منتديات المُنى والأرب - الويلُ لمنْ ترفعُ صوتَها

الويلُ لمنْ ترفعُ صوتَها
نزار عابدين

ليقل شعراء الغزل ما يشاؤون، وليتغزل جميل ببثينة في عشرات القصائد، وليفعل فعله كـُثـَيِّر وذو الرُمّة والقيسان، وليتفاخر ابن أبي ربيعة بغزواته، وليتغزل الأعشى أفحش الغزل بهريرة وقتيلة. سيصفق له الجميع، ويتناشدون أشعاره، ويغني فيها المغنون، ويشيد به الشعراء والنقاد وحتى المتحدثون والتابعون، ولكن!

حذارِ أن تتغزَّل امرأة برجل ، أو تعبِّر عن تشوُّقها إليه. ستلوك سمعتها الألسنة، وقد توصم بأشنع الصفات، بل إن «عارها» سيلحق بأسرتها كلها، وسيعيَّرأبناؤها وأقرباؤها بفعـلتها، ألم يُعيِّروا الحجّاج بأمه المتمنِّية؟

حدث هذا لنساء أخريات، منهن خولة بنت ثابت الخزرجية، أخت حسان بن ثابت ، وقيل إن اسمها فُـريعة أو فارعة، فماذا فعلت هذه المرأة؟

عشقت هذه المرأة عمارة بن الوليد بن المغيرة. وكان أجمل فتيان قريش، وهو الذي عرضت قريش على أبي طالب أن تسلِّمه إياه، ويسلمهم ابن أخيه (النبي صلى الـلـه عليه وسلم)، وردَّ أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أرعاه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟. وعمارة هذا داعر لم يترفَّع عن إقامة علاقة مع بنت عمه فاطمة زوجة عمرو بن العاص، فورَّط نفسه في حبائل مكر عمرو ودهائه، ثم عشقته زوجة النجاشي، حين ذهبا في محاولة لاسترداد المسلمين المهاجرين، فكشف عمرو الأمر للنجاشي وأثبته بالأدلة، فعاقب النجاشي عمارة أسوأ عقاب. قالت خولة:

يا خـَلـيـلي نابَني سُـــــهُـدي لـم تـنـَمْ عَـيني ولمْ تــــكـَــدِ

فـشَــرابي ما أُسِــيــــغُ ومـــا أشـْتـــكي مـا بِــــــي إلى أحَـدِ

كيفَ تلـْحوني(1) عَـلى رجـلٍ آنِــسٍ تـلـْـتـَــذّهُ كـَـبــِـــــدي

مِثــل ضوءِ البـــدرِ صورتُــهُ لـيـــسَ بالـزُمَّيـلـَـةِ(2) النَّكِــدِ

مِـن بَـني آلِ المُـغــــيــرةِ لا خـامِـلٍ نـَكـْسٍ(3) ولا جَـحِــدِ

نظـَرَت يَــــوماً فلا نظـَــرتْ بَعْـدَهُ عَـيْـــنــي إلى أحَـــــــدِ

ماذا في هذه الأبيات؟ إنها غزل يتمثل العفاف فيه، وإذا قارنّاها بما قاله الشعراء من غزل نجدها باردة عاطفياً، وهي أقرب إلى المديح منها إلى الغزل، ومع ذلك عُدَّت مأخذاً عليها وعلى أسرتها.

نقرأ في أخبار «طـُوَيس» المغني أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان مع رفاق له في وادي العقيق فأمطرتهم الـسـماء، فاقـتـرح عليهـم أن يلجؤوا إلى بيت طويس، فقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: جُعِلت فداءك! وما تريد من طويس، مخنث شائن لمن عرفه، فقال له عبد الله: لا تقل ذلك، فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس. وسمعهما طويس، فأعَدَّ لهم عشاء، ثم غنّاهم الأبيات السابقة، فطرب القوم، ثم قال: يا سيدي، أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا والله، ما أدري لمن هو، إلا أني سمعت شعراً حسناً. قال: هو لفارعة بنت ثابت وهي تتعشق عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فضرب عبد الرحمن برأسه على صدره، وتمنى أن تنشق الأرض له ليدخل فيها.

ثمة رواية أخرى للحكاية، وفيها أنها كانت تتغزل بالحارث ابن هشام بن المغيرة، لكن المؤكد في الروايتين كلتيهما أنها أخت حسان بن ثابت، والحارث أخو أبي جهل ، لكنه أسلم وحَسُنَ إسلامه. ويلفت الانتباه جداً أن طويسـاً انتقم من عبد الرحمن بن حسـان، وعيَّره بعمَّته، رداً على ما قال عنه لابن جعفر، وأن عبد الرحمن شـعـر بالخزي (فلو شـقـت الأرض له لدخل فيها).