت‏:‏ يَفعل ذلك عبيدُنا وأتباعُنا بجَهلهم‏.‏
قال‏:‏ فلِم تَلبَسُون الدِّيباج والحَرير وتَسْتعملون الذهبَ والفِضة وذلك مُحَرم عليكم قلت‏:‏ ذهب الملكُ عنّا وقَل أنصارُنا فانتصرنا بقوم منِ العَجم دخلوا في دِيننا فلبَسوا ذلك على الكُرْه منَا‏.‏
قال‏:‏ فأطرَق مليا وجَعلً يقلَب يدَه ويَنْكُث الأرض ويقول‏:‏ عبيدُنا وأتباعنا وقومٌ دخلوا في دِيننا وزال المُلك عنا‏!‏ يردّد مراراً‏.‏
ثم قال‏:‏ ليس ذلك كذلك رب أشتم قومٌ قد استحلَلْتم ما حَرم الله ورَكِبتم ما نهاكم عنه وظَلمتم من مَلَكْتم فَسَلَبكم اللّه العز وألبسكم الذّل بذُنوبكم وللّه فيكم نِقْمة لم تَبْلغ غايتَها وأخاف أن يَحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيُصيبني معكم وإنما الضيافةُ ثلاثة أيام فتزوّدوا ما احَتجتم أخبار الدولة العباسية الهيثم بن عديّ قال‏:‏ حدّثني ابن عيّاش قال‏:‏ حدثني بُكير أبو هاشم مولى مَسْلمة قال‏:‏ لم يزل لبني هاشم بيعةُ سرّ ودَعْوَة باطنة منذ قتل الْحُسين بن عليِّ بن أبي طالب ولم نزل نَسمع بخروج الرايات السُّود من خُراسان وزوال مُلك بني أمية حتى صار ذلك‏.‏
وقيل لبعض بني أمية‏:‏ ما كان سببُ زوال مُلْككم قال‏:‏ اختلافنا فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا‏.‏
الهيثم بن عدىّ قال‏:‏ حدثني غيرُ واحد ممن أدركت من المَشايخ أنّ علي بن أبي طالب أصار الأمر إلى الحَسن فأصاره إلى مُعاوية وكَره ذلك الحسينُ ومحمد بن الحنفية‏.‏
فلما قُتل الحسينُ بن عليّ صار أمرُ الشَيعة إلى محمد بن الحنفيّة - وقال بعضُهم‏:‏ إلى عليّ بن الحسين - ثم إلى محمد بن عليّ ثم إلى جعفر بن محمد‏.‏
والذي عليه الأكثر أنّ محمدَ بن الحنفية أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبدِ اللهّ بن محمد بن الحنفيّة‏.‏
فلم يزل قائماً بأمر الشِّيعة يأتونه ويقوم بأمرهم ويُؤدُّون إليه الخِراج حتى استُخلف سليمانُ بن عبد الملك فأتاه وافداً ومعه عِدّة من الشيعة فلما كلمه سليمان قال‏:‏ ما كلمتُ قط قرشيّاً يُشبه هذا وما نَظن الذي كنا نُحدَّث عنه إلا حقاً فأجازه وقَضى ضربوا له أبنية في الطريق ومعهم اللَبن المَسموم فكلَما مرّ بقوم قالوا‏:‏ هَلْ لكمِ في الشراب قال‏:‏ جُزيتم خيراً ثم بآخرين فعَرضوا عليه فقال‏:‏ هاتوا فلما شرب واستقر بجوفه قال لأصحابه‏:‏ إني ميّت فانظُروا مَن القوم فنظروا فإِذا هم قَوًضوا أبنيَتهم وذَهبوا‏.‏
فقال‏:‏ ميلوا بي إلى ابن عمي وما أحسبني أدركه‏.‏
فأسرعوا السير حتى أتوا الحُمَيْمَة من أرض الشَراة وبها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فنزل به فقال‏:‏ يا بنَ عمَي إني ميّت وقد صرتُ إِليك وأنت صاحبُ هذا الأمر وولدُك القائم بِه ثم أخوه مِن بعده واللّه ليتمّن الله هذا الأمرَ حتى تَخرج الراياتُ السود من قَعْر خُراسان ثم ليَغْلِبُنّ على ما بين حَضرموت وأقصى إِفريقية وما بين الهِنْد وأقصى فَرْغانة‏.‏
فعليك بهؤلاء الشيعة واستَوْص بهم خيراً فهم دعاتُك وأنصارُك‏.‏
ولتكن دَعوتُك خُراسان ولا تَعْدها لا سيما مَرْو واستَبْطن هذا الحيً من اليمن فإِن كل مُلْك لا يقوم به فمصيره إِلى انتقاض وانظُر هذا الحيَّ من رَبيعة فألحقهم بهم فإِنهم معهم في كل أمر وانظُرْ هذا الحي من قَيس وتميم فأقْصهم إلا مَن عصم الله منهم وذلك قليل ثم مرُهم أن يَرْجعوا فَلْيجعلوا اثني عشرَ نقيباً وبعدهم سبعين نقيباً فإن اللّه لم يُصلح أمرَ بني إِسرائيل إلا بهم وقد فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا مضت سنة الحِمَار فوجِّه رُسلك في خُراسان منهم من يُقتل ومنهم مَن ينجو حتى يُظهر اللّه دعوتكم‏.‏
قال محمد بن علي‏:‏ يا أبا هاشم وما سَنة الحِمَار قال‏:‏ إِنه لم تمض مائةُ سنة من نُبَوّةِ قط إِلا انتَقَض أمرها لقول اللّه عز وجل‏:‏ ‏"‏ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏.‏
قال أنى يحي هذه الله بعد موتها‏.‏
فأماته الله مائة عام ثم بعثه ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ‏"‏‏.‏
واعلم أن صاحب هذا الأمر مِن ولدك عبدُ اللّه بن الحارثية ثم عبدُ الله أخوه‏.‏
ولم يكن لمحمد بن علي في ذلك الحين ولدٌ يسمى عبد الله فوُلد من الحارثيّة ولدان سَمّىِ كل واحد منهما عبدَ الله وكنى الأكبر أبا العباس والأصغر أبا جعفر فوَليا جميعاَ الخلافة‏.‏
ثم مات أبو هشام وقام محمدُ بن علي بالأمر بَعده فاختلفت الشيعةُ إِليه‏.‏
فلما وُلد أبو العباس أخرجه إليهم في خِرقة وقال لهم‏:‏ هذا صاحبُكم فجعلوا يَلْحسون أطرافَه ووُلد أبو العبّاس في أيام عمرَ بن عبد العزيز‏.‏
ثم قدم الشيعةُ على محمد بن عليً فأخبروه أنهم حًبسوا بخُراسان في السجن وكان يَخْدُمهم فيه غلام من السًراجين ما رأوا قطُّ مثلَ عقله وظَرْفه ومحبّته في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له‏:‏ أبو مسلم‏.‏
قال‏:‏ أحر أم عبد قال‏:‏ أمّا عيسى فيزعم أنه عَبد وأما هو فيزعم أنه حُر‏.‏
قال‏:‏ فاشتَرُوه واعتقوه واجعلوه بينكم إِذ رَضيتموه‏.‏
وأعْطَوْا محمد بن علي مائتي ألف كانت معهم‏.‏
فلما انقضت المائةُ السنة بعثَ محمدً بن علي رُسلَه إِلى خراسان فغرسوا بها غَرْساً وأبو المُقدًم عليهم وثارت الفِتنة في خراسان بين المُضرية واليمانية فتمكًن أبو مُسلم وفَرّق رُسله في كُوَرِ خُراسان يدعو الناس إلى آل الرسول فأجابوه‏.‏
ونَصْر بنُ سيار عاملُ خًراسان لهشام بن عبد الملك فكان يَكتب لهشام بخَبرهم وتمضي كتبه إِلى ابن هُبيرة صاحب العراق ليُنفذها إلى أمير المؤمنين فكان يَحْبسها ولا يُنْفذها لئلا يقوم لنَصر بن سيّار قائمة عند الخليفة‏.‏
وكان في ابن هُبيرة حسد شديد‏.‏
فلما طال بنَصر بن سيّار ذلك ولم يأته جوابٌ من عند هشام كتب كتاباً وأمضاه إلى هشام على غير طريق ابن هُبيرة وفي جَوف الكتاب هذه الأبياتُ مُدْرَجة يقول فيها‏:‏ أرَى خَلَل الرماد وميضَ جَمْرٍ فيُوشِكُ أنْ يكون لها ضِرَام فإنّ النارَ بالعُودين تُذْكَى وإن الحربَ أولًها الكلام فإِنْ لم تُطْفئوها تَجْن حَربا مُشَمِّرة يَشيب لها الغُلام فقلتُ من التعجّب ليتَ شِعرِي أأيقاظُ أمَيّة أم نِيام فإن كانوا لحينهمُ نياماً فقُل قوموا فقد حان القِيام فِفِري عن رِحالك ثم قُولي على الإسلام والعَرب السلام فكتب إِليه هشام‏:‏ أنِ احسم ذلك الثؤلول الذي نجم عندكم‏.‏
قال نصر‏:‏ وكيف لنا بحَسمه‏!‏ وقال نَصْر بن سيّار يُخاطب المضرية واليمانية ويُحذِّرهم هذا العدو الداخل عليهم بقوله‏:‏ أبْلغ ربيعةَ في مَرْوٍ وإخْوَتهم فلَيْغضبوا قبل أن لا يَنْفع الغَضَبُ وَلْينصبوا الحربَ إن القومَ قد نَصَبوا حرباً يُحرَّق في حافاتها الحَطب ما بالُكم تَلقَحون الحربَ بَينكم كأنّ أهل الحِجا عن فِعْلكم غَيَب وتَتْركون عدوًّا أظلِّكم مما تَأشب لا دِينٌ ولا حَسَب قِدْماً يدينون ديناً ما سمعتُ به عن الرَّسول ولم تَنزل به الكُتب فمن يَكن سائلاً عن أصْل دِينهم فإنّ دينَهم أنْ تُقْتل العرب ومات محمد بن عليّ في أيام الوليد بن يزيد وأوصى إلى ولده إبراهيم بن محمد فقام بأمر الشِّيعة‏.‏
وقَدَّم عليهم أبا مسلمِ السرَّاج وسُليمان بن كَثير وقال لأبي مُسلم‏:‏ إن استطعت أن لا تَدع بخُراسان لساناً عربياً فافعل ومَن شَكَكت في أمره فاقتُلْه‏.‏
فلما استَعْلى أمرُ أبي مُسلم بخُراسان وأجابته الكُور كلها كتب نصرُ بن سيّار إلى مروان بن محمد بخبر أبي مسلم وكَثرة مَن تَبعه وانّه قد خاف أن يَسْتولي على خُراسان وأن يَدْعو إِلى إِبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس‏.‏
فأتى الكتابُ مَروان وقد أتاه رسول لأبي مُسلم بجوابِ إِبراهيم إلى أبي مُسلم‏.‏
فكتب مروانُ إلى الوليد بن مُعاوية بن عبد الملك بن مروان وهو عامله على دمشق‏:‏ أن أكتُب إلى عاملك بالبَلقاء ليسير إلى الْحُميمة فيأخذ إبراهيم بن محمد فيشدّه وَثاقاً ثم يَبْعث به إِليك ثم وجهْه إليّ‏.‏
فحمُل إِلى مَروان وتبعه من أهله عبدُ الله بن علي وعيسى بن موسى فأدخل على مروان فأمر به إلى الحبس‏.‏
وقال الهيثم‏:‏ حدثني أبو عُبيدة قال‏:‏ كنتُ آتيه في السجن ومعه فيه سعيدُ بن عبد الملك وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز فواللهّ إني ذاتَ ليلة في سَقيفة السجن بين النائم واليقظان إذ بمَوْلى لمَروان قد استفتح البابَ ومعه عشرون رجلاً من موالي مروان الأعاجم ومعهم صاحب السجن فأصبحنا وسعيدٌ وعبدُ الله وإِبراهيم قد ماتوا‏.‏
قال الهيثم‏:‏ حدثني أبو عُبيدة قال‏:‏ حدثني وصيفُ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الذي كان يخدمُه في الحَبس‏:‏ إِنه غَمّ عبدَ اللّه مولاه بِمرْفقه‏.‏
وإِبراهيمَ بن محمد بجراب نُورة وسعيدُ بن عبد الملك أخرجه صاحبُ السجن فلقيه بعضُ حَرس مروان في ظُلمة الليل فوَطئته الخيلُ وهم لا يعرفون من هو فمات‏.‏
ثم استولى أبو مُسلم على خُراسان كُلها فأرسل إلى نصر بن سيّار فهَرَب هو وولده وكاتبه داود حتى انتهوا إلى الرَّيْ فمات نصرُ بن سيّار بساوَة وتفرّق أصحابه ولَحِق داود بالكُوفة وولدُه جميعاً‏.‏
واستعمل أبو مُسلم عُمّاله على خُراسان ومَرْو وسَمَرقند وأحوازها ثم أخرج الراياتِ السود وقَطع البعوث وجَهَّز الخيل والرجال عليهم قحطبةُ بن شَبيب وعامر بن إسماعيل ومُحرز بن إِبراهيم في عِدّة من القُوّاد فَلَقُوا مَن بطُوس فانهزموا ومَن مات في الزِّحام أكثرُ ممن قُتل فبلغ القتلَى بضعةَ عشرَ ألفاً‏.‏
ثم مَضى قَحْطبة إلى العِراق فبدأ بجُرجان وعليها نُباتة بن حَنْظلة الكِلابيّ‏.‏
وكان قَحْطبة يقول لأصحابه‏:‏ والله ليُقْتلن عامرُ بن ضُبارة ويَنْهزمنّ ابنُ هُبيرة ولكني أخافُ أن أموتَ قبل أن أبلغ ثأري وأخاف أن أكون الذي يَغْرق في الفرات فإِن الإمام محمدَ بن عليّ قال لي ذلك‏.‏
قال الهيْثمُ‏:‏ فقَدِم قحطبةُ جُرجانَ فقَتل ابنَ نُباتة ودخل جُرجان فانتهبها وقسّم ما أصاب بين أصحابه ثم سار إلى عامر بن ضُبارة بأصْبهان فلقيه فقُتل ابنُ ضُبارة وقتل أصحابه ولم يَنجُ منهم إِلا الشّرَيد ولَحق فَلُهم بابن هُبيرة‏.‏
وقال قَحْطبة لما قُتل ابن ضُبَارة‏:‏ ما شيءٌ رأيتُه ولا عدوٌ قتلتُه إلّا وقد حَدّثني به الإمام صلواتُ الله عليه إلا أنه حدّثني أني لا أعْبُر الفُرات‏.‏
وسار قَحطبةُ حتى نزل بحلوان ووجّه أبا عون في نحو ثلاثين ألفاً إلى مَروان بن محمد فأخذ على شهر زور حتى أن الزَّاب وذلك برَأي أبي مُسلم‏.‏
فحدّث أبو عون عبدُ الملك بن يزيد قال قال لي أبو هشام بُكَير بن ماهان‏:‏ أنت والله الذي تسير إلى مرْوان ولتَبْعثنّ إليه غُلاماً مِن مَذْحِج يقال له عامر فلَيقتلنّه‏.‏
فأمْضيت واللّه عامرَ بن إسماعيل على مُقدَمتي فلقي مروان فقتله‏.‏
ثم سار قَحطبة من حُلوان إلى ابن هُبيرة بالعراق فالتقوا بالفرات فاقتتلوا حتى اختلط الظلامُ وقُتل قَحطبة في المَعركة وهو لا يُعرف‏.‏
فقال بعضُهم‏:‏ غَرِق في الفُرات‏.‏
ثم انهزم ابنً هُبيرة حتى لحق بواسط وأصبح المُسوِّدة وقد فَقدوا أميرَهم فقدَموا الحسنَ بن قَحطبة‏.‏
ولما بلِغ مروانَ قتلُ قَحطبة وهَزيمةُ ابن هُبيرة قال‏:‏ هذا واللّه الإدبار وإلا فمتى رأيتُم ميِّتاً هَزم حَيًّاً‏!‏ وأقام ابن هُبيرة بواسط وغلبت المُسوَدة على العراق وبايعوا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عبَّاس لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏
ووجهَ عَمَّة عَبدَ اللهّ بن علي لقتال مَروان وأهل الشام وقدّمه على أبي عَون وأصحابه‏.‏
ووجه أخاه أبا جَعفر إلى واسط لقتال ابن هُبيرة‏.‏
وأقام أبو العباس بالكُوفة حتى جاءته هَزيمةُ مَرْوان بالزاب وأمضى عبد اللّه بن علي أبا عون في طَلبه وأقام على دِمَشق ومدائن الشام يأخذ بَيعتها لأبي العباس‏.‏
وكان أبو سَلمة الخلّال واسمه حَفْص بن سليمان يدعى وزيرَ آل محمد وكان أبو مُسلم يدعى أمينَ آل محمد‏.‏
فقَتل أبو العباس أبا سَلمة الخلاّل واتهمه بحُب بني فاطمة وأنه كان يَحْطِب في حِبالهم‏.‏
وقتل أبو جعفر أبا مسلم وكان أبو مُسلم يقول لقواده إذا أخرجهم‏:‏ لا تُكلموا الناسَ إِلا رَمْزا ولا تَلحظوهم إلا شزرا لتمتلىء صدورُهم من هَيبتكم‏.‏
مقتل زيد بن علي أيام هشام بن عبد الملك كَتب يوسف بن عُمر إلى هشام بن عبد الملك‏:‏ إنّ خالدَ بن عبد اللّه أوْدع زيدَ بن عليّ بن حُسين بن عليّ بن أبي طالب مالاً كثيراً‏.‏
فبعث هشامٌ إلى زَيد فقَدِم عليه فسأله عن ذلك فأنكر فاستحلفه فحلف له فخلّى سبيله وأقام عند هشام بعد ذلك سنة‏.‏
ثم دخل عليه في بعض الأيام فقال له هشام‏:‏ بَلغني أنك تحدِّث نفسَك بالْخِلافة ولا تَصْلح لها لأنك ابنُ أمة‏.‏
قال‏:‏ أمّا قولكُ إني ابن أمة فهذا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ابنُ أمة أخرج الله من صُلبه خيرَ البشر محمداً صلى الله عليه وسلم وإِسحاقُ ابن حُرة أخرج اللّه من صُلبه القِردَة والخنازير وعَبدة الطاغوت‏.‏
وخرج زيد مُغضباً‏.‏
فقال زيد‏:‏ ما أَحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذل قال له الحاجب‏:‏ لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد‏.‏
وخرج زيدٌ حتى قَدم الكوفة فقال‏:‏ شرَده الخوْفُ وأزْرَى به كذاك مَن يَكره حَرّ الجلادْ مُحتفي الرَّجلين يَشْكو الوجَى تَنْكُبه أطرافُ مَرْوٍ حِدَاد قد كان في المَوْت له راحة والموتُ حَتْم في رِقاب العِبادْ ثم خَرج بخُراسان فوجّه يوسف بنُ عمر إِليه الخيلَ وخرج في إثرها حتى لقيه فقاتَله فرُمي زيدٌ في آخر النهار بنشّابة في نَحْره فمات فدَفنه أصحابهُ في حمأة كانت قريبةً منهم‏.‏
وتتبع يوسف أصحابَ زيد فانهزم من انهزم وقُتل من قُتل‏.‏
ثم أتي يوسفَ فقيل له‏:‏ إن زيداً دُفن في حَمأة‏.‏
فاستخرجه وبَعث برأسه إلى هشام ثم صَلبه في سُوق الكُنَاسة‏.‏
فقال في ذلك أعورُ كلب وكان مع يوسف في جَيش أهل الشام‏:‏ نَصبنا لكم زيداً على جِذْع نخلةٍ وما كان مَهْدي على الجذْع يُنصبُ الشَيباني قال‏:‏ لما نزل عبدُ الله بن علي نهر أبي فُطرس حضر الناسُ بابَه للإذن وحَضر اثنان وثمانون رجلاً من بني أمية فخَرج الآذن فقال‏:‏ يا أهل خراسان قُوموا‏.‏
فقاموا سِماطين في مجلسه ثم أذن لبني أمية فأخذت سيوفُهم ودخلوا عليه‏.‏
قال أبو محمد العَبْدي الشاعر‏:‏ وخَرج الحاجبُ فأدخلني فسلمتُ عليه فردّ عليّ السلام ثم قال أنشدني قولك‏:‏ وَقَف المُتَيّم في رُسوم دِيار فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولي‏:‏ أما الدعاةُ إلى الجنان فهاشمٌ وبنو أمية من دُعاة النارِ مَن كان يَفْخر بالمكارم والعُلا فلَها يَتمُّ المجد غيرَ فَخَارِ والغَمْرُ بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على المُصَلى وبنو أمية على الكَراسي فألقى إليّ صُرة حرير خَضراء فيها خَمسُمائة دينار فقال‏:‏ لك عندنا عَشرة آلاف درهم وجارية وبرْذون وغلامٌ وتخت ثياب‏.‏
قال‏:‏ فوفّى واللهّ بذلك كُلّهُ‏.‏
ثم انشأ عبدُ اللهّ بن علي يقول‏:‏ حسِبتْ أمية أنْ سَيرضى هاشم عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا وربِّ محمدٍ وإِلهِه حتى تُباح سهولُها وحُزونها ثم أخذ قَلنسوته من رأسه فضَرب بها الأرض فأقبل أولئك الجند على بني أمية فخَبطوهم بالسّيوف والعَمد‏.‏
وقال الكلْبي الذي كان بينهم وكان من أتباعهم‏:‏ أيها الأمير إني والله ما أنا منهم‏.‏
فقال عبدُ الله بن علي‏:‏ ومُدْخلٍ رأسَه لم يَدْعُه أحد بين العرينَيْن حتى لَزَه القَرَنُ اضربوا عُنقه ثم أقبل على الغَمْر فقال‏:‏ ما أحسبُ لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا‏.‏
فقال‏:‏ أجل‏.‏
قال‏:‏ يا غلام اضرب عُنقه فأقيم مِن المُصلى فضرُب عنقه‏.‏
ثم أمر ببساط فطُرح عليهم ودعا بالطعام فجعل يأكل وانين بعضهم تحت البِساط‏.‏
وفي رواية أخرى قال‏:‏ لما قَدم الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلاً من بني أمية فوُضعت لهم الكراسي ووُضعت لهم نمارق وأجْلسوا عليها وأجلس الغمرَ مع نَفْسه في المُصلى ثم أذن لشِيعته فدخلوا ودخل فيهم سُديف بن مَيمون وكان مُتوشِّحاً سيفاً متنكّباً قوساً وكان طويَلاً آدم فقام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيزعُم الضُلال بما حَبِطت أعمالُهم أنّ غَير آل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالخلافة فلِم وبم أيها الناس ألكم الفَضل بالصَحابة دون ذوي القرابة والشُرِكاء في النسب الأكفاء في الحسب الخاصَّة في الحياة الوُفاة عند الوفاة مع ضربهم على الأمر جاهلكم وإطعامهم في الَّلأواء جائعكم فلكم قَصم الله بهم من جبّار باغ وفاسِقٍ ظالم‏.‏
لم يسمع بمثل العباس لم تَخضع له الأمة بواجب حق الحُرمة أبو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد أبيه وجِلْده ما بينَ عيْنيه أمنيةُ ليلة العقبة ورسولُه إلى أهل مكة وحاميه يوم حُنين لا يَردّ له رأياً ولا يُخالف له قَسَمِا‏.‏
إنكم واللّه معاشرَ قُريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث اختار اللّه لكم تيميّ مرةَ وعدويّ مرة وكُنتم بين ظَهْراني قوم قد اثروا العاجلَ على الآجل والفاني على الباقي وجَعلوا الصدقاتِ في الشهوات والفَيءَ في اللّذات والمغانم في المحارم إذا ذُكِّروا باللّه لم يذكروا وإذا قُدِّمُوا بالحق أدبروا فذلك كان زمانُهم وبذلك كان يَعمل سلطانهم‏.‏
فلما كان الغد أذن لهم فدَخلوا ودخل فيهم شبِل فلما جلسوا قام شِبْل فاستأذن في الإنشاد فأذِن له فأنشد‏:‏ طَلبوا وِتْر هاشمٍ فَلَقُوها بعد مَيْل من الزَمان وباس لا تُقِيلن عبدَ شمس عِثاراً اقطعُوا كل نخلة وغِراس ولقد غاظَني وغاظَ سَوائِي قُرْبُهم من مَنابر وكَراسي واذكُروا مَصْرع الحُسين وزيداً وقَتيلاً بجانب المهرَاس وقتيلاً بجَوْف حَرَّان أضحَى تَحْجُل الطيرُ حوله في الكِناس نِعم شبْل الهراش مولاك شِبْل لو نجا من حَبائل الإفلاس ثم قام وقاموا‏.‏
ثم أذن لهم بعد فدخلوا ودخل الشَيعة‏.‏
فلما جلسوا قام سُديف بن ميمون فأنشد‏:‏ قد أتتك الوُفود من عبد شَمْس مستعدين يُوجعون المِطيا عَنوِة أيها الخليفة لا عَن طاعةٍ بل تَخوَفوا المَشرفيّا لا يَغرَنْك ما‏.‏
ترى من رجالٍ إن تحتَ الضلوع داءً دَوِيّا فضَع السيفَ وارفع السَّوط حتى لا ترى فوقَ ظَهْرها أمويا ثم قام خَلَف بن خَليفة الأقطع فأنشد‏:‏ فالتفت أبو العباس إلى الغَمر فقال‏:‏ كيف ترى هذا الشعر قال‏:‏ والله إن هذا لشاعر ولقد قال شاعرنا ما هو أشعر من هذا‏.‏
قال‏:‏ وما قال فأنشده‏:‏ شَمس العَداوة حتى يستقادَ لهم وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قَدَروا فشرَق وجهُ أبي العباس بالدم وقال‏:‏ كذبتَ يا بن اللَخناء إني لا أرى الخُيلاء في رأسك بعد ثم قاموا‏.‏
وأمر بهم فدُفعوا إلى الشَيعة فاقتَسموهم فضربوا أعناقَهم ثم جَزوا بأرجلهم حتى ألقوها في الصحراء بالأنبار وعليهم سراويلاتُ الوَشيْ فوقف عليهم سُديف مع الشِّيعة وقال‏:‏ طَمِعتْ أمية أنْ سيرضى هاشمٌ عنها ويَذهب زيدُها وحُسينُها كلا ورب محمد وإلهه حتى يباد كَفُورها وخَؤُونها وكان أشدَ الناس على بني أمية عبدُ اللّه بن علي وأحنهم عليهم سليمان بن علي‏.‏
وهو الذي كان يسميه أبو مُسلم كَنف الأمان وكان يُجير كل من استجار به وكتب أبي العباس‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَا لم نُحارب بني أمية على أرْحامهمِ وإنما حار بناهم على عُقوقهم وقد دافت إلي منهم دافّة لم يَشْهروا سلاحاً ولم يُكَثروا جَمْعا فأحبّ أن تكتب لهم منشورَ أمان‏.‏
فكتب لهم منشورَ أمان وأنفذه إليهم‏.‏
فمات سليمانُ بن علي وعنده بِضْع وثمانون حُرمة لبني أمية‏.‏
خلفاء بني أمية بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام أول خلفاء الأندلس من بني أمية عبدُ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك‏.‏
وَلي الملكُ يوم الجمعة لعشر خَلَوْن من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة‏.‏
وتوفي في عَشرة من جُمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة‏.‏
فكان مُلْكه اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر‏.‏
وكان يقال له صَقْر قُريش وذلك أن أبا جعفر المنصور قال لأصحابه‏:‏ أخْبروني عن صَقْر قُريش‏.‏
من هو قالوا‏:‏ أمير المؤمنين الذي راضَ المُلك وسَكَّن الزَّلازل وحَسم الأدواء وأباد الأعداء‏.‏
قال‏:‏ ما صنعتم شيئاً‏.‏
قالوا‏:‏ فمعاوية‏.‏
قال‏:‏ ولا هذا‏.‏
قالوا‏:‏ فعبدُ الملك بن مروان‏.‏
قال‏:‏ ولا هذا‏.‏
قالوا‏:‏ فمن يا أمير المؤمنين قال‏:‏ عبدُ الرحمن بن معاوية الذي عَبر البحر وقَطع القَفز ودَخل بلداً أعجمياً مُفْرداً فمصر الأمصار وجَنَّد الأجناد ودَوّن الدَواوين وأقام مُلكاً بعد انقطاعه بحُسن تدبيره وشِدة شَكيمته‏.‏
إنَّ معاوية نَهض بمَرْكب حَمله عليه عمر وعثمان وذلّلا له صعبه وعبدَ الملك ببَيعةٍ تقدَم له عَقْدُها وأمير المؤمنين بطلب عشيرته واجتماع شيعته وعبدَ الرحمن منفرد بنفسه مؤيَّد برأيه مُسْتصحب لعَزْمه‏.‏
وقالوا‏:‏ لما توطَّد مُلْك عبد الرحمن بن مُعاوية عَمِل هذه الأبيات وأخْرجها إلى وزرائه فاستَغربتُ من قوله إذ صدَقها فعلُه وهي‏:‏ ما حَق مَن قام ذا امتعاض بِمُنْتَضى الشَّفرتَين نَصلاَ فبزّ مُلكاً وشاد عِزَا ومِنْبراً للخِطاب فَمصلا فجاز قفراً وشَقَّ بَحْراً مُسامِياً لُجَّة ومَحْلَا وجَنَّد الجُنْدَ حين أوْدَى ومَصَّر المِصْر حين أجْلى ثم دَعا أهلَه جميعاً حيثُ انتأوا أن هَلمَ أهْلا فجاء هذا طَريد َجُوع شريد َسَيْف أبيد قَتْلا فَحلّ أمناً ونال شِبْعاً وحاز مالاً وضَمّ شَملا ألم يَكُن حق ذا على ذا أوجبَ من مُنْعم‏.‏
ومَوْلى وكتب أميّة بن يزيد عنه كتاباً إلى بعض عُمَّاله يَسْتقصره فيما فَرّط فيه من عمله فأكثر وأطال الكتاب فلما لَحظه عبدُ الرحمن أمر بقَطْعه وكتب‏:‏ أما بعد فإنْ يكن التَقصير منك مُقدَّما‏.‏
فحَرِيّ أن يكون الاكتفاءُ عنك مُؤَخَراً وقد علمتَ بما تقَدَمت فاعتمد على أيّهما أحْببت‏.‏
وكان ثار عليه ثائرٌ بغربي بَلْدة فغزاه فظَفِر به وأسره فبينما هو مُنْصَرِف وقد حُمل الثائرُ على بغل مَكْبولاً نظر إليه عبدُ الرحمن بني مُعاوية وتحته فرس له فقنع رأسَه بالقناة وقال‏:‏ يا بغل ماذا تحمل من الشَقاق والنًفاق قال الثائر‏:‏ يا فَرس ماذا تحمل من العَفو والرحمة فقال له عبدُ الرحمن‏:‏ والله لا تذوق موتاً على يدي أبداً‏.‏
هشام بن عبد الرحمن ثم وَلي هشامُ بن عبد الرَّحمن لسبع خَلَون من جُمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة ومات في صَفَر سنة ثمانين ومائة‏.‏
فكانت ولايتُه سبعَ سنين وعشرةَ أشهرِ‏.‏
ومات وهو ابنُ إحدى وثلاثين سنة‏.‏
وهو أحسنُ الناس وجهاً وأشرفهم نفساً الكامل المُروءة الحاكم بالكتاب والسنة الذي أخذ الزكاة على حِلِّها ووَضعها في حَقها لم يُعرف منه هفوة في حداثته ولا زَلة في أيام صِباه‏.‏
ورآه يوماً أبوه وهو مُقبل مُمتلىء شباباً فأعجبه فقال‏:‏ يا ليتَ نساء بني هاشم أبصرنه حتى يَعُدن فواركَ‏.‏
وكان هشامَ يصرِّر الصُّرر بالأموال في ليالي المَطر والظلْمة ويَبعث بها إلى المساجد‏.‏
فيُعطي مَن وُجد فيها‏.‏
يريد بذلك عمارة المساجد وأوصى رجلٌ في زمن هشام بمال في فكّ سَبَّيه من أرْض العدو فطُلبت فلم توجد احتراساً منه للثغر واستنقاذاً لأهل الحكم بن هشام ثم وَلي الخلافة الحكمُ بنِ هشام في صَفر سنة ثمانين ومائة وكانت ولايتُه ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهراَ‏.‏
ومات يومَ الخميس لثلاث بَقِين من ذي الحجّة سنة ست ومائتين‏.‏
وهو ابنُ اثنتين وخمسين سنة‏.‏
وكانت فيه بَطالهّ إلا أنه كان شُجاعَ النفس باسطَ الكَف عظيم العَفْو متخيراً لأهلٍ عمله ولأحكام رعيته أورعَ من يقدر عليهم وأفضلَهم فيسلطهم‏.‏
على نَفسه فضلاً عن ولده وسائر خاصّته‏.‏
وكان له قاض قد كَفاه أمورَ رعيّته بفَضْله وعَدله ووَرعه وزُهده فمرض مرضاً شديداً واغتمَ له الحَكَم غمًّا شديداً‏.‏
فذكر يزيدُ فتاه أنه أرِق ليلة وبَعُد عنه نومُه وجَعل يَتململ على فراشه فقلت‏:‏ اصلح اللّه الأمير إني أراك متململاً وقد زال النومُ عنك فلم أدْرِ ما عَرض لك قال‏:‏ ويحك‏!‏ إني سمعتُ نائحة هذه الليلة وقاضينا مريض فما أراه إِلا قد قَضي نحبه وأين لنا بمثله ومَن يقوم للرعية مَقامه ثم إن القاضي مات واستقضى الحكمُ بعده سعيدَ ابن بَشير‏.‏
فكان أقصدَ الناس إلى حق أخذهم بعَدل وأبعَدهم من هوى وأنفذَهم لحُكم‏.‏
رَفع إليه رجلٌ من أهل كُورة جَيَّان أنّ عاملاً للحَكم اغتصبه جاريةً وعَمِل في تَصْييرها إلى الحَكم فوقعت من قَلبه كلَّ موقع وأن الرجل أثبتَ أمرَه عند القاضي وأتاه ببيّنة وشُهود يَشْهدون على مَعْرفة ما تظلم منه وعلى عَين الجارية ومَعْرفتهم بها‏.‏
وأوجبت البيّنةُ أن تحضر الجارية واستأذن القاضي على الحَكم فأذِن له فلما دخل عليه قال‏:‏ إنه لا يتم عَدْل في العامّة دون إِفاضته في الخاصَّة وحَكى له أمرَ الجارية وخَيّره في إبرازها إليه‏.‏
أو عَزْله عن القضاء‏.‏
فقال له‏:‏ ألا أدْعوك إلى خير من ذلك تَبتاع الجارية من صاحبها بأنفس ثمن وأبلغ ما يسأله فيها‏.‏
فقال‏:‏ إنَّ الشَهودَ قد شَخصوا من كُورة جَيان يَطلبون الحق في مظانّه فلما صاروا ببابِك تَصرْفهم دون إنفاذ الحقّ لأهله ولعلّ قائلاً أن يقول‏:‏ باعَ ما يملك بيعَ مُقتسَر على أمْره‏.‏
فلما رأى عَزْمه أمَر بإخراج الجارية من قَصرِه وشهِد الشَّهودُ على عَيْنها وقَضى بها لصاحبها‏.‏
وكان سعيدُ بن بَشير القاضي إذا خَرج إلى المسجد أو جَلس في مَجلس الحُكم جلس في رِداء مُعَصفر وشعر مُفَرق إلى شَحْمة أذنيه فإذا طُلب ما عنده وُجد أوْرعَ الناس وأفضلهم‏.‏
وكانت للحكم ألف فَرس مَرْبوطة بباب قَصره على جانب النَهر عليها عَشرة عُرفاء تحت يدِ كل عَريف منها مائةُ فرس لا تُندب ولا تَبْرح فإذا بلغه عن ثائر في طَرفٍ من أطرافه عاجَله قبل استحكام أمره فلا يَشعر حتى يحاط به‏.‏
وأتاه الخبر‏:‏ أن جابرَ بنَ لَبيد يُحاصر جيّان وهو يَلْعب بالصولجانِ في الجِسرِ‏.‏
فدكا بعَريف من أولئك العُرفاء فأشار إليه أن يخرج مَن تحت يده إلى جابر بن لبيد ثم فَعل مثلَ ذلك بأصحابه من العرفاء‏.‏
فلم يَشْعر ابنُ لَبيد حتى تساقطوا عليه مُتساوين فلما رأى ذلك عدوُّه سُقط في أيديهم وظَنّوا أن الدنيا قد حُشرت لديهم فولّوا مُدبرين‏.‏
وقال الحَكم يوم الهيجاء بعد وقعةِ الرَّبض‏:‏ رأبت صُدوعَ الأرْض بالسَّيف راقعاً وقِدْماً رأبتُ الشَّعب مُذ كُنتُ يافعَا فسائلْ ثُغوري هل بها اليوم ثُغْرةٌ أبادِرُها مُسْتنْضيَ الصيف دارِعا وشافِه علىِ أرْض الفَضاء جَماجماً كأقحاف شِرْيان الهَبيد لَوَامِعا تنبئْك أني لم أكن عن قراعهم بوانٍ وأني كنت بالسيف قارعا ولما تَساقَينا سِجال حُروبنا سَقَيتُهم يسُمًا من المَوت ناقِعا وهل زِدْت أنْ وَفَّيتُهم صاعَ قَرْضهم فوافَوْا مَنايا قُذَرت ومَصارعا قال عثمانُ بن المُثنى المؤدَب‏:‏ قَدم علينا عباس بن ناصح من الجَزيرة أيامَ الأمير عبد الرحمن بن الحكم فاستنشدني شِعْرَ الحَكم فأنشدْتُه فلما انتهيتُ إلى قوله‏:‏ هل زِدْت أن وَفيتهم صاعَ قَرْضهم قال‏:‏ لو جوثي الحكم في حُكومة لأهل الربض لقام بعُذره هذا البيت‏.‏
عبد الرحمن بن الحكم ثم ولي بعده عبدُ الرحمن بن الحَكم أندى الناس كَفَاً وأكرمُهم عَطفاً وأوسعُهم فَضْلاً في ذي الحجَّة سنة لسِتٍّ ومائتين فمَلك إحدى وثلاثين سنة وخمسةَ أشهر‏.‏
ومات ليلةَ الخميس لثلاث خَلَون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وهو ابن اثنتين وستِّين سنة وكتب إليه بعضُ عُماله يسأله عملاً رفيعاً لم يكن مِن شاكلته فَوقع في أسفل كتابه‏:‏ مَن لم يُصِبْ وَجْهَ مَطلَبه كان الحِرمان أولى به‏.‏
محمد بن عبد الرحمن ثم ولي المُلكَ محمدُ بن عبد الرحمن يومَ الخميس لثلاث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين فملك أربعاً وثلاثين سنة وتُوفي يومَ الجمعة مُستهلّ ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وهو ابنُ سبع وستين سنة‏.‏
وكتب عبد الرحمن بن الشَّمر إلى الأمير محمد بن عبدِ الرحمن في حياة أبيه عبد الرحمن وكان يتجنّب الوُقوف ببابه مخافةَ نصر الفَتى فلما مات نصرٌ كتب ابنُ الشَمِر هذه الأبياتَ إلى محمد يقوله فيها‏:‏ لئن غابَ وَجْهي عنكَ إنَّ مَودَّتي لشاهدة في كلِّ يومٍ تُسَلّمُ ولم يَسْتطل إلّا بكم وبعزّكم ولا يَنبغي أن يُمْنح العِز َّمُجرم فمكّنتموه فاستطال عليكُم وكادت بنا نيرانُه تتضرَّم كذلك كَلْب السَّوء إنْ يشبع انبَرى لمُشْبعه مستشلياً يَترمرم فجَمِّع إخواناً لُصوصاً أرذالاً ومَنَاهُم أنْ يَقْتُلونا ويَغْنموا رأى بأمين اللّه سًقماً فَغَرَّه ولم يَك يَدْري أنه يتقدَّم فَنَحْمد ربًّا سَرَّنا بهلاكه فما زال بالإحْسان والطَّول يُنْعم أراد يكَيد اللّه نصْرٌ فكاده ولله كَيْد يَغلب الكَيْدَ مُبرَم بَكى الكًفرُ والشيطانُ نصراً فأعوَلا كما ضحِكَت شوقاً إليه جَهنم وكانت له في كُل شهرٍ جِبايةٌ جِباية آلافٍ تُعَد وتُختَم فهل حائطُ الإسلام يَوماً يسومهم بما اجترموا يوماً عليه وأقدموا وُينْهبنا أموالَهم وهو فاعل فإنّي أرى الدُنيا له تَتبسَّم ألا أَيها الناسُ اسمعوا قولَ ناصحٍ حريص عليكم مُشفِق وتَفهَّموا محمد ُنُورٌ يُستضاء بوَجهه وسَيْفٌ بكف الله ماضٍ مُصمّم فكونُوا له مثلَ البَنين يَكنْ لكم أباً حدِباً في الرُحْم بل هو أرحم ألستَ المُرَجى من أميّة والذي له المَجْدُ منها الأتلدُ المُتَقدّم وأنتَ لأهل الخَير رَوحٌ ورَحمة نَعَمْ ولأهلِ الشَرِّ صاب وعَلقَم وحدَّث بَقّي بن محمد الفَقيه قال‏:‏ ما كلمتُ أحداَ من المُلوك أكملَ عقلاً ولا أبلغ لَفظاً من الأمير محمد دخلتُ عليه يوماً في مجلس خلافته فافتتح الكلامَ فحَمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ذَكر الخُلفاء خليفةً خليفَةَ فحكى كلَّ واحد منهم بحِلْيته ونَعْته ووصفه وذكر مآثرَه ومَناقبه بأفْصح لسان وأبْين بَيان حتى انتهى إلى نَفسه فسَكت‏.‏
وخَرج الأميرُ محمد يوماً متنزهاً إلى الرُّصافة ومعه هاشمُ بن عبد العزيز فكان بها صدَر نَهاره على لذَّته فلما أمسى واختلط الظلامُ رجع مُنصرفاً إلى القَصر وبه اختلاط فأخبَرني مَن سَمعه وهاشم يقول له‏:‏ يا سيدي يا بن الخلائف ما أطيبَ الدُّنيا لولا‏.‏
قال له‏:‏ لولا ماذا قال‏:‏ لولا الموت‏.‏
قال له‏:‏ يا بن اللَّخناء لَحنت في كلامك وهل مَلكنا هذا المُلك الذي نحن فيه إلا بالموت ولولا المَوت ما مَلَكناه أبداً‏.‏
وكان الأميرُ محمد غَزَّاءً لأهل الشِّرك والخلاف وربما أوْغل في بلاد العدو السِّتة الأشهر أو أكثر يَحرق ويَنْسف وله في العدو وَقيعة وادي سَليط وهي من أمهات الوقائع لم يُعرف مثلُها في الأندلس قبلها وفيها يقول عبّاس بنُ فرناس وشعرُه يَكفينا من صِفتها‏:‏ إذا أومضت فيه الصَّوارمُ خِلتَها بُروقَاً تَراءَى في الجَهام وتَسْتَخْفي كأنّ ذُرى الأعلام في سَيلانه قَراقير يَمٍّ قد عَجَزن عن القَذْف وإن طَحنت أركانُه كان قُطبُها حِجَى مَلك نَجدٍ شمائلُه عَفِّ سَمِى خِتام الأنبياءِ مُحمَّد إذا وُصف الأملاكُ جَل عن الوصْف فمن أجْله يومَ الثُّلاثاء غُدوةً وقد نَقض الإصْباح عَقْد عُرى السَّجف بَكى جبلاً وادي سَليط فأعولا على النَّفر العُبْدان والغصْبة الغُلف دعاهم صريخ الحَيْن فاجتمعوا له كما اجتمع الجُعلان للبَعْر في قُفّ فما كان إلا أنْ رماهم ببَعضها فولوا على أعْقابِ مهْزومة كًشف كأنّ مساعيرَ المَوالي عليهُم شواهينُ جادت للغَرانيقٍ بالنَسْف بنَفسي تنانير الوغَى حينَ صُفِّفت إلى الجَبَلِ المَشْحون صفّا على صَفِّ يقول ابنُ يليوسِ لموسى وقد وَنى أرى المَوت قُدّامي وتَحْتي ومِن خَلْفي قتَلناهُم ألفاً وألْفاً ومثلَها وألفاً وألفاً بعد ألفٍ إلى ألف المنذر بن محمد ثم ولي المنذرُ بن محمد يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين‏.‏
ومات يومَ السبت في غَزاة له على بُبَشتر لثلاثَ عشرةَ بقيت من صَفر سنة خمس وسبعين ومائتين وهو ابنُ ستٍّ وأربعين سنة‏.‏
وكان أشدَّ الناس شَكيمة وأمضاهم عزيمة‏.‏
ولما ولي المُلك بَعث إِليه أهلُ طُليطلة بجبايتهمِ كاملةً فردّها عليهم وقال‏:‏ استعينوا بها في حَرْبكم فأنا سائر إِليكم إن شاء الله‏.‏
ثم غزا إلى المارق المرتدّ عمر بن حَفْصون وهو بِحصْن قامره فأحْدق به وبخَيله ورَجْله فلم يجد الفاسقُ مَنفذاً ولا متنفساً فأعمل الحيلة ولاذ بالمكر والخديعة وأظهر الإتابة والإجابة وأن يكون من مُستوطني قُرطبة بأهله وولده وسأل إلحاق أولاده في الموالي‏.‏
فأجابه الأمير إلى كل ما سأل وكتب لهم الأمانات وقُطعت لأولاده الثياب وخُرزت لهم الخِفاف ثم سأل مائةَ بغل يَحمل عليها ما لَه ومتاعه إلى قُرطبة فأمر الأمير بها‏.‏
وطُلبت البغال ومَضت إلى بُبَشْتَر وعليها عشرة من العرفاء وانحلّ العسكرُ عن الحِصن بعضَ الانحلال وعكف القاضيِ وجماعة من الفقهاء على تمام الصُّلح فيما حَسبوا‏.‏
فلما رأى الفاسق الفُرصةَ انتهزها ففسق ليلاً وخَرج فلقي العُرفاء بالبغال فقَتلهم وأخذَ البغال وعاد إلى سيرتِه الأولى‏.‏
فعقد المُنذر على نفسه عقداً أن لا أعطاه صُلحاً ولا عهداً إلا أن يُلقي بيده ويَنزل على عهدِه وحُكمه ثم غَزاه الغزاة التي تُوفي فيها فأمر بالبُنيان والسّكنى عليه وأن يُردَّ سوق قرطبة إِليه فعاجله أجلُه عن ذلك‏.‏
عبد اللّه بن محمد ثم تولّى عبدُ الله بن محمد التقيّ النقيّ العابد الزاهد التالي لكتاب اللّه والقائم بحدود الله يومَ السبت لثلاثَ عشرةَ بقيَت مِن صفر سنة خمس وسبعين ومائتين‏.‏
فبنى الساباط وخرج إلى الجامع والتزم الصلاة إلى جانب المنبر حتى أتاه أجلُه رحمه اللّه يومَ الثلاثاء لليلة بقيت من صَفر سنة ثلثمائة‏.‏
وكانت له غزوات منها غَزاة بَليّ التي أنست كُلّ غزاة تقدّمتها في لك أن المُرتد ابن حَفْصون ألّب عليه كُور الأندلسَ حتى لم يبقى منها إلا قرطبة وحدها ثم أقبل في ثلاثين ألفا من أهل الكور فنزل حِصْنَ بَليّ وخرج إليه الأمير عبدُ اللّه بن محمد في أربعةَ عشرَ ألفاً من أهل قرطبة خاصة وأربعة آلاف من حَشمه ومواليه فبَرز إليه الفاسق وقد كرْدس كراديسه في سَفْح الجبل وناهضه الأميرُ عبد الله بجُمهور عسكره فلم يكن له فيهم إلا صَدْمة صادقة أزالهم بها عن معسكرهم فلم يقدروا أن يتراجعوا إِليه‏.‏
ونظر الفاسقُ إلِى مُعسكر عبد الله الأمير فإذا بمَدَد مُقبل مثل اللَّيل في انحدارِ السيل لا ينقطع فجَبُنت نفسه وعَطف إلى الحصن يظهر إخراج مَن بقي فيه فثَلم ثلمة وخَرج منها في خمسة معه وقد طار بهم جَناحُ الفرار‏.‏
فلما انتهى ذلك إلى أهل عَسكره وَلّوّا مُدبرين لا يلوي أحد على أحد فعملت الرماحُ في أكتافهم والسيوفُ في طلا أعناقهم حتى أفْنوهم أو كادوا‏.‏
وكان منهم جماعةٌ قد افترقوا في عسكر الأمير عبد الله فقعد الأمير في المَظلة وأمر بالتقاطهم وأن لا يَمُر أحدٌ على أحد منهم إلا قَتله‏.‏
فقُتل منهم ألف رجل صبراً بين يدي الأمير‏.‏
عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين ثم ولي الملكَ القمرُ الأزهر الأسدُ الغضنفر الميمونُ النقيبة المحمودُ الضريبة سيدُ الخلفاء وأنجبُ النجباء عبدُ الرحمن بن محمد أمير المؤمنين صبيحةَ هلال ربيع الأول سنة ثلثمائة فقلت فيه‏:‏ بدا الهلالُ جديداً والمُلك غَضُ جديدُ يا نِعْمة اللّه زِيدي ما كان فيه مَزيد وهي عدة أبيات فتولّى المُلكَ والأرض جَمْرة تحتدم ونارٌ تَضْطرم وشِقاق ونفاق فأخمد نيرانَها وسًكن زلازلها وافتتحها عَوْداً كما افتتحها بدءًا سميًّه عبدُ الرحمن بن معاوية رحمه الله‏.‏
وقد قلتُ وقيل في غَزواته كُلّها أشعار قد جالت في الأمصار وشُرِّدت في البلدان حتى أتهمت أنجدت وأعرقت ولولا أنٌ الناس مُكْتفون بما في أيديهم منها لأعدنا ذِكرها أو ذِكر بعضها‏.‏
ولكننا سنذكر ما سبق إلينا من مَناقبه التي لم يتقدَّمه إليها متقدم ولا أخْت لها ولا نظير فمن ذلك أوّل غَزاة غَزاها وهي الغزاة المعروفة بغَزاة المنتلون افتتح بها سبعين حِصْناً كُلّ حصن منها قد نَكلت عنه الطوائف وأعيا على الخلائف‏.‏
وفيها أقول‏:‏ قد أوضحَ اللّه للإِسلام مِنهاجَا والناسُ قد دَخلوا في الدِّين أفواجَا وقد تَزينت الدُّنيا لساكنها وكأنما ألْبست وَشْياً ودِيباجا يا بنَ الخلائف إنّ المُزن لو عَلمت نَداك ما كان منها الماءُ ثجَاجا والحربُ لو علمت بأساً تَصول به ما هًيجت من حُميّاك الذي اهتاجا ماتَ النِّفَاق وأعطى الكُفْرُ ذِمّتَه وذلّت الخَيل إلجاماً وإسراجا وأصبح النصرُ معقوداً بألْوية تَطْوي المراحلَ تَهْجِيراً وإِدْلاجا أدخلتَ في قُبة الإسلام مارقةً أخرجتَهم من ديار الشِّرك إخراجا بجَحْفل تَشْرَقُ الأرض الفضاءُ به كالبَحر يَقْذِف بالأمواج أمواجا تَرُوق فيه بُرِوق الموت لامعةً وتَسْمعون به للرَّعد أهْزَاجا غادرتَ في عَقْوتي جَيَّان مَلْحمةً أبكيتَ منها بأرض الشرِّك أعلاجا في نِصْف شهر تركتَ الأرضَ ساكنةً من بعدما كان فيها الجَوْرُ قدماجا وُجِدتَ في الخبر المأثور مُنْصلتاً مِن الخلائف خَراجاً وولاجا تُملأ بك الأرض عدلاً مثل ما مُلئت جَوْراً وتُوضِحُ للمَعروفِ مِنْهاجا يا بَدْر َظُلمتها يا شَمْسَ صُبحتها يا ليْثَ حَوْمتها إنْ هائجٌ هاجا إنّ الخلافةَ لن تَرْضىَ ولا رَضِيت حتى عَقدت لها في رَأسك التَّاجا ولم يكن مثل هذه الغَزاة لملك من الملُوك في الجاهلية والإسلام‏.‏
وله غَزاة مارشن التي كانت أخت بَدر وحُنين وقد ذكرناها على وجهها في الأرجوزة التي نظمتُها في مَغازيه كُلِّها من سنة إحدى وثلثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة وأوقعناها في أسفل كتابنا لتكون جامعةً لمغازي أمير المؤمنين وجعلتُها رجزاً لخفّة الرجز وسُهولة حفظه وروايته‏.‏
ومن مَناقبه‏:‏ أن الملوك لم تزل تَبني على أقدارها وُيقضى عليها بآثارها وأنّه بَنى في المُدة القليلة ما لم تَبن الخلفاءُ في المدة الطويلة‏.‏
نعم لم يبق في القَصر الذي فيه مصانع أجداده ومعالم أوليّته بِنْية إلا له فيها أثر مُحدث إما تزْييد أو تَجْديد ومن مناقبه‏:‏ أنّه أوّد من سُمِّي أميرَ المؤمنين من خلفاء بنى أمية بالأندلس‏.‏
ومن مَناقبه التي لا أخت لها ولا نَظير ما اعْجز فيه مَن بعده وقات فيه مَن قبله الجودُ الذي لم يُعرف لأحد من أجواد الجاهلية والإسلام إلا له‏.‏
وقد ذكرتُ ذلك في شعري الذي أقول فيه‏:‏ يا بن الخلائف والعُلا للمُعْتلِى والجودُ يُعْرف فضلُه للمفضل نوَهت بالخُلفاء ِبل أخْملتهم حتى كأن نَبيلهم لم يَنبُل أذْكرتَ بل أنْسيت ما ذكر الألى من فِعلهم فكأنه لم يُفعَل وأتيتَ آخرَهم وشَأوُك فائتٌ للآخِرين ومُدْرِكٌ للأوّل الآن سمَيَتِ الخلافةُ باسمها كالبَدْر يُقرَن بالسماك الأعْزل تأبَى فَعالُك أن تُقر لآخِر منهمْ وجُودُك أن يكون لِأول وهذه الأرجوزة التي ذكرَت جميع مغازيه وما فتح الله عليه فيها في كل غزاة وهي‏:‏ سُبحان مَن لم تَحوه أقطارُ ولم تكنْ تُدركه الأبصارُ ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ فما له نِذو لا شَبيهُ سبحانَه مِن خالقِ قديرِ وعالمٍ بِخلْقه بَصير وجَلّ أن تُدْركَه العُيونُ أو يَحْوياه الوَهم والظُنونُ لكنّه يُدرَك بالقَريحه والعَقل والأبنية الصَّحِيحه وهذه مِن أثبتْ المَعارفْ في الأوْجه الغامضة اللَطائفْ معرفة العَقْل من الِإنسانِ أثبتُ من مَعرفة العِيانِ فالحمْدُ للّه على نَعْمائِه حمداًل جزيلاً وعلى آلائِه وبعد حَمْد الله والتَّمجيدِ وبعد شُكر المُبدىء المُعيدِ أقولُ في أيام خير الناسِ ومَن تحلَّى بالنَّدى وِالباس ومَن أباد الكَفُرَ وَالنفاقَا وشرًّد الفِتْنة والشقاقَا ونحنُ في حَنادسٍ كالليل وفتنة مثل غُثاء السيل حتى تولّى عابدُ الرحمنِ ذاك الأغر من بني مروانِ مُؤيدٌ حَكم في عُداته سيفاً يَسيل الموتُ من ظُباتِه وصبح المُلك مع الهلال فأصبحَا يِديْن في الْجَمَال وضاقت الأرضُ على لسُكانها وأذْكت الحربُ لظَى نيرانِها ونحنُ في عَشواء مُدلهمّهْ وظُلمة ما مثلُها من ظُلمهْ تأخذُنا الصَّيحة كُل يوم فما تَلذُ مُقْلةٌ بنَوْم وقد نُصلي العيدَ بالنواظِر مخافةً من العدوّ الثائِر حتى أتانا الغوثُ من ضِياءِ طَبًق بين الأرْض والسماء خليفة الله الذي اصطفاه على جَميع الخَلق واجْتباه مِن مَعدن الوحي وبَيْت الحِكمه وخيْر مَنسوب إلى الأئمة تَكِلُّ عن مَعروفه الجَنائبُ وتَسْتحى من جُوده السحائبُ في وَجهه من نُوره برهانُ وكفُّه تَقبيلها قُرْبانُ أحْيا الذي مات من المَكارِم من عَهد كَعْب وزَمان حاتِم مكارم يَقصُرُ عنها الوَصْف وغرِّة يَحْسرًُ عنها الطَّرفُ وشِيمة كالضابِ أو كالماء وَهِمَّة تَرِقَى إلى السماء مَن أسبغ النًّعمى وكانت مَحْقَا وفتْق الدنيا وكانت رَتقَا هو الذي جَمّع شمْلَ الأمهْ وجاب عنها دامساتِ الظُلمَه وجدَد المُلك الذي قد أخْلَقا حتى رَسَت أوتادُه واسْتَوسقَا وجَمّع العُدّة والعَدِيدا وكَثَّفَ الأجْناد والحشودا أول غزاة غزاها عبد الرحمن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد ثم انتحَى جَيّان في غَزاته بعَسكر يَسْعر من حُماتِه فاستنزل الوحشَ من الهضاب كأنما حطت من السّحاب فأذعنت مُرّاقُها سراعَاَ وأقبلت حُصونها تَداعَىَ لمَا رماها بسيوف العَزْم مَشْحوذة على دُروع الحَزْم كادت لها أنفُسهم تجودُ وكادت الأرضُ بهم تَميدُ لولا الإله زُلزلت زِلزالَها وأخْرجت من رَهْبة أثقالَها فأنزل الناسَ إلى البسط وقَطَع البَيْن من الخَليط وافتَتح الحُصونَ حِصناً حِصناً وأوْسع الناسَ جميعاً أمْنَا ولم يَزل حتى انتحى جيانَا فلم يَدَع بأرْضها شَيطانَا فأصبح الناسُ جميعاً أمّه قد عَقد الإلّ لهم والذَمّه ثم انتحى من فَوره إلْبيرَهْ وهي بِكل آفةٍ مَشهورهْ إلا كَسَاه الذُّلَّ والصّغارَا وعمَه وأهلَه دَمارَا فما رأيتُ مثلَ ذاك العام ومثلَ صُنع اللّه للإسلام فانصرفَ الأميرُ من غَزاته وقد شَفاه اللّهُ من عُداته وقبلها ما خضعت وأذعنتْ إسْتِجة وطالما قد صَنعتْ وبعدها مدينة الشِّئيل ما أذعنت للصارم الصَقيل لما غَزاها قائدُ الأمير باليُمن في لِوائهِ المنْصورِ فأسلمتْ ولم تكن بالمُسلمة وزال عنها أحمدُ بن مَسْلمهْ وبعدها في آخرِ الشُّهورِ من ذلك العام الزَّكيّ النُّورِ أرْجفت القِلاعُ والْحُصونُ كأنما ساوَرَها المَنونُ وأقبلتْ رجالها وُفودَا تبْغِي لدَى إمامها السعودَا وليس مِن ذِي عزَة وشدَه إلا توافَوْا عند باب السدَّه قُلوبهمْ باخعةٌ بالطّاعَهْ قد أجْمعوا الدُّخولَ في الجَماعهْ ولم يَدَعْ رَيَّةَ والجزيرة حتى كَوى أكلبَها الهريرَه حتى أناخ في ذُرى قَرْمونَه بكَلْكل كمَدْرة الطاحُونه على الذي خالَف فيها وانتزَى يعْزى إلى سوادة إذا اعتزَى فسال أنْ يُمهله شُهورَا ثم يكون عبدَه المأمُورَا فأسعف الأميرُ منه ما سألْ وعاد بالفَضْل عليه وقَفلْ سنة اثنتين وثلثمائة كان بها القُفول عند الجَيّه من غَزْو إحدى وثَلثماية فلم يَكن يُدرَك في باقيها غَزْو ولا بَعْث يكون فيها سنة ثلاث وثلثمائة ثُمت أغزى في الثلاث عَمَّهْ وقد كَساه عَزْمَه وحَزْمهْ فسار في جَيْش شديدِ الباس وقائدُ الجيْش أبو العبَّاس حتى تَرقّى بذُرى بُبَشْتَرْ وجالَ في ساحاتها بالعَسْكرْ ثم انثنى من بعد ذاك قافلا وقد أباد الزَرع والمآكِلاَ فأيقن الخِنزيرُ عِند ذاكا أنْ لا بقَاء يُرتَجى هُناكا فكاتَب الإمامَ بالإجابَه والسمْع والطّاعة والإنابه فأخْمد اللّهُ شِهابَ الفِتْنه وأصْبح الناسُ معاً في هُدْنه وارتعت الشاةُ معاً والدِّيبُ إذا وَضعت أوزارَها الحُرُوبُ سنة أربع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاة أرْبع فأي صُنْع ربنا لم يَصْنَع فيها ببَسْط المَلِك الأواهِ كِلْتا يَديهِ يا سَبيل اللّهِ وذاك أنْ قَوَّد قائدَيْنِ بالنَّصر والتّأييد ظاهرَيْنِ هذا إلى الثغر وما يَليهِ على عدوّ الشِّرك أو ذَويهِ وذا إلى شُمِّ الرُّبا من مُرْسِيَه وما مَضى جرى إلى بَلَنْسيَه فكان مَن وَجّهه للساحلْ القرشيًّ القائد القنابلْ وبعد هذي الغَزْوة الغَرّاءَ كان افتتاحُ لَبْلة الحَمْراءِ أغزَى بجُند نحوَها مَولاهُ في عُقْب هذا العام لا سِواهُ بَدرًا فضمّ جانبيها ضَمَّة وغَمها حتى أجابت حُكمه وأسْلمت صاحبَهما مَقهورَا حتى أتى بدرٌ به مَأسُورَا سنة خمس وثلثمائة وبعدها كانت غَزاةُ خَمْس إلى السَّوَادِيّ عقيدِ النَّحْس لما طَغى وجاوز الحُدودَا ونَقض الميثاقَ والعُهودَا ونابذَ السُّلطانَ مِن شَقائِهِ ومِن تَعدِّيه وسُوء رائهِ أغزى إليه القُرشيَّ القائدَا إذ صار عن قَصْد السبيل حائِدَا ثُمَّت شدَّ أزرَه ببَدْرِ فكان كالشَّفع لهذا الوترِ أحدَقها بالخيل والرجال مُشمِّراً وجدَّ في القتال فنازل الحِصنَ العظيمَ الشانِ بالرّجْل والرُّماة والفُرسانِ فافترق الأصحابُ عن لوائِه وفَتحوا الأبوابَ دُون رائهِ واقتحم العَسكرُ في المدينهْ وهُو بها كهَيْئة الظعينهُ مستسلماً للذًّل والصّغار وملقياً يَديه للإسارِ فنزَع الحاجبُ تاجَ مُلْكهِ وقادَه مُكَتَفا لهُلْكه وكان في آخر هذا العام نَكْب أبي العبَّاس بالإسلام غَزا وكان أنجدَ الأنجادِ وقائدا من أفحل القوادِ فسار في غيْر رجال الحَرْبِ الضاربين عند وَقْت الضَّربِ مُحارباً في غير ما مُحارب والحَشَمُ الجُمهور عند الحاجب واجتمعت إليه أخلاطُ الكُوًرْ وغاب ذو التَّحصيل عنه والنَّظر حتى إذا أوغل في العَدُو فكان بين البُعد والدُّنوَ أسلمه أهلُ القُلوب القاسيهْ وأفْردوه للكِلاب العاوَيهْ فاستشهد القائدُ في أبْرارِ قد وَهَبوا نُفوسَهم للبارِي ثم أقاد الله من أعْدائه وأحْكم النصرَ لأِوْليائِه في مَبدأ العام الذي مِن قابل أزْهق فيه الحقُّ نَفْس الباطل فكان مِن رأيِ الإمام الماجدِ خَيْرِ مَولودٍ وخَيْر والدِ أنِ احتمَى بالواحِد القهَارِ وفاضَ من غَيظ على اَلكُفارِ فجمَّع الأجنادَ والحُشودَا ونَفرّ السيد والمَسودَا وحَشر الأطرافَ والثُّغورَا ورَفض اللّذاتِ والحُبورَا حتى إذا ما وَفت الجُنودُ واجتَمع الحُشّادُ والحُشودُ قوَد بدراً أمَر تلك الطائفهْ وكانت النفسُ عليه خائفَهْ فسار في كَتائب كالسَّيل وعَسكَرٍ مِثل سَوادِ الليل حتى إذا حَلّ على مُطْنيّه وكان فيها أخبثُ البريهْ ناصبَهم حرباً لها شرار كأنما أضرمَ فيها النارُ وجدّ من بينهمُ القتالُ وأحْدقت حولَهم الرجالُ لما رأوْا سحائبَ المَنيّه تُمطرهم صَواعِق البَليه تَغَلْغَل العُجم بأرض العُجم وانحشَدوا مِن تحت كلِّ نَجم فأقبَل العِلْجُ لهم مُغِيثَا يومَ الخَمُيس مُسْرعاً حَثِيثَا بين يديِه الرَّجلُ والفَوارسُ وحوله الصُّلبان والنَّواقس وكان يَرجو أن يُزيل العَسْكرَا عن جانب الحِصْنِ الذي قد دُمَرا فاعتاقَه بدرٌ بمن لَدَيهِ مُستبصراً في زحفِه إليْهِ حتى التقت ميمنة بمَيْسرة واعتنّت الأرْواحُ عند الْحَنْجره ففاز حِزْبُ اللّهِ بالعِلْجان وانهزمت بطانةُ الشيطانِ فقُتِّلوا قتلاً ذَرِيعاً فاشيَا وأدبَر العِلْجُ ذَمِيماً خازيا وانصَرفَ الناسُ إلى القُليعه فصبّحوا العَدوّ يومَ الجُمعة ثم التَقى العِلْجان في الطّريق البنلوني مع الجلقي فاعقدا على انتهاب الْعَسكرِ وأن يَموتا قبل ذَاك اْلمحْضر فأشرعت بَينهم الرماح وقد علا التَكبير والصياحُ وفارقت أغمادَها السيوف وفَغرت أفواهَها الحُتوفُ والتقت الرجالُ بالرجال وانغمسوا في غَمْرة القتال في مَوْقفٍ زاغتْ به الأبصارُ وقَصرُت في طُوله الأعمارُ وهبّ أهلُ الصَبر والبَصائِر فأوعقوا على العدوّ الكافِر حتى بدت هزيمةُ البُشكنس كأنَه متضب بالوَرْسِ فانقضت العِقبان والسَّلالقَهْ زَعْقاً على مُقدَّم الجلالقَهْ عُقبان مَوْتِ تَخطِف الأرواحَا وتُشبع السيوفَ والرِّماحَا فانهزم الخنزيرُ عند ذاكَا وانكشفتْ عورته هُناكَ فقُتَلوا في بَطن كلِّ وادِي وجاءت الرؤوس في الأعْوادِ وقَدّم القائدُ ألفَ راس مِن الجَلاليق ذَوي العماس فتمّ صُنع اللّه للإسلام وعمّنا سرورُ ذاك العام سنة سبع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاةُ بَلْده وهي التي أوْدَت بأهل الردَه وبَدْؤُها أنَ الإمام المصطَفى أصدقَ أهل الأرض عدلاً ووَفَا لما أتته مِيتةُ الْخِنْزِيرِ وأنه صار إلى السعيرِ كاتَبه أولادُه بالطاعَهْ وبالدُخول مَدْخل الجَماعَهْ وأن يُقِرَّهم على الولايَهْ على درور الخَرْج والجِبايَهْ فاختارَ ذلك الإمامُ المُفْضِلُ ولم يزَل مِن رأيهِ التفضلُ ثم لَوى الشيطانُ رأسَ جَعفرِ وصارَ منه نافخاً في المُنْخُر فنقَضَ العُهودَ والميثاقَا واستعمل التشغيب والنَفاقَا وضَم أهلَ النُكْث والخلافِ من غير ما كافٍ وغير وافي فاعتاقَه الخليفة المَؤيّد وهو الذي يشقى به ويسعد مَن عليه مِن عُيونِ اللّهِ حوافظٌ مِن كلَ أمرٍ داهِي حتى إذا مَر بحِصْن بَلْدهْ خَلَّف فيه قائداً في عِدَهْ يَمنعهم مِن انتِشار خَيله وحارساً في يَومه ولَيلهمْ ثم مَضى يستنزلُ الحُصونَا ويبعث الطلاّع والعُيونَا حتى أتاه باشرٌ من بَلْدَهْ يعدو برأس رأسِها في صَعْدَهْ فقدَم الخيْل إليها مُسرعَا واحتلّها مِن يومه تَسرُّعَا فحفّها بالخيْل والرُّماةِ وجُملةِ الحُماة والكُماةِ فاطّلع الرجْلُ على أنْقابها واقتحم الجُندُ على أبوابها فأذعنتْ ولم تَكُن بمُذعِنهْ واستسلمت كافرةُ لمؤمِنَهْ فقُدَمت كُفّارها للسّيفِ وقتَلوا بالحَق لا بالحَيفِ وذاك مِن يُمن الإمام المُرْتَضىَ وخير مَن بَقِي وخير من مَضىَ ثم انتحى من فوره بُبَشترَا فلم يدَعْ بها قضيبَاً أخضرَا وحَطَّم النباتَ والزُروعَا وهَتك الرِّباع والربوعا فوثق الإمامُ من رِهانهِ كَيلا يكونَ في عَمى من شانِه وقبِل الإمامُ ذاك منهُ فضلاً وإحساناً وسار عنهُ سنة ثمان وثلثمائة ثمِ غزا الإمامُ دارَ الْحَرب فكان خطباً يا له من خَطب فحُشدت إليه أعلامُ الكُورْ ومَن له في النَاس ذِكرٌ وخطر إلى ذَوي الدَيوان والرياتِ وكُلِّ مَنسوب إلى الشَاماتِ وكل مَن أخلص للرحمن بطاعةٍ فيً السر والإعلانِ وكلَ مَن طاوع في الجهاد أو ضمه سَرْج على الجياد فكان حشداً ياله من حشدِ من كُل حُرٍ عندنا وعَبدِ فتحسبُ الناسَ جراداً مُنتشرْ كما يقول ربُّنا فيمن حُشر ثم مَضى المُظَفَّر المنصورُ على جَبِينه الهُدى والنُورُ أمامه جُند من الملائكهْ آخذة لربها وتاركهْ فزُلزلت أقدامُهم بالرُّعب واستُنْفِروا من خوف نار الحَرْب واقتحموا الشِّعابَ والمَكامنَاَ وأسْلموا الحُصونَ والمَدائنَاَ فما بقِي من جَنَبات دُورِ مِن بَيعة لراهب أو دَيْرِ إلا وقد صَيَرها هباءَ كالنَار إذ وافقت الأباءَ وزَعزعت كتائبُ السلطانِ لكُل ما فيها من البنْيانِ فكان مِن أول حِصْن زَعْزعُوا ومَن له منِ العدوَ أوْقعُوا مَدينة معْرُوفة بوَخْشَمَهْ فغادروها فحمةً مُسخمهْ ثم ارتقوا منها إلى حَواضر فغادروها مثلَ أمس الدابرِ ثم مَضوْا والعلج يَحْتذيهمُ بجَيْشه يَخشى ويَقْتفيهمُ حتى أتوا تواً لوادِي ديّ ففيه عفِّى الرُّشدُ سبُلَ الغيّ لما الْتقوْا بمَجمع الجَوْزينِ واجتمعت كتائبُ العِلْجين مِن أهل ألْيون وبَنبلونَهْ وأهل أرنيط وبَرْشلونَهْ ورِدُها متصل برِدِّ يُمده بحر عظيمُ المَدِّ فانهزم العِلجان في عِلاج ولَبسوا ثوباً من العَجاج كلاهما يَنظُر حيناً خَلفَهُ فهو يَرى في كُلِّ وَجْهٍ حتْفهُ والبِيض في إِثرِهم والسمْرُ والقَتْل ماضٍ فيهمُ والأسْرُ فلم يكن للناس منْ بَراح وجاءت الرُّؤوس في الرِّماح فأمر الأميرُ بالتَقْويض وأسرْع العَسكَرُ في النًّهوض فصادفُوا الجُمهور لما هُزمُوا وعاينوا قُوّادَهم تُخرِّمُوا فدخلوا حديقَةً للموتِ إذ طَمِعوا في حصْنها بالفَوْتِ فيالَها حديقةً ويالَها وافتْ بها نفوسهم آجالَها تحضنوا إذ عاينوا الأهْوالا لمَعقلٍ كان لهم عِقالا وصَخرة كانت عليهم صَيْلمَا وانقلبوا منها إلى جَهنما تساقطوا يستطعمون الماءَ فأخرجت أرواحُهم ظِماءَ مُصمماً بحرْب دار الحرب قُدّامَه كتائبٌ من عُرْب فداسَها وسامَها بالخَسْفِ والهتكِ والسفك لها والنَّسْفِ فحرّقوا ومزقوا الحُصونا وأسْخنوا من أهلها العُيونَا فانظُر عن اليمين واليسارِ فما تَرى إلا لهيبَ النارِ وأصبحتْ ديارُهم بلاقعَا فما تَرى إلا دخاناً ساطعَا ونُصر الإمامُ فيها المصطفى وقد شَفى من العدو واشتَفى سنة تسع وثلثمائة وبعدها كانت غَزاة طرشْ لسَما إليها جيشه لم يُنْهَشْ وأحدقتْ بحِصْنها الأفَاعي وكُل صِل أسْود شُجاع ثم بَنى حِصْناً عليهِا راتِبَا يَعتور القوّادُ فيهِ دائبَا حتى أنابتْ عَنوةَ جِنانُها وغابَ عن يافوخها شَيطانُها فأذعنتْ لسيد السادات وأكرم الأحياء والأمواتِ واستحجب الإمامُ خيْرَ حاجب وخيْرَ مَصحوب وخَير صاحبِ مُوسى الأغَرّ من بني جُدَيرِ عَقيد كُل رأفةٍ وخَير سنة عشر وثلثمائة وبعدها غَزِاةُ عشرْ غَزْوَهْ بها افتتاحُ منتلون عَنوَهْ غزا الإمامُ في ذوي السلطان يَؤُمّ أهلَ النُّكْث والطغيانِ فاحتلّ حِصْن منتلوِن قاطعَا أسباب مَن أصبح فيه خالعَا سارَ إليه وبَنى عليه حتى أتاهُ مُلْقِياً يَدَيْه ثم انثنى عنه إلى شَذُونَهْ فعاصَها سهلاً من الْحُزونَهْ وساقَها بالأهل والوِلدانِ إلى لُروم قُبّة الإيمانِ ولم يَدَعْ صَعْبًا وَلا منيعاً إلا وقد أذلهَم جميعَا ثم انثنَى بأطيبِ القفُول كما مَضىَ بأحسنِ الفضول سنة إحدى عشرة وثلثمائة فاحتلّ مِن بُبَشْتَر ذَراها وجال في شاطٍ وفي سواها فخرّب العُمران من بُبَشْتَرِ وأذعنت شاطُ لربِّ العَسكرِ فأدخل العدة والعديدَا فيها ولم يَتركْ بها عَنِيدَا ثم انتَحى بعدُ حُصونَ العُجْم فداسها بالقَضْم بعد الخَضْم ما كان في سواحل البُحورِ منها وفي الغاباتِ والوُعور وأدخل الطاعةَ في مكانِ لم يدْر قط طاعةَ السلطانِ ثم رَمى الثغرَ بخير قائدِ وذادهم عنه بخير ذائد به قما اللّهُ ذوي الإشراكِ وأنقذ الثغرَ من الهلاكِ وانتاش من مَهْواتها تُطِيلَهْ وقد جرت دماؤُها مَطلُولَهْ وطَهر الثغرَ وما يَليهِ من شِيعةِ الكُفر ومن ذَويهِ ثم انثنى بالفَتح والنجاح قد غيّر الفسادَ بالصلاح سنة اثنتي عشرة وثلثمائة غزا وسيفُ النّصر في يَمينه وطالعُ السٌعدِ على جَبينه وصاحبُ العَسكر والتدبير موسى الأغرُّ حاجب الأمير فدمَّر الحُصونَ من تُدْمِير واستنزل الوحشَ من الصخورِ فاجتمعتْ عليه كُلّ الأمهَ وبايعته أمراء الفتنة حتى إذا أوعب من حصونها وجمَّل الحق على مُتونها مَضى وسار في ظلال العَسكرِ تحت لواءِ الأسد الغَضَنْفَرِ رجال تُدمير ومَن يليهمُ من كلّ صِنفٍ يعتزى إليهم حتى إذا حَلَّ على تُطيله بكت على دمائها المَطلولَهْ وعِظْم ما لاقت من العدو والحرب في الَّرواح والغدوِّ فهمّ أن يديخ دار الحرب وأن تكَونَ رِدأهُ في الدَرْب ثم استشار ذا النُّهى والحِجْرِ من صَحْبِه ومِن رجال الثغْر فكُلهم أشار أن لا يُدْرِبا ولا يَجوز الجبل المُؤشبا وأن أديخ أرض بَنْبلونَهْ وساحة المدينة الملْعُونَهْ وكان رأيا لم يكُن من صاحب ساعدَه عليه غيرُ الحاجبِ فاستنصر الله وعبى ودَخلَ فكان فتحاً لم يكُن له مَثَلْ لما مَضى وجاوز الدروبَا وادّرعٍ الهَيْجاء والحُروبَا عبَّى له عِلْجٌ من الأعلاج كتائبا غَطت على الفِجاج فاستنصرَ الإمامُ رب الناس ثم استعان بالندى والباس وعاذ بالرَّغْبَةِ والدُّعاء واستنزل النصرَ مِن السماءِ فقدَم القوَّادَ بالحُشود وأتْبع المُدود بالمدودِ فانهزم العلجُ وكانت مَلْحَمَهْ جاوز فيها الساقةُ المُقدَمهْ فقُتَلوا مَقتلة الفَناءِ فارتوت البِيضُ من الدَماءِ ثم أمال نحوَ بَنْبلونهْ واقتحم العسكرُ في المَدينهْ حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها وأسرع الخرابُ في مَعْمورها وكم بها حَقّر من كنائِس بدَّلت الآذان بالنواقِس يَبكي لها الناقوس والصَّليبُ كلاهما فَرض له النحيبُ وانصرَفَ الإمامُ بالنجاح والنصرِ والتأييدِ والفلاح ثم ثَنى الراياتِ في طريقِه إلى بَني ذي النون من تَوفيقِه فأصبحُوا من بَسْطهم في قَبْض قد ألصقت خدودُهم بالأرض حتى بدَوْا إليه بالبرهانِ من أكبر الأباء والوِلْدانِ فالحمدُ للّه على تأييدِه حمداً كثيراً وعلى تسديدِه سنة ثلاث عشرة وثلثمائة ثم غزا بيُمنه أشُونا وقد أشادُوا حولها حُصونَا وحَفَها بالخيل والرجال وقاتلوهم أبلغَ القِتال حتى إذا ما عاينُوا الهلاكَا تبادروا بالطَوْع حينذاكَا وأسلمُوا حِصْنَهمُ المنِيعَا وسَمحوا بخَرْجهم خُضوعَا وقبلَهم في هذه الغَزاةِ قد هُدَمت معاقل العُصاةِ ومَن سواهم من ذوي العشيرَهْ وأمراء الفتنةِ المُغيرَة إذ حُبسوا مراقباً عليهمُ حتى أتوا بكل ما لديهمُ من البنينَ والعيال والحشمْ وكلّ من لاذ بهم من الخَدَمْ فهَبطُوا من أجمَع البُلدانِ وأسكنُوا مدينةَ السلطانِ فكانَ في آخِر هذا العام بعد خُضوع الكُفرِ للإسلام مشاهدٌ من أعظم المَشاهِد على يَدَي عبد الحميد القائدِ لما غَزا إلى بنى ذي النون فكان فتحاً لم يَكُن بالدُّونِ إذ جاوزوا في الظلْم والطُّغيانِ بقَتْلهم لعامِل السُلطانِ وحاولُوا الدُخولَ في الأذيّة حتى غزاهمْ أنجد البرِيّة فعاقَهم عنْ كلَ ما رَجَوْهُ بنَقضه كُلّ الذي بنوه وضَبْطه الحِصْن العظيمَ الشانِ أشنين بالرَّجْل وبالفُرسانِ ثم مَضى الليثُ إليهم زحفاً يَختطِفُ الأرواحَ منهم خَطْفَا ثم لجوا إلى طِلاب الأمنِ وبَذْلهم ودائعاً من رَهْنِ فقبضت رِهانُهم وأمَنوا وأنْغَضوا رؤوسَهم وأذْعنوا ثم مَضى القائدُ بالتأييدِ والنصر من ذي العَرْش والتسدِيد حتى أتى حِصْن بني عِمَارَهْ والحرْبُ بالتّدْبير والإدارَهْ فافتتح الحِصْنَ وخلى صاحبَهْ وأمَن الناسَ جميعاً جانبَهْ سنة أربع عشرة وثلثمائة لم يَغْزُ فيها وغَزَتْ قُوادُه واعتورت ببُشْترا أجنادُهُ فكلهم أبلَى وأغنَى واكتفَى وكُلُهم شَفَى الصُدورَ واشتفَى ثم تلاهم بعدُ لَيثُ الغِيل عبدُ الحميدِ من بني بسيل هو الذي قامَ مقامَ الضَّيغَم وجا في غَزاتِه بالصَيلم برأس جالوتِ النّفاق والحسَدْ من جُمَع الخِنزيرُ فيه والأسدْ فهاكه مع صحبه في عِدَّة مُصلَبين عند باب السُّدَّة كأنه من فَوقها أسْوارُ عيناه في كلتيهما مِسْمارُ مباشراً للشمس والرياح على جوادٍ غير ذي جِماح يقول للخاطر ِبالطَريقِ قولَ مُحبٍّ ناصح شفِيقِ هذا مقام خادِمٍ الشيطانِ ومَن عَصى خليفةًَ الرحمن فما رأينا واعظًا لا يَنْطقُ أصدَق منه في الذي لا يَصدق فقُل لمن غُرّ بسُوء رائِه يَمُت إذا شاء بمثل دائِه كم مارقٍ مَضىَ وكم مُنافقِ قد ارتقى في مِثل ذاك الحالِقِ وعاد وهْوَ في العصا مُصلْب ورأسهُ في جِذْعه مُركَب فكيف لا يعتبر المخالفُ بحال مَن تطلبه الخلائفُ أما تراه في هَوان يرتعُ معتَبراً لمن يَرَى ويسمَعُ سنة خمس عشرة وثلثمائة فيها غَزا معتزما ببُشْترا فجال في ساحتها ودمرَا حتى رأى حَفْصٌ سبيلَ رُشدِه بعد بُلوغ غايةٍ من جُهدِه فدان للإمام قصداً خاضعَا وأسلمَ الحِصنَ إليه طائعَا سنة ست عشرة وثلثمائة لم يَغْزُو فيها وانتحَى بُبَشْترا فرمَّها بما رَأى ودَبرا واحتلّها بالعزّ والتَمكينِ ومَحْو آثارِ بني حَفْصونِ وعاضَها الإصلاحَ من فسادهمْ وطَهّر القبورَ من أجسادهمْ حتى خَلا مَلْحودُ كل قَبْر من كل مُرتَدٍّ عظيم الكُفْرِ عِصابةٌ من شيعةِ الشَيطانَ عدوّة لله والسلطانِ فخُرّمت أجسادها تخرّما وأصليت أرواحهم جَهَنَمَا ووجِّه الإمامُ في ذا العام عبدَ الحميد وهو كالضرغام إلى ابن داودَ الذي تقلَّعا في جبلَيْ شَذُونة تمنعا فحطّه منها إلى البسيط كطائر آذنَ بالسقوطِ وبعد سَبعَ عَشرةَ وفيها غزا بَطَلْيَوْس وما يليها فلم يَزل يَسوِمها بالخَسْف ويَنْتحيها بسُيوِف الحَتْفِ حتى إذا ما ضم جانبَيْهَا محاصراً ثم بنى عَلَيْها خلى ابنَ إسحاق عليها راتبَا مُثابراً في حَرْبِه مُواظبَا ومَر يَسْتقصي حصونَ الغَرْب وَيبتليها بوَبيل الحَرْبِ حتى قضىَ منهنَ كلَّ حاجَهْ وافتُتحتْ أكْشونيَة وباجَهْ وبعد فَتْح الغَرْب واستقصائِه وحَسْمِهِ الأدْواء من أعدائِهِ لجّت بَطَلْيوسُ عَلى نِفاقِهَا وغرّها اللَّجاجُ من مُرٌاقِهَا حتى إذا شافهت الحتوفَا وشامت الرماحَ والسُيوفا دعا ابنُ مَروان إلى السلطان وجاءَه بالعَهْد والأمان فصار في توْسعةِ الإمام وساكناً في قُبة الإسلام سنة ثماني عشرة وثلثمائة وشدَها بابن سَليم قائدَا مجالداً لأهلها مُجاهدَا فجاسَها في طُول ذاك العام بالخَسْف والنَّسف وضَرْب الهام سنة تسع عشرة وثلثمائة ثم أتى رِدْفاً له دُري في عسكرٍ قضاؤُه مقضي فحاصروها عامَ تسعَ عَشرَهْ بكلٌ مَحبُوكٍ القُوى ذي مِره ثم أتاهم بعد بالرجال فقاتلوهم أبلغَ القِتالِ سنة عشرين وثلثمائة حتى إذا ما سلفت شُهورُ من عام عِشْرين لها ثبورُ ألقت يديها للإمام طائعَهْ واستسلمت قسراً إليه باخعه فأذعنتْ وقبلها لم تُذْعن ولم تَقُد من نَفْسها وتُمْكنِ ولم تَدِنْ لربِّها بدين سبعاً وسَبعين من السِّنين ومُبتدى عشرين مات الحاجبْ مُوسى الذي كان الشهابَ الثاقبْ مدينةُ الشِّقاق والنفاقِ وموئل الفساق والمُراقِ حتى إذا ما كان منها بالأمم وقد ذَكا حَرّ الهَجير واحتدمْ أتاه واليها وأشياخُ البَلدْ مستسلمين للإمام المعتمدْ فوافقوا الرحبَ من الإمام وأنزِلوا في البِرِّ والإكرام ووجّه الإمامُ في الظهيرةَ خيلاً لكي تدخل في الجَزِيرَه جريدةٌ قائدُها دري يَلمع في متونها الماذيّ فاقتحمُوا في وَعْرها وسَهلَها وذاك حينَ غفلةٍ من أهلهَا ولم يكن للقوم من دفاع بَخيل دريّ ولا امتناعٍ وقوّض الإمامُ عند ذلكا وقلبه صَبٌّ بما هنالكَا حتى إذا ما حلَّ في المدينَهْ وأهلُها ذليلةٌ مَهينَهْ أقمعها بالخيل والرجال من غير ما حرب ولا قِتال وكان من أوّل شيء نظرَا فيه وما رَوى له ودبَّرَا حتى استوى فيها بناء مُحكمُ فحَلّه عاملُه والحشمُ فعند ذاك أسلمت واستسلمت مدينةُ الدّماء بعد ما عَتَبْ سنة إحدى وعشرين وثلثمائة فيها مَضى عبد الحميد مُلتئمْ في أهبة وعُدّة من الحَشَمْ حتى أتى الحصنَ الذي تَقلَعَا يحيى بن ذي النون به وامتنعَا فحطّه من هَضبات ولبِ من غير تعْنيت وغير حَرْبِ إلا بترْغيب له في الطاعهْ وفي الدُخول مَدْخل الجماعَهْ حتى أتى به الإمامَ راغبَا في الصفح عن ذُنوبه وتائبَا فَصفح الإمامُ عن جنايتِهْ وقَبْل المبذولَ من إنابِتْه وردِّه إلى الحُصون ثانيَا مُسجّلا له عليها وَاليَا سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ثم غزا الإمامُ ذو المَجدينِ في مُبتدا عشرين واثنتين كأنهم جِنُّ على سَعالي وكُلهم أمضىَ من الرِّئبال فاقتحمُوا مُلوندة ورومَهْ ومِن حَواليها حصون حيمهْ حتى أتاه المَارقُ التّجيبِي مُستجدياً كالتائِب المُنيبِ تخَصَّه الإمامُ بالترحيبِ والصَفح والغُفران للذُّنوبِ ثم حَباه وكَساه ووَصَلْ بشاحج وصاهلٍ لا يُمْتَثلْ كلاهُما من مَركب الخلائفِ في حِلْية تعْجِزُ وصفَ الواصفِ وقال كُن منّا وأوطَن قُرْطبَه نُدنيك فيها من أجلِّ مَرْتبة تكن وزيراً أعظمَ الناس خَطَرْ وقائداً تَجْبي لنا هذا الثّغَرْ فقال إني ناقةٌ من عِلَّتي وقد تَرى تغيري وصفرتيِ فإِن رأيتَ سيدي إمْهالِى حتى أرمّ من صَلاح حالي ثم أوافيك على استعجال بالأهل والأولادِ والعِيال وأوثق الإمامَ بالعهودِ وجَعل اللّه من الشهودِ واكتفلتْ بكُلِّ بنبلونى وأطلقت أسرى بني ذي النّونِ فأوعدَ الإمامُ في تَأمينهَا وتكّبَ العسكرَ عن حُصونهَا ثم مَضى بالعزِّ والتَمكين وناصراً لأهل هذا الدّينِ في جُملة الراياتِ والعساكرِ وفي رِجال الصّبر والبَصائرِ إلى عِدَى اللّه من الجلالقِ وعابدِي المَخلوقِ دون الخالقِ فدمَّروا السُّهولَ والقِلاعَا وهَتكوا الربوع والرِّباعَا وخَربوا الحُصونَ والمدائنَا وأنفروا من أهلها المَساكنَا فليس في الدِّيار من ديارِ ولا بها من نافخٍ للنارِ فغادروا عُمْرانَها خرابَا وبَدّلوا رُبوعها يَبابَا وبالقِلاع أحْرقوا الحُصونَا وأسْخنوا من أهلها العُيونا ثم ثَنى الإِمامُ من عِنانِه وقد شَفى الشَجيّ من أشجانِه وأمّن القِفارَ من أنجاسها وطهَر البلادَ من أرجَاسِهَا

أرب جمـال 23 - 10 - 2010 03:05 AM

كتاب اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبين والبرامكة
فرش كتاب أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة قال الفقيهَ أبو عمرَ أحمدُ بنُ محمد بنِ عبدِ ربّه رضي الله تعالى عنه‏:‏ قد مضى قولُنا في أخبار الخُلفاء وتواريخهم وأيامهم وما تَصرّفت به دولهم ونحن قائلون بعون الله في أخبار زياد والحجَّاج والطالبيين والبرامكة وماسِحون على شيء من أخبار الدولة إذ كان هؤلاء الذين جرّدنا لهم كتابَنا هذا قُطبَ المُلك الذي عليه مدار السياسة ومعادنَ التَّدبير ويَنابيعَ البلاغة وجوامعَ البيان‏.‏
هم راضوا الصِّعاب حتى لانت مقاردُها وخَزموا الأنوف حتى سكنتْ شواردُها ومارسوا الأمور وجرّبوا اَلدُّهُور فاحتملوا أعباءَها واستفتحوا مغالقها حتى استقرت قواعدُ الملك وانتظمت قلائدُ الحكم ونَفذت عزائم السلطان‏.‏
أخبار زياد كانت سُميَّة أُمّ زياد قد وَهبها أبو الخَير بن عمرو الكِنْدي للحارث بن كَلَدة وكان طبيباً يعالجه فولدت له على فِراشه نافعاً ثم ولدتْ أبا بَكْرة فأنكر لونَه‏.‏
وقيل له‏:‏ إن جاريتك بَغيّ‏.‏
فَانْتِفِى من أبي بَكْرة ومن نافع وَزَوْجهَا عُبيداً عبداً لابنته‏.‏
فولدتْ على فراشه زياداً‏.‏
فلما كان يومُ الطائف نادَى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيما عبدٍ نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله‏.‏
فنزل أبو بكرة واسلم ولحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال الحارث بن كلَدة لنافع‏:‏ أنت ابني فلا تَفعل كما فَعل هذا يريد أبا بكرة‏.‏
فلَحِق به فهو ينتسب إلى الحارث بن كلَدة‏.‏
وكانت البَغايا في الجاهليّة لهن راياتٌ يُعرفن بها ويِنَتْحَيْهَا الفِتْيان‏.‏
وكان أكثرُ الناس يُكْرهون إماءَهم على البِغاء والخُروج إلى تلك الرايات يبتغون بذلك عَرضَ الحياة الدنيا‏.‏
فَنَهَى الله تَعَالَى في كتابه عن ذلك بقوله جل وعز‏:‏ ‏"‏ ولا تُكرِهُوا فَتَياتِكم على البِغَاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًاً لِتَبْتَغوا عَرِضَ الحَياة الدُّنيا‏.‏
ومَنْ يُكْرِهْهن ‏"‏ يريد في الجاهلية ‏"‏ فإنّ الله مِن بَعْد إكراههنّ غفُورٌ رَحِيم ‏"‏ يريد في الإسلام‏.‏
فيقال‏:‏ إن أبا سفيان خَرج يوما وهو ثَمِل إلى تلك الرايات فقال لصاحبة الراية‏:‏ هل عندك من بَغِيّ فقالت‏:‏ ما عندي إلا سُمية‏.‏
قال‏:‏ هاتها على نَتن إبطيها فوقع بها‏.‏
فولدت له زياداً على فراش عُبيد‏.‏
ووجه عاملٌ من عُمّال عمرَ بن الخطّاب زياداً إلى عمرَ بفَتح فَتحه الله على المسلمين‏.‏
فأمره عمرُ أن يَخطب الناسَ به على المنبر‏.‏
فاحسن في خطبته وجَوّد وعند أصل المِنبر أبو سفيان بن حَرْب وعليّ بن أبي طالب‏.‏
فقال أبو سفيان لعليِّ‏:‏ أيُعجبك ما سمعتَ من هذا الفتى قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أما إنه ابنُ عمّك‏.‏
قال‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ أنا قذفتُه في رَحم أمه سُميَّة‏.‏
قال‏:‏ فما يَمنعك أن تدعِيهِ قال‏:‏ أخشى هذا القاعدَ على المِنبر - يعني عُمَر بن الخطاب - أن يُفسد عليّ إهابي‏.‏
فبهذا الخبر استلحق معاويةً زياداً وشَهد له الشُّهود بذلك‏.‏
وهذا خلافٌ حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ الولدُ للفراش وللعاهر الحَجَر‏.‏
اَلْعَتَبَي عن أبيه قال‏:‏ لما شَهِد الشهود لزياد قام في أَعْقَابهمْ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:‏ هذا أمرٌ لم أشهد أولَه ولا عِلْم لي بآخره وقد قال أميرُ المؤمنين ما بَلغكم وشهد الشهودُ بما سَمعتم‏.‏
فالحمدَ للّه الذي رفع منا ما وضع الناس وحَفظ منّا ما ضَيّعوا‏.‏
وأما عُبيد فإنما هو والدٌ مَبْرور أو رَبِيب مَشْكور‏.‏
ثم جلس‏.‏
وقال زياد‏:‏ ما هُجيت ببيت قطّ أشدَّ عليَّ من قول الشاعر‏:‏ فكَّر ففي ذاك إن فَكَّرتَ مُعْتَبر هل نِلتَ مَكرُمةً إلا بِتَأْمِير عاشتْ سُميَّة ما عاشت وما عَلِمتْ أنّ ابنَها من قريش في الجَماهير سُبحان مَن مُلْك عباد بقُدرته لا يَدفع الناسُ أسبابَ المقادير وكان زياد عاملاً لعليّ بن أبي طالب على فارس‏:‏ فلما مات عليّ رضي الله عنه وبايع الحسنُ معاويةَ عامَ الجماعة بقي زيادٌ بفارس وقد مَلكها وضَبط قَلاعها فاغتمّ به معاوية فأرسل إلى المُغيرة بنُ شعبة‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ لكُل نبأ مُستقر ولكُل سر مسَتودِع وأنت موضعُ سري وغاية ثِقَتي‏.‏
فقال‏:‏ المغيرة‏:‏ يا أمير المؤمنين إنْ تستودعني سرك تستودعه نَاصِحاً شَفيقاً ووَرِعا رفيقاً فلا ذاك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ذكرتُ زياداً واعتصامَه بأرض فارس ومُقامه بها وهو داهية العرَب ومعه الأحوالُ وقد تحصّن بأرض فارس وقِلاعها يُدبّر الأمور فما يُؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت فإذا هو أعاد جَذَعه‏.‏
قال له المُغيرة‏:‏ أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه قال‏:‏ نعم‏.‏
فخرَج إليه‏.‏
فلما دخل عليه وجده وهو قاعد في بيت له مُستقبلٌ الشمسَ‏.‏
فقام إليه زياد ورحِّب به سرُّ بقدومه وكان له صديقاً - وذلك أنّ زياداً كان أحدَ الشُهود الأربعة الذين شَهدوا على المُغيرة وهو الذي تَلجج في شهادته عند عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه فنجا المغيرة وجُلد الثلاثةُ من الشهود وفيهم أبو بكرة أخو زياد فحلف أن لا يكلمٍ زياداً أبداً - فلَما تَفاوضا في الحديث قال له المغيرة‏:‏ أعلمتَ أنّ معاوية استخف الوجل حتى بعثتي إليك ولا نَعلم أحداً يَمد يَده إلى هذا الأمر غيرَ الحسن وقد بايع معاويةَ فخُذ لنفسك قبل التَوطين فيَستغني عنك معاوية‏.‏
قال‏:‏ أشر عليّ وارم الغرضَ الأقصى فإنّ المُستشار مُؤتَمن‏.‏
قال‏:‏ أرى أن تَصل حبلَك بحَبْله وتسيرَ إلَيه وتعير الناسَ أذناً صماء وعَينْاً عمياء‏.‏
قال يا بن شُعبة لقد قلتَ قولاً لا يكون غَرْسُه في غير منبته ولا مَدَرة تغذية ولا ماء يَسْقيه قال زهير‏:‏ ثمِ قال‏:‏ أرى ويقضي اللّه‏.‏
وذكر عمر بن عبد العزيز زِيَاداً فقال‏:‏ سَعي لأهل العِراق سَعْيَ الأم البرّة وجَمع لهم جَمْعَ الذَّرة‏.‏
وقال غيره‏:‏ تَشبَّه زيادٌ بعمرَ فأفرط وتشبه الحجّاج بزياد فأَهلك الناس‏.‏
وقالوا‏:‏ الدُّهاة أربعة‏:‏ معاوية للرويّة وعمرو بن اَلْعاصّ للبَديهة والمُغيرة للمعضلات وزياد لكُل صَغيرة وكبيرة‏.‏
ولما قَدم زيادٌ العراق قال‏:‏ مَن على حَرَسكم قالوا‏:‏ بَلَج‏.‏
قال‏:‏ إنما يُحترس من مثل بَلَج فكيف يكون حَارِساً‏!‏ أخذه الشاعر فقال‏:‏ وحارس من مثله يُحْترس العَتَبَيْ قال‏:‏ كان في مجلس زياد مكتوب‏:‏ الشِّدة في غير عُنف واللّين في غير ضَعف‏.‏
المُحسن يُجازَى بإحسانه وَالْمُسِيء يعاقَب بإساءته‏.‏
الأعطيات في أيامها‏.‏
لا احتجابَ عن طارق لَيْل ولا صاحب ثغر‏.‏
وبَعث زيادٌ إلى رجال من بني تَميم ورجال من بني بَكْر وقال‏:‏ دُلّوني على صُلَحاء كل ناحية ومن يُطاع فيها‏.‏
فدلوه فضمّنهم الطريق وحَدّ لكُل رجل منهم حَدا‏.‏
فكان يقول‏:‏ لو ضاع حَبل بيني وبين خُراسان عرفتُ من أخذ به وكان زياد يقول‏:‏ من سَقَى صبياً خمراً حددناه ومن نَقب بيتاً نَقبناً عن قلبه ومن نَبش قبراً دفّناه حيّاً‏.‏
وكان يقول‏:‏ اثنان لا تُقاتِلوا فيهما‏:‏ الشتاء وبُطون الأودية‏.‏
وأول من جُمعت له العراق زياد ثم ابنُه عبيد الله بن زياد لم تجتمع لقرشيّ قط غيرَهما‏.‏
وعُبيد الله بن زياد أول من جُمع له العراق وسجستان وخراسان والبحران وعُمان وإنما كان البحران وعُمان إلى عُمال أهل الحجاز وهو أول من عرف العُرفاء ودعا النقباء ونَكَبالمناكب وحصل الدواوين ومُشي بين يديه بالعَمد ووَضع الكراسي وعمل المَقصورة ولَبس الزيادي ورَبعَ الأرباع بالكوفة وخمسَ الأخماس بالبصرة وأعطى في يوم واحد للمُقاتلة والذرية من أهل البصرة وأهل الكوفة وبلغ بالمُقاتلة من أهل الكوفة ستّين ألفاً ومقاتلة البصرة ثمانين ألفاً والذرية مائة ألف وعشرين ألفاً‏.‏
وضَبط زياد وابنهُ عُبيد الله العراقَ بأهل العراق‏.‏
قال عبدُ الملك بن مروان لعبَّاد بنِ زياد‏:‏ أين كانت سيرةُ زياد من سيرة الحجاج قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ زياداً قَدِم العراقَ وهي جَمْرة تشتعل فسَلَّ أحقادَهم وداوَى أدواءهم وضَبط أهلَ العراق بأهل العراق‏.‏
وقَدمها الحجاجُ فكسر الخراج وأفسد قلوبَ الناس ولم يَضْبطهم بأهل الشام فضلاً عن أهل العراق ولو رام منهم ما رامَه زياد لم يَفْجأك إلا على قَعود يُوجف به‏.‏
وقال نافعٌ لزِياد‏:‏ استعملتَ أولادَ بَكْرة وتركت أولادي قال‏:‏ إني رأيتُ أولادك كُزْماً قصاراً ورأيت أولاد أبي بكرة نُجباء طوالاً‏.‏
ودخل عبد الله بن عامر على مُعاوية فقال له‏:‏ حتى متى تذهب بخراج العراق فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما تقول هذا لمن هو أبعدُ منِّي رَحماً‏!‏ ثم خرج‏.‏
فدخل على يزيد فاخبره وشكا إليه‏.‏
فقال له‏:‏ لعلك أغضبتَ زياداً قال‏:‏ قد فعلتُ‏.‏
قال‏:‏ فإنه لا يَرضى حتى تُرضي زياداً عنك‏.‏
فانطلق ابنُ عامر فاستأذن على زياد فأذن له وألطفه‏.‏
فقال ابنُ عامر‏:‏ إن شئْت فصُلح بعتاب وإن شئتَ فصُلح بغير عتاب‏.‏
‏"‏ قال زياد‏:‏ بل صُلْحٌ بغيرِ عِتاب ‏"‏ فإنه أسلم للصَّدر‏.‏
ثم راح زيادٌ إلى مُعاوية فأخبره وأصبح ابنُ عامر غادياً على مُعاوية‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ مرحباً بأبي عبد الرحمن ها هنا وأجلسه إلى جَنْبه فقال له‏:‏ يا أبا عبد الرحمن‏:‏ لنا سياق ولكم سياق قد علمتْ ذلكمُ الرفاق الحسن بنُ أبي الحسن قال‏:‏ ثَقُل أبو بكرة فأرسل زياد إليه أنسَ بن مالك ليصالحَه ويُكلّمه فانطلقتُ معه‏.‏
فإذا هو مُول وجهَه إلى الجدار فلما قَعد قال له‏:‏ كيف تجدك أبا بكرة فقال صالحا كيف أنتَ أبا حَمْزة فقال له أنس‏:‏ اتق الله أبا بكرة في زياد أخيك فإنّ الحياة يكون فيها ما يكون فأمّا عند فراق الدُّنيا فلَيستغفر الله أحدُ كما لصاحبه فوالله ما علمتُ إنه لوَصول للرَحم هذا عبدُ الرحمن ابنُك على الأبلة وهذا داود على مدينة الرِّزْق وهذا عبدُ الله على فارس كلها‏.‏
والله ما اعلمه إلا مُجتهداً‏:‏ قال‏:‏ أقعدوني‏.‏
فأقعدوه فقالت‏:‏ أخبرني ما قلتَ في أخر كلامك فأعاد عليه القولَ‏.‏
فقال‏:‏ يا أنس وأهلُ حَروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطئوا والله لا أكلمه أبداً ولا يصلي عليّ‏.‏
فلما رجع أنس إلى زياد أخبره بما قال وقال له‏:‏ إنه قَبيحٌ أن يموت مثْل أبي بكرة بالبَصرة فلا تُصلّي عليه ولا تقوم على قَبره فاركب دوابّك والحق بالكوفة‏.‏
قال‏:‏ ففعل ومات أبو بكرة بالغد عند صلاة الظهر فصلّى عليه أنس بن مالك‏.‏
وقدم شريح على زياد من الكوفة فقضى بالبَصرة وكان زياد يُجلسه إلى جَنبه ويقول له‏:‏ إن حكمتُ بشيء ترى غيرَه أقربَ إلى الحق منه فأعْلمنيه‏.‏
فكان زياد يَحكم فلا يَرُدّ شريحٌ عليه‏.‏
فيقول زيادٌ لشريح‏:‏ ما ترى فيقول‏:‏ هذا الحكم حتى أتاه رجل من الأنصار فقال‏:‏ إ نّي قدمت البَصرة والخطط موجودة فأردت أن أختطّ لي فقال لي بنو عَمي وقد اختطّوا ونزلوا‏:‏ أين تخرُج عنا أقم مَعنا واختطّ عندنا فوسّعوا لي فاتخذت فيهم داراً وتزوّجت ثمّ نزع الشيطان بيننا فقالوا لي‏:‏ اخرُج عنا‏.‏
فقال زياد‏:‏ ليس ذلك لكم مَنعتموه أن يَختط والخِطط موجودة وفي أيديكم فضل فأعطيتموه حتى إذا ضاقت الخُطط أخرجتموه وأردتم الإضرار به لا تخرج من منزلك‏.‏
فقال شريح‏:‏ يا مُستعير القدر ارددها‏.‏
قال زياد‏:‏ يا مستعير القدر أحبسْها ولا تَرْددها‏.‏
فقال محمد بن سيرين‏:‏ القضاء بما قال شُريح وقولُ زياد حَسن‏.‏
وقال زياد‏:‏ ما غَلبني أميرُ المُؤمنين مُعاوية إلا في واحدة طلبتُ رجلاً فلجأ إليه وتحرم به فكتبتُ إليه‏:‏ إن هذا فساد لعَملي إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك فتحرّم بك‏.‏
فكتب إلي‏:‏ إنه لا ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ بسياسة واحدة فيكونَ مَقامُنا مقامَ رجل واحد ولكن تكون أنت للشدة والغِلْطة وأكون أنا للرأفة والرحمة فيستريح الناس فيما بيننا‏.‏
ولما عَزل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياداً عن كتابة أبي موسى قال له‏:‏ أعن عجز أم خِيانة قال له‏:‏ أعن عجز أم خِيانة لا عَن واحدة منهما ولكنّى كرهتُ أن أحمل على العامّة فضلَ عقلك‏.‏
وكتب الحسنُ بن علي رضي الله عنه إلى زياد في رجل من أهل شِيعته عرض له زياد وحال بينه وبين جميع ما يَملكه وكان عنوان كتابه‏:‏ من الحَسن بن عليّ إلى زياد‏.‏
فغضب زيادٌ إذ قَدّم نفسه عليه ولم يَنسبه إلى أبي سفيان فكتب إِليه‏:‏ من زياد بن أبي سُفيان إلى حسن‏:‏ أما بعد فإنكَ كتبتَ إليّ فاسق لا يأويه إلا الفُساق وايم الله لأطلبنّه ولو بين جِلدك ولحمك فإِن احبّ لحمٍ إلىّ أن آكلهُ لحمٌ أنتَ منه‏.‏
فكتب الحسنُ إلى معاوية يشتكي زياداً وادرج كتاب زياد في داخل كتابه‏.‏
فلما قرأه معاوية أكثر التعجُّب من زياد وكتب إِليه‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنّ لك رأيين أحدهُما من أبي سفيان والآخر من سُمية فأما الذي من أبى سفيان فحَزم وعَزم وأما الذي من سمية فكما يكون رأيُ مثلها وإنّ الحسن بن علي كتب إلىّ يذكر أنك عرضْت لرجل من أصحابه وقد حجزناه عنك ونُظراءَه فليس لك على واحد منهم سَبيل ولا عليه حكم‏.‏
وعجبتُ منك حين كتبتَ إلى الحسن لا تَنْسُبه إلى أبيه أفإلى أمه وكلْته لا أم لك وكتب زياد إلى معاوية‏:‏ إنّ عبدَ الله بن عبَّاسُ يُفسد الناسَ عليّ فإن أذنتَ لي أن أتوعّده فعلتُ‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إن أبا الفضل وأبا سُفيان كانا في الجاهلية في مِسْلاخ واحد وذلك حِلْف لا يَحلُّه سوءُ رأيك‏.‏
واستأذن زيادٌ معاويةَ في الحجّ فأذِن له‏.‏
وبَلغ ذلك أبا بكرة فأقبل حتى دخل على زياد وقد أجلسِ له بَنيه فسلم عليهم ولم يُسلّم على زياد‏.‏
ثم قال‏:‏ يا بني أخي إن أباكم رَكب أمراً عظيماً في الإسلام بادعائه إلى أبي سفيان فوالله ما علمتُ سُميةَ بغتْ قط وقد استأذن أميرَ المؤمنين في الحجّ وهو مارٌّ بالمدينة لا محالة وبها أم حَبيبة بنت أبي سفيان زَوجُ النبيّ صلى الله عليه و سلم ولا بُدّ له من الاستئذان عليها فإِن أذنت له فَقَعد منها مَقْعد الأخ من أخته فقد انتهك من رسول الله صلى الله عليه و سلم حرمة عظيمة وإن لم تأذن له فهو عارُ الأبد ثم خرج‏.‏
فقال له زياد‏:‏ جَزاك الله خيراً من أخ فما تَدع النصيحةَ على حال‏.‏
وكتب إلى معاوية يَستقيله فأقاله‏.‏
وكتب زيادٌ إلى مُعاوية‏:‏ إني قد أخذتُ العِراق بيميني وبقيتْ شمالي فارغة وهو يعرّض له بالحجاز‏.‏
فبلغ ذلك عبدَ الله بن عمر رضي الله عنهما فقال‏:‏ اللهم أكفِنا شماله‏.‏
فعرضت له قرحة في شماله فقَتلته‏.‏
ولما بلغ عبدَ الله ابن عمر موتُ زياد قال‏:‏ اذهب إليك ابنَ سُمية لا يداً رفعت من حرام ولا دنيا تملّيت‏.‏
قال زياد لعَجلان حاجبه‏:‏ كيف تأذن للناس قال‏:‏ على البيوتات ثم على الأنساب ثم على‏.‏
الآداب‏.‏
قال‏:‏ فمن تُؤخِّر قال‏:‏ من لا يَعبأ الله بهم‏.‏
قال‏:‏ ومن هم قال‏:‏ الذين يَلبسون كُسوة الشتاء في الصيف‏!‏ وكسوة الصيف في الشتاء‏.‏
وقال زياد لحاجبه‏:‏ ولّيتك حِجابتي وعَزَلْتك عن أربع‏:‏ هذا المُنادي إلى الله في الصلاح والفلاح لا تَعُوجنّه عنّى ولا سُلطان لك عليه وطارق الليل لا تَحْجبه فشرُّ ما جاء به ولو كان خيراً ما جاء في تلك الساعة ورسول صاحب الثغر فإنه إن أبطأ ساعةً أفسد عملَ سنة وصاحب الطعام فإنّ الطعام إذا أعيد تَسْخينه فَسد‏.‏
وقال عَجلان حاجبُ زياد‏:‏ صار لي في يوم واحد مائةُ ألف دينار وألف سيف‏.‏
قيل له‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ أعطىِ زيادٌ ألفَ رجل مائتى ألف دينار وسيفاً فأعطاني كل رجل منهم نصفَ عطائه وسيفه‏.‏
أخبار الحجاجِ دخل المُغيرة بن شُعبة على زوجته فارعة فوجدها تتخلِّل حين انفلتت من صلاة الغداة فقال لها‏:‏ إن كنتِ تتخللين من طَعام البارحة فإنك لقذرة وإن كان من طَعام اليوم إنك لنَهمة كنتِ فبِنْت‏.‏
قالت‏:‏ والله ما فَرحنا إذ كنّا ولا أَسِفنا إذ بِنّا وما هو بشيء مما ظننتَ ولكنّى استكت فأردت أن أتخلّل للسواك‏.‏
فندم المغيرة على ما بَدر منه فخرج أسفاً فلقي يوسف بن أبي عَقيل فقال له‏:‏ هل لك إلى شيء أدعوك إليه قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ إني نزلتُ الساعةَ عن سيِّدة نساء ثَقيف فتزوّجها فإنها تُنجب لك فتزوّجها فولدتْ له الحجاج‏.‏
ومما رواه عبدُ الله بن مُسلم بن قُتيبة قال‏:‏ إنّ الحجَّاج بن يوسف كان يُعلّم الصِّبيان بالطائف واسمه كُليب وأبوه يوسف معلّم أيضاً‏.‏
وفي ذلك يقول مالك بن الرَّيب‏:‏ فماذا عسى الحجَّاجُ يَبلغ جُهده إذا نحن جاوزنا حفيرَ زيادٍ فلولا بنو مَروان كان ابنُ يوسف كما كان عبداً من عَبيد إياد زمانَ هو العَبد المُقرّ بذُلّة يروح صبيانَ القُرى ويُغادي ثم لحق الحجاجُ بن يوسف برَوْح بن زِنباع وزير عبد الملك بن مَروان فكان في عديد شُرطته إلى أن شكا عبدُ الملك بن مروان ما رأى من انحلال عسكره وأنّ الناسَ لا يَرحلون برَحيله ولا ينزلون بنزوله‏.‏
فقال رَوْح بن زنْباع‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ في شُرطتي رجلاً لو قلّده أميرُ المؤمنين أمر عَسكره لأرحلهم برَحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجّاج بن يوسف‏.‏
قال‏:‏ فإِنّا قد قَلدناه ذلك‏.‏
فكان لا يقدر أحدٌ أن يتخلّف عن الرّحيل والنزول إلا أعوانَ رَوْح بن زنباع‏.‏
فوقف عليهم يوماً وقد رحل الناسُ وهم على طَعام يأكلون فقال لهم‏:‏ ما مَنعكم أن تَرْحلوا برحيل أمير المؤمنين فقالوا له‏:‏ انزل يا بن اللّخناء فكُلْ معنا‏.‏
فقال‏:‏ هيهات‏!‏ ذهب ما هنالك‏.‏
ثم أمر بهم فجُلدوا بالسّياط وطوفهم في العسكر‏.‏
وأمر بفَساطيط رَوْح بن زنباع فأحرقت بالنار‏.‏
فدخل روحُ بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكياً‏.‏
فقال له‏:‏ مالك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الحجّاج بن يوسف الذي كان في عديد شُرطتي ضَرب عَبيدي وأحرق فَساطيطي‏.‏
قال‏:‏ عليّ به‏.‏
فلما دخل عليه قال‏:‏ ما حملك على ما فعلتَ قال‏:‏ ما أنا فعلتُه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ومَن فعله قال‏:‏ أنت والله فعلته إنما يدي يدُك وسَوطي سوطُك وما على أمير المؤمنين أن يُخْلف على رَوْح بن زنباع للفُسطاط فُسطاطين وللغُلام غلامين ولا يَكْسرني فيما قَدّمني له‏.‏
فأخْلف لرَوْح بن زنْباع ما ذَهب له وتقدّم الحجاجُ في منزلته‏.‏
وكان ذلك أولَ ما عرف من كفايته‏.‏
قال أبو الحسن المدائني‏:‏ كانت أم الحجاج الفارعة بنت هبّار قال‏:‏ وكان الحجّاج بن يوسف يَضع في كُل يوم ألف خِوان في رمضان وفي سائر الأيام خَمسَمائة خوان على كل خِوان عشرةَ أنفس وعشرة ألوان وسَمكة مَشويّة طريّة وأرزة بسكر وكان يُحمل في مِحفّة ويُدار به على موائده يتفقّدها فإِذا رأى أرزة ليس عليها سُكر وسعى الخباز ليجيء بسُكرها فأبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سُكر أمر به فضرُب مائتي سوط‏.‏
فكانوا بعد ذلك لا يَمشون إلا متأبطي خرائط السكر‏.‏
قال‏:‏ وكان يوسف بن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يَضع خمسمائة خِوان فكان طعام الحجّاج لأهل الشام خاصّة وطعام يُوسف بن عمر لمن حضره فكان عند الناس أحمد‏.‏
العُتبيّ قال‏:‏ دخل على الحجّاج سُليك بن سُلَكة فقال‏:‏ أصلح الله الأمير أعِرْني سمعك واغضُض عنّي بصرك واكفُف عني غَربك فإِن سمعتَ خطأ أو زللا فدونَك والعُقوبة‏.‏
فقال‏:‏ قُل فقال‏:‏ عَصى عاصٍ من عُرض العَشيرة فحُلّق على اسمي وهُدمت داري وحُرمت عطائي‏.‏
قال‏:‏ هيهات‏!‏ أما سمعت قول الشاعر‏:‏ جانيك من يَجني عليك وقد تَعدِي الصحاحَ مباركُ الجُربِ ولربّ مأخوذٍ بذنبِ عشيرةٍ ونَجا المُقارف صاحبُ الذنب قال‏:‏ أصلح الله الأمير فإِني سمعت الله قال غير هذا‏.‏
قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .‏
قال معاذ الله أن نأخُذ إلا مَنْ وجدْنا مَتاعَنا عِنده إنّا إذاً لظالمون ‏"‏‏.‏
فقال الحجاج‏:‏ عليّ بزيد بن أبي مُسلم فأتي به فمثَل بين يديه فقال‏:‏ افكُك لهذا عن اسمه واصكك له بعطائه وابنِ له منزلَه ومُر مُناديا ينادِ في الناس‏:‏ صَدَق الله وكَذب الشاعر‏.‏
أُتي الحجاجُ بامرأة عبد الرحمن بن الأشعث بعد دَير الجماجم فقال لَحرْسى‏:‏ قُل لها‏:‏ يا عدوة اللّه أين مالُ الله الذي جَعلته تحت ذَيلك فقال‏:‏ يا عدوة اللّه أين مالُ الله الذي جعلته تحت استك فقال له‏:‏ كذبتَ ما هكذا قلتُ أرسلها فخلى عنها‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ ماتت رُفقة عَطَشاً بالشجِي - والشَّجِي‏:‏ رَبو من الأرض في بطنَ فلج - فَشَجِيَ به الوادي فسُمِّى شج - فقال الحجاج‏:‏ إني أراهم قد تضرَّعوا إذا نَزل بهم الموت فاحفروا في مكانهم فحفروا‏.‏
فأمر الحجّاج رجلا يقال له عضيدة يحفر البئر فلما أنبطها حمل منها قِربتين إلى الحجاج بأواسط فلما قدم بهما عليه‏.‏
قال‏:‏ يا عديدة لقد تجاوزت مياهاً عذاباً أخسف أم أشلت لا واحدَ منهما ولكنْ نَبَطا بين الماءين‏.‏
قال‏:‏ وكيف يكون قَدره قال‏:‏ مرّت بنا رًفقة فيها خمسة وعشرون جملاً فَرويت الإبل وأهلها‏.‏
قال‏:‏ أو لِلإبل حَفرتها إنما حفرتَها للناس‏!‏ إن الإبل ضُمْر خُسْف ما جُشّمت تجشّمتْ‏.‏
بعث عبدُ الملك بن مَروان الحجَّاج بن يوسف والياً على العراق وأَمره أن يَحْشر الناسَ إلى المهلَّب في حَرب الأزارقة‏.‏
فلما أتى الكُوفة صَعِد المِنبَر مُتلثّماً متنكِّبا قوسَه فجلس واضعاً إِبهامه على فيه‏.‏
فنظر محمدُ بن عُمير بن عُطارد التميمي فقال‏:‏ لَعن الله هذا ولَعن مَن أرسله إلينا‏!‏ أرسل غلاماً لا يستطيع أن يَنطق عِيَّاً‏!‏ وأخذ حصاةً بيده لِيَحْصبه بها‏.‏
فقال له جليسُه‏:‏ لا تَعجل حتى ننظر ما يَصنع فقام الحجاج فكشف لِثامَه عن وجهه وقال‏:‏ أنا ابنُ جلاَ وطَلاَّع الثَنايا متى أضع العِمامةَ تَعْرفوني صليبُ العُود مِن سَلَفْي نِزار كنَصل السيفِ وضّاح الجَبَين أخو خَمْسين مجتمعٌ أشدِّي ونَجَّذني مداورة الشؤون أما والله إني لأحملُ الشرَّ بثِقْله وأحذوه بنَعله وأجزيه بمثله أما والله إني لأرى رؤسا قد أَينعت وحان قِطافها وكأني أرى الدماء تبق العمائم واللِّحى لترقرق هذا أوانً الشدِّ فاشتدّي زيمْ قد لفّها الليلُ بسواق حُطَمْ ليس براعي إبلٍ ولا غَنم ولا بجزَار على ظَهر وَصَمْ ألا إنّ أميرَ المؤمنين عبدَ الملك بن مروان كَبَّ كنانته فعجَم عيدانَها فوجدني أصلبهاعوداً‏.‏
فوجّهني إليكم فإنكم طالما سَعيتم في الضَّلالة وسَننتم سُنن البَغي‏.‏
أما والله لألحونَّكم لحوَ العصا ولأعصَبنّكم عصْب السِّلمة ولأقرعنَّكم قَرْع المَرْوة ولأضربنَّكم ضَرْب غَرائب الإبل‏.‏
والله ما أخْلُق إلا فَريت ولا أعد إلا وفّيت‏.‏
إني واللّه لا أغمز تَغمازَ التّين ولا يُقعقع لي بالشِّنان‏.‏
إياي وهذه الزرافات والجماعات وقيل وقال وما يقول وفيم أنتم ونحو هذا‏.‏
من وجدتُه بعد ثالثة من بعث المُهلَّب ضربت عنقه‏.‏
ثم قال‏:‏ يا غلام اقرأ عليهم كتابَ أمير المؤمنين فقرأ عليهم‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عبد الملك بن مروان إلى مَن بالكوفة من المسلمين‏.‏
سلامٌ عليكم‏.‏
فلم يقُل أحد شيئاً‏.‏
فقال الحجاج‏:‏ اسكت يا غلام هذا أدب ابن نِهّية والله لأؤدّبنهم غير هذا الأدب أو ليستقيمُنّ‏.‏
اقرأ يا غلام كتابَ أمير المؤمنين‏.‏
فلما بلغ قولَه‏:‏ سلام عليكم لم يبقَ أحد في المسجد إلا قال‏:‏ وعلى أمير المؤمنين السلام‏.‏
ثم نزل فأتاه عُمير بن ضابيء فقال‏:‏ أيها الأمير إنّي شيخ كبير عليل وهذا ابني أقوَى على الغَزْو منّي‏.‏
قال‏:‏ أجيزُوا ابنَه عنه فإن الحدَثَُ أحبُّ إلينا من الشيخِ‏.‏
فلما وَلّى الرجلً قال له عنبسةُ بن سَعيد‏.‏
أيها الأمير هذا الذي رَكض عثمان برجله وهو مَقتول‏.‏
فقال‏:‏ رُدُّوا الشيخ فردُّوه فقال‏:‏ أضربوا عُنقه‏.‏
فقال فيه الشاعر‏.‏
تجهَّزْ فإمّا أن تزور ابنَ ضابىء عُمَيراً وإمّا أن تَزور المهلَّبَا هما خُطَّتا خَسْفٍ نجاؤك منهما ركوبُك حَوْليا من الثَّلْج أَشهبا أريده دائم العُبوس طويلَ الجلوس سمينَ الأمانة أعجفَ الخِيانة لا يَحْنق في الحق على حُرّ أو حُرة يَهون عليه سؤال الأشراف في الشَفاعة‏.‏
فقيل له‏:‏ عليك بعبد الرحمن بن عُبيد التّميمي‏.‏
فأرسل إليه فاستعمله‏:‏ فقال له‏:‏ لستُ أقبلها إلا أن تكفيَنِي عمالَك وولدَك وحاشيَتك‏.‏
فقال الحجاج‏:‏ يا غلام نادِ‏:‏ مَن طَلب إليه منهم حاجةَ فقد برئتْ الذمةُ منه‏.‏
قال الشعبيُّ‏:‏ فوالله ما رأيتُ قطُّ صاحب شرطة مثلَه كان لا يَحبس إلا في دَيْن وكان إذا أتي برجل نَقب على قوم وَضع مِنْقبته في بَطنه حتى تَخرج من ظهره وكان إذا أُتي برِجل نَبّاش حَفر له قبراً ودَفنه فيه حيّاً وإذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شَهر سلاحاً قَطع يَده فربما أقام أربعين يوماً لا يُؤتى إليه بأحد‏.‏
فضمّ الحجاجُ إليه شرُطة البَصرة معِ شرُطة الكوفة‏.‏
ولما قَدِم عبد الملك بنُ مروان المدينة نزل دارَ مروان فمرّ الحجّاجُ بخالد ابنِ يزيد بن معاوية وهو جالس في المسجد وعلى الحجّاج سيف محلَّى وهو يَخطِر مُتبختراً‏.‏
في المسجد‏.‏
فقال رجل من قُريش لخالد‏:‏ من هذا التّختارة فقال بخ بخ‏!‏ هذا عمرُو بن العاص‏!‏ فسمعه الحجاجُ فمال إليه فقال‏:‏ قلتَ‏:‏ هذا عمرو بن العاص‏!‏ والله ما سرّني أن العاص وَلدني ولا ولدتُه ولكن إن شئتَ أخبرتُك من أنا‏:‏ أنا ابنُ الأشياخ من ثَقيف والعقائل من قُريش والذي ضَرب مائة بسيفه هذا كلهم يَشهدون على أبيك بالكفر وشُرب الخمر حتى أقرُّوا أنه خليفة‏.‏
ثم ولّى وهو الأصمعي قال‏:‏ بعث الحجاجُ إلى يحيى بن يَعْمرً فقال له‏:‏ أنت الذي تقول إنّ الحسنَ بن على ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتأتينّي بالمخرج أو لأضربنّ عُنقك‏.‏
فقالت له‏:‏ فإن أتيت بالمخرِج فأنا آمن قال‏:‏ نعم‏.‏
قال له‏:‏ اقرأ‏:‏ ‏"‏ وتلْك حُجتنا آتيناها إبراهيمَ على قَوْمه نرْفع درجاتٍ مَن نَشاء ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ ومِن ذُرّيته داودَ وسُليمانَ وأيوبَ ويُوسفَ ومُوسى وهاَرون وكذلك نَجْزي المُحْسنين‏.‏
وزَكريّا ويَحيى وعِيسى ‏"‏ فمن أقربُ‏:‏ عيسى إلى إبراهيم وإنما هو ابنه بنته أو الحسن إلى محمد قال الحجاج‏:‏ فوالله لكأني ما قرأتُ هذه الآية قط وولاّه قضاءَ بلد‏.‏
فلم يزل بها قاضياً حتىِ مات‏.‏
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ كان عبدُ الملك بنُ مَروان سِنان قُريش وسيفَها رأياً وحزماً وعابدَها قبل أن يُستخلفَ ورعاً وزُهداً فجلس يوماً في خاصّته فقَبض على لِحيته فشمَّها مليا ثم اجتر نَفسَه ونَفخ نفخةً أطالها ثم نَظر وُجوه القوم فقال‏:‏ ما أطول يومَ المسألة عن ابن أمِ الحجّاج وأدحضَ المحتجّ على العليم بما طَوته الحُجب‏.‏
أما إنّ تَمليكي له قرَن بي لوعةً يَحشّها التّذكار‏.‏
كيف وقد علمتُ فتعاميتُ وسمعتُ فتصاممت وحَمله الكرامُ الكاتبون‏.‏
والله لكأني إلفُ ذي الضِّغن على نَفْسي وقد نَعتِ الأيامُ بتصرّفها أنفساً حُق لها الوعيد بتصرّم الدُّول‏.‏
وما أبقت الشًّبهة للباقي متعلَقاً وما هو إلا الغِلّ الكامن من النَّفس بحَوْبائها والغَيْظ المُندمل‏.‏
اللهم أنت لي أوسع غيرَ مُنتصر ولا مُعتذر‏.‏
يا كاتب بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عبد الله عبد الملك بن مَروان إلى الحجَّاج بن يوسف‏:‏ أما بعد‏.‏
فقد أصبحتُ بأمرك بَرِماً يُقعدني الإشفاقُ ويُقيمني الرجاء وإذا عجزتُ في دار السعة وتوسًّط الملك وحين المَهل واجتماع الفكر أن ألتمسالعُذرَ في أمرك فأنا لعمرُ اللهّ في دار الجَزاء وعَدَم السلطان واشتغال الحامّة والرُّكون إلى الذِّلة من نفسي والتوقّع لما طُويت عليْة الصحفُ أعجز‏.‏
وقد كنتُ أشركتُك فيما طوقني الله عزَ وجل حملَه ولاثَ بحَقْويّ من أمانته في هذا الخلق المَرْعيّ فدُللتُ منك على الحزم والجِدّ في إماتة بِدعَة وإنعاش سُنّة فقعدتَ عن تلك ونهضتَ بما عاندَها حتى صِرْت حُجة الغائب والشاهدِ القائم وعُذّر اللاعنِ‏.‏
فلعن الله أبا عَقيل وما نَجل فالأم والد وأخبث نَسل‏.‏
فَلعمري ما ظَلمكم الزِّمان ولا قَعدت بكم المراتب‏.‏
لقد ألْبسْتكم مَلبسكم وأقعدتكم على رَوابي خططكم وأحلّتكم أعلى مَنَعتكم فمن حافر وناقل وماتِح للقُلُب المُقْعَدة في الفيافي المتفيهقة ما تقدَّم فيكم الإسلام ولقد تأخّرتم وما الطائف منّا ببعيد يُجهل أهلهُ‏.‏
ثم قمتَ بنفسك وطمحتَ بهمَتك‏.‏
وسرّك انتضاءُ سَيفك فاستخرجك أميرُ المؤمنين من أعوان رَوْح ابن زِنباع وشُرطته وأنت على معاونته يومئذ مَحسود فهفا أميرُ المؤمنين والله يُصبح بالتوبة والغفران زلّته وكأني بك وكأنَ ما لو لم يكن لكان خيراً مما كان‏.‏
كل ذلك مِن تجاسرك وتَحاملك على المُخالفة لرأي أمير المؤمنين‏.‏
فصدعْتَ صفاتَنا وهَتكت حُجبنا وبَسطت يديك تحقِن بهما من كرائم ذوي الحقوق اللازمة والأرحام الواشجة في أوعية ثَقيف‏.‏
فاستغفر الله لذَنْب ما له عُذر‏.‏
فلئن استقال أميرُ المؤمنين فيك الرأيَ فقلد جالت البصيرةُ في ثَقيف بصالح النبيّ صلى الله عليه و سلم إذ ائتمنه على الصدقات وكان عبدَه فهرب بها عنه وما هو إلا اختبار الثّقة والتلطًّف لمواضع الكفاية فقعد به الرجاءُ كما قَعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له‏.‏
فكأنّ هذا أَلبس أميرَ المؤمنين ثوبَ العزاء ونهض بعُذره إلى استنشاق نَسيم الرّوْح‏.‏
فاعتزِلْ عمل أمير المُؤمنين واظعن عنه باللَّعنة اللازمة والعُقوبة الناهكة إن شاء اللّه إذ استحكم لأمير المُؤمنين ما يُحاول من رَأيه والسلام‏.‏
ودعا عبدُ الملك مولى يقال له نُباتة له لسان وفَضْل رأي فناوله الكتابَ ثم قال له‏:‏ يا نُباتة العَجلَ ثم العجلَ حتى تأتَي العراق فضَع هذا الكتاب في يد الحجاج وترقّب ما يكون منه فإن اجبَل عند قراءته واستيعاب ما فيه فاقْلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به وهَدِّن الناسَ حتى يأتيهم أمري بما تَصفني به في حين انقلاعك من حُبِّي لهم السلامة‏.‏
وإن هَشَّ للجواب ولم تَكْتنفه أربة الحَيرة فخُذ منه ما يُجيب به وأفْرِزه على عمله ثم اعجَل عليّ بجوابه‏.‏
قال نُباتة‏:‏ فخرجتُ قاصداً إلى العراق فضمّتني الصّحارى والفيافي واحتواني القُرّ وأخذ مِنّي السفرُ حتى وصلتُ‏.‏
فلما وردتُه أدخلت عليه في يوم ما يَحْضُره فيه المَلأ وعليّ شحوبُ مُضْنَى وقد توسّط خدمَه من نواحي وتدثّر بِمطْرَف خَزّ أدكن ولاثَ به الناسُ من بني قائمٍ وقاعد‏.‏
فلما نظر إليَّ وكان لي عارفاً قعد ثم تبسّم تبسّم الوَجِل ثم قال‏:‏ أهلاً بك يا نُباتة أهلا بمولى أمير المُؤمنين لقد أثرّ فيك سفرُك وأعرف أميرَ المؤمنين بك ضنيناً فليتَ شعرِي ما دَهِمَك أو دَهِمَني عنده‏.‏
قال‏:‏ فسلّمتُ وقعدتً‏.‏
فسأل‏:‏ ما حالُ أميرِ المُؤمنين وخوَله فلما هَدأ أخرجت له الكتاب فناولتُه إياه‏.‏
فأخذه منّي مُسرعاً ويدُه تُرْعَد ثم نظر في وُجوه الناس فما شعرتُ إلا وأنا معه ليس معنا ثالث وصار كُلُّ من يُطيف به من خَدمه تَلْقاه جانباً لا يسمعون منّا الصوت‏.‏
ففكّ الكتابَ فقرأه وجعلَ يتثاءب وُيردد تثاؤبه ويسير العرقُ على جَبينه وصُدْغيه على شدّة البرد من تحت قَلَنْسوته من شدّة الفَرق وعلى رأسه عِمامةُ خزّ خضراء وجعل يَشخص إليّ ببصر ساعةً كالمتوهِّم ثم يعود إلى قراءة الكتابَ ويُلاحظني النظرِ كالمُتفهم إلا أنه واجم ثم يعاود الكتابَ وإنّي لأقول‏:‏ ما أراه يُثبت حروفه من شدّة اضطراب يده حتى استقصى قراءته‏.‏
ثم مالت يدُه حتى وقع الكتابُ على الفراش ورَجع إليه ذهنُه فمسح العرق عن جَبينه ثم قال متمثّلا‏:‏ وإذا المنيَّةُ أنشبت أظفارَها ألفيتَ كُلّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ ثم قال‏:‏ قَبُح والله منّا الحسنُ يا نُباتة وتَواكلتنا عند أمير المؤمنين الألسن‏.‏
وما هذا إلا سانح فكْرة نَمَّقها مُرصِد يَكْلَب بقِصَّتنا مع حُسن رأي أمير المؤمنين فينا‏.‏
يا غلام‏.‏
فتبادر الغِلمان الصَّيحةَ فملئ علينا منهم المجلس حتى دَفأتني منهم الأنفاس‏.‏
قال‏:‏ الدّواةَ والقرطاس‏.‏
فأتي بالدواة والقرطاس فكتب بيده‏:‏ وما رَفع القلم إلا مُستمدّاً حتى سَطَّر مثل خدِّ الفرس‏.‏
فلما فَرغِ قال لي‏:‏ يا نُباتة هل علمتَ ما جئت به فنُسمعك ما كتبنا فقلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ إذا حَسْبك منَّا مثلُه‏.‏
ثم ناولني الجوابَ وأمر لي بجائزة فأجزل وجَرد لي كِساء ودَعا لي بطَعام فأكَلتُ ثم قال نَكِلك إلى ما أمرت به من عَجلة أو تَوانٍ وإنّي لأحب مُقارنتك والأنس برُؤيتك‏.‏
فقلتُ‏:‏ كان معي قُفْلٌ مفتاحُه عندك وفمتاح قُفلك عندي فأُحدثت لك العافية بأمرين‏:‏ فأقفلتَ المَكروه وفتحت العافية وما ساءني ذلك وما أحب أن أزيدك بياناً وحسبُك من استعجالي القيام‏.‏
ثمٍ نهضتُ وقام مُودِّعاً لي فالتزمني وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي رُبّ لَفظة مَسْموعة ومحتقر نافعِ فكُن كما أظُن‏.‏
فخرجتُ مُستقبلاً وَجهي حتى وردتُ أميرَ المؤمنين فوجدتُه مُنصرفاً من صلاة العصر فلما رآني قال‏:‏ ما احتواك المضجَع يا نُباتة‏!‏ قفلتُ‏:‏ مَن خاف من وجه الصَّباح أدْلج فسلّمت وانتبذتُ عنه‏.‏
فتركني حتى سَكن جأشي ثم قال‏:‏ مَهْيم فدفعتُ إليه الكتاب فقرأه مُتبسّماً فلمّا مَضى فيه ضَحك حتى بدت له سِنٌّ سوداء ثم استقصاه فانصرف إليّ فقال‏:‏ كيف رأيتَ إشفاقَه قال‏:‏ فقصصتُ عليه ما رأيتُ منه فقال‏:‏ صلواتُ الله على الصادق الأمين ‏"‏ إنّ من البيان لسحراً ‏"‏ ثم قَذف الكتاب إليّ فقال‏:‏ اقرأ فقرأتُه فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة ربِّ العالمين المُؤيَّد بالولاية المَعصوم من خَطل القول وزَلل الفعل بكفالة الله الواجبة لذَوي أَمره من عَبدٍ اكتنفته الذِّلة ومَدَّ به الصَّغار إلى وَخيم المَرْتع ووَبيل المكْرع من جليلٍ فادح ومُعتدٍ قادحٍ‏.‏
والسلام عليك ورحمةُ اللّه التي اتسعت فَوسعت وكان بها إلى أهل التَّقوى عائدا فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو راجياً لعَطفك بعَطفه أما بعد‏.‏
كان الله لك بالدَّعة في دار الزَوال والأمن في دار الزِّلزال‏.‏
فإنه من عُنيت به فكرتُك يا أمير المؤمنين مَخْصوصاً فما هو إلا سَعيد يُوثر أو شَقيٌّ يُوتر وقد حَجَبني عن نواظر السعد لسانُ مرصِد ونافسٌ حَقِد انتهز به الشيطانُ حين الفكرة فافتتح به أبوابَ الوَساوس بما تَحْنق به الصُّدور‏.‏
فواغوثاه استعاذة بأمير المؤمنين من رَجيم إنما سلطانُه على الذين يتولّونه واعتِصاماً بالتَّوكّل على من خَصَّه بماَ أجزل له من قَسْم الإيمان وصادق السنة‏.‏
فقد أراد اللَعين أن يَفْتُق لأوليائه فَتْقاً نَبا عنه كيدُه وكثر عليه تحسَّرْه بَليِّة قَرع بها فكرَ أمير المؤمنين مُلبساً وكادحاً ومُؤرشاً ليُفل من عزمه الذي نَصبني له ويُصيب ثأراً لم يَزل به موتوراً‏.‏
وذَكر قديمَ ما مُني به الأوائل وكيف لحقتُ بمثله منهم وما كُنت أبلوه من خِسَّة أقدار ومُزاولة أعمال إلى أن وصلتُ ذلك بالتشرُط لرَوح بن زِنباع‏.‏
وقد علم أمير المؤمنين بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضي بأنّ الذي عُيِّر به القوم من مَصانعهم من أشدِّ ما كان يُزاوله أهلُ القُدْمة الذين اجتبى الله منهم وقد اعتصموا وامتَعضوا من ذكر ما كان وارْتفعوا بما يكون وما جَهل أميرُ المؤمنين - وللبيان موقعُه غيرَ مُحتج ولا متعد - أنّ متابعةَ رَوح بن زِنباع طريقُ الوسيلة لمن أراد مَن فوقه وأنّ رَوْحاً لم يُلْبسْني العزمَ الذي به رَفعني أميرُ المؤمنين عن خَوله وقد ألصقتْني برَوْح بن زِنباع هِمَّةٌ لم تزل نواظرُها تَرْمي بي البعيدَ وتُطالع الأعلام‏.‏
وقد أخذتُ من أمير المؤمنين نصيباً اقْتسمه الإشفاقُ من سَخطته والمُواظبة على مُوافقته فما بقي لنا في مثله بعده إلا صُبابة إرث به تَجول النفس وتَطْرِف النواظر‏.‏
ولقد سِرْتُ بعين أمير المؤمنين سيرَ المَثبِّط لمن يَتلوه المُتطاول لمن تقدّمه غيرَ مبتٍّ مُوجِف ولا مُتثاقل مُجْحِف ففتُّ الطالبَ ولحقت الهارب حتى سادت السنة وبادت البدعة وخسئ الشيطان وحُملت الأديان إلى الجادّة العُظمى‏.‏
والطريقة المُثلى‏.‏
فهأنذ يا أميرَ المؤمنين‏:‏ نُصْبَ المسألة لمن رَامني وقد عقدت الحَبْوة وقَرنت الوَظِيفين لقائل مُحتَج أو لائمٍ مُلْتجّ‏.‏
وأميرُ المؤمنين وليُ المظلوم ومَعْقل الخائف‏.‏
وستُظهر له المِحنةً نبأ امرى ولكُل نبأ مستقر‏.‏
وما حَفَنت يا أميرَ المؤمنين في أوعية ثَقيف حتى رَوي الظمآن وبَطِن الغَرثان وغَصَت الأوعية وانقدَت الأوكية في آل مَروان فأخذت فضلاً صار لها لولاهم للقطتْه السابلة‏.‏
ولقد كان ما أنكره أميرُ المؤمنين من تحاملي وكان ما لو لم يكن لعظُم الخطبُ فوق ما كان وإنَّ أميرَ المؤمنين لرابعُ أربعة أحدُهم ابنة شُعيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ رَمت بالظن غرضَ اليقين تفرُّساً في النجيّ المُصطفى بالرسالة فحقَّ لها في الرجاء وزالت شُبهة الشكّ بالاختبار وقبلَها العزيزُ في يوسف ثم الصدِّيق في الفاروق رحمةُ الله عليهما وأميرُ المؤمنين في الحجَّاج‏.‏
وما حَسد الشيطانُ يا أمير المؤمنين خاملاً ولا شَرق بغير شَجى‏.‏
فكم غيظة يا أمير المؤمنين‏.‏
للرجيم أدبر منها وله عواء وقد قلّت حيلتُه‏.‏
ووَهن كيْدُه يوم كيْت وكيت ولا أظنّ اذكرَ لها من أمير المؤمنين‏.‏
ولقد سمعتُ لأمير المؤمنين في صالحٍ صلواتُ الله عليه وفي ثَقيف مقالاً هَجم بي الرجاءُ لعدله عليه بالحُجَّة في ردّه بمُحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتَم النبيّين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن الله عز وجلّ وحكاية عن الملأ من قُريش عند الاختيار والافتخار وقد نَفخ الشيطان في مناخرهم فلم يَدَعوا خلف ما قصدوا إليه مرمى‏.‏
فقالوا‏:‏ ‏"‏ لولا نزل هذا القُرآنُ على رجُل من القَرْيَتين عَظِيم ‏"‏‏.‏
فوقع اختيارهم عند المُباهاة بنَفْخة الكُفر وكِثر الجاهلية على الوليد بن المغيرة المخزومي وأبي مَسْعود الثَّقفي فصارا فيا الإفْتخار بهما صِنْوين ما أنكر اجتماعَهما من الأمة مُنكر في خبر القرآن ومبلِّغ الوحي‏.‏
وإن كان ليُقال للوليد في الأمة يومئذ رَيْحانة قُريش وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرَّحمة الشاملة في القَسم السابق فقال عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ أهم يَقسمون رَحْمة ربك نحن قَسَمْنا بينهم مَعيشَتَهم في الحَياة الدُّنيا ‏"‏‏.‏
وما قدَّمتْني يا أميرَ المؤمنين ثقيفُ في الاحْتجاج لها وإنّ لها مقالاً رحباً ومُعاندة قديمة إلا أنّ هذا من أيسر ما يَحتجّ به العبدُ المُشفق على سيِّده المُغضب والأمر إلى أمير المؤمنين عَزل أم أقرّ وكلاهما عَدْل مُتَّبع‏.‏
وصواب معتفد‏.‏
والسلام عليك يا أميرَ المؤمنين ورحمة اللّه‏.‏
قال نُباتة‏:‏ فأتيتُ على الكتاب بمَحضر أمير المؤمنين عبد الملك فلما استوعبتُه سارقتُه النظَر على الهيبَة منه فصادف لَحظي لَحظه فقال‏:‏ اقطعه ولا تُعلمنَّ بما كان أحداً فلما مات‏.‏
عبدُ الملك فشا عنّي الخبر بعد موته‏.‏
محمد بن المُنتشر بن الأجدع الهَمداني قال‏:‏ دَفع إليَّ الحجاج رجلاً ذِمِّيا وأَمرني بالتَّشديد عليه والإستخراج منه فلمِا انطلقتُ به قال لي‏:‏ يا محمد إنّ لك لشَرَفاً ودِيناً وإن لا أعطي على القَسر شيئاً فاستَأْذِني وارفُق بي‏.‏
فقال‏:‏ ففعلتُ فأدى إليّ في أسبوع خَمسمائة ألف‏.‏
فبلغ ذلك الحجَّاجَ فأَغضبه فانتزعه منِ يدي ودَفعه إلى الذي كان يتولّى له العذاب فدقّ يديه ورجليه ولم يُعطهم شيئاً قال محمد بن المنتشر‏:‏ فإني لسائرٌ يوماً في السوق إذا صائح بي يا محمد فالتفتُّ فإذا أنا به مُعرّضاً على حمار مَدقوقَ اليدين والرِّجلين‏.‏
فخفت الحجاجِ إن أتيتُه وتذمَّمتُ منه فملتُ إليه فقال لي‏:‏ إنك وَليتَ منّي ما ولي هؤلاء فرفقتَ بي وأحسنتَ إليَّ وإنهم صنعوا ما ترى ولم أعطهم شيئاً ولي خُمسمائة ألف عند فلان فخُذها مكافأة لما أحسنتَ إليّ‏.‏
فقلت‏:‏ ما كنْتُ لآخذ منك على معروفي أجراً ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً‏.‏
قال‏:‏ فأمّا إذا نبت فاسْمع منِّي حديثاً أحدِّثك به حدَّثنيه بعض أهل دينك عن نبيِّك صلى الله عله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا رضي الله عن قوم أَنزل عليهم المطر في وَقته وجعل المالَ في سُمحائهم واستْعمل عليهم خِيارهم وإذا سَخط على قوم أنزل عليهم المطر في غير وَقته وجعل المال في بُخلائهم واسْتعمل عليهم شرارهم ‏"‏‏.‏
فانصرفتُ فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسولُ الحجَّاج‏.‏
فسرتُ إليه فألفيتُه جالساً على فراشه والسيفُ مُصَلت بيده‏.‏
فقال لي‏:‏ ادْنُ فدنوْتُ شيئاً‏.‏
ثم قال لي‏:‏ ادن فدنوتُ شيئاً‏.‏
ثم قال لي الثالثة‏:‏ ادْنُ لا أبَالك‏!‏ فقلتُ‏:‏ ما بي إلى الدنوَ من حاجة وفي يد الأمير ما أَرى‏.‏
فضحك وأغمد سيفَه وقال‏:‏ اجْلس ما كان من حديث الخبيث فقلت له أيها الأمير والله ما غششتُك منذ اسْتنْصحتَني ولا كذبتُك منذ اسْتَخبرتني ولا خُنتك منذ ائتمنتني ثم حدَثته‏.‏
فلما صرتُ إلى ذكر الرجل الذي المالُ عنده اعرض عنّي بوجهه وأومأ إليَّ بيده وقال‏:‏ لا تُسَمِّه ثم قال‏:‏ إنَّ للخبيث نفساً وقد سمع الأحاديث‏.‏
ويقال‏:‏ إن الحجَّاج كانَ إذا اسْتَغرب ضَحِكاً والَى بين الاسْتغفار وكان إذا صَعد المِنبر تلفّع بمطْرَفه ثم تكلَم رويداً فلا يكاد يسمع ثم يتزيّد في الكلام فيُخرج يَده من مطْرَفه ثم يَزجر الزَّجرة فيَقْرع بها أقصى مَن في المسجد‏.‏
صعد خالدُ بن عبد الله القَسريّ المِنبر في يوْم جمعة وهو إذ ذاك على مكة فذكر الحجَّاجَ فحَمِد طاعته وأثنى عليه خَيْراً‏.‏
فلما كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشَتم الحجاج ونَشرْ عُيوبه وإظهار البراءة منه‏.‏
فَصَعِد المِنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إنّ إبليس كان مَلَكاً من الملائكة وكان يظْهر منِ طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً وكان الله قد عَلم من غِشّه وخُبثه ما خفِي على ملائكته فلما أراد الله فضيحتَه أَمره بالسُّجود لآدم فظهر لهم منه ما كان مُخفيه فلعنوه‏.‏
وإن الحجَّاج كان يُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنَّا نرى له به فَضْلاً وكأنَّ الله قد أطلعَ أميرَ المؤمنين من غِشه وخبثه على ما خفي عنَّا فلما أراد الله فضيحتَه أجرى ذلك على يد أمير المؤمنين فلعنه فالْعنوه لَعنه الله ثم نزل‏.‏
ولما أُتي الحجاج بامرأة ابن الأشعث قال للحَرسيِّ‏:‏ قل لها‏:‏ يا عدوَّة اللّه أين مال الله الذي جعلتِه تحت ذَيلك فقال لها الحرسيُ‏:‏ يا عدوة الله أين مال الله الذي جعلتِه تحت استك قال الحجاج‏:‏ كذبْت ما هكذا قلت‏.‏
أرْسِلْها‏.‏
فخلي سبيلَها‏.‏
أبو عَوانة عن عاصم عن أبي وائل قال‏:‏ أرسل الحجاج إلي فقال لي‏:‏ ما اسمك قلت‏:‏ ما أرسل الأميرُ إليّ حتى عَرف اسمي‏!‏ قال لي‏:‏ متى هبطتَ هذه الأرض قلت‏:‏ حين ساكنتُ أهلها‏.‏
قال‏:‏ كم تقرأ من القرآن قلتُ‏:‏ أقرا منه ما إن اتّبعتُه كفاني قال‏:‏ إني أريد أن أستعين بك على بعض عَملي‏.‏
قلت‏:‏ إن تستعن بي بكبيرِ أخرَق ضعيف يخاف أعوان السوء وإن تَدَعْني فهو أحبُّ إليَّ وإن تُقحمني أتقحم‏.‏
قال‏:‏ إن لم أجد غيرَك أقْحمتك وإن وجدتُ غيرَك لم أقحمك‏.‏
قلت‏:‏ وأخرى أكرم الله الأمير إني ما علمتُ الناس هابوا أميراً قط هيبَتهم لك والله إني لأتعارّ من الليل فأَذكرك فما يَأتيني النومُ حتى أصبح هذا ولستُ لك على عمل‏.‏
فأعجبه ذلك وقال‏:‏ هيه كيف قلتَ فأعدتُ عليه الحديث‏.‏
فقال‏:‏ إنّي والله ما أعلم اليومَ رجلاً على وجه الأرض هو أجرأ على دمٍ منّي‏.‏
قال‏:‏ فقمتُ فعدلتُ عن الطريق عمداً كأنّي لا أبصر‏.‏
فقال‏:‏ اهدوا الشَيخ أرشدوا الشيخ‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة قالت‏:‏ دخل عبدُ الرحمن بن أبي لَيلى على الحجَّاج فقال لجلسائه‏:‏ إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل يَسُب أميرَ المؤمنين عثمان فانْظروا إلى هذا‏.‏
فقال عبدُ الرحمن‏:‏ معاذَ الله أيها الأميرُ أن أكون أسب عثمان إنه لَيحجِزُني عن ذلك آياتٌ في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفُقراء المُهاجرين الذين أخْرِجوا مِن دِيارهم وأموالهم يَبْتغون فَضلاً من الله ورِضْواناً ويَنْصرون الله ورسولَه أولئك هم الصادِقون ‏"‏ فكان عثمانُ منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والَّذِينِ تَبوؤا الدارَ والإيمان مِن قَبْلهم يُحبُّون مَن هاجَرَ إليهم ولا يَجدُون في صُدُورهم حاجةَ مما أوتُوا ويُؤثِرون على أنفُسهم ولو كان بهم خَصَاصة ‏"‏ فكان أبي منهم‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ والَّذِين جاءُوا مِن بَعْدِهمِ يَقولون ربنا اغْفِر لنا وَلإخْواننا الَّذين سَبَقُونا بالإيمان ‏"‏ فكنتُ أنا منهم‏.‏
قال‏:‏ صدقت‏.‏
أبو بكر بن أبي شَيبة عن أبي مُعاوية عن الأعمش قال‏:‏ رأيتُ عبدَ الرحمن ابن أبي ليلى ضَربه الحجَّاج ووقفه على باب المسجد فجعلوا يقولون له‏:‏ ألعن الكاذبين‏:‏ علي بن أبي طالب وعبدَ الله بن الزبير والمُختارَ بن أبي عُبيد‏.‏
فقال‏:‏ لعَنَ الله الكاذبين ثم قال‏:‏ فيُ علي بن أبي طالب وعبدُ الله بن الزُّبير والمُختار بن أبي عُبيد بالرفع‏.‏
فعرفتُ حين سَكت ثم ابتدأ فرفع أنه ليس يُريدهم‏.‏
قال الشَعبيُ‏:‏ أتي بي الحجاجُ مُوثَقاً فلما جئتُ باب القصر لَقِيني يزيدُ بن أبي مسلم كاتبُه فقال‏:‏ إنا للّه يا شَعبي لما بين دَفتيك مِن العلم وليس اليومُ بيوم شفاعة‏.‏
قلتُ له‏:‏ فما المَخرج قال‏:‏ بُؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحَرَي أن تنجوَ‏.‏
ثم لقيني محمدُ بن الحجّاج فقال لي مثلَ مَقالة يزيدَ‏.‏
فلما دخلتُ على الحجاج قال لي‏:‏ وأنعت يا شَعبيُ فيمن خَرج علينا وأكثر قلتُ‏:‏ أصلحَ الله الأمير نَبا بنا المنزل وأجدب بنا الجَناب واستحلَسَنا الخوفُ واكتحلنا السَّهر وضاق المسلك وخَبَطتنا فتنةٌ لم نكنْ فيها بررة أتقياء ولا فَجرة أقوياء‏.‏
قال‏:‏ صدق والله ما برُّوا بخروجهم علينا ولا قووا أطلقوا عنه‏.‏
فاحتاج إلي في فَريضة بعد ذلك فأرسل إليَّ فقال‏:‏ ما تقول في أم وأخت وجَدّ فقلت‏:‏ اختلف فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن مسعود وعليّ وعثمان وزَيد وابنُ عباسِ‏.‏
قال‏:‏ فما قال فيها ابنُ عباس إن كان لِمَنْقَباً قلت‏:‏ جعل الجَد أباً ولم يُعط الأخت شيئاً وأعطى الأم الثلث‏.‏
قال‏:‏ فما قال فيها ابنُ مسعود قلت‏:‏ جَعلها من ستَة فأعطى الجدَّ ثلاثة وأعطى الأم اثنين وأعطى الأختَ سهماً‏.‏
قال‏:‏ فما قال زَيد قلت‏:‏ جعلها من تِسعة فأعطى الأمَّ ثلاثة وأعطى الجد أربعة وأعطى الأختَ اثنين فجعل الجَدّ معها أخاً‏.‏
قال‏:‏ فما قال فيها أميرُ المؤمنين عثمان قلتُ‏:‏ جعلها ثلاثاً‏.‏
قال‏:‏ فما قال فيها أبو تُراب قلتُ‏:‏ جعلها من ستة فأعطى الأختَ ثلاثة وأعطى الأمّ اثنين وأعطى الجدّ سهماً‏.‏
قال‏:‏ مُر القاضي فلْيُمضها على ما أمضاها أميرُ المؤمنين‏.‏
فبينما أنا عنده إذ جاءه الحاجبُ فقال له‏:‏ إن بالباب رُسلاً‏.‏
فقال‏:‏ إيذن لهم‏.‏
قال‏:‏ فدخلوا وعمائمهم على أوساطهم وسيوفُهم على عواتقهم وكُتبهم بأيمانهم وجاء رجل من بني سُليم يقال له شَبابة بن عاصم فقال له‏:‏ مِن أين قال‏:‏ من الشام‏.‏
قال‏:‏ كيف تركتَ أمير المؤمنين وكيف تركتَ حَشمه فأخبره‏.‏
قال‏:‏ هل وراءك من غيث قال‏:‏ نعم‏.‏
أصابتني فيما بَيني وبين الأمير ثلاث سحائب‏.‏
قال‏:‏ فانعتْ لي كيف كان وَقْع المطر وتَباشيره قال‏:‏ أصابتني سحابةٌ بحوارين فَوقع قَطر صغار وقَطْر كبار فكانت الصغار لحْمة للكبار ووقع نشيطاَ ومُتداركاً وهو السّيح الذي سمعتَ به فوادٍ سائل ووادٍ نازح وأرض مُقبلة وأرض مُدبرة‏.‏
وأصابتني سحابةٌ بَسرا ء فلَبّدت الدِّماث وأسالت العَزَاز وأدحضت التِّلاع وصَدَعت عن الكمأة أماكنها‏.‏
وأصابتني سحابةٌ بالقَرْيتين فقاءت الأرضُ بعد الرّي‏.‏
وامْتلأت الأخاديد وأفعمت الأودية وجِئْتك في مثل وِجار الضَبُع‏.‏
ثم قال‏:‏ إيذَن فدخل رجل من بن أسد‏.‏
فقال‏:‏ هل وراءَك من غيث قال‏:‏ لا كثُر الإعصار وأغبرت البلاد وأيقنّا أنه عام سَنة‏.‏
قال‏:‏ بئس المُخبر أنت‏.‏
قال‏:‏ أخبَرْتُك الذي كان ثم قال‏:‏ إيذَن‏.‏
فَدَخَل رجل من أهل اليمامة‏.‏
قال‏:‏ هل وراءك من غيث قال‏:‏ نعم سمعت الرُّوّاد يَدْعون إلى الماء وسمعتُ قائلاً يقول‏:‏ هَلُمّ ظَعنَكم إلى محلّة تَطفأ فيها النيران وتشكّى فيها النساء وتنافسُ فيها المِعزى‏.‏
وقال الشعبيّ‏:‏ فلم يدر الحَجّاج ما قال‏.‏
فقال له‏:‏ تبا لك‏!‏ إنما تُحدّث أهلَ الشام فأَفْهِمْهم‏.‏
قال‏:‏ أصلح الله الأمير أخصب الناسُ فكَثُر التمر والسمن والزُبد والّلبن فلا تُوقَد نار يُختبر بها‏.‏
وأما تشَكى النساء فإن المرأة تظلّ ترُبِق بَهمْها وتَمخَض لبنها فتَبيت ولَها أنينٌ من عَضُدها‏.‏
وأما تنافس المِعزى فإنها ترى من أنواع التمر وأنواع الشجر ونَوْر النبات ما يُشبع بطونَها ولا يُشبع عيونها فتبيتً وقد امتلأت أكراشُها ولها من الكِظّة جِرة فتبقى الجرّة حتى تَستنزل الدِّرّة‏.‏
ثم قال‏:‏ إيذن فدخل رجلٌ من المَوالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان‏.‏
فقال له‏:‏ هل وراءك من غيث قال‏.‏
نعم ولكني لا احسن أن أقول ما يقول هؤلاء‏.‏
قال‏:‏ فما تُحسن قال‏:‏ أصابتني سحابة بحُلوان فلم أزل أطأ في آثارها حتى دخلتُ عليك‏.‏
فقال‏:‏ لئن كنتَ أقصرَهم في المطر خُطبة فإنك لأطولُهم بالسيف خُطوَة‏.‏
إبراهيم بن مَرزوق عن سعيد بن جُويرية قال‏:‏ لما كان عامُ الجماعة كتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجّاج‏:‏ انظر ابن عمر فاقْتد به وخُذ عنه يعني في المناسك‏.‏
قال‏:‏ فلما كان عشيّة عرفة سار الحَجّاج بين يدي عبد الله بن عُمر وسالمٍ ابنِه فقال له سالم‏:‏ إن أردتَ أن تُصيب السّنة اليوم فأوْجز الخُطبة وعَجِّل الصلاة‏.‏
قال‏:‏ فقَطَّب ونظر إلى عبد الله بن عُمر‏.‏
فقال‏:‏ صدق‏.‏
فلما كان عند الزوال مَرَّ عبد الله بن عمر بسرادقه وقال الرّواح‏:‏ فما لَبث أنْ خَرج ورأسًه يَقْطُر كأنه قد اغتسل‏.‏
فلما أفاض الناسُ رأيتُ الدم يتحدّر من النَّجيبة التي عليها ابنُ عمر فقال‏:‏ أبا عبد الرحمن عقرت النَّجيبة قال‏:‏ أنا عُقِرْت ليس النَّجيبة وكان أصابه زُج رُمح بين إصبعين من قَدمه فلما صرْنا بمكة دخل عليه الحجّاج عائداً فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن لو علمتُ مَن أصابك لفعلتُ وفعلت‏.‏
قال له‏:‏ أنت أصبتني‏.‏
قال‏:‏ غفر الله لك‏.‏
لم تقول هذا أبو الحسن المدائني قال‏:‏ أخبرني من دَخل المسجد والحجّاج على المِنبر وقد ملأ صوتُه المسجد بأبيات سويد بن أبي كاهل اليَشْكري حيث يقول‏:‏ رُبّ من أنضجتُ غيظا صدره قد تمنَّى ليَ موتاً لم يطع ساء ما ظَنُوا وقد أبليتُهم عند غايات المدَى كيف أقع كيف يَرجون سِقاطي بعدما شَمِل الرأسَ مَشيبٌ وصَلع كتب الوليدُ إلى الحجّاج‏:‏ أن صِفْ لي سيرتَك‏.‏
فكتب إليه‏:‏ إني أيقظت رأي وأنمتُ هواي فأدنيت السيّد المطاع في قومه ووليتُ الحَرْبَ الحازمَ في أمره وقلّدت الخِراج المُوفِّر لأمانته وصرَفتُ السيفَ إلى النَطف المُسيء فخاف المُريبُ صولةَ العِقاب وتمسّك المُحسن بحظّه من الثواب‏.‏
قرأ الحجاجُ‏:‏ في سورة هود ‏"‏ قال يا نُوح إنّه لَيس من أهْلك إنّه عَمَل غير صالح ‏"‏ فلم يَدُر كيف يقرأ‏:‏ عمل بالضم والتنوين أو عمل بالفتح فبعث حَرسيّا فقال‏:‏ إيتني بقارئ‏.‏
فأتي به وقد ارتفع الحجّاج عن مجلسه فحبسه ونَسيه حتى عَرض الحجاجُ حبسه بعد ستة أشهر فلما انتهى إليه قال له‏:‏ فيم حُبست قال‏:‏ في ابن نُوح أصلح الله الأمير فأمر بإطلاقه‏.‏
إبراهيم بن مرزوق قال‏:‏ حدثني سعيد بن جُويرية قال‏:‏ خَرجتْ خارجةٌ على الحَجّاج بن يوسف فأرسل إلى أنس بن مالك أن يَخرج معه فأبى‏.‏
فكتب إليه يَشْتمه‏.‏
فكتب أنسُ بن مالك إلى عَبد الملك بن مروان يشكوه وأدرج كتابَ الحجّاج في جوف كتابه‏.‏
قال إسماعيل بن عبد الله بن أبي المُهاجر‏:‏ بعث إليّ عبدُ الملك بن مروان في ساعة لم يكن يبعثُ إليّ في مثلها‏.‏
فدخلتُ عليه وهو أشدُّ ما كان حَنقاً وغَيظاً فقال‏:‏ يا إسماعيل ما أشدَّ عليّ أن تقول الرعيّة‏:‏ ضعُف أمير المؤمنين وضاق ذَرعه في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل له حَسنة ولا يتجاوز له عن سَيّئة‏!‏ فقلت‏:‏ وما ذاك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ يذكر أن لحجّاج قد أ ضَرّ به وأساء جواره وقد كتبتُ في ذلك كتابين‏:‏ كتاباً إلى أنس بن مالك والآخَر إلى الحجّاج فاقبضْهما ثم أخرج على البريد فإذا وردتَ العِراق فأبدأ بأنس بن مالك فادفعْ إليه كتابي وقل له‏:‏ أشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك ولن يأتيَ أمرٌ تكرهه إن شاء اللّه‏.‏
ثم إيت الحِجَاجَ فادفع إليه كتابه وقُل له‏:‏ قد اغتررتَ بأمير المؤمنين غِرّة لا أظنك يُخطئك شرُها ثم أفهم ما يتكلمُ به وما يكون منه حتى تُفْهمني إياه إذا قَدِمت عليّ إن شاء الله قال إسماعيل‏:‏ فقبضتُ الكتابين وخرجتُ على البريد حتى قَدِمتُ العراق فبدأتً بأنس بنِ مالك في منزله فدفعتُ إليه كتاب أمير المؤمنين وأبلغتُه رسالتِه فدعا له وجزاه خيراً‏.‏
فلما فرغ من قِراءة الكتاب قلتُ له‏:‏ أبا حمزة إن الحجاج عاملٌ ولو وُضع لك في جامعةٍ لَقَدر أن يَضرك ويَنفعك فأنا أريد أن تصالحه‏.‏
قال‏:‏ ذلك إليك لا أخرجُ عن رأيك‏.‏
ثم أتيتُ الحجاجَ فلما رآني رحَّب وقال‏:‏ والله لقد كنتً أحب أن أراك في بلدي هذا‏.‏
قلت‏:‏ وأنا والله قد كنتُ أحب أن أراك وأَقْدَم عليك بغير الذي أرسلتُ به إليك‏.‏
قال‏:‏ وما ذاك قلت‏:‏ فارقتُ الخليفةَ وهو أغضبُ الناس عليك‏.‏
قال‏:‏ ولم قال‏:‏ فدفعتُ إليه الكتاب‏.‏
فجعل يقرؤه وجبينه يَعرق‏.‏
فيمسحه بيمينه ثم قال‏:‏ أركبْ بنا إلى أَنس بن مالك‏.‏
قلت له‏:‏ لا تَفعل فإني سأتلطّف به حتى يكون هو الذي يأتيك وذلك للذي شرتُ عليه من مُصالحته‏.‏
قال‏:‏ فألقى إلي كتابَ أمير المؤمنين فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف‏.‏
أما بعد‏.‏
فإنك عبدٌ طَمَت بك الأمور فطغَيتَ وعَلوت فيها حتى جُزت قدرك وعَدوت طَوْرك ويم الله يابن المُسْتفرمة بعَجَم زبيب الطائف لأغمزنّك كبعض غَمزات اللُّيوث للثّعالب ولأرْكضْنك رَكضة تدخل منها في وَجْعاء أمك‏.‏
أذكر مكاسبَ آبائك بالطائف إذ كانوا يَنْقلون الحجارة على أكتافهم ويحفرون الآبار والمَناهل بأيديهم فقد نسيتَ ما كنتَ عليه أنت وآباؤك من الدَّناءة واللُّؤم والضراعة‏.‏
وقد بلغ أميرَ المؤمنين استطالةٌ منك على أنس بن مالك خادِم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جُرْأةً منك على أمير المؤمنين وغِزة بمَعرفة غِيَره ونقَماته وسَطَواته على مَن خالف سبيلَه وعَمد إلى غير مَحبّته ونَزل عند سَخْطته‏.‏
وأظنك أردتَ أن تُروزه بها لتعلم ما عنده من التَّغيير والتّنكير فيها‏.‏
فإن سُوِّغتَها مضيتَ قُدُما وإن بُغَضتَها ولّيت دُبراً فعليك لعنةُ الله مِن عبد أخْفش العينين أصكّ الرجلين ممسوح الجاعرتين وايم الله لو أن أميرَ المؤمنين علم أنك اجترمت منه جُرماً وانتهكت له عرْضاً فيما كتب به إلى أمير المؤمنين لبعث إليك مَن يَسحبك ظهراً لِبطن حتى‏.‏
يَنتهي بك إلى أنس بن مالك فيحكمَ فيك ما احبّ‏.‏
ولن يَخْفى على أمير المؤمنين نَبؤُك ولكل نَبأ مُستقر ولسوف تعلمون‏.‏
قال إسماعيل‏:‏ فانطلقتُ إلى أنس فلم أزل به حتى انطلق معي إلى الحجاج‏.‏
فلما دخلنا عليه قال‏:‏ يَغفر الله لك أبا حمزة عَجِلْت باللائمة وأغضبتَ علينا أميرَ المؤمنين ثم أخذ بيده فأَجلسه معه على السرير‏.‏
فقال أنس‏:‏ إنك كنتَ تزعم أنّا الأشرار والله سمّانا الأنصار‏.‏
وقلتَ‏:‏ إنّا من أبخل الناس ونحن الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏"‏ ويُؤْثِرون على أنْفًسهمِ ولو كانَ بهم خَصَاصة ‏"‏‏.‏
وزعمتَ أنا أهلُ نِفاق والله تعالى يقول فينا‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏"‏‏.‏
فكان المَفْزع والمُشتكى في ذلك إلى الله وإلىَ أمير المؤمنين فتولّى من ذلك ما ولاهّ الله وعرف من حقِّنا ما جَهلتَ وحَفظ منّا ما ضيعتَ وسَيحكم في ذلك رب هو أرضى للمُرضي وأسخطُ للمُسخط وأقدرُ على المُغير في يوم لا يشوب الحق عنده الباطلُ ولا النورَ الظلمةُ ولا الهدى الضلالةُ‏.‏
والله لوِ أنّ اليهود أو النّصارى رأت مَن خدَم موسى بن عمران أو عيسى بن مريم يوماً واحداً لرأت له ما لم تَرَوا لي في خدمة رسول الله عَشرَ سنين‏.‏
قال فاعتذر إليه الحجاحُ وترضاه حتى قَبل عُذره ورضي عنه وكتب برضاه عنه وقبوله عُذرَه‏.‏
ولم يزل الحجاحُ له مُعظماً هائباً له حتى أنسٌ رضي الله عنه‏.‏
وكتب الحجاحُ إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
أما بعد‏.‏
أصلحَ الله أميرَ المؤمنين وأبقاه وسهّل حظه وحاطه ولا أعدمنا إياه فإن إسماعيل بن أبي المُهاجر رسول أمير المؤمنين - أعزّ الله نَصره - قَدِم عليّ بكتاب أمير المُؤمنين - أطال الله بقاءه وجعلني من كل مكروه فداءَه - يذكر شتيمتي وتَوْبيخي بآبائي وتَغييري بما كان قبلَ نزول النَعمة بي من عند أمير المؤمنين أتم الله نعمَته عليه وإحسانه إليه‏.‏
ويذكر أميرُ المؤمنين جعلني الله فداه استطالةً منّي علىِ أنس بن مالك خادِم رسول الله صلى الله عليه و سلم جراءةً مني على أمير المؤمنين وغِرّة بمعرفةِ غِيره ونقَماته وسَطواته على مَن خالف سبيلَه وعَمد إلى غير محبته ونزل عند سَخْطته‏.‏
وأميرُ المؤمنين أصلحه الله في قَرابته من محمد رسول الله - إمام الهدى وخاتَم الأنبياء أحق من أقال عَثْرتي وعَفا عن ذَنبي فأمهلني ولم يُعجلني عند هَفوتي للذي جُبل عليه من كريم طبائعه وما قلّده الله من أمور عباده فرِأيُ أمير المؤمنين أصلحه الله في تَسْكِين رَوْعتي وإفراج كربتي فقد مُلئت رُعباً وفرقاً من سَطْوته وفُجاءةِ نقْمته وأميرُ المؤمنين - أقاله الله العثراتِ وتجاوز له عن السيآت وضاعفت له الحسنات وأعلى له الدَّرجات‏.‏
أحقّ من صَفح وعفا وتَغَمّد وأبقى ولم يُشمت بي عدوًّا مُكبّا ولا حسودا مُضبّا ولم يجرِّعني غُصصا‏.‏
والذي وَصف أميرُ المؤمنين من صنيعه إليّ وتَنويهه بي بما أسند إليِّ من عمله وأوطأني من رِقاب رعيته فصادقٌ فيه مجزيّ بالشكر عليه والتوسّلُ مني إليه بالولاية والتقرّبُ له بالكفاية‏.‏
وقد عاين إسماعيلُ بن أبي المُهاجر رسولُ أمير المؤمنين وحاملُ كتابه نزولي عند مسرّة أنس بن مالك وخُضوعي لكتاب أمير المؤمنين وإقلاقَه إياي ودُخولَه علي بالمصيبة على ما سيعلمه أميرُ المؤمنين ويُنهيه إليه‏.‏
فإن رأى أميرُ المؤمنين - طوّقني الله شُكره وأعانني على تأدية حقّه وبَلَّغني إلى ما فيه مُوافقة مَرْضاته ومدَ لي في أجله - أمر لي بكتاب مِن رضاه وسلامة صَدْره يُؤمِّنني به من سَفك دَمي ويَرُدّ ما شَرَد من نومي ويَطمئن به قلبي فقد وَرد عليّ أمرٌ جَليل خَطْبُه عظيم أمرُه شديد عليّ كربُه‏.‏
أسأل الله أن لا يُسخط أميرَ المُؤمنين عَلَيّ وأن يَبْتلِيَه في حَزمه وعَزمه وسياسته وفِراسته ومواليه وحَشمه وعُماله وصنائعه بما يُحمَد به حُسنُ رأيه وبُعْدُ هِمَّته إنه وليّ أمير المؤمنين والذابّ عن سلطانه والصانع له في فحدّث إسماعيلُ أنه لما قرأ أميرُ المؤمنين الكتابَ قال‏:‏ يا كاتب أفرخ رُوع أبي محمد‏.‏
فكتب إليه بالرضا عنه‏.‏
كان سليمانُ بن عبد الملك يكتب إلى الحجّاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كُتباً فلا يَنظر له فيها‏.‏
فكتب إليه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف‏:‏ سلامٌ على أهل الطاعة من عباد الله‏.‏
‏.‏
أما بعد‏.‏
فإنك امرؤ مَهْتوك عنه حجابُ الحقّ مولَع بما عليك لا لك مُنصرف عن مَنافعك تاركٌ لحظّك مُستخفّ بحق الله وحق أوليائه‏.‏
لا ما سلف إليك من خير يَعطفك ولا ما عليك لا لك يصرِفك‏.‏
في مُبهمة من أمرك مَغْمور مَنكوس مُعصوصر عن الحق اعصيصاراً ولا تتَنكَّب عن قَبيح ولا تَرعوي عن إساءة ولا ترجو الله وقاراً حتى دُعيت فاحشاً سبَّاباً‏.‏
فقِسْ شِبرك بفَترك واحذُ زمام نَعلك بحذو مثله‏.‏
فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنّك دَوْسة تلين منها فرائصك ولأجعلنّك شر يداً في الجبال تلوذ بأطراف الشمال ولأعَلقنّ الرًّومية الحمراء بثَدْييها‏.‏
علم الله ذلك منّي وقضىَ لي به عليّ فقِدْماً غرّتك العافية وانْتحيتَ أعراضَ الرّجال فإنك قَدَرْتَ فَبَذخْتَ وظَفِرت فتعدَّيت‏.‏
فرويدكَ حتى تنظر كيف يكون مصيرُك إن كانت بي وبك مُدة أتعلّق بها وإن تكن الأخرى فأرجو أن تَؤول إلى مَذلة ذَليل وخِزْية طويلة ويُجعل مصيرُك في الآخرة شرَّ مَصير‏.‏
والسلام‏.‏
فكتب إليه الحجاج‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من الحجاج بن يوسف إلى سُليمان بن عبد الملك‏.‏
سلامٌ على من اتّبع الهدى‏.‏
أما بعد‏.‏
فإنك كتبتَ إليّ تَذْكر أنّي امرؤ مَهْتوك عنّي حِجابُ الحق مُولَع بما عليّ لا لي مُنصرف عن منافعي تاركٌ لحظّي مُستخف بحقّ الله وحقّ وليّ الحق‏.‏
وتذكر أنك ذو مُصاولة ولَعمري إنك لصبيٌّ حديث السنّ تُعذَر بقلّة عَقلك وحَداثة سنّك ويُرقَب فيك غيرُك فأما كتابُك إليّ فلَعمري لقد ضَعُف فيك عقلك واسْتُخِفّ به حلمُك فلِله أبوك‏.‏
أفلا انتصرت بقضاء الله دون قَضاءك ورجاءِ الله دون رجائك وأمتَّ غيظك وأمنت عدوِّك وسترت عنه تدبيرك ولم تُنَبّهه فيَلتمسَ من مُكايدتك ما تلتمس منِ مُكايدته ولكنّك لم تَسْتشِفّ الأمور علماً ولم تُرزق من أمرك حَزْماً‏.‏
جمعتَ أموراً دلاك فيها الشيطانُ على أسوأ أمرك فكان الجفاءُ مِن خليقتك والْحُمق مِن طَبيعتك وأقبل الشيطانُ بك وأدبر وحدّثك أنك لن تكون كاملاً حتى تَتعاطى ما يَعيبك‏.‏
فتَحذلقت حنجرتُك لقوله واتّسعت جوانبُها لكذبه‏.‏
وأما قولُك لو مَلّكك الله لعلّقت زينبَ بنت يوسف بثَدْييها فأرجو أن يكرمها الله بهَوانك وأن لا يُوَفَق ذلك لك إن كان ذلك مِن رأيك مع أنّي أعرف أنك كتبتَ إليَ والشيطانُ بين كَتفَيك فشرُّ مُمْل على شرِّ كاتب راض بالخَسف بالحُمق أن لا يدلّك على هُدى ولا يردّك إلا إلى رَدى‏.‏
وتحلَّب فُوك للخلافة فأنت شامخ البَصر طامح النَّظر تظنُّ أنك حين تَمْلكها لا تَنْقطِع عنك مُدتها‏.‏
إنها للُقطة الله التي أسأل أن يُلهمك فيها الشكر مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما‏.‏
وإن نَفخ الشيطان في مُنخريك فهو أمر أراد الله نَزعه عنك وإخراجه إلى مَن هو أكمل به منك‏.‏
ولعمري إنها لنصيحة فإنْ تَقبلها فمثلُها قُبل وإن تردّها عليّ اقتطعتُها دونك وأنا الحجاج‏.‏
قدم الحجاجُ على الوليد بن عبد الملك فدخل عليه وعليه دِرْع وعمامة سوداء وقوس عربيَّة وكِنانة فبعثتْ إليه أمُّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان‏:‏ مَن هذا الأعرابيّ المُستلئم في السلاح عندك وأنت في غِلالة‏.‏
فبعث إليها‏:‏ هذا الحجاج بن يوسف‏.‏
فأعادت الرسولَ إليه تقول‏:‏ والله لأن يَخلو بك مَلَكُ الموتِ أحبُّ إليّ من أن يخلو بك الحجاج‏.‏
فأخبره الوليدُ بذلك وهو يمازحه‏.‏
فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين دع عنك مُفاكهة النساء بزُخرف القول فإنما المرأة رَيحانة ولست بقَهْرمانة فلا تطْلعها على سرِّك ومُكايدة عدوّك‏.‏
فلما دخل الوليدُ عليها أخبرها بمقَالة الحجاج‏.‏
فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين حاجتي أن تأمره غداً يأتيني مُستلئما ففعل ذلك‏.‏
وأتى الحجاج فَحجبته فلم يزل قائماً ثم قالت له‏:‏ إيه يا حجاج أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقَتْلك عبد الله بن الزًّبير وابن الأشعث أما والله لولا أن الله علم أنك من شرِار خَلقه ما ابتلاك برَمْي الكَعبة وقَتْل ابن ذاتِ النِّطاقين وأوَّل مولود وُلد في الإسلام‏.‏
وأما نَهْيك أمير المؤمنين عن مُفاكهة النساء وبُلوغ أوطاره منهن فإنْ كُنّ يَنْفرجن عن مِثلك فما أحقه بالأخذ عنك وإن كن يَنْفرجن عن مِثله فغيرُ قابل لقولك‏.‏
أما والله لقد نَقَص‏.‏
نساء أمير المؤمنين الطيّبَ عن غدائرهن فبِعنه في أَعطية أهل الشام حين كنتَ في أَضيق من القَرَن قد أَظلّتك رماحُهم وأثخنك كِفاحهم وحين كان أمير المؤمنين أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم فما نَجّاك الله من عد أمير المؤمنين إلا بحبّهم إياه‏.‏
وللّه دَرّ القائل إذ نظر إليك وسنان غَزالة بين كَتفيك‏:‏ أسَدٌ عليّ وفي الحُروب نعامةٌ رَبداءُ تَجْفِل من صفير الصافر هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوَغى بل كان قَلبُك في مخالبِ طائر صَدعت غزالةُ جمعَه بعساكر ترِكتْ كتائبَه كأمس الدابر ثم قالت‏:‏ اخرُج‏.‏
فخرج مَذْموماً مدحوراً‏.‏
كان عُروة بن الزبير عاملاً على اليمن لعبد الملك بن مروان فاتصَل به أن الحجاجَ مُجْمعِ على مُطالبته بالأموال التي بيده وعَزْله عن عَمله ففرّ إلى عبد الملك وعاد به تخوّفا من الحجاج واستدفاعاً لضرَره وشرّه‏.‏
فلما بلغ ذلك الحجاحَ كتب إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ أما بعد‏.‏
فإنّ لواذ المُعترضين بك وحُلول الجانحين إلى المُكث بساحتك واستلانَتهم دَمِث أخلاقك وسَعة عَفْوك كالعارض المُبرق لا يَعْدم له شائماً رجاء أن ينالَه مطرهُ وإذا أدنى الناس بالصّفح عن الجرائم كان ذلك تَمْرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال‏.‏
والناس عبيد العصا هم على الشدّة أشد اسْتباقاً منهم على اللِّين‏.‏
ولنا قِبَل عُروة بن الزُّبير مال من مال الله وفي استخراجه منه قَطْعٌ لطمع غيره فَلْيبعث به أميرُ المؤمنين إن رأى ذلك‏.‏
والسلام‏.‏
فلما قرأ الكتابَ بعثَ إلى عُروة ثم قال له‏:‏ إنّ كتاب الحَجّاج قد وَرد فيك وقد أبى إلا إشخاصَك إليه‏.‏
ثم قال لرسول الحجَّاج‏:‏ شأنَك به‏.‏
فالْتفت إليه عروةُ مقبَلاً عليه وقال‏:‏ أما والله ما ذلَّ وخَزِي مَن ملكتموه والله لئن كان الملك بجَواز الأمر ونَفاذ النَهي إن الحجاج لسُلطانٌ عليك يُنفّذ أموره دون أمورك إنك لتُريد الأمرَ يَزِينك عاجله ويَبقى لك أكرومةً آجلُه فَيَجذِبُك عنه ويَلقاه دونك ليتولّى من ذلك الحُكم فيه فيحظَى بشرف عَفْو إن كان أو بجُرم عقوبة إن كانت‏.‏
وما حاربَك مَن حاربَك إلا على أمرٍ هذا بعضُه‏.‏
قال‏:‏ فنظر في كتاب الحجاج مرّة ورَفع بصرَه إلى عُروة تارة ثم دعا بدواةٍ وقرطاس فكتب إليه‏:‏ أما بعد‏.‏
فإن أميرَ المؤمنين رآك مع ثِقته بنَصيحتك خابطاً في السياسة خَبْط عَشْواء الليل‏.‏
فإِن رأيك الذي يُسَوِّل لك أنَّ الناس عبيدُ العصا هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوُثوب عليك وإذ أخرجت العامة بعُنف السياسة كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفُرصة ثم لا يلتفتون إلى ضلال الدّاعي ولا هُداه إذا رَجَوْا بذلك إدراك الثأر منك‏.‏
وقد وَليَ العراق قَبلك ساسةٌ وهم يومئذ أحمى أنوفا وأقربُ من عَمياء الجاهلية وكانوا عليهم أصلحَ منك عليهم وللشدَّة واللين أهلون والإفراطُ في العفو أفضلُ من الإفراط في العقوبة‏.‏
والسلام‏.‏
زكريا بن عيسى عن ابن شهاب قال‏:‏ خرجنا مع الحَجّاج حُجاجاً فلما انتهينا إلى البيداء وافينَا ليلةَ الهلال هلال ذي الحجة فقال لنا الحجاج‏:‏ تَبصرّوا الهلال فأما أنا ففي بَصري عاهة‏.‏
فقال له نَوفل بن مُساحق‏:‏ وَتدري لم ذلك أصلح الله الأمير قال‏:‏ لا أدري‏.‏
قال‏:‏ لكثرة نَظرك في الدفاتر‏.‏
الأصمعي قال‏:‏ عُرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثةً وثلاثين ألفاً لم يجب على واحد منهم قَتل ولا صَلْب ووُجد فيهم أعرابيٌ أخذ يَبول في أصل مدينة واسط فكان فيمن أطلق‏.‏
فأنشأ الأعرابيّ يقوِل‏:‏ إذا نحن جاوزنا مدينةَ واسط خرِينا وبُلْنا لا نَخاف عِقابَا أبو داود المُصحفيّ عن النَضر بن شُميل قال‏:‏ سمعتُ هشاماً يقول‏:‏ احصُوا مَن قتل الحجاجُ صَبْراً‏.‏
فوجدوهم مائةَ ألف وعشرين ألفًا‏.‏
وخطب الحجاجُ أهلَ العراق فقال‏:‏ يأهل العراق‏.‏
بلغني أنكم تَروُون عن نبيِّكم أنه قال‏:‏ مَن ملك عشرة رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عُنقه حتى يفكّه العَدل أو يُوبقه الجَوْر‏.‏
وايم اللهّ إني لأحبُّ إليَّ أن احشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً من أن احشر معكم مُطلقاً‏.‏
ومرض الحجاجُ ففرح أهلُ العراق وقالوا‏:‏ مات الحجاجُ‏!‏ مات الحجاج‏!‏ فلما أفاق صَعد المِنبر وخَطب الناس فقال يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق مرضتُ فقلتم‏:‏ مات الحجاج‏.‏
أما والله إني لأحبُّ إليَّ أن أموت من ألاّ أموت وهل أرجو الخيرَ كلٌه إلا بعد الموت وما رأيتُ الله رَضي بالخُلود في الدنيا إلا لأبغض خَلقه إليه وأهونهم عليه‏:‏ إبليس‏.‏
ولقد رأيتُ العبدَ الصالح سأل ربَّه فقال‏:‏ ‏"‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ‏"‏‏.‏
ففعل ثم اضمَحل ذلك فكأنه لم يكن‏.‏
وأراد الحجاجُ أن يَحج‏.‏
فاسْتخلف محمداً ولده على أهل العراق ثم خَطب فقال‏:‏ يأهل العراق إني أرد تُ الحجَّ وقد اسْتخلفتُ عليكم محمداً ولدي وأوصيتُه فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار فإنه أوصى فيهم أن يُقبل من مُحسنهم ويُتجاوز عن مُسيئهم‏.‏
وإني أوصيتُه ألا يقبل من مُحسنكم وألا يتجاوزَ عن مُسيئكم‏.‏
ألا وإنكمِ قائلون بعدي مقالةً لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي‏:‏ لا أحسن الله له الصحابة‏.‏
وأنا أعجل لكم الجواب‏:‏ فلا أحسن الله عليكم الخلافة‏.‏
ثم نزل‏.‏
فلما كان غداةَ الجمعة مات محمدُ بن الحجاج فلما كان بالعشيّ أتاه بريدٌ من اليمن بوفاه محمد أخيه‏.‏
ففرح أهلُ العراق وقالوا‏:‏ انقطع ظهرُ الحجاج وهِيض جناحُه فخرج فصعد المنبرَ ثم خطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس محمدان في يوم واحد‏!‏ أما والله ما كنتُ أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة‏.‏
وايم الله ليُوشكنّ الباقي مني ومنكم أن يَفنى والجديدُ أن يبلى والحيّ مني ومنكم أن يموت وأن تُدال الأرض منّا كما أدلنا منها فتأكل من لُحومنا وتشرب من دمائنا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ‏"‏‏.‏
ثم تمثل بهذين البيتين‏:‏ عَزائي نبيُّ الله مِن كل مَيت وحَسبي ثوابُ الله من كل هالك إذا ما لقيتُ الله عنِّي راضيا فإنَّ سُرورَ النًفس فيما هُنالك ثم نزل وأَذن للناس فدخلوا عليه يُعزونه ودخل فيهم الفرزدقُ فلما نظر إليه قال‏:‏ يا فرزدق أما رثيتَ محمداً ومحمداً قال‏:‏ نعم أيها الأمير وأنشد‏:‏ لئن جَزع الحجّاجُ ما من مُصيبة تكون لمَحزون أمضَّ وأَوْجعَا مِن المصطفى والمُنتقى من ثِقاته جناحاه لما فارقاه وودّعا جناحا عَتيق فارقاه كلاهُما ولو نزعا من غيره لتَضعضعَا سَميّا رسول الله سمّاهما به أب لم يكن عند الحوادث أخضعا قال‏:‏ أَحسنت‏.‏
وأمر له بصلة‏.‏
فخرج وهو يقول‏:‏ والله لو كلَّفنيِ الحجاجُ بيتاً سادسا لضَرب عنقي قبل أن آتيه به وذلك أنه دخل ولم يهيئ شيئاً‏.‏
قولهم في الحجاج الرِّياشيّ عن العتبي عن أبيه قال‏:‏ ما رأيت مثلَ الحجاج كان زِيَّه زِي شاطراً‏.‏
وكلامه كلامَ خارجيّ وصولتُه صولةَ جبار‏.‏
فسألته عن زيّه فقال‏:‏ كان يُرجِّل شعرَه ويَخْضِب أطرافه‏.‏
كثيرُ بن هشام عن جعفر بن بُرْقان‏:‏ قال‏:‏ سألتُ ميمون بن مهران فقلت‏:‏ كيف ترى في الصلاة خلف رجل يَذكر أنه خارجيّ فقال‏:‏ إنك لا تصلّي له إنما تصلّي لله قد كُنا نصلّي خلف الحجَّاج وهو حَروري أزرقيّ‏.‏
قال‏:‏ فنظرِت إليه فقال‏:‏ أتدري ما الحرويُّ الأزرقي هو الذي إن خالفت رأيه سمَّاك كافراً واستحلَّ دمك وكان الحجاج كذلك‏.‏
أبو أمية عن أبي مُسهر قال‏:‏ حدَّثنا هشامُ بن يحيى عن أبيه قال‏:‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ لو جاءت كل أُمة بمُنافقيها وجئْنا بالحجاج لفضلناهم‏.‏
وحلف رجل بطلاق امرأته إن الحجَّاج في النار‏.‏
فأتى امرأتَه فمنعْته نفسَها‏.‏
فسأل الحسنَ بن أبي الحسن البصري‏.‏
فقال‏:‏ لا عليك يابن أخي فإنه إن لم يكن الحجاج في النار فما يَضُرّك أن تكون مع امرأتك على زنى‏.‏
أبو أمية عن إسحاق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجُمحيّ عن عليّ بن زَيد قال‏:‏ لما مات الحجاجُ أتيتُ الحسنَ فأخبرتُه‏.‏
فخرّ ساجداً‏.‏
عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق عن جرير بن مَنصور قال‏:‏ قلتُ لإبراهيم‏:‏ ما ترى في لَعْن الحجاجِ قال‏:‏ ألم تسمع إلى قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألا لَعْنةُ الله على الظالمين ‏"‏ فأَشهدُ أنَّ الحجاج كان منهم‏.‏
وكيعٌ عن سُفيان عن محمد بن المُنكدر عن جابر بن عبدِ اللّه قال‏:‏ دخلت على الحجاج فما سلّمت عليه‏.‏
وَكيع عن سُفيان قال‏:‏ قال يزيد الرِّقاشيُّ عند الحسن‏:‏ إني لأرجو للحجاج‏.‏
قال الحسن‏:‏ إني لأرجو أن يخلف الله رجاءك ميمون بن مِهران قال‏:‏ كان أنس وابن سِيرين لا يَبيعان ولا يَشتريان بهذه الدراهم الحجِّاجيّة‏.‏
وقال عبدُ الملك بن مروان للحجَّاج‏:‏ ليس من أحد إلا وهو يَعرف عيبَ نفسه فصِف لي عيوبَك‏.‏
قال‏:‏ أعفني يا أميرَ المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ لا بدَّ أن تقول‏.‏
قال‏:‏ أنا لَجوج حَسود حَقود‏.‏
قال‏:‏ ما في إبليس شرَّ من هذا أبو بكر بن أبي شَيبة قال‏:‏ قيل لعبد الله بن عُمر‏:‏ هذا الحجّاج قد وَلي الحرمَين‏.‏
قال‏:‏ إنْ كان خيراً شَكرنا وإن كان شرًّا صَبرنا‏.‏
ابن أبي شَيبة قال‏:‏ قيلَ للحسن‏:‏ ما تقول في قتال الحجاج قال‏:‏ إنَ الحجاج عُقوبة من الله فلا تَسْتقبلوا عُقوبة الله بالسيف‏.‏
ابنُ فضيل قال‏:‏ حدّثنا أبو نُعيم قال‏:‏ أمر الحجاجُ بماهان أن يُصلب على بابه‏.‏
فرأيتُه حين رُفعت خشبته يُسبَح ويهَلّل ويدبِّر ويَعقد بيده حتى بلغ تسعاً وتسعين وطعنه رجلٌ على تلك الحال فلقد رأيتها بعد شهر في يده‏.‏
قال‏:‏ وكُنّا نرى عند خَشبته بالليل شَبيها بالسَراج‏.‏
أبو داود المُصحفيّ عن النَّضر بن شَميل قال‏:‏ سمعتُ هشاماً يقول‏:‏ احصُوا من قتل الحجاج صبراً‏.‏
فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً‏.‏
من زعم أن الحجاج كان كافراً ميمون بن مِهران عن الأجلح قال‏:‏ قلتُ للشعبيّ‏:‏ يزعم الناسُ أنّ الحجاجَ مُؤمن‏.‏
قال‏:‏ مؤمن بالجبّت والطاغوت كافر بالله‏.‏
عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن يحيى عن الأعمش قالَ‏:‏ اختلفوا في الحجاج فقالوا‏:‏ بمن تَرْضون قالوا‏:‏ بمجاهد‏.‏
فأتوه فقالوا‏:‏ إنّا قد اختلفنا في الحجاج‏.‏
فقال‏:‏ أجئتُم تسألوني عن الشيخ الكافر محمد بن كَثير عن الأوزاعيّ قال‏:‏ سمعت القاسم بن محمد يقول‏:‏ كان الحجاجِ بن يوسف يَنْقض عُرى الإسلام عروةً عروة‏.‏
عطاءُ بن السائب قال‏:‏ كنتُ جالساً مع أبي البَخْتَريّ والحجاج يَخْطب فقال‏:‏ في خُطبته‏:‏ إنَّ مَثَل عثمان عند الله كمثَل عيسى بن مريم قال الله فيه‏:‏ ‏"‏ إنِّي مُتوفِّيك ورَافعُك إليَّ ومطَهِّرك مِن الذين كَفروا ومما كفرت به العلماءُ الحجّاج قولُه ورَأى الناسَ يطوفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِنبره‏:‏ إنما يطوفون بأعواد ورِمَّة‏.‏
الشيبانيُّ عن الهيثم عن ابن عيّاش قال‏:‏ كُنا عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه كتابٌ من الحجاج يُعظِّم فيه أمرَ الخلافة ويزعم أن السموات والأرض ما قامتا إلا بها وأن الخليفة عند الله أفضلُ من الملائكة المُقرَّبين والأنبياء المُرسلين‏.‏
وذلك أن الله خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه جَنّته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته وجعل الملائكة رُسلاً إليه‏.‏
فأعجب عبدُ الملك بذلك وقال‏:‏ لوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأخاصمَه بهذا الكتاب فانصرف عبدُ الله بن يزيد إلى منزله فجلس مع ضِيفانه وحدَثهم الحديث فقال له حُوار بن زيد الضّبي وكان هارباً من الحجاج‏:‏ توثَّق لي منه ثم أعلمني به‏.‏
فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان‏.‏
فقال‏:‏ هو آمنٌ على كل ما يخاف‏.‏
فانصرف عبد الله إلى حُوار فاخبره بذلك‏.‏
فقال‏:‏ بالغداة إن شاء اللّه‏.‏
فلما أصبح اغتسل ولبس ثَوْبين ثم تحنّط وحَضر باب عبد الملك فدخل عبدُ الله فقال‏:‏ هذا الرجل بالباب‏:‏ فقال‏:‏ أَدْخله يا غلام‏.‏
فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بيضٌ يُوجد عليه ريح الحَنوط فقال‏:‏ السلام عليكم ثم جلس‏.‏
فقال عبدُ الملك‏:‏ إيت بكتاب أبي محمد يا غلام‏.‏
فأتاه به‏:‏ فقال اقرأ فقرأ حتى أتى على آخره‏.‏
فقال حُوار‏:‏ أراه قد جَعلك في موضعٍ مَلكاً وفي موضع نبيّاً وفي موضع خليفة فإن كنت مَلَكاً فمن أنزلك وإن كنت نبيّاً فمن بعثك وإن كنت خليفة فمن استخلفك أعن مَشورة من المسلمين أم ابتززتَ الناس أمورَهم بالسيف فقال عبد الملك قد أمّناك ولا سبيلَ إليك والله لا تُجاورني في بلد أبداً‏.‏
فارحل حيثُ شئت‏.‏
قال‏:‏ فإني قد اخترتُ مصر فلم يزل بها حتى مات عبدُ الملك‏.‏
عليّ بن عبد العزيز عن إسحاق بن إسماعيل الطالَقاني قال‏:‏ حدّثنا جريرُ عن مغيرة عن الربيع قال‏:‏ قال الحجّاج في كلام له‏:‏ ويحكم‏!‏ أخليفة أحدِكم في أهله أكرمُ عليه أم رسولُه إليهم قال‏:‏ ففهمت ما أراد فقلت له‏:‏ للّه عليَّ ألا أصلَي خلفك صلاة أبداً ولئن وجدتُ قوماً يقاتلونك لقاتلتُك معهم‏.‏
فقاتل في الجماجم حتى قُتل‏.‏
قيل للحجّاج‏:‏ كيف وجدتَ منزلك بالعراق قال خيرُ منزل لو أدركتُ بها أربعة فتقرّبتُ إلى الله بدمائهم‏.‏
قيل‏:‏ ومَن هم قال‏:‏ مُقاتل بن مِسمع ولي سِجِستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال فلما قَدِم البصرة بَسط الناسُ له أرديتَهم فقال‏:‏ لمثل هذا فَلْيعمل العاملون‏.‏
وعُبيد الله بن ظَبيان قام فخطب خُطبة أوجز فيها فنادى الناسُ من أعراض المسجد‏:‏ أكثر الله فينا من أمثالك‏.‏
قال‏:‏ لقد سألتم الله شَططا‏.‏
ومَعْبَد بن زُرارة كان ذات يوم جالساً على الطريق فمرَّت به امرأة فقالت‏:‏ يا عبد الله أين الطرِيق إلى مكان كذا فغَضب وقال‏:‏ ألمثلي يقال يا عَبد اللّه‏!‏ وأبو سِماك الحنفيّ أَضلَ ناقتَه فقال‏:‏ لئن لم يَرُدها الله عليَّ لا صلّيت أبداً فلما وجدها قال‏:‏ عَلِم الله أنَ يميني كانت بَرة‏.‏
قال ناقل الحديث‏.‏
ونسيِ الحجاجُ نفسه وهو خامس الأربعة بل هو أفسقهم وأطغاهم وأعظمهم إلحاداً وأكفرُهم في كتابه إلى عبد الملك بن مروان‏:‏ ‏"‏ إن خليفة الله في أرضه أكرمُ عليه من رسوله إليهم وكتابه إليه ‏"‏ وبلغه أنه عَطس يوماً فحمد الله وشَمَّته أصحابُه فردّ عليهم ودعا لهم فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ بلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين ومِن تَشْميت أصحابه له وردِّه عليهم فياليتَني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيماً ‏"‏‏.‏
وكان عبدُ الملك بن مروان كتب إلى الحجاج في أسرىَ الجَمَاجم أن يَعْرضهم على السيف فمن أَقرّ منهم بالكَفر بخُروجه علينا فخلِّ سبيله ومَن زعم أنه مُؤمن فاضرب عُنقه‏.‏
ففعل‏.‏
فلما عَرضهم أُتى بشيخ وشابّ فقال للشاب‏:‏ أمؤمن أنت أم كافر قال‏:‏ بل كافر‏.‏
فقال الحجاج‏:‏ لكن الشيخ لا يرضى بالكُفر‏.‏
فقال له الشيخ‏:‏ أعن نَفسي تُخادعني يا حجاج والله لو كان شيء أعظَم من الكُفْر لرضيتُ به‏.‏
فضحك الحجاج وخلّى سبيلهما‏.‏
ثم قُدِّم إليه رجل فقال له‏:‏ على دين من أنت قال‏:‏ على دِين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين‏.‏
فقال‏:‏ اضربُوا عُنقه‏.‏
ثم قُدم آخر فقال له‏:‏ علىِ دِين من أنت قال‏:‏ على دين أَبيك الشيخ يوسف‏.‏
فقال‏:‏ أما والله لقد كان صوّاماً قوّاماً‏.‏
خلِّ عنه يا غلام‏.‏
فلما خلّى عنه انصر فَ إليه فقال له‏:‏ يا حجاج سألتَ صاحبي‏:‏ على دين مَن أنت فقال‏:‏ على دين إبراهيم حنيفاً وما كان من المُشركين فأمرتَ به فقُتل وسألَتني‏:‏ على دين مَنِ أنت فقلتُ‏:‏ على دين أبيك الشيخ يوسف فقلتَ‏:‏ أمَا والله لقد كان صوّاماً قواماً فأمرتَ بتَخْلية سبيلي والله لو لم يكن لأبيكَ من السيئات إلا أنّه وَلد مثلَك لكَفاه‏:‏ فأمر به فقتل‏:‏ ثم أتى بعِمْران بن عِصام العَنزي فقال‏:‏ عمران قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ ألم أُوفدك على أمير المؤمنين ولا يُوفد مثلك قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ ألم أزوِّجك مارية بنت مِسمع سيدة قومها ولم تكن أهلاً لها قال‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فما حَمَلك على الخروج علينا قال‏:‏ أخْرجني باذان‏.‏
قال‏:‏ فأين كنتَ من حُجة أهلك قال‏:‏ أَخرجنيِ باذان‏.‏
فأمر رجلاً فكَشف العمامة عن رأسه فإذا هو مَحلوق‏.‏
قال‏:‏ ومحلوق أيضاً‏!‏ لا أقالني الله إن لم أَقتُلك‏.‏
فأمر به فضُرب عنقه‏.‏
قال‏:‏ فسأل عبدُ الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام فقيل له‏:‏ قَتله الحجَّاج‏.‏
فقال‏:‏ ولم قال‏:‏ بخُروجه مع ابن الأشعث‏.‏
قال‏:‏ ما كان يَنبغي له أن يَقْتله بعد قوله‏:‏ وبَعثتَ من ولد الأغرّ مُعتَّب صَقْراً يلوذ حمامُه بالعَوْسج فإذا طبختَ بناره أنضجتَها وإذا طبختَ بغيرها لم تُنضج وهو الهِزبر إذا أراد فريسةً لم يُنْجِها منه صريخُ الهَجْهج ثم أتى بعامر الشَّعبيّ ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسَعيد بن جُبير‏.‏
وكان الشَّعبيُّ ومُطَرِّف يَريان التَّورية وكان سعيدُ بن جُبير لا يرى ذلك فما قُدِّم له الشعبيّ‏.‏
قال‏:‏ أكافرٌ أنت أم مُؤمن قال‏:‏ أَصلح الله الأمير نَبا بنا المنزل وأجْدب بنا الْجَناب واستحلَسَنا الخوفُ واكْتَحلنا السهر وخَبَطتْنا فِتنة لم نكن فيها بَرَرَةً أتقياء ولا فَجَرة أقوياء‏.‏
قال الحجاج‏:‏ صَدق واللهّ ما برُّوا بخُروجهم علينا ولا قَوُوا خَلِّيا عنه‏.‏
ثم قُدِّم إليه مُطَرِّف ابن عبد اللّه فقال له‏:‏ أكافرٌ أنت أم مؤمن قال‏:‏ أصلح الله الأمير إنّ مَن شقَّ العصا ونَكَث البَيعة وفارق الجماعة وأخاف المُسلمين لجدير بالكُفر‏.‏
فقال‏:‏ صدق خلِّيا عنه‏.‏
ثم أتى بسَعيد بن جُبير فقال له‏:‏ أنت سَعيد بن جُبير قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ لا بل شقيُّ بن كُسَير‏.‏
قال‏:‏ أمي كانت أعلم باسمي منك‏.‏
قال‏:‏ شقيتَ وشقيتْ أمك قال‏:‏ الشقاء لأهل النار‏.‏
قال‏:‏ أكافر أنت أم مؤمن قال‏:‏ ما كفرت بالله منذ آمنتُ به‏.‏
قال‏:‏ اضربوا عنقه‏.‏
موت الحجاج مات الحجَّاج بن يوسف في آخر أيام الوليد بن عبد الملك فتفجع عليه الوليد وولى مكانَه يزيدَ بن أبي مُسلم كاتب الحجاج فكفَى وجاوز‏.‏
فقال الوليد‏:‏ مات الحجَّاج ووليتُ مكانَه يزيد بن أبي مُسلم فكنت كمن سَقط منه درهم وأصاب ديناراً‏.‏
وكان الوليدُ يقول‏:‏ كان عبد الملك يقول‏:‏ الحجاج جِلْدة ما بين عينيّ وأنفي‏.‏
وأنا أقول‏:‏ إنه جلدةً وَجهي كُلّه‏.‏
قال‏:‏ ولما بلغ عمرَ بن عبد العزيز موتُ الحجاج خرج ساجداً‏.‏
وكان يدعو الله أن يكون موتُه على فراشه ليكَونَ أشدَ لعذابه في الآخرة‏.‏
أبو بكر بن عيّاش قال‏:‏ سُمع صياحُ الحجاج في قَبره فأتوا إلى يزيدَ بن أبي مُسلم فأخبروه فركب في أهل الشام فوَقف على قَبره فتسمّع فقال‏:‏ يرحمك الله يا أبا محمد فما تَدع القراءةَ حتى مَيِّتاً‏.‏
الرياشيّ عن الأصمعيّ قال‏:‏ أقبل رجلٌ إلى يزيدَ بن أبي مسلم فقال له‏:‏ إ نّي كنت أرى الحجاج في المنام فكنت أقول له‏:‏ أخبرني ما فعل الله بك قال‏:‏ قَتلني بكل قتيل قتلتُه قتلةً وأنا مُنتظر ما ينتظره الموحِّدون‏.‏
ثم قال‏:‏ رأيتُه بعد الحول فقلت له‏:‏ ما صَنع الله بك فقال‏:‏ يا عاضّ بَظر أمه سألتني عن هذا عامَ أول فأخبرتك فقال يزيدُ بن أبي مسلم‏:‏ أشهدُ أنك رأيت أبا محمد حقاً‏.‏
وقال الفرزدق يرثي الحجاجَ ليُرضي بذلك الوليدَ بن عبد الملك‏:‏ لِيَبْكِ على الحجّاج مَن كان باكياً على الدِّين مِن مستوحِش الليل خائف وأرمَلةٌ لما أتاها نَعِيُّه فجادت له بالواكفات الذَوارف وقالت لِعبْدَيها أنيخا فعجل فقد مات راعي ذَوْدنا بالتَنائف فليت الأكُفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف يُقَطَّعنَ إذ يَحْثِين فوق السفائف قال ابن عَيّاش‏:‏ فلقيتُ الفرزدق في الكوفة فقلت له‏:‏ أخبرني عن قولك‏:‏ ‏"‏ فليتَ الأكفَّ الدافنات ابن يوسف يقطعن ‏"‏ ما معناك في ذلك فقال‏:‏ وددتُ والله أنّ أرْجُلهم تُقطع مع أيديهم‏.‏
قال ابنُ عَيْاش‏:‏ فلما هلك الوليد واستُخلف سليمانُ استعملَ يزيدَ بن المُهلَّب على العراق وأمره بقتل آل أبي عَقيل فقتلهم فأنشأ الفرزدق يقول‏:‏ لئن نَفَّر الحجاجَ آلُ مُعتِّب لَقُوا دَوْلة كان العدوُّ يُدالُها لقدْ أصبح الأحياءُ منهم أذًلة وموتاهُمُ في النار كُلْحاً سِبالُها وكانوا يرون الدائراتِ بغيْرهم فصارَ عليهم بالغداة انتقالُها وكُنّا إذا قُلنا اتق الله شمَّرت به عزّة لا يُستطاع جِذالُها أْلكني مَن كان بالصِّين أورمتْ به الهندَ ألواح عليها جلالُها هَلُمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا فقد مات عن أرض العراق خَبالُها ألا تَشكُرون الله إذ فَكِّ عنكُم أَداهمَ بالمَهديّ صُمًّا قِفالُها وشِيمتْ به عنكم سيوفٌ عليكًم صباحَ مَساء بالعذاب استلالُها وإذ أنتُم مَن لم يَقُل أنا كافر تردّى نهاراً عَثرةً لا يُقالُها قال ابن عَيَّاش‏:‏ فقلت للفرزدق‏.‏
ما أدري بأي قَوليك نَأخذ أبمَدحك في الحجاج حياته أم هَجْوِك له بعد موته قال‏:‏ إنما نكون مع أحدهم ما كان الله معه فإذا تخلّى عنه تخلّينا عنه‏.‏
ولما مات الحجاجُ دخل الناسُ على الوليد يعزونه ويُثْنون على الحجاج خيراً وعنده عمرُ بن عبد العزيز فالتفت إليه ليقول فيه ما يقول الناس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين وهل كان الحجاجُ إلا رجلاً منا فرضيها منه‏.‏
أخبار البرامكة قال أبو عثمان عمرو بن بَحر الجاحظ‏:‏ حدّثني سهلُ بن هارون قال‏:‏ والله إن كانوا سَجّعوا الطُب وقرضوا القريض لعيالٌ على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى‏.‏
ولو كان كلامٌ يُتصوَّر دُرا أو يُحيله المنطق السريّ جوهراً لكان كلامَهما والمُنتقى من لَفظهما‏.‏
ولقد كان مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كُتبه فدمين عَيِيين وجاهليين أًميين ولقد عمرتُ معهم وأدركتُ طبقة المُتكلمين في أيامهم وهم يَرون أنَّ البلاغة لم تُسْتكمل إلا فيهم ولم تكُن مقصورةً إلا عليهم ولا انقادت إلا لهم وأنهم مَحْض الأنام ولُباب الكرام ومِلح الأيام عِتْقَ مَنظر وجَوْدَة مَخبر وجَزالة مَنطق وسُهولة لفظ ونَزاهة نفس وأكتمال خِصال حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم والمأثور من خِصالهم كثيرَ أيام سواهم مِن لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصُّور وانبعاث أهل القبور حاشى أنبياءِ الله المُكرّمين وأهل وَحيه المُرسلين لما باهتْ إلا بهم ولا عَوّلت إلا عليهم‏.‏
ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم وكريم أعْرَاقهم وسَعة آفاقهم ورَوْنق سِياقهم ومَعْسول مَذاقهم وبَهاء إشراقهم ونَقاوة أعْراضِهم وتَهذيب أغْراضهم واكتمال الخير فيهم في جَنب محاسن الرشيد كالنُّقطة في البحر والخَرْدلة في المَهْمة القفر‏.‏
قال سهل بن هارون‏:‏ إنّي لأحصِّل أرزاقَ العامة بين يدي يحيى بن خالد في في بناء خلابه داخل سُرادقه وهو مع الرَّشيد بالرقة وهو يَعقدها جُملاً بكفه إذ غشيتْه سآمة وأخذته سِنة فغلبته عيناه فقال‏:‏ ويْحَك يا سهل‏!‏ طرق النومُ شَفْريّ وحَلَّت السِّنة جَفْنيّ فما ذاك قلت ضيفٌ كريم إنْ قَرَّبته رَوَّحك وإن مَنعته عَنّتك‏.‏
وإن طردته طَلبك وإن أقصيته أَدركك وإن غالبتَه غَلبك‏.‏
قال‏:‏ فنام أقلّ من فُواق بكيه أو نَزْع من رَكية ثم انتبه مذعوراً فقال‏:‏ يا سهل لأمرٍ ما كان والله قد ذَهب مُلْكنا ووَلّى عِزًّنا وانقضت أيامُ دولتنا‏.‏
قلت‏:‏ وما ذاك أصلح الله الوزير قال‏:‏ كأن مُنشداً أنشدني‏:‏ كأن لم يَكُن بين الْحَجونِ إلى الصفا أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر فأجبتُه من غير رويَّة ولا إجالة فِكْرة‏:‏ بلى نحنُ كُنا أهلَها فأَبادنا صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ قال‏:‏ فوالله ما زلتُ أعرفها منه وأراها ظاهرةً فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مَقعدي بين يديه أكتبُ توقيعات في أسافل كُتبه لطلاِّب الحاجات إليه قد كلّفني إكمالَ معانيها وإقامة الوَزن فيها إذ وجدتُ رجلاً سعى إليه حتى ارتمى مُكباً عليه فرفع رأسَه فقال‏:‏ مهلاً ويحك‏!‏ ما اكتتم خير ولا استَتر شرِّ‏.‏
قال‏:‏ قَتل أميرُ المؤمنين جعفراً الساعة‏.‏
قال‏:‏ أوقد فعل قال سهل بن هارون‏:‏ فلو انكفأت السماءُ على الأرض ما زاد‏.‏
فتبرأ مِنهم الحميم واستبعد عن نسبهم القريب وجَحد ولاءَهم المولى‏.‏
ولقد اعتبرت لفقدهم الدُّنيا فلا لسان يخطِر بذِكْرهم ولا طَرْف ناظِر يُشير إليهم‏.‏
وضَم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضلَ ومحمداً وخالداً بنيه وعبد الملك ويحيى وخالداً أبناء جعفر بن يحيى والعاصي ومزيداً وخالداً ومعمراً بني الفضل ابن يحيى ويحيى وجعفراً وزيداً بني محمد بن يحيى وإبراهيم ومالكا وجعفراً وعمر ومعمراً بني خالد بن يحيى ومن لَفّ لفهم أوهَجس بصَدره أمل فيهم‏.‏
وبعث إليّ الرشيدُ‏.‏
فوالله لقد أعجلتُ عن النظر فلبست ثياب أحزاني وأعظمُ رَغْبتي إلى الله الإراحة بالسيف و ألا يُعبثَ بي عبث جعفر‏.‏
فلما دخلتُ عليه ومثلت بين يديه عَرف الذُّعر في تجرّض رِيقي وشُخوصي إلى السيف المَشهور ببَصري‏.‏
فقال‏:‏ إيه يا سهل مَن غمط نعمتي وتعدّى وصيتي وأنب مُوافقتي أعجلْته عُقوبتي‏.‏
قال‏:‏ فوالله ما وجدتُ جوابَها حتى قال لي‏:‏ لِيُفْرِخ رَوْعُك ويَسْكن جأشك وتَطبْ نفسك وتطمئنّ حواسك فإن الحاجة إليك قَرّبت منك وأبقت عليك بما يَبْسط مُنقبضك ويُطلق مَعْقولك فما اقتُصر على الإشارة دون اللِّسان فإنه الحاكم الفاصل والحُسام الباتر‏.‏
وأشار إلى مَصرع جعفر فقال‏:‏ قال سهل‏:‏ فوالله ما أعلمني أنّي عَييتُ بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ فما عَولت في الشُّكر إلا على تَقبيل باطن يديه ورِجْليه‏.‏
ثم قال‏:‏ اذهب فقد أحللتُك محلَّ يحيى ووهبُتك ما ضَمنته أفنيته وما حواه سُرادقه فأقبض الدواوين واحْص حِباءه وحِباء جعفر لنأمرك بقَبضه إن شاء اللّه‏.‏
قال سهل‏:‏ فكنتُ كمن نُشر عن كفن واخرج من حَبس‏.‏
وأحصيت حِباءهما فوجدتُه عشرين ألف دينار ثم قَفل راجعاً إلى بغداد وفرق البُرُد إلى الأمصار‏.‏
بقَبض أموالهم وغَلاتهم‏.‏
وأمر بِجيفة جعفر وجئتُه ففُصلت على ثلاثة جُذوع رأسُه في جِذع على رأس الجسر مُستقبِلَ الصرَّاة وبعض جسده على جذع بالجزيرة وسائره في جِذع على آخر الجسر الثاني ما يلي باب بغداد‏.‏
فلما دنونا من بغداد طلع الجِسرُ الذي فيه وجهُ جعفر واستقبلنا وجههُ واستقبلته الشمس فوالله لخِلتها تطلع من بين حاجبيه‏.‏
فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يَساره فلما نظر إليه الرشيد وكأنما قنى شعره وطل بنُورة بَشره اربدّ وجهه وأغضى بصره‏.‏
فقال عبد الملك بن الفضل‏:‏ لقد عَظُم ذنب لم يَسعه عفوُ أمير المؤمنين‏.‏
وقال الرشيد‏:‏ مَن بَرِد غيرَ مائه يَصْدر بمثل دائه ومن أراد فَهْم ذنبه يُوشك أن يقوم على مثل راحلته‏.‏
عليّ بالنّضاحات فنَضح عليه حتى احترق عن آخره وهو يقول‏:‏ لئن ذهب أثرُك لقد بقي خبرُك ولئن حُط قدرك لقد علا ذكرك‏.‏
قال سهل بن هارون‏:‏ وأمر بضَمّ أموالهم فوُجد من العشرين ألفَ ألفِ التي كانت مبلغ جِبايتهم اثنا عشرَ ألفَ ألفِ مكتوبٌ على بِدرها صُكوك مختومة بتفسيرها وفيما حَبوا بها فما كان منها حباء على غَريبة أو استطراف مُلحة تصدّق بها يحيى أثبت ذلك في دِيوانها على تواريخ أيامها‏.‏
فكان ديوانَ إنفاق واكتساب فائدة‏.‏
وقَبض من سائر أموالهم ثلاثين ألفَ ألفٍ وسِتَّمائة ألفٍ وستةً وسبعين ألفاً إلى سائر ضياعهم وغَلاتهم ودُورهم ورياشهم والدَقيق والجليل من مواعينهم فإنه لا يصف أقلّه ولا يَعرف أيسره إلا مَن أحصى الأعمال وعَرف مُنتهى الآجال‏.‏
وأبرزت حُرمه إلى دار الباتوقة بنت المهديّ فوالله ما علمتُه عاش ولا عِشْنَ إلا من صدقات مَن لم يزل متصدِّقاً عليه وما رأوا مثلَ موجدة الرشيد فيما يُعلم من ملك قبلَه على أحد مَلكه‏.‏
وكانت أمُ جعفر بن يحيى وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحطبة أرضعت الرشيدَ مع جعفر لأنه كان رُبي في حجرها وغُذي برَسْلها لأنّ أمه ماتت عن مَهده‏.‏
فكان الرشيدُ يُشاورها مُظهراً لإكرامها والتبرك برأيها وكان آلَى وهي في كَفالتها ألاّ يَحْجبها ولا استشفعَتْه لأحد إلا شَفَعها وآلت عليه أمُ جعفر ألاّ دخلت عليه إلا مَأذوناً لها ولا شَفعت لأحد لغَرض دُنيا‏.‏
قال سهل‏:‏ فكم أسير فكَّت ومُبْهم عنده فَتحت ومُستغلق منه فَرَّجت‏.‏
واحتجب الرشيدُ بعد قدومه‏.‏
فطلبت الإذن عليه من دار الباتوقة ومَتَّت بوسائلها إليه فلم يأْذن لها ولا أَمر بشيء فيها‏.‏
فلما طال ذلك بها خَرجت كاشفةً وجهها واضعةً لثامها مُحْتفيةً في مَشيها حتى صارت بباب قصر الرشيد‏.‏
فدخل عبدُ الملك بن الفضل الحاجب فقال‏:‏ ظِئْر أمير المؤمنين بالباب في حالة تَقْلب شماتةَ الحاسد إلى شَفقة أمَّ الواحدِ‏.‏
فقال الرشيدُ‏:‏ ويحك يا عبدَ الملك أوَ ساعية قال‏:‏ يا أمير المؤمنين حافية‏.‏
قال‏:‏ أدخلها يا عَبد الملك فرُب كَبد غَذتها وكُربة فَرَّجتها وعَوْرة سترتها‏.‏
قال سهل‏:‏ فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها وإسعافها بحاجتها‏.‏
فدخلت فلما نظر الرشيدُ إليها داخلةً مُحتفية قام مُحتفياً حتى تلقاها بين عَمد المجلس وأكبَّ على تَقبيل رأسها ومواضعِ ثَدْييها‏.‏
ثم أجلسها معه‏.‏
فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين أَيعدو علينا الزمان ويجفونا خوْفاً لك الأعوان ويَحردك عنا البهتان وقد ربيّتك في حِجري وأخذت برَضاعك الأمان من عدوي ودَهري فقال لها‏:‏ وما ذلك يا أم الرشيد قال سهل‏:‏ فآيسنى من رأفته بتَركة كُنيتهْا أخر ما كان أطمعني من برّه بها أولاً‏.‏
قالت‏:‏ ظِئْرك يحيى وأبوك بعد أبيك ولا أصفه بأكثر مما عَرفه به أميرُ المؤمنين من نَصيحته وإشفاقه عليه وتعرضه للحَتف في شأن مُوسى أخيه‏.‏
قال لها‏:‏ يا أم الرشيد أمر سبق وقَضاء حُم وغَضب من الله نَفذ‏.‏
قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين يَمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب‏.‏
قال‏:‏ صدقتِ فهذا مما لم يَمْحه اللّه‏.‏
فقالت‏:‏ الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين قال سهل ابن وإذا المَنيّة أنشبت أظفارَها ألفيتَ كل تميمة لا تَنفعُ فقالت بغير روّية‏:‏ ما أنا ليحيى بتَميمة يا أميرَ المؤمنين وقد قال الأول‏:‏ وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تَجد ذخراً يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ والكاظمين الغَيْظ والعافينَ عن النّاس والله يُحبُّ المُحسنين ‏"‏ فأَطرق هارون مليّاً ثم قال‏:‏ يا أم الرشيد أقول‏:‏ إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَد إليه بوَجْهٍ آخرَ الدَّهر تُقْبلُ فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين وأقول‏:‏ ستَقطع في الدّنيا إذا ما قَطعتَني يَمينك فانْظر أي كف تبدَّلُ قال هارون‏:‏ رضيتُ‏.‏
قالت‏:‏ فهَبْه لي يا أمير المؤمنين فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏
من ترك شيئاً للّه لم يُوجده الله فَقْدَه‏.‏
فأكبّ هارون ملياً ثم رَفع رأسه يقول‏:‏ للّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ‏.‏
قالت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏"‏‏.‏
وأذكُر يا أمير المؤمنين أليّتك‏:‏ ما استشفعتُ إلا شفَعتني‏.‏
قال‏:‏ واذكري يا أم الرشيد أليَّتَك أن لا شَفعت لمُقترف ذنباً‏.‏
قال سهل بن هارون‏:‏ فلما رأتْه صَرَّح بمَنعها ولاذ عن مَطلبها أخرجت حُقًّا من زَبَرْجدة خَضراء فوضعتْه بين يديه فقال الرشيد‏:‏ ما هذا ففَتحت عنه قفلاً من ذهب فأخرجت منه قَميصه وذؤابته وثَناياه قد غَمست جميع ذلك في المسك فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين أستشفع إليك وأَستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جَسدك وطَيَّب جوارحك ليحيى عبدِك‏.‏
فأخذ هارون ذلك فلَثمه ثم أستعبرَ وبكى بُكاء شديداً وبكى أهْل المجلس‏.‏
ومرّ البشيرُ إلى يحيى وهو لا يَظن إلا أ نّ البكاء رحمةَ له ورجوعٌ عنه فلما أفاقَ رَمى جميع ذلك في الحق‏.‏
وقال لها‏:‏ لحسناً ما حفظتِ الوديعة‏.‏
فقالت‏:‏ وأهل للمكافأة أنتَ يا أمير المؤمنين‏.‏
فسكتَ وقَفل الحق ودَفعه إليها وقال‏:‏ ‏"‏ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏"‏‏.‏
قالت‏:‏ والله يقول‏:‏ ‏"‏ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ‏"‏‏.‏
ويقول‏:‏ ‏"‏ وأَوفُوا بعَهد الله إذا عاهدتُم ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ وما ذلك يا أم الرشيد قالت‏:‏ ما أقسمتَ لي به أن لا تَحجبني ولا تَجبهني‏.‏
قال‏:‏ أ حب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه‏.‏
قالت‏:‏ أنصفتَ يا أمير المؤمنين‏.‏
وقد فعلتُ غيرَ مُستقيلة لك ولا راجعة عنك‏.‏
قال‏:‏ بكم قالت‏:‏ برضاك عمَّن لم يُسخطك‏.‏
قال‏:‏ يا أم الرشيد أما لي عليك من الحق مثلُ الذي لهم قالت‏:‏ بلى يا أمير المؤمنين أعزُّ عليّ وهم أحبُّ إليّ‏.‏
قال‏:‏ فتحكّمي في ثمنه بغيرهم قالت‏:‏ بلى قد وَهبتكه وجعلتُك في حِلّ منه وقامت عنه‏.‏
وبَقي مبهوتاً ما يُحير لفظة‏.‏
قال سهل‏:‏ وخرجتْ فلم تَعُد ولا والله ما رأيتُ ها عَبرة ولا سمعتُ لها أنه‏.‏
قال سهل‏:‏ وكان الأمين محمدُ بن زبيدة رضيعَ يحيى بن جعفر فمتَّ إليه يحيى بنُ خالد بذلك فوعد استيهاب أمه إياهم وتكلّمها لهم ثم شَغله اللهوُ عنهم‏.‏
فكتب إليه يحيى ويقال إنها لسليمان الأعمى أخي مُسلم بن الوليد وكان مُنقطعاً إلى البرامكة يقول‏:‏ يا مَلاذي وعِصْمتي وَعِمَادي ومُجيري من الخُطوب الشدادِ بكَ قام الرجاءُ في كلَّ قلب زاه فيه البلاءُ كل مَزاد إنما أنت نِعمة أعْقبتها نِعَم نفعُها لكلِّ العِباد وَعْدَ مولاك أتممنه فأبهى ال در ما زين حسنه بانعقاد ما أظلت سحائب اليأس إلا كان في كَشْفها عليك اعتمادي إن تراختْ يداك عنّي فُوَاقاً أكَلَتني الأيامُ أكلَ الجَراد وبعث بها إلى الأمين محمد فبعث بها الأمينُ إلى أمه زُبيدة فأعطتها هارون وهو في موضع لَذَته وعندَ إقبال أريحيته وتهيأت للاستشفاع لهم وعبّأت جواريها ومُغنياتها وأمرتهنَ بالقيام معها إذا قامت‏.‏
فلما فَرغ الرشيدُ من قراءتها لم يَنقض حَبوته حتى وقَّع في أسفلها‏:‏ عِظَم ذَنبك أمات خواطرَ العفو عنك ورَمى بها إلى زُبيدة‏.‏
فلما رأت توقيعَه علمت أنه لا يرجع عنه‏.‏
وقال بعض الهاشميِّين‏:‏ أخبرني إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن العباس قال‏:‏ كنتُ أساير الرشيدَ يوماً والأمينُ عن يمينه والمأمون عن شماله فأستْداني وقدَّمهما أمامه فسايرتُه فجعل يُحدَثني ثم بدأ يُشاورني في أمر البرامكة وأخبرني بما أَضمر عليه لهم وأنهم اْستوحشوه من أنفسهم وأنني عنده بالوضع الذي لا يَكْتمني شيئاً من أمرهم‏.‏
فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تَنْقلني من السعة إلى الضيق‏.‏
فقال الرشيد‏:‏ إلا أن تقول فإني لا أتهمك في نَصيحة ولا أِّخافُك على رأي ولا مَشورة‏.‏
فقلت‏:‏ يا أميرَ المؤمنين إني أرى نفاسَتك عليهم بما صاروا إليه من النَعمة والسِّعة ولك أن تأمر وتَنهى وهم عبيدٌ لك بإنباتك إياهم فهل يَصنعون ذلك كُلَه إلا بك قال - وكنتُ أحطِب في حبال البرامكة - فقال لي‏:‏ فضياعُهم ليس لولدِي مثلُها وتَطيب نفسي بذلك لهم فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّ الملك لا يَحسد ولا يَحْقد ولا يُنعم نِعمة ثم يُفسد نِعمته‏.‏
قال‏:‏ فرأيته قد كره قولي وزوى وجهه عني قال إسحاق فعلمت أنه سيوقع بهم ثم انصرفتُ فكتمت الخبرَ فلم يسمع به أحدٌ‏.‏
وتجنّبت لقاءَ يحيى والبرامكة خوفاً أن يُظن أنّي أُفضي إليهم بسرّه حتى قتلهم وكان أشدَّ ما كان إكراماً لهم‏.‏
وكان قتلُهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم‏.‏
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعْتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم فبعث إلى منكة الهِندي‏.‏
فقال له ماذا ترى في هذه العِلة فقال منكة‏:‏ داءٌ كبير دواؤه يسير والصبر أيسر‏.‏
وكان مُتفنّناً‏.‏
فقال له يحيى‏:‏ ربما ثَقُل على السّمْع خَطْرة الحق به‏.‏
وإذا كان ذلك كذلك كان الهجرُ له ألزمَ من المُفاوضة فيه‏.‏
قال منكة‏:‏ لكنني أَرى في الطالع أثراً والأمرُ فيه قريب وأنت قسيم في المَعرفة وربما كانت صورة النجم عقيمةً لا نتاج لها ولكنّ الأخذَ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين‏.‏
قال يحيى‏:‏ الأمور مُنصرفة إلى العواقب وما حُتم فلا بدّ أن يَقع والمَنعة بمُسالمة الأيام نُهزة فاقْصِد لما دعوتُك له من هذا الأمر المَوجود بالمِزاج‏.‏
قال منكة‏:‏ هي الصفواءُ مازجتْها مائيةُ البلغم فحدَث لذلك ما يَحدث من اللهب عند مُماسّة رطوبة الماء من الأشْتغال‏.‏
فخُذ ماء الرمان فدُف فيه إهْلِيلَجة سوداء تُنهضك مجلساً أو مجلسين ويَسْكن ذلكَ التوقدّ إن شاء الله‏.‏
فلما كان من أمرهم ما كان تلطّف منكَة حتى دخل الحبس فوجد يحيى قاعداً على لبْد والفضلُ بين يديه يَخْدمه فاسْتعبر منكة باكياً وقال‏:‏ كنتُ ناديتُ لو أسرعتَ الإجابة‏.‏
قال له يحيى‏:‏ تراك كنتَ قد علمتَ من ذلك شيئاً جهلته قال‏:‏ كلا ولكن كان الرجاء للسلامة بالبراءةَ من الذنب أغلبَ من الشّفق وكان مُزايلة القَدْر الخَطير عنَّا أقلَّ ما تُنقَض به التُّهمَة فقد كانت نِقْمة أرجو أن يكون أولها صَبراً وأخرها أجراً‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في هذا الداء قال منكة‏:‏ ما أرى له دواء أنفعَ من الصبر ولو كان يُفدى بملْك أو بمُفارقة عضو كان ذلك مما يَجب لك‏.‏
قال يحيى‏:‏ قد شكرتُ لك ما ذكرت فَإِن أمكنك تَعاهُدَنا فافْعل‏.‏
قال منكة‏:‏ لو أمكنني تخليفُ الرُّوح عندك ما بَخِلْتُ به إذ كانت الأيام تَحْسن بسلامتك‏.‏
وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد‏:‏ لأمير المؤمنين وخليفة المهديين وإمام المُسلمين وخليفة ربّ العالمين‏.‏
من عبْد أسلمتْه ذنوبُه وأوْبقته عيوبه وخَذله شقيقُه ورَفضه صديقهُ وما به الزمان ونَزل به الحِدْثان فعالج البُؤس بعد الدَّعة وأفترش السُّخط بعد الرضا وأكتحل بالسًّهاد بعد الهُجود ساعته شهر وليلته دهر قد عاين الموتَ وشارف الفَوْت جزعاً لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفاً على ما فات من قُربك لا على شيء من المَواهب لأن الأهل والمالَ إنما كانا لك وبك وكان في يديَّ عارية والعارية مردودة‏.‏
وأما ما أصبت به من ولدي فبذَنبه ولا أَخشى عليك الخطأ في أمره ولا أن تكون تجازت به فوق خدِّه‏.‏
تفكر في أمري جعلني الله فداك ولْيَمل هواك بالعفو عن ذَنب إن كان فمِن مثِلي الزَّلل ومِن مثلك الإقالة وإنما اعتذر إليك بإقراري بما يجب به الإقرار حتى تَرضى فإذا رضيت رجوتُ إن شاء الله أن يتبينّ لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعدَه ذنبٌ أن تَفْغره‏.‏
مدَّ الله في عمرك وجعل يومي قبل يومك‏.‏
وكتب إليه بهذه الأبيات‏:‏ قل للخَليفة ذي الصَّني عة والعَطايا الفاشِيَة وابنِ الخلائِف من قُري ش والمُلوك العالية إنّ البَرامكة الّذي ن رمُوا لدَيْك بداهية فكأنهم ممّا بهم أعجاز ُنَخْل خاوية عَمَّتهم لك سَخطة لم تبق منهم باقية بعد الإمارة والوزا رة والأُمور الساميه ومنازل كانت لهم فوق المَنازل عالِيه
أضحَوْا وجُلَّ مُناهم منك الرِّضا والعافيه يا من يودُّ لي الرَّدى يَكْفيك منيَ ما بيه يكفيك ما أبصرتَ من ذلِّي وذُل مَكانِيه وبُكاء فاطمةَ الكئي بة والمَدامع جاريه ومَقالها بتوجّعٍ يا سَوْأتي وشَقائيه مَن لي وقد غَضب الزما نُ على جَميع رِجاليه يا لهفَ نفسي لهفها ما للزّمانِ وماليه يا عطفة المَلك الرِّضا عُودي علينا ثانيه فلم يكن له جواب من الرشيد‏.‏
وأنت على الأثر والله حَكم عَدْل وستقدم فتعلِم‏.‏
فلما ثَقُلَ قال للسجان‏:‏ هذا عهدي توصله إلى أمير المؤمنين فإنه وليّ نعمتي وأحقُّ من نفّذ وصيّتي‏.‏
فلما مات يحيى أوصل السجانُ عهدَه إلى الرشيد‏.‏
قال سهل بن هارون‏:‏ وأنا عند الرشيد إذ وصلتْ الرقعةُ إليه‏.‏
فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أَدري لمن الرُّقعة فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا أَكْفيك قال‏:‏ كلا إني أخافُ عادةَ الرّاحة أن تُقوِّي سلطان العجز فيحكم بالغَفلة ويقضي بالبلادة ووقّع فيها‏:‏ الحَكم الذي رضيتَ به في الآخرة لك هو أعدى الخُصوم عليك وهو مَن لا يُنقض حُكمه ولا يُردّ قضاؤه‏.‏
قال‏:‏ ثم رَمى بالصكّ إليّ فلما رأيتُه علمت أنه ليحي وأنّ الرشيدَ أراد أن يُؤثر الجوابَ عنه‏.‏
وقال دِعبل يَرثي بنيِ برمك‏:‏ ولما رأيتُ السيفَ جَلَل جعفرا ونادَى مُنادٍ للخليفة في يَحيى بكيتُ على الدُّنيا وأيقنت أنما قُصارى الفتى يوماً مُفارقةُ الدنيا وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك‏:‏ هَدَا الخالُون عن شَجوِي ونامُوا وعَيْنيَ لا يُلائمها المنامُ وما سَهري بأنّي مستهام إذا سهر المُحِب المُستهام أصبت بسادةٍ كانوا عُيوناً بهم نُسقى إذا انقطع الغَمام فقلتُ وفي الفؤاد ضرامُ نار وللعَبرات من عَينيِ انسجام على المَعروف والدُّنيا جميعاً ودَوْلةِ آل بَرمك السلام جَزعتُ عليك يا فضل بنَ يحيى ومَن يجزع عليك فلا يُلام هَوَت بك أنجُم المَعروف فينا وعَزّ بفَقدك القومُ اللئام وما ظَلم الإله أخاك لكنْ قضاء كان سبّبه اجترام عِقابُ خليفة الرَّحمن فَخْر لمن بالسيف صَبّحه الحِمام عَجبتُ لما دها فضلَ بنَ يحيى وما عَجَبِي وقد غَضِب الإمام جَرى في اللّيل طائرُهم بنَحْس وصَبَّح جعفراً منه اصطلام ولم أرَ قبل قَتلك يابن يَحيى حُساماً قَدّه السيفُ الحُسام بُرين الحادثات له سِهامًا فغالتْه الحوادثُ والسِّهام لِيَهْن الحاسدين بأنّ يحيى أسيرٌ لا يَضيم ويستضام أبا العبَّاس إنّ لكُل هَمًّ وإنْ طال انقراض وانصرام أرى سَبب الرضا وله قَبول على الله الزيادةُ والتَّمام وقد آليتُ فيه بصَوم شهر فإن تَمّ الرِّضا وَجب الصيام وقد آليتُ مُعتزما بنَذْرٍ ولى فيما نذرتُ به اعتزامُ بأنْ لا ذُقتُ بعدكُم مُداما ومَوتي أن يُفارقني المُدام أألهو بعدكم واقرّ عَيناً عليَ اللَهوُ بعدكم حَرام وكيف يَطيب لي عيش وفَضل أسيرٌ دونه البَلد الشآم وجَعفرُ ثاوياً بالجسر أبلت محاسنَه السمائمُ والقَتام أمُرُّ به فيَغْلبني بكائي ولكنّ البُكاء له اكتتام أقول وقُمت مُنتصباً لديه إلى أن كاد يَفْضَحني القِيام أمَا والله لولا خوفُ واشٍ وعينِ للخليفة لا تنام لَثَمْنا رُكن جِذْعك واستَلمنا كما لَلناس بالحَجَر استلام ما برْمكيٌّ بعده تَقِف الظُّنون على وَفائه أنى وقَصْر البرمك يّ إلى انتكاثِ من شَقائه فلقد رفعتَ لجعفرٍ ذِكْرين قَلاَ في جَزائه فارفع ليَحيى مثلَه ما العُود إلا مِن لِحائه وأخضِب بصَدْر مُهنَّد عُثنون يَحيىِ مِن دِمائه إبراهيم بن المهديّ قال‏:‏ قال لي جعفرُ بن يحي يوماً إنني استأذنتُ أميرَ المؤمنين في الحِجامة وأردتُ أن أخلو بنفسي وأفِرَّ من أشغال الناس وأتوحَّد فهل أنت مُساعدي قلتُ‏:‏ جعلني الله فِداك أنا أسعد بمُساعدتك وأنسُ بمُخالاتك‏:‏ فقال‏:‏ بَكِّر إلى بكور الغُراب‏.‏
قال‏:‏ فأتيتُ عند الفَجر الثاني‏:‏ فوجد تُ الشَّمعة بين يديه وهو قاعدٌ ينتظرني للمِيعاد‏.‏
قال‏:‏ فصلّينا ثم أفضنا في الحديث حتى أتى وقت الحِجامة فأتى الحجَّام فَحجمنا في ساعة واحدة‏.‏
ثم قُدِّم إلينا الطعام فَطعِمنا‏.‏
فلما غَسلنا أيدينا خُلع علينا ثياب المنادمة وضمِّخنا بالخَلوق وظَلِلنا بأسرَ يوم مَرّ بنا‏.‏
ثم إنه تذكَّر حاجة فدعا الحاجب‏.‏
فقال له‏:‏ إذا جاء عبدُ الملك القَهْرمان فَأذن له فنسي الحاجب وجاء عبدُ الملك ابن صالح الهاشمي على جَلالته وسنّه وقدره وأدبه فأذِن له الحاجب‏.‏
فما راعنا إلا طَلعة عبدُ الملك بن صالح فتغيّر لذلك وجهُ جعفر بن يحيى وتَنغّصِ عليه ما كان فيه‏.‏
فلما نَظر إليه عبدُ الملك على تلك الحالة دعا غلامَه فدَفع إليه سيفه وسَواده وعِمامته ثم جاء فوَقف على باب المجلس فقال‏:‏ اصنعوا بنا ما صَنعتم بأنفسكم‏.‏
قال‏:‏ فجاء الغلامُ فطَرح عليه ثيابَ المُنادمة ودعا بطَعام فطَعم ثم دعا بالشَّراب فشرب ثلاثاً ثم قال‏:‏ ليخفِّف عنّي فإنه شيء ما شربتُه قطُّ‏.‏
فتهلَّل وجهُ جعفر فرحاً‏.‏
وقد كان الرشيد حاور عبدَ الملك على المُنادمة فأَبى ذلك وتنزه عنه‏.‏
ثم قال له جعفر بن يحيى‏:‏ جَعلني الله فداك قد تفضَّلت وتطوّلت وأسعدتَ فهل من حاجة تَبْلغها مقدرتي وتُحِيط بها نعمتي فأقضِيَها لك مكافأة لما صنعت قال‏:‏ بلى إنَّ قلبَ أمير المؤمنين عاتب عليّ فتسأله الرِّضا عنّي‏.‏
قال‏:‏ قد رَضي عنك أميرُ المؤمنين‏.‏
ثم قال‏:‏ وعليّ أربعةُ آلاف دينار‏.‏
قال‏:‏ هي حاضرة ولكن من مال أمير المؤمنين أحبُّ إليَ من مالي‏.‏
قال‏:‏ وابني إبراهيم أحبُّ أن أ شُد ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ قد زَوَّجه أميرُ المؤمنين ابنَتَه عائشة الغالِية‏.‏
قال‏:‏ وأحبُ أن تَخْفِق الألويةُ على رأسه بولاية‏.‏
قال‏:‏ قد ولاَه أميرُ المؤمنين مِصر‏.‏
قال‏:‏ فانصرَف عبدُ الملك ونحن نَعجب من إقدام جعفر على الرَّشيد من غير اسْتئذان‏.‏
فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين ودَخل جعفر فلم يَلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك فعقد له النِّكاح وحُملت البِدَر إلى عبد الملك وكُتب سِجلّ إبراهيم على مِصر‏.‏
وخرج جعفر فأشار إلينا فلما صار إلى منزله ونحن خلفَه نَزل ونزلنا بنزوله‏.‏
فالتّفت إلينا فقال‏:‏ تعلَّقت قلوبُكم بأوَّل أمر عبد الملك فأحببتُم أن تعرفوا آخره وإني لما دخلتُ على أمير المُؤْمنين ومَثلت بين يديه سألني عن أمْسي فابتدأتُ أحدثه بالقِصَّة من أولها إلى آخرها فجعل يقول‏:‏ أحسنَ واللّه‏!‏ أحسن والله ثم قال‏:‏ فما أجبتُه فجَعلت أخبره وهو يقول في كل شيء‏:‏ أحسنت‏.‏
وخرج إبراهيم والياً على مصر‏.‏
من أخبار الطالبيين حدّث عبدُ العزيز بن عبد الله البَصريّ عن عثمان بن سَعيد بن سَعد المدَنيّ قال‏:‏ لما وَلى الخلافةَ أبو العبَّاس السفّاح قَدِم عليه بنو الحَسن بن عليّ ابن أبي طالب فأعطاهم الأموال وقَطع لهم القطائع ثم قال لعبد الله بن الحَسن‏:‏ احتكمْ عليّ قال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين بألف ألف دِرْهم فإني لم أرها قَطُّ‏.‏
فاْستَقْرضها أبو العبَّاس من ابن مُقَرِّن الصَّيرفيّ وأَمر له بها - قال عبدُ العزيز‏:‏ لم يكن يومئذ بيتُ مال - ثم إ نّ أبا العباس أتى بجَوهر مَروان فجعل يُقلِّبه وعبد الله بن الحَسن عنده فَبَكى عبدُ الله‏.‏
فقال له‏:‏ ما يُبكيك يا أبا محمد قال‏:‏ هذا عند بنات مَروان وما رأت بناتُ عمك مثلَه قطّ‏.‏
قال‏:‏ فحبَاه به‏.‏
ثم أمر بنَ مُقرِّن الصّيرفيّ أن يَصل إليه ويَبتاعه منه‏.‏
فاشْتراه منه بثمانين ألف دينار‏.‏
ثم حَضر خروجُ بني حسن فأرسل معهم رجلاً من ثِقاته وقال له‏:‏ قُم بإنزالهم ولا تَأن في إلطافهم‏.‏
وكلما خلوتَ معهم فأَظْهر الميل إليهم والتحاملَ علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحقُّ بالأمر منّا وأحْص لي ما يقولون وما يكون منهم في مَسيرهم ومَقْدَمهم‏.‏
ومما كان خَشَّن قلب أبي العبّاس حتى أساء بهم الظن أنه لما بَنى مدينةَ الأنبار دخلَها مع أبي جعفر أخيه وعبد الله بن الحسن وهو يسير بينهما ويُريهما بُنيانه وِما أقام فيها من المَصانع والقُصور فظهرت من عبد الله بن الحسن فَلْتة فجَعل يتمثَل بهذه الأبيات‏:‏ ألم ترجَوْ شناً قد صار يَبْني قصوراً نَفْعُها لبني نُفَيْلَهْ يُؤَمِّل أن يُعِمِّر عُمْر َنُوح وأَمرُ الله يَحْدث كلّ لَيله قال‏:‏ فتغيَر وجهُ أبي العبَّاس‏.‏
فقال له أبو جعفر‏:‏ أتراهما ابنيك أبا محمد والأمر إليهما صائر لا محالة قال‏:‏ لا والله ما ذهبتُ هذا المذهب ولا أردتُه ولا كانت إلا كلمة جرتْ على لساني لم ألقِ لها بالاً‏.‏
فأوحشتْ تلك الكلمة أبا العباس‏.‏
فلما قَدِم المدينةَ عبد الله بن حسَن اجتمع إليه الفاطميون فجعل يُفرَق فيهم الأموالَ التي بَعث بها أبو العباس فعظُم بها سرورُهم‏.‏
فقال لهم عبد الله بن الحسن‏:‏ أفرحتم قالوا‏:‏ وما لنا لا نَفرح بما كان مَحجوباً عنَا بأيدي بني مَروان حتى أتى الله بقَرابتنا وبني عَمِّنا فأصاروه إلينا‏.‏
قال لهم‏:‏ أفَرَضيتُم أن تنالوا هذا من تحت أيدي قومٍ آخرين فخرج الرجلُ الذي كان وكَّله أبو العباس بأخبارهم فأخبره بما سمع من قولهم وقولِه فأخبر أبو العبّاس أبا جعفر بذلك فزادت الأمور شرّاً‏.‏
ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده فبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله‏:‏ أن أعط الناسَ في أيديهم ولا تَبعث إلى أحدٍ بعطائه وتَفقّد بني هاشم ومَن تخلَف منهم ممّن حضر وتحفّظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن‏.‏
ففعل وكتب‏:‏ إنه لم يتخلف أحدٌ عن العطاء إلا محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن فإنهما لم يَحضرُا‏.‏
فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن وذلك مبتدأ سنة تِسْع وثلاثين ومائة يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويُخبره أنه غير عاذره‏.‏
فكتب إليه عبدُ اللهّ‏:‏ إنه لا يَدري أين هما ولا أين توَجها وإن غيبَتهما غيرُ معروفة‏.‏
فلم يلبث أبو جعفر وكان قد أذكى العُيون ووَضع الأرصاد حتى جاءه كتابٌ من بعض ثقاته يُخبره أنّ رسولاً لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخُراسان يَسْتدعيهم إليهم‏.‏
فأمر أبو جعفر برِسولهم فأتي به وبكُتبه فردها إلى عبد الله بن الحسن بطَوابعها لم يَفتح منها كتاباً وردّ إليه رسولَه وكتب إليه‏:‏ إني أتيت برسولك والكُتب التي معه فرددتُها إليك بطوابعها كراهيةَ أن أطلع منها على ما يُغَيِّر لك قلبي فلا تَدْعُ إلى التقاطع بعد التواصل ولا إلى الفُرقة بعد الاجتماع وأظْهِر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيثُ تحب من الولاية والقرابة وتَعظيم الشرف‏.‏
فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصَّل في كتابه ويُعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد الْتئامه‏.‏
ثم جاءه كتابُ ثقة من ثقاته يذكر أنَ الرسول بعينه خَرج بالكُتب بأعيانها على طريق البصرة وأنه نازل على فلان المُهلبي فإن أراده أميرُ المؤمنين فَلْيضع عليه رَصَده‏.‏
فوضع عليه أبو جعفر رَصده‏.‏
فأتي به إليه ومعه الكُتب فحَبس الرسولَ وأمضى الكُتبَ إلى خُراسان مع رسول من عنده من أهل ثقاته‏.‏
فقدمتْ عليه الجواباتُ بما كره واسْتبان له الأمرُ‏.‏
فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول‏:‏ أريد حياتَه ويُريد قتلي عذيرَك مِن خليلك من مُرادِ أما بعد فقد قرأتُ كُتبك وكُتب ابْنيك وأنفذتُها إلى خُراسان وجاءتني جواباتُها بتَصديقها وقد استقرّ عندي أنك مُغَيبٌ لابنيك تعرف مكانَهما فاظْهِرهما إليّ فإن لك في أن أعظم صِلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتْهما قرابتُهما فتدارك الأمورَ قبل تفاقُمها‏.‏
فكتب إليه عبد الله بن الحسن‏:‏ وكيف أريد ذاك وأنت منى وزَنْدُك حين تُقْدح من زِنادِي وكيف أريد ذاك وأنت منِّي بمَنزلة النياط من الفُؤاد وكتب إليه‏:‏ إنه لا يدري أين توجها من بلاد اللّه ولا يَدري أين صارا وإنَّه لا يعرف الكُتب ولا يشك أنها مُفتعلة‏.‏
فلما اخْتَلفت الأمور على أبي جعفر بَعث سَلْم بن‏.‏
قُتيبة الباهليّ وبَعث معه بماله وأمره بأمره وقال له‏:‏ إنّي إنما أدخلك بين جلدي وعظمي فلا توطئني عَشْواء ولا تُخْف عني أمراً تَعلمه‏.‏
فخرج سَلْم بن قُتيبة حتى قَدِم المدينةَ وكان عبد الله يُبسط له في رُخام المنبر في الروضة وكان مَجلسه فيه‏.‏
فجَلس إليه وأظهر له المَحبة والمَيل إلى ناحيته ثمِ قال له حين أنس إليه‏:‏ إنَ نفراً من أهل خُراسان وهم فلان وفلان - وسمّى له رجالاً يعرفهم ممن كان يُكاتب ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرُهم - قد بَعثوا إليك معي مالاً وكتبوا إليك كتاباً‏.‏
فقَبل الكتاب والمال وكان المالُ عشرةَ آلاف دينار ثم أقام معه ما شاء الله حتى أزداد به أنساً وإليه استنامة ثم قال له‏:‏ إني قد بُعِثتُ بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد وإلى ولي عهده إبراهيم وأمرتُ أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما فإن أوصلتَني إليهما وأدخلتَني عليهما أوصلتُ إليهما الكتابين والمال ورحلتُ إلى القوم بما يُثلج صدورَهم وتَقبله قلوبهم فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة وإنْ كان أمرهما مظلماً ولِم تكن تعرف مكانهما لم نخاطر بدينهم وأموالهم ومُهجهم‏.‏
فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تَفْسد عليه من حيث يرجو صلاحها إلا بإِيصاله إليهما وأظهارهما له أوْصله فدفعَ الكتابين مع أربعين ألف درهم ثم قال‏:‏ هذا محمد وهذا إبراهيم‏.‏
فقال لهم‏:‏ إنَ من ورائي لم يَبعثوني ولهم ورائي غاية وليس مثلي ينصرَف إلى قوم إلا بجُملة ما يحتاجون إليه ومحمد إنما صار إلى هذه الخُطة ووجبت له هذه الدَّعوة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وها هنا من هو أقربُ من رسول الله رَحماً وأوجبُ حقّاً منه‏.‏
قال‏:‏ ومن هو قال‏:‏ أنت إلا أن يكون عندك ابنك محمد أثرٌ ليس عندك في نفسك‏.‏
قال‏:‏ فكذلك الأمرُ عندي‏.‏
قال له‏:‏ فإنَّ القومَ يَقتدون بك في جميع أمورهم ولا يُريدون أن يبذلوا دينَهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحُجة يرجون بها لمن قَتل منهم الشهادة فإن أنت خلعتَ أبا جعفر وبايعتَ محمداً اقتَدَوْا بك وإنْ أبيْتَ اقتَدَوا بك أيضاً في تَركك ذلك ثقةً بك لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَوْضعك الذي وَضعك الله فيه‏.‏
قال‏:‏ فإنّي أفعل‏.‏
فبايَعَ محمداً وخلع أبا جعفر‏.‏
وبايعه سَلْم من بعده وأخذ كُتبَه وكتبَ إبراهيم ومحمد وخرج‏.‏
فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسمُ فأخبره حقيقة الأمر ويقينه‏.‏
فلما دخل أبو جعفر المدينةَ أرسل إلى بني الحسن فجَمَعهم وقال لسَلْم‏:‏ إذا رأيتَ عبد الله عندي فقُم على رأسي وأشِرْ إليَ بالسلاح ففعل‏.‏
فلما رآه عبد الله سُقط في يده وتغيَّر وجهه‏.‏
فقال له أبو جعفر‏:‏ مالك أبا محمد أتعرفه قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين فاقِلْني وصلْتك رحم‏.‏
فقال له أبو جعفر‏:‏ هل علمتَ أنك تعرف موضع وَلَديك وأنه لا عُذر لك وقد باح السرُّ فأظهرهما لي ولك أن أصلَ رحمك ورَحمهما وأن أعظم ولايتهما وأعطيَ كلّ واحد منهما ألف ألفِ درهم‏.‏
فتراجعٍ عبد الله حتى انكفأ على ظهره وبنو حسن اثنا عشر رجلاً فأمر بِحبسهم جميعاً‏.‏
وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة وعَبّأ على القتال ولم يَشك أنَّ أهل المدينة سيُقاتلونه في بني حَسن فعبّأ ميمنة وميسرة وقَلْباً وتهيأَ للحرب وأجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مُعطياً يُعطون العطايا‏.‏
فلم يتحرك عليه منهم أحد ثم مَضى بهم إلى مكَة‏.‏
فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق خرج محمدُ بن عبد الله بالمدينة فكتب إليه أبو جعفر‏:‏ مِن عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله ‏"‏ إِنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏.‏
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ‏"‏‏.‏
ولك علي عهدُ الله وميثاقه وذمَّة الله وذمة نبيّه إن أنتُما أتيتُما وتُبتما ورَجعتما من قبل أن أقدرَ عليكما وأن يقع بيني وبينكما سَفك الدماء أن أؤمنكما وجميعَ ولدكما‏.‏
ومن شايعكما وتَابَعكما على دِمائكم وأموالكم وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال وأعطيكما ألفَ ألفِ درهم لكلِّ واحد منكما وما سألتما من الحوائج وأبوئكما من البلاد حيث شئتُما وأطْلِق من الحبس جميعَ ولد أبيكما ثم لا أتعقب واحداً منكما بذَنب سَلف منه أبداً‏.‏
فلا تُشمت بنَا وبك عدوّنا من قريش فإن أحببْتَ أن تتوثق من نفسك بما - عرضتُ عليك فوَجَّه إليَّ مَن أحببْتَ ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله والسلام‏.‏
فأجابه محمدُ بن عبد اللهّ‏:‏ من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد ‏"‏ طَسِم‏.‏
تلك آياتُ الكِتَاب المُبِين‏.‏
نَتْلو عليكَ مِن نبأ مُوسى وفِرْعوْن بالحقِّ لقوم يُؤْمنون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وما كانَوا يَحْذَرون ‏"‏‏.‏
وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضتَه فإنَّ الحقَّ معنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخَرجتم إليه بشِيعتنا وحَظيتم بفضلنا وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولايةَ ولده وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا وأنا لسنا من أبناء الظِّئار ولا من أبناء الطُّلقاء وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتّ به من القرابة والسابقة والفضل وأنا بنو أم أبي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم وأنّ الله اختارنا واخْتار لنا فولدنا من النبيّين أفضلُهم ومن الألف أوّلهم إسلاماً علي بن أبي طالب ومن النّساء أفضلُهن خديجة بنت خُويلد وأول مَن صلّى إلى القبلة منهن ومن البنات فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة ولدت الحَسن والحُسين سيدَي شباب أهل الجنة صلواتُ الله عليهما وأنَ هاشماً وَلد عليا مرتين وأنَّ عبد المطلب وَلد حسناً مرتين وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين وأني من أوسط بني هاشم نَسباً وأشرفهم أباً وأمّاً لم تُعْرِق فيّ العجم ولم تُنازع فيّ أمهاتُ الأولاد‏.‏
فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهليّة والإسلام حتى أختار لي في النار فأَنا ابنُ أرفع الناس درجةً في الجنّة وأهونهم عذاباً في النار وأبي خيرُ أهل الجنة وأبي خيرُ أهل النار فأنا ابن خير الأخيار وأبن خير الأشرار فلك اللّهُ إن دَخلتَ في طاعتي وأوجبتَ دَعْوتي أن أؤمِّنك على نَفسك ومالك ودَمك وكلِّ أمرٍ أحدثتَه إلا حداً من حُدود اللّه أو حقَّ امرئ مُسلم أو مُعاهد فقد علمتَ ما يلزمك من ذلك وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعَهد لأنك لا تُعطي من العهد أكثرَ مما أعطيتَ رجالاً قبلي‏.‏
فأيَ الأمانات تُعطيني‏:‏ أمانَ ابن هبيرة أو أمانَ عمك عبد الله بن عليّ أو أمانَ أبي مُسلم‏.‏
والسلام‏.‏
فكتب إليه أبو جعفر المنصور‏:‏ من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن أما بعد‏.‏
فقد بلغني كتابُك وفهمتُ كلامَك فإذا جُل فخرك بقَرابة النِّساء لتضل به الغوغاء‏.‏
ولم يَجعل الله النساءَ كالعُمومة والآباء ولا كالعَصبة الأولياء لأن الله جعل العمَّ أباً وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى‏.‏
ولو كان اختيارُ الله لهنّ علىِ قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِماً وأعظمَهن حقًا وأولَ مَن يدخل الجنة غداً ولكنّ اختيارَ الله لخَلقه على قدر عِلْمه الماضيِ لهم‏.‏
فأما ما ذكرتَ من فاطمة جدَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وولادتها لك فإنَ الله لم يَرزق أحداً من وَلدها دينَ الإسلام ولو أنَّ أحداً من ولدها رُزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكُل خَيْر في الدُّنيا والآخر ولكنّ الأمرَ لله يَختار لدِينه مَن يشاء‏.‏
وقد قال جل ثناؤه‏:‏ ‏"‏ إنكَ لا تَهْدِيِ مَن أحْبَبْتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَن يَشاء وهُو أعلمُ بالمُهتَدِين ‏"‏‏.‏
وقد بعثَ الله محمد صلى الله عليه وسلم وله عُمومة أربعة فأنزل الله عليه‏:‏ ‏"‏ وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقرَبين ‏"‏‏.‏
فَدعاهم فأنذرهم فأجابه اثنان أحدُهما أبِي وأبي عليه اثنان أحدُهما أبوك فقطع الله ولايتَهما منه ولم يَجعل بينهما إلا ولا ذمَة ولا مِيراثاً‏.‏
وقد زعمتَ أنك ابنُ أخفِّ أهل النار عذاباً وابنُ خير الأشرار وليس في الشرِّ خِيارٌ ولا فَخرَ في النار وسترد فتَعلم ‏"‏ وسَيعلم الذيِ ظَلمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنْقَلبون ‏"‏‏.‏
وأما ما فَخرتَ به من فاطمةَ أمّ عليّ وأنّ هاشماً ولد عليَّا مرتين وأنِّ عبد المطلب ولد الحسن مرتين وأن النبي صلى الله عليه وسلم وَلدك مرَّتين فَخيرُ الأولين الآخِرين رسوِلُ الله صلى الله عليه وسلم لم يَدله هاشمٌ إلا مرَّة واحدة ولا عبدُ المطلب إلاَ مرة واحدة‏.‏
وزعمت أنّك أوسطُ بني هاشم نَسَباً وأكرمُهم أباً وأمّاً وأنك لم تَلِدْك العَجم ولمِ تُعْرِق فيك أمَّهاتُ الأولاد فقد رأيتُك فَخرتَ على بني هاشم طُرًّا فانظُر أين أنت ويحك من الله غداً‏!‏ فإنك قد تعدّيت طَوْرك وفَخرت على مَن هو خيرٌ منك نفساً وأبا وأوّلاً وآخِراً‏:‏ فَخرتَ على إبراهيم ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل خيار ولدِ أبيك خاصة وأهلُ الفَضل منهم إلا بنو أمهات أولاد وما وُلد منكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من عليّ بن الحُسين وهو لأم ولد وهو خَيرٌ من جَدِّك حَسن بن حسن‏.‏
وما كان فيكم بعدَه مثلُ ابنه محمد بن عليّ وجدته أم ولد وهو خيرٌ من أبيك ولا مثلُ ابنه جَعفر وهو خيرٌ منك وجدّته أم ولد‏.‏
وأما قولُك‏:‏ إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يقول‏:‏ ‏"‏ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ‏"‏ ولكنكم بنو ابنتِه وهي امرأة لا تُحرز ميراثَاً ولا تَرث الوَلاء ولا يَحل لها أن تَؤُم فكيف توَرت بها إمامة ولقد ظَلمها أبوك بكُل وجه فأَخرجها نهاراً مرَّضها سِرّاً ودَفنها ليلاً‏.‏
فأبي الناس إلا تقديم الشيخين وتفضيلَهما‏.‏
ولقد كانت السُّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدَّ أبا الأم والخال والخالةَ لا يرثون‏.‏
وأما ما فَخرتَ به من عليِّ وسابقته‏.‏
فقد حضرتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ فأمر غيرَه بالصلاة‏.‏
ثم أخذ الناسُ رجلاً بعد رجل فما أخذه وكان في الستّة من أصحاب الشُّورى فتركوه كُلهم‏:‏ رفضه عبدُ الرحمن بن عوف وقاتله طَلحة والزبير وأبى سعدٌ بيعتَه وأغلق بابَه دونه وبايع معاويةَ بعده‏.‏
ثم طلبها بكلِّ وجه فقاتل عليها ثم حَكّم الحَكَمين ورضي بهما وأعطاهما عهدَ الله وميثاقَه فاجْتمعا على خَلْعه واخْتلفا في مُعاوية‏.‏
ثم قال جدُّكَ الحسن فباعها بِخرَق ودراهم ولحق بالحجاز وأسلم شيعتَه بيد مُعاوية ودَفع الأموالَ إلى غير أهلها وأخذَ مالاً من غير ولائه‏.‏
فإن كان لكم فيها حقّ فقد بِعْتموه وأَخذتُم ثمنَه‏.‏
ثم خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأتوا برأْسِه إليه‏.‏
ثم خرجتُم على بني أُمية فقتّلوكم وصَلّبكم على جُذوع النخل وأحرقوكم بالنِّيرانِ ونَفوكم من البُلدان حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان وقَتلوا رجالَكم وأسروا الصِّبْية والنِّساء وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام‏.‏
حتى خرجنا عليهم فَطلبنا بثأرِكم وأدْركنا بدمائكم وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم وأردنا إشراككم في مُلكنا فأبيتم إلا الخروجَ علينا‏.‏
وظننتَ ما رأيتَ من ذكرنا أباكَ وتَفصيلنا إياه أنّا نُقدمه على العبَّاس وحمزة وجَعفر وليس كما ظننْتَ ولكنّ هؤلاء سالمون مُسلّم منهم مُجتمع بالفضل عليهم‏.‏
وابتُلى بالحرب أبوكَ فكانت بنو أمية تَلعنه على المنابر كما تَلعن أهلَ الكفر في الصلاة المكتوبة فاحتججنا له وذكرنا فَضلة وعنَّفناهم وظَلِّمناهم فيما نالوا منه‏.‏
وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سقايةُ الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم وكانت للعبَّاس من بين إخوته وقد نازعَنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم نَزل نَليها في الجاهليّة والإسلام‏.‏
فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحد مِن بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غيرَ العبَّاس وحدَه فكان وارثَه من بين إخوته‏.‏
ثم طلب هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم فلم يَنله إلا ولدُه فالسقاية سقايتُنا وميراث النبيِّ صلى الله عليه وسلم ميراثُنا والخلافة بأيدينا فلم يبق فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه والسلام‏.‏
فلما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحَسن بالمدينة بايعه أهلُ المدينة وأهل مكّة‏.‏
وخرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في شهر رمضان فاجتمع الناسُ إليه فنَهض إلى دار الإمارة وبها سفيان بن محمد بن المهلّب فسلّم إليه البَصرة بغير قتال‏.‏
وأَرسل إبراهيمُ بن عبد الله بن الحسن إلى الأهواز جيْشاً فأخذها بعد قتال شديد وأرسلِ جيشاً إلى واسط فأَخذها‏.‏
ثم إن أبا جَعفر المَنصور جَهَّز إليهم عيسى بنَ موسى فَخرج إلى المدينة فلقيه محمدُ بن عبد الله فانهزم بأَصحابه وقُتل‏.‏
ثم مضى عيسى بنُ موسى إلى البصرة فلقى إبراهيمَ بن الحسن فقتله وبَعث برأْسه إلى أبي جعفر‏.‏
وقال رجل من أَهل مكّة‏:‏ كُنَّا جلوساً مع عمرو بن عُبيد بالمَسجد فأتناه رجلٌ بكتاب المَنصور على لسان مُحمد بن عبد الله بن الحَسن يَدعوه إلى بيعته فقرَأه ثم وَضعه‏.‏
فقال له الرسول‏:‏ الجواب‏.‏
فقال‏:‏ ليس له جواب قُل لصاحبك يَدعْنا نَجلس في الظلِّ ونَشرب من هذا الماء البارد حتى تأتيَنا آجالُنا‏.‏
مروان بن شجاع مولى بني أميَّة قال‏:‏ كنتُ مع إسماعيل بن عليّ بفارس أؤدب ولَده فلما لَقِيته المُبيِّضة وظفر بهم أتى منهم بأربعمائة أسير فقال له أخوه عبدُ الصمد وكان على شُرطته‏:‏ أضرب أعناقهم‏.‏
فقال ما تقول يا مروان قلت‏:‏ أصلح الله الأمير إنه أوَل مَن سَنِّ قِتال أهل القِبْلة عليُ بن أبي طالب فَرأى أن لا يُقتل أسير ولا يُجهز على جريح ولا يُتبع مولى‏.‏
قال‏:‏ خُذ بيعتَهم وخلّ سبيلَهم‏.‏
قيل لمحمد بن علي بن الحسين‏:‏ ما أقَل ولدَ أبيك قال‏:‏ إني لأعجبُ كيف وُلدُت له‏!‏ قيل له وكيف ذلك قال‏:‏ إنه كان يُصلي في اليوم والليلة ألف ركعة فمتى كان يَتفرَّغ للنساء ولما وَجَّه المَنصورُ عيسى بنَ موسى في مُحاربة بني عبد الله بن الحسن قال‏:‏ يا أبا موسى إذا صرتَ إلى المدينة فادْع محمدَ بن عبد الله بن الحسن إلى الطاعة والدُخول في الجماعة فإن أجابك فاقْبل منه وإن هَرب منك فلا تَتبعه وإن أبي إلا الحربَ فناجزْه واسْتعن بالله عليه فإذا ظفرتَ به فلا تُخيفنَّ أهلَ المدينة وعُمَهم بالعفو فإنهم الأصلُ والعشيرة وذُرَية المهاجرين والأنصار وجيران قَبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه وصيَّتي إياكَ لا كما أوصىَ به يزيدُ بن فعاوية مُسلمَ بن أبي عُقبة حين وجه إلى المدينة وأمرَه أن يَقتل مَن ظَهر له إلى ثنية الوَداع وأن يُبيحها ثلاثة أيام ففَعل‏.‏
فلما بلغ يزيدَ ما فعله تمثّل بقول ابن الزَبَعْري في يوم أحد حيث قال‏:‏ ليت أشياخِي ببَدرِ شَهِدُوا جَزَع الخَزْرج مِن وَقْع الأسَلْ ثم اكتُب إلى أهل مكة بالعَفو عنهم والصفح فإنهم آلُ الله وجيرانُه وسُكّان حَرمه وأمْنه ومَنبت القوم والعشيرة وعظّم البيتَ والحَرم لا تُلحِد فيه بظُلم فإنه حَرم الله الذي بَعث منه نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم وشرّف به آباءنا لتَشريف الله إيانا‏.‏
فهذه وصيتي لا كما أوصى به الذي وجه الحجاجَ إلى مكّة فأمره أن يَضع المَجانيق على الكَعبة وأن يُلحد في الحرم ألا لا يَجْهلنْ أحدٌ علينا فنجهَلَ فوِقَ جَهلاً لجاهلينا لنا الدُّنيا ومن أضحى عليها ونَبْطِش حين نَبْطش قادِرينا الرياشي قال‏:‏ قال عيسى بنُ موسى‏:‏ لما وجهني المنصور إلى المدينة حَرْب بني عبد الله بن الحسن جعل يُوصيني ويكثر‏.‏
فقلتُ‏:‏ يا أمير المؤمنين إلى كم توصيني إنِّي أنا السيفُ الحُسام الهِنْدي أكلتُ جَفني وفَريت غِمْدي فكُل ما تطلب منيعندي وقال مُعاوية يومًا لجُلسائه‏:‏ مَن أكرم الناس أباً وأمًا وجداً وجَدةً وعماً وعمَةً وخالاً وخالة فقالوا‏:‏ أميرُ المؤمنين أعلم‏.‏
فأخذ بيد الحسن بن عليّ وقال‏:‏ هذا أبوه علي بن أبي طالب وأمُّه فاطمة بنت محمد وجدّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم و جدَته خديجة وعمّه جعفر وعمَّته هالة بنت أبي طالب وخاله القاسم بن محمد وخالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم الرَّياشيّ عن الأصمعي قال‏:‏ لما خرج محمدُ بن عبد الله بن الحسن بالمدينة فبايعه أهلُ المدينة وأهلُ مكّة وخرج إبراهيمُ أخوه بالبصرة فتغلب على البصرة والأهواز وواسط قال سُديف بن مَيمون في ذلك‏:‏ إنا لنأمُل أن ترتد ألفتنا بعد التباعد والشَّحْناء والإحَن وتَنْقضي دولةٌ أحكامُ قادتها فيها كأحكام قَوْم عابدِي وَثَنِ فانهَض ببَيعتكم نَنهض بطاعتنا إنَّ الخلافةَ فيكم يا بَنىِ حَسن لا عَزّركنُ نِزارٍ عند نائبة إنْ أسلموك ولا رُكنٌ لذي يَمنِ ألست أكرمَهم يوماً إذا انتسبوا عُوداً وأنقاهم ثوباً من الدَرِن وأعظمَ الناس عند الله منزلةً وأبعدَ الناس من عَجز ومن أفن فلما سمع أبو جعفر هذه الأبيات استُطير بها‏.‏
فكتب إلى عبد الصمد بن علي أن يأخذ سُديفاً فيدفنَه حياً ففعل‏.‏
قال الرياشي‏:‏ فذكر هذه الأبيات لأبي جعفر شيخ من أهل بغداد‏.‏
قال‏:‏ هذا باطل الأبيات لعبد الله بن مصعب وإنما كان سببُ قتل سُديف أنه قال أبياتَاً مُبهمة وكتب بها إلى أبي جعفر وهي هذه‏:‏ أسرفت في قَتل الرعيّة ظالماً فاكفف يدَيك أضلَّها مَهديُها فلتأتينّ رايةٌ حسنيه جرارة يقتادها حسنيها فالتفت أبو جعفر فقال لخازم بن خزيمة‏:‏ تهيأ بهيئة السفر متنكِّراً حتى إذا لم يبق إلا أن تَضع رجلَك في الغَرز اثتني ففعل‏.‏
فقال له‏:‏ إذا أتيت المدينة فادخل مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم فدَع سارية وثانية فإنك تنظر عند الثالثة إلى شيخ آدَم يُكثر التلفت طويل كبير فاجلس معه فتوجع لآل أبي طالب واذكر شدّة الزمان عليهم ثلاثة أيام ثم قُل له في الرابع‏:‏ مَن يقول هذه الأبيات‏:‏ أسرفتَ في قتل الرعية ظالما قال‏:‏ ففعل‏.‏
فقال له الشيخ‏:‏ إن شئت نبّأتك مَن أَنت أنت خازم ابن خُزيمة بعثك إليَّ أميرُ المؤمنين لتعرف مَن قائل هذا الشعر فقُل له‏:‏ جُعلت فداك والله ما قلتُه ولا قاله إلا سُديف بن ميمون فإني أنا القائل وقد دَعوني إلى الخروج مع محمد بن عبد اللّه‏:‏ دعَوني وقد شالت لإبليس راية وأوقد للغاوين نارُ الحُباحب أبا للّيث تغترُّون يَحْمي عرينَه وتَلْقون جهلاً أًسدَه بالثعاَلب فلا نَفعتْني السنُّ إن لم يَؤُزّكم ولا أَحكَمْتني صادقاتُ التجارب قال‏:‏ وإذا الشيج إبراهيمُ بن هَرْمة‏.‏
قال‏:‏ فقدمتُ على المنصور فأَخبرته الخبر‏.‏
فكتب إلى عبد الصمد بن عليّ وكان سُديف في حَبسه فأَخذه فدَفنه حياً‏.‏
قال الرياشيّ سمعتُ محمد بن عبد الحميد يقول‏:‏ قلت لابنِ أبي حفصة‏:‏ ما أغراك ببني عليّ قال‏:‏ ما أحدٌ أحبَّ إليّ منهم ولكني لم أجد شيئاً أنفَع عند القوم منه‏.‏
ولما دخل زيدُ بن عليّ على هشام بن عبد الملك قال له‏:‏ بلغني أنك تحدّث نفسك بالخلافة ولا تصلح لها لأنك ابن أمة‏.‏
قال له‏:‏ أمّا قولك إني أحدث نفسي بالخلافة فلا يعلم الغيبَ إلا اللّه وأما قولك إني ابن أمة‏.‏
فهذا إسماعيل ابنُ أمة أخرج الله من صُلبه محمداً صلى الله عليه وسلم وإسحاقُ ابن حُرّة أخرج الله من صُلبه القِردة والخنازير وعَبدة الطاغوت وخَرج من عنده فقال‏:‏ ما أحبَّ أحدٌ الحياة إلا ذلّ فقال له الحاجب‏:‏ لا يَسمع هذا الكلامَ منك أحد‏.‏
وقال زيد بن عليّ عند خُروجه من عند هشام بن عبد الملك‏:‏ شرَده الخوفُ وأزْرى به كذاك مَن يَكْره حَرّ الجلادْ مُحْتفَى الرِّجلين يَشكو الوَجَى تَقرعه أطرافُ مَرْو حِدَاد قد كان في الموت له راحةٌ والموتُ حَتْم في رِقاب العِباد ثم خَرج بِخُراسان فقُتل وصُلب‏.‏
فيه يقول سُديف لأبي العبَّاس يُغريه ببني أمية حيث يقول‏:‏ واذكُروا مصرعَ الحُسين وزيداً وقتيلاً بجانب المِهراس يريد إبراهيم الإمام أخا أبي العبّاس‏.‏
علي بن أبي طالب رضي الله عنه عوانةُ بن الحَكم قال‏:‏ حجّ محمدُ بن هشام ونزلتْ رفقة فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه الناس وهو يأمر وينهى فقال محمدُ بن هشام لمن حولَه‏:‏ تجدون الشيخَ عراقياً فاسقاً‏.‏
فقال له بعضُ أصحابه‏:‏ نَعم وكُوفيا مُنافقاً‏.‏
فقال محمد‏:‏ عليّ به فأتي بالشيخ‏.‏
فقال له‏:‏ أعراقيّ أنت فقال له‏:‏ نعم عراقيّ‏.‏
قال‏:‏ وكوفيّ قال‏:‏ وكُوفي‏.‏
قال وتُرابيّ قال‏:‏ وترابيّ من التراب خُلقت وإليه أصير‏.‏
قال‏:‏ أنت ممن يهوي أبا تُراب قال‏:‏ وَمن أبو تراب قال‏:‏ عليّ بن أبي طالب‏.‏
قال‏:‏ أتعني ابنَ عمّ رسوله الله صلى الله عليه وسلم و زَوج فاطمةَ ابنتِه وأبا الحسن والحُسين قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فما قولك فيه قال‏:‏ قد رأيتُ من يقول خيراً ويَحمد ورأيت من يقول شرّاً ويذُم‏.‏
قال‏:‏ فأيهما أفضلُ عندك أهو أم عثمان قال‏:‏ وما أنا وذاك والله لو أن علياً جاء بوزن الجبال حسنات ما نَفعني ولو أنه جاء بوزنها سيّئات ما ضرّني وعثمان مثلُ ذلك‏.‏
قال‏:‏ فاشتم أبا تراب‏.‏
قال‏:‏ أو ما تَرضى مني بما رَضي به مَن هو خير منك ممن هو خيرُ منّي هو شرّ من عليّ قال‏:‏ وما ذاك قال رضي اللهّ وهو خير منك مِن عيسى وهو خير منّىِ في النصارى وهم شرّ من عليّ إذ قال‏:‏ ‏"‏ إن تُعذَبهم فإنهم عبادُك وإن تَغْفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الرّياشيّ قال‏:‏ أنتقص ابنٌ لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً فقال له أبوه‏:‏ يا بُني‏:‏ إنه والله ما بَنت الدنيا شيئاً إلا هَدمه الدِّين وما بَنى الدينُ شيئاً فهَدمته الدنيا‏.‏
أما ترى عليا وما يُظهر بعضُ الناس من بُغضه ولَعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء‏.‏
وما ترى بني مروان وما يَندبون به موتاهم من المَدح بين الناس فكأنما يكشفون عن الجيَف‏.‏
قدم الوليدُ مكةَ فجعل يطوفَ البيتَ والفضلُ بن العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب يستقي من زَمزم وهو يقول‏:‏ يأيها السائلُ عن علي تسأل عن بَدرٍ لنا بَدْرِيّ مُردَدٍ في المجد أبطحي سائلةٍ غُرّته مَضيّ فلم يُنكر عليه أحد‏.‏
العُتبي قال‏:‏ قيل يوماً لمَسلمة بن هلال العَبديّ‏:‏ خَطب جعفر بن سليمان الهاشميّ خُطبة لم يُسمع مثلُها قط وما دَرينا أوجُهه كان أحسنَ أن كلامُه‏!‏ قال‏:‏ أولئك قوم بنُور الخلافة يُشرقون وبلسان النبوّة ينطقون‏.‏
وكتب عَوَّام صاحب أبي نُواس إلى بعض عُمّال ديار رَبيعة‏:‏ بحقّ النبي بحقِّ الوصيّ بحق الحُسين بحق الحَسَنْ ترفَّق بأرزاقنا في الخِراج بتَرفيهها وبحَطّ المُؤن قال‏:‏ فاسقط عنه الخِراج طولَ ولايته‏.‏
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال‏:‏ بعث إليَّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي وهو يومئذ قاضيِ القضاة فقال‏:‏ إنّ أميرَ المؤمنين أمرني أن احضر معي غداً مع الفجر أربعين رجلاً كلهم فقيه يَفْقَه ما يُاقل له ويُحسن الجواب فسمُّوا من تَظنّونه يَصلُح لما يطلبُ أمير المؤمنين‏.‏
فسمَّينا له عِدة وذكر هو عِدة حتى تمَّ العددُ الذي أراد وكتب تسمية القوم وأمر بالبُكور في السَّحر وبعث إلى من لم يحضرُ فأمره بذلك‏.‏
فغدونا عليه قبلَ طلوع الفجر فوجدناه قد لبس ثيابَه وهو جالس ينتظرنا فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب فإذا بخادم واقف‏.‏
فلما نَظر إلينا قال‏:‏ يا أبا محمد أمير المؤمنين يَنتظرك فأدخلنا‏.‏
فأُمرنا بالصلاة فأخذنا فيها فلم نستتمّها حتى خرج الرسول فقال‏:‏ ادخلوا فدَخلنا‏.‏
فإذا أميرُ المؤمنين جالس على فراشه وعليه سَوادُه وطَيلسانه والطّويلة وعمامته‏.‏
فوقفنا وسلّمنا فردّ السلام وأمرنا بالجلوس‏.‏
فلما استقرّ بنا المجلسُ تحدّر عن فراشه ونَزع عمامته وطيلسانه ووضع قَلنسوته ثم أقبل علينا فقال‏:‏ إنما فعلتُ ما رأيتم لتفعلوا مثلَ ذلك وأما الخُفّ فما مِن خَلْعه علة من قد عرفها منكم فقد عَرفها ومن لم يَعْرِفها فسأعرّفه بها ومدّ رجلَه‏.‏
ثم قال انزعوا قَلانسكم وخفافكم وطَيالسكم‏.‏
قال‏:‏ فأمسكنا‏.‏
فقال لنا يحيى‏:‏ انتهوا إلى ما أمركم به أميرُ المؤمنين‏.‏
فتعجّبنا فنزعنا أخفافنا وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا‏.‏
فلما استقرّ بنا المجلس قال‏:‏ إنما بعثتُ إليكم معشَر القوم في المُناظرة فمن كان به شيء من الأخْبثين لم ينتفع بنفسه لم يَفقه ما يقول‏:‏ فمن أراد منكم الخلاءَ فهناك وأشار بيده فدعونا له‏.‏
ثم ألقى مسألة من الفقه فقال‏:‏ يا أبا محمد قل ولْيقل القومُ من بعدك‏.‏
فأجابه يحيى ثم الذي يلي يحيى ثم الذي يليه حتى أجاب آخرُنا في العلَة وعلة العلة وهو مُطرق لا يتكلم‏.‏
حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال‏:‏ يا أبا محمد أصبتَ الجواب وتركت الصواب في العِلّة‏.‏
ثم لم يزل يَرد على كل واحد منّا مقالتَه ويخطئ بعضنا ويصوّب بعضنا حتى أتى على آخرنا‏.‏
ثم قال‏:‏ إني لم أبعث فيكم لهذا ولكنني أحببتُ أن أًنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مُناظرتكم في مَذهبه الذي هو عليه ودينه الذي يَدين الله به‏.‏
قلنا‏:‏ فليَفعل أمير المؤمنين وفقّه اللّه‏.‏
فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين يَدين الله على أن عليّ بن أبي طالب خيرُ خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم وأولى الناس بالخلافة‏.‏
قال إسحاق‏:‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ وقد دعانا أمير المؤمنين للمُناظرة‏.‏
فقال‏:‏ يا إسحاق اختر إن شئت أن أسألك وإن شئت أن تسأل‏.‏
قال إسحاق‏:‏ فاغتنمتها منه فقلت‏:‏ بل أسألك يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ سَل‏.‏
قلت‏:‏ من أين قال أَميرُ المؤمنين إن عليَّ بن أبي طالب أفضلُ الناس بعد رسول الله وأحقُّهم بالخلافة بعده قال‏:‏ يا إسحاق خبِّرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يُقال فلان أفضل من فلان قلت‏:‏ بالأعمال الصالحة‏.‏
قال‏:‏ صدقت‏.‏
قال‏:‏ فأخبرني عمَّن فضل صاحبَه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن المفضول عَمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول اللّه أَيَلحق به قال‏:‏ فأطرقت‏.‏
فقال لي‏:‏ يا إسحاق لا تقل نعم فإنك إن قلتَ نعم أوجدتك في دهرنا هذا مَن هو أكثر منه جهاداً وحجاً وصياماً وصلاة وصَدقة‏.‏
قلت‏:‏ أجل يا أمير المؤمنين لا يلحق المفضولُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاضلَ أبداً‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق‏:‏ فانظر ما رواه لك أصحابُك ومَن أخذتَ عنهم دينك وجعلتَهم قُدوتك من فضائل عليّ ابن أبي طالب‏.‏
فقِسْ عليها ما أَتوك به من فضائل أبي بكر فإن رأيتَ فضائل أبي بكر تُشاكل فضائلَ عليّ فقل إنه أفضل منه لا واللّه ولكن فقِسْ إلى فضائله ما رُوي لك من فضائل أبي بكر وعمر فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعليّ وحدَه فقُل إنهما أفضلُ منه‏.‏
لا واللّه ولكن قِسْ إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان فإن وجدتَها مثل فضائل عليّ فقُل إنهم أفضل منه لا واللّه ولكن قِس إلى فضائله فضائلَ العشرة الذين شَهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فإِن وجدتها تُشاكل فضائلَه فقل إنهم أفضل منه‏.‏
ثم قال‏:‏ يا إسحاق أي الأعمال كانت أفضلَ يوم بَعث الله رسولَه قلت‏:‏ الإخلاص بالشهادة‏.‏
قال‏:‏ أليس السَّبقَّ إلى الإسلام قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ والسَّابقون السَّابقون أُولئك المُقَرّبون ‏"‏ إنما عنىَ مَن سَبق إلى الإسلام فهل علمتَ أحداً سَبق علياً إلى الإسلام قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن عليّا أسلم وهو حَديث السنّ لا يجوز عليه الحُكم وأبو بكر أسلم وهو مُستكمل يجوز عليه الحكم‏.‏
قال‏:‏ أخبرني أيهما أسلم قبل ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال‏.‏
قلت‏:‏ علي أسلم قبل أبي بكْر على هذه الشًريطة‏.‏
فقال‏:‏ نعم فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام أو يكونَ إلهاماً من الله قال‏:‏ فأطرقت‏.‏
فقال لي‏:‏ يا إسحاق لا تقل إلهاماً فتُقدّمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى‏.‏
قلت‏:‏ أجل بل دعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق فهل يخلو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تَكلَّف ذلك من نفسه قال‏:‏ فأطرقت‏:‏ فقال‏:‏ يا إسحاق لا تَنسب رسول الله إلى التكلُّف فإنّ الله يقول‏:‏ ‏"‏ وما أنا من المُتَكلفِّين ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ أجل يا أمير المؤمنين بل دعاه بأمر اللّه‏.‏
قال‏:‏ فهل من صِفة الجبار جل ذكره أن يُكلِّف رسله دُعاء مَن لا يجوز عليه حُكم قلت أعوذ بالله‏!‏ فقال‏:‏ أفتُراه في قياس قولك يا إسحاق إنّ علياً أسلم صبيَاً لا يجوز عليه الحُكم وقد كُلِّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دُعاء الصِّبيان إلى ما لا يُطيقونه فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب عليهم في أرتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم أتَرى هذا جائزاً عندك أن تنسْبه إلى الله عزّ وجلَّ قلت أعوذ باللهّ‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليّاً على هذا الخلق أبانَه بها منهم ليُعرف مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدُعاء الصبيان لدَعاهم كما دعا علياً قلت‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فهل بلغك أنّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم دعا أحداً من الصبيان من أهله وقرابته لئلاّ تقول إن علياً ابنُ عمه قلت‏:‏ لا أعلم ولا أدري فَعل أو لم يفعل‏.‏
قال يا إسحاق رأيت ما لم تَدْره ولم تَعلمه هل تُسأل عنه قلتُ‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ فدَع ما قد وضعه الله عنّا وعنك‏.‏
ثم قال‏:‏ أي الأعمال كانت أفضلَ بعد السَّبق إلى الإِسلام قلت‏:‏ الجهاد في سبيل اللهّ‏.‏
قالت صدقت فهل تجد لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجد لعليّ في الجهاد قلت‏:‏ في أي وقت قال في أي الأوقات شئتَ قلت‏:‏ بدر‏.‏
قال‏:‏ لا أريد غيرها فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر أخبرني كم قَتْلى بدر قلت‏:‏ نيّف وستون رجلاً من المشركين‏.‏
قال‏:‏ فكم قَتل عليٌ وحدَه قلت‏:‏ لا أدري‏.‏
قال‏:‏ ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين والأربعون لسائر الناس‏.‏
قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَريشه قال‏:‏ يَصنع ماذا قلت‏:‏ يدبِّر‏.‏
قال‏:‏ ويحك‏!‏ يدبّر دون رسول الله أو معه شريِكاً أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه أي الثلاث أحب إليك قلت‏:‏ أعوذ بالله أن يدبِّر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يكون معه شريكاً أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم افتقَار إلى رأيه‏.‏
قال‏:‏ فما الفضيلة بالعريش إذ كان الأمر كذلك أليس من ضَرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضلَ ممن هو جالس قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين كل الجيش كان مجاهداً‏.‏
قال صدقتَ كل مجاهد ولكنَ الضارب بالسيف المحاميَ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجالس أفضلُ من الجالس أما قرأتَ في كتاب الله‏:‏ ‏"‏ لا يَسْتوي القاعِدون من المُؤمِنين غَيْرُ أولى الضَرَر والمجاهدُون في سبيل الله بأمْوالِهم وأنُفسِهم فَضّل الله المُجاهدين بأموالهم وبأنْفُسهم علىِ القاعِدين درجَةَ وكلاَّ وَعَدَ الله الحُسْنَى‏.‏
وفضَل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ وكان أبو بكر وعمر مُجاهدين‏.‏
قال‏:‏ فهل كان لأبي بكر وعُمر فضلٌ على من لم يَشهد ذلك المشهد قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فكذلك سَبق الباذل نفسه فَضل أبي بكر وعمر‏.‏
قلت‏:‏ أجل‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق هل تقرأ القرآن قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ أقرأ عليّ‏:‏ ‏"‏ هَلْ أتىَ عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يَكُن شَيْئَاً مَذْكوراً ‏"‏‏.‏
فقرأت منها حتى بلغت‏:‏ ‏"‏ يَشربون من كأسٍ كانَ مِزاجها كافوراً ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ويُطْعِمون الطّعَام على حبه مِسْكيناً ويَتيماً وأسِيراً ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ على رِسْلك فيمن أنزلت هذه الآيات قلتُ‏:‏ في علي‏.‏
قال‏:‏ فهل بلغك أن علياً حين أطعم المسكين واليتيم والأسير قال‏:‏ إنما نُطْعِمك لوجه اللّه قلت‏:‏ أجل‏.‏
قال‏:‏ وهل سمعتَ الله وصفَ في كتابه أحداً بمثل ما وصفَ به عليّاً قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ صدقت لأن اللَه جلَّ ثناؤه عرف سيرته‏.‏
يا إسحاق ألستَ تَشهد أن العَشرة في الجنة قلت‏:‏ بلى يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ أرأيت لو أن رجلاً قال‏:‏ والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ولا أدري إن كان رسولُ الله قاله أم لم يقُله أكان عندك كافراً قلت‏:‏ أعوذ باللهّ‏.‏
قال‏:‏ أرأيت لو أنه قال‏:‏ ما أدري هذه السُّوِرة من كتاب الله أم لا أكان كافراً قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق أرى بينهما فرقاً‏.‏
يا إسحاقَ أتروي الحديث قلت‏:‏ نعمِ‏.‏
قال فهل تعرف حديث الطير قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فحدَثني به‏.‏
قال‏:‏ حدَثته الحديث‏.‏
فقال‏:‏ يا إسحاق إني كنتُ أكلمك وأنا أظنّك غيرَ معاند للحقِّ فأما الآن فقد بان لي عنادُك إنك تُوفق أنَّ هذا الحديث صحيح قلت‏:‏ نعم رواهِ من لا يُمكنني ردُه‏.‏
قال‏:‏ أفرأيتَ أنَ مَن أيقن أن هذا الحديث صحيح ثم زعم أن أحداً أفضلُ من عليّ لا يخلو من إحدى ثلاثة‏:‏ مِن أن تكون دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنده مَردودة عليه أو أن يقول‏:‏ إن الله عز وجل عرف الفاضلَ من خَلقه وكان المَفضولُ أحب إليه أو أن يقول‏:‏ إن الله عزَّ وجلَّ لم يعرف الفاضلَ من المَفضول‏.‏
فأي الثلاثة أحبُّ إليك أن تقول فأطرقت‏.‏
ثم قال‏:‏ يا إسحاق لا تقل منها شيئاً فإنك إن قلتَ منها شيئاً استتبتُك وإن كان للحديث عندك تأويل غيرُ هذه الثلاثة الأوجه فقُله‏.‏
قلت لا أعلم وإنَّ لأبي بكَر فضلاً‏.‏
قال‏:‏ أجل لولا إنّ له فضلاً لما قيل إن علياً أفضلُ منه فما فضلُه الذي قصدتَ إليه الساعة قلت‏:‏ قول الله عزِّ وجل‏:‏ ‏"‏ ثاني اثنين إذْ هُما في الْغَار إذْ يقُولُ لصاحبِه لا تَحْزَن إنَّ الله معَنا ‏"‏ فنَسبه إلى صحبته‏.‏
قال‏:‏ يا إِسحاق أمَا إني لا أحملك على الوَعر من طريقك إني وجدتُ الله تعالى نَسب إلى صُحبة مَن رَضيه ورَضي عنه كافراً وهو قوله‏:‏ ‏"‏ فقال له صاحبُه وهو يُحاوِرُه أَكفَرْتَ بالّذي خَلَقَك مِن تًراب ثم من نُطْفة ثم سَوَّاك رَجُلاً‏.‏
لكن هو الله رَبي ولا أشرْك برَبِّي أحَداً ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ إن ذلك صاحب كان كافراً وأبو بكر مؤمن‏.‏
قال‏:‏ فإذا جاز أن يَنسب إلى صُحبة نبيّه مُؤمناً وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن قَدْر الآية عظيم إن الله يقول‏:‏ ‏"‏ ثاني اثنين إذ هُما في الغار إذ يقولُ لصاحبه لا تَحْزَن إنَّ الله مَعَنا ‏"‏‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق تأبَى الآن إلا أن أُخرجَك إلى الاستقصاءِ عليك أَخبرني عن حُزن أبي بكر أكان رِضى أم سُخطاً قلت‏:‏ إن أبا بكر إنما حَزن من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه وغمًا أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه‏.‏
قال‏:‏ ليس هذا جَوابي إنما كان جوابي أن تقول‏:‏ رضىَ أم سُخط قلت‏:‏ بل رضىَ لله‏.‏
قال‏:‏ فكأن الله جلَّ ذكرُه بَعث إلينا رسولاً ينهى عن رضىَ الله عز وجل وعن طاعته‏.‏
قلت‏:‏ أعوذ باللّه‏.‏
قال‏:‏ أوَلَيس قد زعمتَ أن حزن أبي بكر رضى لله قُلت‏:‏ بلى‏.‏
قال أوَلَم تَجد أنَّ القرآن يشهد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ لا تحزن ‏"‏ نهياً له عن الحزن‏.‏
قلت‏:‏ أعوذ باللهّ‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق إنَّ مذهبي الرفقُ بك لعلَّ الله يردّك إلى الحق ويَعْدِل بك عن الباطل لكَثرة ما تَستعيذ به‏.‏
وحدِّثني عن قول اللّه‏:‏ ‏"‏ فأَنزَلَ الله سكينتَه عليه ‏"‏ ومَن عنى بذلك‏:‏ رسولَ الله أم أبا بكر قلت‏:‏ بل رسول اللّه‏.‏
قال‏:‏ صدقْت‏.‏
قال‏:‏ فحدِّثني عن قول الله عزِّ وجل‏:‏ ‏"‏ ويَوم حُنَين إذ أَعجَبَتكم كَثرتُكم ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ثم أنزلَ الله سَكِينَتَه على رسولِه وعلى المُؤمنين ‏"‏ أتعلم مَن المُؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع قلت‏:‏ لا أدري يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ الناس جميعاً انهزموا يومَ حُنين فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سبعةُ نفر من بني هاشم‏:‏ عليّ يضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه والعبَّاس أخذ بِلجام بغلة رسول اللّه والخمسة مُحدقون به خوفاً من أن يناله لمن جراح القوم شيء حتى أعطى الله لرسوله الظفرَ فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة ثم من حَضره من بني هاشم‏.‏
قال‏:‏ فمن أفضلُ‏:‏ من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أم مَن انهزم عنه ولم يَره الله موضعاً لينزلَها عليه قلت‏:‏ بل من أنزلت عليه السكينةُ قال‏:‏ يا إسحاق من أفضل‏:‏ مَن كان معه في الغار أو من نام على فِراشه ووقاه بنفسه حتىِ تمَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة إن الله تبارك وتعالى أمر رسولَه أن يأمر عليّاً بالنوم على فِراشه وأن يقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فأمره رسولُ للّه بذلك‏.‏
فبكى عليّ رضي الله عنه‏.‏
فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما يُبكيك يا عليّ أجَزَعاً من الموت قال‏:‏ لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ولكن خوفاً عليك أَفتَسْلم يا رسول الله قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ سمعاً وطاعة وطيِّبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه‏.‏
ثم أتى مضجَعه واضطجع وتسجَّى بثَوبه‏.‏
وجاء المشركون من قُريش فخفّوا به لا يشكّون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجمعوا أن يضربَه من كل بَطن من بُطون قريش رجلٌ ضربة بالسيف لئلا يَطلبَ الهاشميون من البطون بطناً بدمه وعليّ يسمع ما القوم فيه مِن تَلَف نفسه ولم يَدْعه ذلك إلى الجَزع كما جَزع صاحبُه في الغار ولم يَزل عليُّ صابراً مُحتسباً‏.‏
فبعث الله ملائكتَه فمنعته من مُشركي قريش حتى أصبح فلما أصبحِ قام فنظر القومُ إليه فقالوا‏:‏ أين محمد قال‏:‏ وما عِلْمي بمحمد أين هو قالوا‏:‏ فلا نراك إلا كُنت مُغررِّاً بنفسك منذ ليلتنا فلم يَزل عليّ أفضلُ ما بدأ به يزيدُ ولا يَنقص حتى قبضه الله إليه‏.‏
يا إسحاق هل تروي حديث الولاية قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏
قال‏:‏ اروِه‏.‏
ففعلتُ‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمَر ما لم يُوجب لهما عليه قلت‏:‏ إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جَرى بينه وبين عليّ وأنكر ولاء عليّ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كنتُ مولاه فعليّ مولاه اللهم وال مَن ولاه وعاد من عاداه‏.‏
وفي أي موضع قال هذا أليس بعد مُنصرفه من حِجِّة الوداع قلت‏:‏ أجل‏.‏
قال‏:‏ فإن قَتْل زيد بن حارثة قبل الغَدير كيف رضيت لنفسك بهذا أخبرني لو رأيتَ ابناً لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول‏:‏ مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاعلموا ذلك أكنتَ مُنكراً عليه تعريفَه الناس ما لا يُنكرون ولا يَجهلون فقلتُ‏:‏ اللهم نعم‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُحْكم لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جَلّ ذكره قال في كتابه‏:‏ ‏"‏ اتخَذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دُونِ الله ‏"‏ ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زَعموا أنهم أرباب ولكن أمروهم فأطاعوا أمرَهم‏.‏
يا إسحاق أتروي حديث‏:‏ ‏"‏ أنت منّي بمَنزلة هارون من موسى ‏"‏ قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين قد سمعتهُ وسمعتُ من صحَحه وجَحده‏.‏
قال‏:‏ فمن أوثق عندك‏:‏ مَن سمعتَ منه فصحّحه أو مَن جحده قلت‏:‏ مَن صحَحه‏.‏
قال‏:‏ فهل يمكن أن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم مزح بهذا القول قلت‏:‏ أعوذ باللهّ‏.‏
قال‏:‏ فقال قولاً لا معنى له فلا يُوقف عليه قلت‏:‏ أعوذ بالله‏.‏
قال‏:‏ أفما تعلم أنّ هارون كان أخَاً موسى لأبيه وأمه قلت‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فعلي أخو رسول الله لأبيه وأمه قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ أوليس هارون كان نبياً وعليٌّ غير نبيّ قلت‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ فهذان الحالان مَعدومان في عليّ وقد كانا في هارون فما معنى قوله‏:‏ ‏"‏ أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ‏"‏ قلت له‏:‏ إنما أراد أن يُطيِّب بذلك نفسَ عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالاً له‏.‏
قال‏:‏ فأراد أن يُطيب نفسه بقول لا معنى له قال‏:‏ فأطرقتُ‏.‏
قال‏:‏ يا إسحاق له معنى في كتاب اللّه بينّ‏.‏
قلت‏:‏ وما هو يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قولُه عزَ وجلّ حكايةً عن موسى إنه قال لأخيه هارون‏:‏ ‏"‏ اخلُفْني في قَوْمي وأصلِح ولا تَتَبع سَبيلَ المُفْسدين ‏"‏‏.‏
قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إِن موسى خَلّفَ هارون في قومه وهو حيّ ومَضى إلى ربه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَّف علياً كذلك حين خرج إِلى غَزاته‏.‏
قال‏:‏ كلا ليس كما قلت‏.‏
اخبِرْني عن موسى حين خَلف هارون هل كان معه حين ذَهب إلى ربه أحدٌ من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل قلت‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ أو ليس استخلفه على جماعتهم قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إِلى غزاته هل خلّف إِلا الضُعفاء والنساءَ والصبيان فأنى يكون مثلَ ذلك وله عندي تأويلِ آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يَقدر أحدٌ أن يحتج فيه ولا أعلم أحداً أحتج به وأرجو أن يكون توفيقاً من الله‏.‏
قلت‏:‏ وما هو يا أمير المؤمنين قال‏:‏ قولُه عز وجل حين حَكى عن موسى قوله‏:‏ ‏"‏ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ‏"‏‏:‏ فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى وزيري منِ أهلي وأخي أشد به أزري وأشركه في أمري كي نَسبح الله كثيراً ونذكره كثيراً فهل يقدر أحد أن يُدخل في هذا شيئاً غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له‏.‏
قال‏:‏ فطال المجلسُ وارتفع النهار‏.‏
فقال يحيى ابن أكثم القاضي‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أوضحتَ الحقّ لمن أراد الله به بالخير وأثبتَّ ما لا يَقدر أحدٌ أن يَدفعه‏.‏
قال إسحاق‏:‏ فأقبل علينا وقال‏:‏ ما تقولون فقلنا‏:‏ كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه اللّه‏.‏
فقال‏:‏ و الله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ اقبلوا القول من الناس ‏"‏ ما كنت لأقبل منكم القول‏.‏
اللهم قد نصحت لهم القول اللهم إني قد أخرجْت الأمر من عُنقِي اللهم إني أدينك بالتقرّب إليك بحب عليّ وولايته‏.‏
وكتب المأمون إلى عبد الجبّار بن سعد المُساحقيّ عامله على المدينة‏:‏ أن أخطُب الناس وأدعهم إلى بيعة الرِّضا علي بن موسى‏.‏
فقام خطيباً فقال‏:‏ يأيها الناس هذا الأمر الذي كُنتم فيه تَرغبون والعدل الذي كنتم تنتظرون والخير الذي كنتم تَرجون هذا عليٌّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب‏:‏ ستةُ آباءِ همُ ما هُم مِن خَير مَن يشرب صَوْبَ الغَمام وقال المأمون لعليّ بن موسى‏:‏ علام تدعون هذا الأمر قال‏:‏ بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال له المأمون‏:‏ إن لم تكن إلا القرابة فقد خَلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته مَن هو أقربُ إليه من عليّ أو من هو في قُعْدُده وإن ذَهبتَ إِلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأمر بعدها للحسن والحُسين وقد ابتزهما عليٌ حَقهما وهما حيّان صحيحان فاستولى على ما لا حق له فيه‏.‏
فلم يجد عليَّ بن موسى له جواباً‏.‏


الساعة الآن 09:48 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى