منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب "محنة المسلم مع حضارة عصره " (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8891)

ميارى 2 - 8 - 2010 02:40 PM

كتاب "محنة المسلم مع حضارة عصره "
 
دراسة في البناء الحضاري

(محنة المسلم مع حضارة عصره)


الدكتور محمود محمد سفر


المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: فهذا كتاب مفتوح إلى شعوب الأمة الإسلامية عامة، التي خصها الله بالشهادة على الأمم السابقة يوم البعث وقيام الأشهاد، كتاب لا يدعي أن فيه فصل الخطاب، بقدر ما هو محاولة صادقة لتحديد مسار للتقدم والنهوض، بعد أن تعددت بالمسلمين الطرق، وتاهت بهم خطاهم بين اليمين واليسار، والشرق والغرب، فقد آن لهم أن يتأكدوا أن عماد نهضتهم، وسند تقدمهم هو إيمانهم المطلق، بأن لا هادي لهم من الله إلا كتابه وسنة نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه.

جرب المسلمون في الخمسين سنة الأخيرة ـ حتى لا نوغل في التاريخ، وحتى يكون الحديث من واقع مشاهدات الجيل الحاضر ـ شتى السبل، ومختلف الطرق، لكي ينهضوا ويستعيدوا مجدهم التليد، ونشط المنظرون والمفكرون من رجال العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرهم في رسم المسارات، وتحديد المتطلبات، ووضع الاشتراطات، وتراكمت الخطط، وتعددت الرؤى، وتفرقت السبل، حتى لكأننا نشهد مبارزة حامية الوطيس، استهدفت تجاذب الأمة بشعوبها المتعددة بين النظريات، و ((الأيدولوجيات )).

الكل مجتهد في تحسين بضاعته، والكل جاد في عرض أفكاره، فمن منكفئ لا يرى أبعد من أنفه، ولا يشعر بفعل الزمن من حوله، إلى ((ليبرالي )) متحرر يسعى إلى التبعية الحضارية، بانسلاخ تام من ذاته، وهروب كامل من تراثه، إلى علماني متعسف يستعدي العالم على دينه وتراث أمته، إلى يساري مخدوع سجن نفسه وعقله في فكر غيره، ولبس رداء سواه.

كان هذا حال الأمة لا يتغير ولا يتبدل، والمسلم العادي يرقب بحذر وريبة تارة، وبحسن الظن ، وطيب سريرة، تارة أخرى، لكنه ـ على أي حال ـ فقد الثقة أو كاد في كل ما سمع ويسمع، وأخذ يبحث بجدية وحزم وإصرار عمن يهديه إلى طريق الرشد، ويصرفه عن طرق التيه، ويخرجه من محنته مع حضارة عصره.. فقد طال انتظاره.

ثم كان أن توالت النكبات والأزمات والهزائم والنكسات على الأمة، بأيدي من وعدوها بالتقدم والنهضة والتطور، إن هى سارت في طريقهم، والتحقت بركابهم، واعتنقت مبادئهم، والتزمت بمنهجهم. لقد امتحن الله صبر أمتنا، وقوة تمسكها بعقيدتها بأن سلط عليها من أبنائها لفترة من الزمن بعض تجار المبادئ المنحرفة، ومروجي العقائد الضالة، وسدنة الأيدولوجيات الهدامة، تسلط وعظ وإرشاد، وتنبيه وتحذير وإيقاظ، فجربوا فيها، وعليها، وبها، أفكارهم وضلالاتهم كلها، فلم يفلحوا في زحزحتها عن دينها، وظلت متمسكة به، رغم التعسف والظلم والطغيان والضلال.

واكتشف المسلم ذاته ، وعرف طريقه، وظهرت ملامح صحوة إسلامية فطرية، وعفوية طبيعية، وتلقائية مدهشة، ما كان للفئات الخاذلة والجماعة المُضَلِّة، أن تترك لهذه الملامح أن تنضج، وللنور أن ينبثق، وللصحوة أن تنشط، فأخذت تشوه ما فيها من صدق العودة إلى الله، وحسن الالتزام بحبله عن عمد وتربص، ولكن الله غالب على أمره.

فظل الضمير المسلم يقظا يرقب، وحياً يشاهد، يرقب الأحداث تمور من حوله، ويشاهد الأحوال تمر من أمامه، حتى وإن غاب الرشد، وازداد التيه، وسوف يظل هكذا يتنامى في حيويته، ويتعمق بنظرته باحثاً عن المخرج.

والحديث هنا بطبيعة الحال عن الضمير الملتزم بإطلاق اللفظ؛ لأن الالتزام في الحياة هو زاد مسيرتها، ونبراس طريقها، ونعنى بالالتزام: التمسك بهدي الله، وباتباع ما أمر، والكف عن ما نهى.

ونحسب أن في هذا الكتاب إصراراً على اصطحاب الأمة للصالح من قيمتها والمستقيم من مبادئها معها، وهي تسير في مشوارها الحضاري، نحو مبتغاها من التقدم والنهضة والسمو، وحرصاً على تمسك الأمة بجوهر الحضارة ومعدنها، والزهد في قشورها ومظهرها؛ لأن الإصرار على قيم الإسلام ومبادئه عصمة من الله للأمة من الزلل، وفي الحرص على جوهر الحضارة ومعدنها ملاذاً للأمة من الخطأ والسقوط.

يبدأ الكتاب في فصله الأول، بشرح لطبيعة الضغط الحضاري الذي تتعرض له أمتنا، وتخضع له باستجابة عجيبة، مع رصد لوسائله، وتوضيح لطرق تسربه، وقنوات انسيابه في مجتمعاتنا تمهيد لتعريف ما أسميناه بـ((محنة المسلم مع حضارة عصره )).

في الفصل الثاني حيث حددت دوائر المحنة التي تأخذ بخناق مجتمعاتنا، وشروط الخروج منها.

وفي الفصل الثالث، طرحنا سؤالاً هاماً، هو عنوان الفصل: هل إلى خروج من سبيل؟ بقصد الإجابة عليه، وهو محاولة لرسم طريق النهوض والتطور، وهو اجتهاد لتحديد كيفية البدء وفلسفته، مع استحضار تراث أمتنا الناصع، بصفحاته المشرقة، في هذا المضمار، الأمر الذي من شأنه أن يقوي العزيمة، ويشد الأزر، مع التأكيد على أن الحضارة المعاصرة، اتخذت من تقنياتها المتقدمة، وخدماتها المتطورة، ومنتوجاتها المتنوعة، ، وأنظمتها المبدعة، أسلحة قوية وفتاكة للسيطرة على الشعوب النامية، التي تأتي شعوب أمتنا الإسلامية في المقدمة منها، وليس لنا من بديل سوى المزاحمة في كل ذلك، آخذين في الاعتبار أن التقنية هي وقود الحركة، وزاد الطريق، وقد اقتضى الأمر التوسع جزئيا في دارسة واقع التقنية في مجتمعاتنا، والتأثيرات المتعددة التي تساعد على نموها واضطرادها، والسلبيات المختلفة التي مازالت تقف عائقا أمام انطلاق مركبتها، فاستحقت بهذا أن تستقل بالفصل الرابع كاملاً للحديث عن استنبات التقنية المتطورة في مجتمعاتنا وتنميتها. يحمل هذا الفصل قناعة ذاتية ثابتة بأن التقنية لا تنقل بشراء المعدات والأجهزة، والمراجع والكتب مهما أغدقت شعوبنا عليها من المال، ولكنها معاناة، ومجاهدة، والتزام، وإصرار، وثبات من جميع قطاعات المجتمع، ثم أعقب هذا التدليل على ذلك بتجارب الأمم اليابانية، والغربية والأوروبية منها على وجه الخصوص، التي سبقتنا في مضمار التقدم التقني، لاستخلاص العبر منها، ثم تلا هذا تعداد ضروريات وأسس استنبات التقنية المعاصرة، واستيعابها مع ذكر الشروط اللازمة لتحقيقها.

أما الفصل الأخير، فهو اقتراح منهج للخروج بأمتنا من المحنة الحضارية، وتحديد الركائز التي تعد بحق عدة الخروج، إذا ما عقدت الأمة العزم عليه.

وبعد: فما كان لهذا الكتاب أن يجد مكانه بين يدي القارئ بهذه الصورة، التي هو عليها ـ والتي أرجو الله أن يكون حسنة تحسب في موازين، كاتبها، وأن يجد لدى القارئ القبول، فيقبل عليه بحسن الظن الذي تجمعت به أفكاره ورتبت به فصوله ـ أقول: ما كان لهذا الكتاب أن يظهر، لولا الشعور والمعايشة، لما تكابده أمتنا المسلمة من ألم ومعاناة، تكاد تصل إلى مرحلة الإحباط، لولا استشراف الرجاء في الله، ثم الثقة في قدرة أمتنا على النهوض من كبوتها، واستعادة أمجادها، وسلطان قوتها بالإيمان والعلم، الإيمان بالله ، ثم العلم النافع.

ويظل هذا الكتاب في اعتقاد مؤلفه بداية على الطريق الشاق، طريق النهضة والتقدم الذي نسأل الله أن يعين أمتنا على السير عليه بزاد يقينها، وصدق معرفتها، والله يتولانا جميعاً بفضله، ويشملنا برحمته وهو من وراء القصد.

الظهران: غرة ربيع الآخر 1409هـ // 10 نوفمبر 1988م

الدكتور: محمود محمد سفر


ميارى 2 - 8 - 2010 02:42 PM

تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالعقل، وزكاه بالعبادة، ومنحه القدرة والإرادة، وفرض عليه التفكير، وجعل من خطاب التكليف ضرورة النظر في السموات والأرض، واكتشاف قوانين التسخير، والسنن التي تحكم الحياة والأحياء، والتعرف على الأسباب لاتباعها، وحسن التعامل معها، وبذلك يكون أهلاً للتمكين في الأرض، وأداة أمانة الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، وحمل رسالة الشهادة والقيادة.

الحمد لله القائل في كتابه، حكاية عن ذي القرنين: (إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ً)، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، القائل:(لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ). وبعد:

فهذا كتاب الأمة الحادي والعشرون: (دراسة في البناء الحضاري ـ محنة المسلم مع حضارة عصره ـ )، للدكتور محمود محمد سفر، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وأبعاد تكليفها، ومسؤوليتها في الشهادة والقيادة، وانتهت، إلى صورة محزنة من التدين، بعيداً عن التبصر بحركة التاريخ، وإدراك سنة التداول الحضاري.

ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة كثيراً إذا قلنا: إن الأمة المسلمة اليوم، تعيش مرحلة (القصعة ) ـ وهي مرحلة الوهن الحضاري بأبعادها كلها ـ التي أخبر عنها الصادق المصدوق بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها .. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكن غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت ).

فمؤشرات الوهن الحضاري، ومسبباته، كما أشار إليها الحديث: حب الدنيا الذي يعني العب من متعها واللهاث وراء زينتها، واستهلاك أشيائها، والتزاحم على الحقوق. ويمكن تلخيص ذلك كله بالانتهاء إلى مرحلة الاستهلاك وظهور الإنسان الاستهلاكي الذي يتجاوز حقه في الأخذ، ولا يحسّ بواجبه. أما كراهية الموت الذي هو العنصر الآخر للوهن الحضاري، فيعني: انكماش فكرة الاحتساب ، وغياب روح الإيثار والتضحية ، وعدم استشعار الواجب، والقعود عن العمل والإنتاج، والاقتصار على الاستهلاك.

فالوهن الحضاري ، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتلخص ببروز الإنسان المستهلك الذي لا يهمه إلا حقه، وغياب الإنسان المنتج الذي لا يرى إلا واجبه.

وسوف لا يكون أي نهوض أو بناء، إلا بتصويب تلك المعادلة، والخروج من مرحلة (القصعة )، ومعالجة الإصابة بالوهن، وذلك إنما يكون بإعادة صياغة الشخصية المسلمة اليوم، والارتفاع بها إلى سوية الإنسان المنتج، وتغييب صورة الإنسان المستهلك عن ضميرها، ومناخها الثقافي، والتركيز على إنسان الواجبات، لا إنسان الحقوق .. إنسان البقاء والخلود بالعمل والإنتاج، لا إنسان الزوال والاستمتاع والاستهلاك، الذي يدرك مدلول قوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة:38 ).

ونرى أنه لابد لنا بداية من التفريق بين الموت الحضاري، الذي يعني انقراض الأمم وهلاكها، وبين الوهن الحضاري الذي يعني المرض، أو الوباء الاجتماعي الذي يعتري روح الأمة، فيطفئ فعاليتها، ويقعد بها عن بلوغ أهدافها، وحمل رسالتها. فالمؤشرات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تدل على حلول المرض وليس نزول الموت، لذلك تبقى إمكانية النهوض كامنة ومستمرة، لكن لابد لها من معالجة صحيحة، كما لا بد للأمة ـ في مرحلة الوهن ـ من محرضات، ومنبهات حضارية، تنبعث من داخلها على يد النخبة من أبنائها الشرعيين الذين أخبر الرسول الخاتم عنهم بأنهم الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.

إنها الطائفة المعافاة، التي تشكل خميرة النهوض، ووسيلة التواصل الحضاري، والتي لم تلحقها إصابة الوهن، وليست جزءاً من الاستنقاع والركود الذي لحق عموم الأمة، لكنها النخبة التي تستشعر مرحلة القصعة بآكليها، وموكليها، وتفكر في سبل الخروج ..

وما أشرنا إليه، من أن الوهن الحضاري، مرض قابل للشفاء، وأنه لا يعني بحال من الأحوال الموت الميئوس، يؤكد استقراء التاريخ، وما فيه من أخبار الأمم السائدة والبائدة، وقراءة الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن مواثيق الله تعالى لهذه الأمة، صاحبة الرسالة الخالدة ، ومبشرات المعصوم صلى الله عليه وسلم، يؤكدان أن قابلية النهوض كامنة، ودائمة، ومستمرة، إذا أبصرنا شروطه ومقوماته، وتحققنا بأسباب التمكين في الأرض، وأحسنا التعامل مع السنن الجارية. فغلبة الأعداء موقوتة، وتسلطهم علينا ليس تسلك استئصال، وإنما هي عقوبات يوقعها الله علينا بسبب معاصينا السياسية، والثقافية، والفكرية والحضارية، ويبقى لهذه العقوبات دور المنبه الحضاري، والتحدي المستفز، ذلك أن الصعوبات هي في الحقيقة تحدٍ خلاّق، لأنه يستحث الأمة ويستفزها للرد عليه.

ولعل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يرويه (ثوبان ) كبير مغزى في هذا المجال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها، ) (انظر ما تمتلك الرسالة الخاتمة من رصيد حضاري وتجربة وعبرة، من لدن آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ) وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوي ـ جمع ـ لي منها. وأعطيت الكنزين، الأحمر والأبيض ـ معادن الأرض وثرواتها ـ (وهذا يفسر ما يعج به العالم الإسلامي من الثروات والمعادن والخامات ) وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ومجاعة مهلكة ـ وألا يسلط عليهم عدواناً من سوى أنفسهم، (قل هو من عند أنفسكم ) فيستبيح بيضتهم .

وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً، فإنه لا يرد! إني أعطيتك لأمتك، ألا أهلكهم بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها، أو من بين أقطارها ـ يعني: أهل المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً.

والحديث ظاهر في أن مصائبنا من عند أنفسنا، وأن تسلط العدو علينا ليس تسلط استئصال، وأن أخطر الإصابات الحضارية، هي التي تلحق بأنفسنا، وأرواحنا، وأخلاقنا، وبنائنا الداخلي. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن علاج الوهن الحضاري إنما يبحث عنه في الداخل الإسلامي، ومن المستحيل في ضوء هدي النبوة، واستقراء التاريخ، وقراءة الواقع، استيراد علاج الوهن من الخارج الإسلامي، فالاستيراد، والاستدعاء الحضري، إنما معالجة للعرض، وليس لسبب المرض، وما نظنه ونتظاهر به من وهم العافية، بسبب الاستيراد، إنما هو إخفاء وتمهيد للمرض، وليس علاجاً له.

ونحب أن نعلن أنه على الرغم من الواقع الذي نعاني منه، والذي أسميناه بالوهن الحضاري، الذي يحكم مرحلة القصعة التي أشرنا إليها، فإننا لسنا مع أصحاب النظرة التشاؤمية والذين وصلوا إلى مرحلة الإعياء.

الذين يرون استحالة اللحاق بقافلة الحضارة، لبعد الشقة وطول المسافة، وعمق الفجوة، فقعدوا عن إعداد العدة (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ).

كما أننا ـ في الوقت نفسه ـ لسنا مع أصحاب الأماني ، وأحلام اليقظة (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يُجْزَ به )، الذين يقضون حياتهم في غرفة الانتظار، ينتظرون سقوط الحضارة لمصلحته من خلال بعض ما يقرأون عن أمراضها دون مكابدة، ومجاهدة، ومجاهدة، وتهيؤ.

ولا مع أولئك الذين يظنون أن الموضوع كله، يمكن أن يحسم بمجرد رفع درجات التوتر الروحي، والتوثب الإيماني السلبي، بعيداً عن ساحة المجاهدة والابتلاء، ويؤثرون الانسحاب من معركة الحضارة، على الرغم من اعتقادنا أن التوثب الروحي والتوتر الإيماني، هو الشرط الضروري للتحصين، حتى لا يكون السقوط في زخرف الحضارة وزينتها أثناء المعركة والمواجهة، لكننا نرى أنه لابد من النزول إلى الساحة والمواجهة، بالصبر والمصابرة والتعرف على الأسباب الموصلة، وتحري الصواب، مع الإخلاص وطلب التوفيق من الله.

ولا مع أولئك الذين يستغنون بالتنظير والفلسفة البادرة، عن الممارسة والتدريب، واكتساب الخبرة الميدانية، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير.

ولا مع الذين، ينظرون التواصل الحضاري الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) برؤية نصفية: من أن القيام على الحق مقتصر على الجانب العبادي الروحي السلبي، دون إدراك أن من مقتضى القيام على الحق، إدراك سنن التسخير، ومعرفة الأسباب التي تنظم الحياة، وحسن التعامل معها. بل إننا نرى أن التفكير والملاحظة، والاختيار، والتجريب، واكتشاف قوانين التسخير، ومعرفة التمكين في الأرض، من لوازم العبادة ومقومات العبودية، والارتفاع إلى مستوى الخطاب الإسلامي الذي نلمحه في آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكير، وتؤكد على التسخير.

ولا مع الذين يتقنون فن الجلد، والتوهين لهذه الأمة؛ ولا يميزون بين الجلد والنقد البناء، والمناصحة، ويعجزون عن إثارة دوافع الخير، وعوامل النمو فيها، ويعنيهم البحث في أسباب الفرقة أكثر مما يعنيهم التأكيد على عوامل التوحد،لأنهم ومهما كانت دعاواهم عريضة، يبقون العقبة الحضارية التي لابد من اقتحامها، حسبهم أنهم يعيشون في الخارج الإسلامي بأفكارهم ، ومسالكهم ورؤيتهم في النهوض والإصلاح فأنى لهم أن تقبل شهادتهم الحضارية على هذه الأمة! خاصة والمتأمل في تاريخ هذه الأمة الطويل، يرى أن حركات الانبعاث، والتجديد كلها، إنما جاءت من الداخل الإسلامي.

إن تفاؤلنا بقدرة هذه الأمة على النهوض، والبناء الحضاري، وتجاوز حالة الوهن، والهوان، التي هي عليها اليوم، لا يمثل بالنسبة لنا خياراً، بقدر ما هو دين وعقيدة، مستمدة من مواثيق الله، ومبشرات الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقراء التواصل الحضاري التاريخي لهذه الأمة، واستعصائها على التذويب، والتمويت والإبادة، لأنها تمتلك خميرة البقاء والنهوض، لكن ذلك لم يمنع من وقوعها في الوهن الحضاري، الذي نلمح مظاهره اليوم على أكثر من صعيد.

والادعاء بأن سبب التخلف هو التشبث بالماضي، والافتخار بهن يحمل في طياته الكثير من التجني. وفي اعتقادنا أن الأمة المسلمة اليوم، لو استطاعت أن تتمثل شخصيتها الحضارية التاريخية، وتستوعب إنجاز السلف على مختلف الأصعدة، لأدركت رسالتها، واسشعرت مسؤولياتها، وكان حالها على غير ما هي عليه اليوم، لكننا نرى أن انتسابنا إلى الماضي،، دعوى بلا دليل، بل نستطيع أن نقول: إن الافتخار بإنجاز الأجداد، والهروب إلى ملاجئهم والاحتماء بها، دون القدرة على تعدية الرؤية وصناعة الحضارة، ضرب من التوبيخ لأنفسنا، ولون من الإصابة التي تعني أول ما تعني، أن هذه الأمة أحالت نفسها على التقاعد، وأصبحت تستهويها قصص الماضين والذكريات التي تستردها لتزجية الوقت وشغل أوقات الفراغ، وهي بذلك تقع خارج الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وإنها لو أدركت ماضيها، واستوعبته، وكانت ابناً شرعياً له، لصنعت الحاضر، واستشرفت آفاق المستقبل.

من هنا نقول: بأن انتسابنا للماضي مشكوك فيه، إنه لون من الانحياز العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فما الفرق بين من يجانب الماضي ومن ينتصر له، إذا كان الإثنان يعيشان خارج الماضي والحاضر والمستقبل؟ ولعل الكثير من معاركنا وصراعاتنا التي نعنون لها بالتراث والمعاصرة، تدور في الحقيقة خارج الماضي، وخارج الحاضر معاً، فلا التراثي استفاد من زاد التراث واستطاع توظيفه بشكل صحيح، ولا المعاصر أدرك مقتضيات العصر وأحسن التعامل معها، إنها معارك (حضارية ) بغير خصومة حقيقية.

ولعل من مظاهر الوهن الحضاري أيضاً الذي تعيشه الأمة: هذا الاضطراب في الموازين، والخلط في الأوراق. فمن أبجديات المنطق الأولى، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه، تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، ليكون بعد ذلك الإنجاز والإتقان، ومن ثم الوصول إلى فجائيات الإبداع. أما في أمة الوهن الحضاري، فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعي أنه يفهم بكل شيء هو الشخص المميز. ولا نخشى أن نقول هنا: بأن مثل هذا الادعاء في هذا العصر يعني أن صاحبه لا يفهم في شيء، فكثير من المشتغلين بالقضية العلمية التجريبية يتقحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق، التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها. وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية والفقهية يصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة، التي يقتضي إدراك بعضها، عمر فرد وعلم أفراد، ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون أداء رسالتهم، أو الارتقاء بوسائل دعوتهم، وتحضير الأمة لممارسة دورها الحضاري المفقود.

والحقيقة أن هذا الخلط، لون من الثقافة المغشوشة، والعجز عن تجاوز النزعة الفردية إلى روح الفريق والجماعة والعمل المؤسسي، والإنجاز المشترك، لكل في ميدانه، وبذلك لا تقتصر الإصابة الحضارية على مجال دون سواه، كما أن الارتقاء الحضاري، لا يأتي إلا متكاملاً في الاجتهاد الشرعي والإنجاز العلمي على حد سواء.

وقد يكون من مظاهر الوهن الحضاري، على مستوى الإبداع العلمي والتقني: انعدام دور المثقفين والمفكرين والأدباء، في تصميم الذهنية ورعاية القابلية، وتحضير المناخ، وتشكيل العقلية القادرة على حسن التفكير والارتقاء بالتخصص، واكتشاف قوانين التسخير، والتعرف على الأسباب الموصلة إلى التمكين في الأرض وبناء الحضارة. ونستطيع أن نقول: بأننا نعاني من غياب كامل لما يمكن أن نسميه الأدب العلمي أو الثقافة العلمية، أو الثقافة التقنية، وتكاد تكون المكتبة الإسلامية اليوم، شبه خالية من الدراسات العلمية المتخصصة التي تغري بالبحوث وتسهم بعملية النهوض الحضاري وتشكل دليلاً لها، وقد أصبحت هذه الدراسات اليوم لازمه، بعد أن تجاوزنا إلى حد ما مرحلة مواجهة التبعية وضرورة الفكر التعبوي الذي مرت بها أدبيات الحركة الإسلامية الحديثة.

ومن مظاهر الوهن الحضاري: ما نشاهده اليوم عند الذين يحاولون تحديث مجتمعاتهم، والإفادة من تجارب الأمم الأخرى، من التوهم بأن الحضارة إنما تكون بتكديس المنتجات؛ وكيف انقلبت النتائج عندهم مقدمات، وصارت المقدمات نتائج، فلم يدركوا أن الحضارة هي التي تصنع المنتجات، وليست المنتجات هي التي تصنع حاضرة، وأن الإكثار من استيراد المنتجات الحضارية، والعبّ والاستهلاك منها بدون ضوابط، يساهم بتكريس الوهن، ويقتل الفاعلية ويؤدي إلى الركود والاستنقاع الحضاري. فكثير من المنتجات الحضارية في العالم الآخر، إنما اقتضتها الحاجة والضرورة، وانعدام اليد العاملة، وأهمية اختزال الوقت والجهد، وتوفيرهما ووضعهما في آفاق أخرى، اكثر جدوى في نظرهم؛ بينما نجد تلك المنتجات تزيد عند أمم الوهن الحضاري من مساحة وقت الفراغ، وتفتح على الإنسان سبل غواية الشيطان، وتحلق بالفرد العطالة التي تأتي بالطاقات الفائضة الكثيرة، فيكون وقته عبئا عليه، يورثه الكآبة، والملل، والضياع، والعبث، وما إلى ذلك بحيث نعيش أمراض الحضارة، مضافة إلى أمراضنا، في الوقت الذي لا يمكننا التحقق بمنجزاتها.

وأكبر مثال على ذلك، ما نراه اليوم في بعض بلاد المسلمين، التي استطاعت من خلال إمكاناتها، إحضار منتجات الحضارة كلها، ومع ذلك لم يغن الاستيراد عن إنسانها شيئا، بل لعل هذه المنتجات دفعته إلى لون من العطالة، والاستزادة من الاستهلاك.

ولئن أمكننا استيراد الآلات، والمصانع، والأدوات، لكن لا يمكننا أبدا استيراد البشر. من هنا نرى أنه لابد من التفكير السليم في حل هذه المعادلة.

إن عملية الاستيراد للآلة، والفني، والعامل، سوف يُبقي إنساننا في موقعه، مهما كان التظاهر بغير ذلك. وقد لا نستغرب كثيراً عندما نرى الإنسان في عالمنا الإسلامي اليوم يجوب محلات بيع الساعات المتعددة، ويدفع الأثمان الباهظة للحصول على ساعة منضبطة، ودقيقة جداً، وبعد ذلك نجد وقته كله يمضغه الضياع، فلا قيمة له، ولا إنجاز فيه. إنه اكتفى بالساعة الضابطة، عن إدراك قيمة الوقت المنتج، ونسي أنه وضعها في اليد العاطلة! وقد يكون هذا وأمثاله، من المناظر المألوفة كثيراً في حياتنا. إن السبب كله يكمن في أننا نواجه مشاكلنا بمنطق الأشياء، لا بمنطق الأفكار، ونظن أنها تحل بالاستزادة منها، لذلك نبقى عاجزين عن التصرف في الإمكانات التي نمتلكها، وعن التبصر بها.

يضاف إلى أن لكل أمة معادلتها الاجتماعية، وعمرها الحضاري، وأولوياتها المطلوبة، الأمر الذي لابد أن يؤخذ بالحسبان أثناء عملية الاستيراد لمنتجات الحضارة. ونحن في هذا لا ندعو إلى إلغاء الإفادة من المنتجات الحضارية للأمم الأخرى، لأن ذلك أقرب إلى الاستحالة، وإنما ندعو إلى ترشيد الاستيراد، وتجسير العلاقة بين منتجات الحضارة، ومعادلة الأمة الاجتماعية، ذلك أن مخاطر المنتجات في عالم الاستهلاك، تختلف عن مخاطرها في عالم الإنتاج.

ومن مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعاني منه الأمة المسلة: غياب الحس الديني، أي غياب فكرة الثواب والعقاب، عن أجواء البحث العلمي، حتى وصل الأمر ببعض العقول الكليلة من المسلمين إلى اعتبار هذه البحوث والتخصصات، من علوم الكفار التي تصرف الإنسان عن التعبد إلى الله بطلب العلم الشرعي. لقد سيطر هذا المناخ الثقافي المغشوش على العقل الإسلامي ردحاً من الزمن، حتى فاتنا الركب، ولا تزال رواسب هذا المناخ حاضرة، في نفوس الكثير منا حتى اليوم، على الرغم من المعاناة الشديدة، والمحنة الحضارية التي نعيشها بسبب ذلك. وليس غريبا أن نرى كثيراً ممن اختاروا طريق العلوم التجريبية من المتدينين أو من الذين استدركوا أمر دينهم بعد الولوج في التخصص، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب اختيارهم، لتوهمهم أن هذا اللون من الاختصاص، لا يقع في دائرة العبادة والفريضة، أو على الأقل هو من نظرهم خارج منطقة الكسب الديني، لذلك نجد بعضهم يتحول عن ممارسة تخصصه، أو ينقطع عنه، ويخلي مكانه للعمل في مجال الدعوة إلى الله، وكأن الكسب العلمي، الذي يؤدي إلى تمكين الأمة، والوصول بها إلى مرحلة الشهادة على الناس وقيادتهم وفق منهج الله ليس من الدعوة!!

ولعل الأغرب من ذلك، أن يعتقد بعضنا، بأن الله جعل الكفار في خدمتنا، لذلك فهم يتولون الصناعة لاستهلاكنا! أما نحن فنتفرغ للعلوم الشرعية، وكأن معرفة الحرفة والصنعة والإنتاج، ليس من العلوم الإسلامية، والتكاليف الشرعية! وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة، وهم في موقع الأسوة والقدوة ـ ولا ندري كيف يفهمون قوله تعالى في بيان نعمه على سيدنا داود (( وأَلنَّا له الحديد ))، (( أن اعمل سابغات )) ، ((وقدر في السرد )) ، ((وعلمناه صنعة لبوس لكم )). وكيف يقرأون قصة ذي القرنين في القرآن الذي مكن الله له في الأرض باتباعه للأسباب: (( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا )) (الكهف : 96 ).

ومن مظاهر الوهن الحضاري أيضاً: أن الإصابة لم تقتصر على العلوم التجريبية كما يتوهم بعضهم، وإنما نعتقد أن الإصابة في العلوم التجريبية كانت ثمرة للإصابة في العلوم الشرعية نفسها، التي انتهت إلى لون من التقليد والمحاكاة والشرح تارة والاختصار أخرى، مما عزل هذه العلوم عن حياة الناس، وجعل منها تجريدات ذهنية بعيدة عن الوقع، وأفقدها الكثير من أبعادها الرحبة التي لو وجدت، فلا أن تثمر في مجال العلوم الأخرى، كما كان الحال في فترات التألق الحضاري والثقافي الإسلامي، حيث جاء الإبداع في مختلف المجالات، كما أن التخلف اليوم يعم مختلف المجالات.

ولم يكن نصيب العلوم الاجتماعية بأحسن حالاً من العلوم التجريبية وهي ميدان هام وهام جداً في عملية الابتعاث الحضاري، فعلوم التاريخ والاجتماع والتربية والنفس والسياسة إلخ، هي من لوازم عملية الدعوة والبلاغ المبين وإعادة صياغة الإنسان وتشكيله، وإلا فكيف ندعو إلى الله ونرقى بالناس ونحن نعيش في عالم نجهل إنسانه ولا نمتلك الوسائل المدروسة لخطابه، والمعرفة الدقيقة لتاريخه ومعتقداته ولا ندرك خصائصه وكينونته البشرية؟! وإذا كان محل التكنولوجيا التي نتكلم عن ضرورة استنباتها، أو استيعابها، والإبداع فيها، هو وسائل الإنسان، فإن محل العلوم الاجتماعية هو الإنسان نفسه، الذي لابد من إعادة بنائه وتشكيله أولاً، حيث لا فائدة لوجود العربة بدون الحصان. وإذا وجد الإنسان السوي، وجدت الحضارة. فالإنسان لا يُستورد. وما الفائدة إذ استوردنا أشياء الإنسان ووسائله، وخسرنا الإنسان نفسه، لذلك نرى أنه لابد من إعادة النسغ الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ووصل ما انقطع وتوقف، واستشعار أهمية ذلك ودوره بالقدر نفسه الذي نبحث فيه قضية العلوم التقنية أو يزيد.

وقد تكون المشكلة أن إنسان التخلف لا يبصر إلا أشياء الحضارة، ويصعب عليه إبصار أفكارها.

ونعتقد أن تخلفنا في العلوم الإجتماعية اليوم لا يقل عن تخلفنا في العلوم التقنية، أن لم يكن أخطر، لذلك نرى أنه لابد أن نعود لاستئناف البحث في العلوم الاجتماعية برؤية إسلامية، أو أن نعيد العلوم الاجتماعية إلى إطارها الإسلامي، أي لابد أن تمتد المدرسة الخلدونية، وتستمر، وبذلك وحده نكون قادرين على إدراك قوانين التسخير، وميكانيكية عملها، والتفسير الحضاري لها، وخطورة أهداف ومنطلقات وحكمة تلك العلوم، ودورها الهام في تشكيل ثقافة الإنسان، وتأهيله للنهوض الحضاري من خلال رؤية إسلامية.

ومن مظاهر الوهن الحضاري: الخلط العجيب بين المبادئ والقيم الثابتة التي وردت في الكتاب والسنة وبين البرامج والأوعية الزمنية التي تعني الاجتهاد والنظر البشري في إنزال تلك المبادئ على حياة الناس بما يتوافق مع ظروف كل عصر وبيئة والظن بأن التأثم هو في الخروج على برامج واجتهادات السابقين لما لاءم عصرهم.

إن هذا الخلط العجيب أدى إلى الانغلاق والركود، ووضع حاجزاً نفسياً أمام العقل المسلم، أقعده عن الإبداع والاجتهاد، لما يوافق عصره، كما حال بينه وبين الإفادة من تجارب الآخرين، في مجال النظم والبرامج. ونعتقد أن الإسلام أرسى القيم والمبادئ والموجهات الأساسية، التي لابد أن تضبط السير، وتحذر من الانحراف والانزلاق. أما إبداع النظم والبرامج، فهو من اختصاص العقل الإنساني، ونعتقد أن من أهم عوامل التخلف، إن لم يكن أهمها، هو هذا الحجر وتلك المحاصرة التي أوقعناها على أنفسنا فحالت بيننا وبين الكسب والتصرف والحركة بما يلائم عصرنا.

ونحب أن نؤكد أننا باستعراضنا لبعض مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعيشه أمتنا، إنما أردنا لفت النظر إلى بعض جوانب المحنة التي نعاني منها في الداخل الإسلامي، لأننا نعتقد أن الحس بالمعاناة هو سبب للتأمل في الدواء، والوقوف على عتبة النهوض وأن تحسيس الأمة بالأزمة هو إدخال لها في مرحلة القلق السوي على مصيرها.

فالصعوبات التي تواجه الأمة هي الحقيقة مبشرات، والحس بالصعوبة واستشعار أبعادها مؤشر على الدخول في هم الكفاح، والمواجهة الحضارية، واكتشاف مواطن الخلل، لأن الصعوبات والمحن، دليل الخلل في البناء الاجتماعي، ومن شروط الاستجابة التحدي. والله سبحانه وتعالى يقول: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ).

وبعد:

فلا شك أن الكتاب الذي نقدمه اليوم، للأخ الدكتور محمود محمد سفر، يمكن أن يعتبر إلى حدٍ بعيد، خطاباً أو دليلاً للنهوض الحضاري، إن صح التعبير، لأن مؤلفه ـ فيما نحسب ـ يعيش هم الأمة المسلمة العام، ويشعر بعمق الأزمة، ويحاول فتح النوافذ في النفق المظلم، لعل ذلك يوفر الجهود، ويبصر بالوجهة الصحيحة. ويمكن أن ندرك أهمية الموضوعات التي يعرض لها الأخ الدكتور محمود ويوليها همه واهتمامه إذا استعرضنا عناوين الكتب والدراسات التي قدمها للمكتبة الحضارية الإسلامية، ومن أهمها: الإقلاع الحضاري، إنتاجية مجتمع، الحضارة تحدٍ، الإعلام موقف، (ثغرة في الطريق المسدود ـ بالمشاركة ).

لقد آثر الموقع الفاعل والمؤثر على الرغم من المشقة التي تحيط بمثل هذه القضايا والمشكلات، القائمة أصلاً على النظر والتأمل، والمقارنة، والمقايسة، والمناقشة، والاستيعاب، في محاولة لما نسميه شمول الرؤية الإسلامية وتعديتها، لتستوعب أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، إلى جانب القدرة على التبادل المعرفي، وهضم الإنتاج العالمي،والإفادة منه في ضوء دراية وفهم بعيداً عن التناول السهل الذي يقوم على مجرد الاغتراف، والنقل، والتكرار، والخطابيات التي باتت تثقل الذهن الإسلامي دون كبير فائدة، مما يسهم بتكريس الواقع ويحول دون أي أمل في النهوض.

ويأتي اعتزازنا بهذا الكتاب، لما يشكل من إضافة نوعية في إطار السلسلة، سوف يساهم إن شاء الله، برسم الطريق للخروج من أزمة التخلف الحضاري، على مستوى الأفراد والمؤسسات، والمعاهد والجامعات، بإحساس وإدراك متميزين يمكن أن يسمى (الفقه الحضاري ).

ولا يفوتنا، بمناسبة هذا اللون من النظر والدراسة أن نذكر بالأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، الذي كان له فضل السبق والريادة، للمدرسة الحضارية الإسلامية الحديثة، لأننا نرى أنه لابد لهذا المنهج من أن يؤصل في حياة المسلمين، ونرى أن المزيد من هذه الدراسات يشكل علامة صحة وصحوة بحد ذاته.

ونعتقد أن الذهنية الإسلامية لم تأخذ بعد حقها المطلوب من منهج الأستاذ مالك، بسبب من النزعات الحزبية التعصبية التي حالت دون وصول منهجه إلى القاعدة الإسلامية العريضة، ولم تدرك المعالم الواضحة التي أقامها بين ما يمكن أن يسمى التفسير الحضاري لواقع المسلمين، وبين ما يمكن أن نسميه التسويغ الذي وقع به كثيرون.

وهذا لا يعني أننا ندعي العصمة للأستاذ مالك، ولا لغيره، فكما أن للريادة تألقها وإبداعها فإن لها أخطاءها ومنزلقاتها الخطيرة، ويبقى الخطأ من جبلة البشر، والمعصوم من عصمه الله.

وقد يستغرب بعض المهتمين بأمر الدعوة الإسلامية اليوم، مثل هذه الدراسات الإسلامية، لأنهم اعتادوا لوناً من الكتابة والخطابة والإثارة، التي ترضي العواطف، وتحرك المشاعر، أكثر مما تهدي العقل، وبالتالي فلا يعتبرون الكتاب إسلامياً ما لم يحمّل بنبرات الوعظ، والإرشاد، والترغيب، والترهيب المباشر، أما ما وراء ذلك من البحث في وسائل إعمار الأرض، والقيام بأعباء أمانة الاستخلاف الإنساني فيبقى خارج اهتمامهم، وتقديرهم، وبذلك ينفصل الدين عن الحياة عملياً، وإن كنا نرفضه نظرياً، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في النية، والصواب في العمل، إنه على كل شيء قدير.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:44 PM

هندسة الضغط الحضاري المعاصر

حضارة العصر: أين نحن منها؟

إن الحديث على الحضارة هو حديث الساعة، بل هو حديث العصر، ولغته، وأسلوبه.

والحضارة في مفهومها العام: هي سلوك ونظام، وقيم ومعان، وأسس ومبادئ، ومنظومات وطبيعة حياة، يزخر بها مجتمع ما، وتسيطر على مجريات الأحداث فيه، يدعمها ويحافظ على بقائها عمل متصل، وفعالية عالية مرتفعة، يسهم فيها كل إنسان قادر مؤهل بقدر طاقته وتأهيله، وتبقى الحضارة والرقي ما بقي العمل المتصل، والعطاء المتجدد، والفعالية المرتفعة، فيتطور الفكر ويتفاعل، وتبرز المخترعات، وتتطور الاكتشافات، لتنتج أدوات تلك الحضارة ومنجزاتها.

وحضارة الغرب: هي حضارة العصر التي بسطت رواقها، ومدت آثارها في كل محفل وناد وبقعة من أرض الله، بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو يساراً إلا ويجدها قد احتوته من كل جانب، وحاصرته في كل اتجاه. وأخذت عليه طريقه، فرداً وأمة… في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، وصناعته، وتجارته، وزراعته، ومواصلاته، وعتاده، بل وكل شيء في حله، وفي ترحاله … بحيث لو نادى الإنسان المسلم على وجه الخصوص ، أو هتف بكل ما حوله أن يعود من حيث أتى، لفجع من هول النتيجة حيث يفاجأ بأنه وحده، وليس من حوله مما صنعت يداه شيء.

شكّل هذا كله ضغطاً على إنسان العصر، بدا واضحاً على مسيرة وأسلوب حياة إنسان المجتمعات النامية عامة، والمسلم خاصة، حتى لكأنّ الأمر غدا ظاهرة يتكرر حدوثها كل عشية وضحاها في مجتمعاتنا المسلمة، لتعيش بيننا ، ونتعامل معها، وبها، ولها.

الظاهرة الحضارية

دعونا نعرّف هذه الظاهرة، التي يمكن أن نطلق عليها ((ظاهرة الضغط الحضاري )) ثم نناقش تكرار حدوثها، وكيفيته، بعد أن نعقد مقارنة بينها وبين إحدى الظواهر الطبيعية في الكون.

الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا هي وجود حضارة ضاغطة، ومجتمع مضغوط، وميل حضاري (gradient ) (* ) وكما هي عادة الظواهر الطبيعية كلها، عندما يوجد ميل في أي خاصية من خواص النظام الطبيعي، فإن ذلك يحدث تدفقا طبيعيا من الجهة التي تعلو فيها هذا الخاصية إلى الجهة التي تتدنى فيها.

الظاهرة الحرارية

إن استعراض الظاهرة الحرارية في النظام الطبيعي، وما يحدث لها، سوف يعين على عقد مقارنة بين الظاهرة الحرارية الطبيعية، والأخرى الحضارية الاجتماعية.

نعلم مما تعلمناه في دروس العلوم العامة أن انتقال الحرارة من وسط (medium ) إلى آخر يحدث عبر طرق مختلفة إذا ما توفر ميل حراري (temprature gradient ) ويصاحب طرق الانتقال تلك أحداث مختلفة نذكر أبرزها فيما يلي:

الحدث الأول:

يرتبط بانتقال الحرارة بالتوصيل وهو ما يسمى الجزيئي (mole- coulerconduction ) ويعني أن جُزَيْئاً يتحرك فيحرك جُزَئيْاً معه؛ فيحرك جُزَيْئاً ثانياً ويحرك جُزَيْئاً ثالثا فتظل هناك حركة جزئيات، ومن ثم تنتقل الحرارة عن هذا الطريق من الوسط الأعلى حرارة إلى الوسط الأدنى منه حرارة.

الحدث الثاني:

يصحاب انتقال الحرارة بالحمل أو الانتقال الحملي ( convection of heat ) وهذا الحدث يعني علميا ـ كما هو معروف ـ أن ينتقل جزء من الوسط من مكان إلى مكان آخر حاملا معه الحرارة إلى المكان الجديد.

الحدث الثالث:

هو انتقال الحرارة بالإشعاع، وهذا يعني انتقال الحرارة عبر موجات كهرومغناطيسية.

المقارنة بين الظاهرتين

تلك باختصار ظاهرة الانتقال الحراري، من وسط ذي حرارة مرتفعة، إلى وسط آخر أقل منه حرارة. فماذا عن الظاهرة الحضارية وطرق انتقالها من مجتمع متقدم ذي حضارة باهرة، مسيطرة، إلى مجتمع متخلف اتكالي، يعيش عالة على منتوجات، وأفكار وعادات وأشياء الحضارة المسيطرة عليه بنظمها الحاكمة‍‍؟‍‍‍!

هل تظل وسائل النقل في الظاهرتين واحدة؟ وكيف؟!

نعم إن الطرق الثلاثة للانتقال بالتوصيل، والحمل، والإشعاع، تتكرر أيضا مع الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا.

فبالاتصال (التوصيل ) تنتقل كثير من العادات الأجنبية عبر تفاعل أفراد المجتمع المضغوط، مع الحضارة الضاغطة، فيحمل معهم بعض عادات هذه الحضارة، وتقاليدها، ويحملونها إلى غيرهم، وغيرهم يحملها إلى غيره، ومن ثم تنتقل كثير من العادات والتقاليد عبر هذه الطريقة الانتقالية من المجتمع الحضاري الضاغط إلى المجتمع المضغوط (الأقل حضارة ).

وهناك أيضا انتقال حضاري عن طريق الحمل، وهذا الظاهرة تبدو واضحة فيمن يأتي إلى بلداننا من الأجانب مصطحبين معهم ـ بطبيعة الحال ـ عاداتهم، وتقاليدهم، يختلطون بنا، ونتأثر بهم، ويتأثرون بنا.

وهناك أيضا انتقال عن طريق الإشعاع الفكري أو الإشعاع الحضاري، وهذا يحدث بتأثير متبادل بيننا وبين الحضارة الضاغطة، ومن ثم نبدأ في تقليد أهلها، وممارسة عاداتهم، وكما هو معتاد فإننا ونحن المغلوبين حضاريا مولعون بتقليد الغالب في عادات وتقاليد. والعادات والتقاليد هي أسرع الأشياء تسرباً وانقالاً، خصوصاً تلك المتعلقة بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، ولعلنا نذكر في هذا المقام قول ابن خلدون: (إن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب في عاداته، وتقاليده، وأسلوب حياته ).

ولسائل أي يسأل: ماعمق التأثير الحضاري بأصنافه الثلاثة، على مجتمع أقل تحضراً من مجتمع متقدم حضاريا؟ وبتعبير آخر في هذه التأثيرات الثلاثة التي كان فيها تشبيه ما بين الانتقال الحراري والانتقال الحضاري: أيهما يكون أكثر تأثيراً، وأكثر عمقاً، وأكثر تقبلا في المجتمع.

الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل، أو الانتقال بالإشعاع؟

من الممكن القول: إن تأثير الانتقال الإشعاعي يكون غالباً على قطاع المثقفين، بينما الانتقال الاتصالي يتم من خلال وسائل الإعلام العامة، والسفر، والسياحة، وهذا يعني أن دائرة تأثيره تكون أوسع لتشمل القطاع الأكبر من المجتمع، مثقفين، وغير مثقفين، وتبقى طريقة الانتقال الحملي، وهذا يتم من خلال العمالة، أو الاستعمار، أو الاختلاط البشري، وتمازج الحضارات والثقافات المختلفة في مجتمع واحد.

إن التعرف على كيفية الانتقال الحضاري، وكيفية حدوثه، وميكانيكيته في الحالات الثلاث، أمر هام ويتطلب الكثير من التأمل، والتبصر، فيما يمكن أن يسمى بعلم الاتصال الحضاري، ويدخل في مضماره انتشار المبتدعات (communication of innovations ) أو بتعبير آخر، كيف تنساب وتتسرب أشياء وأفكار وعادات وتقاليد جديدة في مجتمع ما؟ هل يتم هذا قهراً وقسراً وطوعاً واختياراً؟

تأثير الإعلام على الظاهرة الحضارية

إن وسائل الإعلام في المجتمعات النامية، تستطيع أن تساعد في الإجابة على هذا التساؤل، مثلما أنها قادرة على المساهمة في هذا القهر والقسر بالنسبة للأمة عموما، أو بالنسبة لتسرب حالة نفسية فيها وَلَه بتقليد الغالب والإيمان به.

إن من المشاهد في بلداننا، وجود خليط من النوعين، وكل هذا يحتاج في اعتقادنا إلى دراسة علمية معمقة، وحسبنا أن نشير هنا، إلى هيكلية الظاهرة في محاولة لوضع أسس تطبيق جديد لعلم الاتصال في قضايا الحضارة المعاصرة.

ويمكن إضافة حقيقة أخرى هي: أن قضية تسرب الحضارات، أو تمازجها، أو تأثير حضارة مسيطرة على أمة مضغوطة كرها أو طوعا، تحدث بنسب متفاوتة، وتعتمد على توافر الظروف لكل وسيلة من وسائل النقل الثلاث التي ذكرناها. فإن كان الإعلام في ذلك المجتمع نشطاً، نجد أن طريقة النقل بالاتصال تكون أكثر تأثيراً؛ لأن الإعلام عادةً ما يزين للناس حب اقتناء المنتجات الحديثة، في جميع قطاعات المجتمع، في المدن والقرى والنجوع والبدو، كما أنه قادر على أن يحسن لهم الطرائق الجديدة، في أساليب الحياة ما يرد معها من عادات جديدة تحل ((بالإزاحة )) محل عادات أخرى تندثر وتزول.

إن التسويق، والإعلام التجاري، والاتصال الجماهيري كل تلك، علوم تصب في علم يرتكز على استمالة النفس البشرية، للاهتمام بمنتج جديد، وكيفية انتشاره بين الناس، وإقبالهم عليه. وإذا كنا الآن أمام ظاهرة الحضارة الضاغطة، والحضارة المضغوطة، وتدفق الأشياء، والأفكار، والعادات عبر الحدود، بين هذه الحضارة الضاغطة، والمجتمع المضغوط، فما أجدرنا بأن ندرس تلك العلوم، ونبحث في كيفية تأثيرها على استمالة المجتمع المتخلف، لتقليد المجتمع المتقدم، في أشيائه، وأفكاره، وعاداته، على أن تكون الدراسة والبحث، من أجل تقليل تلك التأثيرات، أو تحجيمها، أو وضع قائمة أولويات لها، إن كان ولابد من الانصياع لها. تلك دعوة مفتوحة نوجهها لشباب الأمة من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية.

لنأخذ لهذا مثلا، من واقع الريف في أي بلد عربي، يعين المهتم على إدراك المشكلة وتحديد أبعادها.

كان الفلاح العربي يأوي إلى فراشه مبكراًن ويستيقظ مبكراً؛ ليذهب إلى حقله. ماذا نجد الآن؟نجده لا ينام إلا قبل الفجر بساعات، ويستيقظ بعد الشمس بساعات؛ ليفقد بذلك انشراح الصدر وبهجة الاستبشار، اللتين تحيطان بالإنسان دائما في بكوره. أثّر هذا بصورة مباشرة ليس فقط على إنتاجية ذلك الفلاح، بل أيضا على تعامله مع الأشياء من حوله، وتعامله مع مجتمعه، وتقبله للأفكار وأسلوب مواجهته لقضايا يومه، ومشكلات معاشه، شكل هذا كله خسارة كبيرة، له ولمجتمعه.

والحديث بطبيعة الحال هنا ليس عن الإنتاجية؛ لأن حديثها ذو شجون(1 ) لكن القول منصب على الظاهرة الحضارية، لهذا أشرنا إلى مثل الفلاح العربي الذي يجلس رابضا أمام التلفزيون كالمسجون، ويظل يسمع ويرى، ويتأثر بالإعلانات التجارية عن منتوجات، صنعها مجتمع غير مجتمعه، لمجتمع غير مجتمعه، فهذه خلاطة كهربائية جديدة، وتلك غسالة أوتوماتيكية، تغسل كل شيء وتجعله نظيفا، وغيرها وغيرها، فيصدق ما شاهد، ويسعى جاهدا لاقتناء تلك المنتوجات الاستهلاكية؛ لانه يريد أن يستبدل بأسلوب حياته هذا الأسلوب الجديد، الذي يراه في الإعلان، ويتحول بالتالي إلى كيان إنساني آخر؛ لأن أجهزة الإعلام تلح على أذني هذا الرجل، فيكون انتقالا قسرياً أو قهريان فإذا ذهبت الآن مثلا إلى الريف العربي وجدت أن الفلاح يقتني بجانب ماشيته أجهزة حديثة مثل الغسالة، وثلاجة ومطحنة بهارات، وخلاطة وغيرها.

ليس ثمة شكل إذن في أن الإعلام قد فتح لهذا الشخص عالماً رحباً للأشياء الزوالية، وجعله يتمادى في استخدامها، برغم، أنه قد لا يحتاجها. ومن المهم هنا، أن نؤكد حقيقة: إن عالم الأشياء الزوالية ظهر في الغرب مرادفاً لحضارة تحكم بقيمها الإنسان الغربي المتحضر ذاته، الذي لا يجد الوقت ليضيعه في طحن البهارات بهاون، فهو مشغول باستثمار وقته في أمور أهم ويترك للمطحنة الأتوماتيكية القيام بهذه المهمة، إذن فإن المنتوجات الحضارية تلك أتت ضمن معادلة اجتماعية محسوبة، للاستفادة من الوقت، وإنفاقه فيما هو نافع، ومن ثم لم يكن دور ((الأشياء الزوالية )) في حياة الإنسان الغربي ترفاً، بل هو ضروري، في حين هي في حياة الفلاح العربي ترف؛ لأنه ينام قبل الفجر بقليل، ويقوم بعد الشمس بكثير، وفي يقظته يشيع وقته. إن هذا الفلاح لا يعرف قيمة الوقت، ومن ثم فإنه ليس بحاجة إلى هذه ((الأشياء الزوالية )) وقد يكون من الخير أن يدرب يده على الطحن بالهاون.

إن التفاوت بين الطرق الثلاثة للنقل الحضاري، تبدو واضحة في حالة النقل الإشعاعي، فإذا اخترنا عينة من البشر من الذين يرفضون الحضارة الغربية كلية وإشعاعاتها الفكرية، وينأون بأنفسهم عنها، ويضادون أفكارها وحياتها، ولا يريدون أن يتصلوا بها بسبب من الأسباب، لوجدنا أن هؤلاء الناس برغم أن الإشعاع الفكري لتلك الحضارة، لم يحدث لهم أثرا فإنهم يستخدمون أدواتها الحضارية. يركبون السيار، ويستخدمون التليفون، ويملأون بيوتهم بالأجهزة الحديثة، التي تسهل الحياة لهم، فهم برغم رفضهم للحضارة الغربية يستمتعون بمنتوجاتها وأشيائها، ناسين أو متناسين أن الإشعاع لابد أن يأتي من خلال الفكر الذي لابد أن يحدث أثره في الرأس أولا، ثم ينتقل إلى السلوك، فهم رفضوا الإشعاع وصموا آذانهم ضده، ولكن برغم ذلك يستخدمون كل شيء من خلال ظاهرة الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه.

إن المجتمع الذي يحيط دفعاً إلى عملية التقليد، وهذا موضوع حيوي، يحتاج إلى بحث يقضي طالب دكتوراه فيه وقته، كي يدرس بالضبط كيف تنتقل العادات والتقاليد عبر المنتوجات الحضارية من مجتمع ينتجها إلى مجتمع يستهلكها؟ وقد يقوده بحثه إلى أمر آخر هو : أي صفات الحضارة الغربية أسرع في الانتقال؟ وأهمية الإجابة على هذا السؤال تظهر عند الحديث عن التعليم والمجتمع، حيث نجد أن الحضارة الضاغطة ساعدت على تدفق أشياء وأشياء، وتدفقت معها نظم حضارية مفيدة، ومعينة لنا في حياتنا، منها نظم التعليم، حيث نقله العالم العربي من الغرب ـ مصر مثلا: نقلت نظامها التعليمي عن الإنجليز، والبلاد العربية نقلت عن مصر صورا منه، ثم نقلت بعد ذلك مباشرة من الغرب، فنظامنا التعليمي في كليته وعمومه منقول من الغرب باستثناء نظام التعليم الإسلامي التقليدي، الذي مازال قائما، وهو مجال للحديث، وجدير بالدرس ولكن في وقت آخر.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:45 PM

أثر نظم التعليم على الضغط الحضاري

من الملاحظ أنه رغم اتفاقنا على أن نظم التعليم في العالم العربي والإسلامي عموما، نقلت بصورة أو بأخرى من الغرب، حيث ظلت حركة تطورها بطيئة خلال السنوات الماضية، منذ عهد الاستعمار، إلا في جزئيات وقضايا صغيرة ليست مهمة ، سوف نتعرض لها بشيء من التفصيل في فصل قادم(1 )، على أنه لا حرج من حيث المبدأ أن ننقل من الغرب ما يمكن أن يعين من نظم حضارية، لكن القضية هي : أن التأثيرات الحضارية على المجتمع كبيرة، نتيجة أن نظم التعليم القائمة في بقاع شتى من عالمنا العربي بل والإسلامي واهية.

إن التعليم استثمار فيه مدخلات وله مخرجات، ولكي يكون استثماراً منتجاً ذا مردود، فإن الضخ الإنفاقي في التعليم يجب أن يقابله نوعية من الخريجين، تكون أهواؤهم وتطلعاتهم، وإعدادهم متطابقة بالضرورة مع الأشواق الروحية، والحياة الإنتاجية للأمة، بمعنى أنه لابد أن يكون هناك توافق وتناغم وتطابق وتماثل، بين الإعداد البشري للكثرة من خريجي المدارس والجامعات، والوظائف أو المهام الموجودة أمامهم على الخارطة الإنتاجية لمجتمعهم لكي يقوموا بها، ولذلك تجدنا نضع دائماً الخريجين في مواضع إحراج كبيرة جداً، نطالبهم بأشياء هم لم يُعَدُّوا لها. هذه هي القضية الأساسية، وهذا هو المحور في هذا الأمر. والمطلوب التأكيد عليه هو: أنه لا عيب في النقل، لكن العيب في أننا نقلنا ثم جمدنا. بمعنى أننا لم نطور ما نقلناه، لم نعد صياغته؛ ليتلاءم معنا بل استسلمنا لكيفيته، فتلاءمنا معه وانصعنا له.

وبالإمكان طرح القضية كالتالي:

تدفقت على مجتمعاتنا، منتوجات حضارية استهلاكية زوالية، انسجمنا معها، وأحببناها، وتمسكنا بها، ولم نجعل لأنفسنا غربالا حضاريا بيننا وبينها، حدث هذا في العالم العربي الإسلامي: فقيره، وغنيه، دون تمييز.

وفي الوقت نفسه نجد نظم التعليم التي تدفقت أيضا علينا من الغرب لم تتطور بمعدل التسارع الرهيب نفسه الذي يحدث في عالم الأشياء والمنتجات الاستهلاكية الزوالية، فأصبح المهندس الذي يتخرج من الجامعة مثلا يجد نفسه أمام مشكلة حضارية هي: أنه مطالب أن يطور نفسه ليتناغم مع عالم الأشياء الجديد، سواء من ناحية اقتنائه وتشغيله، وصيانته، أو من حيث تطويره والارتقاء بأدائه؛ ليصل المهندس به إلى القدرة على إنتاجه، غير أن هذا العالم من المنتوجات الحضارية الزوالية عالم متجدد، ومتدفق من فوق رأسه، وأمام عينيه، والنظام التعليمي لم يؤهله لهذا ولذلك تأتي هنا القضية الثانية وهي ((طبيعة التحديث في المجتمع )) التي سوف نتحدث عنها بعد قليل.

إن قضية التعامل مع المنتوجات الحضارية الحديثة سواء كانت فيديو، أو سيارة، أو أي جهاز أو مركبة، أو منتجا، قضية تحتاج إلى وقفة نستعرض من خلالها طريقة تعامل الكثير منا معها، حتى بين الشباب المثقف؛ إذ نجد أنه تعامل سطحي استخدامي استهلاكي.

نزيد الأمر تأكيداً بأنه لا عيب أن أحضر لمنزلي أحدث ما صنع الإنسان من أجهزة الفيديو مثلا؛ لكي أستفيد منها، وأوجهها كمنتج حضاري؛ للتثقيف، والترفيه، والاستفادة العلمية، غير أن الملاحظ أنه في اللحظة التي أحضر فيها هذا المنتج الحضاري إلى منزلي، تجدني، أحرص الناس على تعلم كيفية عمل الجهاز، وكيفية توقفه عن العمل، وكيفية استبدال الشريط، ولكن عندما يمتنع الجهاز عن العمل لا أستطيع أن المسه، أو أن أقترب منه.

ومردود هذا هو أنني تعاملت معه تعاملاً استهلاكياً ولم أكلف نفسي عناء البحث عن طبيعة عمل الجهاز، ولا حتى قراءة ما يأتي معه، من كتيب يبين كيفية تشغيل الدائرة الكهربائية فيه، وكيفية صيانته والعناية به. لم أحاول أن أقلب النظر في صفحات الكتيب الذي جاء مع الجهاز، وهي أولى خطوات التعامل المتحضر مع الجهاز. لكن يبدو أن ضغط الحياة وتداخل الأولويات، وعدم الاستيعاب الحضاري لهذا المنتج كمنتج؛ نتج عنه ذلك التقصير الشديد في أسلوب التعامل مع الجهاز. ويمكن أن نقدم مثالا آخر يتصل بطريقة تعامل بعض الشباب ـ ولا أقول كلهم ـ مع السيارات، تلك هي ظاهرة (التفحيط ) التي نشهدها في بعض شوارعنا في بعض مدننا، حيث يظن (المفحطون ) من الشباب أن هذا النوع من المهارة الفردية. إن هذا بالطبع سَفَه، ومضيعة للطاقة، وتقليل من فعالية السيارة ، سببه الأساسي .. أن تعامل هذا النوع من الشباب مع المركبة لم يكن تعاملا حضارياً، لأن الذي أنتجها لم ينتجها لمثل هذا التصرف المجنون. أنتجها مركبة لاستخدامها، ولم ينتجها للعبث بها بمثل هذا السفه.

طبيعة التحديث والاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة

سبقت الإشارة(1 ) إلى أن الفجوة الحضارية بين الحضارة الضاغطة والمجتمع المضغوط، تهيئ نقل عالم الأشياء بسرعة كبيرة، أكثر من أي شيء آخر، ومن هنا فإن التحديث في مجتمعاتنا أصبح يتركز في الاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة في عالم الأشياء.

فنحن اليوم نبني بيوتنا على نسق غربي.

ونؤثثها بأثاث غربي.

ونجهزها بأجهزة غربية.

بل أننا نتمتع ونترفه بطرق غربية.

قل مثل هذا في نواحي الحياة كلها.

بل إننا أحياناً نسبق الغرب في انتشار استخدام بعض أدواته.

وربما لاحظ من له أصدقاء غربيون، واتته الفرصة لزيارتهم، أن لا يجد عند معظمهم أجهزة فيديو، في حين تمتلئ بيوتنا بهذه الأجهزة.

إن عالم الأشياء قد نما في الغرب نمواً طبيعياً، ليعين على بعض أهداف الحياة عندهم، ولكنه نما عندنا نموا عشوائيا من غير أن يحقق أهدافاً واضحة.

فالتحديث في مجتمعاتنا الإسلامية إنما هو تحديث في الظهر .

إن طبيعة التحديث في المجتمعات النامية أخذ طابع التحديث من خلال عالم الأشياء، أي كل ما يتصل بمتاع الدنيا، والحديث عن عالم الأشياء ومتاع الحياة الدنيا يقودنا إلى سؤال نعتقد في جدوى طرحه وهو:

ما دور المهندس عندما يتخرج من كلية لم تعده إعداداً كاملا لمواجهة هذه المواقف كلها؟ ونقول: المهندس بالذات، لأنه بطبيعة تكوينه العلمي وإعداده المهني، يجب أن يكون أقرب الطاقات البشرية لعالم الأشياء، وأكثرها تعاملا مع المنتوجات الحضارية، ومتاع الحياة الدنيا. إن هذا السؤال ـ رغم بساطته ـ يأخذ بأيدينا إلى القضية الثالثة وهي ترشيد اختيار المنتج الحضاري الملائم للبيئة الإسلامية.

ترشيد اختيار المنتج الحضاري .. مسؤولية من ؟!

سبقت الإشارة(1 ) بأن آخر الأشياء انتقالا من الحضارة الضاغطة إلى المجتمع المضغوط هو عالم القيم العليا، والعلوم والتقنيات؛ لأنها تحتاج إلى كدح في تعلمها وتشربها، والتفاعل معها، ومن هنا يتضح أن الفجوة تظل قائمة بين هذا العالم، وعالم الأشياء، ولأن المهندس هو صاحب دور أساسي في تحقيق عالم الأشياء، نقلاً، وصيانةً، وإبداعاً، فإنه مطالب بما لم تؤهله له الجامعة، هو مطالب أن يضع نفسه في حالة تعلم مستمر، ليوفق بين قدراته، وما يستجد في المجتمع من عالم الأشياء، حتى يكون أكثر فعالية في أداء دوره الحضاري في مجتمعه ولأمته.

ومن المؤكد أن المصالح الحكومية، والمؤسسات والشركات الخاصة، في بلداننا تستطيع أن تسهم في هذا إسهاماً متميزاً؛ إذ يقع عليها دور عظيم في تحقيق هذه الغاية.

فالجامعة جهاز تعليمي، يجنح دائما إلى السكون في عالم أكاديمي، وسوف تغط الجامعة ـ أي جامعة ـ في نوم عميق ما لم تستجيب لمتطلبات المجتمع من حولها، واحتياجاته، فتنبعث من سكونها الأكاديمي إلى التفاعل الحيوي مع ما حولها أخذاً وعطاءً.

وبالطبع تحتاج الجامعة إلى توصيف برامجها، وخططها لتتوافق مع الغايات الاجتماعية التي تسعى لتحقيقها، وهذه من أصعب الأمور والتحديات التي تواجه الإدارة في أي جامعة.

ولكن ما هو دور المهندس ـ خريج الجامعة الذي انغمس في الحقل ومارس المهنة، وواجه ضغوطاً حضارية، وتحديات التحديث الملحة؟

هذا سؤال يقود إلى سؤال آخر:

إلى أي حد يكون المهندس مسؤولاً عن تعليم ذاته تعليماً مستمراً؟

هل ينتظر حتى تأتي الجامعات والمعاهد والأجهزة التعليمية، وتعد له برامج لتحديث معلوماته وتدربه على كل جديد؟

في اعتقادنا أن المهندس سوف يطول انتظاره، وسوف يتأخر عن ركب التقدم العلمي والتقني، الذي لابد له أن يواكبه،. فهو مثل الطبيب الجراح على وجه الخصوص، إن لم يستطع أن يواكب أحدث النظريات والطرق في إجراء العمليات، سيظل متأخرا، وبلا شك سيعرض مريضه قبل أن يعرض نفسه إلى الخطر الشديد، فالمهندس إذا ظل ((مكانك سر)) في تعليمه، وفي توسيع مداركه، وتجديد معلوماته، يظل في حالة غياب علمي، وغيبوبة تقنية عن ما يحدث عالمياً.

وطرق التعليم المستمر ليست بالضرورة في فصل دراسي، وليست من خلال برامج تدريبية؛ إذ من الممكن أن تتم حتى من خلال السفر والسياحة.

فالمهندس عندما ينتقل في بلدان العالم المتقدم المتطور، وينظر حوله، ويبحث فيما يراه، ويتبصر في آيات الله في الكون والحياة، سوف يتعلم ويستفيد، وتزداد الاستفادة إذا تابع ذلك بالقراءة المتصلة في مجال تخصصه، فالقراءة وسيلة مهمة جدا في قضية التعليم المستمر.

وقضية التعليم المستمر، مثلما هي قضية المؤسسات والأجهزة، فهي مسؤولية الأفراد عن أنفسهم، وتحتاج إلى فكر أساسي عند المهندس، حتى يؤمن أنه في كدح دائم، وأن مسؤوليته التعليمية دائبة ولا تنتهي. أما أنه قد تعلم الهندسة في الجامعة أو المعهد وانتهى الأمر فهذه خرافة؛ لأنه في عمل دائم إلى أن يموت؛ لأن العلوم الهندسية، والهندسة التطبيقية علوم سريعة التطور والتغيير؛ من أجل هذا فإن المهندس مطالب بأن يواصل سيره ليفهم ـ ما أمكنه فهمه ـ ما يحدث في الغرب فإننا ـ شئنا أما أبينا ـ مضغوطون بهذه الحضارة، تتسرب من بين جوانبنا، ومن فوقنا ومن تحت أرجلنا، ومن بين أيدينا، ونحن لا نملك إلا أن نلهث خلفها، وليس بوسعنا حاضراً إلا أن نقف منها موقف التلميذ.

إن المهندس مثل باقي أفراد المجتمع مطالب بأن يفهمها، ويتعرف عليها، وله أيضاً دور اجتماعي، يفرق لأمته فيه ومن خلاله، بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، وذلك يعني ـ أول ما يعني ـ أنه يجب عليه أن لا يستجيب لكل ضغط يأتيه إذ لابد أن تتوافر لديه رؤية حضارية، وغربال يفرق به بين ما هو زينة وترف، وما هو وظيفة وأساس. على المهندس أن يتبصر طريقه، وأن لا يستجيب لشهوات الناس في مجتمعه وضغوط الحضارة عليهم للتقليد والتبعية.

فما تموج به مجتمعاتنا، من مشاريع وبرامج وخطط، جعلتها تبدو وكأنها ورشة عمل متكاملة ومتصلة، وجعلت الكثير من النظريات الهندسية والأفكار التكنولوجية تتدفق عليها، سواء ما يتصل بالتصميم، أو من حيث التنفيذ، حتى أصبح بإمكان المهندس المثابر الاستفادة من كل ما يتعرض له، ويعرض عليه، ويعترض طريقه، في الحقل والمصنع والمعمل والمكاتب الهندسية، كي يستوعب ما أمكن تطبيقه من تلك النظريات والأفكار، ووسائل التنفيذ المتطورة، وأن يشارك زملاءه فيما استوعبه واطلع عليه، أو مارسه، بأن يعقد معهم ولهم لقاءات عمل ومشاورة متصلة، أو يجتمعون كلما دعت الحاجة على هيئة حلقة علمية يحضرها المهندسون؛ ليستعرضوا ما تعلموه وشاهدوه، ويتحاوروا فيما يواجههم من مشكلات علمية، أو خبرات ميدانية، وهذا إن تحقق فإنه يشكل بلا ريب وسيلة للتعليم الذاتي المستمر، الذي قد لا يجدها المهندس بين جدران الجامعة، والتي لا تحتاج إلى جهد، بل ويمكن أيضا، تأكيداً لذلك، واستكمالاً له، أن تقوم أجهزة الخدمات الهندسية في البلديات والمواصلات وغيرها، بمنح المهندسين العاملين بها إجازة تفرغ علمي. على فترات متفاوتة؛ ليمكنوهم من الاستزادة من العلم والخبرة المتجددة، وجمع أشتات أفكارهم، وتقويم تجاربهم بهدف تجديد معلوماتهم، وتطوير إمكاناتهم، وبهدف تمكين المهندس العامل في الحقل من تحديد المشكلة وتوصيفها، ووضعها في شكل يستخلص منه الخبرة والمعرفة العملية.

فالمهندس الذي ذهب إلى ميدان من ميادين العمل والممارسة، وتكونت لديه محصلة جيدة من التجارب والخبرة سيكون مفيدا لنفسه ولغيره، أن يتفرغ ولو لفترة محدودة؛ كي يستجمع خلالها التجارب التي صادفته في الحقل، ويقومها، ويعطي رأيه في المشاكل الفعلية للتصميم والتنفيذ.

ومثل ذلك كمثل الاستفادة من مجموعات المستشارين والخبراء والاختصاصيين والفنيين الذين نستقدمهم من خارج الحدود؛ إذاً لابد أن نشترط حق المشاركة، والتعليم، والتدريب للمهندس الوطني، على الأعمال الهندسية التي يقومون بتصميمها وتنفيذها في بلداننا؛ بحيث تظل مساهمة المهندس الوطني قائمة في جميع المراحل، خطوة بخطوة حتى يتعلم من خبرات أولئك بالاحتكاك، والممارسة، ويكتشف الكثير من أسرار مهنة الهندسة، وهذا جزء من التعليم الذاتي المستمر له.

ويبقى السؤال: هل نحن على استعداد لكي نتعلم من هذا الخبير أو الفني الذي أتى إلينا، أم نتظاهر أمامه بأننا علماء وقادرون، وأنه هو الذي جاء ليعمل، ومهمتنا نحن الإشراف عليه؟ هذا سؤال حيوي وواقعي وملح، يطرح في ثناياه قضية نفسية هامة تتصل بالذات.

إن الكثير من المهندسين في بلداننا يواجهون، عقب تخرجهم في الجامعة، وحصولهم على درجتهم العلمية، تحدياً مباشرا عندما تسند إلى الفرد منهم مهام أساسية تجعله في موضع كبير من مسؤولية اتخاذ القرار، بجانب الإشراف على مجموعة من مهندسين وخبراء، من داخل وخارج الحدود، فالحاجز النفسي الذي يفصله عنهم يجب إزالته؛ لأن رصيده الأساسي وثروته الحقيقية، هي الخبرة العملية، التي يستطيع اكتسابها خلال فترة احتكاكه بهم، إذا تنازل قليلاً عن كبرياء المنصب، دون تفريط في مسؤولياته؛ لأن مهندساً لديه عشر سنوات من الخبرة العملية المكتسبة، أفضل بكثير من مهندس حصل حديثاً على درجة الدكتوراه في الهندسية بدون خبرة عملية، ذلك لأن استفادة الوطن من الخبرة العملية للأول لا تقدر بثمن وهذه الحقيقة تقودنا إلى رصد ظاهرة نلمسها عند بعض العاملين في الحقول العملية كالبلديات، والإسكان، والمواصلات، والطرق، وهي اختيارهم لبعض المشكلات التي واجهتهم في الحقل، ثم مسارعتهم الخطى إلى جامعة خارج الحدود ليتقدموا لها بتلك المشكلات من أجل الحصول على الدكتوراه، وكأن الدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها؛ إذ تجر بعض هؤلاء في مراكز مرموقة لن تزيدها الدكتوراه سموقا.

هذا الحديث ليس موجها ضد الاستزادة من العلم والمعرفة، والوصول عن طريقهما إلى أعلى الدرجات، لكن المقصود منه هو التأكيد على أهمية الخبرة العملية، وتفضيلها على درجة الدكتوراه بدون خبرة عملية في الحقول الهندسية، للذين سوف يمارسون المهنة على وجه الخصوص، مهما كان البريق الاجتماعي للشهادة؛ لأن المكان الطبيعي لحملة الدكتوراه هو الجامعة، أو معهد البحوث، والحديث عن الدكتوراه يقودنا إلى المطالبة بتغيير مفهومها السائد في عالمنا العربي؛ لأنه أصبح مفهوماً معوقا للعلم والتعليم وللتنمية، ولابد من إعادة صياغته، وربطه بفعالية إنتاجية محددة على خريطة المهام الوطنية وذلك لكي لا يصبح الحصول على درجة الدكتوراه هدفا في حد ذاته، وحتى تقل الهالة الاجتماعية التي تحيط بهذه الدرجة.

التوازن بين ما هو زينة وما هو وظيفي

لا يعني ما أسلفنا أن على المهندس أن يجعل من نفسه مطية لتحقيق عالم أشياء سريع في خطاه .. فيحقق للمجتمع كل ما يريد، من غير أن يحمل في أعماقه غربالاً حضارياً يساعده على عمليات الانتقاء، والاصطفاء، فيفرق بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، ويميز بينهما، فلا يحرص على الأولى أكثر من حرصه على الثانية.

لنأخذ لهذا مثلا في الهندسة المعمارية حيث يحرص على التصميم الأمثل؛ من حيث تحقيق الجوانب الجمالية والحضارية. وإذا كان له أن يبرز في تصميمه الناحية الزخرفية التي تحقق أهدافا جمالية فإننا نطالبه بالحرص نفسه على الجوانب الوظيفة والعملية التي تؤكد خصائص مجتمعه. بمعنى أنه يؤكد على الاستخدام الحضاري الأمثل للتصميم، بما يتمشى مع طبائع الأشياء. وإلا فما معنى أن يصمم مسجدا ـ مثلا ـ على أحدث طراز، وينسى أن يحقق وظيفته الأساسية، وما يخدمها من أماكن مريحة ومجهزة للوضوء مثلا.

فالمهندس يجب أن يحمل في قلبه رؤية اجتماعية واضحة، يميز بها بين الغث والسمين، ويحرص من خلالها على الانتقال بأمته من حالها التكنولوجي المتخلف إلى حال أحسن وأرقى.

بإيجاز نقول: إن دور المهندس في صياغة الحياة دور أساسي وهام، وليس أدل على ذلك مما كتب ابن خلدون في مقدمته من أن أشياخه كانوا يعلمونهم الهندسة لأن الهندسة كالصابون، يغسل العقل من الأوساخ وينقيه من الأضرار. ولقد قيل: أن أفلاطون كتب يافطة على باب داره: ((من لم يكن مهندسا فلا يدخل بيتنا )).

إن ابن خلدون وأفلاطون يعلقان هنا على المنهج التحليلي الذي يحمله المهندس في عقله، فلا جدال بأن دراسة الهندسة دراسة تفيد العقل، وتعطيه قدرة رائعة على مواجهة المشاكل الجدية.

ومن هنا فان للمهندس أدواراً متعددة:

- فهو الذي يحقق للمجتمع رغباته في عالم الأشياء.

- وهو الذي يصون هذا العالم ويطوره ويقلده ثم يبدعه خلقا آخر.

- وهو بحكم العقلية التحليلية التي تعيش في جنباته، قادر على المشاركة في صياغة حياة عقلانية معاصرة.

- ثم إنه بحكم عمله الإنشائي، تبهره كل يوم آيات الله في نفسه، والكون، والحياة فيشعر بالجمال والكمال، وينساب ذلك كله في إشارات روحية إبداعية يغني بها حياة أمته.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:48 PM

محنة المسلم مع حضارة عصره

دوائر المحنة:

- الانبهار بحضارة العصر حتى الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء.

- الإفراط في التغني بالماضي التليد.

- خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث.

شروط الخروج من المحنة:

- الإنسان ركيزة التطور وهدفه.

- تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله.

إن ما ذكرناه في الفصل السابق عن الضغط المتواصل، والتأثير الديناميكي المستمر الذي تتعرض له أمتنا من حضارة العصر التي ما كانت لتسود العالم وتحكمه ويتحكم أصحابها بمجريات الأحداث فيه، لولا سلطان القوة التي تمتلكه، بما تنتجه مصانعها من وسائل ومعدات، واكب العلم فيها التقنية، وبما تذخر به نظمها الحاكمة في مجالات السياسة، والاقتصاد. والاجتماع، والفكر، والإدارة من إبداعات. عن الضغط الحضاري وتأثيره الديناميكي يقوم دليلا واضحا أن على أمتنا أن تعقد العزم للتصدي لهذا الضغط الموجه نحوها، من حيث تعلم ولا تعلم، وأن تقف من ذاتها بإصرار وحزم موقفا صادقا لا تبالغ إن هي رددت فيه عبارة شكسبير الشهيرة.

نــكون أولا نـكـون؟! .. ذلـك هــو الــسؤال.

ولا تكتفي بالإجابة على هذا السؤال، بل عليها أن تحدد على أي حال حضاري تكون؟! ومن أين تبدأ.

لقد آن لنا ـ نحن المسلمين ـ أن ندرك أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها ونظمها وهما مصدر سلطانها وقوتها، أصبحت تشكل ـ بحق ـ تحدياً مباشراً للإنسان المسلم، وأسلوب حياته جدير به أن يتقبله، ويسعى ما وسعه الجهد لمواجهته، فالنظم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الوضعية التي ترتكز عليها تلك الحضارة، والتي يحمل بعضها في ثناياه تعارضاً جذرياً مع أمر الله وشرعه، تضغط بقوة على المجتمع المسلم أياً كان، وتحيط به من كل جانب، وتلك محطة لا يستطيع الفرد المسلم أن يجتازها إلا بحرصٍ شديد على ذاتيته وتمسكٍ تامٍ بخصوصيته، مع البحث المستفيض والجاد عن البدائل الإسلامية الفاعلة، لما تفرضه حضارة العصر من حلول لمشكلاته، وما تقدمه من خيارات قد لا تتطابق مع التطلعات والأشواق الروحية للأمة.

والحرص على الذاتية، والتمسك بالخصوصية، يتمثلان في المحافظة على القيم، والمبادئ، والأسس النابعة من عقيدة التوحيد، التي يجب أن يدين لها، ويلتزم بتطبيق تعاليمها، ويصوغ حياته على منهجها، لأنه إن هو فرط فيها فَقَد تميزه، وافتقد ذاتيته، وعاد كأي إنسان في هذه الدنيا ذهب يبحث عن مخرج من تخلفه فلم يجد إلا طريق الحضارة الغربية المعاصرة، وما تفرضه من نظم، وقيم ومبادئ، وسلوك، ومعاملات فاعتنقها، وأصبح سجين دوامتها بكل ما لها وما عليها، لا يقدر على الفكاك منها، ويجد نفسه ترساً في آلتها لا يستطيع الخلاص منها، فتلونه بلونها وتشكله بشكلها، وتطبعه بطبعها، وقد تدعوه إلى التفسخ من قيمه فلا يتردد، وتدفع به إلى التحلل فلا يقاوم، كما نرى ذلك واضحاً عند بعض أفراد المجتمعات النامية التي عرفت طريقها إلى الحضارة الغربية دون ضوابط، وبدون انضباط، فاعتنقتها واستبدلت تلك الحضارة من سلوك، وأفكار، ومعتقدات اجتماعية، بما تدين به من قيم، وفلسفة، ومبادئ، وأصالة، فأصبح إنسان تلك المجتمعات كغراب يقلد مشية الحمامة، فلا هو نسخة كاملة من إنسان الغرب، ولا هو بقي على حاله محافظاً على كيانه، ومؤكداً انتماءه، ومعتزاً بشخصيته.

إذن فمعاناة الإنسان المسلم الحقيقية مع حضارة العصر تبدأ يوم يفقد ذاكرته الحضارية، ويتخلى عن ذاته ويقطع صلته بقيمة الفاعلة، والصالح من تراثه فتزول مقاومته، وتقل مناعته، ويرتمي في أحضان السيئ من السلوك، والمعوج من المبادئ والقيم، باسم التقدم والتطور، والتقدم والتطور من كل ذلك براء.

دوائر المحنة

من هذا نخلص تحديداً إلى أن محنة الإنسان المسلم مع حضارة عصره تتركز في دوائر ثلاث متصلة، هي في تقديرنا:

أولا: الانبهار بحضارة العصر لدرجة الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء

وكل هذا دفع به إلى التقليد والمحاكاة ليجد نفسه في نهاية المطاف منقاداً طواعية إلى الرضوخ لسلطان تلك الحضارة فيصبح تابعا لها. تأمر فيطيع.

ولكن إلى متى سنظل ـ نحن المسلمين ـ هكذا عالة عليها، مبهورين بها، مشدودين إليها؟ إلى متى سنظل هكذا مستخدمين لمنتجاتها، ومستهلكين لبضائعها؟ إلى متى سنظل هكذا أسواقاً لمظاهرها، ومستودعاً لما تقذفنا به من أشيائها وتطرحه في أسواقنا من منتجاتها؟ ! أسئلة حرجة آن لنا أن نوجهها لأنفسنا بصدق وإصرار، حتى يمكننا أن نبحث عن الإجابات المحددة، والواضحة لها.

لا بأس إن ينبهر الإنسان بالجديد عليه، ولا تثريب أن يندهش بالغريب عنه، فتلك جِبِلّة الإنسان أينما كان، فالانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة صورة واقعة وحقيقة لا تنكر من شعوب العالم النامي .

ولا عيب في هذا بذاته، إنما العيب في نظرنا أن يسيطر الانبهار على الفرد والأمة، فتغشى الأبصار، ولا ترى إلا بمنظور تلك الحضارة، وتتوقف العقول، فلا تفكر، إلا اعتماداً على عقول تلك الحضارة، فيسقط التبصر، ويمحى التفكير، وتلهث الأنفاس خلف ((عالم الأشياء )) في الحضارة الغربية، ولا تهدأ حتى تنال بغيتها منه، دون أن تسهم في صنعه أو تشارك في إنتاجه.

إن الحق كل الحق أن نعترف بأن هناك فجوة ملحوظة ـ يخشى اتساعها مع الزمن ـ بين تراث الأمة الإسلامية وتاريخها المجيد يوم قادت العالم إلى النور، وبين ما تعيشه من واقع متخلف، وأمية حضارية تعتبر امتداداً لأميتها الأبجدية، في الوقت الذي تنفجر فيه المعرفة والعلم ، ويحلق فيه إنسان العصر في آفاق رحبة من الإبداع والابتكار.

إننا بهذا الاعتراف ننتصر لأنفسنا على أنفسنا، ونقر: بأن البناء الحضاري، ومظاهر التقدم ما هي إلا محصلة تفاعل الأمة والمجتمع مع البيئة بجميع ما فيها من قيم ومبادئ، وسنن وقوى، وموارد مادية وبشرية، مثلما أن رسوخ البناء الحضاري ما هو إلا تعبير أصيل عن قيم الأمة، وتجسيد حيُ لكيانها العقدي والنفسي، والفكري ، والسلوكي، وبقاء الحضارات وديمومتها رهن دائما بوجود هذه القيم، وديمومة تلك المبادئ تلك المبادئ.

ثانيا: الإفراط في التغني بالماضي التليد كرد فعل غير مباشر لذلك الانبهار

مما يقود المسلم المعاصر ـ في عمومه ـ إلى الاتكاء على مخدة التراث فيروح في سبات عميق، لا يحس بما حوله ومن حوله، من متغيرات، وما يحيط به من تحديات، وعندما يستيقظ ـ إذا شاءت إرادة الله له أن يستيقظ والثقة بالله كبيرة ـ سوف نجده مندهشا للتطورات التي أخذت بعناق مجتمعه، وأحاطت به من كل جانب، ولأن تلك التطورات حدثت أثناء فترة نومه، فإذا لم يستطيع أن يستوعبها يبدأ في مقاومتها، والقدح فيها، بدلاً من أن يحتويها، وينقيها عن شوائبها، ولأن الزمن كفيل بحل الكثير من المشكلات تكون النتيجة في غير صالحه، لأن الزمن دائم الحركة كنهر متدفق لا ينتظر المنكفئين، ولا يهتم بالحائرين، ولا يتوقف من أجل الحالمين.

وبقدر اعتزازنا وفخرنا بتراث أمتنا وتاريخها المجيد، إلا أنه لا يضفي التغني به علينا هالة من شرف، ولا نوعا من تقدم، ولا شيئا من حضارة طالما بقينا نعيش على أطلاله، ونتخذه تكأة نجلس عليها في ساحات الفخر البالي، والحماس المهترئ ومواقع التراخي ، والاستسلام لأحلام الماضي، واليأس المريح.

دعونا نعترف بشجاعة وصدق أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نملك اليوم حضارة تحمل سماتنا، وتعبر عن هويتنا، ولكننا نعيش في ظلال حضارة أقامها الأجداد، متمثلة في التراث العريق الذي ورثناه، ولم نبذل الجهد الكافي، ولا الجدية المطلوبة حتى الآن لإحيائه وتقديمه لأمتنا بأسلوب العصر، ليكون أحد مصادر طاقتها ووقود مسيرتها نحو مبتغاها من التطور والتقدم والنهضة.

توقفنا عند نهاية المسيرة لتراثنا، بينما عكف الغرب في فترة انحطاط المسلمين التي صاحبت ذلك التوقف ـ على علومهم ونهل من معارفهم، وأسس على بذورها وبأنفاسها قلاعه الحضارة الشامخة، التي ما فتئ يرفع من ناطحاتها، ويعلي من سوامقها من خلال كشوفه ومخترعاته، في مجالات العلوم والتقنية، والمؤسسات والنظم التي غمرت العالم كله، من مشرقه إلى مغربه، بمنتجاتها السريعة إلى الحد الذي يثير ـ عن جدارة ـ الانبهار والإعجاب بأصحاب هذه الحضارة. هذا هو الوجه الإيجابي لها، والذي يشكل في ذاته تحدياً رهيباً يزيد في عمق الفجوة الحضارية بيننا وبينه، يجب أن نسعى جاهدين لعبورها.

أما الوجه الآخر لها فإنه سلبي وقبيح يتمثل في أن أصحاب الحضارة الغربية يتوسعون دائما في منتجاتهم، ولم لا فقد قامت حضارتهم على الغزو والتوسع، وفتح الأسواق لمنتجاتهم، إنهم ينتجون كل يوم جديداً، ويصنعون كل يوم سلاحاً يدعوهم إلى بيع القديم، يشعلون من أجله حروباً في العالم، إن لم تشتعل بنفسها، وإن خمدت زادوها نارا وأججوها. هذا الاستعمار الجديد القوي لم تكفه الفجوة الحضارية بيننا وبينه، بل يحاول أن يجهض كل مشاريع التنمية الإنتاجية في بلدانا، ومن هنا تعيّن علينا ـ ونحن في حال لا نحسد عليه، بين مطارق التسارع الحضاري من جانب، ومحاولات الإجهاض لتوجهاتنا من جانب آخر ـ تعيّن علينا أن نقف موقفاً صريحاً، وصامداً، ومضاعف الجهود من الحضارة الغربية، وما تمثله.

إننا لا نستطيع أن نعيش بعزله عن عالم اليوم، بكل ما فيه من حضارة وتقدم، وبجميع ما فيه من إنجازات هائلة، عمقت الفجوة الحضارية بيننا وبينه، وواقع هذه الفجوة إنما يفرض علينا تحديات لامناص منها، ولا مفر عنها، إذا كنا فعلاً على المستوى اللائق من الإحساس بها، وإذا كنا فعلاً جادين في رغبتنا في تضييق هذه الفجوة، وفي تجاوز هذا التخلف التقني القاتل.

ثالثا: خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث

إن ما أصاب العقل المسلم من ركود وخمول، بل وغياب تام، عن مجريات الأحداث في المجتمعات المسلمة، ترتب عليه خروجه من دوائر التحدي، والاكتفاء بالمشاهدة، فأسقط بذلك عن نفسه المسلمة واجب التكليف، الذي فرضه الله على الإنسان لعمارة الأرض عندما استخلفه فيها. إذ أن ما نلحظه بوضوح في مسيرة مجتمعاتنا اليوم أنها تعيش بالحد الأدنى من التفكير والتنظيم، وأن افرادها ـ في مجموعهم ـ يتعايشون مع واقعهم بشيء من اللامبالاة، وبقدر من عدم الاهتمام، إلى جانب الأنانية الفردية، التي عادةً ما تقود الشخص إلى التمسك بما يملك من فكر ، أو رأي ، أو خبرة، أو حتى متاع الدنيا، ويحرص على الاكتفاء بأدنى ما يستطيع من المشاركة في إنتاجية مجتمعه.

وإن من العدل والإنصاف أن لا يعمم مثل هذا القول على كافة أبناء الأمة الإسلامية، بل إن من الواجب الإشادة بفئات من أبناء أمتنا في مختلف أقطارها آمنت بصدق وعملت بجد، وجاهدت بعزم، وأعطت بسخاء فجاء الإيمان والعمل، والجهاد والعطاء، على قدر ما وقر في القلوب والأفئدة من صدق، وجد، وعزم وسخاء.

والذي يعنينا تشخيصه وتحديده بدرجة أساسية هنا هو الخمول، والركود، والكسل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في مجموعها، فغدت تابعة بعد ان كانت متبوعة، وأصبح العقل البشري فيها لا يتفاعل مع الحياة من حوله.

- فلا عاد يهتم ببحثه، وإن اهتم ففي أضيق الحدود.

- ولا المفكر عاد يدلي بفكره، وإن فعل فبكلمات وتعابير غامضة.

فما الذي أخرج العقل المسلم من دائرة الاهتمام بأمته واعتقله في دائرة الاهتمام بالذات، وجعله يتصف باللامبالاة؟ هل هو قصور الإمكانات الذي نسمع بعضهم يتحدث عنها؟ أو هو انعدام حرية التفكير التي تقيده عن الحركة؟ أو هما معا؟ أو أن هناك أسباباً أخرى؟!

أسئلة نتركها بلا إجابة، لأنها تحتاج إلى دراسة موضوعية، تظهر الحقائق، وتحدد الأسباب، لكن الذي لا نتركه، بل ونؤكده هو أن غياب المسلم من على مسرح الأحداث جعله يعيش المحنة بكل أبعادها، وصدق أبو الاقتصاد الياباني(دوكو ) (1 ) عندما عبر عن دور العقل فيما تشهده الإنسانية من تطور وتقدم بقوله:

((إن هذه التطورات الهائلة تدل على عظمة العقل الإنساني، وأن المصدر الحقيقي لكل شيء، هو هذا الجهاز الأعجوبة الذي على كتفيك. إنه المخ الإنساني وإلى هذا المخ الإنسان يجب ان نتجه بأفكارنا، فإذا عرفنا المخ الإنساني، وهو المصدر الذي لا ينفد للإبداع، فكل شيء بعد ذلك هين تماما، وهذه هي البداية لكل عمل عظيم، أو مجتمع يريد أن يكون عظيما ً)).

ويؤكد ((دوكو )) على أهمية العقل الإنساني، وعظمة خالقه في كلمات قليلة ولكنها بليغة فيقول: (1 )

((عندما يولد الطفل يكون مخه مكوناً من عشرة آلاف خلية، هذه الخلايا منفصلة بعضها عن بعض، ولكن هذه الخلايا لا تستطيع أن تعمل وحدها، لابد أن تتشابك وأن تتماسك، بل إن هذه الخلايا تشبه الأيدي عندما تتداخل أصابعها، وتشبه الكباري التي تربط الشواطئ.

والعلاقات المتشابكة، والترابط بين الخلايا، يشبه بالضبط الأسس الأولى لبناء أي مصنع، الآلات الحديدية، والقواعد الخرسانية، ولكن بعد ذلك يجب ان ننتقل من وضع الأساس الضروري إلى التشغيل، وكيفية استخدام الآلات وتطورها بعد ذلك، ولا يمكن أن نصل الى نتائج رائعة إذا كانت العقول الالكترونية رديئة )).

شروط الخروج من المحنة

تلك هي المحنة بدوائرها الثلاث فهل إلى الخروج من سبيل؟ نعم ولكن بشرطين اثنين:

الشرط الأول:

أن يكون الإنسان المسلم ركيزة التطور والتقدم وهدفه.

الشروط الثاني:

أن تتأكد ذاتيته في التطور والتقدم، ومن خلاله .. وليكن تناولهما بالتفصيل ليتبين المقصود منها.

الشرط الأول: الإنسان ركيزة التطور وهدفه:

للإنسان في المشوار الحضاري مكانة هامة، وعليه واجبات جسام، وإذا كانت الحضارة تتجه إليه بجوهرها، وفنونها وعلومها،وآدابها، وقيمها وسلوكها، وكل ما يتمخض عنها، وتنطلق منها وبها ـ وهذا أمر طبيعي على أي حال ـ فإن الهدف الأول من مناهج التطور، وخطط التنمية، واستراتيجيات التقدم ، يجب أن توضع بحيث توجد منه إنساناً سوياً متوازناً، فتشحذ فعالياته، وتقوي عزائمه، وتعبئ طاقاته، ليؤدي دوره، ويقوم بواجباته، لأن الإنسان النامي يختلف في متطلبات حياته، وفي حوافز نشاطه، ومنطلقات طاقته، عن الإنسان المتطور، الذي بلغ بمجتمعه قمة الحضارة، وبلغ به مجتمعه شموخ التحضر، في حين نجد أن إنسان التنمية يعاني من قصور ملموس في الخدمات الأساسية، ومتطلبات الحياة الكريمة في الوقت الذي يجد نفسه فيه مطالباً بأن يعمل بجد وجهد فائقين، لتحقيق خطط التنمية، حتى توفر له ما هو أكثر من الخدمات الأساسية، وما هو أبعد من المتطلبات الضرورية هذا إلى جانب أن واجب إنسان التنمية المسلم السوي أن يبتعد عن كل ما يمس الصالح من قيم مجتمعه، من تصرفات وعادات، لها ما لها من بريق الحضارة، وانبهار التقدم، وعليها ما عليها من تفسخ وانحلال يدعوان إلى تحطيم المجتمع، وانهيار أسسه الصالحة، وركائزه السليمة، وهو إن فعل هذا فإنه يبعد عن مجتمعه ما يقوض أركانه، ويهز جذوره، فيعيش المجتمع المسلم معافى من أمراض الحضارة، سليماً من خبائثها وشرورها، والعاقل من اتعظ بغيره.

الشرط الثاني: تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله:

يتفق علماء التنمية ومختصوها على أن مسيرة التنمية في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور، وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية ذلك المجتمع، متطابقة مع تصوراته، متمشية مع احتياجاته، لأن تبني أفكاراً تنمويةً غريبةً عن مجتمع ما، وصبها في القوالب الاجتماعية لذلك المجتمع لا يأتي بخير، ولا يفضي بالنتائج المرجوة.

كما أصبح من المؤكد، أن التنمية لا تخدم مجتمعها إلا إذا تمت داخل إطاره الاجتماعي المحدد، الذي يعكس قيمه، وأخلاقياته، ومبادئه، وعاداته، وتقاليده، وطرق معيشة أبنائه، وكل ذلك لابد أن يلعب دوراً أساسياً في صياغة فكر التنمية، وذهنية مخططيها.

لذا يظل البعد الاجتماعي للتنمية والتطور في المجتمع المسلم، مسئولية أبناء ذلك المجتمع من المختصين، لأن ما يترتب على خطط التنمية من تحولات سلوكية متوقعة، وتغيرات اجتماعية منتظرة، ما كان منها على مستوى الفرد، أو الجماعة، أمر هام يحتاج إلى رصد، وتحليل، ومتابعة، لا يكون قادراً على تحقيقها إلا أبناء المجتمع. وإذا اقتضى تنفيذ بعض المشروعات التنموية استقدام خبراء ومختصين أجانب، فإن الواجب يفرض أن تفرغ المشروعات تلك من محتواها الاجتماعي ليتولى المواطنون المختصون معالجته، لأنهم على فهم تام لصفات ومميزات، وعادات مجتمعهم، بحكم أنهم جزء منه، وبالتالي تأتي استشاراتهم في قضاياه الاجتماعية أبعد عمقاً، وأنفع علماً، وأكثر إدراكاً، ويترك للمختصين من الأجانب التصرف في الجانب التقني البحت بما تميله طبيعة كل مشروع؛ لأن الخبير القادم من خارج الحدود تكونت معادلته الاجتماعية، وخلفيته البيئية، في مجتمع بيئته مختلفة تماما عن بيئة المجتمع المسلم، برغم كل ما أوتي من عبقرية، وعلم، وقدرات.

لعل من المناسب في هذا المقام الإشارة إلى تجربة أندونيسيا مع العالم الألماني الاقتصادي ((شاخت )) والتي كتب عنها ((مالك بن نبي )) ـ رحمه الله ـ في كتابه ((المسلم في عالم الاقتصاد )) حيث أكد أن المجتمع الأندونيسي عاش في أواخر الأربعينيات من هذا القرن متوثباً ومتحمساً للخبرات الأجنبية، كي تعينه للنهوض باقتصاد أندونيسيا، فاستقدمت أندونيسيا عالماً يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور ((شاخت ))، ووضعت تحت تصرفه كل البرامج، والخطط، والأفكار، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في مخططه للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وفشله لم يكن متوقعاً في نظر الأندونيسيين، لأنه التزم في عمله بدقة فنية، وتوافرت له وسائل مادية وبشرية، كانت كفيلة بنجاح مخططه في رقعة منّ الله عليها بأخصب تربة تنبت من أنواع الخيرات كلها، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها ما يزيد على مائة مليون من العباد، يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف (على حد تعبير [ابن نبي ] ). الذي يثير في تحليله للأمر سؤالاً هاماً هو: ما الذي جعل مشروع ((شاخت )) يتعثر حتى فشل؟ ويجيب بأن الفشل ـ في اعتقاده ـ يرجع إلى أن ((شاخت )) وضع مخططه لأندونيسيا على هوى معادلته الشخصية، وبخلفيته الاجتماعية، كفرد من المجتمع الألماني، في حين أن التجربة الأندونيسية ستجري بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي، فتعثرت التجربة على خطأ مخططها ((شاخت )) في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.

وقد استنتج ((ابن نبي )) حقيقة مهمة هي: أن الواقع الإنساني لايُفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين:

الأولــى:

معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، بحيث يستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد على الآخرين.

والثانيـة:

معدلة اجتماعية، تختلف بين مجتمع وآخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى آخر، حسب الاختلافات في درجة النمو والتخلف.

وإذا كانت المعادلة الأولى موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وميزه على المخلوقات بالتكريم فإن المعادلة الثانية هي هبة المجتمع إلى الأفراد كافة كقاسم مشترك يطبع سلوكهم، ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بصورة تميزهم عن أفراد مجتمع آخر، وعن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافياً لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلته الاجتماعية.

من هذا نستخلص أهمية الذاتية في التطور والنماء، ودورها في ضمان نجاح المشاريع الاجتماعية التنموية، وحتمية مواءمتها للمعادلة الاجتماعية للفرد والجماعة؛ لتظل مهمة الجزء الاجتماعي في تلك المشاريع منوطة بأبناء المجتمع ، وأمانة في أعناقهم يحاولون معها ما وسعهم الجهد وأسعفتهم التجارب والخبرات، تحقيق الذاتية والمحافظة عليها، وإبرازها.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:50 PM


هل إلى خروج من سبيل؟

من أيــن نبدأ؟

كثيرا ما تطرح الأمم النامية، وأمتنا الإسلامية تمثل مركز الثقل فيها، على نفسها سؤالاً ، عن كيف تبدأ مشوارها الحضاري وهي تعيش محنتها مع حضارة العصر الباهرة والمسيطرة؟ ومن أين؟! وفي طرح الصيغ العملية للإجابة على سؤال البداية الحضارية، تظهر الاختلافات والاجتهادات، وتزداد السبل تفرقاً وتيهاً بالدول النامية، في محاولاتها النهوض بمجتمعاتها، بازدياد شتات فكر أبنائها، وقلة مواردها، وما تعانيه من عدم استقرار، وما ترزأ به من ضغوط خارجية، وأولويات داخلية.

كل ذلك يتم ومسيرة الزمن ممتدة، لا تعرف الانقطاع، فالزمن تيار متدفق، تتداخل فيه الأحداث، عبر تتابع متناغم، وتشابك مستمر، فاليوم هو امتداد للأمس، وغدا هو محصلة لما نقرره وننجزه اليوم.

وكما أن للتاريخ علم له مؤلفاته وبحوثه، فقد اصبح للمستقبل علم (المستقبليات )

(FUTURLOGT ) له علماؤه ورواده، الذين يسعون إلى استشراق آفاقه، والبحث في كنهه المجهول، من خلال مبادئ، وأسس علمية، تحكم عملية التوقع للمستقبل؛ إذ لم تعد الدراسات المستقبلية ترفاً عقلياً، يتلهى به بعض المثقفين، فراراً من الواقع ومشكلاته المعقدة، بحثاً عن عالم أفضل، بل إن لها فائدة عملية مباشرة، من حيث التمكن من معرف النتائج البعيدة المدى، لما يجري في بلادنا الآن، وما نتخذه من قرارات، وما نمارسه من تغيير في العادات، وما ننشئه أو ندعمه من علاقات(1 )، وبمعنى آخر: قرارات الحاضر بما لها وما عليها ترسم آفاق المستقبل بما له وما عليه.

وعالم الغد مليء بالمفاجآت التي تستدعي الدراسة والنظر بتمعن، فالأمر يستلزم أن يمتد بصرنا ليحدد واقعنا الحضاري قياسا بالواقع المعاصر للعالم المتقدم، في مجالات النهضة الحديثة، وصولا إلى تحديد معالم الطريق إلى المستقبل.

ونقطة الانطلاق لابد أن ترتكز على دراسة تحليلية، تبين جوهر المشكلة الحضارية، وتحديد مكاننا الصحيح من حضارة العصر الباسقة، قبل أن نضع الحلول، فقد مضى وقت ثمين على أمتنا، كان يمكن أن تستغله في المواجهة الصادقة لقضايا التخلف، لو أن المهتمين بأمر نهضتنا في مواقعهم المتعددة والمتباينة، أحسوا التشخيص في البداية، ولكن اليقظة الفجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة قوية، لا تعطيان عادةً فرصة للتأمل والتدبر. وهذا ما حدث في شتى بقاع عالمنا العربي والإسلامي، عندما أخذت الدول بصور متفاوتة تعد للنهوض والتطور.

ولأن اليقظة كانت فجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة كانت قوية، وجدنا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ ونحن في طريقنا إلى النهضة نتبع سبيل (الشيء ) حينما نرى أوروبا تخرج علينا بزينتها المادية البهيجة، فيقع في نفوسنا شيء مما وقع في نفوس بعض بني إسرائيل حينما خرج عليهم قارون بزينته، فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وهكذا عمدنا إلى تلك الحُلَّة نفصل مثلها، ونحاول أن نقلد بجهالة، عثرة المقص في يد الخياط الأوروبي، مع أن الطريق إلى الحضارة هو وقبل كل شيء طريق الفكر، الذي يحدد الوسائل ونتائجها، في مدة معلومة، بحيث يرى السائر ما سوف تنتهي إليه الطريق، قبل أن يخطو فيها خطوة واحدة. (1 )

فعن طريق التقليد، والمحاكاة، والمباهاة، تكدست بيوت القادرين منا بأحدث ثمار ((التقنية ))، فكرست ظاهرة الركون والإخلاد المتصل لعالم الحاجات، وتعودت نفوسنا على اللهث خلف الأشياء، نقتنيها، ونتباهى بها، وما عادت النفوس قادرة على السيطرة على رغباتها؟ وكبح جماح أهوائها، دون أن نسأل أنفسنا: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هي نهاية عالم الأشياء؟ وما هي نتيجة هذا كله؟

وكما هو الحال دائما في ((ديناميكية )) التغيير الاجتماعي، تبدو ظاهرة الإخلاد المستمر، والركود الدائم، لعالم الحاجات والخدمات، مرض سريع الانتشار، لا نتجاوز القصد إذا ما أسميناه بالطاعون الاجتماعي.

فمجرد اقتناء فرد لشيء جديد، وبإعلان هذا في مجتمع الشخص القريب ـ نتيجة مرض اجتماعي آخر اسمه التباهي ـ تبدأ عملية الاقتناء للشيء نفسه تنتشر نتيجة مرض آخر اسمه التقليد. والإنسان يبحث عن حضارة تقنية ثابتة، راسخة، ومتطورة، يريد أن يقيمها بما صنعت يداه لابد أن يلتفت التفاتا عظيما لهذه المشكلات الأخلاقية؛ لأنها في الحقيقة جزء أساسي من مشكلات النهوض الحضاري، فالإنسان في غياب ضميره الأخلاقي، ينحط لعالم غريزي، جبل على التكاثر، يستكثر من الأشياء، حتى إذا ملها بحث عن شيء جديد.. ولن يوقف حركة نفسه الهابطة في عالم الأشياء، إلا الانتقال إلى عالم الخلود (1 ).

وإذا كان ثمة فائدة من اليقظة الفجائية، والرغبة العارمة في التغيير، فإنها بدون ريب وضعتنا في مواجهة مباشرة مع مأزق التخلف، بعد أن زالت عنا الغشاوة، وها نحن نحاول أن نلملم الشتات، لنكشف أن من أهم العمد الرئيسة للحضارة الغربية المهيمنة، هي التقنية، فكان أن أخذنا منتوجات الحضارة وانبهرنا بثمراتها، وسعينا إلى اقتناء حاجاتها في شكل سلع وأدوات.

ولما تراكمت لدينا المنتجات الحضارية، وتكدست، ظننا أنها الطريق إلى النهضة والتحضر، وإذ بنا نفاجأ مرة أخرى أنها ليست هي، وأن الفجوة التي تفصلنا عن الغرب المتطور تتسع، والمشكلة تزداد تعقيداً، إذن فمن أين نبدأ؟ وكيف؟

فلسـفة البـدء

يسبق البدء في أي أمر، تحديد فلسفته التي يقوم عليها، وتوجهاته التي يرنو إليها، وأهدافه التي ينوي تحقيقها. ونحن المسلمين، نحتاج اليوم أكثر ما نحتاج، إلى عبق النبوة الأولى، في طيبة الطيبة، حيث نجد كيف كان المجتمع المسلم الأول حريصا على أن يصل إلى أعلى درجات التطور التقني بمقياس عصره، فمنح أولوية قصوى للصناعات الحربية، وركز عليها، وأغفل الصناعات الأخرى للمقتنيات الترفيهية. في ذلك المجتمع وعلى قمته، كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوجه، ويرشد، ويعلم، ضرب المثل الأعلى بنفسه، في الإعراض عن عالم الحاجات الترفيهية، إذ كان يقول لسامعيه، عندما يستغرب بعض أصحابه من إعراضه عن مقتنيات الترف، وهو القادر على امتلاك الدنيا، وما فيها لو أراد. كان يقول لهم: ((إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة ))، ليذكرهم بنفسه قبل أنفسهم؛ حتى يتعظوا، وعندما يقترح بعض الصحابة سريرا للنبي العظيم عليه السلام، لينام عليه، يرفض، ويؤثر أن يظل على حاله، ينام على حصير، يترك أثرا في جنبه، ويدعوا الله: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين )).

تلك هي فلسفة البدء الحضاري، أما الترف فهو طابع الختام الحضاري، وأمة تريد البدء لا يمكن أن تنطلق من عالم الحاجات، حيث قتلها الترف من حيث بدأت.

إن طريق النهوض الحضاري، الذي ترتجيه الأمة، يفرض عليها شروط لابد من تحقيقها، ويحدد مسارات لابد من السير فيها، لإكمال المشوار المبتغى. فإن كان التسابق الاستهلاكي، واللهث خلف عالم الأشياء، هو الطريق المرتجى، فإنه يقود بلا شك إلى إخلاد الأفراد إلى ترفٍ، من شأنه أن يعوق عملية النهوض ذاتها، ولا يساعد على قيام قوة إنتاجية محلية، تعتمد على الإحلال المتصل، والإبدال المستمر للطاقة البشرية المستقدمة بطاقة بشرية وطنية. فالترف بطبعه يثبط الهمم عن التعلم والتدرب، ويهبط بالاستعداد الوطني في هذه المجالات إلى أسفل الدرجات.

وإن كان الطريق المؤمل لنهضة شاملة وحقيقية، هو ترسيخ الاعتماد على الذات، والمزاحمة على عالم الغد، بكل ما يحمله ذلك العالم من مفاجآت وتحديات، فإنه يفرض علينا الدعوة إلى تنمية تقنية نوعية، ترتكز على إعداد، وتدريب، وتأهيل الطاقة البشرية؛ لأن أي اتجاه للنهوض والتطور، لا يركز على الإنسان، وسوف يجد نفسه في دائرة مغلقة، يظل المجتمع بإنسانه داخلها دائماً أسير عالم الأشياء، الذي يتجدد دوماً، وتتجدد معه الحاجة إلى طاقة بشرية قادمة معه، ولن يخرج المجتمع من هذه الدائرة المغلقة، إلا بموقف أخلاقي يتحدد في أمرين.

الأول ـ أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا.

الثاني ـ وأن تعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

كما هو وارد في الأثر، مما يمكن أن نعتبره مبدءاً للنهوض الحضاري، ونبراساً للتنمية الإنشائية المنتجة.

والاختيار بين الطريقين: طريق التسابق الاستهلاكي، وطريق البناء الحضاري،واضح ومحدد، ولا يحتاج إلى تفسير، ولهذا دعونا نسير عليه بتؤدة ورسوخ، ولنبدأ المشوار

في ظروف محدودية الإدراك التقني المتطور، بل والأساسي أيضا في كثير من بلداننا الإسلامية، وتزاحم الأولويات يشعر المشتغلون بالتنمية التقنية أنهم يعملون تحت ضغوط نفسية غاية في التعقد عندما يجدون أنفسهم ومجتمعهم معهم في مواجهة حضارة تقنية باسقة الزروع، ما تكاد تنتهي من دور تقني، حتى تنتقل إلى حال جديد، وحال مجتمعاتهم مازالت تفصله عنها عصور البخار، والكهرباء، والحسابات الآلية، هذا إذا لم نقل: ثورة المعلومات، وعالم الفضاء، في فجوة ذات ديناميكية معقدة، لم نصل بعد إلى فهم واضح لطبيعتها، وكيفية تجاوزها؛ في مثل هذه الظروف، يلجأ مخططوا التنمية، إلى زيادة حجمها المرجو، زيادة كبيرة، على أمل اللحاق بركب الحضارة التقنية المسرع في خطاه، وفي إغلاق الفجوة التقنية التي تزداد مع الأيام اتساعاً.

التقنية زاد الطريق

إذا كانت التقنية مطلباً أساسياً للدول الآخذة في النمو، للخروج من وهدة التخلف، والقفز فوق الفجوة، التي تفصلها عن العالم المتقدم ، فهي بالنسبة للمسلمين ضرورة لتأكيد الذات، التي تنبع من امتداد طبيعي لحضارة إسلامية عريقة، كان العلم التجريبي دعامتها، وبدأت بكلمة حق، أوحى، بها الله سبحانه وتعالى إلى النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فغرسها في النفوس لترتفع بها رايات الحق والهدى، وينتشر بها العلم، ويعم النور، وتقوم الحضارة.

إن التقنية الحديثة في العالم المتقدم نشأت من تزاوج العلم والْحٍرفة، ومن إصرار المجتمع على هذا التزاوج في صورة مراكز تطوير الصناعات المختلفة.

واقع التقنية في مجتمعاتنا

كانت الصناعات والحِرف قديماً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، راسخة الأسس، وواضحة المعالم، تضمها منظومة مهنية، وتحكمها تقاليد حرفية، وتتحكم فيها اعتبارات عملية، وكان الأبناء يتوارثون الصناعات والحرف من خلال تلك المنظومة عن الآباء، بالمحاكاة، والتقليد، كما كانت دكاكين أهل الحِرف والصناعات تمتلئ بالصبية، الذين ينفقون صباهم كله تحت رعاية معلميهم، يتدربون على أيديهم بصبر ويتعلمون منهم بدون ضجر.

بدأت هذه الطريقة في التعليم والتدريب تختفي رويداً رويداً، ولم يعد الآباء يرسلون بنيهم لحوانيت أهل الحرف والصناعات، وإنما يدفعون بهم إلى المدارس، ودور العلم، يودون لو أنهم أكملوا دراستهم الجامعية، فيملكون بذلك جواز المرور للوظائف العليا. وحدث نتيجة لذلك، شبه اختناق في عملية التغيير العلمي والتقني، حيث بدا واضحا أن أعداد الجامعيين نمت على حساب قطاع الحرفيين وأهل الصناعة؛ وذلك لاندفاع الأمة في طريق التعليم الجامعي، فاضمحلت الحرف، وزال معظمها، واستسلم المجتمع إلى التدفق الرهيب للسلع، والحاجات، والمنتوجات، التي صنعتها أيد أجنبية، وتحول بذلك من مجتمع حرفي صناعي بالتقليد والمحاكاة، إلى مجتمع ((الياقات البيضاء )) التي لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تنسج، ولا تسكن فيما تبني، وهذه قد تكون من الأسباب العملية، التي جعلت معظم المجتمعات المسلمة، تابعة واتكالية، وليس لها مخرج من هذا المأزق الحضاري، إلا باعتناق فلسفة البدء الحضاري، كما أشرنا من قبل (1 ) لتسير في طريق الحضارة التقنية.

ونقطة البدء في ذلك هي تعليم الحرف، وانتشارها بين الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع، في حين يتوجه جزء للتعليم الفني ليكون قادراً على تطوير الحرفة ونموها .. ويستنفر من ذوي العقول النادرة، من هو قادر على متابعة ما يطرأ على العلوم من تطور ونظريات، والنظر في إمكانية تسخيرها لخدمة التقنية المستحدثة.

لقد أفاء الله على العالم الإسلامي ـ بدوله العديدة وشعوبه المتعددة ـ بمصادر طبيعية، ورزقه موارد مختلفة، وعليه أن يسعى جاهداً إلى استثمارها ، لأنه يعلم أنها مصادر ناضبة لا محالة، قصر الزمن أو طال، كما أن أمتنا لا بد أن تعي بيقين أهمية الكثافة العددية، في الموارد البشرية، وضرورة صياغة وتنفيذ برامج لتأهيلها وتدريبها.

إذن فأمتنا في سباق مع الزمن؛ كي تستفيد من ثرواتها الطبيعية، ومواردها البشرية في تنمية شاملة، وواسعة، ومخططة، لتواجه تحدي نظام اقتصادي عالمي، يخدم الشمال المتقدم، ويستنزف الجنوب المتأخر، ولا سبيل إلى مواجهته إلا بالاعتماد على سلطان العلم بالتضافر مع التقنية.

والمراقب للتطورات المتلاحقة، في المجالات العلمية، وما يتبعها ويصاحبها من تقدم في التقنية، يحتاج إلى وقفة موضوعية للتعرف على واقع التقنية، وتأثير تطوراتها المتلاحقة على الحالة العلمية والتقنية سلباً وإيجاباً، واندثار الحرف والصناعات التقليدية كما أشرنا إليه قبل قليل، ونظرة المجتمع إلى العمل المهني، وعلاقة كل ذلك بتدفق المنتوجات ((الزوالية )) على المجتمع.

ونهدف باستعراضنا لكل تلك المكونات، أن نسعى إلى تشخيص ((المرض التقني )) الذي تعاني منه مجتمعاتنا؛ لنتعرف بعد ذلك على الفجوة التقنية التي تفصلنا عن العالم المتطور، وأسلوب معالجتها.

نظم التعليم وعلاقتها بالحالة العلمية والتقنية

إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي كافة، نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز لباقي أنواع التعليم؛ إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً.

وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه، في شتى أقطار العالم الإسلامي، فعلا مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر - على كل حال يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الأوروبية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي، إلا أن غالبية ديار الإسلام أقبلت عليه، ولم تجد في دينها ما يردها عنه، واعتبروا أنها بضاعتنا ردت إلينا، وهو على كل حال تراث البشرية، أدلى فيه الأجداد بدلو عظيم، فلم لا نستعيده؟!

ومن هنا بدأ صراع صامت، بين أسلوب التعليم القديم، وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام، أن تترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث، بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.

بدأت معاهد التعليم الديني تفقد ازدهارها بوقف تدفق النابهين والمتفوقين عليها؛ حيث اتجهت الغالبية منهم إلى النوع الجديد من التعليم، الذي يتسم بظاهرة جديدة، ألا وهي المهنية التي فقدها نظام التعليم القديم بإصراره على مناهج وضعت في العصور الوسطى.

خذ مثلا محاولات الأزهر في مصر في الستينيات من هذا القرن الميلادي، عندما اجتهد في تجاوز مشكلة الانفصال هذه، بين النوعين من التعليم، فافتتحت كليات مهنية متنوعة، لا تختلف في شيء عن أي كلية أخرى من حيث المناهج، مع إضافة منهج إسلامي فوق المناهج الأخرى، فجاءت التجربة ممسوخة، حيث كان من الأجدى ـ في رأينا ـ ((أسلمة )) مناهج العلوم الاجتماعية، من علم نفس، واقتصاد، واجتماع، وما إليها بمعاصرة، وفعالية، بدلا من خلطة ((سمك لبن تمرهندي )) التي سارت عليها الأمور، والتي لم تقف عند هذا الحد، بل تعدته إلى أن كليات الأزهر الدينية التقليدية بقيت على حالها دون تطوير، مما أفقدها كثيراً من حيويتها، ومن ثم انصراف الدارسين عنها.

تلك مقدمة عامة وسريعة، عن نظم التعليم، أردناها أن تؤكد ضرورة هدم الحدود المصطنعة، بين التعليم الديني، والتعليم المدني، وأن تكون مدخلا لسؤال هام هو: أي نوع من الخريجين نريد؟ ولأي غاية اجتماعية نعدهم؟

إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي، مشكلة يجب إعادة النظر فيها، من أجل نظام موحد للتعليم، ينبثق عن أحسن ما في القديم، وأفضل ما في الحديث.

لقد انحصرت مناهج التعليم القديمة في القرون الأخيرة، في دراسات فقهية، ولغوية، ولم تعد تدرسّ في معاهد التعليم المختلفة، أي مناهج علمية تجريبية، وأصبح تراث أجدادنا في هذه المجالات، كأنه ليس تراثنا، ومن هنا كانت الحرف التي نشأت في العلم العربي الإسلامي، والصناعات التي بدأت فيه، معتمدة على النقل والمحاكاة والتقليد.

وحتى وقت احتكاكنا بالحضارة الغربية، ظللنا لا نعرف كيف نضع بذور الصناعة في بلادنا؛ لأننا طلقنا أنفسنا (في عصور الانحطاط ) من العلم التجريبي وهو ماء الحياة بالنسبة للتقنية المعاصرة، قامت به، وبغيره لا يمكن أن تدوم.

نعود الآن إلى طرح السؤال السابق بصيغة أخرى:

أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟ بدلا من أن نسأل أنفسنا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟

أي أن التعليم في بلداننا، يجب أن يرتبط بمهمة اجتماعية مطلوبة، وهي التي تحدد آفاقه كماً ونوعاً.

ولا بد من القول في البداية: بأن ربط سياسة التعليم بالتخطيط ضروري، ويجب أن يزداد وثوقا مع الأيام، بحيث يقل فاقد التعلم إلى حده الأدنى، إن لم يمنع تماما. ومن المفيد أن يزداد إيماننا بأن الفجوة التقنية، التي تفصلنا عن العالم المتقدم، يحكم تجاوزها قوانين حضارية لا يمكن إغفالها. فتحول العلوم إلى تكنولوجيا، تحكمها فعالية اجتماعية، تتأثر بكل العوامل النفسية، والاقتصادية، السياسية، الضاغطة على الأمة، ولن يتم هذا التحول إلا بعد مرور الوقت الحرج من بدء الأمة في تكديس العلوم في عقلها الباطن.

أخذت بعض أقطارنا الإسلامية تدرك ذلك، وبدأت خطوات جريئة في تطوير التعليم، نرجو أن تتلوها خطوات أخرى في المراحل المختلفة، حتى تستطيع الأمة أن تتجاوز الوقت الحرج؛ لتصبح عملية تحول العلوم إلى تقنية، أمراً طبيعياً من غير تعسف، ولا تجاوز.

أثر القدرات الاقتصادية على الحالة العلمية والتقنية

تطورت القدرات الاقتصادية لبعض أقطارنا، بما أنعم الله عليها من خيرات، وحباها من ثروات طبيعية، تطوراً كبيراً، وصاحب هذا التطور عدة ظواهر جديدة، جديرة بالدراسة والعناية، نبرز أهمها فيما يلي:

- ظاهرة الثراء السريع الرخيص، أصبحت تهدد إقبال الناس على العلم مما يهدد بعدم نمو أعداد المتعلمين.

- رغبة المجتمع في الرفاهية جعلته يعج بكل أنواع المنتجات الحضارية وهذا يؤثر بدوره على الصناعة الوطنية.

- الإقبال على التعليم التقني في حالة غير مرضية يحتاج إلى نظرة موضوعية؛ لمعرفة أبعاده، وتأثيره المباشر على مستقبل العلم والتقنية.

إن فجائية التغيير الاقتصادي في أقطارنا، وأثره على مرافق حياتنا ظاهرة، تستحق الاهتمام، وتحتاج إلى عناية خاصة في دراستها فنحن لسنا مسبوقين من غيرنا بمثل هذه الظاهرة، ولذلك فليس هناك حلول جاهزة لنا. ونحن وحدنا قادرين بإذن الله على حل مشكلاتنا.

وإذا كانت فجائية التغيير الاقتصادي قد صاحبها بعض السلبيات التي أشرنا اليها آنفا، فإن من أهم إيجابيات تلك الفجائية، أنها مكنت بعض دولنا من الإسراع في توفير الخدمات الأساسية اللازمة لمجتمعاتها التي تريد أن تضاعف معدلات نموها، كما مكنت لها استقدام خيرة الخبراء والعلماء، للعمل في جامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها، وكذلك مكنت لها ابتعاث أبنائها، والتوسيع المطرد في مؤسساتها كلها.

إذن فإن فجائية التغيير الاقتصادي ذات حدين، وعلى رجال الاجتماع، والاقتصاد، والفكر، والسياسة، من أبنائنا أن ينظروا فيما أسلفنا، وما له من أثر على خطط التنمية، لإيجاد حلول تحد من هذا الأثر وتتغلب عليه.

اندثار الحرف والصناعات التقليدية

ظلت المهن والصناعات والحرف، حتى وقت قريب، موجودة بصورة ملموسة في مجتمعنا الإسلامي، كمصدر أساسي للرزق وتلبية لحاجات اجتماعية ترتبط باقتصادنا، وتعكس انغلاقنا الاجتماعي عن العالم الخارجي.

وساعد على استقرار المهن والصناعات والحرف وترسيخها، غياب النمط التنظيمي للتعليم في بلداننا، فاتجه أفراد المجتمع، إلى تعلم المهن والصناعات والحرف، في الورش والدكاكين المنتشرة حينئذ، ولم يكن لتعلم الحرف، وإجادة المهن، والتمكن من الصناعات بهذه الطريقة (التلمذة الصناعية ) مناهج تعليمية مدروسة، ولم تكن تطبق في تعليمها أية أساليب تدريبية تكنولوجية، وإنما اعتمد التعليم على المشاهدة، ودقة الملاحظة، التي يتمتع بها الطالب، وبذلك توقفت فترة التدريب على إمكانيات الطالب الذاتية، وقدرته على التقليد والمحاكاة. وتوارث الابن عن أبيه الصناعة، والحرفة، وتسمت عائلات باسم المهن والحرف، التي كانت تمارسها، فعائلة الصائغ، والنجار، والصياد، والساعاتي، والحداد، والزارع، والقماش، والقزاز، وغيرها أمثلة تبين التزام الأسرة الواحدة بمهنة، أو صنعة، أو حرفة تتوارثها أبا عن جد، وابناً عن أب، وتصبح لقباً تسمى به العائلة.

ظلت الحالة التقنية في المجتمع على هذا المنوال، حتى انتظم التعليم وساد، وانتشرت المدارس، وتعددت الجامعات، فتكدست بالطلاب، وخلت المهن، والحرف والصناعات التقليدية من روادها وأربابها، واندثر بعضها، وبقي بعضها منزوياً في أركان المجتمع لا يقبل عليه من الطلاب إلا من فشل في التعليم المنتظم، أو الذي ساقته ظروفه إليه قسراً .

ثم تطورت أحوالنا المعيشية، وارتقت قدراتنا الاقتصادية، وتدفق على المجتمع أصناف وأصناف من المصنوعات المستوردة، تباع بأثمان رخيصة، فاستبدل الناس المستورد بما قد يصنع محليا؛ لرخص الثمن، وربما أيضا لجودة الصنف.

انتهى بذلك ـ أو كاد ـ تاريخ تقني تراثي، لا نستطيع أن نعيد أمجاده، ونكرر إشراقته، إلا إذا سلكنا مسالك عديدة نذكر من أهمها:

- تقنية التعليم الثانوي العام، بإدخال عدد من الحرف والصناعات عليه.

- تصميم نماذج تعليمية فنية مختلفة، بعد مراحل التعليم الإعدادية والثانوية، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي والنوعية الجيدة من الطلاب.

- دراسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.

النظرة الاجتماعية للعمل المهني

إن الرحلة الشاقة الطويلة، التي يجب أن تبدأها الأمة، على طريق استنبات التقنية تعني أول ما تعني: تمهيد وإعداد التربة الصالحة للغرس، والاستنبات، قبل وضع البذور، وسقيها، ورعايتها، لتنمو وتثمر.

وتهيئة التربة للغرس، تعني تهيئة المجتمع، لتقبل التقنية عند استنباتها، حتى لا تكون كالعضو الغريب، الذي يزرع في الجسم، فيقاومه ويلفظه، بل لتصبح جزءًا من تكوينه، يتعامل معها، ويستوعبها، ويطورها، بدلا من أن يكون مستهلكاً لها، وزبوناً لمنتوجاتها.

وإن أولى تلك الخطوات، تغيير نظرة المجتمع إلى العمل، وقيمته الحضارية؛ لأن مجتمعاتنا؛ مازالت تنظر إلى العمل اليدوي التقني، والممارسة المهنية، نظرة وصلت عند بعض أفراده إلى درجة الاحتقار؛ مما دفع بجزء كبير من الطلاب، إلى الاتجاه إلى التعليم النظري؛ لينتقلوا بعد حصوله على الدرجة العلمية في تخصصاته، إلى المقاعد الوثيرة، خلف المكاتب الفارهة، في ظل أبهة وهمية للوظيفة، دون فعالية تذكر، أو جهد ملموس.

لماذا نجد رئيس جامعة في أمريكا مثلا، يقوم بإصلاح سيارته في ورشته، ودهان سور منزله بيده، وتنسيق حديقته بذاته، في حين يأنف موظف في مجتمع العرب والمسلمين، من القيام بأبسط من ذلك من الأعمال اليدوية؟! سؤال ساذج؛ لأن الإجابة عليه واضحة، في الفروق والفجوات الحضارية بين المجتمع الأمريكي، والمجتمع العربي.

مجتمعاتنا ـ عموما ـ ليست بدعا في عدم تقدير قيمة العمل اليدوي؛ لأن تلك ظاهرة تشترك فيها مع غيرها، من مجتمعات العالم النامي، خصوصا تلك التي أنعم الله عليها برزق رغد، ومصادر وفيرة، لكنها ستكون بدعا، إن لم تستدرك تفشي ظاهرة الركون إلى الدعة، وحب الترف، وكراهية العمل، حتى تنضب مواردها، وتتحدد مصادر الرزق فيها، فنجدها وقد أضحت عالة على غيرها، وعيّا على نفسها.

إن تغيير النظرة الاجتماعية السلبية إلى الحرف والمهن، يتيح إعادة هيكلة القوى العاملة من أبناء الأمة؛ ليأخذ العمل التقني مكانه الاجتماعي الصحيح. وتغير تلك النظرة سوف يزيل الهدر في التعليم، ويقلل من فاقده، الذي نشاهد دلائله في الإقبال المتزايد على التعليم الجامعي والنظري منه على وجه الخصوص، وحتى يتجه الطلاب إلى قنوات ومسارات أكثر فاعلية وجدوى للمجتمع، كالتعليم التقنين ومعاهد الرف، والمهن التطبيقية.

وتغيير نظرتنا الاجتماعية للعمل، سوف توضح جديتنا، لتعويض فترات التخلف التقني المقفز، التي قاسينا منها وما نزال.

تدفق المنتوجات الزوالية وظاهرة الاستبدال

رأينا مما سبق، أنه خلال مسيرة التاريخ، كانت هناك حِرف مستقرة بمقاييس جيل أو أجيال كاملة، ولكن في العصر الحالي، أو قل: في العقدين الأخيرين من القرن الحالي بدأت حرف كثيرة تفقد أرضيها، وحل الاستبدال ((للشيء )) الخرب، أيا كان من منتوجات الحضارة المعاصرة، محل إصلاحه، وإعادة تشغيله، وصيانته؛ وتم ذلك، لأن التسارع الكبير في استيراد أحدث ما أنتجته المصانع المتطورة، لم يترك مجالا لتطوير الحرف، والمهن التي كانت تقوم بدور الإصلاح والصيانة، فارتفعت تكلفة الإصلاح والصيانة. لماذا لا يستبدل الفرد ثلاجته بأخرى جديدة، إذا كانت تكلفة الاستبدال، لا تفوق كثيرا تكلفة الإصلاح ؟!

أصبح التغيير والاستبدال، ظاهرة متميزة في المجتمعات الغربية، لها عندهم مبررات اجتماعية، واقتصادية ترتبط بالعوامل النفسية، والاجتماعية، لتلك المجتمعات، فهم الذين يصنعون البدائل على أي حال، وهم الذين يطورونها، ويحسنونها، وهم الذي يستفيدون منها في جميع مجتمعاتهم، وزيادة الإنتاجية القومية عندهم، ونحن لا نناقش كل ذلك، ولا نبرره لهم، ولكننا نناقش تكرار الظاهرة نفسها في مجتمعاتنا، بما هي عليه من تخلف تقني، وتأخر صناعي . إن تكرار الظاهرة عندنا، يدل على أن مجتمعاتنا، نقلت أشياء الحضارة الغربية ، ونقلت معها مظاهر وعادات مجتمعات الغرب الاستهلاكية، دون إدراك إلى أننا لا نصنع ما نستهلك، وهم يصنعونه.

إن هذا الاستبدال المتتابع لتلك المنتوجات ((الزوالية )) على حد تعبير ((الفن تفلر )) مؤلف كتاب صدمة المستقبل سوف يؤثر تأثيرا سلبيا على استيعابنا لماهية هذه المنتوجات، والتدريب على صيانتها، وبالتالي عدم إعادة انتشار المهن، والحرف، وتطويرها، ورسوخها في المجتمع، واحترام أربابها، ومحترفيها من أبناء الأمة.

إن ظاهرة الإخلاد لعالم الرغبات، والخدمات والمستهلكات، ظاهرة واضحة في مجتمعاتنا. إن لم نتدارك أمرها، فإنها ستجر المجتمعات إلى أمراض اجتماعية كالاتكالية، والاستسلام، والركون، والترف، والدعة إلى آخر السلسلة إن لم تكن قد فعلت ذلك.

خلصنا مما سبق إلى أن كل مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية، أخذ ينتقل بعيداً، رويداً رويداً، عن الحرف التي كانت سائدة فيه، والتي كانت تغطي معظم احتياجاته عندما كانت تلك الاحتياجات، بسيطة غير معقدة، إلى مجتمع يلهث وراء عالم الأشياء المتسارع في خطاه.

وعلينا أن نؤكد مرة أخرى، على أن هذا التسابق في عالم الأشياء، لم يتح لنا فرصة للتعمق في التقنية الغربية الضاغطة، ولم يعطنا فرصة لتعلمها، ومازلنا نقف عند بابها، لم ندخله بعد. والحديث هنا ذو شجون، يمكن لنا أن نفيض فيه ونعيد، ولكننا نؤثر أن نقول: إننا يجب أن نستغل عشقنا لعالم الأشياء الغربي، في العمل على إيجاد وتطوير منظومة حاكمة للتقنية في بلداننا، تكون الصيانة أو فصل عملي فيها.

إننا وإن كنا لا نصنع الأشياء، فلا أقل من أن نصونها، وإننا وإن كنا لا ننتج ما نستخدم، فلا أقل من أن نحافظ على ما نملك، والصيانة مدخل عظيم للتعلم التقني، لو أحسنا تنظيمه، وإدخاله في حياتنا.

ولسائل مهتم بهذا أن يسأل:

ماذا فعلت كليات الهندسة في جامعاتنا لتعزيز مفهوم الصيانة؟

لو أردنا الحديث عن مدى إعداد المهندس للصيانة، لوجدنا أن هناك قصوراً شديداً في الاهتمام بالصيانة والتشغيل، في برامج تعليم الهندسة، في الجامعات العربية عموما، ومن ثم عدم إدراك المهندس بوضوح، لدور التشغيل والصيانة، في حياة المنشأة.

وحديثنا عن تقصير كليات الهندسة في الجامعات العربية عموما،، في خلق الوعي وتوطين القدرة لدى المهندس، تجاه منظومة التشغيل والصيانة، هو نقد ذاتي نوجهه إلى أنفسنا؛ لأننا محسوبون على التعليم الجامعين ومنه وإليه نعود، فالملاحظ أن مناهج الهندسة، وبرامجها، وخططها الدراسية تهتم ربما بأحدث نظريات التصميم، وبالتحليل الرياضي للظواهر الهندسية، وينسون ولا يقبلون على التصميم العملي غلا قليلا، فإذا انتقلوا إلى النواحي التقنية في المناهج، وجدتها صفرا غليظاً.

وهذا أمر لو استمر، يشكل ضغطا حضاريا، على خريجي كليات الهندسة في العالم العربي.

ليكون حديثنا عمليا فلنأخذ مثلاً من الواقع:

خذ منهج الهندسة في ميكانيكا الموائع ( Fluid Mechanics ) السائد تدريسه في كليات الهندسة اليوم، وابحث في مكوناته الثلاثة، التي يجب أن تكون فيه، وهي الناحية التحليليه، والناحية التصميمية، والناحية التقنية، وسوف تجد أن حوالي 98% من المنهج يركز على الناحية التحليليه لعلم الموائع، بمعدلات رياضية، واستنتاجات، وتفريعات، لا يحتاج إليها طالب الهندسة، ومكانها الطبيعي في كلية العلوم، وهناك فرق بين علم الموائع. وسوف تجد 2% من المنهج للناحية التصميمية، ولن تجد شيئا من الناحية التقنية، والنتيجة أن الدارس لهذا المنهج لا يقدر على إدراك عمليات التشغيل، ونظرياتها، وأساليب الصيانة، فكيف بربك تريد من هذا الدارس، أن يتخرج بعد ذلك ويتعامل مع الأجهزة والمعدات في الحقل؟ هم لن يسألوه في المجتمع عن كيف يحل هذا المعادلة أو تلك التي تصف له الجهاز، ولكنهم يتوقعون منه حداً أدنى من معرفة: كيفية تصميم نظم تحكم للأجهزة

(Control Systems ) ، التي تقوم بتوزيع المياه في المدينة، وشبكات أنابيب المياه فيها، وكيفية تشغيلها، وصيانتها، كل هذا مطلوب في مجتمعاتنا، فنحن لا نصنع شبكات المياه، ولا أجهزة التحكم الآلي، مثل أهل الصناعة المتقدمة، وإنما المطلوب أساساً هو مجموعة من شبكات توزيع الأنابيب.

إذا نظرنا بعمق في هذا المثل سقناه، وجدنا فعلاً، أن إهمال علم الصيانة هذا، بدأ من التعليم نفسه، ولذا فإننا ندعو المعنيين بمناهج التعليم في بلداننا، أن يعيدوا النظر في صياغة مناهج الجامعة، لتتجه إلى السبيل القويم والفعال، وسوف نتعرض لهذه النقطة بعد قليل بشيء من التفصيل.

على أن الحديث اعن الصيانة، يظل حديثاً واسعاً، ومتشعباً، وذوي شجون، وشؤون، وصلة مباشرة بوضع التقنية في مجتمعاتنا، ولهذا سوف نعتبره مدخلا للتعرض للموضوع الأشمل، وهو تنمية التقنية، في الصفحات التالية.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:52 PM


استنبات التقنية وتنميتها


لعل بالإمكان أن نطرح في البدء سؤالاً نعتقد أنه مهم وأساسي:

كيف تستطيع أمتنا، وهي تقف عند أبواب القلاع العلمية والتقنية لحضارة الغرب، أن تستوعب علوم الغرب وتقنياته؟ هل هناك جدولة زمنية لتتابع إدخال علوم وتقنيات، بحيث إذا استوعبنا مرحلة، انتقلنا إلى مرحلة ثانية، وهكذا؟

ليس من الصواب التصور، بأن الإجابة سهلة وبسيطة، لكنها على أي حال غير مستحيلة، ويمكن تجزئتها على مراحل، نستعرضها فيما يلي، من خلال المداخل الأساسية، لترسيخ التعليم التقني، والتدريب المهني، ومن هذه المداخل أيضاً التشغيل والصيانة، باعتبارهما معاً، الدرس الأول في التقنية، ثم التقليد الصناعي باعتباره أساس استنبات التقنية في المجتمع.

التشغيل والصيانة - الدرس الأول في التقنية

تعتبر الصيانة من أهم المشكلات، بل التحديات التي تواجه المجتمعات النامية، ونعني بالصيانة هنا: استمرارية أداء الأجهزة، والمعدات، والمباني، وغيرها، بصورة فعالة ومنتظمة، لفترة أطول، مع الإبقاء عليها.

ولا يغيب عن الذهن، أن الصيانة أداة من أدوات الاستنبات التقني في المجتمع، وترتبط ارتباطاً مباشراً باستيراد المنتوجات والأشياء، بل حتى ترتبط بملكيتها بعد استيرادها، وبالتالي فإن تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها، يمكن اعتباره شرطاً من شروط الملكية في حالات معينة.

إننا نعتقد أن الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات والمركبات، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، يعين على إتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه.

إننا ننادي أن يكون تعليم ((الصيانة العامة ))، جزءًا لا يتجزأ من خطط التوعية والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات، وذلك لترسيخ مفاهيم الصيانة بشتى الوسائل والطرق، كي تدخل في مناهج حياتنا، وسبل تفكيرنا، ولتتحرك أيدينا المعقودة، وتنشط عقولنا الخاملة، وتحل عقدة الانبهار عندنا بمنتوجات صنعها غيرنا، لنفهم كيف تعمل هذه المنتوجات؟ فنقدرها، ونحترم تعاملنا معها، لنحافظ عليها أطول وقت ممكن. لذا فإن القوى البشرية التي تعمل في مجالات الصيانة، تصبح من هذا المنطلق، طاقة وطنية تحتاج إلى رعاية قصوى، واهتمام تام بتنميتها، وتدريبها، وتوجيهها.

إننا ننادي بإعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات ودور العلم، حتى إيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا، إن أمكن ذلك. كما أن علينا تشجيع تعليم الصيانة في الورش الأصلية،والمصانع الوطنية، وحبذا لو فرضت دولنا قوانين على تلك الورش والمصانع، تطالبها بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها، وإثارة الوعي بعمل نماذج وصناديق هوايات تتعلق بالمنتج الوطني.

ولنا أن نتساءل:

ماذا لو قامت الأجهزة المختصة في وزارات الصناعة في بلداننا، مع أقسام الورش في كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني، بإعداد دورات تدريبية عن المنتوجات الشائعة جداً في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وأصدرت كتيبات مبسطة عن طريقة تركيبها، وصيانتها، وكذلك الصيانة الأولية للسيارات، والمركبات المتحركة، والأثاث، والأدوات المنزلية؛ توزع مجانا؟ إن مثل هذا العمل سوف يعين، ولا شك على انتشار الوعي بين المواطنين، لحب العمل اليدوي، وممارسته، لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير.

إن التركيب، والتشغيل، والصيانة، هم المداخل الأساسية للتقنيات المختلفة في المجتمع.

كما أن تدريس الحرف الشعبية، مثل الصيد، والزراعة، والصياغة، والخياطة، وخلافها، وإعداد كتيبات عن تركيب وصيانة أدواتها، يعتبر أمراً هاما وحافزاً لاستبقاء هذه الحرف.

والأمر يحتاج على كل حال إلى ترتيب الصيانة ترتيبا رقيما، وربطها بطيف القدرات البشرية المتوافرة، مع تجميع مكتبة للصيانة، من كل الكتب التي كتبت في الغرب، ليستعان بها في إعداد مثيلاتها باللغة العربية.

إنه من المفيد ملاحظة أن أدوات الاستهلاك التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، تصبح عبئاً مضاعفاً على الأمة، لأن المتخصصين في هذه الصيانة قلة، فحبذا لو قللنا من استيرادها.

إن صيانة الأجهزة، والمعدات الاستهلاكية المتطورة، تحتاج إلى طاقات بشرية مؤهلة، ليست متوافرة وطنيا، ولا حتى قوميا، وبالإمكان، بطبيعة الحال، استئجارها من خارج الحدود، إلا أن الأمر لا يقف عند الاستئجار، وإنما يتعداه إلى النواحي النفسية في الأمة، وشعورها بالتبعية، كما قد يؤثر على كثير من سلوكها الدولي، والداخلي. والبديل الوحيد المؤقت لاستئجار الصيانة المتطورة، هو تقليل استيراد الأشياء الاستهلاكية التي نحتاجها وفي ذلك فائدة مزدوجة.

إذن فللصيانة هدفان أساسيان هما(1):

- حفظ الثروة الوطنية، المتمثلة في الأجهزة والمعدات المستوردة أو المصنعة.

- استنبات التقنية.

ونحن أمة تعيش على الاستيراد الصناعي، ونظل كذلك لفترة قادمة غير قصيرة، وفي مثل هذه الظروف تلعب الصيانة دوراً أساسياً وجوهرياً في حفظ الثروة الوطنية، وفي استنبات التقنية.

والخطوات الطبيعية، لتعزيز مفهوم الصيانة في كياننا الاجتماعي، ولتحقيق الهدفين السابقين، هي:

أولا: تصميم منظومة الصيانة تصميماً يرشّد الجهد العام، وجهد الأفراد، في تناغم يحقق المقاصد المرجوة، من غير تفريط، ولا إفراط. وهذا يتطلب صياغة دور الأجهزة العامة في المنظومة، ليحقق مجموعة من الوظائف المتكاملة، ومن ذلك صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:

- استيراد الأشياء وحق الصيانة.

- ملكية الأشياء، وضرورة تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها شرط من شروط الملكية، أو باختصار: التشغيل، وحق الصيانة.

- التقليل إلى الحد الأدنى من تدفق ((الزوالية )) من العالم المتطور تقنياً، حتى نتيح للإنسان العربي والمسلم قدراً من الوقت، للتعامل مع ((بضائع بطيئة )) يصونها، ويتعلم منها الجديد.

- إلزام المصانع الوطنية بعمل كتب صيانة واضحة للمستعمل.

ثانيا: توسيع وتأكيد دور مؤسسات التعليم والتدريب في نشر الوعي التقني، عن طريق الصيانة، وذلك بإعادة النظر في كل مناهجنا التعليمية، لتخدم منظومة الصيانة، فالدراسة الأولية لمناهجنا التعليمية، سواء ما قبل الجامعة أو ما بعدها، تظهر بوضوح، أن الصيانة ليست وجهة، ولا هدفا، من أهداف العملية التعليمية. وبالطبع لن يضطلع بهذه المهمة في دولنا، إلا المشتغلون بالتعليم، سواء كانوا في الجامعات أو في غيرها.

وبجانب النظر في المناهج جميعها، كي تتخذ لنفسها وجهة صيانة، لابد من إعداد مجموعة من المناهج، على مستوى البكالوريوس ، ومستوى الدراسات العليا، تهتم بالصيانة علماً، ونثير في الطلاب والأساتذة الرغبة في بحوثها، حتى تصبح المفاهيم الصيانية التي تتمخض عنها الدراسات المختلفة، شائعة، بين أكبر قدر من التقنيين، الذين سيديرون دفة الصناعة في أجيال مقبلة.

ونخلص من ذلك إلى القول: بأنه من غير قوانين حاكمة، وتعليم، وتدريب يوفر الطاقة البشرية المدربة، وإدارة محيطة بأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاري، من غير ذلك يصبح كل جهد في الصيانة ضائعا، وتتعارض الجهود، وتصطدم المصالح.

وإذا جاز لنا أن نستخدم تعبيراً شائعاً في الحاسبات الأليكترونية ، فنقول: إن القوانين والأنظمة التي تحكم:

- منظومة الصيانة،

- وتوفير الطاقة البشرية الوطنية المؤهلة والمدربة

- وإيجاد الإدارة المستوعبة لأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاريّ،

كلها مكونات (لينة ) ( Soft ) للعملية الصيانية.

أما المكونات ((الصلدة )) (Hand ) لعمليات الصيانة فتنحصر في أنواع الخدمات التالية:

- خدمات الإصلاح والتجديد.

- خدمات الصيانة الدورية والوقائية.

- خدمات التركيب والتشغيل.

- خدمات التدريب، واكتساب المهارات الخاصة.

بقي علينا أن نحدد من خلال دراسة علمية متخصصة، نماذج مؤسسات الصيانة المطلوبة في المرحلة القادمة من عمرنا الصناعي وذلك عن طريق:

تحديد نوعية الصيانة المطلوبة، وحجمها، وفترة مستقبلية معينة.

- اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة التي يمكن إقامتها، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المنشآت.

- اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية لعمليات الصيانة، من خلال قائمة أولويات تحكمها(1 ).

التقليد الصناعي. أساس استنبات التقنية

يعد التقليد، من الدروس الأساسية للتعليم والتدريب التقني، الذي يخدم بدوره الصناعة الوطنية. والتقليد بمفهومه الصناعي، أو بما يمثل في مجالات التقنية هو: استيعاب كامل للقطع المتعددة، التي يتكون منها الجهاز المراد تقليد صناعته، وخواص المواد التي تصنع منها، وإدراك تام لدور كل قطعة منه، وما تقوم به من عمل، كي يؤدي الجهاز وظيفته بكفاءة وإتقان.

وإتقان التقليد الصناعي يمر بمراحل عديدة، لعل من أهمها ما يتعرض له المُصَنّع من بحوث وتجارب، للوصول به إلى الأداء الكفء. ولهذا تصبح البحوث التطبيقية والتجارب الميدانية من أهم واجبات المُقَلدْ.

لقد أدركت اليابان على وجه الدقة، ما للتقليد الصناعي من دور مهم، وعملي، وحاسم، في سبيل النهوض بصناعتها، وتبوئها مكان الصدارة، أو على أقل تقدير المزاحمة عليه، في كثير من الصناعات المتطورة المعاصرة، وسوف يتضح لنا شيئا مما قامت به اليابان، من أجل نهضتها وتقدمها، عندما نستعرض تجارب الأمم في مضمار العلوم والتقنية.

وعلينا أن ندرك أن مستوى التقليد، يرتبط بمستوى الحالة العلمية والتقنية، السائدة في المجتمع من قبل، وفي هذا المجال لابد أن تتعلم الشعوب الأقل تقنية أن ليس كل شيء تبغي تقليده، تستطيع أن تحققه، أي أن مستواها العلمي والتقني، يفرض عليها قيوداً وعقبات لا يمكن تجاوزها إلا إذا غيرت من مستواها العلمي والتقني.

ونعتقد أن على جزء يسير من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، مسؤولية واجبة الأداء، وهي أن يحولوا الرسائل، والأبحاث الجامعية، أو بعضها، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.

إن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الغرب، يجب أن نجتازها بمجموعة من الوثبات في التقليد المبرمج، يتلوها رغبة جادة في التأقلم على المقلد، من الإنتاج والمصنوعات، وهذا يحتاج إلى بحوث متصلة عن: ماذا نقلد؟ وماذا نؤجل؟ أي : وضع برنامج زمني يضيّق الفجوة العلمية، بين التقنية والتقليد.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:53 PM


الفجوة التقنية- نحن والعالم المتطور


إنه من المفيد أن تتكون لدينا قناعة ذاتية، بأن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الدول الصناعية، تزداد ولا تنقص، وتتسع ولا تقل، برغم الظاهر من مؤشرات تدل على الاستعداد للتقدم العلمي، في مجالات عديدة، أبرزها تعدد الجامعات، وتنوع مجالات الأبحاث، وازدياد أعداد الملتحقين، وبالتالي المتخرجين من الجامعات، والمعاهد العليا. والقناعة تلك، يجب أن تهدف إلى إعطائنا دفعات قوية للعمل الجاد، دون أن توقعنا في شَرَك المتشائمين، الذين يظنون أن معدل اتساع الفجوة يتناسب مع حجمه، أي أنها تزداد بقانون أسّي، لأن هذا يؤثر على الحالة النفسية في مواجهتنا للتحدي الحضاري التقني.

وإذا كان الذين ينظرون للعلاقات الدولية بمنظار أسود، يعتقدون أن هذه الفجوة تزداد اتساعاً، بفعل فاعل من الدول الصناعية، فإن الذين يؤمنون بالاعتماد على الذات ـ ونحن منهم ـ يشعرون أن الفجوة تزداد اتساعاً لأسباب ذاتية محضة، ربما ساعدتها أسباب دولية، ذلك أن مشكلة التغيير العلمي والتقني، لا يمكن حلها أصلا إلا بجهود ذاتية، تستأنس بخبرة الذين سبقونا في هذا المضمار. وعلى الذين يظنون أن الذي يملك التقنية سوف يمنحها للذين لا يملكونها، لقاء مال أو طاقة تباع، أن يدركوا الحقيقة المجردة، وهي أن التقنية لا تمنح لأمة غير آخذة بأسبابها، ولكنها تستنبت بذوراً، فتنمو في أمة قد أعدت لها أرضاً، وتموت تحت السطح في أمة أهملت رعايتها: وتلك الحقيقة لا تعني تشكيكاً في عطاء الدول الصناعية بقدر إقرارها لواقع معاصر ملموس.

- آن لنا أن نعترف: بأن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين.

- آن لنا أن نعي جيّداً: أنه لن يمكننا الحصول على دقائق التقنية المعاصرة، حتى ولو دفعنا من أجلها المال الوفير.

- آن لنا أن نصدق أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب.

- آن لنا أن نؤمن، بأن ما يسمى بنقل التقنية من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة، هو فرية كبرى، صدقتها شعوب العالم الثالث وظنت معها أن التقنية سلعة تبيعها لها الأمم المتقدمة بقدر من المال.

- آن لنا أن نعتقد أن التقنية لا تنقل، ولكنها تستنبت بالجهد والمجاهدة، وتستوعب بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم نقل التقنية أن يستيقظ على الحقيقة.

دعونا نزيد هذا الأمر إيضاحاً فنضرب مثلا بصناعة السيارات، المعروف أننا لا يمكن أن نصنع سيارة، من غير أن نتعلم كيف نصنع ترساً، من تروس نقل الحركة. صحيح أن الكتب العلمية، تمتلئ بالمعلومات النظرية، والنظريات العلمية عن كيفية صناعة ترس، ولكن لابد أن يجيء المهندس، ليحوّل هذه المعلومات إلى روتين، يقوم الفني بتبسيطه للعامل ليصنعه، وقد ينشأ عن ذلك مشاكل في التصنيع، فيرفعها المهندس لمجموعة التطوير إلى حلول علمية ، لمادة الترس، ومعالجتها الحرارية، وطريقة تصنيعها، ويترجم المهندس ذلك كله في خطوات واضحة للفني، ليتولى الأخير تنفيذها، بعد ذلك مع العمال.

إننا نصنع تروساً في بعض بلادنا العربية، ولكن الشكوى الدائمة منها هي: أن المعاملة الحرارية لسطوحها رديئة جدا، إذا ما قورنت بالتروس الأوروبية، أي: أن هناك دقائق في الصناعة الأوروبية، لا يمكن أن نحصل عليها، إلا إذا وفقنا إليها، عن طريق العلم والتجربة، فأوروبا لن تمنحنا السر التقني، للتركيبة المعدنية لمادة الترس، التي جعلته متفوقاً، مهما أغدقنا عليها من المال.

إن عمليات التدريب، والتعليم، والتصنيع، عمليات ذاتية، تنمو ببطء أولاً، ثم تصل بعد ذلك معها إلى نمو أسّي، مما يجعل المراقب لهذه العمليات في أولها، يظن أن معدل التغيير الأولي البطيء، لن يغلق هذه الفجوة أبدا، في حين لوجدّت الأمة إلى أن تصل إلى تغيير المعدل، لوجدت نفسها تتقدم بسرعة باهرة، من شأنها أن تغلق هذه الفجوة، في زمن قصير.

ويمكن لنا أن نضرب الأمثال بأمريكا، التي لحقت بأوروبا في فترة قصيرة، عندما أكدت عزمها على التطور بتخطيط متقن، وعمل متصل، وإمكانات هائلة، واليوم تلهث شعوب أوروبا وراء التقنية الأمريكية، وتقترب منها، ولا تكاد تلحقها. ويمكن أن نقول ذلك على التقنية الأمريكية، تجاه بعض التقنيات اليابانية، ولك أن تتعجب، ولك أن تندهش.

وإذا كنا ما زلنا في أول الطريق، ومازال معدل تغير الفجوة العلمية والتقنية بطيئاً، والفجوة تزداد مع الأيام، فعلينا أن ندرك، أن ذلك ليس لتقهقرنا، بل للتقدم السريع الذي يحرزه العالم الصناعي، وذلك كله مفهوم في ظل ما قدمناه، لأننا نؤمن أننا سوف نصل يوما ما إلى نقطة التحول إلى المعدل الأسرع وحينئذ تبدأ الفجوة في الانغلاق.

ولكن علينا أن نتعرف على تجارب الأمم من قبلنا، لنتعلم منها، كيف استطاعت أن تتقدم علمياً، وتقنياً وتضيّق الفجوة العلمية والتقنية، والتي تفصلنا عن عالم الغد.

تجارب الأمم من قبلنا

إن تجارب الأمم الأخرى في هذا المجال، ميدان رحب، ندرسه ونمحصه، ونأخذ العبرة منه، لنحدد الطرق في هدي تلك الدراسة، ولا نقول: بنقل تجارب غيرنا، لأننا نؤمن أن التقنية ما هي إلا غرسة أو شتلة، تغرس في أرض سبق حرثها، ينمو الزرع فيها برعاية أبنائها، وقد يكون من المناسب أن نستفيد من تلك التجارب، ولكن تبقى مسؤولة الأبناء في تمهيد التربة والغرس والرعاية هي الأساس.

الأمة اليابانية:

وقد تكون أولى تلك التجارب وأهمها، هي تجربة اليابان الرائدة، وهي اليوم في الصف الأول، بين الدول الصناعية، في الوقت الذي نجد فيه الهند والصين، تسعيان لإيقاف اتساع الفجوة، بينما تقف دول العالم الثالث، على حافة فجوة علمية وتقنية، بينها وبين دول العالم الصناعي، لم تستطع بعد من تغيير معدلها.

ماذا فعلت اليابان؟

تحضرني هنا كلمات للأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (( حديث في البناء الجديد )) يقول فيها:

((إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنها استوردت منها الأفكار بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص )).

ومع ما في هذا التشبيه من دقة في القول، فإن اليابان استوردت من الأفكار، ما يتلاءم مع تربتها الاجتماعية وبخاصة الأفكار التي تثري التقنية، أي : أنها جردت الأفكار من أي مضمون اجتماعي أو ثقافي، واستخلصت منها ما يتلاءم مع تطورها، وتقنياتها، فلم تجر وراء نماذج تطبقها، ولم تستورد خبراء من الخارج، ليقوموا بالعمل عوضا عن أبنائها، ولكنها توسعت في الابتعاث للخارج، ليتفاعل أبناؤها مع الحضارة الغربية، ولينهلوا من العلوم الحديثة، وهم في ذلك في شغل شاغل للإجابة عن سؤال مهم هو:

ما سبب تقدم تلك البلدان علينا؟

لقد تبنت اليابان أكبر حركة للترجمة، شملت جميع المعارف والعلوم، فكانت النتيجة انصهار الأفكار مع إمكانات الإنسان الياباني، بتقاليده، وتراثه، وقيمه، في بوتقة واحدة، نقلت المجتمع الياباني إلى الصف الأول وبدون خسائر تذكر.

واليابان دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، ولكنها غنية بالإنسان الياباني الملتزم، المشغول دائما بقضية وطنه.

لما سئل (دوكو ) أبو الاقتصاد الياباني عن عبقرية الشعب الياباني كان من رأيه(1 ):

((إن المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما.

وعمال المصنع قد ولدوا ليموتوا في داخله. وإذا ترك الواحد منهم هذا المصنع، فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس، وإذا حاول أحد عمال هذه المصانع، أن يذهب إلى مصنع منافس، فان المصنع لا يقبله لأن العائلات أسرار، والعائلات اليابانية تتنافس، ولكنها لا تتصارع، إنما تتفوق على المصانع الأوروبية والأمريكية، من أجل رفاهية وعظم الشعب الياباني كله )).

وقد يكون أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان، وعلى أرضها وقفت اليابان بإباء وشموخ، حتى بعد أن تعرضت لنكبة التدمير بالقنبلة الذرية في (هيروشيما )، وتخطت العقبة، ولم تتوقف، وبدأت مرة أخرى تدرب شعبها، تطوره، وتعلمه.

ولا أدري لماذا تلح عليّ قصة المواطن الياباني، الذي استطاع أن يسهم إسهاماً عظيما في نهضة بلده اليابان، التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر أمة حائرة، تتلمس طريقها، حتى إنهم أرسلوا بعثة إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل يبحثون عن أسباب تقدم مصر عليهم، وأتأمل اليوم في حالنا وفي حالهم، وأتلمس الإجابة في قصة هذا الياباني، الذي يمثل ظاهرة العمل، التي قفزت باليابان من دول العالم الثالث، إلى دولة صناعية كبرى، ولله في خلقه شؤون.

ورجل قصتنا اسمه ((تاكيو أوساهيرا ))، وندعه هو يحكي قصته كما رواها وليام هارت، ونقلها عنه الأستاذ حسين مؤنس، في مقالة له نشرتها مجلة ((أكتوبر )) المصرية، بالعدد رقم 234 وتاريخ 14 يونيه 1981م

يقول أوساهيرا، وكان في هذا الوقت مبعوثا من قبل حكومته للدراسة في جامعة هامبورج بألمانيا:

((لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني، الذي ذهبت لأدرس عليه، في جامعة هامبورج، لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى ((موديل ))، هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنعه، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها. وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أياً كانت قوته، وكأنني أقف أمام لغز لا يحل ، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركاً، قوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر. وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا، لغيرت اتجاه تاريخ اليابان. ))

وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة حصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس، وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك، وأعيد تركيبها، بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر ((موديل )) الصناعة الأوروبية.

وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت منظر المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة، رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.

وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت، الآن لابد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ، وتصححه، وتجعل هذا المحرك، العاطل يعمل، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام. عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدى، صنعتها بالمطرقة والمبرد … إننى بوذي على مذهب ((رن ))، ومذهبي هذا يقدس العمل، فأنت تتعبد إذ تعمل، وما تعمله بعد ذلك من شيء نافع، يقربك من بوذا .

بعد ذلك قال رئيس البعثة ـ وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحيا ـ قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك، التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلاً من أن أعد رسالة دكتوراه، كما أراد مني أستاتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر معادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.

قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل، كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.

وعلم ((الميكادو )) بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات. وعندما أردت شحنها إلى اليابان، كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلنا إلى ((نجازاكي )) قيل لي: إن ((الميكادو )) يريد أن يراني. قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً.

استغرق ذلك تسع سنوات. وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ووضعناها في قاعة خاصة، بنوها لنا قريباً منه، وأدرناها، ودخل ((الميكادو ))، وانحنينا نحييه، وابتسم، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة.

هكذا ملكنا ((الموديول ))، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب، ثم ذهبنا وصلينا في المعبد، وبعد ذلك نمت عشر ساعات كاملة لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.

انتهت قصة ((تاكيو أوساهيرا ))، قصة مدهشة حقاً أعظم ما فيها هو هذا الانتماء الكامل للوطن، والاستسلام المدهش لحاجته الحقيقية، والعشق الواضح، للعمل المنتج.

قد كانت حاجة الوطن إلى ((موتور ))، أهم وأعظم من شهادة دكتوراه، يعود بها ليتبارى ويتفاخر.

وانظر كذلك إلى أمره، يعتذر عن مقابلة ((الميكادو ))، قبل أن ينجز لأمته شيئا، لأنه اعتبر تلك المقابلة، شرفاً عظيما لا يستحقه، من لا يقدم لأمته عملا منتجا، ومجهوداً واضحاً.

تلك هي الروح الحقيقية لبداية انطلاق اليابان، لم تشغل أبناءها المسميات، أو المناصب، وإنما شغلتهم أهداف سامية للنهوض باليابان، وشغلتهم معرفة أسرار التقنية، وليس نقلها، ليس من الغريب إذن، أن ترسل اليابان إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل بعثة لتدرس أسباب تقدم مصر عليها، ولتقف اليابان موقف التلميذ من مصر تتعلم وتستفيد، وكذلك كان موقف اليابان من الحضارة التقنية الغربية.

قد أكد هذا الفهم ((تاكيشى هاياشي )) في بحثه الممتع عن ((الخلفية التاريخية لنقل التقنية، والتحولات، والتطورات في اليابان ))، وهو بحث قمت بترجمته إلى اللغة العربية بشيء من التصرف لا يخل بالمعنى، ويجد القارئ الترجمة كاملة من الفصل السادس من كتاب ((إنتاجية مجتمع )) (1 ). ومن الممكن أن نستخلص منه الحقائق التالية عن تجربة اليابان:

1- أدخلت اليابان العلوم والتقنية الغربية على مرحلتين.

الأولى عن طريق استيراد البضائع التامة الصنع، ولما لم تُجْد تلك الطريقة، انتقلت إلى مرحلة أخرى، حيث تم بذل الجهود لاستنبات التقنية، عن طريق إعادة إنتاجها، واستنساخها، وصرفت اليابان جهودها إلى تعلم طرق التشغيل، والإصلاح، والصيانة، للآلات المستوردة، حتى أصبحت تقوم بإنتاج آلات شبيهة بالآلات المستوردة، ولكنها تتلاءم مع احتياجاتها. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تفكيك قطار كامل، تم تصنيعه في الولايات المتحدة، بعد تسلمه مباشرة، وصناعة آخر شبيهاً له.

2- سبقت التقنية الحربية مختلف التقنيات الأخرى، في دخولها إلى اليابان، وقد كان ذلك رد فعل للتدخل العسكري من القوى الأجنبية الذي ارتبط مباشرة بالتهديد الاقتصادي، وتحت هذا التهديد، كانت صناعة المدافع، والسفن الحربية، أسبق الصناعات، بل إنها كانت القاعدة، التي انطلقت اليابان منها، برصيد واسع من الخبرة فيها، عندما أقامت عدداً آخر من الصناعات، كما حدث في مصنع سك النقود، فقد كانت المعالجة الكيمائية للمعادن، والتي اكتسبت اليابان خبرة واسعة فيها، في مجال صناعة المدافع، أكبر مساعد في نجاح تلك الصناعة.

3- بدأت عمليات التصنيع الرئيسة في اليابان، بالصناعات الثقيلة، كصناعة الحديد والصلب والآلات، وخطوط السكك الحديد، وهي في ذلك تختلف عن أوروبا التي بدأت بالصناعات الخفيفة بعد الثورة الصناعية، ولم تكن التجربة اليابانية سهلة، ولكن التصميم على الهدف، كان دافعاً لهم على المواصلة، وقد حدث ذلك عند إقامة مصنع الحديد والصلب، فقد حاولت الاستعانة بأحد الخبراء الإنجليز، ولكن المصنع فشل، ثم عاودت الكرة مع الخبرة الألمانية، وفشلت مرة أخرى، حتى استطاع الخبراء اليابانيون حل المشكلة، واستفادت اليابان من ذلك درساً مهماً، هو أن مجرد نقل التقنية المتقدمة، وإعادة تطبيعها لا يؤديان إلى الهدف، كما أنها انتهت إلى محدودية فعالية الاستعانة بالخبراء الأجانب.

4- كان من أهم عوامل نجاح التجربة اليابانية، اكتشافها حقيقة إجراء التغيرات الملائمة للظروف العملية على التقنية المستوردة، لكي تتلاءم مع ظروفها المحلية. وعلى سبيل المثال؛ فإنها في صناعة الغزل والنسيج، اتخذت طابعاً خاصاً بها يتلاءم مع طبيعة السكان، والمادة الخام بها، برغم أنها استفادت من خبرة العديد من الدول في هذا المجال.

تلك حقائق أمكن استخلاصها من البحث، ويهمنا أن ننقل عبارة قيّمة أنهى بها البروفسور ((هاياشي )) بحثه وهي:

(( من المهم للتنمية البشرية والاجتماعية ألا تطبق التقنية بسذاجة، ولكن ينبغي مواءمتها بعناية، ويمكن مواءمة التقنية إذا استخدمت لإنتاج بضائع مناسبة، وإذا أمكن لها أن تجد أسواقا مناسبة )).

الأمم الأوروبية:

وأوروبا، ماذا فعلت في سبيل سموها التقني؟ إن دارسة تاريخها بعمق ودراية، يكشف عن حقيقة أساسية، هي أن الثورة الصناعية التي قامت فيها، لم تكن سوى وليدة لاتجاهها نحو العلم التجريبي، الذي صنعه العلماء المسلمون، ومن خلال المعابر العديدة، التي انتقلت عليها الحضارة الإسلامية. حدث ذلك في ذات الوقت تقريبا الذي طلق المسلمون فيه أنفسهم من العلم التجريبي.

لم يذهب المسلمون إلى أوروبا ليشعلوا الثورة الصناعية، ولكن أوروبا وقفت من الحضارة الإسلامية موقف التلميذ، تعلمت، وترجمت، واستوعبت، ثم أبدعت تقدما وحضارة، باسقة، أصبحت وكأنها غريبة عنا، برغم أنها نتاج تراثنا العلمي ولكننا أضعناه.

لقد أمضى الغرب زهاء أربعة قرون، ليبني قلاعه العلمية والتقنية، والقاريء الموضوعي لتاريخ الإنسانية، لا يملك إلا أن يعترف، بأن أعمال العلماء العرب والمسلمين، تحتل أنصع صفحات التراث العلمي العالمي، فقد كانت تلك الأعمال الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية، إذ أن جذور شجرة الحضارة العلمية المعاصرة، تمتد إلى عصور السمو في الحضارة العربية الإسلامية، حين ازدانت تلك العصور بمئات من العلماء العرب والمسلمين، الذي تقرن مساهماتهم بأعاظم العلماء في كل عصر لقد كان لابد من ظهور (ابن الهيثم )، و(البيرونى )، و(ابن سيناء )، و(الخوارزمي )، و(الرازي )، و(الزهراوي )، و(الغافقي )، و(ابن يونس )، و(الصوفي )، و(الكندي )، و(ابن رشد )، و(ابن زهر )، ومن إليهم، لكي يتسنى ظهور (كبلر )، و(كوبرينق ) و(نيوتن )، و(دالتن )، و(أنشتاين )، و(ديكارت )، ومن إليهم. تلك حقيقة، نذكرها بكل فخر، ونشير إليها بكل اعتزاز، لنوقظ بها المشاعر، ونحفز بها الهمم، ونحيي بها النفوس.

نقول: قد أمضى الغرب أربعة قرون، ليبني حصونه العلمية، ويحقق منجزاته التقنية .. وكان لكل فرع من فروع العلم والتقنية، مسيرة معينة، تتميز بفترات التكدس والاستيعاب، ثم فجائيات الإبداع. دعونا ندلل على ذلك الأمر، ونزيده توضيحا، بأن نضرب مثلا بفرع من فروع المعروفة، يعتبر العمود الفقري للتقنية المعاصرة، وهو علم (الميكانيكا ) في عصر ما قبل العالم ((كبلر )).

كان علم ((الميكانيكا )) عبارة عن مجموعة معلومات مكدسة، عن حركة النجوم والكواكب، لا يستبين الإنسان قوانينها، ثم جاء ((كبلر )) واستخرج منها قوانينه الثلاثة المشهورة، فاستغنت الإنسانية على يديه، عن هذا الركام الضخم من المعلومات، واستبدلت به ثلاثة قوانين، لا تشغل أكثر من نصف صفحة، تهتم بمسار جسم، تحت تأثيره قوة جذب مركزية. وفي الفترة ما بعد ((كبلر ))، كان علم الميكانيكا يزداد بطريقة تكدسية، معلومات متفرقة، عن أشياء لا يبدو واضحا ما يحكمها من قوانين، حتى جاء (إسحق نيوتن )، فأحدث باكتشافه لقوانين الحركة الثلاثة، فجائية إبداعية، كانت من بين الأسس العظيمة التي بنى الإنسان عليها حضارته العلمية والتقنية المعاصرة. عن قوانين (نيوتن ) الثلاثة لا تصف حركة الكواكب والأقمار في مساراتها فحسب، وإنما تصف ديناميكية التحرك لكل الأجسام، تحت تأثير أي نوع من القوى.

واستمر علم ((الميكانيكا )) بعد ذلك، في حالة تزايد تكديسي دونما طفرة، حتى جاء ((أينشتاين ))، فعمم قوانين ((نيوتن ))، في طفرة إبداعية أخرى، بحيث أصبحت قوانين ((أينشتاين )) قادرة على وصف حركة الأجسام الدقيقة، ذات السرعات العالية، التي تقترب من سرعة الضوء.

ومنذ أن نشر ((أينشتاين )) بحثه عن النظرية النسبية الخاصة، في عام 1905م،وحتى الآن، يتزايد علم الميكانيكا تزايداً تكديسياً، في انتظار طفرة إبداعية جديدة، تأخذ الإنسانية إلى مجالات أرحب من التقدم والسمو.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:55 PM


استخلاص العبرة:

إذن فإن موقف اليابان وأوروبا يتخلص في أنهم سعوا إلى تكديس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض البناء. أما الدول النامية في حركتها الحالية، فإنها تكدس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض الاستهلاك، وعلى أحسن الفروض، بغرض المباهاة والتظاهر، دون مضمون، ودون بناء.

والعبرة التي يمكن استخلاصها بجلاء من ذلك هي: أن الأمم في مدرسة الحضارة كالتلميذ في مدرسته. في العملية التعليمية، يمر الطالب بثلاث مراحل رئيسة هي::

مرحلة التكديس: وهي مرحلة التلقي للمعلومات، تتراكم لديه يوما بعد يوم، بصورة غير مرتبة، أو منتظمة، ومتعددة المجالات، تليها:

مرحة أخرى، تتضح فيها الصورة في ذهن الطالب، ويتم ترتيب المعلومات بشكل أفضل حيث يبدأ في تكوين علاقات بينها، تساعده على الهضم أو الاستيعاب، ويمكن تسمية تلك المرحلة بمرحلة الاستيعاب، تليها

مرحلة الإبداع: حيث يستطيع الطالب أن يعطي فكرا جديد يختلف عما تلقاه، ولكنه ينبع من جوهره، ويرتكز عليه.

وهاكــــم التفصيل:

مراحل التدرج الحضاري

مرحلة التكديس:

تتميز مرحلة التكديس الحضاري للأمة ـ أي أمة ـ بأنها ذات معدل بطيء للنمو، يصل إلى قيمة ظاهرية، تبدو العملية معها وكأنها لا تتحرك، مما يسبب ضغوطا لكثير من الأفراد فيستسلموا لليأس، وربما لاذوا بالفرار، ليعيشوا في أمة، تعيش مرحلة متقدمة.

وعلى الأمة أن تدرك، أن بطء النمو في هذه المرحلة، أمر طبيعي جداً، فهي مرحلة غرس، لا جني، يجب أن تصبر عليها، وتتواصى بهذا الصبر، حتى يثبت الرجال، وراء القدوة الصابرة، الثابتة في مواقعها، غير المستعجلة ثمار جهادها، المتمثلة دائماً بالقبول المأثور الذي سبقت الإشارة إليه من قبل، ونعيد رصده للتذكير:

((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ))

فإذا كان هذا الأثر، هو شعار مرحلة التكديس، فإن الأمة تستطيع أن تمر بهذه المرحلة من غير ضغوط نفسية مدمرة، ومعوقة لعمليات النمو ذاتها.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الضغط النفسي، في مرحلة التكديس، من أخطر الأمراض الحضارية، التي تصيب معظم شعوب العالم النامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث،حيث يظن مثقفو هذه الشعوب ـ وهم يرون الفجوة الزمانية كأنما تزداد اتساعا ـ أن لا أمل في اللحاق،. ويفقدون الثقة في أنفسهم، وتضطرب خطاهم على طريق الحضارة، ويفرون من الواجب، ليبحثوا لأنفسهم عن ملجأ حضاري، خدعهم بريقه، ويتركوا من خلفهم شعوباً، تجد نفسها تزداد تخلفا بفرارهم عنها، فكلما أعدت الأمة صفوة من أبنائها لعمليات البناء، فقدتهم، فتخسر المال، وتخسر الزمن بخسارة الرجال.

لذا فإننا نود أن نؤكد مرة أخرى: أن معدل النمو البطيء، في مرحلة التكديس، لا يعني ضياع الجهد، وانما هو ((جهد مكنون ))، أو لنقل بلغة العلماء: إنها طاقة وضع، وليست طاقة حركة، يمكن للأمة استردادها كطاقة حركة، في الخطوات التالية لمرحلة التكديس.

مرحلة الاستيعاب:

إذا تجاوزت الأمة التكديس بثبات، وصبر، وحزم، وإصرار، حيث تكون قد تكدست في وعائها الاجتماعي طاقات علمية، وتقنية، وروحية، وشحذت بذلك الفعالية الاجتماعية للإنسان شحذاً كبيراً، إذا انتهت من هذه المرحلة، التي تتميز بالبطء فإنها تقبل بذلك على مرحلة جديدة، تتميز بسرعة أكبر للنمو، هي مرحلة الفهم، والاستيعاب. في هذه المرحلة الجديدة، تبدأ الأمة في فهم العلاقات العضوية، بين الطاقات المكدسة في وعائها الاجتماعي، فتكشف لنفسها، وبنفسها ما تم اكتشافه في أمم أخرى لتصل إلى الجوهر، بين الركام المكدس، ويعطيها ذلك قدرات جديدة.

حيث سيكون انطلاقها من الجوهر، لا من الركام المكدس، وحيث تكون الأمة تعرفت على قوانين التحضر، لا على نتائجه فحسب، فتصبح عندها القدرة على الخطو بثقة في ميدان الحضارة، وهي غير منبهرة بالركام المكدس، وإنما عاشقة للجوهر، متفاعلة معه.

مرحلة الإبداع:

قلنا: إن الضغوط النفسية نبدأ في الانقشاع عن ضمير الأمة، في مرحلة الاستيعاب والفهم، حيث تجد الأمة نفسها وجها لوجه، مع الينابيع الأساسية للإبداع الإنساني المعاصر، وتسرع حينئذ مسيرتها رويداً رويداً، فكلما حققت نصراً، زادها ذلك ثقة ورسوخاً، فإذا واصلت العمل، مدركة لكل مقومات قيام الحضارة، ومتطلباتها، فإنها ستصل لا محالة، إلى مرحلة الإبداع، حيث يصبح معدل نموها أُسِّياً متزايداً، ونعني بـ (النمو الأُسِّي ) هنا، أن يحدث تطور سريع، ومبدع في فترة زمنية قصيرة نسبياً، إذا قيست بمقدار التطور والنمو الذي حدث خلالها. والمتتبع لمسار الحضارة الغربية المعاصرة، يلحظ أن فترة الإبداع المادي، في هذه الحضارة، تميزت بأن صَاَحبَ نموها الأُسِّي المتزايد، آخر، حدث في العلاقات الاجتماعية، والتصورات الكلية للمجتمع، حدث هذا التغيير بسرعة مذهلة، فاقت سرعة فكر قادة هذه الحضارة وعلمائها وحكمائها، واليوم تعيد الحضارة الغربية حساباتها، لترى أين كان الخطأ في وجهتها؛ بل لقد بدأ ينظر كل إنسان اليوم في الغرب، في العلاقات الأساسية التي تربط ما حدث من تقدم في العلوم؛ بالمجتمع، وما يحمل من عقائد وقيم، وأصبحنا نرى أقساماً علمية جديدة في معظم جامعات أمريكا، تدرس التفاعل بين التقدم العلمي والتقني، وبين المجتمع والدين.. في محاولة منهم لاستدراك الآثار الجانبية لهذا التقدم الأُسِّي في الحياة المادية، على المجتمع وقيمه.

إن هناك كثيراً من الناس، ممن يرون آثار الحضارة الغربية السيئة، أو يسمعون عنها، فيتنبأون متعالمين بهلاك هذه الحضارة وحتمية فنائها. إن الآثار السيئة للحضارة الغربية هي آثار طبيعية، برزت نتيجة لانحياز تلك الحضارة إلى الجانب المادي، وابتعادها عن القيم الروحية، التي ما زالت تظهر على استحياء في المجتمع الغربي. ووجود هذه الآثار السيئة في الحضارة الغربية، لا يمنعنا من الاعتراف، بأن هذه الحضارة تزخر بالحياة، قوية فتية، وحسب مفكروها فخراً، أنهم هم الذين اكتشفوا آثارها السيئة، وبدأوا يحاولون تداركها لحماية المجتمع منها.

ويهمنا أن نأخذ العبرة مرة أخرى، من غيرنا، في محاولتنا التعرف على المنحنى الزمني للحضارة، ومعدل تغيره، والتزامنا بما تؤكده العقيدة الإسلامية من مسؤولية الإنسان في خلافته على الأرض، لعمارتها بالعمل الصالح، والجهد المثمر، والعطاء المبدع، لنصل إلى توازن، بين التقدم المادي بكل ما يحمله من ترف، ورغد، ورفاهية، وبين المحافظة على مبادئ الحق وقيم الخير، بكل ما يترتب عليها من تضحيات وتقشف والتزام.

ولسائل أن يسأل: كيف يمكن لأمتنا أن تنحو منحى الأمم اليابانية والغربية في استيعاب حضارة العصر، والانطلاق بها إلى رحاب أوسع، من العطاء والإبداع بما يحقق خدمة الإنسانية، وقيمها الصالحة، ويعيد لأمتنا سالف مجدها، ويحقق لها مكانتها السامية، لتكون بحق وصدق أمة أخرجت للناس؟!

باختصار نقول:

إننا في محاولة تدريب مجتمعاتنا الناشئة تقنياً، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار، المسار التاريخي لتطور العلوم والتقنية، في الغرب واليابان، فالأمة الجادة تستطيع أن تختصر 400 عام من تاريخ التطور العلمي والتقني للعالم الغربي إلى 40 عاما، أو أقل، لكنها لا يمكن أن تستسيغ الحضارة التقنية المعاصرة دفعة واحدة، مهما أوتيت من مال.

قد أخذت الحضارة الغربية، أربعمائة عام لتصل بتقنيتها إلى حالتها الحالية، وحققت ذلك من خلال الإصرار على تزاوج العلم والحِرُفة.

ونحن يمكننا أن نختصر هذه المدة إلى عشرها، أو أقل، شريطة أن نلتزم بتزاوج العلم والحرفة زواج تأبيد، وأن نتبصر بالتتابع الزمني، في عملية تدريب الأمة على الحرف والتقنيات المختلفة.

إننا نستطيع أن نسقط عمر الحضارة العلمية والتقنية المعاصرة، على عمر الإنسان في أمتنا فنبدأ معه منذ الطفولة، نعلمه مثلا كيف تنتقل الحركة بالتروس والسيور؟ وكيف نصل الأشياء بعضها ببعض؟ أي: نعلمه نظرية الآلات مبسطة، حسب إدراكه وسنه، متطورين معه كما تطورت الحضارة في طريقها الطويل.

علينا أن نغرق مدارسنا، في جميع مراحل الدراسة بنماذج علمية، وألعاب تقنية، ونفسح المجال أمام أطفالنا وطلابنا لكي يقضوا وقتا، مع هذه النماذج والألعاب، ليتدربوا عليها، ويلتصقوا بها، فيعشقوا العمل المهني من الصغر، ليكبر معهم، ويكبروا معه، ونكون بذلك قد وضعنا الأساس السليم والقوي، لقيام صناعة وطنية، كما أننا نزيل عن أنفسنا عناء الاعتماد على الغير من القادمين من خارج الحدود، فنعين مجتمعنا على القليل من استيراد العمالة من الخارج فنحميه بذلك من مشكلاتها، وتبعاتها.

إن الوصول بالإنسان العربي والمسلم ـ طفلاً وشاباً ـ إلى المستوى المطلوب منذ نشأته، ودخل مدرسته، وفي المنزل، يحتاج إلى إعادة نظر جذرية في مناهج التعليم، وطرق تدريسها، كما يحتاج إلى إنشاء نوادي للعلوم في المدارس والجامعات يلتحق بها الطالب بغض النظر عن تخصصه الدراسي.

ولكن هذا يستدعي تطوير أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وبرامجنا التعليمية. كما أن الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف، لبناء أجهزة متمكنة، متخصصة، تعنى بهذا النوع من التعليم الحرفي للناس عامة، ومن رغب من خاصتهم.

ضرورات استنبات التقنية المعاصرة، وأسسها

على أن هناك ضروريات ومفاهيم وأسس لابد من مراعاتها، واستيعابها، وفهمها في عملية الإدراك الكامل للحضارة التقنية المعاصرة نوجزها فيما يلي:

* إدراك الأصول، والطرائق، والنظم الحاكمة للتقنية المعاصرة، هو الجوهر والمنطلق، أما الدقائق والتفصيلات، فهذه لا يمكن لأصحابها منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.

* التأكد من عدم انفصال حركة العلم في المجتمع، عن الحالة التقنية فيه، وذلك بضبط إيقاع تطور الحركة العلمية، حتى لا يسرع كثيرا، ويبتعد معه العلم عن التقنية بصورة كبيرة.

* ضرورة توافر قلة من المتخصصين، في الجامعات ومراكز البحوث، تستنفر للعمل عند مشارف العلوم، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني.

إن هذه الضروريات والمفاهيم، التي أسلفنا ذكرها، ستضع شروطا جديدة، على أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وخططنا التعليمية، والصناعية. وفي هذا المضمار نورد التوصيات التالية.

شروط الاستنبات

في مجال التعليم والتدريب:

1- ارتباط التعليم بمهام اجتماعية مطلوبة، تحدد آفاقه كماً، ونوعاً، أي، بمعنى آخر: علينا أن نجيب على السؤال التالي:

* أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟

بدلا من الإجابة على السؤال المعكوس القائم فعلا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟

2- ترشيد الإقبال على الكليات النظرية، وحصرها فقط بالموهوبين، وحسب الحاجة.

3- إعادة تدريب الأعداد الغفيرة، من خريجي الكليات النظرية، التي لا تقوم بعمل فعّال مطلوب لإعدادها للقيام بوظائف اجتماعية فاعلة.

4 - العمل على تقنية التعليم الثانوي، بإدخال عدد من الحِرف، والصناعات عليه، وأن يتبع ذلك تعديلات جذرية، في المراحل السابقة عليه، والمراحل اللاحقة له، من خلال خطة واضحة، وبرامج محددة.

5- نشر معاهد الحِرف، والمهن، والكليات التقنية المتوسطة، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي، والنوعية الجيدة.

6- المحافظة على الحِرف، والمهن، والصناعات التقليدية، التي ما زالت موجودة، وتشجيع أربابها بشتى الطرق والوسائل.

7- دارسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات، بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.

في مجال التشغيل والصيانة:

1- الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات المستهلكة، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، لإتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة والتشغيل، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه ليتعلم منها، ويتدرب عليها، بعد أن يستوعبها تشغيلا وصيانة.

2- الدعوة لتعليم ((الصيانة العامة )) بتضمينها خطط التوعية، والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات بهدف ترسيخ مفاهيم العمل اليدوي المنتج.

3- إعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات، ودور العلم، ومعاهد الأبحاث، وإيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا.

4- مطالبة الورش، والمصانع الوطنية، بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها وإثارة الوعي العام، لعمل نماذج، وصناديق هوايات، تتعلق بالمنتج الوطني.

5- دعوة وزارات الصناعة، بالتعاون مع ورش كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني لإعداد دورات تدريبية، عن المنتوجات الشائعة حدا في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وإصدار كتيبات مبسطة، عن طريقة تركيبها، وصيانتها، توزع مجاناً.

6- التقليل من تدفق استيراد أدوات ومعدات الاستهلاك، التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، كي لا تصبح عبءًا على المجتمع، لمحدودية عدد المتخصصين في هذه الصيانة.

7- صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:

أ - استيراد المعدات والأجهزة والأدوات، وحق صيانتها.

ب - توثيق العلاقة بين ملكية وتشغيل وصيانة المعدات، والأجهزة، والأدوات.

8 - التركيز في منظومة الصيانة والتشغيل، على أجهزة ومعدات وأدوات الخدمات المختلفة، ليتمشى ذلك مع طبيعة المرحلة، التي ينال فيها قطاع الخدمات القسط الأولى من الدعم والرعاية.

9- تكوين الأطر البشرية، في مجال الإدارة، المستوعبة لأبعاد عمليات التشغيل، والصيانة، ودورها الحضاري.

10- إعداد دراسة علمية متخصصة بهدف:

أ - تحديد نوعية الصيانة المطلوبة وحجمها، في فترة مستقلة معينة.

ب - اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة، التي يمكن إقامتها سواء على مستوى الأفراد، أو مستوى المنشآت.

جـ ـ اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية، لعمليات الصيانة والتشغيل من خلال قائمة أولويات تحكمها.

في مجال التقليد والتطوير الصناعي:

1- التركيز على تقليد أدوات الإنتاج الضرورية، قبل تقليد أدوات الترفيه.

2- التركيز على أن يكون التقليد الصناعي موجهاً لاستغلال الطبيعة المحيطة بنا، كأدوات القنص والصيد وغيرها.

3- توجيه جزء من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، لتحويل بعض الرسائل العلمية، والأبحاث الجامعية، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.

4- تشجيع ودعم المصانع الوطنية، والورش الأهلية للتقليد الصناعي للمنتجات المستوردة.

5- رصد جوائز مالية مغرية لأفض منتج صناعي مقلد.

6- إلزام المصانع الوطنية، بإنشاء أقسام الأبحاث، والتطوير، حتى تسهل النقلة من التقليد إلى الاستيعاب، ومن ثم الإبداع.

7- توثيق الصلات بين الصناعة والجامعة، من أجل مشاركة الجامعيين في بحوث التصميم والتطوير، وفي مجالات التعليم المستمر، للعاملين في ميدان الصناعة.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:58 PM


منهج الخروج من المحنة


الآن وقد استبانت لنا محنة الإنسان المسلم، مع عصره وحضارته الباسقة، وبعد أن تحدد الشرطان اللازمان لخروجه منها، وبعد أن تأكد دور التقنية الحديثة في حضارة اليوم، وكيف نواجه تطورها ونواكب تقدمها. يبقى لنا أن نستعرض ما نعتقد أنه دراسة موضوعية ومنهج يحدد معالم طريق الخروج من المحنة، ومواجهة التحدي الذي فرضته حضارة باذخة مسيطرة بإنجازات تقنية هائلة، تُعمق الفجوة الحضارية، بين المسلم وعالمه المعاصر، إذ لا أقل من أن نبحث ـ ونحن نستمسك بعرى ديننا الحنيف ـ عن منهج يسد الفجوة، ويقيم جسور عبور لمركبة التنمية التي تحمل التقدم، والتطور، والنماء.

ركائز المنهج

يقوم المنهج الذي نقترحه على الركائز التالية:

الركيزة الأولى: شحذ الفعالية الروحية في الفرد والأمة:

إن قدرة أمتنا ـ وهي ترنو إلى وصل حاضرها الماثل، بماضيها المجيد ـ على شحذ الفعالية الروحية، وتحريك الدوافع، والبواعث، والنوازع، والكوامن في أرجائها ـ كافة، نحو المقاصد، والغايات، والأهداف، التي تصب بروافدها تجاه الإعداد الحضاري الواجب، هي قدرة موفورة مذخورة.

ومحور هذه العملية الروحية والحضارية، هو الإنسان، بل إن شئت فقل: إن الإنسان هو الخلية الحضارية الأولى، التي يجب تكوينها، وبناؤها، ورعايتها، المتناغمة مع شروط النهضة، وحيثيات الحضارة. إننا إذا اهتممنا بهذا الإنسان، ونمينا قدراته، وصقلنا مواهبه، ونفضنا عن عزيمته غبار التخلف، وشحذنا فعاليته، وفجرنا طاقاته، استيقظت روح العمل فيه، وتدفق عطاؤه، وغدا بإمكاناته الروحية والمادية مستعداً للتلقي والإبداع، وملاحقة العصر، ومواكبة حضارته، بنظرة ثاقبة، وبصيرة نيرة، وعزيمة وثابه، تتجاوز مظاهر الخمول والكسل، وجميع صور البريق والزيف، والجمود، والتقوقع، وعبر كل هذا إلى أمل الحضارة، ولب المدنية، وجوهر التقدم.

إن الروحية الخاملة لا مكان لها اليوم في دنيا الناس، ولا قيمة لها أبداً في آفاق الحضارة، ولا شك أن نصيب أمتنا من هذا الخمول الروحي أمر يفوق الوصف، فقد زحف على كل مقدراتنا ومقوماتنا الحضارية، حتى صارت منه وبسببه خراباً بلقعاً، وقد تم هذا مع الأسى والحسرة، وبين يدي أمتنا رصيدها الضخم، وميراثها العظيم، من هذه المقومات العملاقة، التي يفيض بها دينها في كل نص، وأثر، وشعيرة من آثارها ونصوصها، وشعائرها.

إن الروحيات الفعالة في النفس المسلمة، إنما ترتبط بصورة مباشرة بعمق الإيمان، ومقدار الإخلاص للعقيدة، والاستمساك بقيمها ومبادئها.

وإذا كان ولابد للفعالية من مثيرات، ومستحثات، ومكونات فإنني ألمح في طليعتها:

* البيت بدوره الأساسي المطلوب.

* المدرسة بمناهجها الدينية المتلاقية والمتناغمة، وطرائقها المؤثرة المنتجة.

* المناخ العام، الذي تسهم به وفيه سائر المؤسسات، والهيئات ذات التأثير المباشر كافة.

* القدوة الصالحة.

إن دور البيت في شحذ الفعالية الروحية، هو أول الطريق، حيث يبدأ في رحابه الإعداد والتهيئة، ثم المتابعة المباشرة، لعملية التلقي التربوي في المسجد، والمدرسة، والجامعة.

وإذا لم يمارس البيت دوره، فإن مجهود هذه المؤسسات يظل ناقصا مهما تعاظم، والفعالية تبقى قاصرة مهما ارتفعت.

والتربية الدينية في المدرسة، طليعة المصادر الأساسية، لتنمية الأشواق الروحية في الأمة؛ لذا فإن برامجها يجب أن تكون على مستوى نبعها الدفّاق، بإثارة هذه الأشواق وتنميتها، ثم على مستوى الواجب المأمول منها، من حيث تلقائية الحلقات، وتناغمها، وحيوية العطاء وديناميكية الأسلوب، ومعاصرة الحلول، واتساق العلاج للمشكلات العصرية، وجاذبية العرض، والتركيز القوي على عملية التعلم من جانب الطالب، دون عملية التعليم من جانب المدرس، والحرص على بساطة الأسلوب، وعمق المفهوم، مع البعد عن القوالب الجامدة، والأنماط العتيقة، وعلى أن يصب هذا بجميع روافده ومعطياته، في قاع الشبيبة، وعقول الناشئة، إيماناً، ونقاءً، وطهارة،ومناقب، ومحامد، وأخلاقاً، وسلوكاً، وقيماً، ومثلاً، تغدوا في حياتهم خير حافز لهم، وأعظم عنوان عليهم.

وأما المناخ العام، فإنما نعني به المصلحة الانعكاسية لعطاء سائر المؤسسات، والهيئات التربوية، والتوجيهية، والإصلاحية، ذات التأثير، المباشر، وغير المباشر، في تأصيل الانتماء، وتأكيد الولاء للدين، والأمة والوطن، وزرع ركائزه في النفس المسلمة، وبسط أروقته في أرجاء الأمة، وشتى مواقعها.

هذا المناخ العام، إنما يسوق المجتمع كله في مسار جمعيّ، ويتوجه به توجها جمعياً نحو الخريطة الحضارية المرسومة له. وهو وثيق الأواصر، بربه، ودينه، وقيمه، ومثله، ووطنه، ومجتمعه، يطوع لها حضارة عصره، أو يبدعها على هديه ووفق منظومته الحاكمة.

وأما القدوة الصالحة، التي تمارس دورها في شحذ الفعالية الروحية للأمة، فإنما نعني بها تلكم النماذج القيمة الرائدة، التي تقع على كواهلها، مهمة التغيير الديناميكي، عن طريق القيادة العملية، غير المنظورة، وغير المباشرة، والتي تتولى في نفسها، وبسلوكها، تجسيد المفاهيم، وترجمة القيم، والتعبير المثالي عن واقعيتها، دون جلبة أو ضجيج، ولكن بلغ واقعية مأنوسة اللهجة. إنها باختصار شديد، لغة العمل، ولهجة الواقع.

تلكم التي تفوق أبلغ المواعظ والدروس، وتختصر الطريق في مقام التربية والتوجيه، والتغيير، والإصلاح، والحضارة، والتقدم.

وتحضرني بهذه المناسبة قصة ذلك العالم القدوة، الذي آتاه الله ملكة الخطبة المؤثرة، ومقدرة الحديث المشوق، والذي كان بمثابة المحور الروحي للناس، يلتفون حوله، ويتعشقون سماعه، ويتلهفون إلى عظته، وما أن ينفض مجلسه، حتى يتطلعون إلى لقائه.

اقترب منه عبد ضاق ذرعاً برقه وعبوديته، وتاقت نفسه إلى الحرية، وهمس في أذنه برجاء أن تكون خطبة وعظه القادمة عن عتق الرقيق، لعل الله يهدي سيده ـ وكان من المواظبين على سماع الشيخ ـ فيتأثر بالخطبة، فيعتقه، فوعده الشيخ بذلك، وطال على العبد انتظاره في أن يبر الشيخ بوعده، حتى كان يوم تحدث فيه عن العتق، وما فيه من مثوبة وأجر، وما يناله المعتق من رضوان الله ومثوبته، وما يشعر به من سعادة وبهجة، وقد اقتحم العقبة، وفك رقبة، وحررها من إسار العبودية، وكان الشيخ كعادته موفقاً مؤثراً، حين لمس بحديثه شغاف القلوب، فنالت الموعظة من قلب سيد العبد مكانها فأعتقه، وتحققت أمنية العبد، ونالت نفسه بغيتها، فجاء إلى الشيخ الواعظ يشكره، ويحمد له صنيعه، ثم عاتبه على تأخره، في إنجاز وعده، حتى كاد اليأس، أن يبلغ منه مبلغه، فأجابه الواعظ بتأثر واضح: لقد كنت أملك عبد يقوم على خدمتي، ويقضي حوائجي، وأنا في هذه السن المتقدمة، وأردت أن أعتقه، واحتجب إلى كل هذا الوقت، لجمع المال كي أستأجر به من يؤدي عمله بعد عتقه.

لقد أراد الشيخ الواعظ، أن يبدأ بنفسه، قبل أن يعظ غيره، فجاءت خطبته بكل الصدق، والعمق، والتفاعل، وكان فعلاً، قدوة لسواه؛ حيث لم تنفصم عظته عن فعله.

والله تعالى يلفتنا إلى هذا فيقول:

(يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أنْ تقُولُوا ما لا تفعلون ) (الصف 2ـ3 )

وينعى على أهل الكتاب عدم التزامهم فيقول:

(أتأمرون الناس بالبِّر، وتنسون أنفسكم، وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (البقرة440 ).

ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم:

((يُجاء بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابُهُ، فيدورُ كما يدورُ الحمارُ برحاهُ، فيجتمعُ أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما شأنُك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروفِ ولا آتيهِ، وأنهاكم عن الشر وآتيه )) (رواه مسلم ).

ورغم الأهمية القصوى، لشحذ الفعالية الروحية، في مرحلة الإقلاع الحضاري، فإن الحاجة لهذه المهمة تظل قائمة، لاستمرارية الحضارة، وعندما تنسى الأمة هذه المهمة، تبدأ مشاكلها مع البقاء.

ولكن من الذي يقوم بمهمة شحذ الفعالية الروحية، بعناصرها الأربعة السالفة في الأمة؟

إنها مهمة النفر القدوة المؤمنين، الموقنين، والقادرين، على مخاطبة عقول الأمة، وإيقاظ مشاعرها، وتشخيص عللها، وتوصيف الحلول العملية لمشكلاتها، حتى توجد لديها القدرة، على مواجهة تحديثات الحضارة، ومعطياتها الجديدة، وتتوافر عندها الإمكانات لترجمة رسالة الإيمان إلى تصور ذهبي، وسلوك حضاري، يُعني بالقدوة ، أكثر مما يضيء بالفلسفة، وتجتمع عليه القلوب، وتلتقي عليه الأفئدة، فينساب في جماعية نلمسها في تصرف جموع الأمة.

ثم هي أيضا مهمة جميع المؤسسات الإعلامية، والعلمية، والتربوية، التي لا بد لها أن تفرغ لشحذ الفعالية الحضارية، وإثارة الوعي الحضاري.

الركيزة الثانية: استيعاب حضارة العصر استيعابا كاملا

هناك حقائق لا مراء فيها، تبدو واضحة للدارس المتبصر، في تاريخ الحضارات، وحضارة الغرب المعاصرة على وجه الخصوص، نسردها فيما يلي كمدخل لشحذ قدرات أمتنا، وفعاليتها العلمية.

الحقيقة الأولى:

إن حضارة العصر التي تبدو لنا في غاية التعقيد، قامت على أساس العلم، ومدخلنا إليها لن يكون إلا عن طريق شحذ الفعالية العلمية للأمة، وسبيلنا إلى شحذ الفعالية العلمية هو جهازنا التعليمي المتطور.

الحقيقة الثانية:

إن التقنية الحديثة، نشأت في الغرب من تزاوج العلم والحرفة، ثم من إصرار المجتمع الغربي على هذا التزاوج، في صورة مراكز لتطوير الصناعات المختلفة.

الحقيقة الثالثة:

إن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين. هذا هو الواقع في عالمنا المعاصر. وعلينا أن نعي جيدا، أنه لن يمكننا الحصول على دقائق المعاصرة، حتى لو دفعنا من أجلها المال الوفير.

وفي ضوء هذه الحقائق، يجب علينا أن ندرك: أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب، وليس منها ـ بطبيعة الحال ـ ما يسمى بـ ((نقل التقنية )) من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة.

إن التقنية ((لا تنقل )) بالأجهزة والمعدات، ولكنها ((تستنبت )) بالجهد والمجاهدة، و((تستوعب )) بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم ((نقل التقنية )) أن يستيقظ على الحقيقة.

إن أمتنا تستطيع ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ أن تُسْقط عمر الحضارة العلمية، والتقنية المعاصره على عمر الإنسان فيها، فتبدأ معه منذ الطفولة، تَعلمه من خلال المزاوجة بين العلم والحرفة، وتأخذ بيده، لكي يتعلم، أن طريق التطور التقني طويل وشاق، وأن السير عليه يتطلب الثبات، والإصرار، والمثابرة.

على أن علينا أن نذكّر مرة أخرى، بضروريات لابد من مراعاتها، وفهمها، في عملية ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، سبق أن فصلناها من قبل، ونوجزها هنا فيما يلي:

* إن ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، يعني استيعاب الأصول والطرائق والنظم. أما الدقائق، فهذه لا يمكن لأصحاب الحضارة منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.

* ألا تسبق الحالة العلمية للأمة، الحالة التقنية فيه بكثير، وإلا أدى ذلك إلى انفصال العلم عن التقنية.

* لا يمنع ذلك من وجود فئة من المتخصصين في الجامعات، ومراكز البحوث، توقف نفسها للعلوم، وتتوفر عليها عند مشارفها، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني المنشود.

إن ((استيعاب )) العصر بحضارته الباسقة، وتحدياتها المضنية، ليس مقالاً يكتب، أو كتابا ينشر، أو حديثا يذاع، أو خطبة تلقى، أو كلاماً يقال، أو بضاعة تباع، ولكنه معاناة، وجهاد، تسهم فيه الأمة، بكل مؤسساتها، ومعاهدها، ومعاملها، ورجالها، وتعقد عليه العزم للبناء، والمثابرة، وتسقط في سبيله من حياتها، مظاهر الترف والدعة، والركون إلى الاستسلام والتواكل، حتى تستطيع أن تتهيأ لعملية الاستيعاب المعاصر، وتقيم البناء الحضاري على عمد ثابتة راسخة ومتينة، تلتزم فيه ومن خلاله، بإعادة النظر بصورة جذرية ومعمقة، في كل نظم حياتها، ووسائل معيشتها، في إطار عقيدتها السمحة، وفي نطاق قيمها الرفيعة، متمسكة بالسير على طريق الحق المستقيم، وهو طريق واضح وبين، وإن توالت خطواتها عليه بإذن ربها، تحقق وعده لها، مصداقا لقوله جل شأنه:

(وأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا على الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْناهُم ماءً غَدَقاً ) ((الجن:16 )) صدق الله العظيم.

الركيزة الثالثة: تبني أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل:

إن المسلمين ـ بيقين ـ يملكون عقيدة سماوية كاملة، بمجموعة قيمها الحية، ومبادئها الفعالة. وأسسها الصحيحة، ومعانيها السامية، التي كانت وستظل إلى يوم الدين، نبراساً لهم وللإنسانية عامة، تحثهم على الخير، وتدفعهم إلى النهوض والسمو، وكانت وستظل سياجاً واقياً لهم من الهبوط والتدني، وجسراً متينا يصلهم بعصرهم، ويربطهم بحضارته.

أجل: إننا ـ نحن المسلمين دون سوانا من خلق الله ـ نملك هذا الرصيد القيمي الضخم .. الذي يعتبر في ذاته خميرة البقاء، وتكمن في حناياه أسرار التقدم، وتستقر في رحمه خلايا الانطلاق والحضارة، وتتمركز في جوهره الركائز الأساسية، والشروط الضرورية للبعث الحضاري، ولكننا ـ للأسف ـ نملك النظم، فلا مناص لنا من أن نكون بإزاء هذا وذاك، وجها لوجه أمام خيارين، لا مفر منهما:

الخيار الأول:

أن نتبنى المؤسسات الحضارية الغربية بوضعها الحالي، آخذين في الاعتبار أن نظمها الحاكمة، ومدخلاتها الإنتاجية، تحتاج إلى تعديل، وتبديل، يأتي عن طريق الممارسة، والتجربة، والإصرار على تحقيق المباديء والقيم، والأخلاقيات في النظم المعدلة، للوصول بها إلى معطياتها الحضارية، دون التأثير بسلبياتها الاجتماعية، والفكرية.

الخيار الثاني:

أن نبدع البدائل، وهذا أمر لا يفتي فيه إلا المتخصص، في أعمال مثل هذه المؤسسات.

إن خيار إبداع البدائل للنظم، لابد من أن يوضح، ويحدد دور الفقهاء، وعلماء الشريعة بيننا، وهو دور العين السحرية الثاقبة، المتبصرة في نهاية خط الإنتاج.

بمعنى: أنه دور التحكم في النوعية، التي تحكمها المبادئ، والقيم والأخلاقيات الإسلامية، فما وافقها من النظم مضى، وما خالفها يعاد لأهل الاختصاص، للتغيير والتبديل.

ونؤكد هنا: أن أهل الاختصاص، هم القادرون دون سواهم، على التغيير والتبديل؛ من حيث بات من السمات الواضحة، لعالم الحضارة المعاصرة، أنه عالم التخصص، في كل شيء، ولا سيما في مجالات العلوم، والمعرفة، والتقنية، حتى غدا الأمر، وكأن في كل فرع من فروع العلوم الإنسانية، والتطبيقية، والمجردة، مدارس متخصصة تنبثق عنها دقائق وتفصيلات، يوقف علماء وباحثون حياتهم عليها في محاريب العلم، ومعامل التجارب.

فمهمة إبداع البدائل، لا بد أن يضطلع بها متخصص في دراسات النظم، التي تحكم مؤسسات شبيهة بالمؤسسات المرجوة كما أسلفنا، آخذين في الاعتبار أن البديل المقترح، إنما هو من قبيل المحاولة الإسلامية وليس هو الإسلام؛ لأننا من خلال التجربة والاحتكاك قد نكتشف تقصير النظم المقترحة، في تحقيق كل جوانب مبادئنا وقيمنا، وأخلاقياتنا، فنلجأ إلى تغيير هذه النظم، أو إصلاحها حتى تكون أكثر تحقيقا لما ندين له، ونؤمن به.

والحق: أن الصراط المستقيم في مثل هذا، ليس واضحاً من غير هداية الله تعالى، وهدايته لا تأتي إلا باستمرار المجاهدة وديمومتها، من أجل هذا فإننا نتوجه إلى الله تعالى في كل صلاة ضارعين إليه: ((اهدنا الصراط المستقيم )) (الفاتحة:6 )، آملين في وعده: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) (العنكبوت:69 ).

والحق الذي نؤمن به، أن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، قد اشتملا على جميع الأصول العامة، والقواعد الكلية، والمبادئ والقيم والأخلاقيات كلها اللازمة لانبثاق أرقى النظم الحضارية، وهذه الثوابت في حد ذاتها كافية جدا لهذا المهمة.

أما النظم الحضارية نفسها، فهي محاولات بشرية، تنطلق من القيود كلها، إلا القيود الأخلاقية، والمبادئ الأساسية، والأطر القيمية، التي يحددها الكتاب والسنة، وهما ـ بيقين ـ خير أساس لقيام حضارة إنسانية مثلى، لا تطاولها حضارة.

الركيزة الرابعة: ضرورة التفاعل بين ديناميكية الأفكار .. وديناميكية النظم

لقد عرّف ابن خلدون، الحضارة في مقدمته بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابها، فنونا منتظمة من العيش، والاجتماع، والعمل، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة والرفاهية. وهذا القول يعني: أن الحضارة، ترتكز على ركيزتين أساسيتين هما: ((الثقافة )) و ((المدنية )).

و ((الثقافة )) تعني: التطور في الأفكار النظرية، لنظم السياسة، ونظريات الاقتصاد. وأسس القانون، ومبادئ التاريخ وغيرها، من العلوم الإنسانية والاجتماعية.

و ((المدنية )) تعني: التقدم في العلوم العملية، والتجريبية، كالطب والصيدلة، والهندسة، والزراعة، والكيمياء، وما إليها، مما يرتبط بالقرى والأمصار، على حد تعبير ابن خلدون، فلا يمكن للطب أن يمارس، أو يتطور، دون وجود مستشفيات، ومرافق علاج، ولا الهندسة أن تُطبق، دون وجود ورش، ومعامل، وتجارب، ولا الاختبارات الزراعية أن تجرى دون أن ترتبط بالحقول والمزارع.

ولا شك أن ((الثقافة )) و((المدنية ))، هما العنصران الأساسيان للحضارة، تلتحمان، وتتكاملان. على برامج التعليم ـ إن أرادت أن تكون ذات مفعول حضاري متطور ـ أن تعبر عن هذا التكامل، والتلاحم بين الثقافة والمدنية.

من هذا نستخلص: أن مدلول الحضارة هو مزيج من الرقي، في مجالات شتى: كالأخلاق، والسلوك والتربية، والعلوم التجريبية، والبحتة.

ومفهوم الحضارة الإسلامية، يحتوي هذا المدلول، ويتجاوزه إلى مفهوم عقدي، وفكري، ووظيفي أوسع وأعمق، وحري بأمتنا، التي تستهدف الحضارة، وتستعد لها، أن تتشبث بهذا المفهوم الفكري الإيماني للحضارة، وألا تفرط في التسلسل المنطقي لإنشائها، حتى يمكنها البدء في دورة حضارية جديدة، تمهيدا للبعث الحضاري المنشود، وأن تحرص على أن يرتكز الجانب المادي للحضارة، على الجانب الفكري الذاتي لأمتنا، لتنشأ حضارتنا في نطاق مناخنا الروحي، المشبع بصفاء العقيدة، الفواح بشذا المبادئ، وأنفاس القيم.


الساعة الآن 03:36 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى