منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   رواية اللاز... للمطالعة.. (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=5234)

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 04:45 PM

رواية اللاز... للمطالعة..
 
- إيه إيه الله يرحمك يا السبع.
- سيد الرجال.
- عشر رصاصات، ومات واقفًا.
- يوم حضر أجله. كان المرحوم يهجم ويعيط "زغردي أمي حليمة زغردي"
إنهم كعادتهم، كلما تجمعوا في الصف الطويل، أمام مكتب المنح، لا يتحدثون إلا عن
شهدائهم، والحق إنه ليست هناك، غير هذه الفرصة، لتذكرهم، والترحم على أرواحهم، والتغني
بمفاخرهم.. فهم ككل ماضي يسيرون إلى الخلف، ونحن ككل حاضر، نسير إلى الأمام.. لعل هذا
اليأس المطبق من التقاء الزمانين، ما يجعلنا لا نهتم إِلا بأنفسنا، أنانيين نرضى أن يتحول شهداؤنا
الأعزاء إِلي مجرد بطاقات في جيوبنا، نستظهرها أمام مكتب المنح، مرة كل ثلاثة أشهر… ثم
نطويها مع دريهمات في انتظار المنحة القادمة...
علق الشيخ الربيعي في نفسه، على ما التقطت أذناه، من تأوهات شيخين يقفان أمامه، وعجوز
وأرمل، تقفان إلى جنبه، ثم سرح بصره الذابل في الصف الطويل أمامه...
إننا، كما عرفنا أنفسنا، مند خلقنا، "الشيشان" على رؤوسنا تكاد تقطر وسخًا، "البرانس"
مهلهلة، رثة، متداعية، والأحذية مجرد قطع من الجلد أو المطاط، تشدها أسلاك صدئة، والأوجه
زرقاء جافة.. ليس لنا من الماضي إِلا المآسي.. وليس لنا من لحاضر إِلا الانتظار.. وليس لنا
من المستقبل إِلا الموت.. نتآكل كالجراثيم، وليس غير...
- إيه إيه.. الله يرحمك يا السبع.. كنت وحدك عشرة رجال.
قطع صوت عجوز خواطره. ودفعه إلى أن يهمس:
- الله يرحمك يا قدور ولدي ويوسع عليك.
ملأ صوت هادر من الخارج، القاعة:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
فراح الشيخ الربيعي يتمتم:
- هذا اللاز.. اللاز المسكين. قدور ابني استشهد معه.. استشهد في طريقه به إلى الحدود..
ثم استند إلى الجدار، وأطلق العنان لمخيلته، تتحسس الجراح...
شيء عشناه.. وشيء سمعناه.. وشيء نتخيله...
* * *


فسحة أمل 22 - 3 - 2010 04:50 PM

القرية، كما خلفها الرومان، تتأمل الجبال، في كآبة ما تزال، و الظلال تتطاول كلما انحنت
الشمس إجهادًا ووهنا، و المارة والتجار الواقفون أمام دكاكينهم، يتفقدون عقارب ساعاتهم بين الفينة
والأخرى، والحركة تقل شيئًا فشيئًا، بعد أن ملأت عربات الجيش، الطريق الرئيسي، عائدة مغبرة
دكناء، من ميادين العمليات، وسط تعاليق، تتسرب من هنا وهناك:
- خسارتهم كبيرة اليوم.
- كأنهم راجعون من جنازة.
- أخبارهم وصلت بعد.. هيلولة هيلولة.. ربي يتمم.
النهار يوشك أن يمر كغيره من الأيام.. خاصة وان موعد منع الجوَلان يقترب أكثر فأكثر،
لولا ضجة حادة، بدأت تنحدر من أعلى الشارع، وتملأ القرية كلها.
اندفع الربيعي إلى باب المتجر، يستجلي، ثم التفت إلى ابنه قدور، في الداخل قائ ً لا:
-هذا اللاز، تقوده دورية.. إن شاء الله هذه الضربة الأخيرة. تريحنا وتريح جميع خلق الله.
كان الربيعي، مثل كل سكان القرية، يبغض اللاز، ويتمنى من صميم قلبه، أن تلحقه المصيبة
القاضية.. يرتكب جريمة، لن يخرج بعدها من السجن، أو يقضى عليه، سواء من طرف العسكر،
أو من طرف الثورة..
هذا اللقيط الذي لا تتذكر، حتى أمه، من هو أبوه، وكأنما التقطته من الرماد مثل الدجاجة..
برز إلى الحياة يحمل كل الشرور.. كان من صباه لا يفارق أبواب وباحات المدارس يضرب هذا،
ويختطف محفظة ذاك، ويهدد الآخر، إن لم يسرق له النقود من متجر أبيه، أو الطعام من مطبخ
أمه، حتى إِذا جاء يوم الأحد بادر إلى الملعب، شاهرًا خنجره في وجوه الصغار حتى ينزلوا عند
إرادته، ويكتروه منه، تارة ب"دورو" 1 لكل لاعب، وتارة يشتط، فيطلب عشرة..
لم يكن يجدي معه، لا تدخل الآباء، ولا تدخل "الشامبيط"، بل الويل كل الويل لمن يتجرأ، ويبلغ
عنه أباه، أو أخاه.. مكابر، معاند، وقح متعنت، لا ينهزم في معركة، وإن استمرت عدة أيام،
يضربه المرء حتى يعتقد أنه قتله، لكن ما أن يبتعد عنه، حتى ينهض، ويسرع إلى الحجارة، أو
يرتمي على خصمه، وإن فاته ذلك في نفس اللحظة أو اليوم، أعاد الكرة، مرة، ومرات.. ما جعل
الجميع، كبارًا وصغارًا، يهابونه، ويتحاشون الاصطدام معه، ويتنازلون له، عن حق أو عن باطل..
اللقيط، كلما كبر، واعتقد الناس أنه سيهدأ، أو على الأقل تخف وطأته، ازداد سعاره، ونمت فيه
شرور، لم تكن لتتوقع، من السطو على المتاجر لي ً لا، إلى الخمر، إلى الحشيش، إلى القمار.. حتى
بلغ معدل دخوله السجن، ثلاثين مرة في الشهر، أما اللعينة أمه، فيبدو أن العقاب الذي كان
ينتظرها، في الآخرة قد ضوعف، شرط أن تناله، في الحياة الدنيا، وعلى يد اللاز، ابنها.. كامل
يومها، تقضيه في تتبعه، تتقصى أخباره، حتى إِذا ما بلغها، أنه في غمار معركة حامية، سارعت
إلى الشامبيط، لتأتي به، وتقتحم الميدان، وتصدر له الأوامر المشددة، بإِلقاء القبض عليه، والزج به
في السجن، حتى إِذا ما فعل، تندم، وتركض إلى زوجته، تقبل يدها، راجية أن تتوسط في إِطلاق
سراح ابنها – ثم تأتي باب مخزن قديم، جعله الشامبيط سجنا، لا يستقبل عادة إِلا اللاز وتسترسل
في النواح، بينما اللاز يزمجر من الداخل:
- اسمعي يا خنزيرة بنت الخنزير.. لو أخرج ولا أجد مائة دورو، أحطم رأسك..
- لماذا يا اللاز يا ابني، لماذا.. ألست أمك؟. تسعة أشهر وأنا أعاني...
- وهل اقترحت أنا ذاك، يا عاهرة..
إلى أن يتجمهر حولها أطفال وفضوليو القرية، ويرى الشامبيط أنه من الحكمة، البت في
الأمر.. فيدلف إلى الداخل، والسوط في يده، ويشرع في جلد اللاز، الذي يروح يستغيث:
- حق ربي، وحق ربي يا عمي الشامبيط.. سامحني، سامحني، إِذا رجعت اقتلني. حق ربي،
وحق ربي.
وبعد المائة جلدة، يقرر الشامبيط أنه تاب، ويرق قلبه ويلين، ويطلق سراحه، ليخرج مالئًا
الشوارع بالنواح إلى أن يبلغ كوخ أمه.

وحين اندلعت الحرب، استبشر كثيرون ومنهم الربيعي بدنو أجله.. الجيش لا يعرف اللعب مثل
الشامبيط، وإن نجا اللاز مرة، أو اثنتين، فمائة بالمائة، أنه لن يعمر كثيرًا..إِلا أنه عرف كيف
يتحايل على الحياة، ويسخر من جميع أعدائه، فقد بادر إلى مصادقة العسكر، وصار يتردد على
الثكنة، إلى أن اقتحم مكتب الضابط نفسه، ولم يعد يغادره...
لقد توطدت بينهما علاقة متينة، راجت حولها أقاويل كثيرة، وتضاربت فيها آراء السكان...
البعض يراها قائمة على القوادة، فاللاز بواسطة الشقية أمه، يتصل ببعض العاهرات، ويمهد
لهن، سبل الاتصال بالضابط، سواء في مقره، أو في ديارهن، بينما البعض يرى أن اللاز يعمل في
مخابرات الضابط يحصي حركات الناس، ويتقصى أخبارالثورة .. والبعض الآخر لا يستبعد أن
يقوم اللاز بالعمليتين معًا.. فأمه ازدهرت وضعيتها الاقتصادية، وصارت تشتري السكر بالكيلو،
والقهوة بالعلبة، والزيت باللتر، بل إنها من حين لآخر، تشتري علبة حلوى الترك، أو شيئا من
الجور أو التمر بينما كان الدخان لا ينبعث من كوخها إِلا من سنة لأخرى.. ولا يمكن بالمرة، أن
يكون دخلها من غسل ثياب العسكر، كافيًا لكل هذه المصاريف، خاصة وان اللاز يتشدد معها في
الحساب، ولا يترك لها إِلا ما استطاعت المهارة الفائقة أن تخيفه عنه.
هذا الازدهار، لا مبرر له إِلا أن اللعينة، تتاجر بأعراض البئيسات الفقيرات، بواسطة ابنها..
ويقين أن الضابط لن يقتنع بهذه الخدمة المتواضعة من اللاز.. ولو لم تكن هناك خيانة، ما وطئت
قدماه الثكنة، بله مكتب القيادة.
إِذا كان هناك مدافعون عن اللاز، فإِنهم قلائل، ودفاعهم وقور محتشم، لا يكاد يتعداهم إلى
غيرهم، ووجهة نظرهم، أن الثورة، لو رأت من اللاز خيانة، لأعدمته مثل غيره، ضعيفة جدًا،
فالموت مسألة أجل.. واللاز لو حضر أجله لمد رجله.. ومن يدري أن الفدائيين، لا يحاولون
باستمرار إعدامه.
تبقى حجة واحدة، قوية بعض الشيء، في فائدة اللاز، هي أنه لا أحد، يستطيع نسبة خيانة
واحدة معينة له.. وجميع الذين يلقى عليهم القبض، ويمكثون تحت التعذيب في الثكنة، بعد
خروجهم، يثنون على اللاز للخدمات التي يقدمها لهم.. إنه لم يشهد أبدًا، ضد أحد.. ولم يتردد مرة،
أن يشهد لفائدة من يستشهده، كما أنه لا يتوانى عن تقديم التبغ، والماء، لكل من يطلبه.. مع أن
الخونة الحقيقيين، هم الذين يقومون بتعذيب إخوانهم.
علام إِذن تقوم علاقة اللاز بالضابط؟
- هذه حرب. وهذا آخر قرن.
علق الربيعي في نفسه، بينما تساءل قدور، وهو ينحني على صندوق شاي، يفتحه.
- ما هذا الضجيج يا أبي؟
- اللاز. اللاز. إن شاء الله يا ربي...
- لا يا أبي. لا.
قال قدور، ثم رمى المطرقة والكلاَّب، ووثب إلى الباب.
كان الموكب قد اقترب من المتجر: جنديان يجران اللاز من ذراعية، وثمانية يستحثونه السير،
باللكمات، والضرب بمؤخرات البنادق، بينما الدماء تتطاير، من أنفه ووجنتيه، وجبهته وشفتيه،
وهو يترنح تارة، ويقاوم أخرى، صابا سًي ً لا من الألفاظ الدعرة، شاتمًا لاعنًا، الرب وعباده..
المنظر عاد، بالنسبة لجميع المشاهدين، عدا قدور الذي ظل، لحظة يراقب كل حركات اللاز،
ويقلب كال كلمة يتفوه بها، إلى أن بلغ الموكب باب متجره...
بذل اللاز، آخر جهده، حتى تمكن من التوقف، ثم نظر إليه وبصق في وجهه مزمجرًا:
- راقكم المنظر، يا خنازير. حانت ساعتكم كلكم.
أضاف بصقة أخرى، واستسلم للدورية، وقد هدأ ضجيجه، كما لو أنه أنهى مهمته كلها، وبلغ
رسالته لكل سكان القرية، في شخص قدور، الذي التفت إلى أبيه قائلا في ذعر:
- أنا ذاهب، مفاتيح الدكان في مكانها.
- ماذا؟ ماذا؟.. إلى أين أنت ذاهب؟..
- ستطلع فيما بعد…
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 04:53 PM

اندفع قدور، يتقاذف في الشارع، نحو المنزل، وأمواج صاخبة من الخواطر تتصارع في ذهنه.
الوقت الرابعة، ما يزال هناك بعض متسع.. لكن ينبغي أن أخرج قبل أن يسارعوا لإلقاء
القبض علي.. قد يكنون الآن في أثري.. ربما سبقوني إلى المنزل، أو ربما هم في الدكان
يستفسرون أبي.
وتهتز أعصابه، وتتقلص عضلاته، وتضطرب خطاه، وتتقاذف قدماه...
هذه هي الحياة، حين ينتهي شيء، يبدأ شيء آخر، تنتهي السلم لتبدأ الحرب.. الليل والنهار،
ينتهي أحد هما ليخلفه الآخر.. انتهى وجودي في القرية، ليخلفه وجود آخر، في مكان آخر..
ولربما ليخلفه العدم..
ويقشعر بدنه، ويبلع ريقه، ويدفع صدره إلى الأمام..واللاز..؟ يا للاز..
إنه في التعذيب الآن.. العصبيون يمكن أن يصبروا لأي شيء، إِلا للتعذيب.. لا لا.. العصبيون
أكثر الناس صبرًا على التعذيب ، لأنهم يستعذبون التحدي.
يا للاز.. كل حياته قضاها في التحدي. لن يعمر كثيرًا، ساعة أو اثنتان، وهذا كل ما في
الأمر، سيبصق في وجهه الضابط، أو يشتم فرنسا، أو يهتف بحياة الثورة و يجهزون عليه.
وتنطوي صفحة من صفحات الجرأة والتحدي.. وينتهي اللاز.. وينتهي وجودي في القرية. ربما
كل وجودي، ربما كل وجودي.
وتهتز أعصابه، ويقشعر بدنه.. ويشعر بالحاجة إلى جرعة ماء.
لعلهم ينتظرونني في المنزل، أو لعلهم في هذه اللحظات بالذات في أثري.. على بعد بعض
أمتار لا غير.. أو لعل القرية مطوقة بحثًا عني. إنهم سيعلمون بآمري إِن لم يكونوا قد علموا بعد،
وذلك ما قصده اللاز، حين بصق في وجهي محذرا:
حاذت ساعتكم كلكم.
يا للاز.. لقد اغتر المسكين، يقينًا أنه خدع.. انخدع.. هذا هو أساس كل القضايا من البدء..
الخدع، و الانخداع.
وتوقفت قدماه عند عتبة المنزل.. الباب مغلق كالعادة، وتوانى في طرقه، وفكر كيف يواجه
أمه..؟ هل يصارحها بالحقيقة..؟ أم يخدعها ويقول لها إنه متغيب في مهمة يوما أو يومين..؟ يجب
أن لا يعلم أحد بأمره، حتى ولو كانت أمه، فاللسان خداع، وقليل من يستطيع السيطرة على لسانه.
الفلاحون، وأبناء الريف، والقرى الصغيرة، كلهم حذرون، وأشباه ذئاب في نظرتهم للحياة..
خاصة هذه الحياة الملأ بتناقضات الانتقال من البداوة المحضة إلى شبه التحضر والمدنية، وهم لا
يهضمون، أو يتقبلون جديدًا، إلا بعد عجزهم عن مقاومته.. لا يطمئنون إِلا لأنفسهم وخططهم،
وكل ما عدا ذلك لا يخلو من الخداع أو الانخداع.. وقدور الذي لم يدخل القرية، إِلا مند ثلاث
سنوات، متنق ً لا مباشرة من المحراث، والقمح، والشعير، و الحقول، إلى الميزان و الشاي والقهوة
والسكر والتوابل، فلسفته لم يطرأ عليها أي تغيير أو تبدل بل إنها تطورت في نفس الاتجاه وعلى
نفس الأسس..
لذا راحت ترن في أذنيه جمل، بعضها سمعها في الريف، وبعضها تلقنها في القرية ”أعطها
بالدين، وما تلوحهاش في الطين”. ”لو كان يحرث ما يبيعوه “ “ ما ترهنه، بعه”.
احتار فيما سيقوله لأمه، وكيف يواجهها. لم يتعود الكذب، ولا يمكن أبدًا أن يكذب على أمه..
أقول لها، متغيب في مهمة وكفى.
تمتم، وهو يفكر، أن يمد يده للباب طارًقا.. بيد أن حركة خلفه، جعلته يتراجع، ويدير رأسه..
زينة بنت ”الشايب السبتي“ جارهم وصديقهم، فتحت الباب، ورمته بحجيرة.
تأملها في نهم وأسى، ثم أفسح المجال لبسمة تنبت على شفتيه وهمس:
وحدك.
هيا. أمي راقدة، وسيدي في الجامع.
وتقاذف . أسندها إلى الباب، وملأ بها صدره، واعتصر من شفتيها، عذوبة أيام مرت، ولن
تعود.. ربما لن تعود، ربما تعود ذات يوم.. بعد سنة، بعد سنوات.. من يدري.
وتنهد.
خطر له أن يهمس في أذنها ببعض كلمات تشبه الوداع، لكن تصميمه على أن لا يخبر أحدًا ،
جعل وداعة يتحول إلى قبل مستعجلة، محمومة، طائشة.. ورنت في أذنيه:
“ ما ترهته بعه “.. ولا داعي لرهن أي سر، عند أي كان، مادام ذلك غير متحتم..
زينه. أنا ذاهب في مهمة عاجلة. فرصة أخرى.
حالتك غير طبيعية يا قدور.
ستطلعين فيما بعد.
أبعدها عن الباب، وقفز.
لقد تأخرت، تأخرت أكثر مما ينبغي، كأنني أتعمد هذا التأخر، رهبة من المستقبل المجهول،
الذي يفغر فاه أمامي كالموت.. لعله يشق علي أن.. ولم يتممها، لم يشأ أن يتصور، أنه قد يشق
عليه، أن يفارق قريته التي أحبها بكل جوارحه، من يوم دخلها كما يقول للناس، ومن يوم اكتشف
فيها زينة، كما يعتقد في قرارة نفسه..
هذه الفتاة، الرابعة، الممتلئة، البيضاء، العذبة، التي استولت على كل مشاعره.. وعانى الكثير
قبل استمالة قلبها.. طوال أشهر و أشهر، وهو يتوسل إليها.. تارة يرسل إِليها، مع البنت أختها،
وتارة يجرؤ ويوصي أمه وهي ذاهبة إلى الحمام بعد أن يطوف حولها وقتا طوي ً لا:
-سلمي على زينة يا أمي.
وحين تعود، يبادر سائ ً لا عما إِذا أعانتها زينة على غسل رأسها، فتبتسم، وتملؤه بنظرة حبيبة
ودود..
لقد كبرت يا قدور يا ابني، وصرت رج ً لا، تسأل عن زينة، وأية زينة يا ابني.. كانت أمي، الله
يرحمها، تقول لي، إن الأمهات لا يلحظن صيرورة أبنائهن رجا ً لا، ولا تتحول عواطفهن عنهم،
كأطفال تجب رعايتهم، إِلا إِذا أنجبوا حفيدًا، يصرفهن عن أبيه.. والدار في الحق، يا قدور، يا
ابني، بدون صغير موحشة كالقبر.. وزواجك بات ضروريًا، وأكيدًا، وإن شاء الله يصدق حلمي
في زينة، بعد الاختيارات الدقيقة التي أجريها عليها، فأتقدم لخطبتها...
وتظل تحدق فيه، لحظات طويلة، وهو ينتظر، أن تنتهي من ذوبانها، لتقول له كلمات عن
زينة، حتى تعيد البسمة الحبيبة، الودود، وتهمس:
كل شيء بالمكتوب يا قدور يا ابني.
وذات مرة، عادت جذلى، تهتز طربًا كأنما اغتسلت في الكوثر، وقبل أن يطرح عليها أي
سؤال بادرته:
ملأت عينها يا ابني ملأت.
ماذا تقولين يا أمي؟
زينة تسلم عليك كثيرًا. وغدًا آتية، لإعانتي على فتل الكسكسى.. اسمع يا قدور يا ابني.. أنا
مازلت أتثبت وأتأكد.. والله ثم والله، ورأس سيدي البخاري، حتى نفسها لا بد أن أعرف رائحته..
الناس تقول، زواج ليلة..
وقاطعها:
- و ماذا قالت لك أيضًا يا أمي.
- تسلم عليك وهذا كل شيء.. ماذا تريد أن تقول لك أيضًا. ؟
واحمرت وجنتاه، وتبلل جبينه، وأطرق.. لم أكن بالمرة أتصور، أنني سأطرق مع أمي، مثل
هذا الموضوع..
هكذا...
هيهْ هكذا.. بمثل هذه الجرأة والإلحاح.. لكن المسألة، مسألة زينة، وليس أقوى من أمي في
إعانتي على زينة...
إنني أحب زينة..
واستدارت أمه، بعد أن وضعت بعض الثياب على الحبل، وحدقت فيه.. أبناؤنا كالجمال، حين
تعمر قلوبهم تهيج وتعمى، وتنطلق إلى أبعد الحدود، ثم همست:
- وما زال رأي أبيك أيضًا يا ابني، لا تنس هذا ... يا رضا الله وطاعة الوالدين.
كان مطأطئًا، يحاول إقناع نفسه، بأنه ليس من الحماقة، أن يتحدث مع أمه عن زينة، خاصة
وأنها هي التي ألحت على ذكرها أمامه أكثر من مرة.. فجاءت كلمات أمه منقذة له.. إنها تتناول،
الموضوع، من جانبه الجدي..
وشعر بضرورة التظاهر بالاحتجاج:
ماذا.. من يذكر زينة نقيم له العرس.
ما أشق أن تنظر إلى البداية والنهاية معًا، في نفس الوقت ومن موقع واحد.. خاصة حين تكون
إحداهما، تمثل كل شيء، بالنسبة لنا.. ومع ذلك فزينة، تطغى على كل شيء، على البداية، وعلى
النهاية، ولا تبقى إِلا هي، زينة، بلا بداية أو نهاية، زينة، زينة.
وخرج قدور، يزرع الفرحة بعينيه، ويحس بأن قلبه، أكبر من كل شيء، حتى من الشمس..
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:00 PM

لم تكن الثورة آنئذ، مندلعة، ولا حتى تخطر ببال أمثال قدور، كان الجو، أشبه ما يكون
بالمرآة، قبل أن تسقط وتتهشم، تبدو صافية لامعة، ولو كانت بها عشرات الخدوش، والوجود
الاستعماري، لا يستشعره أحد إِلا كما يستشعر مريض، داء مزمنًا، لولا أزماته من حين لآخر،
لتوهم بل لاعتقد، سلامته، فثمانية ماي، لم يبق إلا يومًا يعلن فيه الحداد، بالصيام، والملاحف
السود، لا يرى فيها أحد، وبالمناسبة أيضًا، إِلا أن النساء حزينات، حزنًا لا يعرف له سبب،
والشانبيط، لا يمثل، إِلا كيسًا منتفخًا بالحرام، في جيبه مفاتيح مخزن ضيق يسميه السجن، وفي يده
سوط، لا يليق إِلا للاز.
وجه المرآة في الواقع، لا تنقصه الصفاوة، وبالرغم من الخدوش.. الحرب في تونس وفي
المغرب، وفي الهند الصينية..! إن ذلك سياسة، وقدور لا يهتم بالسياسة، وحتى خطب الإمام يوم
الجمعة، لا يفقه منها إِلا الحث على التبرع بالمال، والحبوب، رغم أن المدرسة والمسجد، تم
بناؤهما مند سنة أو يزيد..
كان الناس على الأقل، أحرارًا في أن يسهروا إلى أي وقت شاءوا، وأن يسافروا في الليل أو
النهار، بلا أية رقابة، أو مضايقة.. وقدور، كان يحب السهر كثيرًا، السهر لا في المقاهي، يلعب
الورق أو الحجر، ولا في الجامع، حتى في رمضان، إنما تحت جدران منزله، وبالقرب من باب
دار زينة.. حيث يفرش كيسًا، ويجلس هو وصديقه حمو الحمامجي، ساعات، وساعات، يتجاذبان
أطراف حديث طويل، يبدؤه عادة حمو، بالتشكي من وضعه العائلي، ومن عمله المرهق، في كهف
ضيق، وسط الزبل والأدخنة، يصارع الفرن ليسخن ماء الحمام:
- يا ابن عمي هذه والله ما هي خبزة. أربعون دورو في اليوم، وأربعة عشر فمًا مفتوحة.
الدقيق بعشرين دورو الكيلو.. والزيت بأربعين، والصابون بخمسة عشر القالب، وزد، وزد..
“معيشة” كلاب والله.
والحق، أن حمو يبالغ بعض الشيء حين يقول أربعة عشر فمًا مفتوحة، فهي ليست سوى
عشرة أفواه.. أخوه زيدان، وزوجته، وسبعة أطفال، وأمه.. أما هو، فغالبًا، ما يتغدى أو يتعشى،
إِما مع قدور، وإِما بطريقة سرية، خاصة به.. فالمعلم، تربض في منزله، ثلاث مصائب، كما
يقول، أرملتان وبكر، يتزاحمن عليه، وتغدق عليه، كل واحدة من جانبها، العطف، والكرم، مقابل
شبابه وفتوته، وبعده عن لفت الأنظار والانتباه..
كان يقوم بزيارات ليلية إلى منزلهن، ويسهر معهن بالتناوب، وكن أيضًا، يقمن بزيارات
نهارية إلى كهفه، فيتمنع، ويعتذر، ويستجدي، إِلا أنه في الأخير، يضطر لإغلاق الباب الحديدي
الصغير، ويخفت نار الفرن.. ويعتصر، متمرغًا في آلام الحياة وأتعابها...
وأخوك زيدان، هل وجد عم ً لا .
يا ابن عمي، زيدان مريض، ضايع. أهلكته السياسة. كل يوم في مكان. عجزت عن فهم
ما هي السياسة هذه، التي تهلك رج ً لا مثل زيدان.
ثم ينتقلان، إلى الموضوع الرئيسي، الموضوع الذي لا ينتهي، مدى الليالي، ومدى الأجيال:
الأحبة والمحبة...
يروي حمو مغامراته الأخيرة، مع المصائب الثلاث: “دايخة“، و “ مباركة “، و"خوخة".
البارحة، الموعد كان مع “خوخة“، المصيبة الصغرى الجميلة، التي أحبها وأموت في حبها، و
أتمنى لو ينوب النواب وأتزوجها.
كان المفروض أن تنتظرني في السقيفة، في الموعد، لنلج بعد ذلك بيت المئونة، لكن لسبب ما،
تأخرت كثيرًا، ربما أختاها لم تناما بعد، ولربما غلبها النعاس..
لا علينا..
لسبب ما، أنا أيضًا، لم أنصرف، لأستريح قلي ً لا ، رغم الإجهاد الذي كنت أعانيه.. اقتحمت
غرفتهن.. حبوت حتى بلغت مضجعهن، واستلقيت كما صادف.. كن الثلاث، متداخلات في فرش
واحد، كأنهن نساء ورق اللعب، "السوطة" أو "القراط "، وكن اللعينات، مستيقظات، لكن يتظاهرن
بالنوم، الصغرى في الوسط ولا شك.. وبسهولة أستطيع تمييزها، فهي كما تعرف، أنحفهن،
وتلمست بيدي صدر الوسطى، خوخة في الوسط.. وموعدي مع خوخة التي لم تخرج إلى بيت
المئونة.. ولكن، من التي بيني وبينها..؟ دايخة أكرمهن، وأكثرهن توددًا إِليّ. أم مباركة، الجريئة
العصبية..؟
في القيلولة، صفيت، حساب دايخة في الكهف.. وموعدي الليلة، مع خوخة.. وأنا لا أحب أبدًا
أن أتخلى عن مواعيدي معها.. عندما أحتضنها في الظلمة، كثيرًا ما أبكي، وكأنما أبكي على
حياتي الهاربة مني...
فكرت قلي ً لا، وأوشكت أن أتخذ قرارًا.. إنني تعب، منهك القوى، فلماذا لا أنسحب، وأكتفي
غدًا بالاحتجاج، معقول جدًا، والليل يكاد ينتصف.. والعمل المر، يبدأ في الثالثة، قبل الآذان
الأول.. الأفضل أن أنسحب.. ورحت أردد.. لأفعل، لأنسحب، فلا أحسن من الراحة.. نعم لأفعل
ذلك، لأفعل.. وبين التردد والتصميم.. لست أدري، كيف داهمني النوم.. وكيف أيقظنني..
اللعينات.. وكيف وجدت نفسي في الكهف أتشمم روائح الزبل وأصارع النار في الفرن.
وبعد أن سكت حمو، قلي ً لا، علق:
- خبزة مرة، والعياذ بالله.
ثم أطرق يفكر في رعب، في قضية لم يشأ أن يصارح بها قدور...
خوخة أنجبت منه ولدًا جمي ً لا، خنقت أنفاسه، وأرسلته له مع دايخة، قبله بحرارة، ثم قذف
به إلى النار.
انسكبت من عينيه دمعتان لم يلحظهما قدور في الظلمة، وغمغم:
- خبزة مرة والعياذ بالله..
- إيه، واحد محروم، وآخر كافر بنعمة الله.. أنت تتألم لعشق ثلاث، وأنا.. هذه الدنيا.
- وأنت أين وصلت مسألتك؟..
ومباشرة ينتقلان، إلى موضوع زينة.. في الليالي السابقة، كان قدور، يكتفي بزفرة، وبعض
كلمات:
- ناشفة يا ابن عمي، حق ربي ناشفة.
... - أنت أيضًا تحلم بحب الملوك 2
وتروق الصورة لقدور.. حب الملوك.. يا له من تشبيه رائع. حمراء.. بيضاء.. ممتلئة.. ثمينة
لذيذة.. زينة...
وينطلق في الحديث عنها، عن شعرها الفاحم، عن عينيها الكبيرتين الدعجاوين.. عن شفتيها
الصغيرتين الممتلئتين، عن أسنانها اللؤلئية.. عن بسمتها الملائكية.. عن عنقها البلوري.. عن
حركتها، عن صدها وكبريائها، عن كل شيء في زينة.. وعن كل ما يفعله من أجل استمالة قلبها.
- حق ربي، ما تركت بابًا.. خسرت أكثر من عشرين ألفا، حرز سي حمودة وما أدراك لم
ينفع.. سحر سي القريشي، وما أدراك كذلك.. وحرز سي عثمان وما أدراك، كذلك. 3
ويستغرق قدور في سرد أسماء كل الذين استعان بهم، وكل ما بذله، حتى اشترى أخيرًا، كتاب
الشيخ السيوطي، الرحمة في الطب والحكمة.
- فيه حكمة جربتها ونفعت.
- نفعت! ماذا تقول؟
- قابلتها أمي اليوم في الحمام. وأرسلت لي معها السلام...
- ولم تعلمني سوى الآن.
- أسكت. أسكت.
كان باب الشايب السبتي، قد انفرج قلي ً لا، محدثًا حركة خفيفة، ولم تكن الظلمة لتسمح بتمييز
من هناك... فلبثا برهة، صامتين، وأعينهما معلقة بالباب... اتسعت الفرجة... بلغتهما همسات
نسائية، ثم رنة أساور... برز شبح يرتدي الأبيض... اتجه نحوهما. قميرة أخت زينة، تحمل
صينية عليها إبريق شاي، وكأسان... وضعتهما أمام قدور، وهمست
- قالت لك أختي الشاي يطير النعاس.
وبخفة، تراجعت، وتدلفت، لينغلق الباب، ويسود الصمت لحظات طويلة...
"كي تجي تحبيها شعرة. وكي تروح تقطع سلاسل"... علق حمو، ثم مد يده إلى الإبريق
والكأسين، وبعد أن ارتشف رشفات مسموعة، تنم عن التذاذة، واستطابة، تساءل:
- أفهمت...؟
- اسكت. اسكت. قلبي يرقص كالمصر وع... قالت لك، الشاي يطير النعاس...
- لا تهتم... غمض عينيك واغطس... أخوك شوت المحن قلبه...
وبعد ساعتين، انفرج ثانية، فنهض قدور، حسب تعليمات صديقه، وتقدم بالصينية، وركبتاه
ترتجفان، وقلبه يخفق ويخفق... أمسكت زينة يده بدل الصينية، جذبته في رفق، انقاد لها
كالمخدر... انغلق الباب.
سارت به إلى مخدعها...
ما أروع أن نعيش أمانينا وأحلامنا، وحقائقنا في الظلمة... ما أروع أن نسبح في عالم بلا
حدود، كالملائكة...
ظل قدور، يعلق في نفسه، وهو يتذاوب في أحضان زينة، يتشمم شعرها، يلثم وجهها وعنقها،
ويداعب أناملها، ويهمس من حين لآخر في أذنها:
- زينة. زينة.
لتسارع بوضع يدها اللطيفة على شفتيه.
- اس. اس.
إلى أن توضأ أبوها، وخرج لصلاة الفجر، تخلصت من ذراعيه، وأحضرت قارورة عطر،
صبتها على رأسه، وقادته إلى الباب...
- بعد ما يرقد سيدي...
توادعا، ودلف قدور، وهو يثني على الشيخ السيوطي، وعلى كتابه الذي لولاه، لما انفتحت
أمامه، أبواب الجنة والنعيم، أبواب دار الشايب السبتي، التي تنغلق على زينة... بل أبواب قلب
زينة، الذي ينطوي، على كل هذا الحنان، وهذا الحب...
- قدور.
- حمو...!
كان حمو، ما يزال في انتظاره... عادة جميع الناس... لا يعقل أبدًا التخلي عن الصديق، قبل
نجاحه في مهمته، أو سلامته من مغامرته، ومن أدرى حمو، بما ينتظر قدور من مفاجآت... لا
أمان في دار الأمان، قالها الأولون...
أفهم حمو قدور، بقبلة حارة، وهو يحتضنه، ويفعم قلبه بالشعور بالأخوة. ثم غادره:
- تصبح على خير... إنها الرابعة... تأخرت عن إيقاد الفرن... تخلفت على موعد دايخة...
لا يهم... تصبح على خير...
- ربي يعزك. حمو. أنت أخ بحق.
لم يكن يخطر ببال قدور، أن يجد أبويه مستيقظين، فأبوه لا يصلي الصبح في الجامع، ولا
يذهب إِليه إِلا يوم الجمعة، وأمه لا تنهض عادة إِلا في الساعة الخامسة، لتحلب البقرة، وتفتح الباب
للراعي، وحتى إِذا ما خرج أحدهما من غرفة نومه، فإنه لا يتفقده، وليس هناك أي داعٍ في الحقيقة
لهذا... لم يضطر أبدًا إلى التفكير فيهما... إنهما يغطان في النوم، وهذه كل القضية... لكن، ما أن
دفع الباب ودخل، حتى فوجئ بأمه تجلس على عتبة غرفة نومها، ورأسها بين يديها.
حنق لهذه البادرة التي صدرت عن أمه... وساءه كثيرًا أن يكون ما يزال تحت الرقابة... إنني
رجل... رجل كامل، ولست بطفل، وأمي لا تفهم هذا، لا تريد أن تفهم. رغم أنها تحدثني عن
زينة، عن زواجي بزينة، وتحمل لي سلاماتها... يا للوالدين، في بعض الأحيان، يضطران المرء
أن يشعر برغبة زوالهما من طريقه، وتركه حرًا مسئولا رج ً لا، يتمتع بحقوقه كاملة، مثلهما...
تعلم مند أمد طويل، مند سنتين، أنني أسعى وراء زينة، وتعلم أنني قد أقتحم باب منزلها ذات
ليلة، وأسهر عندها حتى الفجر. لكنها مع ذلك تظل تحصي تحركاتي. شيء محرج. إنها
مضايقة... لو اطمأنت إلى مصيري، لإراحتني، وأراحت نفسها.
تشممت أمه. وتنفست من أعماقها، وتبسمت في الظلمة، وفكرت أن تتمتم:
- كنت خائفة عليك. وعارفة كل شيء... اسأل مجرب لا تسأل طبيب، غير أنها، ملأت أنفها
برائحة العطر، وولت إلى غرفتها.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:07 PM

توقع قدور، بعد أن طرق الباب، أن يجد الضابط أمامه، مصوبًا نحوه المسدس، وبسمة ساخرة
تلوث شفتيه، بينما أمه مغلولة، والدماء تنزف منها... يقودني إلى الثكنة بعد أن يركلني ألف
ركلة... وهناك... آه.
واهتز قلبه اهتزازات ذكرته بزلزال الأصنام، الذي آلمه وقدم من أجله تبرعات ضخمة.
- آه بيني وبين الموت... شعرة... خطوة.
انفتح الباب. فتحته أمه. رمقها فراعته سحابة سوداء، تجثم على محياها... تأملته بدورها.
دققت النظر في وجهه.
فهمت. أدركت كل شيء. فهمت أنه في موقف متأزم للغاية. وقرأت في عينيه أمارة معاناة، لم
تبدأ من اليوم، وتساءلت:
- انكشف أمركم؟
- أي أمر؟
اسأل المجرب لا تسأل الطبيب يا قدور يا ابني. أنا عارفة كل شيء، قلب الأم هو خبيرها.
- انكشف الأمر، ولم يبق إِلا أن أهرب.
- لا تبتعد حتى تعرف مصير اللاز.
- ومن قال لك عن اللاز؟
كان الأولاد يتحدثون عنه. وكنت أعلم أن اللاز أيضًا...
ارتسمت على وجهه كل ملامح الطفولة والحيرة. وكأنما هرب منها، سارع إلى حجرته، رفع
بلاطة تحت فراشه، وأخرج كيسًا صغيرًا، لفه جيدا تحت قميصه. ثم ارتمى على أمه، قبلها،
وانقذف إلى الخارج، قاصدًا اصطبل احمزي. وما أن رآه حتى بادره:
- اسمع يا عمي احمزي. اللاز ألقوا القبض عليه. لا بد أن أهرب.
- ماذا ؟ ماذا ؟.
- هل هناك من لم يغادر القرية بعد؟
- بغلة، وحصان. إنني لا أفهم ما تقول؟ ما دخل اللاز...؟
- أريد أن أخرج حا ً لا. لم يبق إِلا ساعة ونصف.
- ها هو سي الفرحي قادم. سيوصلك حيثما شئت.
- اجمع الاشتراكات كالمعتاد... وسيأتيك من يأخذها عنك بعد أيام.
أطرق احمزي، في انتظار سي الفرحي، الذي كان يغالب الصعدة ويحاول الإسراع في خطاه.
وراح يفكر... أنا احمزي... لا تخفى عني لا صغيرة ولا كبيرة من أحوال الناس... أنا احمزي
شاب رأسي في الانشغال بأمور الناس... لا أعرف من أمر اللاز شيئًا... هذا اللقيط. اللعين...
اللاز ولد مريانة... يغيب عني أمره. يقين أن الأمر لا يتعدى بعض كلمات تفوه بها قدور أمامه.
بينما تثبت قدور من سي الفرحي، وفكر... كيلو سكر... نصف رطل قهوة... ونصف ليترة
زيت، ليترة غازِ... كيلو ملح... أربعة دورو توابل ورأس الحانوت... قضية سي الفرحي
الأسبوعية... أحضرها ليلة السوق... ويضيف عنها أحيانًا... خمسين غرامًا من الشاي الأخضر
الجيد، وأربعة كيلو شحمة...
سي الفرحي هذا يوصلني حيثما شئت... قالها احمزي بلهجة الواثق من نفسه.
ونظر إلى ساعته... الوقت يجري بسرعة كبيرة... ساعة وربع لا غير... ثم همس في أذن
احمزي ببعض الكلمات.
بادر احمزي سي الفرحي، بإصدار أوامر صارمة:
- تأخذه معك. يبيت عندك، أوصله للجماعة. المحافظة على السر. هاه... فهمت.؟
ابتسم سي الفرحي وهو يصافح قدور، وتذكر أن احمزي قد أصدر إليه مثل هذا الأمر أكثر من
خمسين مرة... فكل الشبان الذين جندهم قدور، مروا على هذا الطريق، وهذه البغلة التي سيمتطيها
الآن تعودت أن تحمل على ظهرها، من حين لآخر، شخصًا ثانيًا، وقد جاءت اليوم خصيصًا،
لتنتظر أحدهم.
وفي الطريق، بعد أن ابتعدا عن القرية بعدة كيلومترات، وأمنا عدم وقوعهما في قبضة
العسكر، خاصة و أن الظلام قد بدأ يتكاثف شيئًا فشيئًا، وفي إِمكانهما، حتى إِذا ما لحق بهما
العسكر، أن يتخفيا، همس سي الفرحي:
- الإخوان ينتظرونك عندي.
- ماذا؟ ينتظرونني عندك؟
كان قدور يعتقد، أن القضية لا تتعلق إِلا به وحده، ولا يعلم بها سوى اللاز أو أمه، أو احمزي،
ثم سي الفرحي أخيرًا... إنها لا تتجاوز ما حدث، عياط في الطريق... بصقة من اللاز... مغادرة
القرية، وهذا كل ما في الأمر... ورن في أذنه صوت أمه:
- إسأل المجرب لا تسأل الطبيب.
وأعاد سؤاله في لهجة استنكار:
- ماذا؟ ينتظرونني عندك؟.
أخبره سي الفرحي، بأن الحركي الذي فر من الثكنة، في الدفعة الأخيرة، كان جاسوسيًا، أرسل
للإطلاع على الشبكة التي يتم بواسطتها تهريب الجزائريين من صفوف العسكر، بعد أن لبث
أسبوعًا، فر وعاد إلى القرية ليلة أمس.
الإخوان، كانوا يعرفون جيدًا مصير اللاز... ويعرفون كذلك أنك مستهدف، لأن يلقى عليك
القبض بين حين وآخر.
قال سي الفرحي، ثم فكر... إذا ما كذبت عنه كذبة كبيرة، ماذا سيكون رد فعله يا ترى...
أوه... يجب أن يفهم أن لي مكانة كبيرة... وأنني أتحكم في مصيره... وراقت له فكرة الكذب...
فقال، بعد أن أقنع نفسه بأنه لا يكذب وإنما يبالغ بعض الشيء لا غير:
- أنا ما جئت إِلا لتهريبك... أو قتلك...
يقتلني سي الفرحي بأمر من الإخوان... أنا عمدتهم في القرية... يقتلونني كما لو أنني أحد
الخونة القذرين... تنوح أمي، تندب، يقاطع الناس أبي ومتجره، ويموت جوعًا جزاء خيانتي... يا
لها من قسوة... الموت في الثورة حل صالح لجميع المشاكل، يموت الخائن، ويموت المسبل،
يموت الاثنان موتة واحدة، وعلى يد واحدة... يموت الأول لتستريح منه الثورة... لكن الثاني لماذا
يموت؟ ألتستريح منه الثورة أيضًا؟ يا للقسوة...
إذن قد يكون كثير من الذين ماتوا على يد الثورة غير خونة... قد يكونون مناضلين، مناضلين
مسئولين مثلي. وإذن أنا نفسي... ربما أصدر في يوم من الأيام أمرًا بإعدام احمزي، أو أبي، أو
أي مناضل آخر من الذين كانوا يعملون معي...
يا له من منطق.
ذاك فقط ما كان رده، وبعد أن أعيى سي الفرحي الانتظار، أضاف بلهجة لا تقبل النقاش
والتساؤل:
- خسارة واحدة ولا خسارة الآلاف... الثورة كل الناس.
إِلا أن قدور استجمع كل قواه وألقى سؤا ً لا، توهم أن الجواب عنه سيوقفه على الحقيقة كاملة،
حقيقة أن تقتل الثورة مناضليها:
- إذا كان هذا. لماذا لم يرسلوا إِلي أمر قتل اللاز؟
لاحظ سي الفرحي أن قدور لا يزال لا يعيره الأهمية التي يستحقها... يقول: يرسلوا... ولا
يقول: ترسلوا... أن يرسلوا إليه... هو... ولا أتكلف أنا.
وشعر بالخيبة... وتردد... هل يصارحه بالحقيقة، يقول له: إنهم أرسلوه فقط للانتظار ببغلته
في اصطبل احمزي، وإنه كان ينتظر هروب اللاز... لا قدور... أم يواصل في المبالغة... بعض
المبالغة لا غير... زيدان يقول لي دائمًا إنك ديماغوجي متبجح... ولكن أنا لا أفكر إِلا في
المصلحة العامة...
بعض المبالغة، وما يضير:
- لم نكن متأكدين من أن الآخر جاسوسي فع ً لا.
لقد ضحوا باللاز إذن؟ وبنية أن يضحوا بي أنا أيضًا... وبكل الذين يعملون معهم أيضًا.
وتراءى له اللاز، وهو يترامى بين لكمات وضربات رجال الدورية... ورن في أذنه صوت
اللاز وهو ينكر ذاته، مثيرًا كل ذلك العياط، لينبهه إلى الخطر الذي ينتظره هو.
يا للتضحية التي تسود كل شيء في هذا العمل الذي نقوم به.
وخيل إليه أن الثورة ليست سوى شيء واحد... هذا الشيء هو التضحية... التضحية بكل
شيء، وفي عمقها الكبير...
ليست الثورة غير التضحية... التضحية هي الثورة... هذا ما يصنع كل الأحداث...
و تشابكت المفاهيم في ذهنه... ولم يعد يفرق بين الخواطر، وبين الحقائق... ونسي كل شيء
... نسي حاضره برمته، نسي سي الفرحي والبغلة... والطريق هل هو طويل أم قصير...؟ وهل
يمكن أن يصلا، أم يلقى عليهما القبض في الطريق...؟ و احمزي هل نفذ ما أوصاه به أم لا...؟
وهل أنهم ينتظرونه حقا عند سي الفرحي؟
وعاد يعيش وقائع ثمانية أشهر مرت...
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:10 PM

الإخوان اقتربوا، البارحة ذبحوا خمسة إخوة، وحطموا مدرسة وجسرا.
- نخشى فقط أن يعيدوا لنا " ثمانية ماي" آخر.
رد قدور على حمو الذي لم يعد يحدثه، كلما تقابلا، إِلا عن الحرب والإخوان، ونسي تمامًا
المصائب الثلاث: دايخة، ومباركة، وخوخة... والأفواه العشرة التي تقتات من أربعين دورو التي
يكسبها من عمله المرهق الشاق... وانغمس منذ شهر في الحرب... يجمع أخبارها، يروجها بين
المعارف والثقات... مبشرًا بتغيير الوضع وتبديل حال بأخرى، لا يدري كنهها، ولو أنه بحدس
بدائي جدًا، وبغريزة غامضة كثيرًا... يتصورها أفضل وكفى، خاصة وأنه لا يدري أي فارق بين
الأغنياء وبين المعمرين إِلا في اللغة واللباس... وزاد حدسه هذا تأكيدًا أن المذبوحين كلهم إما
فرنسيون وإِما أغنياء... أعيان، وقياد، وخوج، وشنابيط...
- والله يا ابن عمي، ما يبقى في الوادي غير حجاره...
ويتساءل قدور، في سذاجة، عن حجار الوادي التي يعنيها حمو... فيجيبه:
- الصُّح. الصُّح... لا يبقى في البلاد غير الصُّح.
لكن، ما هو هذا الصُّح؟... أهو القوة. إن فرنسا قوية جدًا، أقوي من أي شيء... أهو
الدبابات؟... إنهم لا يملكونها... أهو المدافع؟... إنها ملك فرنسا... المال؟ مال الدنيا كله عند
الفرنسيس.
حتى في "ثمانية ماي" قالوا إنه لن يبقى غير الصح... وفي الواقع لم يبق إِلا الفرنسيس...
إنه يتذكر جيدًا كيف كانت الطائرات تقذف مئات القنابل تنفجر هنا وهناك وفي كل مكان،
وكيف كان هو وكل أفراد دواره يتراكضون في الحصائد كالمجانين، والنيران تلتهب من تحتهم
ومن فوقهم...
آه... ذلك الحمار المسكين، كان واقفًا يحاول فهم ما يجري حوله، مرت طائرة منخفضة
فوقه... رشته بحبل من الرصاص... حبل أحمر كنت أراه... ظل المسكين واقفًا لحظات، ولما
حاول أن يتقدم انشطر إلى اثنين...
ما هو الداعي لذلك... إخراج الفرنسيين... هاه... لقد وجدهم، أمامه، منذ وجد. صحيح أنه
كان يشعر باختلافه عنهم، ولكن مع ذلك، كان يشعر بأنهم الأسياد... بكل ما يتميزون به... فهم،
قوة... نظافة... جمال... جنتهم الدنيا، وجنتنا الآخرة... جدته أقنعته بذلك.
جاءنا فرنسي ذات يوم، اتفق أطفال "الدوار" كلهم على معرفة الحقيقة... ظللنا... نراقبه
ونحاصره... كنا متأكدين أنه سيذهب إلى الاصطبل، أو إلى الشعبة... في المساء قصد الشعبة
والورق في يده... وما إِن كاد يبتعد، حتى تسابقنا إلى مكانة.
ذاق أحدنا غائط الفرنسي وبصق... لم نصدقه، وذقناه كلنا...
الفرنسيون نخافهم، نحترمهم، نتفانى في تقديم الخدمات لهم، ولماذا نحاربهم أو نخاصمهم؟
- اسمع. أنا لم أبدأ في تتبع السياسة إِلا مند وقت قصير، لكن أخي زيدان أفهمني كل شيء.
ويبذل حمو كل ما يملك من جهد فكري، لإقناع قدور بما أقنعه به أخوه زيدان ويستعرض كل
أفكاره.
الصح هو الحق... وهذه البلاد ليس فيها حق، لكن سيأتي يوم، ولا يبقى في الوادي إلا
الحجارة، إِلا الصح،
إِلا الحق.
يخرج الفرنسيون، يفقر الأغنياء و ينعدمون، ينام جميع الناس علي الشبع. نقرأ كلنا. نتعلم
العربية والرومية، بما فيها الإنجليزية والألمانية والروسية.
يصبح الحاكم من عندنا... الشامبيط والخوجة، والقائد، والشرطي منا...
نصير فاهمين، نظيفين، جميلين، محترمين كالفرنسيس.
لسنا وحدنا نطمح لكل هذا... هناك أيضًا المصريون، والتونسيون، والمغاربة، وحتى الكفار
أيضًا... فيهم من يعاني مثل وضعنا، ففي الهند الصينية أناس مثلنا، ولو أن دينهم يختلف عن
ديننا... كان يحكمهم الفرنسيون فثاروا عليهم وغلبوهم، وهربت فرنسا منهزمة...
ديان بيان فو، حتى الذين لم يخلقوا بعد، يسمعون عنها.
افهمني جيدًا. كي يصير الإنسان سياسيًا، ينبغي أن يفهم قبل كل شيء أن الفرنسيين بشر مثلنا،
لهم بلادهم، مثلما لنا بلادنا.
أمام هذا المنطق يعجز قدور عن طرح أسئلته أخرى، ويستغرق في دوامة من التفكير.
السياسة مرض، وزيدان أعدى أخاه... ولو أن كل ما يقولانه صحيح، الفرنسيون ليسوا منا.
هذا أعرفه من قبل. ولقد جاؤوا بلادنا ظلمًا، وجاءوا من بلد آخر يسمى فرنسا... كان ممكنًا أن
نذهب إليه نحن قبل أن يفكروا هم في القدوم إلينا... وحكاية أسبانيا هذه التي يرويها حمو، صحيحة
ولا شك... لقد كنا ذات زمن مثل الفرنسيس في أسبانيا... دار الزمن وأصبحنا مثل الأسبانيين يوم
كنا عندهم...
كلام حمو هذا صحيح...
إِلا أن إِخراج الفرنسيس أمر مستبعد جدًا، جدًا... هم أقوياء، نحن ضعفاء... وحمو لم يحدث
جميع الناس حتى يقنعهم.
ما يهزمني أكثر هو الهند الصينية... هذه البلاد كانت مثل بلادنا، وأهلها كانوا مثلنا،
والفرنسيون كانوا عندهم بالصفة التي هم بها عندنا... مع ذلك خرجوا. مع ذلك انهزموا.
اقتنع الناس كلهم في الهند الصينية بمثل ما يقوله حمو، واستطاعوا أن يخرجوا الفرنسيس...
ترى كم من حمو كان في الهند الصينية حتى يقتنع جميع الناس؟...
ويعمق. يعمق. إلى أن تتراءى له صوَر وأخيلة تجعله يتوهم أنه مصاب بالجنون ويهمس في
شبه ذهول:
- وماذا لو نبقى هكذا... كل واحدة في حاله...؟
كل واحد في حاله... هو في متجر أبيه، مع الميزان والتوابل والسكر والقهوة والزيت
والشحم... وزينة. وأنا في فرن الحمام. من الثالثة، قبل الأذان الأول، وأنا أعرق وأتعب وأشقى
حتى ساعة متأخرة من الليل لأواصل عم ً لا آخر... إِرضاء بنات المعلم، ليلة مع دايخة، وليلة مع
مباركة، وليلة مع خوخة... وحين تنجب إحداهن ولدًا جميلا تخنقه، وأقذف به في الفرن...
مقابل أربعين دورو، تقتات منها عشرة أفواه... كل واحد في حاله.
" ريمون" شيخ بلدية. وجان جون وموريس في ضيعاتهما وخماراتهما، والحاج الطاهر وكل
الحجاج في قصورهم.
اللاز ومريانة أمه في الكوخ، والتحدي و المشاكل، والشانبيط يتسلطن، وينتفخ بالحرام.
وما في الجبل يبقى في الجبل... كل واحد في حاله.
- وراس ابن عمي، فات الحال، إما...وإما... الشامي شامي... والبغدادي بغدادي. الذبح من
جهة... والرصاص من جهة.
ويخيل لقدور أنه غائص في الأعماق... أعماق الأعماق.
في بئر عميقة القرار... ينادي بالإنقاذ، ويمتد له حبلان، واحد أبيض يمثل يد ريمون أو جان
جون أو الحاج الطاهر... وآخر أسود يمثل يد اللاز أو يد حمو أو يد زيدان... أو يده هو بالذات،
فيحتار بأيهما يتعلق.
الذبح من جهة، والرصاص من جهة أخرى... إما وإما... ويقرر ببساطة أن يتعلق بالحبلين
معًا... الأبيض والأسود... لكنه يظل كما كان، لا يتحرك، ينادي بالإنقاذ، وكلما جذب الحبلين
انجذبا واستقرا تحت قدميه كورًا كورًا...
ويظل المشكل أبدًا مطروحًا... بأي الحبلين يمسك؟ ويتساءل :
- وماذا لو نبقى هكذا، كل واحد في حاله...؟
ويأتيه الجواب صارمًا متحديًا هادرًا عنيفًا كالرعد:
- وراس ابن عمي، فات الحال. إما وإما... الشامي شامي. والبغدادي. بغدادي. الذبح من
جهة والرصاص من جهة.
وينادي بالإنقاذ، ويمسك بالحبلين، ويتكوران عند قدميه، ويحتار بأيهما يحتفظ وأيهما يختار...
الذبح من جهة والرصاص من جهة. ومع ذلك يجب أن يخرج من هذه البئر.
ويعاوده الاستيقاظ، فيجد نفسه تحت الجدار بجانب حمو المستغرق في فتل سيغارته...
وتتتالى الغفوات والاستيقاظات، وتتتالى الأيام سريعة... وتتتالى الحوادث، وتطغى أخبارها
على كل شيء...
لم يعد الحديث يدور إِلا عن المعارك، والذبح، والحرق، وتخريب الأسلاك، والسكك الحديدية،
والجسور.
اشتد حماس حمو، ولاحظ قدور أنه لم يعد يتصل به هو فقط، بل بجميع الشبان، وكل من يراه
معه، لا تمر أيام قلائل حتى يختفي، والغريب حقًا في الأمر أن حمو لم يكن يعلق على هذه
الاختفاءات إِلا ببعض كلمات:
- يا ابن عمي، الضيم يهيّج كل الناس.
ثم ينتقل بسرعة إلى موضوع آخر، غالبًا ما يسوقه في قالب دعائي يرمي به إلى إقناع قدور
بضرورة الانضمام إلى الثورة، إلى جعله يؤمن إيمانًا راسخًا بأنه لا بد من الاختيار بين الثورة،
وبين الفرنسيين والعملاء... وأن الحياد بحد ذاته يعتبر تحيزًا إلى العدو، وعدم تضامن مع إِخوانه.
وتعاود قدور الصورة، فيرى قرار البئر العميقة، والحبلين: الأسود والأبيض، ويلحّ حمو على
الخيار، ويلحّ على أن الحياد خيار أيضًا، حتى كانت ليلة انفجر فيها قدور كالطفل:
- تتكلم يا حمو عن الثورة كما لو كانت قريبة. هنا في الزقاق، وأنا أرفض الالتحاق بها.
ابتسم حمو ابتسامة طرب وانتصار، وردد:
- قريبة، قريبة جدًا. متى بعدت؟ إن كنت تحب أن تعمل، فالأمر سهل.
- إذا كنت أحب. أحب. ليس هناك من يحب، كل الناس مجبرون.
- أي نعم مجبرون. وهذا ما أردت إقناعك به.
وساد بينهما صمت طويل، كانا أثناءه يفكران في الجبرية، حمو يرى أن الوضع الذي أصبح
عليه الناس من فقر، وبؤس، وعري، وجهل، ومرض، وظلم، وجَور، يجبرهم على العمل من أجل
التخلص منه. وهذا العمل ليس سوى الثورة، ليس سوى التمرد على الأسياد، على كل شيء على
هؤلاء الأسياد الذين كما يقول أخوه زيدان لم يفهموا، ولا يريدون أن يفهموا إِلا أمرًا واحدًا،
هو مصلحتهم... مصلحتهم التي تتعارض مع مصالح جميع الناس... بل تقتضي أن لا يكون لأي
أحد عداهم، مصلحة ما...
هكذا خلقوا، كما يقول زيدان.
بينما قدور يرى أن الحرب تعم يومًا بعد يوم، وفرنسا يقوى تكالبها يومًا فيومًا، ولا أحد
يستطيع أن يظل محايدًا يواصل عمله في الدكان أو في غيره، دون أن ينجو من تهمة التعاون مع
أحد الطرفين... لقد انتهت كل معالم الحياة العادية أو تكاد... بل لقد سقطت المرآة، وتطايرت
شظايا...
رغم أنه لا فائدة من الالتحاق بالثورة، فإن الالتحاق بفرنسا فيه خسارة.
- إذن أنت متصل بها.
ما يزال قدور مترددًا. ف ّ كر حمو، ثم سأله:
- وأنت هل تنوي؟
يحثني ويسألني... هذا الصديق الحميم تغير، تغير تمامًا، لقد سقطت المرآة فوق صخرة
وتهشمت... نزع ثقته مني دفعة واحدة، لم يعد يكشف لي خبايا قلبه، كما كنا قبل أشهر بل قبل
أسابيع قلائل... عجيبة حمو ينظر إلى، كما لو أنني أنا الذي تغيَّر لا هو... لقد فسد كل شيء في
هذه الحياة، حتى الصداقة.
لم يبق في المرآة شيء، سقطتها كانت قوية.
حدث قدور نفسه ثم تساءل:
- يا حمو، من تغير منا؟
لا أنا ولا أنت. الظروف تغيرت. أنا فقير، فقير جدًا، أقل من الفقير... وأنت متوسط الحال،
بل غني. دكانكم يعمر شيئا فشيئًا، وأرضكم صرتم تفلحونها وحدكم. بعد مدة تشترون شاحنة، وبعد
مدة أخرى تشترون جرارًا، وتكبرون، تكبرون حتى لا يبقى في إمكانكم تمييز من تحتكم...
نحن لا شيء يربطنا بالماضي، وأنتم لا شيء يدفعكم إلى المستقبل، ولم يبق بيننا إِلا رابط
واحد، هو الحاضر... هذا الحاضر الذي أتعاون وزيدان أخي، وكل الفقراء على صنعه، والذي
تريدون أنتم أن تبقوا متفرجين عليه... بعضكم يتفرج والبعض الآخر يعمل على عرقلته وهدمه:
- يا ابن عمي، في حين أنا غاطس... أنت متردد.
- لابد، لابد أن أنضم إليكم... إنني معكم، واحد منكم. إذا خرجت فرنسا، أتزوج زينة وأشتري
الحمام.
- وتزيد خمسة دورو في أجرتي.
أضاف حمو ساخرًا، ثم استطرد:
- أنت من الآن، واحد من المجاهدين... سنتفق فيما بعد على كيفية العمل. لكن السر... يجب
أن لا يعلم أحد بعملنا غير من نتفق عليه.
ومند الغد، بدأ العمل مع حمو... شراء الأدوية، والأحذية، والمواد الغذائية، وإرسالها إلى حيث
لا يدري... وكم ذهل حين رأى حمو الفقير البئيس، يخرج الملايين من جيبه، بينما عائلته تتضور
جوعًا، ولباسه ممزق رث كالعادة، بل و عمله الشاق لم يتغير، وشعر بعطف واحترام، لهذا
الصديق العجيب... وفهم أكثر من قبل، أن الثورة، أن هذا العمل الذي يقوم به حمو، وزيدان، وكل
الفقراء وحتى هو أخيرًا، عمل جاد عظيم، لا بد أن يغير الأوضاع فع ً لا، كما يقول حمو. أكثر من
ذلك، شعر باحتقار المال الذي كان يظن أنه سر الحياة.
تواصل العمل، وتعرف على كل المنخرطين، على أغلب سكان القرية. وصار حمو لا يظهر
إِلا قلي ً لا... كثير الأسفار، إلى حيث لا يدري أحد، بينما تنوب عنه زوج أخيه في العمل بالفرن،
وهو في الباقي، حتى بقي وحده في القرية، مناض ً لا مسئولا.
ودعه حمو ذات أمسية قائ ً لا :
- وجب أن أختفي من القرية، تخلفني أنت... إنك تعرف كل شيء عدا تهريب الجنود
الجزائريين من الثكنة.
سيأتيك الأخ المناضل المكلف بهم، دورك أن تخبر احمزي بالموعد الذي يخرجون فيه. الباقي
لا يهمك، كلمة السر بينك وبين المناضل المكلف هي: ما يبقى في الوادي غير حجاره يقولها ثلاث
مرات.
وذات مساء فوجئ، في الدكان بما لم يكن يتوقعه أبدا.ً دخل اللاز، ثم ً لا قذرًا، إحدى عينه
زرقاء، من أثر معركة، يبدو أنه لم يخرج منها إِلا لحينه، وهو يردد، كما لو أنه يهذي، بأغنية
بحار استيقظ من السكر:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
أنصت قدور جيدًا، مشدوهًا مذهو ً لا... حتى ردد اللاز الجملة ثلاث مرات، ثم هتف:
- أنت المكلف. أنت الأخ المناضل. ماذا أسمع؟ اللاز ما بك؟
ردد اللاز هذيانه:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
ثم قال في لهجة جادة، كما لو أنه لم يذق قطرة خمر، بل كما لو أنه ليس هو اللاز ولم يكنه في
لحظة من لحظات حياته، إِنما الأخ المناضل، المكلف بعملية تهريب الجنود الجزائريين من الثكنة:
- السلعة جاهزة، غدًا على الساعة الخامسة، ثلاثة. اقرأ حساب حمولتهم الثقيلة...
وخرج يردد أغنيته ثم ً لا، قذرًا، معربدًا، في طريقه إلى الخمارة، ليواصل السكر مع الضابط
صديقه الحميم، بينما لبث قدور يتساءل:
- ترى من يكون أبوه؟... لا شك أنه ابن جميع الأشقياء.
***

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:13 PM

- وصلنا .
قطع سي الفرحي حبل الصمت الذي امتد كامل الطريق ، فانتفض قدور، ومد بصره في
الظلمة، ثم تحسس بقدميه بطن البغلة، وتلمس بيديه كتفي سي الفرحي، وتذكر موقعه وهدفه، بعد
أن هم أن يسأله:
- أين؟
توقفت البغلة، ووثب سي الفرحي إلى الأرض. انبطح، وأمره أن يفعل مثله. وبعد هنيهة،
حاول أثناءها أن يفهم سر هذه العملية، راح يرهف سمعه، عله يلتقط حركة، لكن لا شيء...
الظلمة جاثمة موحشة رهيبة. السكون ثقيل مرعب.
الأخبار الأولى التي بلغتنا عن الثورة هي أخبار الكلاب. بدأ ذبحها أو ً لا ثم تلاها ذبح الخونة...
في السلم تحمينا، وفي الحرب تكون هي الضحية الأولى.
فكر قدور.
- اوو... أو...
انبعث صوت سي الفرحي، يمزق السكون، وكأنه عواء ذئب جائع، نغص الثلج حياته... وما
إن رددت البهمة نفس العواء، حتى نهض، وتبعه قدور، وواصلا السير.
- تفضل. ادخل.
أمام كوخ، حيث انفرج باب صغير على ضوء قنديل يدخن في بطء حمار يصعد الجبل بكيس
طحين. قال سي الفرحي ويده تربت على كتف قدور، الذي رغم شعوره ببعض الهيبة والرهبة،
راح يسأل نفسه عمن يكون في انتظاره من الإخوان...
استعرض أسماء كثيرة ووجوهًا عديدة ممن جندهم بنفسه، أو التحقوا بالجبل قبل انخراطه،
على يد حمو.
تذكر الكثيرين، وتشخصوا له، واحدًا واحدًا.
هذا ببسمته التي لا تفارق محياه، ومرحه الذي لا يؤثر فيه حتى الجوع، في البرد القارس،
حين تتغطى القرية بثلج أبيض يعطل كل حركة، عدا حركة المقاهي، حيث يلتجئ كل الناس للعب
الحجر والورق... "قجوح" مسكين.
وذاك بتنهداته المتواصلة، وعبوسه المستمر، وتساؤله المسترسل، لماذا خلقه الله في هذه البلاد،
ولماذا هو أخ لستة وعشرين ذكرًا لا عمل لهم إلا انتظار الغداء والعشاء، والليل والنهار... والدهم
يرفض أن يتنازل لأي منهم عن المساهمة في العمل في مزرعته خشية أن يسرقوه... لا ينفك
يتضرع إلى الله أن يخفف وطأتهم عليه، بأن يحمل إلى جنته أو ناره، كما يشاء، حتى نصفهم أو
ثلاثة أرباعهم... ويفشي غيظه في زوجاته العديدات، دون أن يرحم حتى الصغرى التي لم تنجب
له سوى أربعة إخوة في دفعتين لم تستغرقا سنتين كاملتين... كلما أراد أن يتزوج من جديد، طلق
الكبرى بالثلاث، وتركها في زاوية مهملة، دون أن يسمح لها بالالتحاق بأبيها أو أحد أقاربها... أبو
القاسم مسكين.
وذاك بحيويته المتدفقة، ولباسه العصري الأنيق، صندوق الحلوى أو الكعك أو غيره، حسب
الفصول والمناسبات، في صدره، والسيغارة بين شفتيه، تثب يمنه ويسرة. وهو كالفراشة، يثب من
مكان لآخر، من حي إلى حي، ومن زقاق إلى آخر، ومن مقهى إلى آخر، ومن جماعة لغيرها...
اليوم هنا، غدًا في قرية أخرى، بتابع الأسواق والقطارات... حديثه لا يدور إلا عن المودات،
خاصة النظارات التي تطورت حتى أصبحت تعوض ضعف الأبصار، بل حتى أصبح في إمكان
المرء، أن ينظر بواسطتها إلى الخلف، دون أن يلتفت.
أما مغامراته في القطار، فالحديث عنها لا ينتهي، لأنها تتجدد يوميًا، إنه لا يدفع ثمن التذكرة
ككل البسطاء، لأنه يعرف جل المراقبين، يعرفهم جيدًا، مراقبًا فمراقبًا، ويعرف مواعيد عمل كل
واحد ورقم قطاره... ويعد لكل واحد ما يلزمه... علبة تبغ من النوع الجيد لهذا، وعلبة شوينقوم
للآخر، وقارورة جعة في هذه المحطة أو تلك لثالث. إلى غير ذلك مما لا يكلفه سوى ربع ثمن
التذكرة... والمهم قبل كل شيء، والذي يدعو فع ً لا إلى الافتخار و التبجح، هو الصداقة والمودة.
ومعظم المراقبين الصغار والكبار أصدقاء له... الناصر المسكين.
في أحلامنا، لا تعيد مخيلاتنا، في الغالب، إلا الأشخاص البعيدين عن حياتنا الواقعية، أما أولئك
الذين يعيشون معنا يوميًا، ويؤثرون في حياتنا، فإننا لا نراهم إلا نادرًا، كما لو أننا سئمناهم.
خطر لقدور، وعجب كيف تذكر بسرعة فائقة أشخاصًا كانوا بعيدين عنه كل البعد، لم تكن
تربطه بهم أية علاقة، كان يرقبهم من بعيد لا غير، وحتى إذا ما جمعته بأحدهم فرصة، فإنه يظل
يتحاشى التحدث معه... كلهم من عالم آخر. لباسهم أوروبي، ورؤوسهم حاسرة، حديثهم في الغالب
بالفرنسية.
- ادخل ما بك؟
أضاف سي الفرحي، ويده تضغط على كتف قدور، الذي انحنى بعد تردد، واقتحم الباب
الصغير، وردد مشدوها وًيده تستقبل يدًا صلبة جافة ضخمة:
- زيدان. سي زيدان، أنت؟
وحدق فيه جيدًا... لم يتغير سوى لباسه... هو هو، بطوله الفارع، إنه ينحني حتى لا يلامس
السقف... هو هو بوجهه الأسمر المائل إلى الزرقة، وذقنه الطويلة، وجبهته العريضة المخددة،
وأنفه الطويل الحاد، وفمه المستطيل كأنه بدون شفتين، وعينيه السوداوين العميقتين، الجادتين،
الرهيبتين، كأنها سجن أو سور روماني هزم بعناده الدهر.
- على سلامتك يا الغول.
قال زيدان، وسحبه إليه واحتضنه بحرارة، ثم قدمه إلى باقي الجماعة. وما إن جلسا، حتى بادر
قدور:
- وحمو؟
- بخير قد تراه الليلة.
- هل هو مدني، أم... مثلكم؟
- لسنا في عرس حتى نغرق في الأحاديث عن الأحوال الخاصة...
رد زيدان، وابتسامة خفيفة تطل من شفتيه ثم تختفي بينما عيناه ظلتا تشعّان الجدية والرهبة
والوقار.
خجل قدور، و أحنى رأسه، وأغمض عينيه وهمس:
- حمو أكثر من صديق. حمو أخ.
وبحركة مضطربة، أخرج الكيس من تحت قميصه. فتحه وأخرج ورقة بالية، عليها بعض
رموز وأرقام، وحزمة مالية، ورفع بصره نحو زيدان.
ذهن التاجر لا يبتعد عن مصالحه وخواصه أو المحاسبة. أفق ضيق جدًا، كأفق الفأر... لكن
هذا نشأ ريفيًا فلاحًا...أوف، ذهن الفلاح أيضًا مغلق... عندما تجود عليه الأرض بالصوب ، لا
يفكر في إنفاقه إلا في الأعراس أو الخصومات.
فكر زيدان، ثم شعر بالإشفاق على قدور، فأضاف في نفسه، الثورة تحول الإنسان، وما دامت
عميقة، فإن التحول يحدث بسرعة. يجب أن يتحول قدور، إلى مناضل ثوري، متطهر من العقد
والرواسب... يجب أن يرتفع ويرتفع إلى أن يصل مستوى الثورة.
في تلك الأثناء، كان المسئول المالي يحاسب قدور ويفك معه الرموز والأرقام... عشر ملايين،
حاضرة نقدًا... مليون وصل ألبسه وأحذية... خمسمائة ألف صرفت لعوائل الشهداء والجنود
المعوزة... مائة ألف أرسلت أدوية، حساب الشهر الأخير...
- الحساب صحيح.
قال المسئول المالي. فأضاف المسئول الإخباري وهو يقترب من قدور...
- والحالة السياسية؟
- المعنويات مرتفعة، خاصة بعد المعركة الأخيرة، وبعد اغتيال الخائن "السبتي"، الإنذارات
وصلت إلى كل الموظفين وقد استقال أغلبهم بصفة جماعية، لكن السلطات لحد الآن ترفض القبول،
وتدفع لهم الأجر، فرار الجنود و"القومية 4" أحدث اضطرابًا كبيرًا في صفوف العدو. يقال إن فرقةد
كبيرة من اللفيف الأجنبي في طريقها إلى القرية. على العموم، الأمور كلها حسنة، باستثناء حادثة
اليوم... واللاز مسكين،
- اللاز المسكين.
ردد أيضًا زيدان، ثم أسند كتفه إلى الجدار، ووضع يده على جبينه، كأنه يستغرق إغفاءة
واستسلم لمخيلته.
***

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:47 PM

السماء صحو، عدا بعض سحابات تلتوي يمنه ويسرة، متخذة أشكا ً لا مختلفة، مرة تبدو في
شكل أسد، ومرة في شكل شيخ معمم يجلس القرفصاء، لحيته البيضاء تتدلى. ومرة في شكل ديك
مذبوح... وأشعة الشمس الواهنة تغالب الجليد الذي بدأ ينفث سمومه مع الريح الفاترة... وهو
متكئ على مقعد حجري بالمحطة، في انتظار قطار الرابعة. فكر كثيرًا، في أشياء مختلفة، وتأمل
طوي ً لا حركة السحابات المتواصلة، ثم فتل سيغارة بدقة وإمعان، ووضعها بين شفتيه. لم يكن يشعر
بالظمإ إلى التبغ، ولكن اقتراب موعد القطار الذي سيقله ويغادر به القرية، ربما للمرة الأخيرة،
دفعه إلى هذه الحركة...
تلمس جيوبه بحثًا عن الوقود، ولما لم يجده، امتص نفسًا من السيغارة المنطفئة، وأغمض
عينيه. وما إن فتحهما حتى فوجئ بيد تقدم إلى فمه عقب سيغارة مبتل.
التفت في تثاقل متعمد، وقلبه يخفق، فإذا باللاز يجلس خلفه فرحًا على غير عادته.
- أخيرًا أمسكتك يا عم زيدان.
- أكنت تبحث عني؟
- منذ البارحة.
- خير.
- حتى تقول لي أو ً لا.
- ماذا؟
- هل تشتري لي معك تذكرة إلى المدينة ذهابًا وإيابا، أم تضطرني لسرقة القطار.
- لكنك تعلم أنني فقيرة عاطل.
- مع ذلك أعرف انك غير محتاج للدراهم في الوقت الراهن:
- كيف؟
- حين نكون في القطار، أحدثك عن أشياء كثيرة أتسافر إلى المدينة؟
أخرج ورقة نقدية قدمها له، ليدفع ثمن التذكرة، ذهابًا وإيابًا، إلى حيث يشاء.
في المرة السابقة، فاجأني مثل هذه المفاجأة، في هذا المكان بالذات، يعرف أين وكيف يجدني
دائمًا، كأنما يتشمم رائحة قنصه، لم يطلبني يوم ذاك في ثمن التذكرة، كان مستعج ً لا للعودة إلى
الثكنة، إلا أنه ما إن حل القطار، حتى سبقني قافزًا، وبادرني:
- عمي زيدان، أريد أن أسألك.
- خير.
- هل تعرف "الفلاقة "؟
- ولماذا هذا السؤال؟
- حتى أنت لا تثق بي؟
طأطأ رأسه في خجل. لأول مرة أراه خج ً لا، وتركني مع حيرتي، لماذا يسأل؟ ماذا تحرك في
ضميره؟ هل له ضمير؟ ولم لا؟ هل أصارحه بالحقيقة الكبرى، ليس حقيقة "الفلاقة” ولكن الحقيقة
الأخرى، المرة، ربما، والعذبة ربما، حسبما يتلقاها. وقبل أن أقرر مع نفسي، رفع رأسه:
- إذا كنت تعرفهم اسألهم هل يريدون موت القبطان؟ وهل يقبلونني معهم إذا ما قتلته؟
- ماذا تقول يا اللاز.
- أريد أن أتخلص من اللاز ولد مريانة.
- هكذا إذن
- نعم.
قبل أن أسألهم، أقول لك إنهم ربما يفضلون منك خدمة أكثر من قتل القبطان.
- ما هي؟
- حتى أجدهم وأتمكن من إلقاء السؤال عليهم .
- أعرف. أعرف أنك واحد منهم.
وقبل أن أرد عليه، ربت على كتفي، ووثب ناز ً لا مؤكدًا:
- المراقب قادم. إلى اللقاء، سأتصل بك قريبًا ... يا عمي زيدان.
وها هو يتصل بي، لأول عودتي إلى القرية، رغم أنني لم أظهر بالمرة في شوارعها... ترى
ماذا يريد مني؟
ما إن عاد اللاز، حتى كان القطار قد حل لينطلق بسرعة، مرس ً لا زفرته الطويلة الكئيبة، التي
يترجمها كل واحد من سكان القرية بهذه الجملة: " وداعًا. لقد ارتحلت. انتظر دورك أنت".
وثب اللاز وزيدان، وما إن ارتميا في مقعد خشبي من مقاعد الدرجة الثالثة، حتى بادر زيدان:
- وأمك، كيف حالها؟
- أتعطف علينا يا عم زيدان.
هل أصارحه بالحقيقة الكبرى؟ يقين أنه حان أوان مصارحته... ألا تكون أمه قد سبقتني. لا.
لا أعتقد ذلك، فهو خالي الذهن على ما يبدو. آه. كيف أبادره؟ كيف أبرر صمت كل السنين
الطوال؟ هل يفهم؟ هل يعذرني؟ قبل أن أودعه، الوداع الذي قد يكون الأخير، لا بد أن أعلمه. نعم
لا بد من ذلك. لقد حان أن يسترد اعتباره. نعم حان. رغم أنه فعله قبل اليوم، يوم قرر قتل
القبطان.
ودون أن يدري، وجد زيدان نفسه يتمم:
- نعم. نعم. كثيرًا جدًا يا ولدي العزيز.
- ولدك العزيز؟
- نعم نعم.
غمغم زيدان، في أسى، وأغمض عينيه، وراح يقص بصوت خافت:
هذه خمس وعشرون سنة. كنا في الدوار. كان عرشنا كبيرًا. كنا نسكن أرضًا خصبة غّناء.
قتل في دوارنا "قايد"، لا أذكر بالضبط سبب موته، هل كان سياسيًا، أم لا. خرج العسكر. خرب
كل الدوار. تشردنا هنا وهناك. كان عمري ثماني عشرة سنة. وكانت أمك مريم، مسكينة ابنة عمي
تكبرني بعدة سنوات. هربت و إياها إلى الغابة. لبثنا شهرًا ثم ألقي القبض عليّ وجندت للخدمة
العسكرية...
- أنت يا اللاز... أنت يا اللاز. أمك مريم ابنة عمي، وأنت يا اللاز...
- عمي زيدان، أنت أبي؟ أنت... أنت... عندي أب إذن!
كان يهذي، بينما انحنى زيدان بكتفيه الغليظتين، واحتضنه بشدة، وقد اغرورقت عيناه:
- هذه المرة الأولى التي أُقبلك يا ابني. إننا أشقياء كالكلاب.
- أنت. عم زيدان أنت. لي أب أيضًا... عم زيدان أنت.
ثم ارتمى عليه، وراح يقبله في كامل وجهه. وفجأة تخلص من ذراعيه وراح يقهقه، بينما
الدموع تنهمر من عينيه... اللاز عنده أب، ها ها... اللاز، أنا... مريانة أمي كانت تسمى مريم...
ها ها...
كان اللاز يهذي كالمجنون، بينما أبوه زيدان يبكي في صمت.
وشيئًا فشيئًا، جفت الدموع من عيني زيدان.، وهدأت قهقهات اللاز، وأخذ الصمت يسود
بينهما، وأحنى كل منهما رأسه، كأنما يفكر.
أخيرًا تساءل زيدان:
- لماذا تبحث عني؟
- أُريد أو ً لا أن أعرف لماذا يقال إِنك أحمر... مع أنك أسمر؟...
- من يقول إِنني أحمر؟
- الضابط. سمعته البارحة يتحدث عنك ويضعك في رأس القائمة. سيلقون عليك القبض خلال
هذا الأسبوع. لهذا السبب كنت أبحث عنك. كنت دائمًا أحبك يا عم زيدان، يا أبي... هأ هأ لأنك
الوحيد الذي لم يؤذني، ولم يشتم أُمي، ولأنك الوحيد الذي يحتقر الأغنياء ويسبّهم... الوحيد بعدي
طبعًا.
- أشكرك كثيرًا يا اللاز. لقد كنت دائمًا أعلق عليك آما ً لا كبيرة، وكنت أثق في انك لن تخون
أبدًا، لأنك لا تطمع في شيء ولا تخشى ضياع شيء. أما ما تقوم به من التحدي بالضجيج
والصخب، فإنني أقوم به بدوري في صمت ومخاتلة. يجب أن نغير الحياة يا اللاز يا ابني. عليك
الآن أن تعمل في خط واضح ومن أجل هدف واضح... سأتركك بعد قليل، لألتحق بالجبل، سّلم
على أمك، واتصل بعمك حمو لتعمل معه... اعرف كيف تتصل. كلمة السر ليثق بك هي هذه: ما
يبقى الوادي غير حجاره... رددها أمامه ثلاث مرات...
- هيا قبلني فسأنزل بالمحطة القادمة.
- أفهمني أو ً لا كيف أنت أحمر؟
- قد نلقي مرة أخرى وتكون قد نضجت... إِذ ذاك ستفهم، سأُفهمك.
- والأشخاص الذين معك في القائمة، هل نتركهم يقبض عليهم؟
- قل لحمو أن يخبر الهامين، ويدع من لا يعرفون أي سر. يجب أن يفهم الناس أن فرنسا
ليست خطرًا على المقاومين في الجبال فقط، بل على جميع الناس. ويجب أن ندفع ثمن هذا يا
اللاز، هل فهمت؟
- فهمت.
وقبله بعنف وحرارة. وتردد في قبول ورقة مالية ذات مبلغ متواضع، وأجهش يبكي. وأرسل
القطار زفرته.
" وداعًا لقد ارتحت، انتظر دورك أنت ".
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:50 PM

مسكين اللاز...
كرر زيدان، واستوى في جلسته، مبتعدًا عن الجدار.
تأمل الجماعة برهة، ثم تلمّس جيوبه عدة مرات... لا أستطيع نسيانه... حرّموه في وقت غير
مناسب. منذ خمس وعشرين سنة وأنا أدخن. ثم رفع صوته وقال بلهجة بطيئة، تبدو فاترة، ولكنها
لا تخلو من صرامة:
- هل أنهيتم عملكم؟
- نعم.
- حسنًا، هل تريدون أن يرحل قدور معنا، أم يبقى هنا حتى تأتيه الأوامر بعد أن يظهر ما
سيسفر عنه استنطاق اللاز؟
- إن الخائن الذي كشف اللاز، لحسن الحظ، لم يعرف الكثير من أسرارنا. لقد جاءنا مباشرة،
دون أن ينزل بدوار، أو يعرف أحدًا، عدا المسبل الذي أوصله، وهو يعيش في الخفاء، ولا يمكن
أن يهتدي إليه في مدة وجيزة، ربما نتمكن من إعدامه قبل ذلك.
- لذا أفضل أن ينتظر قدور، هنا، أيامًا، حتى تتضح الأمور، فقد لا يعترف اللاز.
هكذا قال مسئول المالية، فرد عليه المسئول الإخباري بأنه يمكن أن يعترف اللاز، ومع ذلك
يكتم الضابط الأمر بنيّة إلقاء القبض على مجموعة كبرى ممن يعملون مع اللاز... بقاء قدور في
القرية أصبح خطرًا، بل مغامرة تضر أكثر مما تنفع... يجب أن يتعين من يخلفه، ممن لا يلفتون
الانتباه.
"من أجل ذلك إذن استخلفني حمو... لم أكن ألفت أي انتباه".
قال قدور في سره، ثم رفع صوته:
- نعم نعم، يجب أن لا أرجع إلى القرية، أريد أن ألتحق بالجبل معكم، أريد أن أكون جنديًا...
ببندقيتي، أقتل العسكر، وأقوم بعمليات، وأدافع عن نفسي، لقد انتهى كل أمل في القرية، ويجب أن
لا أعود إليها.
كان مندفعًا، يتحدث على غير عادته، بسرعة و بانفعال، ومع ذلك صمت فجأة... وأغمض
عينيه.
كل أمل، كل أمل. بالنسبة لمن؟
زينة، الربعة، الممتلئة، البيضاء، العذبة، حب الملوك... أم البيع والشراء، والتوسع في
التجارة، وشراء عربة شحن كبيرة، وفتح مخزن للجملة، أم جمع الاشتراكات والتبرعات وتوزيع
المناشير وشراء الأدوية والألبسة والأغذية وتهريب الجنود الجزائريين من الثكنة وتجنيد الشباب أم
ماذا؟
فتح عينيه، ووجد زيدان يغمره ببسمة عريضة وبنظرة جادة وقور، وخيل إليه أنه سمعه
يخاطبه هازئًا:
- أيها التاجر الحقير. أيها الفلاح الأعمى، يجب أن أحوّلك بسرعة
أضاف بلهجة استسلام:
- كما ترون، كما تريد يا سي زيدان.
ربت زيدان على كتفه، وهمَّ أن يطمئنه:
- تبقى معنا يا الغول. تبقى معنا.
لو لم ينفتح الباب، ويقتحمه شاب ملثم، تل ّ ف قامته القصيرة "قشابية" سوداء وعلى كتفه رشاش
صغير.
- حمو.
ما أن قال زيدان، وقبل أن يزيح حمو اللثام عن وجهه، حتى قفز قدور وارتمى عليه يعانقه
بشوق وحرارة:
- كنت أسال عنك.
- يسأل عليك الخير. كيف الحال؟
ثم تهالك وبادر كما لو أنه يقرأ برقية:
- العسكر يطوقون القرية، الأضواء الكشافة حوّلت الليل نهارًا، قبل ذلك بخمس دقائق شوهدت
سيارة مدنية تغادر القرية في سرعة جنونية، المصدر: الحصان الأخير في اصطبل احمزي.
- ماذا تظن، أيكون اللاز قد اعترف؟ لكن السيارة المدينة لمن؟
- اللاز جِنّ، فكرت في ذلك أيضًا، لكن لا أعتقد أن يكون قد تمكن من الفرار بمثل هذه
السرعة. ربما بعض مسبلينا تمكنوا في اللحظة الأخيرة من اغتيال بعطوش وفروا. المؤكد أن
الحصار من أجل البحث عن شخص ما، ربما قدور، ربما غيره، ممن تلّفظ اللاز بأسمائهم ربحًا
للوقت حتى يتمكن قدور من الفرار، ولربما اعترف.
رد حمو، فانبرى قدور:
- لقد حذرني اللاز المسكين قبل أن يستسلم للدورية ، أنا بدوري أوصيت احمزي بإشاعة خبر
فراري.
- وتسكت حتى الآن عن مثل هذا الخبر؟ كيف تبيح لنفسك. آه.
انفجر زيدان، ثم تمالك وهو يضيف:
- مهما يكن الأمر، فالظروف ت ّ غيرت، يجب أن نضع خطة جديدة ألى أن تنضج الأمور. المهم
الآن أن نرحل من هذا المكان، فقد تأخرنا.
ونهض ليتبعه الجميع، ويرتموا في أحضان البهمة، تاركين سي الفرحي يعيد على نفسه
التعليمات التي يجب أن ينفذها غدًا.
* * *

فسحة أمل 22 - 3 - 2010 05:57 PM

استوى الضابط على المقعد، خلف مكتبه الحديدي، ثم أمر رئيس الدورية بفكّ السلسلة من
ساعدي اللاز، وتقديم مقعد له، ومغادرة المكتب. وبعد أن أطرق لحظات متنهدًا كما لو أنه يفكر في
أمر مؤسف، ركز النظر في عيني اللاز لحظات، ثم قال بلهجة متوددة لينة:
- اللاز، مرت أشهر على صداقتنا التي يجب أن تستمر، وأعترف لك أنني لا أطيق الحياة في
هذه القرية الصغيرة بدونك... إنني أُحبك لأشياء عديدة. أنت لا تسكر مهما شربت، وتحسن لعب
الحجر والورق، وتتقن الشتم بالفرنسية والعربية معًا... وفوق هذا وذاك...
كلا. كلا، اللاز لن أستغني عنك... لا أستطيع.
احمرت وجنتاه عندما بلغ هذا الحد، وشعر بضحالته. صمت برهة. صب بانفعال الكحول في
كأس أمامه، وتجرع، ثم واصل مستدركًا:
- إنني مريض كما أفهمتك قب ً لا... لست مخنثًا... لقد أوجب الطبيب... إنه شيء ضروري
لحياتي... إنه علاج لا غير... اللاز، ألفتك، وكل الشروط تتوفر فيك. لا أستطيع الاستغناء عنك،
ويجب أن تساعدني وتساعد نفسك أيضًا.
كل الدلائل والوثائق، تؤكد أنك تهرب الجنود من سريتي إلى الأعداء... أعرف أنك واسطة لا
غير، وأعتقد أنك تقوم بهذا العمل خشية أن يقتلك المتمردون بسبب صداقتنا... إنني أفهم وضعك
وأعذرك... فقط، أطلعني على الشخص الذي تعمل لفائدته... أعدك أنني لن ألقي عليه القبض،
حتى يتأكد الجميع من أنك لم تفش سرًا... أريد... أريد إنقاذك... أريد إنقاذك بكل ثمن... اللاز،
إنني احبك من أعماق قلبي... اللاز، اللاز، آه، مْا بك؟
كان اللاز مطرقًا يفكر بأعصاب مضطربة، والدماء تسيل من أنفه، وجراح وجهه ما تزال
ممتزجة بدموع باردة، ويداه لا تزالان على الوضع الذي كانتا عليه بالسلسلة... من أين عرف
"المأبون" ما أقوم به... قد تكون خدعة، أكيد أنها كذلك. قدور... هل فر بعد؟ يقينًا أنه فهمني...
الخنزير. يتحدث عن الصداقة والحب، كما لو أنه عاهرة وقحة...
هو أيضًا لا يراني جادًا فيما أقوم به من عمل... كالآخرين، ككل الآخرين، عدا عمي زيدان.
أبي زيدان، وعمي حمو... يعتقدون أنه لا دور جادًا يمكن أن أؤديه في الحياة... يرونني دودة
زائدة، لا عمل لها إلا تنغيص حياتهم... هذا المخنث يوشك أن يبكي. شيء مخز.
أنا لم أهرّب أحدًا ولا أعمل مع أحد.
نطق اللاز أخيرًا، رافعًا رأسه في تحدّي متخاذل. التقت عيناه بعيني الضابط الذي ارتسمت
على شفتيه ابتسامة متداعية تقزز لها اللاز، وود لو كان في يده مطرقة ليهوي بها على تلك
الأسنان البيضاء التي تطل من فمه.
ظلت أعينهما ملتقية لحظات، في نظرة مضببة، وعندما خفض الضابط بصره، مد يده إلى زر
بطرف المكتب، قائ ً لا:
- لم أصدق من وشى بك أول مرة، حتى هرب على يدك، وعاد... ستراه بعد قليل، ولن تجد
ما تواجهه به... دخل الملازم المكلف بالحراسة، حيىّ مفرقعًا قدميه، ثم خرج ليعود بعد لحظات،
بالحركي، الذي كان التحق بالجبل منذ أيام، بعطوش، ابن عم قدور...
تأمله اللاز جيدًا، ثم نهض مقتربًا منه، ويداه ما تزالان على وضع القيد. وقبل أن يتراجع إلى
الخلف، فاجأه ببصقة ضخمة ملوثة بالدم، ثم هوى عليه برأسه، فطرحه أرضًا، والتفت إلى الضابط
وزمجر في هستيريا دون أن يغير من وضع يديه:
- مجاهد، مجاهد. مسبل، مناضل. فلاق، خدعتك أيها المأبون القذر.
وقهقه مكشرًا عن أسنانه السود... نهض بعطوش بسرعة وأخرج الملازم غدارته، وراح ينظر
إلى الضابط منتظرًا الأمر...
كان الضابط قد نهض من مقعده، وظل واقفًا خلف المكتب يقاوم الانفعال الذي اعتراه...
الكلب، رصاصة واحدة في تلك الجبهة العريضة تنزع منه التحدي إلى الأبد... لأية كرامة
يثأر اللقيط... الدنيء يبالغ في إهانتي... ليفعل، فأنا الذي أتحت له الفرصة... إنه غير واعي
للخطر الذي يحدق به... بل إنه يستهين بي.
وفكر أن يخرج غدارته، ويصوبها نحو جبهة اللاز ويفرغ فيها رصاصة... إنه لا يستحق أكثر
من واحدة... إلا أنه تهالك على المقعد ووضع يده على جبهته وتململ عدة مرات، ثم تناول سيغارة
أشعلها وألقى نظرة خاطفة على اللاز... ماتت القهقهة في فمه... إنه في وضع الانتظار... لقد
أدرك شيئًا ما... الدموع تسيل من عينيه، ما يزال يكشر... إنه في وضع المفجع... الأبله، كنت
أفضل ألا يعترف أمام أحد غيري حتى أتمكن من إنقاذه، لكن... المجنون، الغبي. يستدير بأكمله
كالخنزير... سيدفع الثمن... سيدفعه باهظًا...
- مع من تعمل؟ انطق. انطق.
انفجر فجأة ويده تقذف بالمنفضة النحاسية لترتطم بالخزانة الحديدية وتحدث صوتًا بدّد السكون
الذي خيم منذ لحظات... وانتظر أن يجيبه اللاز، أن يقول شيئًا على الأقل... أن يقهقه، أن يضرب
بعطوش مرة أخرى إن لم يجد غير ذلك... إلا أنه لم ي ّ غير وضعه... الدموع تنهمر من عينيه،
والقهقهة ميتة في فمه، ويداه في وضعهما.
- خذوه.
لم ينتظر اللاز أن تخرجه الدورية عنوة، بل وبدون أي تفكير مسبق، اتجه إلى الباب ويداه ما
تزالان على وضعهما، وراح يحث الخطى نحو قاعة التعذيب، الأمر الذي اضطر الملازم إلى أن
يخاطبه ساخرًا:
- لا عليك، لن يفوتك نصيبك، وإن أثقلت خطاك.
وعندما ولج القاعة، وباغتته الظلمة، فكر... منذ ألقي عليّ القبض وأنا أشعر بأنني هنا...
في هذه القاعة بداية ونهاية كل شيء.
ما إن أُنيرت الأضواء حتى جردوه من الثياب و أوثقوه بأسلاك نحاسية وقذفوا به فوق منضدة
خشبية ثبتت على سطحها مسامير حادة وانهمكوا يجلدونه...
هذه العملية الأولى، إن لم أعترف أثناءها، تلتها مباشرة العملية الثانية... الغطس في الماء مع
الكهرباء. وإن لم أعترف أثناءها، جاءت العملية الشاقة... اقتلاع الأظافر.
تلوى متألمًا، وزأر من أعماقه:
- آي... آي.
و ُ خيل إليه أن ما يؤلمه أكثر هو اقتلاع الأظافر، تصوَّر هذه العملية البشعة وحاول أن يصمت
ن وأغمض عينيه وأجهد نفسه ليفكر في أمر آخر... أي أمر.
عندما قتل القايد في دوارنا وهرب عمي زيدان... أبي زيدان مع أمي إلى الغابة، أين هربت
جدتي؟ وعمي حمو مع مَن هرب يا ترى؟
وكاد يستغرق في التفكير، لولا تسارع الجلدات العنيفة بالسياط المبتلة... لماذا لا يغيرون
مواقع سياطهم، وحاول أن يتململ، فشعر بالمسامير تنفذ إلى عظامه...
آه، هذه المسامير اللعينة، لولاها لتحملت... فجسدي لم يعد يحس بالضربات من كثرة ما
تلقاها...
آي... آي.
لا. الصراخ لا يخفف الوطأة... يحرضهم أكثر... لأتحمل... لأفكر في أمور أبعد.
ترى من قتل القائد في دوارنا؟...
آه... أم أم...
لا شك أن قدور فر... لقد فهمني على ما يبدو... يجب أن أربح الوقت أثناء العملية الأولى
حتى يبتعد عن القرية.
- آي... آي...
يستحيل أن أقاوم. لقد قاوم كثيرون قبلي...
آي...آي...
مع مَن تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
قال الملازم ففكر اللاز... لقد شجعه صراخي... لن أصرخ مرة أخرى، لأفكر في أمر
آخر...
الذين تحملوا العذاب في هذه القاعة، لم تكن هناك أدلة ضدهم، كانوا يتحملون لأنهم يدافعون
عن الكل... أما أنا فقد خسرت كل شيء...
آي... آي...
مع من تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
ليواصلوا ... لن أتكلم مهما كان الأمر... إذا لم أتحرك فلن تؤذيني المسامير... وإذا لم أصرخ
فلن يسألوني... يجب أن تستقر في رأسي فكرة تشغلني.
الذين تحملوا العذاب في هذه القاعة كانوا يجهلون مراحل التعذيب... وكان التحمل يربحهم
قطع أشواط... أما أنا.
آي... آي.
- مع مَن تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
سأنتهي، اعترفت أم لم أعترف. لأن هناك أدلة قاطعة ضدي... الخائن... الحركي اللعين...
هذه المسامير... لم يصبوا الماء المالح بعد... لو لم أكن أعرف المراحل... هذه المسامير... لم
أعد أطيق...
آي... آي.
- مع من تعمل؟ تكلم.
عندما أعد ُ ت على أمي ما أخبرني به عمي زيدان في القطار، طأطأت رأسها وتمتمت. " دعاوى
.” الوالدين تنفذ في الضناية
آه، إنهم يصبون الملح.
آي... آي.
- هل تعترف؟ تكلم.
- كفوا كفوا. سأعترف. سأعترف.
- تكلم. مع من تعمل؟
أسرع الملازم إلى منضدة وتناول قلمًا وورقة، وراح ينتظر الاعتراف، وهو يفكر في أنه كان
متأكدًا من أن اللاز لن يصبر طوي ً لا، وأنه كلف نفسه مشقة جلدات كان في إمكانه أن يتفاداها... لو
كنت مكانه لما ترددت في الاعتراف بعد الحجة الدامغة التي تواجهني... ليست له روح
رياضية... لكنه أدرك في الأخير.
- هيا انطق.
- لا أتكلم إلا أمام الضابط.
وثب الملازم مسرعًا إلى الضابط، وبعد لحظة قصيرة عاد به ورجع إلى المنضدة واعتدل في
وضع الكتابة.
- تكلم.
قال الضابط في نشوة الظافر المنتصر، وبسمة انتقام تتراقص خلف زجاج نظارته، وسيغارة
أمريكية تترنح بين شفتيه الرقيقتين الحمراوين... تعرفت عليه في اليوم الثاني من حلولي بهذه
القرية اللعينة... لعبت معه الورق وسقيته طيلة أربع ساعات، وسكرت قبله... أغلقت عليه الباب
وأخرجت الغدارة و أمرته بنزع ثيابه... كان مشدوهًا لا يدري لماذا... عندما تعرى أجبرته على
احتساء قارورة كاملة، وسبقته إلى الفراش عاريًا... كان يهوي عليّ بالضرب كلما فرغ من مهمته،
حتى تعود...
لم يكن في ذلك أية إهانة لو ظل اللاز لازًا فحسب... أما وأنه فلاق يستغل مرضي
واستسلامي له كالعاهرة البئيسة ليؤدي دوره ويقدم الخدمات لإخوانه، فهذه هي الإهانة بعينها...
وعبس، وق ّ طب جبينه، وزمجر:
- تكلم. مع من تعمل؟
فتح اللاز عينيه، في بطء من يستفيق من إغماءة، وراح يتأمله من خلال الدموع في احتقار
واشمئزاز، ثم تمتم:
- ليس في هذا الوضع، لن أتكلم على هذه الحال.
- أنزلوه.
أصدر الضابط الأمر دون أي تردد، وسار خطوات إلى الأمام ثم التفت إلى الخلف في حركة
عسكرية صرفة، وتقدم يضع خطوات ثم أعاد العملية عدة مرات، وكأنه يستلهم أفكارًا وحلو ً لا...
هذا اللعين، ماذا سأفعل به؟ لقد احترق... جريمته تستحق الإعدام الفوري. إنه فلاق وسط
الثكنة، وسط الثكنة بالذات... الجريمة. الإعدام رميًا بالرصاص، وكلب مات... جرذ ناقص من
الحساب.
لكن من يخسر؟ أنا... أوف أية خسارة؟ غيره كثيرون. إنهم يقولون في لغتهم: النخالة تجلب
الكلاب... أنتدبُ واحدًا من الجنود لخدمتي وكفى...
اللعين يحس القيام بدوره، يشرب كثيرًا، ولا تعتريه ذرة خجل...
أُعدم مسئوله، وأرمي به هو في السجن، في غرفة بجوار غرفتي طبعًا، فترة شهرين أو ثلاثة
ثم أُعيده إلى الحياة الطبيعية. سأكثر له الخمور والمأكولات وأمنعه من مغادرة الثكنة. ويوم يتقرر
رحيلي من هذه القرية البغيضة، أعدمه... وهذا كل ما في الأمر... فكرة رائعة جدًا!
كيف لم يفكر اللعين في اغتيالي؟ لا شك أنه قدم هذا المشروع لمسؤوليه أكثر من مرة، وأنهم
أجابوه بأن تهريب جندي بسلاحه أفضل من اغتيال ضابط أرعن مثلي...
لقد برهنوا عن حكمتهم وعمق تخطيطهم... على كل حال، إنهم يدركون جيدًا ما يريدون...
يقين أن الأحمر اللعين هو الذي يخطط لهم... تدرب في صفوفنا وتثقف في مدارسنا وسبقتنا
إليه موسكو...
- مع من تعمل؟
قال فجأة، وهو يستدير بخفة، ضاربًا عقبي حذائه بعنف، فأجابه اللاز في برودة وتألم للجراح
التي ضاعف الملح لسعها:
- ليس أمام هؤلاء.
قبل مشروعي إذن... لكن متأخرًا، بعد أن حطم في مكتبي كل أمل في مساعدته... الخنزير
رغم ذكائه الشديد فإنه لا يدرك الأشياء، إلا بعد الفوات...
تردد الضابط قلي ً لا، ثم التفت إلى الملازم ومن معه وأشار لهم برأسه أن يغادروا القاعة. وتقدم
إلى المقعد، اعتدل فيه، وواجه اللاز، وظل ينتظر... بينما هو مطأطئ في شبه ذهول، كما تراءى
للضابط.
لو أتمكن من معرفة أخبار قدور، هل غادر القرية أم ما يزال؟ قد ينتظر الغدَ اعتمادًا على أنني
لن أعترف بسرعة... ولربما لن أعترف بالمرة.
كان المفروض أن لا أعترف... الأوامر تمنع الاعتراف، والثورة تحكم بالخيانة على
المعترف.
المفروض أن لا أعترف.
لكن هذا العذاب... لم تنته العملية الأولى بعد... وقد تنتهي دون أن أعترف... كما قد تنتهي
العملية الثانية ولا أعترف أيضًا. لكن اقتلاع الأظافر... آي... لا أطيق ذلك أبدا. أنني ضعيف
النفس، منذ ألقي عليّ القبض وأنا أعيش وسط هذه القاعة، وكل ألوان العذاب... كنت أعيشها بنيّة
الاعتراف.
لقد أنذرت قدور، وهذا ما يطمئنني ليتني لم أنذره... لا، لقد قمت بواجبي... قمت به حتى آخر
لحظة.
التعذيب هنا يختلف بين واحد وآخر، فمن يش ّ كون فيه مجرد الشك سرعان ما ييأسون منه،
بمجرد انتهاء العمليات الثلاث... أما من يكونون على يقين من أمره، مثلي، أو مثل من يأسرونه
في المعركة، فلن يملوّا تعذيبه، حتى يعترف أو يموت... وغالبًا ما يعترف قبل أن يموت، إلا القلة
النادرة.
يجب أن أعترف اعترافًا كاذبًا حتى أمهل قدور الوقت الكافي... الليلة وجزءًا من صباح
الغد... ثم...
أقضي ما يحتمه عليّ الواجب... والمسؤولية بعد ذلك تعود إليه. بمن أبدأ يا ترى؟
يجب أن أبدأ بالخونة، حتى أذيقهم مرّ العذاب.
اللاز... إننا وحدنا، كما رغبت... هيا تكلم... أنت تعيش في الثكنة، في مقر القيادة إن شئنا
التدقيق. تتصل بالمجندين المسلمين وتسلم لهم رسائل من الخارجين عن القانون، أو تقنعهم بالفرار،
بدون رسائل، وحين تتفق مع ثلاثة أو أربعة تحدد لهم المكان والوقت بعد أن تتصل بالشخص الذي
يتولى نقلهم أو إرسالهم أو تهريبهم، سمه كما شئت. كل هذا عرفناه بوسائلنا الخاصة التي تعلمها.
بقي أن تقول لي مَن هو الشخص أو الأشخاص أو رئيسهم الذي تتصل به أنت. هذا فقط ما أريد
معرفته.
سأضمن سلامتك إن اعترفت.
- بمن أبدا؟
فكرة رائعة... رائعة جدًا... الشامبيط. الخنزير.
لشد ما عذبني بسوطه... الخائن... أكبر خائن على الإطلاق... هو الذي يشي بكل الناس...
أربع محاولات اغتيال ينجو منها.
سيساعدني ذلك على اتهامه... سأعلن للضابط أن محاولات اغتياله كانت تمثي ً لا لا غير،
المقصود منها التمويه عنك.
سأراه منبطحًا على هذه المنضدة كالثور، عاريًا تخزه المسامير الحادة، وتلسع جلده اللدن
السيا ُ ط المبتلة، والجراح المملحة.
يا له من منظر!
وانفرجت شفتاه المتورمتان عن أسنانه الصدئة السوداء.
لماذا تبتسم يا اللاز؟
- تصورت أنك تأمر بإحضار كأس نبيذ.
- ولم لا. ستشرب قارورة كاملة بعد أن تعترف.
- أرجو أن تسقيني أو ً لا... اطمئن إلى أن النتيجة ستكون أحسن.
- يبدو أنك تعمل على ربح الوقت. حذار من هذه اللعبة.
- كلا، إنني أشعر بتردد كبير، وأريد أن أتقيأ كل شيء دفعة واحدة.
يا له من لقيط، يحسن التعبير، كأنه أديب من أدباء ما بعد الحرب الكبرى.
قال الضابط في نفسه، وهو يتذكر سارتر، والحي اللاتيني، وشبابه الصاخب عندما كان طالبًا
بكلية الآداب.
- قبل أن ألتحق بالجيش لم أكن أعيش في التابوت.
ورفع بصره نحو اللاز المنتصب أمامه في شبه انحناءة:
- حسنًا، ستشرب كأس خمر.
ضغط على زر في الجدار. انفتح الباب عن الملازم يؤدي التحية.
- أحضر من مكتبي كأس خمر.
- أوامركم... واسمحوا لي أن أعلمكم بأن الشامبيط يطلب مقابلتكم.
- فلينتظر.
- يقول إن معه أخبارًا هامة لا يمكن تأجيلها.
- أدخله إذن، وسارع بكأس الخمر.
- الشامبيط اللعين هنا بأخبار مستعجلة. ما وراءه؟ سيفسد خطتي ويحرمني من منظر رائع.
ترى ما هي هذه الأخبار التي لا يمكن تأجيلها؟
أيًا ما كان الأمر، فبوسعي أن أتشبث باتهامه، حتى ينال القسط الوافر من التعذيب... ثم أوف،
في إمكاني أن أتمادى في اتهامه عدة أيام على الأقل، حتى تقتلع أظافره ويشوه، بحيث لا يعود
لممارسة عمله إلا بعد مدة طويلة جدًا... وقد لا يطيق الآلام فيعترف كذبًا أنه يعمل مع الثورة،
ويتهم بدوره خبيثًا آخر، وتكون نهايته على الأقل.
دخل الملازم بكأس الخمر، ووراءه الشامبيط يلهث، وقبل أن يؤدي التحية أمره الضابط بإحالة
الكأس إلى اللاز، والتفت إلى الشامبيط:
- ما وراءك؟
نظر الشامبيط إلى اللاز يتلذذ الخمر ويحدق فيه بشراهة... وهو عار لا يسترد عورته إلا تبانة
متسخة، ثم أعاد النظر إلى الضابط كأنما يستفسر هل يجوز البوح بأسرار هامة أمام هذا اللقيط
التعيس، فبادره بانفعال:
- أيجوز لك أن تعلمني ما يجب فعله؟ أنا أحضرتك إلى هنا. ما وراءك؟
همّ اللاز أن يثب ويمسك بخناقه صارخًا:
- هو، هو. هذا هو أعمل معه هو. لقد هددني يا حضرة الضابط. هو مهرب الجنود.
بيد أن الشامبيط لم يمهله، فقد أسرع يقدم تقريره التلغرافي:
- ما أن أُلقي القبض على اللاز، حتى بلغني خبر اختفاء التاجر قدور بن الربيعي البركاتي.
تنهد اللاز من أعماق قلبه، وكأنما انزاح عن كاهله عبء جد ثقيل.
واعتدل في وقفته، وقرر في نفسه: إن كل حركة من حركاتنا تؤدي دورًا إيجابيًا... حين
داهمتني الدورية في كوخنا، لم أكن أفكر إلا فيه، وها أنني أنقذه. كانت لعبة، مجرد لعبة... راقكم
المنظر... جاء دوركم كلكم أيها الخنازير... وتم كل شيء على ما يرام.
وابتسم. ظل يبتسم، وحين التفت الضابط نحوه وجده يومئ برأسه... هو. نعم هو. قدور بن
الربيعي البركاتي.
- هل غادر القرية؟
تساءل الضابط في يأس، فانبرى الشامبيط:
- كان ذلك همي، إلا أنني لم أتأكد، لقد مرّت ساعة على اعتقال اللاز، والخبر لم يبلغني إلا
منذ قليل. طفت بعدّة متاجر وأحياء أتثبت، لكن...
- يجب أن تحاصر القرية، وتفتش بيتًا بيتًا . الملازم ستيفان، الملازم ستيفان.
وما أن دخل الملازم حتى بادره:
- استدع لمكتبي حا ً لا الضابط المساعد... أما هذا فاحرسوه دون أن تعذبوه. إذا ما طلب الخمر
فاسقه.
- أفهمت؟
- أوامركم سيدي الضابط.
قدور المسكين، أشف َ ق عليّ من العذاب، فكلف مَن يخبر الشامبيط بفراره... مسكين قدور، لم
ينسني، هذا هو الواجب. هذه هي الروابط... نعم، ما أن فاجأتني الدورية حتى فكرت في طريقة
إنقاذه.
ما إن خلت القاعة حتى تمتم اللاز متنهدًا من أعماقه للمرة العاشرة، وقد نسي جراحه وآلامه،
وشعر بنوع من التفتح لمواجهة ما يحيط به... كل شيء، كل ما ينتظرني، أو ما تبقى لي من
الحياة، يبتدئ من هنا، من هذه اللحظة... يا لقدور المسكين، عرف كيف يغزل الخيط، ويفتل
الحبل، وينقذني... لست وحدي... وهذا هو الأهم.
وانحنى يلتقط ثيابه، ويرتديها قطعة قطعة، حذرًا من أن تحتك بجراحه. قابله المقعد الخشبي
الذي كان يتربع عليه الضابط، فأسرع إليه وترامى متأوهًا من الآلام، وقال بلهجة آمرة للملازم
الذي عاد بجندي لحراسته:
- لا تنس ما أوصاك به حضرة الضابط، الخمر، الخمر، حتى الصباح، أفهمت؟ لا تكفيني
قارورة واحدة، أسرع أيها اللعين، فآلام جراح سوطك تشتد.
- لست أدري لماذا يبالغ حضرة الضابط في تدليلك، حتى في أسوأ الظروف؟
قال الملازم وهو يتأهب للخروج. فرد عليه اللاز ساخرًا:
- لا تتدخل في الشؤون السياسية العليا، واسرعْ لتنفيذ أوامري. الخمر، ثم الخمر. المقطرات
أعني. الويسكي، أو الكونياك، أو الروم. هل فهمت، وإلا شكوتك. أريد أيضًا شرائح أو أي شيء
من الكوامخ، فإنني جائع.
- لكن كيف؟ إنه لم يوصني سوى بالشراب. أما الأكل فلا...
- وهل يشرب بدون أكل أيها المغفل؟ أضف إذن أنه لم يوصك بالكأس، وبهذا أشرب من
القارورة مباشرة.
وبينما غادر الملازم القاعة وهو يبتسم لهذا المنطق، ألقى اللاز رأسه إلى الخلف واستغرق في
التفكير.
المؤكد أن القبطان ما يزال يرغب في الاحتفاظ بي. لن يقتلني على الأقل... يجب أن أفكر في
مثل هذا الموضوع، فأنا في آخر المطاف، في مفترق الطرق بل في المنطلق ... إما وإما... ليس
بيني وبين أية انعراجة، سوى خطوة واحدة، وعليّ أن أكون حذرًا.
لم أعد أملك أية مبادرة... وكما شاءت الظروف تتجه الدفة... هذا ما يجب أن أقتنع به.
انتهيت الآن تمامًا، وكل ما تبقى مني أو ما سيتبقى مني، فبفعل المصادفة لا غير... لقد بلغت
النهاية، نهاية النهاية. عندما يكتمل القمر يبدأ في النقصان، وعندما ينتهي يستأنف وجوده من جديد.
كانت أمي تكرر لي ذلك كل ليلة، وتسألني هل اكتملت، أو هل انتهيت...
لقد انتهيت، نعم، وإذا ما استأنفت حياة جديدة فيقينًا أنني سأكون لازًا جديدًا... لا أعرف نفسي،
ولا يعرفني أحد حتى القبطان المأبون.
آه. قدور المسكين، رَدَّ لي ورقتي واختفى.
هل يقتنع القبطان بقدور فقط، وهل يصدق أنني لا أعرف إلا إياه؟ أم يصمم على انتزاع أسماء
أخرى مني؟
سيحاول معي مرة ومرات. خاصة وقد عرف نقطة ضعفي... لحسن الحظ، أنني لا أعرف
غير قدور.
لكن الشامبيط الخبيث... لماذا أحجمت عن اتهامه؟ لقد جرت الأمور بأسرع مما أتوقع، وفي
إمكاني أن أتهمه لدى أول استنطاق، وسأصر على أنه هو الواسطة بيني وبين قدور، وأنه هو الذي
مكَّن له فرصة الفرار، ثم جاء يقدّم الخدمات ليبعد التهمة عن نفسه.
شيء رائع.
سيتعذب، سينال قسطًا وافرًا يعادل ضخامة جسمه... يتذاوب شحمه على هذه المنضدة ويسيل
مع المسامير، ممزوجًا بالدم الأسود.
شيء رائع جدًا.
لكن هذا شرف يلحقه، يُكسبه عطف السكان والثورة، ولربما أكون قد مت قبل أن أكشف
الحقيقة.
لا. لا.
سيربح أكثر مما يخسر، لن أم ّ كنه من هذا الشرف.
لن أتهمه.
هذه السياط، وهذه المسامير والآلات شريفة، لأنها لا تجلد ولا تؤلم وتلسع إلا المجاهدين، إلا
الأحرار، ولن أدعها تلامس جسد خبيث خائن أبدًا.
هاه لقد حُلت كل المشاكل، ولم يبق إلا انطلاق لاز جديد في حياة جديدة قد تكون وقد تكون،
حتى ترجع الأمور إلى نصابها.
قرر اللاز، واعتدل في جلسته، مرتاح الضمير، وقد بدأت الخمرة تلعب برأسه على غير
عادتها... إلا أنه ما أن فتح عينيه وحدق في الأنوار التي تغمر القاعة، حتى قفز كأنما صدم بتيار
كهربائي قوي...
البضاعة الجديدة... كيف يكون مصيرها؟ الإخوان الذين اتفقت معهم على الفرار، ماذا
سيفعلون؟ هل يعدلون ويستسلمون؟ أم يتصل بهم غيري؟
لا شك أنهم ينتظرون أن أعترف بهم فيعتقلون… آه، ليتني لم أتذكرهم ونسيتهم... فقد أضطر
للاعتراف مرة ثانية ويكونون الضحية.
مازلت اللاز الحقيقي. لم ينته اللاز الأول بعد... يبدو أنه لن ينتهي أبدًا.
لا. لا. لن أعترف وإن اقتضى موتي تحت التعذيب، لن أسلم اللاز الحقيقي مهما كان الثمن. لا
أستطيع ذلك.
لن أعترف مهما كان الأمر. تصميم. تصميم فعلي. مع ذلك يجب أن أنبههم، أن أطمئنهم إلى
أنني لن أعترف حتى لا يقدموا على ارتكاب حماقة ما... فقد يضطرون للارتجال، وتكون الكارثة
علينا كلنا...
حين يعود الملازم بالخمر، أحاول معه، عّله يمكنني من الاتصال بهم بعنوان أو بآخر... سأجد
كيف أحتال عليه.
وحاول أن يهدأ قلي ّ لا، أن يتخلص من كل ما يعانيه من أفكار مضطربة مشوشة، وآلام حادة
موجعة، إلا أنه ليس يدري كيف تنهد، وهو يهوي برأسه على حافة المنضدة.
إيه، إيه يا اللاز المسكين، طوال حياتك وأنت تصارع في صخب وحدة وشقاوة لتنتهي إلى هذا
المصير...
ليتك الآن في الجبل تمسك رشاشًا وتنبطح وراء صخرة كبيرة وتضغط بإصبعك لتلهب النهار،
تحصد أعداءك الذين يحاولون عبثًا التقدم من موقعك.
تضغط وتضغط، حتى يحمر الرشاش، ولا تبالي... وإذا ما جاءت قذيفة مدفع أو طائرة تهوي
عليك، تردد في ارتياح: نلت حقي، نلته كام ً لا، أفرغت شحن حقدي وحقد الأشقياء البؤساء...
وتستسلم لأحضان زيدان، يقبلك القبلات الأخيرة... وهو يناغيك: وداعًا بني العزيز، لقد أديت
رسالتك، وسيخلفك إخوانك الصغار وأنا وعمك حمو وكل التعساء الأشقياء.
آه. زيدان، أبي المسكين، كم أنا مشتاق إليه، هذا الأب الذي حرمتني منه الحياة، كما حرمته
مني... طيلة حياتي، وهو يرقبني من بعيد، دون أن يجرؤ على الاقتراب مني.
ربما كنت بمثابة شرارة انطلقت منه لتؤدي بعض الدور الذي لا يستطيع تأديته هو...
آه، زيدان أبي. عزيزي أبي، آه.
وخيل إلى اللاز أنه في قطار بين أحضان أبيه، وهمد يتلذذ لسماع صوته: هذه المرة الأولى
أقبّلك يا اللاز يا ابني... إننا أشقياء كالكلاب... كنت دائمًا أعلق عليك آما ً لا كبرىْ، وكنت أثق في
أنك لن تخون أبدًا، لأنك لا تطمع في شيء، ولا تخشى ضياع شيء... أما ما تقوم به من التحدي
بالصخب والضجيج، فإنني أقوم به بدوري في صمت ومخاتلة.
يجب أن نغيّر الحياة يا اللاز يا ابني. عليك الآن أن تعمل في خط واضح، ومن أجل هدف
واضح.
هيا قبّلني، فسأنزل بالمحطة القادمة.
وصفر القطار : وداعًا لقد ارتحلت... انتظر دورك أنت.
وتململ اللاز، واعتصر قلبه لآلام الملح.
بؤسه يفوق بؤسنا، قالت أمي... عشرة أفواه تقتات من أربعين دورو يتقاضاها عمك حمو من
فرن الحمام... ومع ذلك يشتري لي في كل عيد ثوبًا ورطلي لحم.
أبي المسكين... الأحمر.
ترى لماذا هو أحمر؟ ألأنه يشتغل بالسياسة ويحقد على الأغنياء؟ إذن فأنا بدوري أحمر...
رغم عدم معرفتي للسياسة، فإنني أبغض الأغنياء وأبناءهم المأبونين وبناتهم العاهرات.
آه. لو كنت أُحسن القراءة مثل أبي، لكنت أحمر بحق.
قطع تفكيره... وقع أقدام تقترب من الباب... فانتفض متأم ً لا القاعة وحدق في الجندي الذي
يحرسه، وعجب لعدم انتباهه إلى أنه جزائري، بل وأحد الذين اتفق معهم على الفرار.
ابتسم الجندي في إشفاق، وقال بصوت خافت:
- احترنا فيما يمكن أن نفعله من أجلك.
- يبدو أن العاصفة مرت بسلام. صاحبنا هرب. اعترفت بعد أن بلغني الخبر. الضابط ما
يزال على ما يبدو يتشبث بي... إنك على علم... اطمئنوا وانتظروا.
ابتسم الجندي مرة ثانية وقال:
- القذر. القذر.
ثم استطرد:
- الإخوان على كل حال تركتهم يفكرون في حل... وقد يجدونه الليلة.
- ماذا تقول؟
انفتح الباب ودخل الملازم يطنطن ثم ً لا، بعد أن احتسى عدة كؤوس في مكتب الضابط، قبل أن
يأتي بقارورة اللاز:
- دن دن...فرنسا أجمل من ايزيس... دن دن... الحرب أقذر من التيفيس... دن دن...
سأشرب معك أيضًا يا اللاز.
دن دن... رغم أنني مستعد لجلدك في كل وقت... دن دن... لأنك فلاق تعيس!
وما أن اقترب بقارورة الكونياك ليختطفها منه اللاز، حتى انتفض مذعورًا لحركة أقدام صاخبة
في القاعة. التفت، فإذا بأربعة جنود جزائريين، على رأسهم كابران يصوبون أسلحتهم نحوه.
- يداك. ارفعهما جيدًا، دون أية محاولة، أسرع.
قال أحدهم. بينما أردف ثان:
- انزع ثيابك، أسرع. أسرع.
وتقدم منه يجرده بعنف من بدلته، ويقذف بقطعها نحو اللاز، في حين أضاف الثالث:
- هيا. هيا يا اللاز، البس، البس بسرعة، الوقت ضيق.
- ماذا تفعلون؟
- ستعلم فيها، هيا أسرع.
رد عليه الكابران رمضان، بينما يده تهوي في حركة رشيقة على صدر الملازم ستيفان
بخنجر، ليسقط دون ضجيج أو صراخ.
* * *


الساعة الآن 12:52 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى