منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=10453)

ميارى 30 - 9 - 2010 02:38 AM

أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
 
تأليف الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحليبي

تقديم بقلم الأستاذ : عمر عبيد حسنه

الحمدُ للهِ الذي تَعَهَّدَ بحفظِ القرآنِ، خطابِ السماءِ الخاتمِ الخالدِ، المجردِ عن قيود الزمان والمكان، إلى الإنسان المخلوق المكلف المكرم، فقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر : 9).‏

وهذا التعهد بالحفظ، بمقدار ما يمنح الأمة المسلمة من الاطمئنان لصحة وسلامة عالم أفكارها، ومصدر قيمها، بمقدار ما ينيط بها من المسؤوليات ويكلفها من التبعات في حمل الأمانة، التي تقع ضمن عزمات البشر، والتي هي تشريف للإنسان وارتقاء به، قبل أن تكون تكليفًا له وتبعة عليه، فهو المخلوق المكرم، لأنه يمتلك من الصفات والخصائص والمزايا ما يجعله أهلاً لهذا القول العظيم الثقيل، وهو المخلوق المكلف -والتكليف دليل الحرية وعلامة الاختيار- لأنه يمتلك من القدرة والإرادة، ما يجلعه قادرًا على إدراك الحق وحسن التلقي، وترجمة القيم والتعاليم السماوية والأفكار والقناعات إلى أفعال.‏

وتَعَهُّد الله الأكرم بحفظ الذكر، لم يقتصر على القرآن، على أهمية ذلك وضرورته على المستويات الدينية والثقافية والحضارية، وإنما امتد التعهد بالحفظ أيضًا إلى البيان، ذلك أن حفظ البيان (التفسير والتطبيق والتنزيل على الواقع)، لا يقل أهمية وضرورة عن حفظ القرآن، من حيث حماية مدلولات النص من التحريف، والتأويل، والانتحال، والغلو، قال تعالى : (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (القيامة : 17-19).‏

فالبيان النبوي المعصوم، أو ما صح من البيان المأثور، الذي توفرت له ضوابط النقل والتوثيق، من فُهوم وتطبيقات القرون المشهود لها بالخيرية، هو الذي يشكل المرجعية الشرعية، والمعيارية لفهم آيات القرآن الكريم في كل زمان ومكان.. فللإنسان المسلم أن يمتد بالرؤية القرآنية إلى أمداء وآفاق وفضاءات حضارية واسعة، وينظر إلى المشكلات الإنسانية، ويجتهد في إيجاد الحلول الملائمة لها، ويبصر مسارات المستقبل، ويرسم معالمها في ضوء هدايات ومعارف الوحي، شريطة ألا يعود ذلك بالنقض أو الإلغاء للبيان المحفوظ، الذي يشكل المرجعية، التي لم تكتف بوضع الإطار، ورسم المسارات، ووضع المنهج للفهم القرآني، وإنما أقامت المنارات، ووضعت الإشارات الهادية، للحماية من السقوط أثناء السير في الطريق.‏

وفي اعتقادنا أن البيان النبوي الذي تعهد الله بحفظه، وفهم القرون المشهود لها بالخيرية من الرسول عليه الصلاة والسلام، له صفة الخلود والامتداد، ومقاصده مجردة عن قيود الزمان والمكان أيضًا، لأنه بيان النص الخالد.. ومن هنا نقول : إننا لا نعني فقط بتوفر المرجعية الشرعية، أن لا يعود أي فهم أو اجتهاد في كل زمان ومكان، بالنقض أو الإلغاء للبيان النبوي، أو فهم القرون المشهود لها بالخيرية، وإنما نعني أيضًا ضرورة استصحاب أي فهم أو اجتهاد، للبيان النبوي ابتداءً، لما في ذلك من التقوى وأمن السلامة، والحماية من الزيغ والزلل والضلال، وعدم التقدم إلى التعامل مع أي قضية والنظر فيها، قبل التحقق بالمرجعية الشرعية، التي أشرنا إليها، استجابة لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) (الحجرات : 1). ونرى أن غياب هذه المرجعية وعدم وضوحها بالشكل المطلوب، إضافة إلى الجنوح إلى الهوى واتباع الظن، كان وراء الكثير من حركات الرفض والخروج، وتَشَكُّل الفرق الضالة، على هوامش المجتمع الإسلامي.‏

والصــلاة والســلام على الرســول الذي عهـد الله إليه بمهمـــة البــلاغ والبيان، فقـــال تعالـــى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة : 67). وقال : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل : 44).‏

وبذلك لم تقتصر مهمة البيان والتصويب وبناء المرجعية الشرعية على حاضر الناس، وإنما امتدت لبيان وتصويب ما لحق بالأقوام السابقة مــن علل التــدين، نتيجــة لتحريفــات نصــوص الدين ومدلولاتــه، التي عبث فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولعل النص : (لتبين للناس) ينصرف أول ما ينصرف بمقصد بيانه إليهم، أي : اليهود والنصارى، لتبين -يا محمد- حقيقة ما نُزل إليهم، وزيف ما هم عليه، وتبين للمسلمين معاني ومقاصد الآيات القرآنية، وكيفيات التعامل معها، وتجسيدها في الواقع، وتكون في ذلك قدوة عملية، وتبين لهم سنن الله الاجتماعية التي تحكم الحياة والأحياء، والتي كان التاريخ وقصص الأنبياء مختبرًا حقيقيًا لها، ليأخذوا حذرهم، ويقوِّموا حاضرهم، من خلال ماضي الأمم السابقة والنبوات السابقة، ويبصروا مستقبلهم من خلال حاضرهم، فيهتدوا إلى سنن السقوط والنهوض، ويتعظوا ويحققوا الوقاية الحضارية، فلا تتسرب إليهم علل التدين التي كانت سببًا في هلاك الأمم السابقة.‏

وبعــد : ‏

فهذا كتاب الأمة الخامس والخمسون : (أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية) للدكتور أحمد بن عبد العزيز ابن محمد الحليبي، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في التشكيل الثقافي، وتحقيق الوعي الحضاري، وإعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه برسالته الإسلامية الإنسانية، ووظيفته في الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم، بعد تحققه بالمرجعية الشرعية، وتبصره بالسنن الإلهية في الأنفس والآفاق، التي تمثل أقدار الله وسننه المطردة التي لا تتبدل ولا تتحول، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومُغالبة قَدَرٍ بقَدَرٍ أحب إلى الله، في محاولة لتصويب المفاهيم وتصحيح المعايير، والتحقق بفقه النص في الكتاب والسنة، وفهم الواقع الذي عليه الناس، للمساهمة بتجديد أمر الدين، ونفي نوابت السوء عنه، ولا سبيل لتجديد أمر الدين إلا بالعودة بالتدين إلى التلقي عن الينابيع الأولى، وبناء الفهم والفقه العملي، في ضوء ما تمنحه السيرة النبوية الصحيحة والخلافة الراشدة وفهم خير القرون المشهود لها، في كيفية فهم وتنزيل الكتاب والسنة على الواقع المعيش، وامتلاك القدرة على التعامل مع قيم الكتاب والسنة، من خلال مشكلات الإنسان والمجتمع وقضاياه، وإيجاد الحلول الشرعية التي تتلائم مع هذا الواقع في ضوء إمكاناته واستطاعاته، والتعامل مع الواقع وتصويب مسيرته على هدي من قيم الوحي، والتحول من التفكير الارتجالي الآني القائم على ردود الأفعال، إلى التفكير الاستراتيجي، الذي يحيط بمعرفة الواقع، ويدرس الأسباب والسنن التي تقف وراءه، ويتعرف بدقة على الإمكانات والاستطاعات، ويحدد مدى التكليف الشرعي المطلوب والممكن في كل مرحلة، والتبصر بالعواقب والمآلات، وعدم الخضوع إلى الإثارة والاستفزاز، فالرسول صلى الله عليه و سلم يقول : (ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) (متفق عليه من حديث أبي هريرة).‏

والقضية التي لابد من الاستمرار في طرحها، والتأكيد عليها، هي ضرورة استئناف السير في الأرض، والتوغل في التاريخ البشري بشكل عام، والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، للاهتداء إلى سنن السقوط والنهوض، وأخذ الدروس والعبرة، والحذر من تسرب علل تدين الأمم السابقة إلى أمة الرسالة الخاتمة، وتحقيق الوقاية الحضارية، استجابة لقوله تعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكــذبين هـــذا بيـــان للناس وهــدى وموعظــة للمتقين ) (آل عمران : 137-138)» والتوقف طويلاً بالدرس والتحليل والاستقراء والاستنتاج لحركات الإصلاح والتجديد والتغيير، والتعرف على حياة المجددين كنماذج تاريخية، وخاصة أولئك الذين شكّلوا منعطفات تاريخية، والذيــن كانت تتشابــه ظروفهم مــع ظروفنـا وواقعنـا، حيث لا ينكر دور النماذج التاريخية المضيئة في بناء الأجيال، والإفادة من تجاربهم سلبًا وإيجابًا، وتأصيل منهج التقويم والمراجعة والمناصحة والنقد والمشاورة والمثاقفة والمفاقهة والحوار.‏

إن عمليات التجديد والإصلاح لا يمكن أن تتم بالفراغ، أو ترسم في البروج العاجية البعيدة عن ساحة التفاعل الاجتماعي، فأولى خطواته -فيما نرى- تتمثل في نقد الواقع، ومراجعة تقويمه، ومعايرته بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواقع الخلل، وإدراك أسبابه، ورسم سبل الخروج والتصويب، وهذا لا يمكن أن يتم أو يتحقق بعيدًا عن أدواته وآلياته، من الحوار والمثاقفة والمفاقهة والمناصحة والنقد، لأننا نعتقد أن قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (إن الله تعالى يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجَدِّد لها دينها) (رواه أبو داود والحاكم)، هو إخبار بامتداد هذا الدين، واستمرار سلامة قيمه، من خلال التصويب والمراجعة والتوثيق، وهو -من جانب آخر- تكليف للأمة أن تستمر فيها حاسة الرقابة العامة، ومراجعة المسيرة، ومعايرة الواقع، بعيدًا عن أي استنقاع حضاري، أو ركود ثقافي، أو استسلام وخلود إلى الأرض.‏

ولعل حركات الإصلاح والتجديد، تكون معنية بالدرجة الأولى بتحديد مواطن الشر، والتعرف على أسبابه، مخافة أن يدركها، أو يعلق بمسيرتها وسلوكها بعض أمراض مجتمعها التي تريد إصلاحه، ولتكون على بصيرة في معالجة الأسباب، عندما تحاول التصويب والإصلاح والوقاية ونفي نوابت السوء من جانب، والتجديد والتنمية لمجالات الخير من جانب آخر.‏

ولا شك أن ظهور ووجود حركات الإصلاح والتجديد والتغيير، ووجود نماذج مضيئة من المجددين الذين ينفون نوابت السوء، ويقتلعون البدع في الفقه والفكر والعقيدة بالقرآن والبيان، ويقفون سدًا منيعًا في وجه التحريف، والمغالاة، والتعطيل والإرجاء، والتأويل والتضليل والضلال، يعتبر من لوازم الرسالة الخاتمة الخالدة المجردة عن حدود الزمان والمكان، حيث توقف عندها التصويب من السماء، لأن سمة الخلود تؤكد من بعض الوجوه قدرتها على التجدد الذاتي، وذلك بإنتاج نماذج للاقتداء والاتباع، قادرة على التجديد، وإعادة معايرة الواقع بقيم الكتاب والسنة، وتجديد الفاعلية، وتجاوز التقاليد الاجتماعية المترسبة، إلى التعاليم الشرعية المعصومة.‏

وهذه النماذج التجديدية، على مستوى الأفراد والجماعات، قد تضيق مساحتها وقد تتسع، لكنها لم تنقطع عبر التاريخ، القديم والوسيط والمعاصر، فسنن المدافعة جارية في الحياة، لأن الشر من لوازم الخير.. وتتبع هذه النماذج ودراستها، وتحليل طروحاتها الفكرية، ووسائلها في الدعوة والإصلاح، ضرورة علمية ودعوية وثقافية وحضارية وسياسية معًا، وذلك لإثارة الاقتداء، وإحياء الفاعلية واستشعار المسؤولية في حمل الأمانة، واختبار وسائل السقوط والنهوض، والفقه بكيفية التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وتنزيلها على واقع الناس، وتحقيق العبرة بالتعرف على جوانب النجاح والإخفاق، وتحديد مواطن التقصير وأسباب القصور والإخفاق، لتكون سبيل اهتداء، للتعامل مع الحاضر، وبصارة المستقبل، واستدراك الخلل، وتصويب المسيرة، وإضافة هذا الرصيد الثقافي والحضاري والدعوي لإمكانات الحاضر وتطلعات المستقبل.‏

ولعل الأَوْلَى بالتحليل والدراسة والاتباع، وإثارة الاقتداء في تاريخ حركات التجديد والإصلاح والتغيير والمجددين : أولئك الذين واجهوا ظرفًا مشابهًا لما حولنا، وواقعًا مماثلاً لواقعنا، واغترفوا من معين الكتاب والسنة، واهتدوا بفهم القرون المشهود لها بالخيرية من الرسول صلى الله عليه و سلم، وعاشوا في قلب الواقع الإسلامي بكل مشكلاته وقضاياه ومعاناته، وقادوا المسيرة بفقه وفكر وفعل، وكانوا من الطلائع التي تتقدم الصفوف، تعطي الأنموذج لفعل الحلال ومنع الحرام، أو بعبارة أخرى : كانوا يصنعون التاريخ، ولم يكونوا من السّاقة الذين يخرجون من المعركة، ويسيرون خلف الصفوف، كل همهم أن يحكموا على تصرفات ومسالك الناس وأفعالهم بعد وقوعها، بالحل والحرمة، بعيدًا عن أي صناعة حضارية، فتحولوا من صناعة التاريخ ومغالبة الأقدار في ضوء السنن الربانية، إلى الاقتصار على قراءة التاريخ، والخروج من الواقع.‏

وقد يكون الشيخ الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله، ومدرسته الفقهية ومنهجه الفكري، على رأس قائمة هؤلاء المجددين، من حيث أهمية التعرف على منهجه، نظرًا للتشابه الكبير بين ظروف عصرنا وظروف عصره، بكل ما حمل من تقليد فقهي، وجمود فكري، ووهن حضاري، وغزو ثقافي، وتسلط سياسي وعسكري، وتمزق اجتماعي، وتضليل فلسفي، وهجمة باطنية، وموالاة غير المسلمين، واختراق سياسي، وإشاعة الثقافات اليهودية والنصرانية، والافتتان بتقليد الكفار والتخلق بأخلاقهم، وتوهين قيم الكتاب والسنة، وتمزيق وحدة العالم الإسلامي العقدية والفكرية والسياسية، وكثرة فرق الضلال والتضليل.‏

لقد اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالحفاظ على الثقافة الإسلامية، والشخصية المسلمة بكل خصائصها وامتيازاتها، وخاصة عندما رأى من آثار اجتياح التتار للدول الإسلامية، وظهور اليهود والنصارى.. ولعل من القضايا المبكرة التي تنبه لها وأدرك خطرها، من الناحية الدينية والثقافية والسياسية والحضارية، قضية التقليد والمحاكاة، والتشبه بالكفار من اليهود والنصارى ومضاهاتهم، والانسلاك في منهجهم، والتتبع لسننهم، وما يؤدي إليه ذلك من الانحلال الثقافي، ونقض عُرى الإيمان، والضلال.. والمعروف نفسيًا وثقافيًا، أن شيوع تقليد الغالب، والتشبه به في لباسه وعاداته وأعياده ولغته، يورث تشاكلاً وتناسبًا، كما يورث مودّة وموالاة بين المتشابهين.‏

ولقد توقف رحمه الله عند قضية اعتماد العربية، لغة القرآن، وأهمية تعلمها والتزام النطق بها، وأنها من الدين، ودورها كوعاء للتفكير وأداة للتعبير، وإحدى وسائل التشكيل الثقافية، وبيّن موقف الصحابة من ذلك، الذي يتمثل في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إياكم ورطانة الأعاجم)، فكان الصحابة يكرهون أن يتكلم المسلم بغير العربية، على وجه الاعتياد والدوام ولغير ضرورة، لأن اللغة الأجنبية بشكل عام، إذا لم تؤخذ بحذر ودقة، وبعد التحصين وبناء المرجعية، تصبح أحد معابر الغزو الثقافي، لأنها أداة تفكير وتغيير، وليست وسيلة تعبير فقط.‏

إن تشابه الظروف بين الحال التي نحن عليها، والواقع التاريخي الذي تعامل معه الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله، يجعل مدرسته في الإصلاح، ومنهجه في التغيير والتعامل مع الواقع في ضوء قيم الكتاب والسنة، هي الأولى بالدرس والتحليل، على الرغم من البُعد الزماني الذي يفصلنا عنه، والذي قد يتجاوز السبعة قرون، لأن أصول المشكلات الإنسانية واحدة، وإن اختلفت أعراضها وأحجامها وأشكالها من حين لآخر.‏

ونحن لا ندّعي بهذه الإلماحة السريعة، الإحاطة بمنهج ابن تيمية ومدرسته في الإصلاح والتجديد والتغيير، وإنما هي نوافذ وإضاءات وملامح أساسية لمنهجه، قد تكون قادرة على إعطاء فكرة عن السمات والخصائص البارزة لهذا المنهج، المحددة لبعض منطلقاته الأساس.‏

لقد كان المحور الأساس الذي انطلق منه شيخ الإسلام رحمه الله، في فكره وفقهه ودعوته التجديدية والإصلاحية، هو : تنقية التوحيد، والعودة به إلى صفائه، وتحرير مفهوم العبودية بكل أبعادها، لأن تنقية التوحيد وتحرير العبودية، هو الذي يحقق السعادة للإنسان، ويرفع عنه الآصار والأغلال، ويمنحه الأمن النفسي تجاه مسألتي الرزق والأجل، وبذلك ينعتق من كل العبوديات الأرضية، مهما كان نوعها، ويتمتع بالحرية والإرادة.‏

وقد بيّن رحمه الله أن العبودية لله نوعان : عبودية قسرية تتمثل في كون الله ربنا ومالكنا، وكوننا خاضعين للقوانين التي جرى عليها الكون، والسنن التي نظم بها الخليقة، فنحن عباد لله بهذا المعنى، شئنا أم أبينا.‏

ونوع آخر من العبودية نستطيع أن نسميه : (الخضوع الإرادي)، أو (الانقياد الشرعي)، وهو الإقرار لله وحده بالعبادة والطاعة فيما شرعه لنا، من قوانين لا تصبح نافذة وجارية في الواقع، إلا بتدخل من إرادتنا، وهو ما يعبر عنه بـ (عبودية الإلهية).‏

ويرى : أن كل من استكبر عن عبادة الله، لابد أن يعبد غيره ويذل له، ويعلل ذلك بقوله : (... إن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وكل إرادة لابد لها من مراد تنتهي إليه، فيكون الإنسان عبدًا ذليلاً لذلك المراد المحبوب).‏

ويبلغ الآفاق الاجتماعية والسياسية، حين يتحدث عن بعض مظاهر العبودية لغير الله وآثارها، تلك التي تبدو ظاهرًا بعيدة كل البعد عن أن يكون صاحبها عبدًا، فيقول : ‏

‏(وكذلك طالِب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه، ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظـاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع. والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، (عبودية متبادلة). (انظر التقديم القيم الذي كتبه الأستاذ عبد الرحمن الباني لرسالة العبودية، إصدار المكتب الإسلامي).‏

ولابن تيمية رحمه الله، سيرة حافلة بالعلم والجهاد، والمعاناة والمحن، وقد تضافرت جهود الحكام في عصره مع جهود بعض العلماء لمحاربته والنيل منه، فمنهم من كفّره، ومنهم من رماه بالزندقة، ومنهم من وصفه بالفيلسوف الغارق في التشبيه والتجسيم.‏

وهكذا كانت حياته سلسلة من الصراعات الفكرية والفقهية مع خصومه.. وقد رافق هذه الحياة الحافلة بالمواجهة، جهد علمي، وانقطاع لا مثيل له إلى المناصحة والدعوة وإعلاء كلمة الحق.. حارب في كل الجبهات، وصنف في شتى العلوم والمعارف.‏

ولعل إلقاء نظرة على عناوين مؤلفاته، التي لا يتسع المجال لسردها جميعًا، يمكن أن تعطي فكرة واضحة عن سمات شخصيته وطبيعة اهتماماته، وساحــات معاركــه الفكــرية والفقهيــة.. وقد يكون أبــرز ما يميزه، معرفته بمن حوله، واستيعابه لعصره، ومعرفته الدقيقة بمكوناته الثقافية والسياسية.‏

لقد تناول علوم عصره بالدرس العميق، والفحص الدقيق، ثم تناولها بالتأليف والرد، وكانت معركته حامية الوطيس مع الفلاسفة، وعلماء الكلام والمنطق والتصوف المنحرف، وكان نتيجة ذلك أن ترك ثروة غنية من المؤلفات قد تصل إلى خمسمائة مصنَّف.‏

فقد كتب في التفسير رسائل كثيرة بالغة الأهمية، منها رسالة في أصول التفسير، وكيف يكون؟ ولاتزال هذه الرسالة مرجعًا في منهجه في التفسير واستخراج الأحكام الشرعية.‏

وكتبه في العقيدة كثيرة، منها كتاب (الإيمان)، ثم كتاب (الاستقامة)، وكتاب (اقتضاء الصراط المستقيم)، وكتاب (الفرقان).‏

وفي مناهج الاستدلال، كتاب (نقض المنطق والرد على المنطقيين)، وكتاب (منهاج السنة)، وكتاب (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، أو درء تعارض العقل والنقل).‏

وفي الفقه، الفتاوى المختلفة، التي كان بعضها في مصر، وبعضها في الشام، ووضع ضوابط وقواعد يلتقي عندها المختلفون.. ومن رسائله القيمة، رسالة (القياس)، ورسالة (الحسبة)، وكتاب (في نكاح المحلِّل)، وكتاب (العقود)، وغير ذلك من كتب ورسائل في الفقه والأحكام (انظر كتاب : (ابن تيمية ومنهجه الفكري)، للدكتور محمد حسني الزين).‏

وقد كان معيار الفتوى والاجتهاد عند شيخ الإسلام رحمه الله، تحقيق مقاصد الدين، وتحصيل مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، واعتماد الفقه العملي الذي يعايش واقع الناس ويعالج مشكلاتهم ويبصرهم بالحكم الشرعي، لينضبطوا به، بعيدًا عن التجريدات الذهنية في الاجتهاد، التي لا تشكل حاجة عملية، على الرغم من خصوبة ذهنيته، ورصيده الشرعي والعقلي في الرد على الفلاسفة، ودحض مفتريات الفرق الضالة وشبهات الملحدين على مستوى الفكر والعقيدة.‏

وقد كانت له فتاوى واجتهادات فقهية خالف فيها الجمهور، وبعضها خالف فيها أصحاب المذاهب الأربعة، لما تبين له من دلالات النصوص في تحقيق المقاصد وتحصيل المصالح، من أبرزها : ‏

‏* جواز إقدام الحائض على الطواف عند الضرورة، ولا فدية عليها.‏

‏* أن الطلاق البدعي -الطلاق في الحيض، أو في طُهْر بعد الوطء قبل أن يتبين الحمل- لا يقع.‏

‏* وأن طلاق الثلاث المجموعة -في طُهْر واحد- محرّم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة.‏

‏* وأن مَن علّق الطلاق على شرط والتزمه، لا يقصد بذلك إلا الحظر أو المنع، يجزئه كفارة يمين.‏

‏* وأن الخلع لا ينقص به عدد الطلاق، ولو وقع بلفظ الطلاق.‏

‏* وأنه يجوز التضحية بما كان أصغر من الضأن.‏

‏* وأنه يجوز قَصْر الصلاة في كل ما يُسمى سفرًا، وأن سجود التـلاوة لا يشترط له وضوء.‏

‏* وأنه يجوز إبدال الوقف للحاجة أو المصلحة.‏

‏* وأنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة، للحاجة أو المصلحة أو العدل.‏

هذا عدا عن الفتاوى الكثيرة في المجالات السياسية و الاجتماعية، التي كانت ترتكز إلى الانطلاق من النص الشرعي، وتهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، إلى درجة يمكن معها اعتبار منهجه في الفتاوى والاجتهادات أقرب ما يكون إلى ما اصطلح على تسميته : السياسة الشرعية.‏

ولعل من أبرز ما يميز منهجه الفكري ومدرسته في التجديد والإصلاح والتغيير، إعادة الاعتبار لمعرفة الوحي في الكتاب والسنة، والامتداد بالرؤية التجديدية، والانطلاق بها من خلال فهم القرون المشهود لها بالخيرية، واعتماد النبوة وسيلة المعرفة الصحيحة، والتركيز على حاجة البشرية إلى النبوة على أنها الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة والهداية الكاملة، وأن الأنبياء هم الأدلاء على ذات الله وصفاته الحقيقية، وهم الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله تعالى، المعرفة الصحيحة، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال، ولا سوء فهم، ولا سوء تعبير، وأن هذه المعرفة لا يستقل بها العقل، ولا يغني فيها الذكـاء، ولا تكفي فيها سلامة الفطرة، والإغراق في القياس العقلي والتأمل الفلسفي، وأن سر ضلال الفلاسفة، اعتمادهم في ذلك على عقلهم وعلمهم وذكائهم ومهارتهم في بعض العلوم والصناعات.. حتى ليمكننا القول : ‏

إن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، استطاع وإلى حد بعيد، حل المعضلة المزمنة بين العقل والوحي، وخلّص الفكر الإسلامي من الثنائية والانشطار الثقافي والخيار بين الوحي والعقل، والعلم والإيمان، وإعادة فحص واختبار المقدمات المغلوطة التي كانت مطروحة على سبيل التقابل والثنائية بين العقل والدين، أو بين العلم والإيمان، وأعاد بناءها الصحيح، وصوّب المعادلة، لتتحول من التقابل والثنائية إلى التكامل والوحدانية، وكان مِن أَجَلِّ وأهم مؤلفاته : (درء تعارض العقل والنقل، أو موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، في وقت كان يخضع فيه العالم الإسلامي أو العقل الإسلامي، للاجتياح الفلسفي والجدل الكلامي، وتغييب معرفة الوحي، فجاء إنتاج ابن تيمية ومنهجه الفكري بحق، يشكل الترسانة الفكرية التي حمت الثقافة الإسلامية من الاجتياح، كما وصف ذلك بعض الباحثين المسلمين المعاصرين، فلا دين بلا عقل، ولا عقل بلا دين.‏

وقضية أخرى على صلة بأهمية الارتكاز على معرفة الوحي وإعادة الاعتبار إليها، التي كانت من أبرز محاور اهتمام شيخ الإسلام، وهي في تقديرنا على غاية من الأهمية، لأن الفقه بها وحسن إدراكها، يعتبر من التفكير العلمي والموضوعي، أو بعبارة أدق : من التفكير الاستراتيجي، الذي يحفظ الطاقات، ويحمي الإمكانات، ويحول دون هدر الأوقات، ويُحسن توظيفها، ويخلص العقل والعمل الإسلامي من الإحباطات المتلاحقة، واختلاط الأمنيات بالإمكانيات، واختلال الموازين الشرعية في النظر للأشياء والحكم عليها، وهي : ‏

أن ابن تيمية لم يقصر النظر على تحرير النص الشرعي، والاجتهاد في بيان دلالاته ومقاصده، وإنما اجتهد وبذل جهدًا مقدورًا في فحص واختبار وبيان محل النص وخصائص مورده، وحدود وقوع التكليف، وربط ذلك بمدى توفر الاستطاعة.. فكان له اجتهاد في مورد النص، كما أن له اجتهادًا في تحرير النص وتبيين مقاصده ومدلولاته، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمعرفة حكم الشرع وما يطلبه منا، والتأكد منه، والانطلاق لإنجازه، بل يتعلق باستكمال أبعاد أخرى تخص ساحة التنفيذ والتنزيل على الواقع، وكيفياته، ومنهجية ومرحلية الإنجاز، خصوصًا عند تراجع أقدار التدين، وانتقاص آثار النبوة في الخلق، وضعف صلة الناس بالإسلام فهمًا وممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد والعمل إلى بصيرة نافذة وعقل راشد، وفقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة التي يفرزها التدافع غير المتكافئ بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمصلحة والمفسدة، وهو ما عناه العلماء بقولهم : ليس الفقيه هو مَن يعرف بأن هذا مصلحة وهذا مفسدة، بل الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين. وقد يكون من المفيد أن نجلي هذه الفكرة بإيراد نص كلام شيخ الإسلام نفسه، يقول شيخ الإسلام : ‏

‏(العالِم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي... كما قيل : إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر. فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله سبحانه إنزال الآيات، وبيان الأحكام، إلى وقت تمكّن رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيانها.‏

فالـمُحيي للدين والمجدد للسنة، لا يبلِّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقّن جميع شرائعه، ويؤمر بها كلها، كذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه، لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كمــا عفــا رســول الله صلى الله عليه و سلم عمـا عفـا عنه إلى وقت بيانـه.. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.. ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب والتحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان في الأصل) (مجموع الفتاوى : 20





ميارى 30 - 9 - 2010 02:39 AM

المقدمة :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.‏
أما بعد : ‏
فإن نقد مقالات المبتدعة وأعمالهم ومسالكهم، والرد عليهم، وكشف ما عندهم من باطل، والتحذير من زيفهم، وظيفــة العلمــاء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها، إذ بها تتم حماية الدين ونقاوته من شائبة الباطل، وقد أكمل الله دينه، وأتم نعمته، ورضي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم دينًا، قال تعالى : (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة : 3). وقال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر : 7). وقال صلى الله عليه و سلم : (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْــرِنَا هَــذَا ما ليس منه فهو رَدٌّ) (1)، وفي رواية : (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ) (2).‏

قد أقام الله تعالى للعلماء ميزان الحق، الذي يَزِنُون به الأقوال المخالفة، ويصدرون عنه أحكامهم.. أقامه على العلم والعدل : العلم الذي يتبين به الحق من الباطل، وتُقام به الحجة على قائله أو فاعــله، قال تعالى : (ولا تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء : 36)، والعدل الذي يثبت به لكل ذي حق حقه من مدح أو ذم غير مغموط فيه، ولا متعتع، وبقدر متساوٍ مع الأولياء والأعداء، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة : 8).‏

ويُعد شيخ الإسلام ابن تيمية عَلَمًا من أعلام الدين، وإمامًا من أئمة الهدى، نَافَحَ بلسانه وقلمه عن السُّنَّة، وجاهد بنفسه رؤوس الفتنة، ووقف موقف الأبطال من دعاة البدعة، وصبر على ما لاقاه في سبيل إعلاء كلمة الله من العَنَت والمحنة، فلم تَلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، حتى أظهر الله بعلمه وجهاده ومواقفه منهج أهل السنة، ونشر على يديه عقيدتهم، بعد أن كانت الغلبة في عصره لعقائد أهل الكلام، والرواج لأقوال أهل الابتداع.‏

واعتمد ابن تيمية في كل ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في أصول الدين وفروعه، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، غير متبع لهوى، أو مقلد لأشخاص، فإن الله ذم في كتابه الذين يتبعون الظـن وما تهوى الأنفس، ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم الهدى، قــــال الله تعالـــــى : (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) (النجم : 23)، وأقام العدل في حكمه على أقوال الناس وأعمالهم، وإن كانوا من المخالفين له في الأصول، مراعيا ما يسوغ فيه الخلاف، أو ما يقع فيه خطأ بسبب اجتهاد، أو تأول صحيــح، أو ما يلائمه التماس العذر للمخالف، فإن ذلك أسلم من الوقوع في الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده، أو القول على الله بغير حق، وذلك أقرب للتقوى.‏

فكان ابن تيمية قائمًا بميزان الحق، الذي صرَّح بوجوب الوزن به، وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج أهل البدع والغواية في الكلام على الناس، قائلاً : (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع) (3).‏

ذلك أن الأصل حفظ جارحة اللسان من القول إلا حقًا، وحماية أعراض الناس من انتهاكها زورًا وبُهتانًا، قال صلى الله عليه و سلم : (مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليتَّقِ اللهَ وليَقُلْ حقًّا أو ليَسْكُت) (4)، وقال صلى الله عليه و سلم : (بِحَسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يَحْقِرَ أَخَاه المسلم، كلُّ المسلمِ على المسلم حَرام، دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه) (5).‏

وقد حرَّمَ الله سبحانه أذية المؤمنين، أو إساءة الظن بهم أو غيبتهم، فقال سبحـانــه : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا ) ( الأحــزاب : 58 ). وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (الحجرات : 12)، وعَظَّمَ القول في المسلم بغير علم، مرشدًا إلى إمساك اللسان عن الخوض في عرضه بغير حق، وموجهًا إلى تبرئة ساحته مما قيل فيه، إبقاء على الأصل : وهو عدالته من الجارح، وسلامته من القادح، قال تعالى : (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك) (النور : 15*16).‏

إن اعتماد العلم والعدل شرطان في الكلام على الناس عمومًا، وفي الحكم على أقوال المخالفين وأعمالهم خصوصًا.. لا يعني المداهنة مع المبتدعة، ولا الدفاع عن باطلهم، ولا تذويب العقيدة أو إضعاف جانبها أمام الضلالة، أو التقصير نحو إظهارها أو إعلائها على غيرها من الأقوال والآراء المخالفة، لكنه المنهج الحق الذي شرعه الله لأنبيائه وعباده، وارتضاه لهم في كتبه، واتبعه رسوله صلى الله عليه و سلم، وسار عليه سلف الأمة وعلماؤها.. يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيميــة بعد تقريــره : (ولما كان أَتْبَاعُ الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة، مع الكفار وأهل البدع، بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس) (6).‏

يستهدف هذا المنهج ضبط الأحكام، لتصدر بعد تحر وتثبت، وصيانتها من الانسياق مع جواذب الأهواء، وسلامتها من الجهل على الناس وبخسهم حقوقهم.. ويتحقق هذا المنهج في صياغة أصول كلية قائمة على الأدلة المعتبرة، يرجع إليها من احتاج الكلام في الناس، والحكم على أقوالهم وأعمالهم كلما اقتضت الحاجة، تفاديًا لما ينشأ عن الجهل بها من مفاسد وعظائم لا تخفى.‏

ومن يراجع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله، يصل إلى نتيجة واضحة، هي تمكُّنه من تحديد هذه الأصول، التي كثيرًا ما كان يشير إليها بحسب ما يقتضي المقام، عند حواره ومناقشته ورده على مقالات المبتدعة وأعمالهم، والتي ساعدته على وحدة أسلوبه واستواء أحكامه.. وقد أبان رحمه الله، أهميتها، فقال : (لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم) (7).‏

إن أهمية هذه الأصول تتلخص في أمرين : ‏

الأول : أنها قاعدة الوصول إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ومنصفة، مبنية على العلم والعدل، وملتزمة بالمنهج الحق.‏

الثاني : أنها سبيل الوقاية من التخبط في الأحكام على غير هدى، وما يتولد عنه من أضرار كبيرة ومفاسد عظيمة، تلحق بالأفراد والجماعات.‏

لهذه الأهمية، رأيتُ جمع هذه الأصول المتناثرة في مواضع مختلفة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لكي يسهل الانتفاع بها والرجوع إليها، وقد حافظتُ على نصها، معتمدًا على النقل من مظانها، ومجتهدًا في ترتيبها على حسب مراده منها، باذلاً غاية جهدي في التعرف على الأصول التي اعتمدها في الحكم على المبتدعة والكلام فيهم، ولا أقول : إني استطعتُ الإحاطة بجميعها أو الإلمام بأجزائها، ولكن حسبي أني جمعت ما تيسر لي منها مما أمكنني الوقوف عليه.‏

والله أسأل أن يلهمني رشدي، وأن يرزقني صوابًا في القول والعمل، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.‏

د. أحمد بن عبد العزيز الحليبي

ميارى 30 - 9 - 2010 02:40 AM

ترجمة شيخ الإسلام بن تيمية

هو الإمام المجتهد شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العبـــاس أحمـــد ابن عبد الحليـــم بن عبد الســلام بن عبــد الله بن الخضـــر بن محمـــد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني(8).‏

ولد بحَرَّان(9) يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، ونشأ في بيئة علمية، فكان جده أبو البركات عبد السلام(10) ابن عبد الله، صاحب كتاب : (المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه و سلم)، من أئمة علماء المذهب الحنبلي، ووالده من علماء المذهب، اشتغل بالتدريس والفتوى، وولي مشيخة دار الحديث السكرية حتى وفاته(11).‏

انتقل مع أسرته إلى دمشق على إثر تخريب التتار لبلده حران، وهو ابن سبع سنين، وبدت عليه مخايل النجابة والذكاء والفطنة منذ صغره، فحفظ القرآن في سن مبكرة، ولم يتم العشرين إلا وبلغ من العلم مبلغه، ذكر ابن عبد الهادي(12) في ترجمته : أن (شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل(13) مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني(14) الكبير، وعُني بالحديث، وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي(15)، ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه(16)، حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليًا، حتى حاز فيه قَصَب السَّبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) (17).‏

أفتى وله تسع عشرة سنة، وشرع في التأليف وهو ابن هذا السن، وتولى التدريس بعد وفاة والده، سنة 682هـ بدار الحديث السكرية، وله إحدى وعشرون سنة، حتى اشتهر أمره بين الناس، وبعد صيته في الآفاق(18)، نظرًا لغزارة علمه وسعة معرفته، فقد خصه الله باستعداد ذاتي أهّله لذلك، منه قوة الحافظة، وإبطاء النسيان، فلم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء إلا ويبقى غالبًا على خاطره، إما بلفظه أو معناه(19). ففي محنته الأولى بمصر، صنف عدة كتب وهو بالسجن، استدل فيها بما احتاج إليه من الأحاديث والآثار، وذكر فيها أقوال المحدثين والفقهاء، وعزاها إلى قائليها بأسمائهم، كل ذلك بديهة اعتمادًا على حفظه، فلما روجعت لم يعثر فيها على خطأ ولا خلل(20).‏

قضى حياته في التدريس والفتوى والتأليف والجهاد، فكانت تفد إليه الوفود لسماع دروسه، وتَرِدُه الرسائل للاستفتاء في مسائل العقيدة والشريعة، فيجيب عليها كتابة.. ترك ثروة علمية تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه، وتكامل إدراكه لأطراف ما يبحثه واستوائه لديه، ومن ذلك مسائل علم الكلام ومباحث الفلسفة، فهو يناقش المتكلمين والفلاسفة بأدلتهم، وينقد مناهجهم، ويبطل حججهم بثقة وعلم، ذكر ابن عبد الهادي أن مصنفاته وفتاواه ورسائله لا يمكن ضبط عددها، وأنه لا يَعلم أحدًا من متقدمي الأمة جمع مثل ما جمعه، وصنف نحو ما صنفه(21).‏

شارك في معركة شقحب، التي وقعت بين أهل الشام والبُغاة من التتار، بقرب دمشق في شهر رمضان سنة 702هـ، وانتهت بانتصار أهل الشام ودحر التتار، الذين أرادوا بسط نفوذهم في الشام، وتوسيع سلطتهم على أطرافها، وقد ضرب ابن تيمية في هذه المعركة أروع مثال للفارس الشجاع(22).‏

وجاهد المخالفين من أهل الأهواء والبدع، مستعينًا بسلاح العلم، ومتحليًا في منازلتهم بالعدل والرحمة، فقد حاور أهل الكلام، مظهرًا منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، ومفندًا آراءهم بالحجة والبيان، وتصدى للفلاسفة وغلاة التصوف من أتباع ابن عربي(23) وتلاميذه، فكشف أستارهم، وأبان عوار مسلكهم.‏

اتبع مسلك الاجتهاد في المسائل العلمية (ففي بعض الأحكام يفتي بما أداه إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور من مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة في مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف) (24).‏

ابتلي *رحمه الله* في سبيل إظهار الحق وبيانه، ونصيحة المسلمين، فصبر، فقد وُشي به لدى السلطان، واتهم بالباطل زورًا وبهتانًا، وسُجن بسبب ذلك مرارًا، ليُثنى عن منهجه، ويُحال بينه وبين الناس، ولكنه قابل ذلك كله بالصبر على قَدَر الله، والرضا بقضائه، والحِلْم على من آذاه، والعفو عنهم، ولا أدلّ على ذلك من رسالته التي بعثها من مصر إلى أهله وأنصاره في دمشق، يدعوهم فيها إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ويحذرهم فيها من أذية مـن آذاه أو إهانتهـــم، يقــول فيهــا : (تعلمــون رضي الله عنكـم، أنــي لا أحب أن يُؤذى أحدٌ من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهـدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المسلمين، فنطوي بساط الكلام لهذا الأصل، كقول القائل : فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلامات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا البـاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله...) (25).‏

اتصف بسلامة النفس، والبراءة من التشفي والانتقام حتى ممن كاده، ذُكر أن الناصر بن قلاوون(26) لما رجع إلى الحكم في مصر بعد خلعه، جلس معه، (وأخرج من جيبه فتاوى لبعض المشايخ من خصومه في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم، قال : ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقًا شديًا عليهم لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير(27)، فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حِلٍّ من حقي ومن جهتي، وسَكَّنْتُ ما عنده عليهم. قال : فكان قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف(28) يقول بعد ذلك : ما رأينا أتقى من ابن تيميــة، لم نُبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قَدِرَ علينا عفا عنا) (29).‏

كان منهجه قائمًا على اتباع الدليل، وغايته إظهار الحق والانتصار له، دون خوف من أحد ولا مداهنة فيه، فإنه (كان سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين) (30). من قرأ رسائله وتراثه العلمي، أدرك دقة وصف تلميذه الحافظ عمر بن علي البزار(31) لمنهجه لما قال : (إذا نظر المنصف إليه بعين العدل، يراه واقفًا مع الكتاب والسنة، لا يميله عنهما قول أحد كائنًا من كان، ولا يراقب في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحد، وهو مستمسك بالعروة الوثقى واليــد الطــولى، وعامــل بقــول الله تـعــالــــــى : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (النســـــــاء : 59)، وبقــولـــه تعــالـــــى : (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (الشورى : 10)، وما سمعنا أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة، والإمعان في تتبع معانيهما، والعمل بمقتضاهما، ولهذا لا يرى في مسألة أقوالاً للعلماء، إلا وقد أفتى بأبلغها موافقة للكتاب والسنة، وتحرى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول) (32).‏

توفي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، بقلعة دمشق محبوسًا، بعد مرض أصابه بضعة وعشرين يومًا، فاشتد أسف الناس عليه.. قيل : إن عدد مَن حضر جنازته يزيد على نحو خمسمائة ألف(33)، وإنه لم يسمع بجنازة حضرها مثل هذا الجمع، إلا جنازة الإمام أحمد(34) رحمه الله.‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:41 AM

مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية

يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم على أهل البدع، أن أعرض بشيء من الاختصار ما يبين مفهومه رحمه الله للسنة، ويحدد أهلها، ويوضح طريقتهم، ويبين مفهومه للبدعة وتفاوتها، ودعوته إلى الاعتصام بالسنة، وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد لنا موقفه من الاتباع والابتداع ابتداءً.‏

‏1 ـ تعريفه للسنة : ‏

يرى أن السنة من الفعل هي : (ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو فُعل على زمانه، أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضي حينئذ لفعله ،أو وجود المانع منه، فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب(35)، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف(36)، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة(37)) (38).‏

قصد الشيخ في هذا التعريف، المعنى العام للسنة، وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى الله عليه و سلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما الخلفاء الراشدون، وقد استقاه من وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثَات الأمور، فإن كُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة) (39).‏

‏2 ـ مَن هم أهل السنة ؟ ‏

يرى أنهم المتبعون لسلف الأمة، الذين عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة، وحازوا كل فضيلة، وثبت لهم ذلك بالضرورة، وأنه (من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد... القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه(40)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل.. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم) (41)، كما قال عبد الله بن عمر(42) رضي الله عنهما : (مَن كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، كانوا على الهدى المستقيم) (43).‏

وقال غيره : (عليكم بآثار مَن سَلَف، فإنهم جاءوا بما يكفي ويشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه) (44)، وقال الإمام الشافعي(45) : (هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب يُنال به علم أو يُدرك به هوى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (46).‏

وحَدَّدَ رحمه الله أهل السنة والجماعة، فقال : (أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين، وأئمة أهل السنة وأهل الحديث، وجماهير الفقهاء والصوفية(47)، مثل مالك(48) والثوري(49) والأوزاعي(50) وحماد بن زيد(51)، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ومحققي أهل الكلام(52)) (53)، فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة، لأن طريق السنة يتسع لكل من اعتصم بها، واتبع آثار السلف رحمهم الله تعالى).‏

‏3 ـ طريقة أهل السنة : ‏

بين الإمام ابن تيمية أن (طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : (عليكم بسنتي) (54) إلى آخر الحديث) (55)، فهم إنما سُموا بأهل السنة لهذا المعنى، وسُموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفُرقة، نسبة إلى الأصل الثالث وهو الإجماع، ويقصد به الإجماع المنضبط، وهو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بَعْدَهم كَثُر الاختلاف، وافترقت الأمة(56).‏

وإنما كان السلف على السنة، لأن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولأن عامة ما عندهم من العلم والإيمان استفادوه منه صلى الله عليه و سلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد(57)، لذا كان الحق معهم، لأن (الحق دائمًا مع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائمًا، ومَن وافقهم كان الصواب معه دائمًا لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول صلى الله عليه و سلم، فمن كان أعلم بسنته وأَتْبَع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته، وأتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين) (58).‏

لذا كانت متابعة السلف شعارًا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة، كما قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك(59) : (أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم) (60)، فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف.. ولما كان الرافضة(61) أشهر الطوائف بالبدعة، حتــى إن العامــة لا تعرف مـن شعـائـر البـدع إلا الرفض، صار السني في اصطلاحهم مَن لا يكون رافضيًا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة(62)، وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل (متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية(63) والكرامية(64) والأشعرية(65) مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها) (66).‏

‏4 ـ تعريفه للبدعة : ‏

يرى البدعة في مقابل السنة، وهي : (ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات) (67)، أو هي بمعنى أعم : (ما لم يشرعه الله من الدين.. فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة، وإن كان متأولاً فيه) (68)، أي مما استحدثه الناس، ولم يكن له مستند في الشريعة.‏

وهي (نوعان : نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني) (69)، فمثال الأول في الأقوال : بدعة الأوراد المحدثة، وفي الاعتقادات : بدعة الرافضة والخوارج(70) ، والمعتزلة(71) ، والمرجئة(72)، والجهمية(73).. ومثال الثاني في الأفعال : لبس الصوف عبادةً، وعمل المولد(74)، وفي العبادات، الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين(75).‏

‏ ـ تفاوت البدعـة : ‏

يرى أن البدعة تكون باطلاً على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة، وابتعاد عن متابعة السلف، فهي ليست باطلاً محضًا، إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما قُبلت، كما أنها ليست حقًا محضًا لا شــوب فيه، وإلا كـانت موافقــة للسنــة التي لا تنــاقض حقًا محضًا لا باطل فيه، وإنما تشتمل على حق وباطل(76)، وعلى هذا يكون بعضها أشد من بعض(77)، ويكون أهلها (على درجات : منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) (78).‏

وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء، فإن (الجليل من كل واحد من الصنفين، مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع) (79).. وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة الخبرية بالأصول، ومسائل العبادة العملية بالفروع، تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء المتكلمين، وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل الخبرية المتنازع فيها، لذا كثر كلامهم فيها، وكرهوا الكلام في الأخرى، كما أثر ذلك عن مالك وغيره من أهل المدينة(80).‏

وقد أشار الشيخ إلى هذا التفاوت من حيث قُرب الفِرَق وبُعْدها عن الحق قائلاً : (وأصحاب ابن كلاب(81) كالحــارث المحاسبـــي(82)، وأبي العباس القلانسي(83)، ونحوهما، خير من الأشعرية في هذا وهذا، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب، كان قوله أعلى وأفضل) (84).‏

‏6 ـ تأكيده على العمل بالسنة : ‏

يؤكد شيخ الإسلام على أنه لا عاصم من الوقوع في الباطل إلا بملازمة السنة، ذلك أن (السنة مثال سفينة نوح عليه السلام، من رَكِبَها نجا، ومن تَخَلَّف عنها غرق، قال الزهري(85) : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة) (86)، لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة، وقعوا في الباطل وإن كانوا متأولين، لأنهم اتبعوا الهوى، وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل والهدى، ومن هُنا سُمي أصحاب البدع، أصحاب الأهواء(87).‏

أما أهل العلم والإيمان من السلف، فإنهم تمسكوا بالسنة، وكان منهجهم على النقيض من منهج المبتدعة، فهم (يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقًا، وما خالفه كان باطلاً، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه، غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس، يجب أن يكون معلومًا متيقنًا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرًا منه، وكثير منهــم قد يشتبـــه عليـــه مـــا أراده، وإن كـــان كلامـــه في نفســـه محكـمًا مقــرونًا بما يبين مراده) (88).‏

لكن إذا لم يُتَّبَع منهج السلف، فإنه يُخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأقوال والاعتقادات، ويُخاف على المنتسبين إلى العبادة والإرادة، وما يَتْبَع ذلك، من الوقوع في بدعة الأفعال والعبادات، وكل ذلك من الضلال والبغي، وقد أُمر المسلم أن يقول في صلاته : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة : 6*7)، آمين، وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (اليهــود مغضوب عليهم، والنصــارى ضـالـون) (89)، قـــال سفيــان بن عيينة(90) : كانوا يقولون : من فَسَد من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من العُبَّاد ففيه شبه من النصارى.. وكان السلف يقولون : احذروا فتنة العَالِم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فِعْلُ مــا يجـب عليـه، وتَرْكُ ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال(91).‏

‏7 ـ تحذيره من البدعة، وبيانه لوجه فسادها : ‏

حذر الشيخ من البدعة، وبين أنها أشر من المعصيــة(92)، لـذم رسول الله صلى الله عليه و سلم إياها في قوله : (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) (93)، وفي رواية : (وكل ضلالة في النار) (94).. وذمه عليه الصلاة والسلام الواقعين فيها، في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه و سلم في قسمته، فقال فيه : (يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئي(95) هذا قومٌ يَحْقِرُ أحدُكُم صلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِم، وصيامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، وقِرَاءَتَه مَعَ قِرَاءتِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُون(96) مِنَ الإسلامِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة، لَئِن أدركتُهُم لأَقْتُلَنَّهم قَتلَ عاد) (97).. وفي رواية : (لو يعلمُ الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمدٍ لاتَّكَلُوا عن العمل) (98).. وفي رواية : (شر قَتْلَى تحتَ أديمِ السماء، خير قَتْلَى مَنْ قَتَلُوه) (99).‏

قال الشيخ معلقًا على هذا الحديث : (فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبيُ صلى الله عليه و سلم بقتلهم، وقَتَلَهم علي بن أبي طالب(100) ومَن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، وذلك لخروجهم عن سُنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرتُ قول الشافعي : لأن يُبتلى العبد بكل ذنب، ما خلا الشرك بالله، خير من أن يُبتلى بشيء من هذه الأهواء) (101).‏

كما بين الشيخ أن فساد البدعة وضررها من وجهين : ‏

الأول : أن البدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول (الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث) (102).‏

الثاني : أن البدع معارضة للسنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة والخروج عن الشريعة، وفي هذا المعنى يقول : مبينًا أن (من أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة، الخروج عن الشِّرعة والمنهاج، الذي بعث به الرسول صلى الله عليه و سلم إلينا، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (103)، وهذا ظاهر في منهج المبتدعة، القائم على معارضة الكتاب والسنة، لـمَّا (جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة، التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يُستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابــه، كمـا يجعـل الجهميـة من المتفلسفـة والمعتزلـة ونحوهـم، ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعُلُوه على خَلْقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها، أو مردودًا، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه) (104).‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:43 AM

الأصل الأول : الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل

لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، يعفى عنه خطؤه، ويثاب، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (106)، لذا يُعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد(107)، فإن كثيرًا (من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَدْ منها، وإما لرأي رَأَوْه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح أن الله قال : (قد فعلتُ) (108)) (109).‏

وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلاح، ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين، قائلاً : (والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والإخلاص والصلاح، غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات، أو الخطأ في مواقع الاجتهاد، وهذا سبيل كل صالحي هذه الأمة في خطئهم وزلاتهم) (110)، مستندًا في هذا على قول الله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون) (الزمر : 33-35).‏

كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف، الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم، فقال : (لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتًا، غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد) (111).‏

وإذا كان الاجتهاد عذرًا في العفو عن الخطأ البدعي، فإن هذا الخطأ لا ينقص من قدر المجتهد، متى كان من أهل القدم في الصلاح والتقوى، فإنه مع خطئه (قد يكون صدِّيقًا عظيمًا، فليس من شرط الصدِّيق أن يكون قوله كله صحيحًا، وعمله كله سنة) (112).. كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس دليلاً على صحتها، فإن الصحة تُعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم.. قال رحمه الله مبينًا هذا : (إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين، فقد تركها في زمان هؤلاء من كان معتقدًا لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فتُرد إلى الله ورسوله) (113).. هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما من أخطأ مخالفًا (الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع) (114).‏

وكذلك تُحمل الأقوال المحتملة لأهل الفضل والصلاح، على أحسن محمل وأسلم مقصد، من ذلك حَمْله رحمه الله لقول الجنيد(115) رحمه الله : (التوحيد إفراد القِدَم من الحدث)، قائلاً : (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسنًا، وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة، وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة، وهو أن يُفْرَد الحق سبحانه وهو القـديم، بهــذا كلـه، فلا يشركه في ذلك محدث، وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك، وهذا حق صحيح، وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.. ومما يدخل في كلام الجنيد، تمييز القديم عن المحدث، وإثبات مباينته له، بحيث يعْلَمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق، خلافًا لما دخل فيه الاتحادية(116) من المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالاتحاد معينًا أو مطلقًا) (117). ومنه أيضًا حمله قول بعض الصوفية : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك أو إجلالاً لك -مع ما فيه من خطأ، على حسن القصد- فيقول : (وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وَجْدٌ صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين مراده، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب(118) مع صحة مقصوده) (119)

ميارى 30 - 9 - 2010 02:44 AM

الأصل الثاني : عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية .. وأولى من ذلك، عدم تكفيره أو تفسيقه

نسب ابن تيميـــة هـــذا الحكـــم إلى السلف وأئمــة الفتــوى، كأبي حنيفة(120) والشافعي والثوري وداود(121) بن علي وغيرهم، أنهم كانـوا لا يؤثمون مجتهدًا أخطأ في المسائل الأصولية والفروعية، وذكر ذلك عنهم ابن حزم(122) وغيره، وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعي وغيرهمــا كــانــوا يقبلـــون شهـــادة أهـــل الأهــــــواء، إلا الخطابيـــة(123)، ويصححون الصلاة خلفهم(124)، والكافر لا تُقبل شهادته على المسلمين، ولا يُصلى خلفه، وأنهم قالوا : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهــم لا يكفــرون ولا يفسّقــون ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا : والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع، من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غَوره(125).‏

وبيَّن رحمه الله بطلان رأي مَن قال : إن (مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية، التي يُطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل -من جهة الحكم- فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية، ما لا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة : هل رأى محمد ربه؟ كتنازعهم في بعض النصوص : هل قاله النبي صلى الله عليه و سلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات، هل هي من القرآن أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة : هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام، كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس في هذا تكفيـر ولا تفسيق) (126).‏

وأوضح الشيخ بطلان جعل العقائد هي الأصول، والعبادات والمعاملات هي الفروع، فقال : (الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع، فالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا مَن جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كَفَر، كما أن مَن جحد هذه كَفَر.. وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل : وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقَدَر خيره وشره.. وأما الأعمال الواجبة، فلابد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة، ولهذا تُقِرُّ الأمةُ مَن يُفصلها على الإطلاق وهم الفقهاء، وإن كان قد يُنكر على مَن يتكلم في تفصيل الجمل القولية، للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة) (127).‏

وعلل رحمه الله، عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله : (ليس كل مَن اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا مَن ترك مأمورًا أو فعل محظورًا، وهذا قول الفقهاء والأئمة(128)، وهو القول المعروف عن سلف الأمة، وقول جمهور المسلمين) (129).‏

لكنه يُفَرِّقُ بين خطأين : خطأ مؤاخذ عليه، وخطأ مغفور له، فيقول : (مَن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله، بسلوك السبيل التي نُهي عنها، أو لاتباع هواه بغير هدىً من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالى : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا...) إلى قوله : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 285-286)، وقد ثبت في صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه و سلم، أن الله قال : (قد فعلتُ) (130)، وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس(131) رضي الله عنهما : (أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك) (132)، فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا) (133).‏

وإذا كان خطأ المجتهد من علماء المسلمين مغفورًا له، فإنه لا يجوز تكفير أحد منهم بمجرد الخطأ، بل ولا يُفَسّق ولا يُؤثم، وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام : (إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم، لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه... فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض، الذين يكفّرون أئمـة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وليس كُل مَن يُترك بعضُ كلامِه لخطأ أخطأه، يكفر، ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة : 286)، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (إن الله قال : قد فعلتُ) (134)) (135).‏

بل يرى الشيخ أن (دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا، هو من أحق الأغراض الشرعية...) (136).‏

على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الإثم عن العالم المجتهد إذا أخطـأ، لا يعني الإغضاء عن البدعة التي أخطأ فيها، فقد بيّن رحمه الله أن إثمها يزول للاجتهاد أو غيره، إلا أنه يجب بيان حالها، وعدم الاقتداء بمن استحلها، وأن لا يقصر أحد في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها(137)، ذلك أن الإثم مزال عن المجتهد، لا عن وجه المخالفة من المبتدع.‏

وتأكيدًا لما سبق، فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة، عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل العملية أو المسائل الاعتقادية، فيقول : (إن المتأوِّل الذي قَصْدُه متابعةُ الرسول صلى الله عليه و سلم لا يُكَفَّر ولا يُفَسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثيــر من النــاس كفَّــروا المخطئين فيهــا، وهــذا القــول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يُكفّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل مَن خرج عما هو عليه، من أهل البدع.. وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفّر مَن قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفّر كلُّ مَن قاله مع الجهل والتأويل) (138).. لذا كان (من عيوب أهل البدع، تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهــم يُخَطِّئــون ولا يكفّرون) (139).‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:45 AM

الأصل الثالث :عذر المبتدع لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتِّباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب في ذلك

يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع لا يُقر على إظهار البدعة والدعوة إليها(140)، متى تبينت مخالفتها للكتاب والسنة، بل لا يجوز متابعته فيها، (نعم، قد يكون متأولاً (141) في هذا الشرع، أي الذي ابتدعه، فيُغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ، ويُثاب أيضًا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر مَن قال أو عمل عملاً قد عُلم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا، وقد قال سبحانه وتعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة : 31)، قال عـدي بن حاتم(142) للنبي صلى الله عليه و سلم : (يـا رسـول الله! ما عبـــدوهم. قـــال : (ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم) (143) فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله، في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذم نصيب) (144).‏

ويؤكد رحمه الله، أنه لا يكون معذورًا من اتبع مخالفًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه و سلم مما هو ظاهر بيِّن، فيقول : (والذي يصدر عنه أمثال هذه الأمور(145) -أي المخالفة- إن كان معذورًا بقصور في اجتهاده، أو غيبة في عقله، فليس مَن اتبعه بمعذور، مع وضوح الحق والسبيل، وإن كانت سيئته مغفورة، لما اقترن بها من حُسنِ قصدٍ، وعملٍ صالحٍ، فيجب بيان المحمود والمذموم، لئلا يكون لبسًا للحق والباطل) (146).‏

وبيّن متى تجب المتابعة في الأمور الشرعية، ومتى تمتنع، وأحوال المجتهدين معها، فقال : إن (الأمور -الشرعية- تُعطى حقها من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والأمر والنهي وجب اتباعه، ولم يُلْتَفت إلى مَن خالفه كائنًا مَن كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنًا مَن كان، كما دل عليه الكتاب والسنة(147) وإجماع الأمة، من اتباع الرسول وطاعته... فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وما من الأئمة إلا من له أقوال وأفعال -تَبَيَّنَ مخالفتها للكتاب والسنة- فهو لا يتبع عليها، مع أنه لا يُذم عليها) (148).‏

أما ما (لم يُعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد، التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان، فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بيّن الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يُلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم... وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا، فهذه تسلم لكل مجتهد ومن قلده... بحيث لا ينكر ذلك عليهم) (149)، وأما الذي لا يسلم إليه حاله فهو آتي المحرمات وتارك الواجبات، من غير تأويل سائغ أو عــذر مشـــروع، فإنــه يجب الإنكــار عليه بحسب ما جاءت به الشريعة، من اليد واللسان والقلب(150)، ويلحق به كل من أظهر مقالة تُخالف الكتاب والسنة، فإنهــا من المنكــر الذي أمر الله بالنهــي عنـــه(151) في قولـه تعالـى : (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران : 104).. أما مَن اشتبه أمره فيُتوقف معه، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة (152).‏

وإذا كان الاجتهاد يغفر للعالم خطأه، فإن هذا يقتضي التأدب معه، ومراعاة حقه عند إنكار ما أظهره من بدعة وبيان مخالفته للسنة، وفي هذا يقول رحمه الله : (وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يُذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله له من حقوقه، من ثناء ودعاء وغير ذلك) (153).‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:47 AM

أصل الرابع : عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الأهواء والبـدع، ولا معاداته بسببها، إلا إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسنة

بيّن ابن تيمية أن (البدعة التي يعد بها الرجل من أهـل الأهواء، ما اشتهر عند أهل العلم مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية(154) والمرجئة) (155).. وغلظت أقوال أصحابها فيها حتى أخرجتهم من عداد أهل السنة، وفي هذا يقول عند عرضه لأقوال هؤلاء انتهاءً ببدعة المرجئة : (أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة(156)، بل قد دخل في قولهم طوائــف من أهل الفقــه والعبــادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة) (157)، ويلحق بهؤلاء، بل هم أشد بدعة، (الحجاج إلى القبور، والمتخذون لها أوثانًا ومساجد وأعيادًا، فهؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تُعرف، ولا كان في الإسلام قبر ولا مشهد يُحج إليه، بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة.. والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول صلى الله عليه و سلم يتأخر ظهورها، وإنما يحدث أولاً ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج) (158)، وهكذا فإن غلظ البدعة ليس مقصورًا على بدع القرون الأولى، فإن بدع الشرك ظهرت بعد ذلك، وهي أشد وأغلظ وأعظم خطرًا.‏

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذين يعدون من أهل الأهواء والبدع، هم من اتصفوا بما يلي : ‏

أ ـ أنهم يجعلون ما ابتدعوه، قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون(159).‏

ب ـ أنهم ينازعون فيما تواترت به السنة(160).‏

وبهذا يتميز أهل السنة عن أهل البدعة، فإن الذين وقعوا في البدعة (إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتهـــا، لهــم مقــالات قالـوها باجتهــاد، وهي تخــالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى مُوَافِقَهُ، وعادى مُخَالِفَهُ، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مُخَالِفَه دون مُوَافِقَه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات) (161).‏

وكذلك فإن أئمة المسلمين متفقون على تبديع مَن خالف في الأمور المعلومة بالاضطرار، عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقَدَر والعلو والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه، بخــلاف من نــازع في مســائل الاجتهــاد، التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القَسَامة والقُرْعَة وغير ذلك(162).‏

فمن كانت بدعته غليظة، ظاهرة المخالفة للسنة عند أهل العلم، وجبت عداوته بقدر بدعته، بل يرى شيخ الإسلام عقوبة مَن والاه، فيقول في معرض رده على الاتحادية، وينتظم معهم مَن كان مثلهم : (ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذبّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظّم كتبهم، أو عُرِف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو مَن قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خَلْقٍ من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله) (163).‏

أما ما كان دون ذلك من المسائل التي وقع فيها خلاف، فإنه لا يستوجب الفرقة والمعاداة، والحكم على المخالف من أهل البدعة والهوى، فقد ذكر ابن تيمية أن من مسائل الاعتقاد التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة والاتباع، مسألة رؤية الكفار ربهم في الآخرة، فجمهور أهل السنة يرون أن الكفار محجوبون عنها على الإطلاق، ومن العلماء مَن يرى أنه يراه مَنْ أَظْهَرَ التوحيدَ من منافقي هذه الأمة والكفار، في عَرَصات يوم القيامة، ثم يحتجب عنهم(164) عقوبة لهم.‏

لكــن أمـــــام هــــذه المســألـة، وغيـــرها من مثيــلاتــها، تجب مراعــاة الآداب التالية : ‏

أ ـ (أن مَن سكت عن الكلام في هذه المسألة، ولم يدع إلى شيء، فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين، فإن البدع التي هي أعظم منها، لا يُهجر فيها إلا الداعية دون الساكت، فهذه أولى.‏

ب ـ أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارًا، يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم، فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم.‏

جـ ـ وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين، الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها، أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك، ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، فإن الإيمان بذلك فرض واجب، لما قد تواتر فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم، وصحابته وسلف الأمة) (165).‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:49 AM


الأصل الخامس :لا يحكم بالهلاك جزمًا على أحد خالف في الاعتقاد أو غيره، ولا على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين، إلا إذا كانت المخالفة غليظة


لا ريب أن نجاة الأفــراد والجماعـــات تكــون في السيــر على مثـل مـا ســـار عليــه رســول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابـــه رضــي الله عنهــم، لقـــول رســول الله صلى الله عليه و سلم : (تَفترقُ أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً : اثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنة، وهي مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (166)، هذه هي الفرقة الناجية.. فما مصير مَن خالف اعتقادها؟ وهل يعد من الاثنتين والسبعين فرقــة التي أشــار إليهـا الحديث؟‏

يبين ابن تيمية أنه (ليس كل مَن خالف في شيء مِن هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته.. وإذا كانت ألفاظ الوعيـــد المتناولــة له، لا يجــب أن يدخــل فيهــــا المتـــأول والقـــانـت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال : مَن صمت نجا) (167)، فليس كل من تكلّم هلك.‏

كما يوضح ابن تيمية أنه لا يُحكم على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث، وأنه لا سبيل إلى الجزم بأنها واحدة منها، لأن (الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل، فإن الله حرّم القول بلا علم عمومًا، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصًا) (168)، قال تعالى : (قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) (الأعراف : 33).‏

وقــال تعــــالى : (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (البقرة : 168-169). وقـــال تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء : 36).‏

نعم ورد تعيين بعض الفرق عن إمامين من أهل السنة همــا : يوسف بن أسباط(169)، وعبد الله بن المبارك(170)، أنهما قالا : أصول البدع أربعة : الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك : والجهمية، فأجاب : بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه و سلم، وكان يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.. وهذا الذي قاله، اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا : إن الجهمية كفار، فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة(171).‏

وروى المسيب بن واضح(172) أنه قال : (أتيت يوسف بن أسباط، فقلتُ : يا أبا محمد! إنك بقية ممن مضى من العلماء، وأنت حجة على من لقيت، وأنت إمام سنة، ولم آتك أسمع منك الأحاديث، ولكن أتيتك أسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث : (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة) (173)، فما هذه الفرق حتى نجتنبهم؟ فقال : أصلها أربعة…) (174).‏

فهذه الطوائف اشتهرت أقوالها المخالفة مخالفة غليظة للكتاب والسنة، وافترقت عن أهل السنة والجماعة، افتراقًا بينًا في الأصول من الدين مما ثبت بالضرورة، فساغ لهذا الإمام الحكم عليها بأنها من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين(175).‏

ميارى 30 - 9 - 2010 02:50 AM

الأصل السادس :التحري في حال الشخص المعين، المرتكب لموجب الكفر أو الفسق، قبل تكفيره أو تفسيقه، بحيث لا يكفر ولا يفسق أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه

نبه ابن تيمية إلى عظم مسألتي التكفير والتفسيق عمومًا، فقال : (اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام، التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرّم الجنة على الكافرين) (176).‏

ولعظم المسألتين وخطرهما، فإن إطلاق الكفر أو الفسق على أحد لا يكون إلا بموجب قطعي، ولاسيما الكفر فإنه يكون (بمثل تكذيب الرسول صلى الله عليه و سلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم) (177)، ويتعلق بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق بالكتاب والسنة، وهما متضادان، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقـــه وطاعتــه، وحكمــه لا يتبين إلا عن طريق الشرع(178)، فليس لأحد أن يكفر أحدًا بهواه، لأن التكفير حق لله تعالى، والذين يكفّرون بهواهم هم المبتدعة، كالروافض الذين كفّروا أبا بكر(179)، وعمر(180) رضي الله عنهما، والخوارج الحرورية(181) الذين كفّروا عليًا رضي الله عنه، وقاتلوا الناس على الدين، (حتى يرجعــوا عمــا ثبت بالكتــاب والسنــــة وإجمــاع الصحابــــة، إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن.. ومع هذا، فقد صرّح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون، ليسوا كفارًا ولا منافقين، وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني(182) ومن اتبعه، يقولون : لا نكفّر إلا من يكفّرنا، فإن الكفر ليس حقًا لهم بل هو حق لله، وليس للإنســان أن يَكْذِبَ على مــن يكــذب عليـه، ولا يفعل الفاحشة بأهل مَن فعل الفاحشة بأهله، ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرامٌ، لحق الله) (183).‏

ويصرّح في موضع آخر بأن هذا المسلك هو مسلك أهل العلم والسنة، فيقول : (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالفُ يكفّرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يُكَفَّر إلا من كَفَّره الله ورسوله) (184).‏

كما أن أهل السنة لا يكفّرون أحدًا من أهل القبلة بالذنب والمعصية، وإنما ذلك من فعل الخوارج الذين يكفّرون بمطلق الذنوب(185)، وفي هذا يقول رحمه الله : (من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لابد منه، ويكفّرون مَن خالفهم فيها ويستحلون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.. وأهل السنة لا يبتدعون قولاً، ولا يكفّرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفًا لهم، مكفّرًا لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم تكفّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان(186) وعلي رضي الله عنهما، ومن والاهما، واستحلالهـم لدماء المسلمين المخالفين لهم) (187).‏

بل يقرر شيخ الإسلام (أنه لا يُجعل أحدٌ بمجرد ذنب يذنبــه، ولا ببدعة ابتدعها، ولو دعا الناس إليها، كافرًا في الباطن إلا إذا كان منافقًا، فأما مَن كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به، وقد غَلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفّرهم، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين) (188).‏

ويعلل ابن تيمية منع إطلاق الكفر على المعين، أن له شروطًا وموانع تقتضي انتفاء العذر، كالجهل بالحكم وثبوت الحكم بالعلم، (فلا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا، لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين) (189).‏

ذلك أن الكفر حكم شرعي، لا يُحكم به على أحدٍ بمجرد الخطأ والغلط، بل لابد من إقامة الحجة على المحكوم عليه، وفي هذا الشأن يقول رحمه الله : (ليس لأحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تُقام عليه الحجة، وتُبين له المحجة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) (190).‏

وقد حذّر الشيخ من تكفير أو تفسيق أو نسبة معصية إلى مجتهد معين، أخطأ فيما يسوغ الاجتهاد فيه من المسائل العقدية والعملية، فيقول : (إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفـر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شُرَيح(191) قراءة من قرأ (بل عجبتُ ويسخرون) (الصافات : 12)، وقـــال : إن الله لا يعجب، فبلــغ ذلك إبراهيم النخعـــي(192)، فقال : إنما شُريــح شاعـــر يعجبه علمـــه، كـــان عبد الله(193) أعلم منه، وكان يقرأ : (بل عجبتَ) (194).. وكما نازعت عائشة(195) رضي الله عنها، وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه و سلم ربه، وقالت : (مَن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) (196)، ومع هذا لا تقول لابن عباس رضي الله عنهما، ونحوه من المنازعين لها : إنه مفتر على الله.. وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك.. وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق) (197).‏

ويُفرّق الشيخ بين التكفير العام والتكفير المعين، فهو يرى (أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول بإطلاقه وعمومه) (198)، وفق الموجب، بغض النظر عن حالِ مُتلبّسه، أما الكفر المعين فلا يُحكم به على أحد إلا إذا توافرت فيه شروط الكفر، وانتفت عنه موانعه، دون تفريق بين المسائل العقدية والعملية.. وتقريرًا لهـذا المعنــى يقـول رحمه الله : (وحقيقة الأمر في ذلك، أن القول قد يكون كفرًا، فيُطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال : من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول : (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا ) (النساء : 10). فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يُشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وجماهير أئمة المسلمين) (199).‏

بل يرى الشيخ أن التحري في حال المتأول المخطئ في مسائل الاعتقاد، أولى من المخطئ في المسائل العملية، لخفاء الأولى وظهور الثانية، وفي هذا يقول : (التحقيق في هذا : إن القول قد يكون كفرًا، كمقالات الجهمية الذين قالوا : إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف : مَن قال : القرآن مخلوق فهو كافر، ومَن قال : إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر والزنا وتأول، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يُحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته، كما فعل الصحابة(200) رضي الله عنهم، في الطائفة الذين استحلوا الخمر، ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يُخَرج الحديث الصحيح (في الذي قال : إذا أنا متُّ فاحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا من العالمين) (201) وقد غفر الله لهذا، مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه) (202).‏

ويشهد لهذا المنهج فعل الإمام أحمد رحمه الله، الذي تعرّض لفتنة خلق القرآن من قِبَل الجهمية نُفاة الصفات، فامتحنوه وضربوه وحبسوه بأمر من الخليفة المأمون(203)، الذي وافقهم على التجهم، ومع ذلك فإن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر. ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز، بالكتاب(204) والسنة(205) والإجماع، وهذا يدل على أنه لم يكفر المعين من الجهمية لجهلهم بالحكم أو غيره(206)، هذا مع أن الجهمية أشد المبتدعة ضلالاً، بل المشهور عن الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرهم، قال فيهم (عبد الله بن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة : إنهم أكفر من اليهود والنصارى) (207).‏

أما غيرهم من أهل البدع، فإنهم لا يُكَفَّرون، مثل الشيعة المفضِّلة لعليٍّ على أبي بكر رضي الله عنهما، وكذلك المرجئة، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، أما القدرية المُقِـرُّون بالعلم(208)، والروافض الذين ليسوا من الغالية(209)، والخوارج، فهم محل خلاف بين أهل العلم، وقد أثر عن الإمام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج، مع قوله : ما أعلم قومًا شرًا من الخـوارج، ونقل أبو نصر السجزي(210) عن أئمة السنة، قولين في نوع كفر الجهمية : الأول أنه كفر ينقل عن الملة، هو قول الأكثر، والثاني كفر لا ينقل عن الملة.. وذكر الخطابي(211) : إن تكفير أهل السنة لهم، على سبيل التغليظ(212).‏


الساعة الآن 02:36 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى