منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   لغتنا العربية (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=104)
-   -   في شرف العربية (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9410)

ميارى 24 - 8 - 2010 03:28 AM

في شرف العربية
 
تعريف بالدكتور ابراهيم السامرائي

* من مواليد العمارة جنوبي العراق (1916).
* حصل على دكتوراه الدولة في (العربية واللغات السامية) من جامعة السوربون في فرنسا (1956).
* عمل في جامعات العراق، وتونس، ولبنان، والكويت،والأردن.. ويعمل حالياً بجامعة صنعاء.
* صنّف كثيراً من الكتب والمقالات والمباحث في: تاريخ العربية ونحوها، وصرفها، وما يتصل بالدرس الأدبي النقدي، و الدرس المقارن بين العربية و سائر اللغات السامية.
* حقق الكثير من مصادر اللغة والأدب، وصدرت له معجمات عدة.
* عضو منتخب في مجامع اللغة العربية في الوطن العربي والهند وفرنسا.

ميارى 24 - 8 - 2010 03:29 AM

تمهيد :

كان لي أن بدأت مادة في شرف العربية، وجعلتها فصولاً، تلتئم فيما بينها. وقد بدأت هذه الفصول، وأنا في الجامعة الأردنية، واحتفظت بها. ثم قضى الله أن أتحول إلى صنعاء، فرأيت أن أستأنف المسيرة، فكانت لي تكملة أخرى لا تخرج عما كنت فيه.

ورأيت أن يكون من هذا المجموع اللفيف كتاباً، أو كتيباً أقدمه لسلسة(كتاب الأمة) أبتغي فيه الخير لهذه الأمة، التي تنكّرت للغة التنزيل في ضجة ما أتى به العصر من جديد، وسمي بـ(الحداثة) وما هو منها.

والله أسأل أن ينفع بعملي هذا أنه الحكيم الخبير

ميارى 24 - 8 - 2010 03:31 AM

من مقدمة " في معجم القرآن " :

أما(المقدمة) فقد تم لي بعون الله وضعها، وأما(المعجم) فهو حديث النفس منذ أكثر من ثلاثين سنة. وكنت كلما نفضت عني عبء السنين شعرت أن بضاعتي مزجاة، وأن الإقدام على شيء من هذا كان من شطحات عرام الشباب، حتى إذا استيقنت الجدّ، وأدركت ما الذي يقتضيني من ذلك، أقبلت على الأمر، وفي نفسي من الترددّ والحيرة أكثر مما أدّخره من الاطمئنان واليقين.

وقد توجّهت إلى الله- عزّت كلمته- أن يتقبل مني عملاً خلصت فيه النية ابتغاء ما أرجو حُسن العقبى وخير المثوبة.

وكأني أدركت أن أهل عصرنا هذا، قد قصّروا في هذا الأمر، فلم يكن لهم فيما دأبوا عليه شيء من هذا، فقد شرع في شيء منه أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة، فلم يؤت عمله إلا ثمرةً فجة لم ترض أهل العلم. وقد كثرت المحاولات في درس لغة القرآن، ولكنها في الأغلب الأعم قد تجنبت هذا السبيل المعجمي الذي تنوء به العصبة أولو القوة.

لقد أدرك اللغويون القدامى أن لغة التنزيل هي لغة الخالق الأعظم، وأنها ليست كلغة العرب أهل اللسن والفصاحة، وأن لها خصائص عالية اكتسبت بها (الإعجاز)، وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

ولقد أقبلوا على التنزيل العزيز مستفيدين معتبرين، مبينين أفانين شتى من وجوه القول، فكان ذلك مؤذناً أن القرآن قد أقام درس العربية على أنماط جديدة لم يهتد إليها العرب قبل أن يتأدبوا بأدب القرآن. لقد اهتدوا إلى أفانين بديعة في مادة(النقد الأدبي)، ثم كانت نماذج بلاغية يهتدى بها.

ولقد أدى الدرس القرآني إلى أن توصّل أهل العلم إلى جملة من العلوم ، وليس(علوم العربية) إلا شيئاً من هذا الفيض العميم الذي تم للدارسين المسلمين. ومن(علوم العربية) هذه علم النحو، فقد نشأ بعد الاطلاع على هذا الدرس القرآني. وكأني في هذا أريد أن أقول: أن ليس شيوع اللحن هو السبب الذي دعا إلى أن يهرع أهل العلم لوضع ضوابط تعين المعربين على دفع غائلة هذا الذي تسرب في اللسان العربي.

وكأن هذه المقوله صادفت هوىَ لدى الدارسين فدرجوا عليها وأعادوها على أنها في زعمهم الحافز الأول الذي حدا أهل العلم إلى وضع شيء يعصم الألسن مما أصابها من غائلة اللحن. وقد صح لديّ في النظر أن النحو كسائر العلوم قد وصلت إليه الأمم في مسيرتها الحضارية، وهكذا كان للعرب حين أظلهم الإسلام بظله فشملهم بحضارته الزاهرة التي وجدوا أصولها وتطبيقها في الإسلام عقيدةً ورأياً وسلوكاً كما أفصحت عنه الآيات البينات في الكتاب العزيز.

وإذا كنت قد استبعدت أن يكون اللحن سبباً في وضع النحو، فذاك أني أعرف، كما يعرف غيري من الدارسين، أن(اللحن) قد تقدم الحقبة التي قال الباحثون في تاريخ النحو، إنها تلك التي شهدت البدايات النحوية، وهي خلافة أمير المؤمنين على بن أبي طالب- رضي الله عنه- أو بعد ذلك بقليل.

وقد رووا في ذلك أخباراً تتصل بأبي الأسود الدؤلي، وقد اختلفت صيغ تلك الأخبار. إن جميع تلك الأخبار ينتهي إلى أبي الأسود الذي أفاد مما أخذه من الإمام علي كما تقول تلك الأخبار. وقد عرفنا أن اللحن كان قد عرف في عهد الرسول الكريم كما عرف في الجاهلية.

لقد وجد الدارسون في لغة القرآن أنماطاً من وجوه القول وقفوا عليها فقالوا فيها أقوالاً عدة، إن هذه وأمثالها كانت دافعاً لأهل العلم أن يضعوا أوائل الضوابط النحوية، ثم توسعوا فكان النحو القديم كما سُجل في المظان المعروفة.

ألا ترى أن المشكل النحوي في القرآن قد حفز الدارسين إلى أن يُصنفوا جملة كتب في(إعراب القرآن)؟ إن(إعراب القرآن) ينتظم طائفة من الكتب المطولة التي اضطلع النحاة الأولون، ولو كان النحو علاجاً يقصد به دفع اللحن فقط، لتم لهم ذلك بوضع جملة ضوابط يسيرة …فأين هذا مما كان لهم؟

وليس هذا الذي قدمناه من (علوم العربية) التي استفيدت من لغة التنزيل كل ما يشغل الدارس في الدرس القرآني، ذلك أن الوقوف على (المشكل) في القرآن، و(تأويله) كان مادة علم لغوي تاريخي ينصرف إلى مواد أشكلت على الدارسين فذهبوا إلى معرفة أصولها وما آلت إليه في الكلم الشريف، وكان لنا من هذا الدرس جملة كتب في(تأويل المشكل) في القرآن والحديث.

وقد تجاوز الدرس اللغوي القرآني مادة(المشكل) إلى مادة(المجاز) والمراد بـ(المجاز) في كتب الفن، مسألة(الدلالة). وهذه الدلالة في هذا النوع من الكتب القديمة شيء مما ندعوه في عصرنا(التطور اللغوي)، ومن هنا كان هذا المجاز بهذا المعنى غير المجاز لدى علماء البيان.

ثم إن لغة التنزيل العزيز قد نقلت العربية من كونها لغة أدب نتبينها في الشعر القديم إلى لغة علم دقيق لها(مصطلحها الشريف).

إن ما ندعوه(الألفاظ الإسلامية) هو شيء من هذه اللغة الفنية الاصطلاحية، وإن هذه المصطلحات قد أمدت العربية بالركائز التي قامت عليها جملة هذه العلوم الإسلامية، فعلم المنطق، وعلم الكلام، قد أفادا من هذه الذخيرة الفنية التي وردت في لغة التنزيل.

وليس هذا كله ما أفاده الدارسون من لغة التنزيل، ذلك أن سائر علوم الإسلام قد اتخذت لها قواعد وأصولاً استمدتها من هذه اللغة الشريفة.

وقد يكون لي أن أخلص إلى أن الدارس ليجد معالم حضارة الإسلام واضحة كل الوضوح في هذا البيان المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإذا كان القدماء قد توسعوا في الدراسات القرآنية، فصنفوا في فوائد لغة القرآن وخصائصها ومعانيها ونحوها وبلاغتها، المصنفات الكثيرة، فإن المحدثين من أهل عصرنا، لم يتموا هذه المسيرة المباركة، فيأتوا بما لم يأت به المتقدمون.. ألا ترى أن العصر يفرض علينا أن يكون لنا في صناعة المعجم،(معجم تاريخي) للقرآن، تُستوفى فيه اللآلئ الفرائد في الكلم الشريف؟

وقد ينصرف ذهن القارئ إلى أنني برأت المتقدمين مما يؤخذ عليهم في مصنفاتهم في علوم القرآن، وأنحيت باللائمة على أهل عصرنا، ولكني لم أرد هذا، ذلك أن إحسان المتقدمين لا ينفي عنهم أنهم أخطأوا في مسائل، وفاتهم من ذلك علم نافع.

وسأقف على جملة مسائل أضعها بين يدي الدارسين لأشير إلى أن المتقدمين قد أضنتهم المسيرة، وأظلم عليهم السبيل، فأضاعوا، الدليل إلى المحجة البيضاء، ولو أنهم صبروا وشقوا بما صبروا عليه لكان لنا من مسيرتهم خير كثير. وقد كنت قد استوفيت هذه المسائل فجمعتها لتكون شيئاً من مواد(معجم للقرآن)، وها أنا أجتزئ بالقليل في هذا الموجز الذي أختصّ به(الرسالة الإسلامية).

قلت: لم يتهيأ لنا نحن أهل العصر أن نصنع معجماً نأتي فيه على دلالات الألفاظ وتاريخها وتطورها، ولم نحط خبراً في أن للمادة الواحدة في القرآن أفانين من الاستعمال، كما لم ينجز الأوائل ما كان ينبغي لهم أن ينجزوه في هذا الشأن على عظيم ما كان لهم من نظر ثابت في كتاب الله العزيز.

وقد بدا لي أن أقف وقفات عجلى على خمسة نماذج من ألفاظ القرآن لأقول شيئاً، لعلي أشير به إلى أن شيئاً كثيراً ما زال معوزاً إلى زيادة إيضاح، ومن هنا يكون صنع لمعجم جديد يفرضه علينا فرض العناية بالتنزيل العزيز.

وإليكم هذه النماذج التي أردت من عرضها أن أقف على فائدة واحدة من كل نموذج أجتزئ به للتمثيل، تاركاً جملة الفوائد الأخرى، وهي كثيرة، إلى المعجم الذي أضطلع به:-

1-أتي:

قال تعالى: (اذهبوا بقميصي هذا فأَلقوهُ على وجْه أبي يأتِ بصيراً ) (يوسف:93).

أقول: وقوله تعالى: (يأت) بمعنى يصيرُ أو ينقلب أو يصبح.

تعليق:

إذا كان النحاة القدماء قد فرّغوا الأفعال: ظل، وأصبح، وأمسى، وبات، من دلالاتها، الأصيل وهي النهار، والصباح، والمساء، والليل، ليحملوها على(النواسخ) في العمل باقتضاء الاسم والخبر، فِلمَ أغفلوا الفعل(أتى) في المعنى المتقدم، ولِمَ لم يحملوا عليها الفعل(انقلب). وكان من المفيد أن يقفوا على هذا الفعل(يأت) في الآية المتقدمة ليشيروا أنها استعملت استعمالاً خاصاً غير المعروف المشهور، وهو أحد الاستعمالات الكثيرة في هذا الفعل الذي لم يبق منه في العربية المعاصرة غير دلالة(المجيء)؟

قلت: لم يحمل النحاة هذا الفعل على النواسخ، وذلك لأنه في معناها وعملها الإعرابي، لأشير إلى أنهم أغفلوا الوقف عليه، كما أغفله اللغويون في المعجمات، وإني لا أريد، من ذلك، أن أشارك النحاة في أن هذا الفعل وسائر الأفعال التي أشرت إليها، وهي:ظلَّ، وأصبح، وأمسى، وبات، هي من النواسخ في العمل، وهذا يعني أنها كسائر الأفعال الأخرى اللازمة التي تقتضي الفاعل على المرفوع، وأما المنصوب فزيادة تفيد ما تفيده(الحال)، ولا أريد أن أدخل في اعتراض من يعترض على هذا بقوله: إن(الحال) فضلة، ومجيء المنصوب بعد هذه الأفعال ليس(فضلة)، وهذه مسألة لا يعسر الرد عليها، والبقاء في حيز المشهور الواضح من لغة العرب أو عائده.

2- أراد(رود):

وقال تعالى: (فَوَجَدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامَه ُ) (الكهف:93).

تعليق:

إن الفعل(يريد) في الآية، ذو دلالة خاصة، فهو لايعني(الإرادة) كقولك: أريد أن أعمل خيراً، بل إنه يدل على ما يدل عليه الفعلان: يكاد أو يوشك. وهذان الفعلان مع فعل ثالث هو(كَرُبَ)، من الأفعال التي ألحقها النحاة القدماء بالأفعال النواسخ، فهي مثل(كانَ) في العمل في اقتضاء الاسم والخبر، غير أنهم ميّزوا هذه الأفعال في كون(الخبر) فعلاً مضارعاً مسبوقاً بـ(أن) المصدرية غالباً، وقد يجرد منها، وفي كلا الحالين كلام وتوجيه، وسآتي على قول النحاة هذا. غير أني أرى أن الفعل (يريد) في الآية من حيث الدلالة شيء ومن هذه الأفعال التي أسماها النحاة (أفعال المقاربة، ودلالة (المقاربة) من الناحية المعجمية تتحقق في الفعل(يريد) أيضاً كما في الآية ولكنهم غفلوا عنه، ولم يشيروا إلى هذه الدلالة الخاصة في استعماله فيلحقوه بنظائره وهي: كاد، وأوشك، وكَرَبَ.

وعندي أن الفعل الأخير(كَرَبَ) من الأفعال النادرة، أو قل: هو شيء من أوابد هذه اللغة، ولا تكاد تظفر به إلا في ثلاثة شواهد نحوية لا نطمئن إلى صحتها ونسبتها. وكأن هذا الفعل صورة خاصة قديمة هجرها المعربون فذهبوا إلى نظيرتها وهي(قَرُبَ)، وفي بعض استعمال(قرب) نقف على شيء من هذه(المقاربة) النحوية.

ثم أن الفعل(يريد) بدلالته على القرب كما في الآية، وأنه نظير(كادَ) و(أوشك)، كثير الورود في الألسن الدارجة، ولا نجد في الألسن الدارجة غيره لأداء(المقاربة)، فالعامة لا تعرف(كادَ) أو(أوشك).

ولنعد إلى قول النحاة في حمل هذه الأفعال على النواسخ فنقول: إنها أفعال خاصة، ومعناها المقاربة، والذي أراه أن مرفوعها فاعل كسائر الأفعال في العربية، وأما التالي له وهو(أن والفعل) فزيادة يقتضيها معنى المقاربة، وهذا لا يختلف عن(أن والفعل) بعد أفعال الطلب نحو:طَلَبَ ورغب وأراد ونحو ذلك، نقول: طلب الرجل أن يشارك في العمل، ورغب زيد أن يلعب...

أخلص إلى الفعل(أراد) وهو مادة البحث لأقول: إنه لم ينل العناية المطلوبة من اللغويين كما قصرَّ فيه النحاة.

3- عميَ:

وقال تعالى: (ومن كانَ في هذه أَعمى فهو في الآخرة أعمى وأَضَلُّ سبيلا ) (الإسراء:72).

تعليق:

لا أريد أن أظلم النحاة المتقدمين، ومعاذ الله أن أسعى لظلم قوم خدموا كتاب الله وسنة نبيه، وأنهم اجتهدوا وجاهدوا وأخلصوا فكان لهم ما كان من علم النحو. غير أني لا أقول: ما ترك الأول للآخر، فقد جاء في مقررات النحويين في صوغ(أفعل) التفضيل:

يصاغ من الثلاثي المتصرف التام مبنيًّا للمعلوم... ... ومما لا يأتي الوصف منه على(أفعل فعلاء)، وهذا الشرط الأخير يعني أن الفعل مثل(حَمِرَ) و(سَوِد) لا يُعنى منه(أفعل) للتفضيل فلا يقال: هذا أسود من هذا، وذاك أحمر من صاحبه. وقد ذهب الكوفيون إلى جوازه في السواد والبياض دون سائر الألوان، وربما وجد النقاد في هذا رخصة للمتنبي في قوله:

لأنت أسْودُ في عيني من الظُّلَمِ

وإذا أخذنا بهذا الذي ذكره النحويون في عدم الجواز، ورجعنا إلى الآية وجدنا فيها كلمة(أعمى) قد وردت مرتين: الأولى جاءت صفة من العمى نظير الأعرج من العَراجَ، والأقنى من القنا، غير أن(الأعمى) الثانية قد أفادت التفضيل، أي أنه أشد عمى، وذلك بدلالة المعطوف بعده وهو قوله تعالى: (وَأَضَلُّ سبيلا ً).

وهذا يعني أن هذا البناء قد يتأتى إن حسن في موضعه، وأقول: (إن حسن) وأريد به ليجيء مشاكلاً للمعطوف بعده، وفي ذلك ما فيه من إجادة القول وحسن البناء.

ومن المفيد أن نشير إلى لطائف العربية مما ورد في لغة التنزيل في مادة(عمه) في قوله تعالى: (وَنَذَرَهُم في طغيانهم يعمَهون ) (الأنعام:110) والعَمَه في البصيرة كالعمى في البصر، وقالوا: رجل عَمِهٌ وعامِهٌ: أي يتردد متحيراً لا يهتدي إلى طريقه ومذهبه، والجمع عَمِهون وعُمَّه.

تعليق:

ليس عجيباً أن يشترك العمى والعمه في العين والميم ويختلفان في الثالث، والاختلاف مؤذن باختلاف يسير في المعنى إراده التخصيص وهذا شيء من بديع العربية.

4- غزو:

وقال تعالى: (إذا ضَرَبوا في الأرض أو كانوا غُزَّى )(آل عمران:156).

تعليق:

درجت العربية على أبنية لها خصائصها وصفاتها، وممن هذه أبنية التكسير فقد قالوا مثلاً: إن ما جاء على فَعَل) جاء على(أفعال)، وما جاء على(فِعال) أو(فَعيل) جاء جمعه على(أفعلة). وهذه الأقوال ليست قواعد لا يفلت منها شيء ففي العربية غرائب وشواذ، ولكن الكثير يتبع الأوزان المعروفة التي أيدها السماع وجرى عليها القياس.

وقوله تعالى: (غُزَّى) في الآية جمع لـ(غازٍ) وهذا ما لم يُسمَع إلا في لغة التنزيل العزيز، وذلك لأن بناء(فُعَّل) من أبنية التكسير لا يتأتى إلا لما كان صحيح الآخر نحو: ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكّع. غير أن وروده في(غازٍ) هو شيء من خصائص العربية التي شرفها الله فجعلها لسان قرآنه، وبسط أمام الدارسين صفحات لرصد تاريخ هذه اللغة وتطورها لو كانوا يدركون.

وفي القرآن من هذه الفرائد الكثير فإذا نظرنا إلى قوله تعالى: (لا يدخُلون الجنَّة حتى يلجَ الجَمَلُ في سَمَّ الخِياط ) (الأعراف:40).

وجدنا(الجمل) وقيل في تفسيره ما قيل، ومن ذلك أنه الحبل... ... ووجدناه في القراءات أنه الجَمَل، والجُمْل بضم فسكون، والجمَُّل على وزن(فُعَّل) وهذه القراءة الأخيرة في بناء الجمع، والمفرد(جُمْل). وهذا يعني أن الذي شاع في بناء(فُعَّل) من أبنية التكسير ومفردها فاعِل لا يندرج على المأثور من هذا الجمع في العربية وذلك أن فيها مواد تخرج عن الكثير المشهور.

5- غلب:

وقال تعالى: (غُلِبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) (الروم:2-3).

تعليق:

أقول: الفعل(غُلبَت) مبني للمفعول، ثم جاء الفعل(سيغلبون) في آخر الآية الثالثة مبنيًّا للمعلوم أي الفاعل، وقبله المصدر(غَلبِهم) وكأن المصدر يشير إلى الفعل الأول المبني للمفعول، وعلى هذا يكون(الغَلَب) عليهم لا لهم، أي أنهم غُلبوا.

وهذا شيء من دقائق هذه العربية الشريفة التي حفلت بها لغة التنزيل العزيز، فقد خَصّت المصدر بالفعل في الآية، وهذا شيء يستفاد من الآية وحدها ليس غير.

وبعد فهذه جملة مواد أتيت فيها على شيء يسير مما اشتملت عليه من فوائد نسغية، عرضت فيها لما ينبغي أن يشمله معجم جديد لألفاظ القرآن، فإن منَّ الله عليَّ ونَسَأ في الأجل، وكان في العمر فسحة فإن، ذاك مما آمل أن آتي به، وهو دَيْن ليس إلى النكال عنه سبيل، فإن أصبت فِنعمّا هي، وإن لم أصل إلى المراد فعذيري أني قاصر في جنب الله.

والله أسأل أن ينفع بعملي هذا أنه نعم المولى ونعم النصيير.

ميارى 24 - 8 - 2010 03:32 AM

من ألفاظ القرآن :

أهمية البحث:

هذا بحث في المصطلحات الإسلامية في القرآن الكريم، حرصت فيه على بيان المعنى اللغوي الأصلي، والمعنى الاصطلاحي لكل مصطلح استخرجته من القرآن الكريم. وقد بينت في بدايته معنى كلمة(مصطلح) كما اتفق عليها علماء اللغة. وأثبت فيه جهود العلماء المسلمين السابقين في تجديد المعنى الشرعي الذي نسميه اليوم المعنى الإسلامي للمفردات العربية.

وقد عكفت على قراءة معاجم اللغة لتحديد المعنى العربي- إن جاز التعبير- للكلمة التي عددتها مصطلحاً قرآنياًّ. ثم عكفت على قراءة كتب التفسير المعتمدة، وكتب الدراسات الإسلامية المختلفة لتحديد المعنى الإسلامي للكلمة، وقد نظمت في النهاية معجماً واسعاً جعلت فيه المصطلحات مرتبة بحسب ترتيب حروف الهجاء. ومع كل مصطلح معناه اللغوي، ومعناه القرآني

وأود أن أسجل هنا أن في لغة القرآن تطوراً دلالياً واسعاً عن لغة الشعر الجاهلي، أو العصر الجاهلي، مما يدل على أن التطور يستحيل أن يصنعه فرد أو أمة في هذا الوقت المحدود. ولعل هذا التطور الدلالي أن يكون إثباتاً جديداً علميًّا في باب دلالة اللغة على إعجاز القرآن الكريم. وأرجو أن تتاح لي الفرصة-من جديد- لأتابع البحث في التطور الدلالي بين العصر الجاهلي، وبين عصر القرآن الكريم، على ان هذا القرآن الكريم كتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد ) (فصلت:42).

المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي:

تطلق على كلمة(مصطلح) في أوساط الناس اليوم ليراد بها المعنى الذي تعارفوا عليه، واتفقوا عليه في استعمالهم اللغوي الخاص، أو في أعرافهم الاجتماعية، وعاداتهم السائرة، وتساعد الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية، على أن تحمل كلمة ما، معنى غير الذي وضعت له في أصل اللغة التي تنتمي إليها. ويسير هذا المعنى الجديد بين الناس حتى يصبح في استعمالهم اليومي شيئاً مألوفاً ينسى معه ذلك المعنى اللغوي الأساس أو يكاد. وهذا المعنى الجديد هو ما نقصده عندما نقول(المعنى الاصطلاحي)، أما ذلك المعنى الأساس فهو المقصود بقولنا في المعجم المثبت في هذا البحث: (المعنى اللغوي).

المعنى الشرعي:

وهذا المصطلح الإسلامي الذي أعنيه هنا، سبق أن تحدث عنه الباحثون المسلمون، ولكنهم أطلقوا عليه(المعنى الشرعي). فقد لاحظ المفسرون وعلماء اللغة ورود كلمات في القرآن الكريم بمعان غير المعاني التي وردت فيها في الشعر الجاهلي، وفي استعمال العرب قبل نزول القرآن، فأرادوا أن يميزوا بين المعنى العربي، والمعنى الإسلامي فقالوا: هذا اسم لغوي، وهذا اسم شرعي. وقد تنبه أحمد بن فارس في كتابه(الصاحبي) لهذا فقال: (كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم، وآدابهم، ونسائهم، وقرابينهم. فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام، حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفى الآخر الأول، وشغل القوم بعد المناورات والتجارات وتطلب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيف، والعاقرة، والمباشرة بتلاوة الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وبالتفقه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام...)(1).

وبعد أن يقررأحمد بن فارس أن ألفاظاً نقلت من مواضع إلى أخرى، بدأ يمثل في كتابه لمثل هذه الألفاظ، فقال: (فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق(2) ...) ويمضي متحدثاً عن الفسق وعن الصلاة والسجود والصيام إلى أن يقول: (وكذلك الحج لم يكن عندهم فيه غير القصد وسبر الجراح، من ذلك قولهم:

وأشهد من عوف حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا

ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره، وكذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء، وزاد الشرع ما زاده فيها مما لا وجه لإطالة الباب بذكره، وعلى هذا سائر ما تركنا ذكره من العمرة والجهاد وسائر أبواب الفقه. فالوجه إذا سئل الإنسان عنه أن يقول في الصلاة إسمان:

لغوي. وشرعي.

ويذكر ما كان العرب تعرفه ثم جاء الإسلام به وهو قياس ما تركنا ذكره من سائر العلوم كالنحو والعروض والشعر، كل ذلك له إسمان:

لغوي. وصناعي.

وهكذا يبدو من هذا النص القيم أن الذي أردته بالمصطلح الإسلامي هو ما أراده الباحثون الأولون بالمعنى الشرعي. ومنه يطهر أيضاً أن الباحثين القدماء أدركوا أن هناك مصطلحات كثيرة في غير علوم القرآن وقد وأطلقوا عليها: الاسم الصناعي.

وقد تحدث أبو هلال العسكري عن هذا الموضوع أيضاً في كتابه(الأوائل) فقال: (وقد حدثت في الإسلام معان وسميت بأسماء كانت في الجاهلية لمعان أخر، فأول ذلك، القرآن والسورة والآية والتيمم، قال تعالى: (فتيمموا صعيداً طيبا ً) (النساء:43)، أي تحروه، ثم كثر ذلك حتى سمي التمسح تيمماً.

والفسق هو الخروج من طاعة الله تعالى: وإنما كان ذلك في الرطبة إذا خرجت من قشرها، والفأرة إذا خرجت من جحرها، وسمي الإيمان مع إسرار الكفر نفاقاً.

والسجود لله إيماناً وللوثن كفراً، ولم يعرف أهل الجاهلية من ذلك شيئاً(1).

وقد سمى هؤلاء الباحثون مثل هذه الأسماء التي استحدثها القرآن: اسماً إسلامياً، ورد في المزهر: (أن لفظ الجاهلية إِسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة، والمنافق اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية)(2).

ويبدو أن مصطلح الاسم الشرعي، والاسم الإسلامي، لم يقتصر في أذهان الناس على الاسم الذي خصصه القرآن لمعنى ما، بل تعداه إلى كل معنى يتصل إلى الإسلام بسبب. ولذلك أطلق الاسم الشرعي على الأسماء التي تحمل مدلولات إسلامية، ويدل على ذلك قول أبي العلاء المعري: (وأبو الهندي إسلامي، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس، وهذان إسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح(3).

يتبين لنا مما سبق أن المسلمين أدركوا أن هناك معان إسلامية قد كونها القرآن الكريم، وأن بعض الكلمات قد تحول معناها عما كان عليه قبل نزول القرآن الكريم، وأن هذه مواقعها وسياقاتها الجديدة، وقد حق لأبي هلال العسكري أن يقول: (ولم يعرف أهل الجاهلية من ذلك شيئاً).

وفي العصر الحديث اهتمت بعض كتب أصول الفقه بدراسة الدلالات القرآنية تمهيداً للبحث في أصول التشريع الإسلامي للقرآن والسنة والاجتهاد والقياس. وكان الحديث عن الأسماء اللغوية والشرعية فيها ممهداً لتفصيل القول في الأحكام الأخرى كطرق الاستنباط وتفصيل الأحكام.

وقد عرض الأستاذ علي حسب الله في كتابه(أصول التشريع الإسلامي) تحت عنوان(لقواعد اللغوية) إلى معاني الألفاظ: لغة وشرعاً. فقال: (إن الأسماء اللغوية تنقسم إلى قسمين: وضعية وعرفية(1). ومضى يعرف كلاًّ من هذين القسمين حتى وصل إلى الأسماء الشرعية التي قال فيها: (وقد وجدنا الشارع يستعمل ألفاظاً عربية في معان لم يعرفها العرب من قبل، فهل وضع الشارع لهذه المعاني وضعاً مبتدأً لا علاقة له بمعانيها الأولى من غير نقل؟ أم نقلها بطريق التجوز إلى معان تتصل بمعانيها الأولى، وذاعت في المعاني الجديدة حتى أصبحت حقائق شرعية عرفية فيها؟

1- ذهب الخوارج والمعتزلة وطائفة من الفقهاء إلى أن الشارع يجرد الألفاظ من معانيها اللغوية، ويضعها وضعاً مبتدأ للمعاني الشرعية أو الدينية(1). ثمر عرض المؤلف أدلة هذا الفريق. ومضى يعرض الآراء الأخرى.

2- وذهب أبو بكر الباقلاني إلى أن الشارع يستعمل الألفاظ العربية في معانيها اللغوية، ولا يتصرف فيها إلا بوضع شروط وقيود يتحقق بها المقصود الشرعي. وجاء المؤلف بأدلة هذا الرأي.

3- وذهب الغزالي والرازي وجماعة إلى التوسط، فأنكروا أن تكون الألفاظ الشرعية منقولة نقلاً كليًّا عن معانيها اللغوية على نحو ما ذهب إليه الخوارج والمعتزلة وأن تكون باقية عليها من غير تصرف فيها إلا بوضع الشروط والقيود على نحو ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني. وقالوا: إن الشارع تصرف في الألفاظ العربية كما تصرف العرف فيها، فخصص بعض الأسماء ببعض مسمياتها كألفاظ الإيمان والحج والصوم ونحوها، وأطلق بعض الألفاظ على ما له صلة بمعناها، كما أطلق لفظ محرمة على الخمر، والمحرم شربها)(2).

ولم يكن من السهل تحديد المصطلحات الإسلامية في القرآن الكريم، لأن أمرين في غاية الأهمية يتحكمان في عملية التحديد هذه:

أولهما: كيف يمكن اعتبار كلمة ما داخلة في حيز الاصطلاح

وثانيهما: مدى شيوع هذا الاصطلاح في حياة الناس العملية شيوعاً يستحق معه الدراسة والتسجيل.

ولاجتياز العقبة الأولى كان لابد من قراءة القرآن الكريم عدة مرات، وتسجيل الكلمات التي يظن أنها من الكلمات الاصطلاحية، ثم عرض هذه الكلمات على كتب الفقه الإسلامي المتعددة، وكتب التفسير المتنوعة، لمعرفة المجال الذي تحركت فيه الكلمات، والأثر الذي تركته في حياة المسلمين. وفي أثناء عملية الحصر هذه كانت بعض المصطلحات تفرض نفسها على هذا البحث لأنها تكون مفهوماً محدداً، وشائعاً في الوقت نفسه، مثال ذلك مصطلحات: العبادة والتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج،والجنة والنار، والجهاد وما إلى ذلك. ولكن كلمات أخرى كانت تقتضي بعض التوقف والتساؤل: هل هي من المصطلحات أم لا؟ مثال ذلك بعض أسماء الله الحسنى. فالقادر والسميع والبصير والودود مثلاً، يمكن أن تكون مصطلحات إسلامية إذا نظرنا إليها على أنها من الأسماء الحسنى، ويمكن ألا تكون كذلك إذا سمينا بها إنساناً ما، فعندما نقول (عبد الودود) يتوجه الذهن حالاً إلى أن الودود هو الله عز و جل وأن فلاناً المسمى بهذا الاسم إن هو إلا عبد من عباد الله. أما إذا قلنا: (فلان رجل ودود كما يظهر من تصرفاته مع زملائه) فإن هذه الكلمة لا تتعدى أن تكون صفة عادية، يمكن أن يتصف بها أي فرد من الناس.

ولا يكفي في هذا المجال القول: (إن هذه الكلمات إذا وردت معرفة بأل فإنه يقصد بها الله عز وجل، أما إذا وردت نكرة فإنها تكون صفة عادية لأي فرد من الناس. فنحن يمكن أن نقول: الأعلى، العزيز، الحكيم، مثلاً ونقصد به واحداً من الناس، بل إن القرآن الكريم فعل ذلك عندما قال الله عزوجل مصوراً جبروت فرعون وطغيانه: (فكذَّب وعصى * ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) (النازعات:21-25). وفي سورة يوسف أيضاً ورد أن حاكم مصر كان اسمه العزيز، قال تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًّا، إنا لنراها في ضلال مبين) (يوسف:30)، ودلالة مثل هذه الكلمات إنما يكشفها السياق الذي تقع فيه. ولذا فإني اقتصرت في هذا البحث على الأسماء الحسنى التي اختص بها الله عز وجل ولم يسم أو يوصف بها غيره سبحانه، قبل نزول القرآن وبعده، مثل: الله والأحد والصمد وسبحان وغيرها.

وهناك كلمات أخرى كان من الصعب اعتبارها مصطلحات إسلامية لأنها تحمل دلالات إسلامية عامة لا يمكن حصرها في إطار معين، مثل الخير، والشر، والدعاء، والسلطان، والغلول، والرجس، والخبائث، والزنا، فهذه كلمات عامة الدلالة يستوي في فهمها كل الناس، مسلمين وغير مسلمين، فإذا أطلقت هذه الألفاظ فإنها لا تكون معنى محدداً يمكن اعتبارها معه معنى إسلاميًّا أو مصطلحاً إسلامياً.

وكان يمكن دراسة هذه الكلمات مع غيرها من المصطلحات في هذا البحث، إلا أن ذلك يخرج هذه الدراسة عن الغاية التي عقدت من أجلها، وهي دراسة التطور اللغوي، في مجال الدلالة والمعنى عبر عصرين متواليين هما العصر الجاهلي والعصر الإسلامي الأول. وعدم وضوح هذه الغاية هو السبب الذي جعل بعض الكتب القديمة التي وضعت لمثل هذه الدراسة تخرج عن قصدها.

وهناك نمط ثالث من الكلمات تخضع لهذا الحكم نفسه. وهي الكلمات الخاصة بالأحوال المدنية في حياة الناس كالزواج والطلاق والميراث والوصية، فهي على الرغم من أنها تحمل دلالات إسلامية معروفة، إلا أنها لا تكون مصطلحات إسلامية، لأنها عامة في كل الشعوب، لذلك فإن الأولى بها أن تعالج في كتب الفقه ليتعرف الناس هناك إلى أحكامها وشروطها.

أما الأمر الثاني في تحديد المصطلحات الإسلامية وهو مدى شيوع المصطلح في حياة الناس، فقد كان سبباً في استبعاد بعض المصطلحات عن هذا البحث.

وأنني أقر- قبل التمثيل لهذه المصطلحات- أن المنهج الذي أقمت عليها بناء بحثي هذا يمكن القارئ من أن يدرس- إن شاء الله- هذه المصطلحات القليلة ليتعرف إلى التطور الدلالي فيها. وهنا قد يحسن التنبيه على أن الغاية عندي ليست هي في حصر المصطلحات مثلما هي في استخراج قاعدة عامة للبحث، تكون أساساً لدراسات أخرى في تطور الدلالات اللغوية في التراث العربي.

وأحب أن أقرر هنا أن هذا المعجم الذي أثبته في الصفحات التالية قد جمع خلاصته بحث طويل وجهد متواصل في استخراج المعاني اللغوية الأصلية لكل مصطلح من المعاجم اللغوية المعتمدة، مثل: العين والتهذيب واللسان والمحكم وغيرها. ثم هو خلاصة لبحث متواصل عن المعنى الاصطلاحي أو المعنى القرآني للكلمة، جبت خلاله كتب التفسير المختلفة، وكتب الدراسات الإسلامية المتنوعة.

وإني رغبت في اختصار هذا البحث، بالاحتفاظ بتلك الجذاذات، وعرض نتيجتها في هذا المعجم، عسى أن تتوفر فرصة أخرى لعرض هذا الموضوع في بحث مستوفٍ أقدم فيه الشواهد الشعرية من العصر الجاهلي، والشواهد القرآنية والأدبية على تطور الدلالة في القرآن الكريم، ليكون دليلاً صادقاً على إعجاز القرآن الكريم من وجهة نظر التطور الدلالي في الدراسة اللغوية.

وفيما يلي هذا المعجم الذي أشرت إليه:

ميارى 24 - 8 - 2010 03:34 AM

من أساليب العربية في الدعاء :

أريد أن أعرض لكلمة (الدعاء) في لغة التنزيل العزيز ثم أخلص من ذلك إلى النظر في الدعاء لغة وأسلوباً.

قال الله تعالى: (واَدعُواْ شُهَدآء كُم من دوُنِ اللهِ إن كُتُم صَاَدِقِين ) (البقرة:23).

قال أبو إسحق الزجاج: يقول: (ادعوا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة مثله) (1).

وقال الفراء: (وادعوا شهدائكم من دون الله).

يقول: آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم، وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خالياً فادع المسلمين، ومعناه: استغيث بالمسلمين، فالدعاء ههنا بمعنى الاستغاثة.

وقد يكون الدعاء عبادة كم في قوله تعالى: (إِن الَّذِينَ تَدعُون من دُونِ الله عبَاد أَمثَالَكُم )(الأعراف:194).

وقوله بعد ذلك (فادعوهم فليستجيبوا لكم )(الاعراف:194).

يقول: ادعوهم في النوازل التي تنزل بكم إن كانوا آلهة كما تقولون، يجيبوا دعاءكم، فإن دعوتموهم فلم يجيبوكم، فأنتم كاذبون إِنهم آلهة.

وقال أبو إسحق في قوله تعالى: ( أُجِيبُ دَعَوةَ الدَّاعِ إذاَ دَعَان ِ)(البقرة:186) معنى الدعاء لله على ثلاثة أوجه: فضرب منها توحيده والثناء عليه كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وكقولك: ربنا لك الحمد، إذا قلته فقد دعوته بقولك: (ربنا) ثم أتيت بالثناء والتوحيد.

ومثله قوله تعالى: (وقَاَلَ رَبُكُمُ ادعُونيِ أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِروُنَ عَن عبَادتَي... )(غافر:60) فهذا ضرب من الدعاء، والضرب الثاني: مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه كقولك: اللهم اغفر لنا، والضرب الثالث: مسألة الحظ من الدنيا كقولك: اللهم ارزقني مالاً وولداً، وإن سمي هذا جميعه دعاء، لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله: يا الله يا رب، يا رحمن، فلذلك سمي دعاءً.

وفي حديث عرفة: (خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )(حسن، رواه الترمذي) وإنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاءً، لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله وجزائه.

وأما قوله عز وجل: (فَمَا كَانَ دَعواَهُم إذ جَآءَهُم بأَسُنآ إِلآ أَن قَالواْ إِنَّا كنُاَّ ظَاَلِميِنَ )(الأعراف:5)، المعنى: إنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب و الدين، وما يدعونه إلا علي الاعتراف بأنهم ظالمين، هذا قول أبي إِسحق(1).

قال: والدعوى اسم لما يدعيه، والدعوى تصلح أن تكون في معنى الدعاء، لو قلت: اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين أو دعوى المسلمين، جاز، حكى ذلك سيبويه، وأنشد: قالت ودعواها كثير صخبه.

وأما قوله تعالى: (وَءَاخِرُ دَعواَهُم أَن الحَمدُ لِلَّهِ رَبَّ العَالَمِين َ) (يونس:10) فيعني أن دعاء أهل الجنة تنزيه الله وتعظيمه، وهو قوله: (دَعواَهُم فِيهاَ سُبحَانَك الَّلهُم َّ) (يونس:10) ثم قال: (وَءَاخِرُ دَعواَهُم.. .).

أخبر أنهم يبتدئون دعاءهم بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمونه بشكره والثناء عليه، فجعل تنزيهه دعاءً وتحميده دعاءً أنه قال: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: (وقَاَلَ رَبُّكُمُ ادعُوِني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عبَادَِتي ) (غافر:60)، (رواه الإمام أحمد، والحاكم).

وقال مجاهد في قوله: (واَصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُون رَبَّهُم بِالغَداَةِ واَلعشِيَّ ) (الكهف:28): قال: يصلون الصلوات الخمس.

وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: (لَنّ ندعُواْ مِن دُوِنِه إِلَها َ)(الكهف:14)، أي لن نعبد إِلهاً دونه.

والدعاء: الرغبة إلى الله عز وجل.

وفي الحديث: (لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة ) (رواه مسلم والنسائي)، يعني الشيطان الذي عرض له في صلاته، وأراد بدعوة سليمان عليه السلام قوله: وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي.

ومنه الحديث: (سأخبركم بأول أمري، دعوة أبي إِبراهيم وبشارة عيسى )، دعوة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: (رَبّناَ واَبعَث فِيهم رَسُولاً مَّنهُم يَتلُواْ عْلَيِهم آيَاتك َ) (البقرة:129)، وبشارة عيسى عليه السلام قوله تعالى: (وَمُبَشراً بِرَسُولٍ يأتي من بَعدِي اسمُهُ أَحمًد ُ) (الصف:6).

وفي حديث معاذ رضي الله عنه لما أصابه الطاعون قال: (ليس برجز ولا طاعون، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم)، أراد قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون )(رواه الإمام أحمد، الطبراني).

و دعوت الله له بخير وعليه بشر.

والدعاء واحد الأدعية.

هذا هو معنى الدعاء ودلالته في اللغة والاستعمال.

وقد بلغت العربية في أسلوب الدعاء مبلغاً، قل أن نقف على نظيره في سائر اللغات القديمة.

قلت: (اللغات القديمة) لأخصص أن هذا الأسلوب في صوره ودلالاته خاص بالعربية القديمة، وأن العربية المعاصرة، قد خلت من هذه الصور البيانية التي تبرز في أساليب الدعاء، والأساليب الأخرى. ألا ترى أن هذه العربية الجديدة قد خلت من(المثل) وإن كل ما يتمثل به المعربون أحياناً هو مثل قديم استعير لمطالب الحياة الجديدة في بعض الأحايين. وقد يقال: إن اللغات في عصرنا غير محتاجة إلى هذه الألوان الفنية، لأن حاجات جديدة قد جدت، صرفت المعربين إلى أن يجدوا في اللغة ما يفي بها.

ومن هنا كانت دراسة الأساليب القديمة، والوقوف عليها، شيئاً يدخل في معرفة تاريخ هذه اللغة العريقة.

قالوا: الدعاء ينصرف للخير، كما ينصرف للشر، وقد يدرك هذا أحياناً باستعمال الأداتين: (اللام) في الخير، و(على) في الشر فيقال: أدعو لك، وأدعو عليك.

ويتجاوز استعمال هاتين الأداتين أسلوب الدعاء إلى أسلوب الخبر، فينصرف كذلك إلى الخير والشر فيقال مثلاً: يوم لنا، ويوم علينا، وقد بقي في استعمال( على) شيء من هذا الجنوح إلى الشر(1). ولعل من أجل ذلك، عيب قول أبي تمام في مطلع قصيدته البائية:

على مثلها من أربع وملاعب أذيلت مصونات الدموع السواكب

قلت: إن الأدب القديم، قد حفل بكثير من فنون الدعاء، ولنعرض لذلك فنقول: تختلف جمل الدعاء في العربية، فهي قد تبدأ بالفعل، وقد تبدأ بالاسم المرفوع، وقد تبدأ باللام ومدخوله، وكثيراً ما يأتي معنى الدعاء في عبارة صدرت بالمصدر المنصوب.

فمما بدئ بالفعل قولهم: هديت خيراً(بالبناء للمفعول)، ولقيت خيراً، وصادفت رشداً، ووقيت الشر، وسهل الله عليك، وفرج الله عنك، كل ذلك وغيره مما يتقرب به، دعاء. لك أن تتسع هذا، فتنشئ ما تريد مما ترمي به إلى الخير مفصحاً عن رغبتك في ذلك، فيؤدي الدعاء، كأن تقول: هداك الله، وبلغت مرادك، ووفقك الله.

ومثل هذا ما ينصرف إلى الشر إرادة الدعاء نحو: عدمت خيراً، ولقيت شراً، وقاتلك الله، ولعنك الله، وغير ذلك.

ومن هذا ألفاظ التصلية، والتسليم، والرحمة، والرضوان، على النبيين والأولياء وسائر الصالحين، فنقول في(الصلاة والسلام) على نبينا محمد: صلى الله عليه وسلم.

ونقول: عيسى وموسى وسائر الأنبياء: عليهم السلام.

ونقول: ومن حديث علي رضي الله عنه، وقد ورد أيضاً كرم الله وجهه.

ونقول: وكان عثمان بن عفان- رضي الله عنه.

كما نقول: ومما أثر عن الإمام الشافعي وأضرابه: رضي الله عنهم.

وقد تبدأ عبارة الدعاء بالاسم المرفوع نحو:

ورحمة الله عليه، ورضوان الله عليه، وسلام الله عليه...

كما نقول: لعنة الله عليه(1) وقد يعطف عليه كقولهم: لعنة الله وغضبه عليه.

وقد يؤخر المرفوع، فيبدأ باللام ومدخوله نحو:

لك الحمد ولك الخير ولك السعد.

كما نقول: لك الله، قال المتنبي في رثاء جدته:

لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيله شوق غير ملحقها وصما

كما يقال: لك الويل، قال الفرزدق:

لك الويل لا تقتل عطية إنه أبوك ولكن غيره فتبدل

وقد ترد عبارة الدعاء مصدرة بـ(لا) النافية بعدها فعل ماض

نحو: لا فض فوك، في استحسان قول أحدهم، كأنه قيل، أحسنت.

والمعنى: لا تكسر أسنانك، والفم ههنا الأسنان، كما يقال:

سقط فوه، يعنون الأسنان.

وقد ترد العبارة بالفعل المضارع: لا يفضض الله فاك.

ومن ذلك حديث النابغة الجعدي لما أنشد الرسول الكريم القصيدة الرائية

قال: فعاش مائة وعشرين سنة لم تسقط له سن.

وفي حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله إني أريد أن امتدحك، فقال: (قل لا يفضض الله فاك) (1)، ثم أنشده الأبيات القافية.

ومثل هذا: لاعدمتك، ولا ظفر حاسدوك.

ومن المناسب أن نشير إلى أن الفعل(زال) المفيد للاستمرار، يترشح للدعاء إذا سبقه(لا) كقول ذي الرمة:

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

ومن المفيد أن أشير قبل الكلام على(انهلال القطر) في البيت، إلى أن صدر البيت قد حفل بنمط آخر من الدعاء، وذلك بالأمر في(يا اسلمي) والخطاب إلى(دار مي). يدعو أن تسلم على البلى، فلا ينال منها الزمان شيئاً.

أقول: واستعمال الأمر كثير في لغة الدعاء، ولعله أكثر سيرورة من الصيغ الأخرى، وهذا يعني أن(الأمر) قد خرج إلى الدعاء والالتماس، رغبة في شيء ينصرف إلى الخير حيناً، وإلى الشر حيناً آخر.

ويأتي في لوازم هذه الجمل الدعائية، أسلوب النداء المتمحض للدعاء كقولنا: اللهم انصرنا على الأعداء، وربنا اهدنا إلى سواء السبيل. وأنت واجد من هذا الأسلوب الشيء الكثير، مما حفلت به لغة التنزيل العزيز كما سنرى.

ولنعد إلى بيت ذي الرمة فنقول: إن دعاءه بانهلال القطر أسلوب درج عليه العرب في جاهليتهم وإسلامهم. وإن هذا الدعاء يكاد يكون أحياناً كالتحية، ألا ترى أن هذا يتحقق في قول النابغة:

نبئت نعما على الهجران عاتبة سقيا ورعيا العاتب الزاري

فإذا كان غيث(1) كان منه لهم سقي، وخصب، ثم رعي.

وليس قولهم: (رعاك الله) إلا مشيرة إلى هذا الأصل القديم، الذي هو الرعي للسائمة من الإبل وغيرها، فكأن قولهم: (رعاك الله) المراد بها(الرعاية) تلمح إلى دأب الرعاء مع إبلهم.

ومن الغيث قالوا: جادك الغيث، أي أصابك غيث جود، وهو العزيز.

والدعاء بالسقي كثير في الأدب القديم، قال جرير:

أتذكر إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام

وقوله:

متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام

وليس اتفاقاً أن يجيء(الغوث) بمعنى النجدة، من(الغيث)، وهو الرحمة والخصب والخير والبركة، وهو غير(المطر) في هذه الخصوصية الدلالية.

قال الأصمعي: أخبرني أبو عمرو بن العلاء قال:

سمعت ذا الرمة يقول: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها!

قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غثنا ما شئنا.

والمعنى: سقينا ما شئنا. وهكذا عدلت عن(المطر) في سؤال السائل إلى(الغيث).

وقد تأتي عبارة الدعاء مبدوءة بمصدر منصوب، كقولهم: سقيا ورعيا، وحمداً لك اللهم، وأهلاً وسهلاً، وغير هذا.

وقد يأتي أسلوب الدعاء رسماً من رسوم الأدب مما يقتضيه الظرف وحسن المعاشرة، ومن ذلك قولهم للمملك دعاء له:

(بالرفاء والبنين) أي بالالتئام والاتفاق وحسن الاجتماع.

قال ابن السكيت: وإن شئت كان معناه بالسكون والهدوء والطمأنينة، ففي الحالة الأولى، يكون الأصل(رفأ)، وفي حالة الثانية، يكون الأصل(رفا) آخره ألف من قولهم: رفوت الرجل إذا سكنته.

قالوا: رفأه ترفئة وترفيئاً: دعا له: قال له: بالرفاء والبنين.

وقالوا: رقح بمعنى رفأ. وفي الحديث: كان إذا رقح إنساناً قال: (بارك الله عليك).

ومن هذا الباب قولهم في الدعاء للعاطس: يرحمك الله.

وهو التسميت أي ذكر الله- عز وجل- على كل حال، وقيل: معناه هداك الله إلى السمت، وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق.

وقد سمته إذا عطس فقال له: يرحمك الله، أخذ من السمت إلى الطريق والقصد، كأنه قصده بذلك الدعاء، أي جعلك الله على سمت حسن.

ومن هذا الباب أيضاً ما يقال للعاثر: حوجاً لك: أي سلامة.

ولما كان الحديث عن العاثر، فمن المفيد أن نشير إلى ما جاء في هذا من قولهم:

التعس: العثر، والتعس: أن لا ينتعش العاثر من عثرته، وأن ينكس في سفال.

قال أبو إسحق في قوله تعالى: (فتعساً لهم وأضل أعمالهم ) (محمد:8)، يجوز أن يكون نصباً على معنى أتعسهم الله. وقال الأعشى:

بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

ويدعو الرجل على بعيره الجواد، إذا عثر فيقول: تعساً! فإذا كان غير جواد ولا نجيب، فعثر قال له: لعا.

وقد يجتزأ من(لعا) بقولهم: عا لك عاليا للدعاء بالإقالة، أنشد ابن الأعرابي:

أخاك الذي إن زلت النعل لم يقل: تعست، ولكن قال: عا لك عاليا

ميارى 24 - 8 - 2010 03:35 AM

ما جاء في الدعاء في لغة التنزيل :

قال تعالى: (ألا بُعداً لِعَاد قَوم هُود ) (هود:60).

(أَلا بُعداً لِثَمُود ) (هود:68).

(أَلا بُعداً لمدينَ كَما بعدت ثَمود ) (هود:95).

والبعد هنا الهلاك، وقوله: بعدت ثمود أي هلكت، قال مالك ابن الريب:

يقولون: لاتبعد، وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا

وقد فرق في الفعل بين البعد بمعنى الابتعاد، فقيل في الأولى(بعد) مثل(فرح) وفي الثانية: (بعد) مثل (كرم) وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الكريمة. وقال المتنبي:

أبعد بعدت بياضاً لا بياض له لأنت أسود في عيني من الظلم

ومن الدعاء قوله تعالى:

(تبت يدا أبي لهب ) (المسد:1) أي ضلتا وخسرتا، وقال

اخسر بها من صفقة لم تستقل تبت يدا صافقها ماذا فعل

ومن الدعاء أيضاً، قوله تعالى: (فَتعسا لَهُم وأَضَلَّ أّعمَالَهم ) (محمد:8). أي هلاكاً لهم.

ومن الدعاء أيضاً قوله تعالى:

(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (يونس:10).

ولا تعدم الآية الأولى من(الفاتحة) أن تكون مفيدة للدعاء لدى من يتلوها: (الحمد لله رب العالمين).

ومثل هذا، دعاء الصلاة: (لك الحمد ملء السموات والأرض).

ومن الدعاء أيضاً قوله تعالى: (دَعواَهم فيها سُبحانَك الَّلهم وتَحيتُم فيها سَلام ) (يونس:10).

وقد يتوصل إلى الدعاء بالمصدر(حمداً) فيقال: حمداً لك اللهم.

ومن الدعاء في لغة التنزيل العزيز:

(فسحقاً لأصحاب السعير ) (الملك:11).

والسحق: البعد، فكأن المعنى: فبعداً لأصحاب السعير.

ومكان سحيق أي بعيد.

وفي التنزيل: (أو تَهوي به الرَّيح في مَكَانٍ سَحِيق ) (الحج:31).

وحديث(السلام) مستفيض في لغة التنزيل، وهو في آي كثير يراد به، الدعاء ومنه: (وإذَا جَاءك الَّذِينَ يؤمنون بآياتنا فَقُل سَلامٌ عَلَيكُم )(الأنعام:54).

(ونَادوا أصحاب الجنَّة أن سَلام عَليكم ) (الأعراف:46).

(وتحيتهم فيها سَلام ) (يونس:10).

(ولَقَد جَاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قَالوا سلاماً قَال سلام )(هود:69).

(سَلام عَليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار ) (الرعد:24).

(وَسَلام عليه يوم ولد.. .) (مريم:15).

(والَسَّلام على يوم وُلدت.. .) (مريم:23).

(وَسَلام على المرسلين. والحمد للهِ رب العالمين )(الصافات:181).

ومن الدعاء قوله تعالى:

(ربنا اطمس على أموالهم ) (يونس:88).

أي غيرها. وقد ورد(الطمس) في لغة التنزيل ومنه قوله:

(ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) (يس:66).

وقال تعالى:

(الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) (الرعد:29).

ذهب سيبويه بالآية مذهب الدعاء.

ويحسن بنا أن نقف طويلاً على كلمة(طوبى) التي أفادت الدعاء، لنقول فيها شيئاً وذلك لخصوصيتها واختلاف الأقوال فيها.

طوبى: فعلي من الطيب، وكأن الأصل(طيبى) فصير إلى الواو لمكان الضمة فيها.

ويقال: طوبى لك وطوباك.

قال يعقوب: و تقل: طوبيك.

وجاء في(التهذيب): إن العرب تقول طوبى لك، ولا تقول طوباك.

وهذا قول أكثر النحويين، إلا الأخفش، فإنه قال: من العرب من يضيفها فيقول: طوباك.

وقال أبو بكر:طوباك إن فعلت كذا، قال: هذا مما يلحن فيه العوام، والصواب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا.

وقالوا: طوبى: شجرة في الجنة.

وقرأ ثعلبة: (طوبى لهم وحسن مآب) فجعل(طوبى) مصدراً كقولك:

سقيا له. ونظيره من المصدر الرجعي، واستدل على أن موضعه نصب بقوله: (وحسن مآب).

وهو خلاف ما ذهب سيبويه، إلى أن موضع(طوبى) الرفع عطف عليه بقوله

(وحسن مآب) مرفوعاً.

قال ابن جني: وحكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات، قال: قرأ عليّ q أعرابي بالحرم: (طيبى لهم) فأعدت فقلت: (طوبى)، فقال: (طيبى)، فأعدت فقلت: (طوبى)، فقال: (طيبى)، فلما طال علي قلت: طو طو، فقال طي طي.

قال الزجاج: جاء في تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن(طوبى) شجرة في الجنة. وقيل: طوبى لهم، حسنى لهم، وقيل: خير لهم، وقيل: خيرة لهم.

وقيل: طوبى اسم الجنة بالهندية، وقيل بالحبشية(1).

وقال قتادة: طوبى كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، وأنشد:

طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلا بيقطين العراق وفومها.

أقول: ومن قال: طوبى عربية فقد أدرك الصواب، وذلك لأن أصل(ط و ب، ط ي ب) من الأصول العربية القديمة في العربية وسائر أخواتها من اللغات السامية.

ومن الدعاء قوله عز وجل:

قال: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) (البقرة: 67).

قالت: (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ً) (مريم:18).

قال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ) (يوسف:23).

ومن الدعاء أيضاً قوله تعالى:

(هب لنا من لدنك رحمة ) (آل عمران:8).

(والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) (الفرقان:74).

وقوله تعالى: (قاتلهم الله أنى يؤفكون ) (المنافقون:4).

ونجتزي بهذا القدر مما ورد من الدعاء في لغة التنزيل العزيز.

ميارى 24 - 8 - 2010 03:38 AM

صور أخرى من الدعاء :

ما جاء من صور أخرى في كتب العربية، وسأوردها مرتبة بحسب أوائل المواد التي وردت فيها في تلك المظان:

أثر:

جاء في دعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، على الخوارج قوله: (ولا بقي منكم آثر)، أي مخبر يروي الحديث.

أرب:

في حديث عمر- رضي الله عنه:- أنه نقم على رجل قولاً قاله، فقال له: أربت عن ذي يديك(1)، معناه: ذهب ما في يديك حتى تحتاج.

وخبر ابن مسعود: أن رجلاً اعترض النبي صلى الله عليه وسلم فصاح به الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (دعو الرجل أرب ماله)، أي سقطت أعضاؤه وأصيبت.

قال: وهي كلمة تقولها العرب ولا يراد بها، إذا قيلت، وقوع الأمر، كما يقال: عقرى وحلقى.

وقولهم: تربت يداك،

قال ابن الأثير: في هذه اللفظة ثلاث روايات:

إحداها(أرب) بوزن(علم) ومعناه الدعاء عليه، أي أصيبت آرابه وسقطت، وهي كلمة لا يراد بها وقوع الأمر، كما يقال: تربت يداك، وقاتله لله، وإنما في معنى التعجب.

قال: وفي هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم قولان: أحدهما: تعجبه من حرص السائل ومزاحمته.

والثاني: أنه لما رآه بهذه الحال من الحرص غلبه طبع البشرية، فدعا عليه.

وقد قال في غير هذا الحديث: (اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنتُهُ، أو سببته، فاجعله له زكاةً وأجراً) (رواه مسلم).

أمت:

قال سيبويه: قالوا: أمت في الحجر، لافيك، أي ليكن الأمت في الحجارة لافيك، ومعناه: أبقاك الله، بعد فناء الحجارة، وهي مما يوصف بالخلود والبقاء.

ورفعوه وإن كان فيه معنى الدعاء، لأنه ليس بجار على الفعل، وصار كقولك: التراب له، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنه في قوة الدعاء.

أقول: وفي هذه العبارة التي تنصرف إلى الدعاء لون من ألوان صلة اللغة وأشكالها الأدبية بالبيئة، ومثل هذه البيئة البدوية الشيء الكثير، الذي أبقته العربية في أدبها شعراً ونثراً ومثلاً وغير ذلك

أوب:

ويقال: للداخل: طوبة وأوبة.

بؤس:

وقالوا: بؤساً له، في حد الدعاء، وهو مما انتصب على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره.

و قالوا جوسا له و بوسا. والجوس: البجوع، وستأتي.

برك:

والتبريك: الدعاء للإنسان، أو غيره بالبركة.

يقال: بركت عليه تبريكاً، أي قلت له: بارك الله عليك. وبارك الله الشيء، وبارك فيه وعليه: وضع فيه البركة.

وفي التنزيل العزيز: (وباركنا عليه) (الصافات:113).

ومن هذا ما هو جار في اللغة المعاصرة، فهم يقولون دعاء: بارك الله فيك، وبورك يفك، وبوركت.

بجل:

قال طرفة: ألا أنني شربت أسود حالكاً ألا بجلي من الشراب الأبجل

قال: أراد الماء،

وقال شمر: وقيل أراد سقيت سم أسود.

بعد:

والبعد: الهلاك، وقد مر في الكلام على لغة التنزيل.

بلس:

ويقال: أرانيك الله على البلس. والبلس غرائر كبار من مسوح يجعل فيها التبن، ويشهر عليها، من ينكل به و ينادى عليه.

تبب:

التب والتباب: الهلاك والخسران.

وتباً لك نصب على الدعاء، كما تقول سقياً لك.

وفي حديث أبي لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا.

وقد مر بنا هذا الدعاء في لغة التنزيل.

ترب:

يقال: ترباً له وجندلا، وهذا من الأسماء التي تفيد الذات، أجريت مجرى المصادر المنصوبة على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره في الدعاء.

وكأنه بدل من قولهم: تربت يداه وجندلت.

وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) (متفق عليه).

قال أبو عبيد: قوله: تربت يداك، يقال للرجل إذا قل ماله: قد ترب أي افتقر، حتى لصق بالتراب.

ومنه قوله تعالى: (أو مسكيناً ذا متربة) (البلد:16).

قال: ويرون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر، ولكنها كلمة جارية على ألسن العرب، يقولونها، وهم لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها.

وقيل: معناها لله درك، وقيل: أراد به المثل، ليرى المأمور بذلك الجد، وأنه إن خالفه فقد أساء.

وقيل: هو دعاء على الحقيقة، فإنه قد قال لعائشة رضي الله عنها:

(تربت يمينك) (رواه مسلم)، لأنه رأى الحاجة خيراً لها.

كثيراً ما ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، وهوت أمه، ولا أرض لك، ونحو ذلك.

وقال بعض الناس: إن قولهم: تربت يداك يريد به استغنت يداك.

قال: وهذا خطأ لا يجوز في الكلام، ولو كان قال، لقال: أتربت يداك.

ترك:

والتريك: العذق إذا نفض فلم يبق فيه شيء، ولا بارك الله فيه، ولا تارك ولا دارك كله اتباع.

وجاء في أراجيزهم المشهورة في شواهد العربية:

لقد رأيت عجباً مذ أمسا

عجائزاً مثل السعالى خمساً

يأكلن ما في رحلهن همساً

لا ترك الله لهن ضرساً

ولا لقين الدهر إِلا تعساً

تعس:

لقد مر بنا في قوله تعالى: (فتعساً لهم وأضل أعمالهم) (محمد:8).

وأصل التعس العثر.

وقال الشاعر:

وأرماحهم ينهزنهم نهز جمة يقلن للمن أدركن تعساً ولا لعا

على أن استعمال(التعس) وإرادة الدعاء فيه، قد بقي في اللغة المعاصرة، وإن جهل المعربون أنه دعاء، فيقال مثلاً: تعساً لك.

ويقال: تعساً له، ونكسا.

والنكس والنكاس: العود في المرض.

وفي حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم... تعس وانتكس) (رواه البخاري) أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة.

توس:

ويقال: توسا لك، مثل قولهم: بوسا لك، وقد مر بنا ذلك.

توب:

التماس التوبة في أحاديث الدعاء كثير، كقولهم: اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا...

وفي دعاء السفر: يقال: توبا لربنا أوبا، أي توبا راجعا مكررا.

ثكل:

يقال في الدعاء على رجل: ثكلتك أمك.

والثكل: الموت والهلاك. والأم ثاكل وثكول وثكلى.

وفي الحديث أنه قال لبعض أصحابه: (ثكلتك أمك...) (الإمام أحمد، الترمذي، الحاكم) أي فقدتك، والثكل فقد الولد.. ولا يقل: ثكلك أبوك.

على أنه يقال في الدعاء: لا أب لك، كما يقال لا أم لك.

وقال أبو علي: (لا أبا لك) كلام جرى مجرى المثل، وذلك أنك إذا قلت هذه، فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه، وإنما تخرجه مخرج الدعاء عليه، أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه، وأنشد توكيداً لما أراد من هذا المعنى قوله: ويترك أخرى فردة لا أخا لها.

ولم يقل: لا أخت لها، ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم: لا أبا لك، قيل مع المؤنث، على حد ما يكون عليه مع المذكر، فجرى هذا نحواً من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى، أو اثنين، أو جماعة:

الصيف ضيعت اللبن.

ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل، كثرته في الشعر، وأنه يقال لمن له أب ولمن لا أب له، لأنه إذا كان لا أب له، لم ينجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة، ألا ترى أنك لا تقول للفقير: أفقره الله؟ فكما لا يقول لمن لا أب له: أفقدك الله أباك، كذلك تعلم أن قولهم لمن لا أب له: (لا أبا لك)، لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه، وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي، قال عنترة:

فاقني حياءك لا أبا لك! واعلمي أني امرؤ سأموت، إن لم أقتل

وقال المتلمس:

الق الصحيفة، لا أبا لك، أنه يخشى عليك من الجباء النقرس

ويدلك على أن هذا ليس بحقيقة قول جرير:

ياتيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلقينكم في سوءة عمر

فهذا أقوى دليل على أن هذا القول مثل، لا حقيقة له، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد، ولكنكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له؟

وروي عن النضر بن شميل: أنه سأل الخليل عن قول العرب:

لا أبا لك، فقال: معناه لا كافي لك.

وقال الفراء: قولهم: (لا أبا لك)، كلمة تفصل بها العرب كلامها..

أقول: ومقالة الفراء ذات قيمة، ولو أنك قرأت قول زهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم

أحسست أن قوله: (لا أبا لك) كلام معترض لا يدل على خصوصية معنوية، بل هو تعبير جميل، استحسنوه فاستعملوه كثيراً، وأقيم به الوزن في البيت.

ألا ترى أن قولهم في الشعر: هديت، ووقيت، ونحوها، شيء يتم به الوزن وليس من إرادة للدعاء؟

أما قولهم: لا أم لك؟ فقد ورد في حديث ابن عباس أنه قال لرجل: (لا أم لك) قال: هو ذم وسب، أي أنت لقيط لا تعرف لك أم، وقيل قد يقع مدحاً بمعنى التعجب منه.

أقول: وهذا الشيء الأخير، وهو أن عبارة الذم الدعائية يراد بها المدح، جارية في الألسن العامية الدارجة، ألا تراهم يقولون: يخرب بيتك أو انهجم بيتك، أو الله يلعنك، إرادة المدح على طريقة التعجب؟

ثلب:

والإثلب أو الإتلب: التراب.

وقالوا: بفيه الإثلب، على الدعاء، كأنهم قالوا: بفيه التراب أو الحجر.

وقالوا: الإثلب لك والتراب، والنصب على الدعاء كأنه مصدر.

وهكذا نرى أن(التراب) وما في معناه، أو يقرب منه، قد دخل في اللغة القديمة في السب والشتم والذم، فخرج على الدعاء، وقدر مر بنا قولهم: تربت يداك.

جحد:

والجحد: القلة من كل شيء.

ونكدا له وجحدا، ودعاء عليه.

جرب:

والعرب تقول في دعائها على الإنسان: وما له حرب وجرب.

والحرب كالكلب، وقوم حربى كلبى، والفعل كالفعل.

والجرب معروف.

جندل:

انظر: تربا وجندلا، الذي مر بنا قبل صفحات.

جوس:

انظر(بؤس).

حرب:

انظر جرب:

حرر:

تقول العرب: ماله أحر الله صدره، وذلك في الدعاء على الإنسان.

ويقولون أيضاً: رماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد.

حلق:

ومما يدعى على المرأة قولهم: عقرى حلقى، وعقرا حلقا، أي عقرها الله وحلقها، أي حلق شعرها، أو أصابها وجع في حلقها.

حوب:

قالوا: إليك أرفع حوبتي، أي حاجتي، وفي رواية: نرفع حوبتنا إليك.

وفي الدعاء على الإنسان:

ألحق الله بك الحوبة، أي الحاجة والمسكنة والفقر.

حوج:

يقال للعاثر: حوجاً لك أي سلامة، وقد مر بنا هذا.

خضر:

ويقال في الدعاء: أباد الله خضراءهم، أي سوادهم ومعظمهم، وقيل: خصبهم وسعتهم.

وقالوا أيضاً: رمى الله في عيني فلان بالأخضر، وهو داء يأخذ العين.

خطأ:

في حديث ابن عباس: إنه سئل عن رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت: أنت طالق ثلاثاً. فقال: خطأ الله نوأها ألا طلقت نفسها.

ويقال لمن طلب حاجة فلم ينجح: أخطأ نوؤك، أراد الله نوأها مخطئاً لا يصيبها مطره.

ويروى: خطى الله نواها ، بلا همز.

خير:

ومن دعائهم في النكاح: على يدي الخير واليمن.

ذرأ:

وجاء: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ.

رفأ:

قالوا: بالرفاء والبنين في الدعاء للمملك، وقد مر بنا، انظرها قبل صفحات.

رفح:

انظر الموضوع نفسه(رفأ).

رقأ:

وروى المنذري عن أبي طالب في قولهم: لا أرقأ الله دمعته، قال: معناه لا رفع الله دمعته.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: فبت ليلتي لا يرقأ لي دمع.

ورقأت الدمعة ترقأ ورقوءاً: جفت وانقطعت.

سحق:

ويقال: سحقاً لهم أي هلاكاً، وانظر ما جاء من هذا في لغة التنزيل مما أفاد الدعاء، وقد ذكر قبل صفحات.

سلم:

مر بنا حديث(السلام) ودلالته في الدعاء، في جملة آيات كريمة.

طمس:

مر بنا الكلام على ما في القرآن من الدعاء.

طوب:

سبق الكلام على(طوبى لهم).

ظبي:

قولهم: به لا بظبي، يراد به الهلكة، كما ورد في قول الفرزدق يخاطب مسكينا الدارمي، وكان قد رثى زياد بن أبيه فقال:

أمسكين، أبكى الله عينك إنما جرى في الضلال دمعها فتحدرا

أقول له لما أتاني نعيه به لا بظبي بالصريمة أعفرا

أتبكي امرءا من آل ميسان كافراً ككسرى على عدانه أو كقيصراً

عشج:

وجاء في تلبية بعض العرب في الجاهلية:

لا همّ لولا أن بكرا دونكا

يعبدك الناس ويفجرونكا

ما زال منا عثج يأتونكا

والعثج، بفتحتين: الجماعة من الناس.

عقر:

انظر(حلق).

وجاء أيضاً:

وقالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما عند خروجها إلى البصرة:

سكن الله عقيراك فلا تصحريها، أي أسكنك الله بيتك وعقارك، وسترك فيه، فلا تبرزيه.

عمي:

قالوا: وإذا أرشدك إنسان الطريق فقل: لا يعم عليك الرشد.

وهو دعاء له بالخير والهدى.

عمر:

وعمره الله وعمره أي أبقاه، على الدعاء.

غبط:

وجاء في الدعاء: اللهم غبطاً لا هبطاً، أي نسألك الغبطة، ونعوذ بك أن نهبط عن حالنا.

غرب:

وجاء في دعاء ابن هبيرة:

أعوذ بك من كل شيطان مستغرب وكل نبطي مستعرب.

غضر:

ويقال أباد الله غضراءهم، أي سعتهم، وخصبهم.

غفر:

غفار! غفر الله لها.

قال ابن الأثير: يحتمل أن يكون دعاءً لها بالمغفرة، أو إخباراً أن الله تعالى قد غفر لها.

غور:

وقالوا: غارهم الله بخير أي أصابهم بخصب وغيث.

وفي الدعاء: اللهم غرنا منك بغيث وبخير.

فدي:

ويقال: فدى لك أهلي، على الدعاء أي يفديك أهلي.

ويقال: فداك أبي كما يقال: فديت.

وكثيراً ما نقرأ: جعلت فداك.

وأنشد الأصمعي للنابغة:

مهلاً! فداء لك الأقوام كلهم وما أثمروا من مال ومن ولد

ومنه قول نفيلة الأكبر الأشجعي(أزر):

ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري

قتل:

انظر ما جاء من أسلوب الدعاء في أدب القرآن الكريم.

قذي:

وجاء قول جميل:

رمى الله في عيني بثنية بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح

قرر:

ويقال: أقر الله عينه، من المقرور وهو الماء البارد.

كثكث:

وروي عن صفوان بن أمية أنه قال يوم حنين عند الجولة التي كانت من المسلمين، فقال أبو سفيان: غلبت والله هوازن، فأجابه صفوان وقال:

بفيك الكثكث، لأن يربني رجل من قريش، أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان.

كلأ:

وقال الشاعر: إن سليمى والله يكلؤها ضنت بزاد ما كان يرزؤها

لحي:

وفي حديث لقمان: فلحياً لصاحبنا لحياً، أي لوماً وعذلاً، وهو نصب على المصدر كسقيا ورعيا.

وقال عنترة: ألم تعلم لحاك الله أني أجم إذا لقيت ذوي الرماح

لقي:

انظر(ترك).

نفس:

وجاء في الدعاء: اللهم نفَّس عني، أي فرج عني، ووسع علي.

نكد:

انظر(جحد).

هبل:

الهبل: الثكل، وهبلته أمه بمعنى ثكلته.

وهبلتك أمك على الدعاء.

وفي حديث عمر رضي الله عنه، حين فضل الوادعي سهمان الخيل، على المقاريف، فأعجبه فقال: هبلت الوادعي أمه، لقد أذكرت به!

فالثكل هو الأصل في المعنى، ثم يستعمل في المدح والإعجاب،يعنى: ما أعلمه وما أصوب رأيه.

وفي حديث الشعبي: فقيل لأمك الهبل.

هنأ:

وقالوا: هنئت ولا تنكأ، أي هناك الله بما نلت، ولا أصابك وجع.

وقالوا: لا هناك المرتع، أي لا أصبت خيراً.

هوي:

وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:

هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً وماذا يؤدي الليل حتى يؤوب

ومعنى هوت أمه أي هلكت أمه.

ومازال هذا الدعاء معروفاً لدى الأمهات في العراق، في لغتهن الدارجة حين يعلمن بوفاة شاب يقلن: ماتت أمه.

ويب:

كلمة مثل ويل، يراد بها التعجب.

وويباً لهذا الأمر ، أى عجباً.

وويباً لزيد، مثل وويلا لزيد.

ومنه قول كعب بن زهير:

ألا أبلغا عني بجيراً رسالة على أي شيء ويب غيرك دلكا؟

ويل:

كلمة مثل ويح، إلا أنها كلمة عذاب، ومن هنا وردت في أسلوب الدعاء في قوله تعالى:

(ويل للمطففين...) (المطففين:1).

وقوله: (ويل لكل همزة لمزة) (الهمزة:1).

وفي آيات أخرى.

وقالوا: ويلمه، والأصل: ويل لأمه، فحذف اللام ثم الهمزة، وركبت الكلمتان على طريقة النحت.

ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلمه مسعر حرب) (أخرجه البخاري).

أقول: هذه نماذج، بل شذرات من العربية، مما استقريته من(لسان العرب) وغيره تشتمل على أسلوب الدعاء في العربية.

وعندي أن الألفاظ التي تقدم، بين يدي الملك، والأمير والرئيس والعالم الجليل وغير هؤلاء من أهل الشأن، ضرب من أسلوب الدعاء، في العربية المعاصرة نحو:

جلالة الملك.

ومعالي الوزير.

وسيادة الرئيس، أو فخامته.

وسعادة الأمير.

وسماحة العالم، ونيافة الحبر.

وبعد، ألم يتوصل النابغة الذبياني إلى النعمان مخاطباً بقوله:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني وتلك التي تستك منها المسامع

ثم أني قد وجدت من فيض العربية السمحة ما يحق للمرء أن يملأ ماضغيه فخراً إذا قرأ مستمتعا بعض ما ورد من بيان التوحيد في(إشاراته الإلهية) فوجد من مادة الدعاء أعلاق العربية النفيسة.

اللهم إني قد خدمت كتابك الكريم، واللغة العلية، التي جاءت فيه، فاكتبني مع الصالحين.

ميارى 24 - 8 - 2010 03:40 AM

مع الدلالة والتطور

سأعرض في هذا الفصل لجملة من المواد، استعملت في لغة القرآن استعمالاً خاصاً، ومن هذه، أفعال وأدوات، كحروف الجر وغيرها. وقد فسر أهل اللغة هذه الاستعمالات الخاصة تفسيراً خاصاً، أسموه: (التضمين).

والتضمين: مصطلح يتصل أيضاً بالبلاغة والعروض، وقد بسطت هذا الموضوع في مكان آخر، أما التضمين الذي نأتي إليه في هذا الفصل، فإن مواده تتصل باللغة والنحو. وفي الحق، إن هذا القسم غير مستقل عن التضمين في البلاغة والعروض، من حيث بعده عن البلاغة، واتصاله بالمباحث اللغوية والنحوية، فقد امتدت إليه يد البلاغة، فناقشت أصوله في ضوء العقلية البلاغية التي شاعت في المنهج اللغوي، ومن المعلوم أن المنهج البلاغي يستدعي البحث في النصوص الأدبية، للوصول إلى الصور البيانية والقيم الجمالية.

ومن المعلوم أيضاً أن الجانب النحوي في موضوع التضمين، قد تعرض لسؤالات بلاغية، كالاستفسار عن(ماهيته)، أحقيقة هو أم مجاز؟ وهل القيد فيه حال منتزعة من المنقول منه؟ وما يشبه ذلك من المسائل البلاغية.

ولكي نعطي فكرة واضحة عن هذا القسم، رأينا أن نعرض لمواضع التضمين في الاستعمال، لنخلص إلى تحديده وضبطه وتعريفه، ثم نقرر أحقيقة هو أم مجاز، رغبة منا في أن نصل بعد هذا إلى أنه قياسي، يحوز أن يقاس عليه مما اشتهر استعماله، أو أنه سماعي لا ينقاس عليه.


ميارى 24 - 8 - 2010 03:41 AM

التضمين في الاستعمال :

لم يسلم منهج الباحثين في علم العربية من قيود المنطق وآثار الفلسفة، ذلك أن العقلية الفلسفية قد غزت سائر العلوم، فقد استهوى منطق أرسطو وفلسفة الفلاسفة الآخرين، الباحثين في الثقافة الإسلامية، فتأثروا بهذا في سائر علومهم.

وكان من نتائج ذلك، أن تأثر البحث اللغوي والنحوي بهذا المنهج الدخيل على النحو واللغة، وكان تأثيره في النحو واللغة سلبياًّ، فقد أحال كثيراً من الأبواب اللغوية والنحوية إلى مادة جامدة بعيدة عن الحياة، أو قل بعيدة عن العلم اللغوي.

ومن أجل هذا ظهرت في علوم العربية قواعد وأحكام، لم تكن وليدة الاستقرار الشامل الواسع للغة، كقولهم مثلاً: إن الفعل(كذا) يأتي لازماً ولا يأتي (متعدياً وإن الحرف كذا يأتي لمعنى)، وهكذا فإذا فظنوا أن هذا الفعل وذلك الحرف، قد أتيا على غير ما ذكروا، فزعوا إلى طريقتهم ومنهجهم يؤولون ويعللون، كأن يقدرون محذوفاً، أو يحذفون ما هو مذكور، وليس هذا مجال عرض المشكلات اللغوية والنحوية، التي أفسدها المنهج المنطقي، فهي كثيرة يعرفها المعنيون بالموضوع.

إن مبحث التضمين، الذي ندرسه، يظهر اضطراب علماء العربية القائلين به، فهناك نصوص تنم عما وضعوه من أحكام وقيود، لم يجدوا إلى حلها غير القول بـ(التضمين)، ولا بد للباحث في علم الدلالة Semantique بغية الإفادة منه في العربية، أن يعاني صعوبة البحث، إذا ما أراد أن يخلص للمنهج السليم، ولا سيما في عصوره الحديثة.

إن أول حيز للتضمين هو أدوات المعاني، أو حروف الصفات على حد تعبير ابن قتيبة(1).

1- إن الحرف(في) تضمن معنى(على) كقوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل ) (طه:71). أي على جذوع النخل، قال الشاعر:

وهم صَلبوا العبديَّ في جذع نخلةٍ فلا عطستْ شيبانُ إِلا بأجذعا

وقال عنترة:

بَطلٌ كأن ثيابه سَرْحةٍ يُحذَى نعال السَّبتِ ليسَ بتَوأَم

أي على سرحة من طوله.

2- إن الحرف(إِلى) تضمن معنى(في) كقول النابغة:

فلا تتركَنّي بالوعيدِ كأنّني إلى الناس مَطْليٌ به القارُ أَجرَْبُ

يريد في الناس.

وقال طرفة بن العبد:

وإن يلتقِ الحيُّ الجميع تُلاقِني إلى ذروةِ البيتِ الكريمِ المصَمَّدِ

أي في ذروة البيت الكريم الذي يصمد إليه ويقصد.

3- إن الحرف(على) تضمن معنى(عن) كقول القحيف العقيلي:

إذا رضِيتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ لعَمْر اللهِ أَعْجَبني رِضَاها

أي رضيت عنه.

4- إن الحرف(الباء) تضمن معنى(عن) كقوله تعالى: (فاسأل به خبيرا ً) (الفرقان:59)، أي عنه.

قال علقمة بن عبدة: فإِنْ تَسألُوني بالنساءِ فإنني بَصيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ

وقال ابن أحمر: تُسائلُ بابنِ أَحْمرَ من رآه أَعارت عينهُ أم لم تُعارا

5- إن الحرف(اللام) تضمن معنى(على) كقوله تعالى: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) (الحجرات:2)، أي لا تجهروا عليه بالقول، والعرب تقول: سقط فلان لفيه، أي على فيه.

قال الأشعث بن قيس: تناولتُ بالرمحِ الطويلِ ثيابَهُ فخرَّ سريعاً لليديْنِ وللفمِ أي على اليدين والفم.

وقال الطَرمَّاح بن حكيم: كأنّ مُخَوَّاها على ثَفِناتها معرَّسُ خِمْسٍ وقَّعَت للجناجنِ

6- إن الحرف(إلى) تضمن معنى(مع) كقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم )(النساء:2)، أى: مع أموالكم)... وكقوله تعالى: (من أنصاري إلى الله ) (آل عمران:52)، أي مع الله.

والعرب تقول(الذود إلى الذود إِبل) أي مع الذود.

قال ابن مفرَّغ: شَدَخَتْ غُرَّةَ السَّوابِقِ منْهمُ في وجوهٍ إِلى اللَّحَام الجِعَاد

أي مع اللحام الجعاد.

7-إن حرف(اللام) تضمن معنى (إلى) كقوله تعالى: (بأن ربك أوحى لها )(الزلزلة:5) أي أوحى إليها.

أقول: ألم يكن الباعث إلى العدول عن الحرف(إِلى) إِلى(اللام)، ما يقتضيه التناسب والفاصلة، حيث إن الآيات كلها انتهت تقريباً باللام فاصلة(كالروي في البيت) وهذه اللام مفتوحة، ولا يتأتى هذا التناسب بالحرف(إِلى)!

(إذا زلزلت الأرض زلزالها* وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان ما لها* يومئذٍ تحدث أخبارها* بأن ربك أوحى لها )(الزلزلة:1-5).

وقال تعالى: (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الأعراف:43) أي إلى هذا، كما قال تعالى أيضاً: (وهداه إلى صراط مستقيمٍ )(النحل:121)

8- إن الحرف(على) تضمن معنى(من)، كقوله تعالى: (إذا إكتالوا على الناس يستوفون )(المطففين:2)، أي من الناس.

وقال صخر الغي: متى ما تُنْكِروُها تَعْرِفوها على أقطارِها عَلَقٌ نَفِيثُ أي من أقطارها.

9- إن الحرف(من) تضمن معنى(الباء)، كقوله تعالى: (يحفظونه من أمر الله ) (الرعد:11) أي بأمر الله.

وقال تعالى: (يلقي الروح من أمره) (غافر:15)، أي بأمره.

10- إن حرف(الباء) تضمن معنى(من) كقول أبي ذؤيب الهذلي:

شَرِبْنَ بماءِ البَحْرِ ثُمٍ تَرَفَّعتْ متى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنّ نَئيجُ

وقال تعالى: (عيناً يشرب بها المقربون ) (المطففين:28)، أي منها.

ومن المفيد أن أشير إلى أنهم قالوا: إن(متى) تضمنت معنى(من)، في بيت أبي ذؤيب الهُذَلي.

أجتزئ بهذه الشواهد، فأتبين فيها، أن النحويين وعلماء اللغة في حيرة واضطراب، فهم يرون حرفاً قد استعمل في مكان آخر، ولا بد لهم أن يتخلصوا من هذه الحيرة وهذا الاضطراب بوسيلة من وسائلهم.

والبصريون يمنعون إنابة بعض الحروف الجارة عن بعض قياساً، كما لا تنوب حروف الجزم والنصب بعضها عن بعض، وما أوهم ذلك محمول على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف، أو على شذوذ النيابة.

والكوفيون يجوزون نيابة بعضها عن بعض قياساً(1). وقد رجح ابن هشام مذهبهم فقال: (مذهبهم أقل تعسفاً) (2).

لقد اختلف البصريون والكوفيون في هذا الباب اختلافاً كبيراً، واختلافهم يشير إلى أن هؤلاء جميعاً لم يستقروا كلام العرب استقراءاً وافياً ليسجلوا هذه الاستعمالات، وليقيدوها بقائليها، وبالزمن الذي قيلت فيه، مهتمين بموضوع اللغات الخاصة التي أجازت استعمالاً دون آخر.

قال الأنباري في(الإنصاف): (ذهب الكوفيون إلى أن(من) الجارة يجوز استعمالها في الزمان، والمكان)، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان، أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا:

الدليل على أنه يجوز استعمال(من) في الزمان أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب. قال تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه) (التوبة:108).

وقال زهير: لِمنِ الدَّيارُ بقُنَّةِ الِحجْرِ أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومِنْ دَهْر

فدلَّ على أنه جائز.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: (أجمعنا على أن(من) في المكان نظير(مذ) في الزمان، لأن(من) وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان، كما أن(مذ) قد وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان، ألا ترى أنك تقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فيكون المعنى: أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة، كما تقول: ماسرت من بغداد، فيكون المعنى: ما ابتدأت بالسير من هذا المكان.. فكما لا يجوز أن تقول: ما رأيته من يوم الجمعة، لا يجوز أن تقول: ماسرت مذ بغداد) (1).

وهذا الخلاف والجدل يظهران أن الكوفيين أسدُّ رأياً وأصوب منهجاً، ذلك أنهم اعتمدوا استعمالات بنوا عليها رأيهم، وهذا وجه علمي صائب.

أما البصريون فإنهم قد تمسكوا بجدل ذي أسلوب منطقي، واعتمدوا استعمالات اصطنعوها هم أنفسهم، ولم يعتمدوا على شواهد استقروها من النصوص الموثقة.

وقد استمر الكوفيون على منهجهم في إنابة كلمة عن أخرى، فالفراء قد أجاز أن تقع(ليت) في موضع(تمنيت)، وبهذا علل كون(ليت) أقوى أدوات النصب كما يرى هو. وقد أجاز أن ينصب بها المسند إليه والمسند، مستشهداً بقول الشاعر: يا ليتَ أيَّام الصِّبا رواجعا(1)

لأنها شربت معنى(تمنيت)، فإذا قيل: ليت زيداً قائماً، كان معناه: تمنيت قيام زيد، وقد ورد من هذا قول الشاعر:

إذا اسودّ جُنحُ الليل فلتأت ولتكُنْ خُطَاك خِفَافاً إِنَّ حُرَّاسَنا أُسداً

وقد جاء في الحديث: (إِن قعر جهنم لسبعون خريفاً)، (رواه مسلم) وقولهم: إن زيداً أخانا(2). وقد أنابوا فعلاً عن فعل آخر، على سبيل التضمين، وهو موضوع يكشف أن علماء العربية لم يتعقبوا الاستعمالات ويقيدوها كما أشرنا، وكان من ذلك أنهم احتالوا على كل ما وجدوه خارجاً عما قرروه من قواعد وضوابط فقالوا بالتضمين مثلاً.

قال الزمخشري: (ومن شأنهم أن يضمنوا الفعل معنى آخر فيجروه مجراه، ويستعملوه استعماله، مع إرادة معنى المتضمن. قال: والغرض في التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى، ألا ترى كيف رجع معنى (ولا تعد عيناك عنهم )(الكهف:28) إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، وكذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم )(النساء:2)، أي لا تضموها إليها آكلين.

وأنت ترى أن حقيقة التضمين عند الزمخشري قائمة على أساس ضعيف، إذ كيف يجوز أن يتضمن الفعل في جملة واحدة معنيين، ولم يفت الأقدمين هذا الاضطراب في الدلالة، فقد ذكر الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف: (... فإن قيل الفعل المذكور إن كان مستعملاً في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر، فلا دلالة على معناه الحقيقي، وإن كان فيهما جميعاً لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز).

والسيوطي في الأشباه والنظائر يورد أقوالاً متضاربة تظهر بوضوح مدى حيرة الأقدمين إِزاء الاستعمالات والأساليب، ومن أجل ذلك لم يتفقوا على حقيقة التضمين وطريقته، فقد ذكر ابن جني في(الخصائص): (واعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بحرف آخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد على ما هو في معناه، وذلك كقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )(البقرة:187)، وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ(إِلى) كقولك: أفضيت إلى المرأة، جئت بالحرف(إلى) مع الرفث إِيذاناً وإِشعاراً أنه بمعناه) (1).

وقد عرض مجمع اللغة العربية لموضوع التضمين، ولم يدرس الأعضاء هذه المسألة دراسة علمية تتصل بالأسلوب، بل ذهب إلى القول: إن أفعالاً كثيرة تضمنت معاني أفعال أخرى(2).

وتزداد طائفة الأفعال المتضمنة لمعان أخرى، إذا ما استقرينا كتب الأدب بحثاً عن هذه الأفعال.

ذكر سعد الدين التفتازاني: أن الظهور بمعنى الزوال، كما في قول الحماسي:

وذلك عارٌ يا ابن رَيْطَةَ ظَاهرُ

وقول أبي ذؤيب: وتلك شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنكَ عَارَُها.. أي زائل(1).

ولم يقتصر الأمر على تضمين فعل بمعنى فعل آخر، وإنما تجاوزه إلى صيرورة فعل لازم فعلاً متعدياً أو بالعكس.

ومن ذلك ما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية: (وجاز تضمين اللازم المتعدي مثل: فإنه سفَّه نفسه أي أهلكها).

وذهب ابن هشام إلى أبعد من هذا، إذ قال: (وزعم قوم من المتأخرين، منهم خطاب المارديني، أنه يجوز تضمين الفعل المتعدي لواحد معنى(صَّير)، ويكون من باب(ظن)، فأجاز: (حفرت وسط الدار بئراً) أي صيرت. وقد أجاز: (بنيت الدار مسجداً)، و(قطعت الثوب قميصاً)، و(قطعت الجلد نعلاً)، وجعل منه قول أبي الطيب:

فَمَضَتْ وقد صَبَغَ الحياءُ بياضَها لَوني كما صَبَغَ اللُّجَينُ العَسْجَدا (2).

وأنت ترى مما عرضنا أن مواضع التضمين واسعة، وهذه السعة لا تدل على سعة البحث في الموضوع، أو أنهم تعمقوا في المشكلة، فعرضوا لوجوهها جميعاً، وإنما تدل على حيرتهم في البحث عن المعاني والأساليب، وربما كشف عن جمودهم ووقوفهم عند استعمالات، لا يتجاوزونها إلى غيرها، وما خلا هذه الاستعمالات، فهو بين أن يكون محمولاً على الخروج والخطأ والتجاوز، وبين أنه داخل في باب التضمين، إن لم يجدوا وجهاً إلى تخطئته وخروجه، كأن يكون من كلام الله، كقوله تعالى: (أفلم ييأس الذين أمنوا )(الرعد:31)، فقد ذكر المفسرون أن المعنى: أفلم يعلم، وقد قالوا:إنها لغة نخع وهوازن، وقال سحيم بن وثيل اليربوعي:

أقولُ لهم بالشِّعبِ إِذْ يأسُرونَني أَلَمْ تيأسوا أَني ابنُ فارس زَهدَمِ

وقد روي: ألم تعلموا. ومن يدري فلعل الأصل: ألم تعلموا؟

وقد قرأ ابن عباس: (أفلم يتبين الذين آمنوا…)، وقد أنكر الفراء كون(ييأس) بمعنى يعلم.

وقد تبين أن التضمين هو أن تستعمل مادةً، فعلاً كان، أو اسماً، أو أداةً، محل غيره مع قرينة، تحولية أو حالية، تشير إلى المعنى الذي استعمل، وهذا الحد في التضمين يثير الاستفسار عن المادة المستعملة، من حيث الحقيقة والخروج عنها إلى المجاز أو الكناية أو الاستعارة.

لقد اختلف الأقدمون في حقيقة التضمين من حيث كونه حقيقة، أو أنه خروج عن الحقيقة إلى غيرها، توسعاً أو مجازاً، ونستطيع أن نخلص إلى مذاهب ثلاثة في الموضوع:

المذهب الأول: يقرر أن المادة المتضمنة قد استخدمت على الوجه الحقيقي، مع قطع الصلة بينها وبين الأصل.

والمذهب الثاني: يقرر أن المادة قد استخدمت على الوجه المجازي مع القرينة الدالة.

والمذهب الثالث: يجمع بين المذهبين، فيقرر أن المادة مستخدمة على الحقيقة و المجاز في آن واحد.

أما المحدثون الذين أقروا التضمين، فقد كانوا يريدون الأخذ به للحاجة إليه، ولأن متطلبات العصر، تستدعي أن تسعف العربية بمادة جديدة حتى تساير الحياة المعاصرة، ومتطلباتها المعقدة الكثيرة. وقد فعل هذا مجمع اللغة العربية بالقاهرة وقال بقياسية التضمين.

وتظهر هنا مسألة مهمة تتعلق بهذه(القياسية) التي يراد منها أن تستخدم استخداماً فنياً Technique في الحياة العامة، وما جد فيها من ضروب العلم التجريبي والنظري.

وإذا جاز هذا، جاز أن نتوسع في الموضوع، وندخل هذا في اللغة الأدبية والأسلوب الفني، الذي يعتمد على توليد الصور الأدبية، التي تستمد عناصرها من الخيال الذاتي للأديب، ومما توحيه إليه بيئته ومجتمعه.

وينجم عن هذا، أن لا بد من أن تؤرخ الألفاظ، وتقيد بعصورها، وبقائليها حاسبين للأقاليم والمجتمعات الخاصة، حسابها في الاستعمالات، وما شاع بينها من فنون القول، وبهذا تفيد المعجمية العربية فائدة جليلة، فيعاد بناء المعجمات المطولة على أساس جديد، مراعاة للظروف التاريخية وتطورها، وانعكاس هذه الظروف المتطورة في المادة اللغوية، ومن هنا تأتي ضرورة تصنيف المعجم التاريخي.

ميارى 24 - 8 - 2010 03:42 AM

في الدلالة أيضا :

سأعرض في هذا الفصل لجملة مواد من القرآن أخذتها لخصوصيةٍ في استعمالها على نحوٍ لم يهدنا الاستقراء إلى ضبطه في النصوص الأخرى.

وليست هذه الألفاظ التي عِدَّتُها دون العشرة هي كل ما في كتاب الله من هذه البدائع ذوات الأسرار اللطيفة العالية، التي لا يدركها القارئ بيسر. إن هذه الألفاظ التي أشرنا إلى صفاتها الخاصة، كثيرة في كتاب الله، ولكني اجتزأت من هذا المعين الثر بشيء اتخذه نماذج لهذه اللغة القويمة، التي أفرغت فيها الذات الإلهية شيئاً من عظمتها، وقدرتها الخارقة. وها هي على النحو الآتي:

1- الرؤيا والحلم:

أقول: عرضت الأستاذة الدكتورة بنت الشاطئ إلى هاتين المادتين في كتابها (الإعجاز البياني للقرآن) فاستقرت الآيات التي وردت فيها لفظة(الأحلام) وهي ثلاث آيات. ويشهد سياقها بأنها الأضغاث المشوشة والهواجس المختلطة. وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع، دلالة على الخلط والتشويش لا يتميز فيه حلم عن آخر.

وأنا اجتزئ بآية من هذه الآيات الثلاث وهي قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلامٍ بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآيةٍ كما أرسل الأولون ) (الأنبياء:5).

أما الرؤيا فجاءت في القرآن سبع مرات، كلها في (الرؤيا) الصادقة، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد، دلالة على التمييز والوضوح والصفاء.

ومن بين المرات السبع، جاءت الرؤيا خمس مرات للأنبياء، فهي من صدق الإلهام القريب من الوحي. وأجتزئ من هذه الآيات السبع بواحدة هي رؤيا إبراهيم عليه السلام: (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين )(الصافات:104-105)

أقول إن هذا الذي جاء في القرآن في مادة (الرؤيا) ودلالتها على الصدق في الآيات السبع. في حين أن (الأحلام) لم ترد إلا في الأضغاث المشوشة المختلطة الكاذبة، مما اهتدت إليه الأستاذة بنت الشاطئ - خصوصية معنوية اختصت بها لغة التنزيل العزيز، يحسن بنا أن نقف عندها لنرى أن العناية الإلهية أفرغت في هذا الكتاب عربية قويمة عالية تتصف بالأصالة والحسن.

2 - آنس :

وهذه كلمة أخرى أقتبسها من (الكتاب) نفسه.

جاء في قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى )(طه:10).

وقد ورد هذا الفعل في خمس آيات أخرى موزعة في سور القرآن الكريم.

وفي معجمات العربية أن : آنس الشيء أبصره، والصوت سمعه، واستأنس: استأذن.

تقول الأستاذة بنت الشاطئ: نستقري الاستعمال القرآني، فيعطينا حس العربية المرهف، لا تقول (آنس) في الشيء تبصره أو تسمعه، دون أن تجد فيه أنساً. فإذا قال العربي الأصيل: آنست، فقد رأى أو سمع ما يؤنسه.

وليس الإيناس في الآيات الخمس مجرد إبصار لظواهر الرشد المادية الحسية في سن البلوغ، ولكنه الطمأنينة المؤنسة بالابتلاء والامتحان، إلى أنهم قد رشدوا حقاً.

وكذلك (الاستئناس)في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها )(النور:27).

وليس الاستئناس مجرد استئذان كما وهم الذين فسروه بذلك، وإنما هو حس الإيناس لأهل البيت قبل دخوله.

أقول: وهذا الذي اهتدت إليه بنت الشاطئ من بديع لغة القرآن في إفراغ الخصوصية المعنوية. وأريد أن أضيف شيئاً يتصل بهذه المادة الغنية فأقول: إن (الأنس)مصدر معروف، منه جاء الفعل (آنس) كما أشرنا وأشارت الباحثة الفاضلة. غير أن أصل (الأنس) في العربية وفي غيرها من اللغات التي تتصل بها بأرومة النسب، هو (الإنس) أو (الإنسان) أي الرجل أو المخلوق الذي يتصل بغيره من الأناسي. ومن (الإنس) أو (الإنسان) جاء المصدر وهو اسم معنى ثم توزع في هذه الخصوصيات الدلالية. ومثل هذا أو شيء منه، حصل في تلك اللغات التي أشرنا إليها.

3 - بشــر:

وردت كلمة (بشر) في لغة التنزيل سبعاً وثلاثين مرة في آيات مختلفات. وقد وقفت على هذه الآيات فوجدت (البشر) فيها هو المخلوق الضعيف أزاء الخالق القوي الكبير:

(بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء )(المائدة:18).

ثم إن (البشر) متساوون في أنهم ضعاف أمام الخالق، وأنهم هم والأنبياء سواء من حيث أنهم جميعاً خلق الله، سوى أن الأنبياء والرسل قد أوحي إليهم فكلفوا ببينات ورسالات.

قال تعالى: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه )(المؤمنون:33) .

قلت: إن النبي صاحب بينة أو رسالة وإنه ممن اصطفاه الله لأمر من الأمور - جلت عظمته.، وقد أدرك الناس هذه الحقيقة.

قال تعالى: (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين )(الشعراء:154).

وقال تعالى أيضاً:

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد )(الكهف:110).

فالرسول والنبي من البشر خص بالوحي والرسالة والبينة. وقد فهم الخلق أن الأنبياء منهم: (فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله )(التغابن:6).

إن هذا (البشر) من هذه الأرض، خلق منها، وعليها درج، وإليها يعود:

(ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثم إذا أنتم بشر تنتشرون )(الروم:20)

(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ من حمأٍ. . )(الحجر:28)

أقول : وفي هذا القدر من الآيات الكريمة كفاية أخلص منها لأقرر أن (البشر) في (القرآن)، من الكلم القرآني، فلم أجده في الشعر الجاهلي مما بين أيدينا من نصوصه الوافرة.

ثم إني أحس أن (البشر) يعني في أول إطلاقه (الهالك أو الفاني)، الذي لم يرزق البقاء والخلود، بالنظر إلى الذات الإلهية العلية الباقية الخالدة.

ويحسن بي أن أرجع إلى أصل هذه المادة فأجد (البشرة) بفتحتين وهي أعلى جلدة الرأس والوجه والجسد من الإنسان وهي التي عليها الشعر، وهذا يعني أنها ظاهر الجلد.

إن هذه المادة التي تصرفت بها العربية، فجاء الفعل (بَشَّر)، أي انطلقت وانبسطت بشرته إعراباً عن الارتياح، ومنها البشارة والتباشير، وبشرت الشجرة وغيرها كثير. ألا ترى أن هذه المادة تعني أن (البشرة) شيء فان، وأنه لا بد من هرم، فعجز، فموت، ومن هنا سمي بها المخلوق الفاني، أي الإنسان، فكان (بشراً) أي هالكاً وفانياً.

وأكتفي بهذا القدر من النظر في هذه المادة القرآنية التي أعانني كلام الله جلت عظمته على فهمها وإدراكها، عصمني الله من الخطأ والسهو.

4 - بصر وسـمع:

استعملت كلمة (البصر) مصدراً ثماني مرات في ثماني آيات منها: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر )(النحل:77)، وكلها بصيغة المفرد.

ولكننا حيثما وجدنا (البصر) مع (السمع) في آيات أخرى، جمع (البصر) على أبصار) وبقي (السمع) مفرداً وذلك في أربع آيات منها: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة )(النحل:78)

وقد شذت واحدة عن هذا النمط هي: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ً)(الإسراء:36)

على أننا لا نجد (السمع) مجموعاً على (أسماع) وهي تجاور (الأبصار). وهذا بعض خصوصيات هذه اللغة الرفيعة.

5 - عــين :

وردت (العين) في عشر آيات مجموعة على (عيون) وكلها تعني (عيون الماء) في الكلام على الجنة ونعيمها، منها: (إن المتقين في جناتٍ وعيون ٍ)(الحجر:45).

وقد ورد في اثنتين وعشرين آية مجموعة على (أعين) للدلالة على (الأعين) المبصرة، وهي أصل المعنى في هذه الكلمة، ومنها توزعت مجازاً واتساعاً، ومن هذه الآيات: (ولهم أعينُ لا يبصرون بها )(الأعراف:179).

أقول : إن هذا التوزيع في اختيار أبنية الجمع، لاختلاف الدلالة، شيء من خصائص هذه اللغة الكريمة، مما لا نعرفه في النصوص الأخرى.

6 - غيث :

وردت الغيث في ثلاث آيات منها: (وهو الذي يُنزلُ الغيثَ من بعد ما قنطُوا وينشر رحمته )(الشورى:28) كلها يشير إلى أن المراد الرحمة والخير، وهذا يعني أن (المطر) قد استعمل استعمالاً آخر في الشر والعذاب كما سنرى.

ومن (الغيث) هذا، جاء الفعل غاث وأغاث واستغاث والمصدر الغوث، وكلها يعني الرحمة والمساعدة. وهذا بعض خصائص لغة القرآن في اختيار لفظٍ دون آخر.

7 - قـصـد :

استعملت مادة (القصد) الثلاثية ثلاث مرات، في ثلاث آيات، فعل أمر في واحدة (اقصدْ)، ومصدراً هو (قصد)، واسم فاعل هو (قاصد)، وهذه الثالثة هي موضوعنا في الكلام عليها:

(لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة )(التوبة:42)

أقول: ذكر الزمخشري في (الكشاف)، أن السفر (القاصد)، هو الوسط المقارب، وجاء في (لسان العرب): وسفر قاصد ، هو السهل القريب.

أقول: كان الدكتور مصطفى جواد يشير إلى خطأ استعمال المعربين كلمة (مباشر) في قولهم: (بصورة مباشرة)، وكان يرى أن يقال: بصورة قاصدة. وعندي أنه توسع في فهم (القصد) للوصول إلى هذا المعنى في اللغة المعاصرة.

8 - مـطـر:

وردت كلمة (مطر) وهي مصدر، في سبع آيات، كما وردت فعلاً في سبع آيات أخرى، وفي آية واحدة، جاءت اسم فاعل (ممطر) من الرباعي. وكلها ينصرف إلى العذاب والنذر بالشر ومنها:

(وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين )(الشعراء:173)

(وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) (الحجر:74)

قلت: لقد فرقت لغة التنزيل العزيز بين المطر والغيث، فكان المطر عذاباً وشراً ونذراً بالويل والثبور، وكان الغيث رحمة وخيراً ونعماً.

هذه جملة مواد آثرت أن أضعها نماذج لهذه اللغة الكريمة، وكيف انصرفت لدلالات تملك من خصوصية المعنى، ما لم نره في غيرها من النصوص العربية.


الساعة الآن 01:48 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى