وهكذا استمرت كقضية مركزية نحمل لواءها ونتمنى حسمها لصالح هذا الشعب الفلسطيني الصامد والصابر بالداخل والمهجر. فما الذي استجد منذ عام 1948 وحتى الآن؟ أمور كثيرة رأيناها وعانيناها: احتلال أراض عربية أخرى عام 1967، وفشل حرب 1973 باستردادها رغم استعادة شيء من الكرامة، وغزو لبنان وسقوط أول عاصمة عربية، وقوع حرب الخليج الأولى العبثية، ثم اجتياح الكويت عام 1990 وحرب الخليج الثانية، ثم وقوع الغزو الأنجلو-أمريكي للعراق عام 2003. وبالتالي، بعد أن كنا أمام احتلال واحد أصبحنا نعاني احتلالين، ثم وقوع حربي لبنان 2006 وغزة 2208. إلا إنه مع توالي الزمن والأحداث تبين لنا أن أوضاعنا كعرب معكوسة، فمن كنا نرثي لرزوحه تحت الاحتلال ظهر أنه هو الوحيد الذي يعيش بحرية وأن الاحتلال الصهيوني لم ينجح بتقيد حرية رأيه ولا مقدرته على التعبير عن آماله وطموحاته بالتخلص من نير الاحتلال الغاشم. وأخذ الغبار ينجلي عن حقيقة ساطعة مفادها أننا نحن الذين نعاني من الاحتلال والقمع لا الأخوة الفلسطينيين. إننا قوم أضعنا هدفنا وهويتنا وأصبحنا لا نعرف من نحن ولا أين هي وجهتنا. استيقظنا فجأة ذات صباح ووجدنا قيودا وسلاسل تثقل على كاهلنا بلا حق، وتمنعنا حتى من حق الكلام. أمسى الخوف يحاصرنا ويتغلغل بأعماقنا، أصبح اللا شعور يتحكم بإراداتنا وحركاتنا وسكناتنا. فهل من يعيش خائفا قادر على تحرير فلسطين من دنس الغزاة؟ لكن الشرارة نحو الحرية انطلقت من أحد شوارع سيدي ابو زيد، فنظر شعب بأكمله للمرآة فوجد صورة قبيحة لم يتحمل العيش بها، فعزم على على تقطيع وبتر معالم القبح والأدران من جسده. وقد ذكر الله عز وجل بمحكم آياته البينات

<< ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا >> المائدة

وما حدث هو صورة من صور الإحياء وهذه المرة عن طريق الموت. فعندما حرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه وأماتها فكأني به قد ضرب ضربة هائلة بأعماق هذه الأمة لمّا تنتهي اهتزازتها وتوابعها حتى اليوم. إنه زلزال كبير ذلك الذي أحدثه البوعزيزي رحمه الله وانتقلت حلقاته لتهز عروش الطغيان في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. بل أن الدول التي لم تندلع بها ثورات سارعت إلى إجراء إصلاحات غير مسبوقة وجريئة قياسا إلى ماضيها الأسود، لكن هذا لم يعد يكفي الشعوب الطامحة نحو الحرية والكرامة.

ومن هنا فإن الطريق نحو فلسطين لا بد أن يتعبد بالحرية، فالأحرار هم فقط القادرون على تغيير الأوضاع للأفضل والقدس لن تعيدها جيوش من العبيد. هكذا كان رفاق الناصر صلاح الدين أحرارا ذوي رأي ومشورة، وهكذا كان من قبلهم رفاق رسول الله عليه الصلاة والسلام حين تحرروا من رجس الشرك والأصنام فباتوا قادرين على تحرير البقاع الطاهرة التي بارك الله بها ومن حولها. ولا زالت عبادة الأصنام موجودة ما بين ظهرانينا بأشكال وألوان مختلفة، وما تمجيد السلاطين والحكام والتسبيح بحمدهم إلا صورة مخزية من صور الشرك وعبادة الأصنام والطاغوت.

فلنتحرر أولا ومن ثم ستتحرر فلسطين كاملة. وإلى ذلك الحين، ستبقى فلسطين قضيتنا.