منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الأشجار.. ـــ عبد الرحمن منيف (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=17277)

عاشق تراب الأقصى 11 - 7 - 2011 12:56 AM

الأشجار.. ـــ عبد الرحمن منيف
 
الأشجار..
عبد الرحمن منيف




-1-‏

... لا تضعف، أتسمع ما أقول لك؟ لا تضعف. وهذه الأشياء الأخيرة، التي قد تخلف في نفسك ذكرى أو تحرك عاطفة، أتركها. لقد اجتزت القنطرة كلها وحدك، ولا حاجة بك الآن لأن ترى في العيون ذلك الأسف المستسلم. إنهم لا يفكرون فيك. وحتى لو قالوا لك شيئاً فإنهم يكلمون أنفسهم. اترك كل شيء وراءك. وإذا استطعت، فلا تنظر إلى الخلف أبداً!‏

أما إنك لم تقل لأحد متى ستسافر، فتأكد أن راحة أقرب إلى اللذة ستسيطر عليهم. لقد أعفيتهم من الكلمات الكبيرة التي تطوف برؤوسهم ساعة الوداع. لو جاؤوا لقال كل واحد منهم شيئاً بطريقته الخاصة. أما الآن فإنهم ينامون. نعم ينامون. وأنت في هذه الساعة المتأخرة تتحسس جيوبك للمرة الألف، لتتأكد أن كل شيء موجود: جواز السفر، بطاقة القطار، الشهادة الصحية، والموافقة على العمل.‏

ما تزال الملامح الوقورة، الجادة، تظهر بقوة على وجهك وأنت تتصفح جواز السفر. تنظر إليه بحياد جارح، كأنه في لحظات معينة لا يعنيك أبداً، وبعد أن تمر على جميع صفحاته، حتى البيضاء، وتتأكد من كل شيء، يرتاح وجهك. ثم تعاود النظر إليه من جديد، وكأنك تراه لأول مرة. تنظر إلى الصورة، إلى الاسم، إلى التواقيع الخضراء والزرقاء، وبعد أن تتأكد تسحب الشهادة الصحية، تقلب أوراقها، تقرأ التعليمات باللغتين العربية والفرنسية، تتوقف عند بعض الكلمات، تفكر، ثم توافق بشكل ما على الترجمة!‏

لا أحد يصدق كم انتظرت حتى حصلت على هذه الأوراق اللعينة. نعم لا أحد على وجه الكرة الأرضية يتصور أن أوراقاً مثل هذه، لا يكلف إنجازها نصف ساعة، تنتظرها أكثر من سنتين.‏

ولكن ما هو الزمن؟ ماذا يعني بالنسبة للآخرين؟ وماذا يعني بالنسبة لك؟‏

لماذا تطرح الموضوع بهذا الشكل الخاطئ؟ لماذا تنظر إليه من زاوية الزمن الحسابي الأصم؟ زمن الشهور والأيام؟‏

جواز السفر لا يعني هذه الوثيقة الصغيرة التي بين يديك. تخطئ كثيراً إذا تصورت الأمر هكذا! والملفات الكبيرة؟ والتقارير؟ حتى المختار كان يستطيع أن يمنعك من السفر. ولكن الورقة النقدية الخضراء، وأنت تضعها بخوف على الطاولة، جعلت كل شيء يتغير في لحظة: ابتسم. قال لك: تفضل يا ابني.‏

والرجال الذين انتظروا عند البيت؟ والذين سألوا بائع السجائر وصاحب الفرن؟ الرجال الذين طاردوك في الأزقة، وجلسوا في المقهى على نفس الطاولة التي جلست عليها، ونظروا إليك، ثم تشاغلوا ونظروا إلى بعيد، أتتصور أن هؤلاء سهوا عنك لحظة واحدة؟ لا تتوهم.. كانت آذانهم لا تسهو، كانت آذانهم تلتقط كل شيء. وخلال اليوم ذاته، بعد أن تتحول كلماتك إلى أصوات ميتة في الهواء، تنفجر مرة أخرى، تصبح أشباحاً وهي تتراكم في الملفات الزرقاء والحمراء!‏

وفي اليوم التالي ينظر إليك رجل يجلس وراء طاولة لامعة، ينظر إليك وابتسامة واثقة تطوف على وجهه، ويده تداعب الخاتم ذا الحجر الأخضر، في الإصبع الصغير. وبعد أن يتأكد أن نظرته اخترقتك تماماً، يسحب فجأة الابتسامة واليد عن الخاتم، ويسألك. ترتبك. تجيب بصوت مرتجف. تفكر. تحاول أن تبتسم ببلاهة.. ثم يقول لك: سوف نرى. وتنتظر شهوراً!‏

ألا يضاف هذا إلى الزمن؟ حاول أن تتصور الأمر بدقة أكثر: يتابعونك طول النهار. يتابعونك طوال الليل. يجلسون أينما جلست. يستمعون. ينظرون. وعندما تنام لا يكون عملهم قد انتهى، يجب أن يرفع التقرير في نفس تهمس بكلمات غامضة، ثم يضع خطوطاً حمراء تحت عبارات معينة، ويرفع التقرير مع ورقة صغيرة مثبتة بدبوس. ويقرأ الرجل الآخر، وبقلم أخضر يكتب: "لمقاطعة المعلومات، مع موافاتي بالملف كاملاً".‏

والموافقة على العمل؟‏

اترك كل شيء الآن. حاول أن تنسى.‏

والأصدقاء؟.. لا تخف إذا افتقدوك، فسوف يعرفون بعد فترة أنك سافرت. قد يعتبون. ولكن تصور أنك قلت لهم! لقد مرت الواحدة، وهاهي ذي الساعة تقترب الآن من الثانية، والقطار في مكانه لم يتحرك.. تصور أنهم ينتظرون الآن! حلقة صغيرة حولك، كلمات، نكات، وصايا، ولا تعرف أي شيء آخر.. ويتثاءبون، ينظرون إلى الساعة، إلى مأمور المحطة، إليك، وقد أصابهم التعب. يجب أن يقدروا لك هذا الموقف. أما العتاب الذي يحرجك فلن تسمعه، لن تتاح لهم فرصة لأن يقولون!‏

والسفر بالدرجة الثانية؟ لا يجوز لأحد أن يناقش هذه القضية. أنت وحدك تقرر. وأنت تقرر لاعتبارات كثيرة: الإمكانيات المادية، التواضع، الاحتكاك بالناس.. قل لنفسك أي شيء. كان وجه قاطع التذاكر جامداً.‏

سألك بحياد صخري: "درجة أولى؟ ثانية؟" ارتبكت، كدت تقول له درجة أولى، ولكنك صمدت في وجه التحدي. وبصوت أقرب إلى الخشونة، وكأنك تدافع عن نفسك، قلت: درجة ثانية. انتهى الأمر بسرعة. أعطاك البطاقة دون أن ينظر إليك، دون أن يقول كلمة واحدة!‏

وضعت الحقيبة بهدوء وجلست باتجاه سير القطار. هذا الدرس تعرفه جيداً. انتظرت. القطار في مكانه لا يتحرك. الناس على الرصيف. أناس لا ملامح لهم. أناس لم ترهم من قبل: باعة، مسافرون، حمالون. عمال القطار والمحطة. وأنت في عربة الدرجة الثانية. تتحسس الجواز والبطاقة والموافقة على العمل".‏

ـ مرحباً يا أخ. قال ذلك بلهجة حازمة، وهو يطل برأسه الأشيب من باب العربة.‏

ـ أهلاً وسهلاً.‏

ـ المحلات عندك فارغة؟ سأل وهو يتقدم بكتفه اليمنى حاملاً حقيبة صفراء مهترئة!‏

ـ تفضل.‏

رمى الحقيبة بتعب على أرض العربة، وقال بسخرية:‏

ـ محجوز. محجوز. كله محجوز. كذب، تضليل. كل واحد يريد قطاراً لحسابه الخاص. وأضاف بلهجة جديدة:‏

ـ مشواري قصير، ولن أزعجك!‏

ـ تفضل. كل هذه المحلات فارغة.‏

قال كأنه يعتذر:‏

ـ المحلات في القطار كثيرة. كثيرة جداً، ولكن كل واحد يريد أن يتمدد، أن ينام. صمت لحظة ثم أضاف: لا يشبع عيون الناس إلا التراب!‏

كان يبدو في الخمسين، ضعيفاً ناتئ عظام الوجه، تبرز رقبته داخل القميص الواسع وكأنها رقبة طائر. عيناه بين الرمادي والأزرق، ضاحكتان بسخرية. وملابسه فضفاضة متناقضة الألوان. يضع غصناً أخضر في عروة سترته الزرقاء ذات الأزرار الذهبية اللامعة، وعلى كتفه يعلق مطرة عسكرية لونها أصفر كامد.‏

ما كاد ينظر إلى ما حوله براحة واطمئنان حتى انتزع المطرة بعناية وعلقها، وربت عليها كأنه يداعب وجه امرأة.‏

يصفر القطار، يدخل رجل سمين. يدخل بضجة وهو يحمل حوائج عديدة بيديه الاثنتين:‏

ـ السلام عليكم. ودون أن ينتظر جواباً يرتمي على المقعد وهو يلهث.‏

وصفر القطار للمرة الثالثة. وجاءت ساعة الرحيل!‏

يتبع

عاشق تراب الأقصى 11 - 7 - 2011 01:00 AM

-2-‏

المدينة تبتعد، وتبتعد معها الأضواء التي بدت، أول الأمر، مثل نجوم في سماء مقلوبة، ثم أخذت تنتظم في أشرطة طويلة متداخلة، تهتز مع اهتزازات القطار الذي يصعد باتجاه الشمال. عندما تزايدت سرعة القطار أصبحت حركاته رتيبة كأنها ضربات قلب حيوان خرافي، وتزايد معها الدفء والنور في مقصورة الدرجة الثانية، فبدت الصور، وهي تنعكس على الزجاج، أشد وضوحاً رغم قتامها، وبدأ الليل في الخارج عميقاً داكناً. أما الهواء فقد أصبح ثقيلاً وهو يمتزج برائحة الدخان والذكرى، فيولد في النفس شعوراً غامضاً وحزيناً.‏

ـ ثلاث ساعات ونصل الحدود.‏

قالها الرجل السمين وهو ينحني إلى الأرض ليخلع حذاءه، فبدت رقبته من الخلف حمراء محتقنة. قالها دون أن يرفع عينيه.‏

ـ وهل يقف القطار فترة طويلة على الحدود؟‏

اعتدل في جلسته. كانت عيناه تغوران في وجه عجيني مترهل، يبرز فيه أنف كبير مثل كتلة مطاط. نظر إلينا بحزن وقال:‏

ـ هذا يتوقف على عدد الركاب. على وجود مشاكل. وبصعوبة أخذ نفساً ثم أضاف بلهجة مستسلمة: حسب التيسير. ولكن المعدل بين ساعتين وثلاث ساعات!‏

"بقيت لي بضع ساعات في هذا البلد، وبعدها أغادره! لن أرجع مرة أخرى. نعم لن أرجع. وحتى لو رجعت فلن يكون ذلك قبل عشرين سنة. سأتلاءم مع عملي الجديد. وإذا طردت منه فسوف أجد عملاً ثانياً. أما إذا لم يلائمني البلد فسوف أفتش عن بلد آخر. المهم أن لا أرجع".‏

سألني:‏

ـ أتسافر أول مرة؟‏

"أفكر وأنا أنظر إليه. هل أبدو مسافراً لأول مرة؟ ماذا يهمه من أمري؟".‏

ـ على هذا الطريق أول مرة!‏

رفع الرجل السمين رجليه الاثنتين على المقعد، وفك رباط عنقه.‏

"الرجل يأخذ حريته. أنا لا أشكِّل في عالمه إلا حالة حضارية ما دمت أجهل هذا الطريق. بدأ يغزوني، يريد أن يسيطر عليَّ!".‏

ـ تفضل.. مددت إليه علبة السجائر.‏

ـ شكراً، لا أدخن والحمد لله!‏

"إذن لا يشرب، يصلي. يصوم. وربما يسرق!".‏

ـ تفضل. مددت علبة السجائر للرجل الضعيف الذي يجلس بجواري.‏

ـ إي والله. شكراً.‏

"هذا رجل من نوع آخر. يجلس على نفس مقعدي، بعيداً في الزاوية. يفكر بشيء ما. على حذائه المغبر آثار مشي طويل!".‏

ـ عفواً.. عفواً.. ولِّع.‏

"لولا السجائر لاشتعل العالم بالحرائق. يجب أن يشعل الإنسان شيئاً ما. أن يحرق شيئاً ما!".‏

ـ إلى أين إنشاء الله؟‏

ودون تفكير تنزلق الإجابة:‏

ـ إلى الجنوب‏

ـ إلى أين؟‏

ـ إلى الجنوب. طبيعي سأمرُّ في شمال البلاد أولاً، ثم أذهب إلى أقصى الجنوب.‏

ـ عمل أم سياحة؟‏

"ماذا أقول له؟ هل أنا مضطر للإجابة؟ ما يهمه إذا كنت ذاهباً للسياحة أو للعمل؟ هل سألته؟ ليذهب إلى الجحيم. ليذهب هو وفضوله. لو انصرفت للقراءة لوفَّرت على نفسي هذا الاستجواب القاسي. إنه يستثمر الغزو الذي بدأه. أصبحت الآن في حالة دفاع عن النفس!".‏

ـ سياحة من أجل العمل!‏

ـ تقصد للتفتيش عن عمل!‏

ـ تقريباً.‏

"قررت مائة مرة ألا أكذب. ولكن إزاء وضع مثل هذا كيف أتصرف؟".‏

ـ هذه الكتب عربية؟‏

ـ ليس كلها.. بعضها عربي وبعضها فرنسي!‏

"التنقيب عن الماضي واحد من الكتب التي ترتاح على الطاولة الصغيرة أمامي. هل أبدأ بقراءته الآن؟ الاستيعاب عملية معقدة جداً. عندما يكون الذهن مشتتاً يقرأ الإنسان دون أن يفهم. لكن لو تذكر كل ما قرأ لانفجر عقله. النسيان أسهل طريقة للحياة!".‏

ـ هل العمل تجارة؟‏

ـ لا. أبعد من ذلك بكثير. آثار يا سيدي. وصمت أريد أن أرى الذهول في عينيه وهو يفكر بهذه الكلمة. دوت في رأسه مثل صفارة إنذار". تراجع وهو يقلب شفتيه. حاولت أن أستفزه:‏

ـ هل لديك فكرة عن الآثار؟‏

"حان دوري، يجب أن أستفزه أكثر. إذا كان رجلاً فليتحمل. ليس العالم صغيراً كما يتصور، ليقارن كل شيء بعمله حتى يكتشف كم هو بعيد ومنبوذ".‏

ـ رأيت بعض الآثار، ولكن على العموم لا أميل إليها!‏

ـ لماذا؟‏

ـ مجرد حجارة وقصور مهدمة، وأستغرب كيف يهتم بها الناس.‏

"لأواصل الهجوم، ولكن يبدو لي أنني فقدت الزاوية القوية التي كنت أتصور أنني سأحارب منها".‏

ـ ما هو عملك، من فضلك؟‏

ـ تاجر‏

ـ أي نوع من التجارة؟‏

ـ تجارة متنوعة: أقمشة، حبوب، سمن!‏

قال الرجل الضعيف من زاويته البعيدة بصوت خجول:‏

ـ عفواً أستاذ، قرب بلدتنا "الطيبة" توجد آثار. لا بد أنك تعرفها وربما زرتها!‏

ـ مرة واحدة، قبل سنتين، كانت زيارة قصيرة.‏

ـ كل سنة يزورنا عدد كبير من الأجانب، وبعض الأحيان أولاد عرب. رحلات مدارس وغيرها!.‏

...‏

الليل في الخارج مثل خيمة سوداء قاتمة. القطار يلهث وهو يصعد التلال باتجاه الحدود. الرجل السمين ينظر إلي نظرة يمتزج فيها التقدير الغامض بالشك، يرثي لهذا الرجل الذي يراه أمامه، يسافر في الليل من أجل الحجارة القديمة قِطَع الفخار. يقول في نفسه: إن شيئاً في هذا العالم فقد مركز توازنه، ونتيجة لاختلاله، اختل كل شيء! رأس غنم يعادل عشرات القطع الفخارية. كيس قمح يعادل كل القصور المهدمة. ما نفع هذه القصور؟ لماذا يزورها الناس؟ ويا للسخرية يأتون من أقاصي الدنيا!‏

أمال رأسه إلى الخلف، وأغمض عينيه استعداداً للنوم.‏

رجل الزاوية الضعيف، ينظر إليَّ. أرى صورته تنعكس على الزجاج. يمد يده إلى جيبه، يخرجها، يمدها مرة أخرى. يسحب علبة سجائر ويمدها نحوي.‏

ـ تفضل، أستاذ، ابتسامة رجاء ترتسم على شفتيه.‏

أتناول سيجارة، وبلهجة ودود سألته:‏

ـ مشوارك بعيد؟‏

ـ لا.. بعد الحدود بعشرة كيلومترات. أول مدينة بعد الحدود!‏

كان يريد أن يقول أشياء أخرى، ولكنه توقف. أولعت له السيجارة، ومع أن أول نفثة من الدخان، ويده تربت على يدي، قال بسرعة:‏

ـ يكفيك شرها!‏

غمغمت بكلمات كانت أشبه بصوت حيوان، رداً على كلماته. تطلع إليَّ بعيون محددة، كأنه يريد شيئاً، أو كأنه يفكر بشيء. قلَّب نظراته بحيرة بيني وبين ذلك السمين الذي بدأ يغط في نوم عميق. رفَّت عيونه وأنا أبادله النظر. انكمش في زاويته بعد أن خنق رغبة راودته وهو ينظر إلينا. ولكن انتفض وسألني فجأة، وبشكل عصبي:‏

ـ أريد أن أشرب العرق.. أتسمح لي؟ وقبل أن أجيب واصل: هل تشرب العرق؟‏

لم أجب. حالة توجس تتقابل فيها الرغبة بالخوف بالشك. ولكن عندما مدَّ يده إلى المطرة التي كانت معلقة، وانتزعها، لانت ملامحه، وكانت تدعوني بإغراء. وما كاد يفتح الغطاء ويصب فيه العرق حتى تغيرت جلسته. وبطريقة لا تحتمل الرفض قال لي:‏

ـ تفضل يا أستاذ..‏

ـ لا. لا. اشرب أنت!‏

بدت كلمتي عصبية. تراجع قليلاً وشرب، كم ملأه وقدمه إليَّ وهو يمسح فمه بظهر يده.‏

تناولت غطاء المطرة وشربت. شعرت أن عربدة حزينة ومجنونة تشمل كل خلية فيَّ.. "العرق في أول الرحلة يا منصور؟ قلت لنفسك لن تشرب. ستتركه، وها أنت تبدأ قبل أن تجف الأيمان التي أقسمتها! تقول أصبح قدري، رفيقي في كل وقت! أنت حر، افعل ما تشاء، ولكن لماذا أقسمت؟ ليس هذا كل شيء، وتشرب من عابر طريق! لماذا أعذب نفسي؟ أريد أن أشرب، نعم أريد أن أشرب والسلام!".‏

يخيم الصمت. انظر في الفراغ، وأفكاري تتابع رحلة عابثة، ويصلني صوته، كأنه آت من عالم آخر..‏

ـ أتسمح أن أسألك يا أستاذ؟‏

ـ تفضل!‏

ـ ما رأيك بآثار الطيبة؟ هل هي مهمة أو غير مهمة؟‏

ـ واله لا أعرف بدقة. ودون أن أتركه يشك في كلامي أضفت: "أنا جديد على صنعة الآثار، أريد الآن أن أبدأ العمل!". "لماذا لا أقول الحقيقة كلها؟ ما علاقتي بالآثار؟ إن العمل الذي وافقوا على إسناده إليَّ، أن أكون مترجماً، مترجماً فقط".‏

ـ إذن مثلي مثلك، نحن متشابهان!‏

ـ كيف؟‏

ـ أنا الآن أقوم بثاني مشوار في عملي الجديد.‏

ـ أي عمل؟‏

ـ أشتري ملابس قديمة، وأبيعها في أول مدينة بعد الحدود.‏

ـ وتربح من ذلك؟‏

ـ ربك ساترها!‏

ـ وهل هذه تجارة مسموح بها؟‏

ـ في الأساس ممنوعة. وإذا أرادوا أن يتشددوا يعتبرونها تهريباً، ولكن الجماعة في الحدود، على الجهتين موافقون، وابتسم وهو يقول بصوت مختلف: سجائر. جوارب. دواء. عرق. وغيَّر لهجته مرة أخرى وقال: مستورة يا سيدي!‏

نظرت إليه من جديد. كان ضعيفاً، وملامحه تشي بالحزن. وفي لحظة بدا لي كومة من الملابس القديمة، وما كاد يحس بنظراتي التي تكتشفه، حتى رفع رجله في الهواء، وبدأ يعد السراويل التي يلبسها، وهو يضحك! ثم فتح السترة العريضة، فبان تحتها ثلاث سترات أخرى!‏

"إذن يمكن للإنسان أن يجد عملاً. نعم، العمل هو الشيء الوحيد الذي يفتش عنه الإنسان، يغامر من أجله، حتى لو تعرض للخطر، للموت. البطالة موت من نوع آخر.. لماذا لم أفكر بعمل من هذا النوع؟ أن أصبح مهرباً للملابس القديمة؟ أليس عيباً؟ العيب يا منصور أن تكون دون عمل. شرف الإنسان أن يعمل. حتى البغي وهي تعمل لتكسب خبزها، أشرف من الذين لا يعملون!".‏

السيد فرانسوا مارشان، 74 شارع مدام كوري، باريس.‏

أتشرف بتقديم وافر التحية والاحترام، وأشعركم أني قرأت الإعلان الذي نشرتموه مؤخراً، حول حاجتكم لمترجم يتقن اللغتين العربية والفرنسية.‏

وباعتبار أن المؤهلات المطلوبة متوفرة لدي، أكون شاكراً لو تفضلتم بالموافقة على استخدامي، وضمن الشروط المعلنة، وبانتظار ردكم تقبلوا فائق التقدير.‏

ملاحظة:‏

زيادة على إتقاني اللغتين العربية والفرنسية، أشعركم أني حاصل على مؤهل عال في التاريخ من جامعة بروكسل، وقمت بتدريس التاريخ في الجامعة لمدة ثلاث سنوات.‏

بعد أسبوعين تلقيت الرسالة التالية:‏

"السيد منصور عبد السلام. ص. ب 923...‏

اطلع المسيو فرانسوا على رسالتكم، وإذ يبعث إليكم بتحياته، يشعركم بالموافقة، مبدئياً، على أن تعملوا معنا، وسيكون الراتب خلال الشهور الأربعة الأولى، ضمن الحد الأدنى، كما في الإعلان، يصار بعدها إلى التعاقد معكم لمدة سنتين، ويحدد الراتب باتفاق الطرفين.‏

في حال موافقتكم يرجى إشعارنا بأسرع وقت ممكن، وفي فترة أقصاها نهاية آب. علماً بأن وجودكم في مواقع العمل يجب ألا يتأخر، بأي حال من الأحوال، عن الأول من تشرين الأول.‏

باريس 4 تموز‏

التوقيع: شارل بونيه‏

"بهذه الطريقة تحولت من عاطل إلى مترجم. من أستاذ في التاريخ المعاصر إلى شيء ما في عالم الآثار والماضي! أشعر الآن أن طعم الدخان في حلقي لذيذ ومنعش، وكأن السيجارة التي تشترى بعرق الجبين لا تشبه تلك التي يكون ثمنها ديناً!‏

كنت مستعداً لأن أعمل بواباً. حمالاً. قاطع تذاكر. المهم أن أخرج من هذا البلد اللعين، وأن أجد عملاً.‏

لم تبق إلا ساعات وأغادر أرض الوطن. نعم أغادر أرض الوطن، وربما إلى الأبد. لن أرجع. لن أرجع. سوف أنسى كل أبيات الشعر التي تعلمتها في المدرسة، وأنسى الحنين والمشاوير والقمر في الصحراء، (قلت لأختي وأنا أسحب يدي بحزن، وشعور الحرج يملأ كل خلية في عقلي عندما رأيت دموعاً صغيرة تسقط على خديها، قلت لها: لن يستمر عمل البعثة الأثرية أكثر من سنتين. سأعود بعدها، وربما عدت قبل ذلك.. المهم الآن يا عزيزتي أن أجد عملاً!)‏

"ما هو الوطن؟ الأرض؟ التلال الجرداء؟ العيون القاسية التي ينصهر منها الحقد والرصاص وكلمات السخرية؟ هل الوطن أن يجوع الإنسان؟ أن يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون؟‏

ما أقسى تلك الأيام. ولكن لم يبق منها إلا ساعات وتنتهي. إذا وقف القطار في المحطة الأخيرة، يجب أن أجبر نفسي على أن أبول هناك. لا أريد أن أحمل شيئاً معي. حتى تلك الذكريات البائسة التي تنطبع على وجهي، على ملابسي، أريد أن أتركها. أريد أن أكون إنساناً جديداً، لا علاقة له بهذه الأرض".‏

"الوطن! تصوروا هذه الكلمة كم هي كبيرة وخطيرة. الوطن كما أصبحت مقتنعاً، وبعد تجربة مريرة دامت أكثر من عشرين سنة، الوطن المكان الذي يعمل فيه الإنسان، بين الرجال الذين يعرفهم ويحبهم، لقد أصبحت واقعياً. زالت من ذاكرتي الأفكار الحالمة. لم أعد أفهم الأشياء كما كانت تقال، أصبحت لها دلالات صلبة، حارة، ومن أجلها يمكن أن أحارب!".‏

ـ عفواً أستاذ! أريد أن أزعجك.. هل يمكن أن تساعدني بأن تأخذ سترتين، حتى نعبر الحدود فقط؟‏

ـ بسيطة، هات.‏

ومثل ثعلب عجوز يقف فوق المقعد، بعد أن خلع حذاءه. بدا سعيداً كأنه طفل، تحت النور القوي الذي ينصب من السقف. فتح الحقيبة الكبيرة المهترئة وسحب سترتين، ثم هبط.‏

ـ يمكن أن تلبس واحدة، وتعلق الثانية وراء ظهرك!‏

ـ أعطني. سوف أضع واحدة في حقيبتين، والثانية أعلقها هنا.‏

ـ كما تشاء.. ولكن الأفضل أن تلبس واحدة. سأعلق هنا واحدة. وأشار إلى المكان الفارغ بيننا.‏

بانت على وجهه آثار الفرح والحيرة، ثم قال بلهجة متسائلة:‏

ـ يمكن أن نعطيه واحدة أو اثنتين، وأشار بيد مسترخية إلى الرجل السمين الذي يقابلنا وكانت في عينه مرارة عذبة.‏

ـ أعتقد أنه لن يقول شيئاً!‏

ـ ولكننا لا نعرفه.‏

ـ لا يحتاج الأمر إلى معرفة. خدمة بسيطة لا تكلفه شيئاً.‏

ـ ربما لا يقبل!‏

ـ نحاول.. لن نخسر شيئاً إذا حاولنا.‏

ـ ولكنه نائم الآن.‏

ـ عندما يفيق.‏

ـ لا. لا حاجة.. إذا كان اليوم دور الذين أعرفهم، الذين كانوا في المرة الماضية، فلن يسألوا!‏

ـ ألست متأكداً؟‏

ـ لست متأكداً تماماً. ولكن أظن أنهم نفس الجماعة.‏

ـ وإذا لم يكونوا؟‏

ـ إذا كان غيرهم، مشكلة. قال ذلك وعيناه ترفان بحيرة، وأضاف كأنه يخاطب نفسه: تعال فاوض من جديد. يتظاهرون بالصرامة والقسوة لكي يحصلوا على مقابل أكبر.. يقولون: أنت مهرب، ها؟ ألا تعرف أن هذه الأشياء ممنوعة؟ لا يمكن أن تتوبوا حتى تأكل السجون من جنوبكم. وبعد مشاورات مفضوحة يناديك أحدهم، ويتم الاتفاق!‏

والتفت إليَّ وقال بلهجة حزينة:‏

لقد دفعت في المرة الماضية مبلغاً كبيراً. ولم ينته الأمر أيضاً. أوصوني على ألف شغلة. وصمت. نظر إلى الزجاج، ثم هز رأسه وحرك يديه دلالة اللامبالاة، وقال: وقال:‏

ـ الذي ترميه السماء تتلقاه الأرض.‏

ـ بعد هذه الأتاوات أتكون العملية مربحة؟‏

ـ إذا مشى الحال دون ابتزاز كثير تكون مربحة، ولكن ماذا تعني مربحة؟ تعني مستورة، وبعض الأحيان ربحها التعب والإهانات. وهز رأسه وأضاف وهو يبتسم: العيش مطلوب يا أستاذ، والصغار يريدون أن يأكلوا. وضرب على رجله بثقة وقال بنبرة عالية متحدية: دبِّر نفسك يا إلياس!‏

"آه لو أمتلك السلطة، لو امتلكتها يوماً واحداً لدمرت هذا العالم. العالم لا يحتاج إلا التدمير. لقد فسد كل شيء فيه، تفتت خلاياه، تعفن، لم يعد ممكناً إصلاحه أبداً. يجب أن يدمر نهائياً، لعل عالماً جديداً يقوم على أنقاضه. لعل بشراً من نوع جديد يأتون من صلب عالم آخر، لكي يطهِّروا هذه الأرض التي تعلوها الآن طبقة سميكة من القذارة والتفاهة".‏

وأتذكر...‏

"ليس للجامعة علاقة بهذا الأمر، ولا نستطيع أن نفعل شيئاً. التسريح من جهات عليا، من السلطة السياسية. مهمتي الوحيدة أن أبلغك!‏

ـ ولكني أريد معرفة الأسباب.‏

ـ لا أعرف شيئاً عن الأسباب. القرار خال من الأسباب!‏

ـ والجامعة، ألا تستطيع أن تفعل شيئاً؟‏

ـ ماذا يمكن أن نفعل؟‏

ـ أن تمنعوا التسريح، أن تحتجوا عليه، أن تعرفوا أسبابه على أقل تقدير!‏

ـ مادامت القضية سياسية، فلا يمكن عمل شيء!‏

ـ ما معنى القضية سياسية؟‏

ـ التسريح لأسباب سياسية.‏

ـ التسريح هو التسريح، وعلى الجامعة أن تفعل شيئاً!‏

ـ ليس للجامعة علاقة بهذا الموضوع. يمكن أن تراجع السلطات لإلغاء التسريح، لمعرفة أسبابه. إن مهمتي الوحيدة أن أبلغك! وأعتبرك الآن قد بُلِّغت، وأرجو أن تراجع رئيس القسم لتصفية أعمالك.. أنا آسف أن أنقل لك هذا القرار، ولكن وظيفتي تحتم عليَّ ذلك!‏

ـ لو كنت مكاني ماذا تفعل؟‏

ـ أرجو ألا تحرجني.. أنا موظف وأقوم الآن بواجبي، وليس عندي أي شيء أضيفه‏

ـ هذا يعني أن أرمى في الشارع؟ أن أتشرد؟‏

ـ أستاذ منصور.. أرجو أن تقدر وضعي. أوضح لك مرة أخرى أن الأمر من فوق، ولأسباب سياسية، كما أقدر!‏

ـ الجامعة في كل الدنيا تحمي الأساتذة، تدافع عن حرياتهم.. أما هنا..‏

ـ أستاذ منصور.. هذا كل شيء!".‏

ـ قلت لي أن على الرجل أن يدبر نفسه.. ها؟‏

ـ أي نعم.. هناك ألف طريقة.. زجاجة عرق، جوارب، شيء يخشخش، دائماً في حل!‏

وأتذكر من جديد:‏

"وليد بك شبح على شكل إنسان، موجود وغير موجود. لم يشأ أن يراني وليد بك. وحتى سماع اسمي بدأ يسبب له قلقاً يحاول أن يداريه بابتسامة بلهاء. في البيت غير موجود. في الدائرة غير موجود، وفي أحسن الحالات، عندما لا يستطيع أن ينكر وجوده: عنده اجتماعات مهمة.‏

الدنيا تتغير بسرعة. قبل فترة كان يفتش عني، كنت ضرورياً بالنسبة له قال لي مرة: يجب أن ندبر قبولها في الجامعة بأي شكل. حالات كثيرة مماثلة دبرت. متى أتصل بك؟ لا. لا، سأمر عليك غداً. أما الآن فأنا رجل خطير، مسرَّح، غير مرغوب فيه، يجب الابتعاد عنه دفعاً للشبهات".‏

ـ رأيك أن نوقظه ونعطيه هذه السترة؟ كان يمسك بين يديه سترة حائلة اللون، ومن طراز قديم.‏

ـ كما تشاء، أنت أدرى مني!‏

ـ ولكن لا نعرفه، هل يقبل؟‏

ـ لن نخسر شيئاً من المحاولة.‏

ـ لنتركه الآن، إذا أفاق أطلب منه ذلك.‏

وأتذكر:‏

"ـ مساء الخير.‏

ـ مساء الخير.‏

ـ الأستاذ وليد موجود من فضلك؟‏

ـ من يريده؟‏

ـ منصور.. منصور عبد السلام.‏

ـ لحظة.. آسفة إنه نائم الآن.‏

ـ متى يستيقظ من فضلك؟‏

ـ لا أعرف.‏

ـ هل مناسب أن أتصل بين السادسة والسابعة؟‏

ـ الأفضل أن تتصل به في الدائرة..".‏

"من حق هؤلاء أن يناموا. من حقهم تماماً. النوم يمنحهم الشعور العميق بالاستقرار والراحة. بعد النوم تروق أمزجتهم. ترتاح وجوههم وتتألق. يكونون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات حكيمة. ليس النوم راحة حقيقية لكل البشر. بعض الناس يهربون إلى النوم من الدائنين، ومن أشباح الجواسيس. أناس آخرون يغرقون منذ اللحظة التي يضعون رؤوسهم على الوسائد، لا يعرفون الأرق، ولا يعدون أعمدة الهاتف".‏

"النوم بالنسبة لي كابوس، عذاب، أقسى من عذاب النهار. كنت أتصور نفسي على طرف جرف حاد وأمامي مجموعة من الوحوش الكاسرة تتقدم ببطء. كنت أرى أنيابها الصفراء المسننة، وأرى الشرر يتطاير من عيونها، وأتراجع، وفجأة أهوي، وعندما أستيقظ يكون حلقي جافاً ولساني قطعة من الحطب".‏

سقطت مرة عن السرير. جرحت تحت ذقني، ما زال الجرح حتى الآن ندبة صغيرة خالية من الشعر.‏

"الجروح في جسدي كثيرة لدرجة أني أخطئ في حسابها لو أردت أن أحسبها. جروح من أيام الصغر، من الحذاء وهو يدمي كاحلي، من السقطات عن الأشجار ونحن نسرق اللوز والمشمش. وأتذكر: ضربني أبو الحيايا بحجر أوقعني على الأرض، وترك في رأسي أثراً ما زال حتى الآن. كان أبو الحيايا مجنوناً، له ذراع من فولاذ".‏

ـ إذا كنت خائفاً أعطني هذه السترة لأضعها في حقيبتي.‏

ـ لست خائفاً، ولكن لا أريدهم أن يطمعوا بي. إنهم لا يشبعون. في المرة الماضية كوموا الملابس التي كنت أحملها. كوموها على الأرض، وبدؤوا يحسبونها قطعة قطعة، كأنهم يريدون أن يشتروها. ثم وضعوا لها قيمة أكثر مما بعتها، وبدؤوا يساومون. تصور حتى الملابس التي أعطيتها للركاب انتزعوها. إنهم يعرفون كل شيء!‏

ـ أتشرب كأساً آخراً؟‏

وبفرح طفولي انتزع المطرة وصب كأساً قدمه إليَّ، وهو يشعر بسعادة لا حدود لها.‏

ـ تفضل.. لنشرب. أفضل شيء أن يشرب الإنسان لكي ينسى!‏

ومثل قطط برية تملكنا شعور غريب بالألفة. وفي لحظة رأيته يفك صرَّة ويخرج أرغفة خبز مطوية وقطعة من الجبن، ومن تحت قدميه، في سلة صغيرة لم ألحظها من قبل جر خياراً وبندورة، ونظر إليَّ وابتسامة تملأ وجهه وسألني:‏

ـ معي كم رأس من البصل، أتريد؟‏

ـ لا. شكراً، ليس لي شهية للأكل! أحسست باللعاب يملأ حلقي. وبدت لي أرغفة الخبز شهية لدرجة لا تقاوم، وقبل أن أسمع كلماته وهي تدعوني مرة أخرى، وجدت يدي تمتد إلى الرغيف، تلويه، تمزقه.. وسمعت صوتاً يخرج من فمي دون إرادة:‏

ـ أريد قطعة خبزة صغيرة.. مازة للعرق!‏

ـ العرق يتطلب أكلاً.‏

ـ الخبز يكفي.‏

ـ اعذرني يا أستاذ.. قد لا يكون الأكل مناسباً، ولكن. واعتذرت عيناه، وبدت عضلات وجهه تتحرك لا إرادياً وكأنها تشارك في الاعتذار.‏

(لا.. لا آكل خبزاً وشاياً. هذا ليس أكلاً. وتقول أمي: كان النبي يا ولدي يغمس خبز القمح بخبز الشعير. حرام عليك. انظر كم هي حلوة هذه القطعة من الخبز. إنها مقمرة مثل الكعك. جرب).‏

اهتزت عضلات وجهه أول الأمر، كأنه يقاوم شيئاً، ثم حرك شفتيه ورفع أرنبة أنفه إلى أعلى، وببطء فتح عينيه.‏

ـ تفضل شاركنا. قال الرجل الضعيف داعياً الرجل السمين، الذي ظل نائماً طوال الوقت.‏

ـ شكراً. وسأل نفسه: كم الساعة يا ترى؟ ثم حدق في وجه الرجل الضعيف وسأله: كم بقي للحدود؟‏

ـ لا تزال بعيدة.. أكثر من ساعتين!‏

ـ ما هذه الرائحة؟‏

لم يرنا بعد ونحن نشرب. لم يكن متأكداً. نحن أحرار في أن نشرب ما نشاء. وهو حر في أن يشرب أو لا يشرب. يبدو أننا سنصطدم. هل علينا أن نستأذن؟ لماذا خلق الناس وكل واحد يراقب الآخر؟ يحاسبه؟ لو أراد أن يصلي هل يمنعه أحد؟‏

رفعت أنفي أتشمم الهواء. قلت:‏

ـ ربما كانت رائحة العرق!‏

لا يهمني أي شيء يقوله. سيطر عليَّ في تلك اللحظة شعور التحدي. كنت مستعداً لأي عمل، لو يعترض، لو يقول كلمة واحدة فسوف لن ينتهي الأمر بسلام!‏

نظر إلينا بعيون تفيض سخرية، مرَّر يديه حول فمه كأنه يحاصر اللعاب ويدفعه إلى الداخل، ثم ببطء أنزل رجله اليمنى ووضعها فوق الحذاء، واستند إلى ركبتيه، وبصعوبة وقف فوق المقعد وأخرج صندوقاً مليئاً بالحلويات، وبدأ يأكل دون أن ينظر إلينا.‏

سألني الرجل الضعيف بلهجة مستسلمة:‏

ـ هل لديك سكين؟‏

ـ لا.. لماذا؟‏

ـ لكي نقشر الخيار.‏

ـ لا حاجة، نأكله هكذا. وامتدت يدي بعصبية إلى رأس البندورة الكبير وانتزعت نصفه بأسناني، ثم شربت وقدمت غطاء المطرة للرجل الضعيف وأنا أقول له: في صحتك!‏

تناول الغطاء وعيناه تنظران إلى الرجل السمين، ودون أن يتكلم حرك الغطاء بطريقة واضحة، وكأنه يقول: في صحتك!‏

شعرت بالعداء تجاه الرجل السمين. كنت أريد أن أستفزه، أن أتحداه. قلت بصوت عال أخاطب الرجل الضعيف:‏

ـ أتعرف أن العرق أطيب مشروب...؟‏

هز الرجل الضعيف رأسه موافقاً، فغمرته أريده أن يتكلم، ولكنه ظل صامتاً. من جديد عدت أسأله:‏

ـ ما رأيك أليس العرق طيباً؟‏

وبتردد قال:‏

ـ معك حق، وبصوت غير واضحة أضاف وهو يهز رأسه.. نعم.. أي نعم طيب!‏

ـ هل شربت أطيب منه؟‏

كنت أزداد رغبة في استفزاز الرجل. ولكنه ظل صامتاً. كان يمضغ قطع الحلوى بهدوء، وهو ينظر نحو الزجاج. قدرت أنه يتابع مناقشتنا، وربما كان ينظر إلى صورتنا المنعكسة على الزجاج. تجاوز الرجل الضعيف نقطة التردد التي كانت تجره إلى الخلف، وخرج من صمته:‏

ـ تعرف يا أستاذ، هذا العرق عادي، سوقي. أما في الطيبة فإنهم يصنعون عرقاً بيتياً أفضل ألف مرة من أي عرق آخر. أصلاً عرق السوق زبالة، ولولا أن الإنسان مضطر لشربه لما شربه. والناس الذين يتعودون على العرق البيتي، العرق الذي يصنعونه، لا يمكن أن يشربوا غيره. وصمت. وبعد لحظات أضاف وقد تغيرت نبرة صوته:‏

ـ إذا جئت يوماً من الأيام إلى الطيبة، سوف تذوقه وبعدها تحكم بنفسك!‏

ـ طبعاً العرق البيتي أفضل بكثير، ولكن قلما تجده!‏

وفجأة نظر إلينا الرجل السمين، كأنه لم يعد يطيق هذه المناقشة. قال:‏

ـ كل المشروب زبالة. وبعصبية سأل: ألستم مسلمين؟!‏

قال الرجل الضعيف بصوت حزين:‏

ـ أنا مسيحي!‏

التفت إليَّ الرجل السمين وسألني بغضب:‏

ـ وأنت؟‏

وبلهجة ساخرة متحدية قلت له:‏

ـ مسلم يا سيدي، لا..، لا أعرف!‏

ـ وكيف تشرب الخمر؟‏

حتى هذه اللحظة لا أعرف كيف واتتني الشجاعة، لأن أحافظ على السخرية ورتابة الصوت، قلت له:‏

ـ هل أنت وصيٌّ عليَّ؟ هل أنت أبي؟‏

أجاب بارتباك، كأنه لم يتوقع أن أواجهه هكذا:‏

ـ لا.. لا ولكن المسلم محرم عليه أن يشرب. وغيَّر لهجته تماماً يريد أن يحول المناقشة، قال:‏

ـ تعرف يا أستاذ أن الخمرة ليست محرمة فقط، بل ومضرة كما يقول الأطباء!‏

ولم أستجب للهجته. كانت رغبة التحدي ما تزال تسيطر عليَ. قلت له:‏

ـ أعرف أو لا أعرف، هذه قضية خاصة، وأعتقد أن لا حاجة لأن يتدخل الآخرون في الأمور الخاصة!‏

ـ أنا لم أقصد أن أتدخل، ولكن من واجب المسلم أن ينصح أخاه المسلم!‏

ـ النصيحة في أشياء أخرى!‏

ـ الله يصلحكم.. هذا ما أستطيع أن أقوله!‏

ـ يا سيدي أصلحنا أو.. ولم أر فائدة في الاستمرار. تراجعت. وبسرعة شربت وأعطيت غطاء المطرة للرجل الضعيف. أحسست بتفاهة تنزُّ في داخلي. لماذا أريد أن أنتقم من هذا الرجل؟ هل يعني شيئاً خاصاً بالنسبة لي؟‏

ـ تسمح لي أن أسألك سؤالاً؟ قال الرجل السمين موجهاً الكلام إليَّ. كانت لهجته هادئة ولكنها صلبة:‏

"هذا الرجل لا يستحق الاحترام. ربما تعود على الإهانة، إذ ما دام تاجراً فإن كل شيء عنده قابل للمساومة، يريد الآن أن يعظ.. لأرى" قلت دون اهتمام:‏

ـ نعم، اسأل!‏

ـ عفواً، لا أريد إزعاجك، ولكن أغلب الذين سألتهم عن طعم الخمر قالوا إن طعمها رديء، هل يمكنك أن توضح لي لماذا تشربونها ما دام طعمها رديئاً؟‏

وأتذكر أبي عندما قال مرة:‏

"بصراحة ليس لها طعم لذيذ، وما دام الأمر هكذا فالأفضل أن يشرب الإنسان مشروباً ثقيلاً، يشربه دفعة واحدة، ينتشي والسلام. أما هذه البيرة السخيفة فأستغرب كيف يشربونها طوال الليل!".‏

ـ من قال لك أن طعمها رديء؟ هل شربتها؟‏

ـ أعوذ بالله. الحمد لله أني لم أضعها في حلقي.‏

ـ من قال لك إذن؟‏

ـ أغلب الذين سألتهم!‏

ـ ما رأيك؟ سألت الرجل الضعيف.‏

ـ الخمور ليس طعمها واحداً، فيها اللذيذ وفيها المر ومثل العلقم. العرق إذا كان جيداً طعمه طيب. كان وجهه يتكلم. وباستهتار سأله الرجل السمين:‏

ـ أيهما أطيب مذاقاً الخمر أو الشاي؟‏

قال الرجل الضعيف بارتباك"‏

ـ الشاي طيب والخمر طيب!‏

ـ أسأل أيهما أطيب؟‏

وبلهجة وديعة أقرب إلى الخوف، قال الرجل الضعيف:‏

ـ "الشغلة مراق. ناس يحبون الشاي وناس يحبون الخمر".‏

ـ والله كل الذين سألتهم قالوا أن طعم الخمر سخيف، لكن الله ابتلاهم بهذه المصيبة، وكل واحد يتمنى أن يخلص منها. وبعد لحظات أضاف: كثيرون تابوا!‏

قلت وأنا أبتسم:‏

ـ لماذا لا تجرب؟‏

ـ أعوذ بالله.. الله يجيرنا. قال كمن يدفع عن نفسه تهمة.‏

وبسخرية قلت:‏

ـ حتى تستطيع أن تحكم على طعمها!‏

ـ لا يا أستاذ. لا أريدها ولا أريد طعمها. وسكت قليلاً ثم قال بلهجة مختلفة: اللهم أبعدها عنا وخلص المبتلين بها.‏

ـ غداً سيقول لك أولادك أن طعمها لذيذ للغاية!‏

ـ لا يا أستاذ، حسِّن ألفاظك، أولادي عندهم شرف. وإذا شرب واحد منهم قطرة أقطع رأسه.‏

ولم أتمالك نفسي من الضحك العصبي وأنا أقول له:‏

ـ يبدو أنك بطل تقطع الرؤوس!‏

ـ عفواً يا أستاذ، أنا لم أقصد شيئاً، ولكن تعرف أني رجل مسلم، أصلي وأصوم وأتبع تعاليم الدين، وقد ربيت أولادي على هذه الطريقة. و إنشاء الله لن يذوق أي واحد منهم الخمرة.‏

ـ وهل نحن أولاد شوارع؟‏

قفز الرجل الضعيف. أمسك بي من تحت إبطي، يظن أن معركة ستنشب بيننا، التفت إليه وقلت:‏

ـ اتركني يا صاحبي. أنا أعرف هذا النوع من البشر، الدين عندهم مثل الستارة، دائماً لها وجهان. وحياتهم كلها واقفة على سيفها حتى تكون استدارتهم سهلة. أنت لا تعرفهم.. إنهم يسرقون، يخدعون، يكذبون، وبعد ذلك ركعة تمسح ما تقدم من الذنوب وما تأخر.. كل تاجر منهم يخدع الناس مائة مرة في اليوم، يحلف أيماناً غليظة على أنه لم يربح، ولكن في النهاية، يكدس الأموال مثل قارون. أنت لا تعرف أن ربح يوم يعادل راتب شهر!‏

"هل أكون "دونكيشوتاً" جديداً؟ لماذا أعتبر هذه القفَّة من القذارة، التي تجلس أمامي الآن خصماً؟ لو قشرت الجلد عن هذا الحيوان لبدا مثل جدار الوحل: قذراً، لصاً، تافهاً، ولكن في النهاية ليس أكثر ذنباً أو حقارة من الآخرين! وقد يكون أحسن من كثيرين.. حتماً أحسن من الذين أعرفهم. المجتمع هو الذي خلق الناس هكذا. يجب أن لا أسوق نفسي نحو معركة تافهة!".‏

ـ أخي، الناس ليسوا متشابهين. هناك تجار لصوص، وتجار شرفاء، وأصابعك ليست مثل بعضها!‏

ـ كل شيء جائز!‏

ـ لا أكيد.‏

ـ أخي، وصمت لحظة، ثم تابع: هل تريد أن تهينني؟ إذا كنت تريد تفضل..‏

ـ لا أريد أن أضربك ولا أريد أن أرى وجهك، ولكن سيادتك وقفت مثل خطيب في يوم الجمعة: حرام، حلال، شرف... سمعنا هذا الكلام مئات المرات، ولسنا صغاراً حتى تكون وصيَّاً علينا، نحن نريد أن نشرب، حلَّ عنا يا سيدي.‏

ـ أنا لم أتدخل.‏

ـ لا أنا الذي تدخلت. أنا قلت حرام. حلال.. أليس كذلك؟‏

ـ الحديث جرَّ بعضه!‏

ـ طيب هل يمكن أن تنام الآن وتكفينا شرك؟‏

ـ النوم إجباري؟‏

ـ حتى نخلص من هذه المصيبة!‏

ـ الله يسامحك!‏

ـ طيب يا سيدي الله يسامحني. هل انتهينا؟‏

وساد بيننا الصمت. شعرت بالقرف وأنا أنظر إليه. كان كل شيء فيه عدواً. حتى حذاؤه بدا لي غليظاً وكأنه لإنسان منقرض، ودون رغبة سحبت مطرة العرق، وسكبت كأساً جديداً.‏

كنت أريد نهاية ما، صممت أن أقذف في وجهه العرق والأحذية وكل شيء إن هو تفوَّه بكلمة واحدة، ولكنه وقف فجأة، جر حقيبته وأشياءه الأخرى بقوة، وبكوعه فتح الباب دون أن ينظر إلينا وخرج!‏

كنت أسمع صوته في الممر وهو يشتم ويصرخ.‏

وبهدوء، هذه المرة، مددت غطاء المطرة إلى الرجل الضعيف، وقلت له:‏

ـ الآن نستطيع أن نشرب بمزاج رائق.‏

وبهدوء حزين تناول القدح وبدأنا نشرب من جديد.‏

يتبع

عاشق تراب الأقصى 11 - 7 - 2011 01:01 AM

-4-‏

ـ قلت لي أنك لا تعرف هذا الرجل.. أليس كذلك؟‏

وأحس أن نظراتي تتهمه. قال بنبرة حارة مسالمة:‏

ـ أقسم لك أني لا أعرفه، لو كنت أعرفه، أو حتى لو رأيته من قبل لأعطيته سترة أو سترتين!‏

ـ لماذا كان يخاطبك إذن بهذه اللهجة؟‏

ـ مجرد أسئلة. ويجب أن تعرف أنه رجل ثري!‏

ـ وماذا يغير في الأمر أن يكون غنياً أو لا يكون؟‏

ـ أنت تعرف أن الرجال الأغنياء أقوياء. أقوياء جداً، ومن الخطأ أن يصطدم الإنسان بهم.‏

ـ لو لم تكن تعرفه لما عرفت أنه غني!‏

ـ هو قال عن نفسه أنه غني!‏

ـ هو قال عن نفسه أنه غني.‏

ـ لم يقل هذا أبداً.‏

ـ لقد سمعته، قال ذلك، بالتأكيد، وضع يده على صدره، هل نسيت؟‏

ـ قال إنه تاجر، ولم يقل أنه غني!‏

ـ نعم.. نعم، وأنت تعرف أن التجار جميعهم أغنياء!‏

راودتني الرغبة في أن أداعبه وأخيفه، قلت له:‏

ـ أتعرف أنه لم ينم لحظة واجدة؟ لقد سمع كل ما قلته عن رجال الجمارك، ولا بد أنه ذهب إليهم الآن ليقول كل شيء. ماذا ستفعل؟‏

ـ أظن أنه كان نائماً! طوال الوقت كنت أرى عينيه مغمضتين.‏

ـ كان يتظاهر بالنوم. إنه خبيث يريد أن يوقعنا!‏

ـ وهل قلنا شيئاً؟‏

ـ لقد قلت كل شيء. شتمت رجال الجمارك، قلت أنهم مرتشون ولصوص!‏

ـ أنا لم أقل هذا أبداً. وبدت عيناه الرماديتان على زرقة تفيضان بالخوف والتساؤل. قلت له:‏

ـ المهم الآن أن تفعل شيئاً لتمنعه من أن يقول لهم!‏

ـ ماذا أستطيع أن أفعل؟‏

ـ أن تقتله. نعم أن تقتله ثم تفتح باب العربة وتلقي بجثته خارج القطار، وفي هذا الليل لن يعرف أحد!‏

ـ أنت تمزح.‏

قال ذلك وعيناه حائرتان لا تستقران على شيء. وقد بدت على وجهه المتجعد آثار الخوف. قلت جاداً:‏

ـ لا أمزح.. إن هذا وحده ينقذك من رجال الجمارك.‏

ـ ولكن الأمر كله لا يستوجب القتل!‏

ـ كما تشاء، ولكن تذكر جيداً أنني حذرتك.‏

ـ ما زلت تمزح. وأنت تعرف أنه لا يمكن أن نقتل إنساناً لأنه لا يشرب العرق!‏

ـ إذا لم يكن هذا سبباً كافياً، فمن أجل أي شيء يمكن أن يقتل الإنسان؟‏

ـ ومن قال لك أنه يجوز قتل الإنسان؟‏

ـ هذا ما يحصل دائماً، وفي كل الدنيا.‏

ـ القتل؟‏

ـ نعم القتل.‏

ـ ولكن من أجل أسباب معقولة.‏

ـ ما هي الأسباب التي تبدو معقولة بنظرك؟‏

ـ تريد الصدق..؟ قال ذلك وهو ينظر في عيني تماماً.‏

ـ نعم أريد الصدق.‏

ـ برأيي لا شيء أبداً يستوجب القتل.‏

ـ وهذا، ألا تقتله؟‏

ولم أتمالك نفسي عن الضحك. انفجرت بضحكة قوية طغت على صوت القطار الرتيب، فارتخت عضلات وجهه وامتلأ بالفرح، وبدأ يضحك معي. لكنه توقف فجأة وسألني:‏

ـ ماذا لو سمع ما قلته فعلاً؟ أتعتقد أنه سيقول لهم؟‏

ـ ولكنك لم تقل شيئاً.‏

ـ لم أعد أتذكر. وبعد فترة صمت كان خلالها يفكر، أضاف كأنه يخاطب نفسه: لن أجيء وحدي في المرات القادمة!‏

وأشعلنا سجائرنا. وبدأ ينفث الدخان على شكل دوائر فوق رأسه وينظر إليها باستمتاع، وكأن هذه الدوائر أوحت له بأفكار كثيرة، إذ نظر إليَّ فجأة وقد قست ملامح وجهه، قال:‏

ـ أتعرف يا أستاذ.. وابتلع ريقه وتابع، حتى جماعتنا الذين يعملون بهذه المصلحة لا يقبلون واحداً جديداً. رغم أن الناس هناك يريدون ملابس كثيرة. وأشار بيده إلى مكان ما، فهمت أنه يعني البلدة القادمة. نعم يريدون ملابس كثيرة، قدر ما تستطيع أن تحمل يشترون، ويريدون أكثر، أما هؤلاء.. وأشار بيده إشارات عصبية، فإنهم لا يحبون أن يسافر معهم واحد جديد. يخافون و\منه، ينظرون إليه بعداء. وصمت طويلاً، ثم قال بصوت هامس كأنه يكلم نفسه: ربما كانوا يريدون مقابلاً!‏

ـ لا شيء بدون مقابل، حتى هذا الذي كان يجلس أمامنا والذي يقول أنه يصلي ويصوم، ينتظر من الله مقابلاً لصلاته بعد أن يموت. ينتظر أن يذهب إلى الجنة. ماذا لو أن الجنة غير موجودة، هل تظن أنه يصلي؟‏

ـ أنا لا أفهم لماذا يرفضون. لن أزعجهم، لن أشترك معهم في أرباحهم. كل ما أريده أصدقاء. فالإنسان عندما يكون وحيداً لا يعرف كيف يتصرف. أما إذا كان مع آخرين فإنه يكون شجاعاً وذكياً.‏

ـ ولماذا لا يقبلون أن تكون معهم؟‏

ـ صدِّق أنني لا أعرف. قلت لأكثر من واحد: نذهب معاً. ولكنهم رفضوا. قالوا فتِّش عن عمل آخر، اترك هذه الشغلة. إنها تتعبك ولن تربح منها شيئاً.‏

ـ وهل يسافرون معنا في نفس القطار؟‏

ـ نعم في العربة المجاورة. قال ذلك بكل وجهه، وبهزات رأسه وعينيه وتابع: ليس هذا فقط، وإنما أمسك بي الآغا ونحن في المحطة وقال لي: إذا اقتربت من هذه العربة. وأشار إلى العربة المجاورة، فلا تلم إلا نفسك. والله لأخرِّب بيتك. وستكون نهايتك!‏

ـ غريب.. حتى الاقتراب منهم خطر؟‏

ـ لا يريدون أن أتعلم. يعتبرون الشغلة سراً.‏

ـ أية أسرار فيها.‏

ـ عندما قلت لهم أني سأدفع لرجال الجمارك أكثر مما يدفعون، وأن الأمور ستنتهي دون مساعدتهم، ضحكوا. لا أعرف لماذا ضحكوا. لم يقولوا سوى كلمة واحدة: جرِّب.‏

وهز رأسه بحزن وهو يتابع بنبرة جديدة: كانت المرة الماضية صعبة. دفعت كثيراً. دفعت لأشخاص كثيرين ولم أربح شيئاً. ولا أدري في هذه المرة إن كنت سأدفع أم لا!‏

ـ والآخرون.. هل يربحون كثيراً من هذا العمل؟‏

ـ رفضوا أن يقولوا. كل ما قالوه وهم يضحكون ويسخرون: جرِّب، وبعد التجربة ستترك هذه الشغلة مثلما تركت شغلات كثيرة قبلها!‏

ـ عن أية شغلات يتحدثون؟‏

وضحك ضحكة حزينة، بدت معها ملامحه متعبة وعيناه ترفَّان كأنه يحاول أن يبعد خواطر مؤلمة من رأسه قال:‏

ـ أنا، من أنا يا أستاذ.. ودق على صدره بأسى وتابع: أنا المنحوس الذي يجف على وجهه البحر، كما تقول امرأتي، وكما يقول كل الذين يعرفونني!‏

ـ إذن عملت في أشغال كثيرة؟‏

ـ لو سألتني، ما هي الشغلة التي لم أعمل فيها لاستطعت أن أقول لك بسهولة!‏

ـ إذن تعرف صنعات كثيرة!‏

ـ بصراحة، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة أسيانة، أظهرت أسنانه المسودة وقال: بصراحة لا أعرف شيئاً وهذا سر فشلي وانتقالي من عمل لآخر!‏

ـ تبدو متواضعاً، تحاول أن تقلل من قيمتك. قل لي ماذا عملت؟ في أية أعمال؟‏

ـ أنا إنسان فاشل. هذا العمل أمارسه الآن، بعد أن أتقنته في أعمال أخرى! ولما رأى الدهشة في وجهي، قال: لا تستغرب إذا قلت لك أني لم أترك صنعة إلا وعملت فيها. ومن كل هذه الصنعات خرجت مديناً وقد اسودت الدنيا في عيني، حتى أصبحت متأكداً من شيء واحد فقط: أينما أضع يدي يحل النحس والشؤم، وأنا لا أكره الناس الذين يقولون أني منحوس. وتابع بصوت هامس: يقولون مغضوب الوالدين. ربما.. نعم، لا أدري، وصمت ونظر إليَّ، ثم عب نفساً عميقاً وقال: أنا أحب يا أستاذ أن آكل لقمتي بعرق جبيني. أريد أن أعمل، ولا أطيق أن أظل بدون عمل. أما إذا فشلت في عملي فإني لا أتردد أبداً في التفتيش عن عمل آخر، مهما كان هذا العمل!‏

ـ ولكن لماذا يسمونك منحوساً؟‏

نظر إليَّ وابتسامة مريرة ترتسم على شفتيه، قال:‏

ـ ماذا أستطيع أن أفعل؟ ودون أن ينتظر، أجاب بسرعة، لقد عاكستني الظروف كثيراً، وجرَّ من علبته سيجارة بدأ يفرك مقدمتها بقسوة وهوي قول: لا أستطيع أن أبقى في الفراش بعد السادسة، وحتى أثناء المرض أكره الفراش. يجب أن أعمل، لا أطيق الجلوس ومراقبة الناس. وأصبحت كلماته عصبية كأنه يخاطب نفسه: يجب أن أعمل. حتى أصرخ وتنتابني رغبة لأن أحطم شيئاً، أن أحطم الجدران، الزجاج، أن أصعد إلى ظهر الكنيسة وأقذف نفسي، حتى لو قتل الإنسان نفسه، فإن هذا عمل!‏

ـ قلت برخاوة أريد أن أمتص توتره:‏

ـ ولكن في القرى أعمال كثيرة. وكما يقولون العمر يخلص والعمل لا يخلص، أعتقد أن من يريد عملاً يجده!‏

ـ أنت تقول هكذا، ولكن لو عشت في بلدتنا لحكمت على الأمر بنفسك!‏

ـ ألم تستطيع أن تعمل في الزراعة؟‏

ـ بعد أن بعت الأرض التي ورثتها عن أبي، لم أعد أطيق أن أمد يدي إلى الأرض وأحفر ذراعاً واحداً... وتغيَّر صوته: صحيح أني عملت مرة أخرى في الأرض، ولكن لم تكن بنفس اللذة. وسكت كأن أفكاراً بعيدة تشغله. وبهدوء وبكلمات باردة بطيئة قال: سأموت قبلهم. وسوف يضطرون لأن يحفروا قبري.. إن هذا يجنبني أن أحمل فأساً!‏

ـ لهذه الدرجة تكره العمل بالزراعة؟‏

ـ أنا لا أكره، لا أخجل. وضحك وهو يتابع: لقد طق عرق الحياء وجهي كما قال عمي قبل أن يموت.‏

ـ ولكن لماذا لم تعمل في الزراعة؟‏

ـ إن لهذا قصة لا أحب أن أتذكرها.‏

كانت عيناه تفيضان وهو ينظر عبر الزجاج، والتعابير التي ترتسم على وجهه تتقلص وترتاح كأنه يرى حياته تمر أمامه من جديد.‏

قلت أخففت عنه:‏

ـ الحياة يا صديقي شيء جدي أكثر مما يتصور الناس، ومن يريد أن يحيا عليه أن يغامر كثيراً، أن يكون شجاعاً!‏

شعرت أن كلماتي بليدة لا تعني شيئاً وأسفت أني قلتها!‏

عاشق تراب الأقصى 11 - 7 - 2011 01:02 AM

-5-‏

الحياة لذية صعبة.. نعم صعبة.‏

قال ذلك وهو يهز رأسه هزات لا تفهم. وبهدوء التفت إليَّ حتى أصبحت عيناه مشعتين، باكيتين، حائرتين، وتقولان أشياء كثيرة دون كلمات. ارتجفت في داخلي. وددت لو أنه يسحب هاتين العينين، لو ينظر إلى مكان آخر، ولكنه ركزهما في عيني ورأسه الشائب يهتز كأنه رقاص الساعة.‏

قال، وقد اشتدت عضلات وجهه قليلاً، فأصبح عابساً:‏

ـ أتذكر أني كرهت كل شيء بعد ذلك اليوم. أردت أن أقتل نفسي، ولكن الناس الذين كانوا حولي منعوني من ذلك. ومنذ ذلك الوقت لم أجد حلاً لمشكلتي إلا أن أكون قاسياً بشكل ما لكي أنتقم.‏

أتعرف يا صاحبي أن هذا الذي يجلس أمامك الآن عاش حياة صعبة. قد تكون ممتعة. لا ليست ممتعة على الإطلاق. كانت حياتي شقية. لا يهم، ولكن كانت حياة. نعم حياة، خاصة بعد أن حملت البندقية التي ورثتها عن أبي وذهب إلى الجبل. أصبحت في الجبل قاطع طريق. مشرداً. حيواناً. أربع سنوات قضيتها في الجبل. لست آسفاً الآن. ما هي الحياة؟ لا أحد يعرف.‏

نعم ما هي الحياة؟‏

لقد تغيرت حياتي منذ ذلك اليوم، أصبحت جدية وفي نفس الوقت بلهاء.‏

قلت وقد بدأت تغزوني الشكوك، حتى ظننت أن الرجل يهذي أو أنه سكر. قلت أسأله:‏

ـ عن أي شيء تتحدث الآن؟‏

وبسخرية أجاب دون أن تتغير لهجته:‏

ـ عن الحياة اللذيذة الصعبة! لا تتعب، سأقول لك كل شيء.‏

كان عمري أربعاً وعشرين سنة. كنت مفتوناً بالقمار. بدأت القضية سهلة، صغيرة، مثلما تبدأ أشياء كثيرة في هذه الحياة، حتى أن الإنسان لا يظن وهو يقبل عليها أن حياته ستتغير. كنا أول الأمر نلعب على الجوز. ثم بدأنا نلعب على الدجاج. وجاء يوم لعبت فيه على العجول الثلاث التي كانت لدي.. ولعبت في النهاية على الأشجار.‏

كنت أخسر وأربح. خسرت كثيراً، وربحت كثيراً. وكانت الدنيا تضحك لي أغلب الأحيان، حتى لم أفطن للخسائر التي لحقت بي.‏

حتى جاء يوم كرهت فيه البلدة، ورأيتها مثل قفص كبير. خاصة بعد أن تغيرت كثيراً، لما بدأ الفلاحون يقطعون أشجار اللوز والمشمش والجوز ويزرعون القطن مكانها!‏

بدأت الزراعة تتحول في بلدتنا، وتحولت معها الحياة. فبعد أن كانت الطيبة مثل بستان كبير، فيه كل ما تشتهيه من الفواكه والخضار. تحولت ذات يوم إلى أرض قاحلة جرداء. ولا تغضب إذا قلت لك أن الفلاحين أغبياء، وفيهم شبه كبير بالقرود. إنهم لا يعرفون سوى أن يقلدوا. فبعد أن زرعت الأقسام الغربية من البلدة بالقطن، وأعطت محاصيل وفيرة، تغيرت حياة الناس. قصوا أشجار الطيبة كلها، حفروا الآبار في كل مكان، وتحولت البلدة إلى مرج أبيض، على مدى البصر خلال مواسم القطاف. ولم يكن يرى في الطيبة سوى القطن. وأشجار بستاني.‏

لم أرد أن أقطع الأشجار، فأنا الذي غرستها مع أبي، وما زلت أتذكر كل شيء. كان أبي يقول ونحن نغرس الأشجار: يا إلياس هذه الأشجار مثل الأولاد ـ أغلى من الأولاد. ولا أظن أن في الدنيا إنساناً يقتل أولاده، فاحرص عليها إذا مت، أنا أتركها أمانة في رقبتك، فإذا قطعت شجرة قبل أوانها فإن جسدي في القبر سوف ينتفض.‏

لقد ساعدت أبي كثيراً ونحن نغرس الأشجار. وكنت أراها تنمو يوماً بعد يوم. وخلال حياة أبي أثمرت، وأصبحت تزهو على كل أشجار البلدة. ومنذ ذلك الوقت نمت بيننا صلة غامضة، ولما قطع جيراننا أشجارهم حزنت لذلك كثيراً. شتمتهم في سري، أول الأمر، ثم قلت لهم كلاماً قاسياً وأنا أنظر إلى عيونهم الضيقة الساخرة. قلت لهم إنكم تقطعون أرزاقكم وأنتم تقطعون الأشجار، إنكم تعتدون على الحياة، ولا بد أن الله سينتقم منكم. غضبوا مني، تآمروا عليَّ، وكانوا يفاخرون بالمال الذي بين أيديهم.‏

ذات يوم، قبل بذار القطن بشهر، كانت أشجار البستان قد أزهرت وبدأت تخضر، جاء إليَّ الرجال وقالوا: "إن مواسم القطن يا إلياس جعلت منا أغنياء. وأنت الوحيد في البلدة يملك أرضاً لا تعطيه مالاً.. أنت لا تزال فقيراً يا إلياس. وقالوا إن أشجار بستانك أصبحت لنا عدواً. وصمتوا قليلاً ثم تابعوا: هذه الليلة لا نلعب إلا على الأشجار. نحن ندفع مالاً وأنت تدفع لنا أشجاراً!".‏

لم أكن أريد أن ألعب. كانت أشجار البستان تزهر في ذلك الوقت، وتصرخ بنداءات حنونة تبشر بموسم الخير، ولم أكن أرى في الدنيا أجمل منها. كانت أجمل من الصبايا وأرق من النبع.‏

أحسست أن الرجال يتآمرون عليَّ. قلت لهم نلعب على كل شيء إلا الأشجار. واتركوا الأشجار أيها الرجال، لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لكم. أما بالنسبة لي فهي ارتباطي الوحيد بهذه الحياة، ولكنهم أصروا، ولم نلعب تلك الليلة!‏

آه لو انتهت الدنيا تلك الليلة. لو تخاصمنا، لو ضربنا بعضنا لما حصل شيء من ذلك. ولعاشت الأشجار، وربما كانت تعيش حتى هذه اللحظة. ولكن في الليلة التالية، تفجرت فيَّ حتى الرغبة بالموت. وفي لحظة شعرت بقوة تدفعني لأن أعمل شيئاً. لم أكن قد صممت، ولكن شعوراً قوياً في داخلي بدأ يتحرك. وينتفض، أحسست أن الحياة لا تستحق أن يتشبث بها الإنسان كثيراً!‏

في تلك الليلة، بعد أن شربنا وغنينا، احتفالاً بطهور ابن مختار الجهة الشرقية، رأيت الرجال ينظرون إليَّ، يختبرونني، كانت أصواتهم المستنفرة المحرضة تغريني لأن ألعب. وقبلت أن ألعب على الأشجار. قلت أشجار اللوز فقط. ثم عدت ورفضت مرة أخرى. قلت لهم لا ألعب إلا على أشجار الجهة الغربية من البستان!‏

كان القسم الغربي من البستان مستطيلاً ذا أرض كلسية، والأشجار في هذا القسم ضامرة ولا تثمر مثل أشجار القسم الشرقي، وكان عداء خفياً ينمو في قلبي على هذا القسم الذي عملت فيه أكثر من أي مكان آخر، ومع ذلك فإن الأشجار ظلت تشكو من شيء ما لم أعرفه!‏

ربحت أول الليل مالاً كثيراً. تصورت أن هذا المال يكفي لأن أزرع بستاناً جديداً أكبر من بستاني بمرتين أو ثلاث مرات. تصورت الأشجار تكبر وتعلو في الأفق، حتى تطغى على كل حقول القطن، وأن البلدة ستخضر مرة ثانية بعد هذي السنين الثلاث من اليبوسة والجفاف.‏

ولعبت. ولكن لم ينقض الليل حتى أصبحت رجلاً عصبياً نزقاً وأنا أرى الأشجار تتساقط وتهوي واحدة بعد أخرى. لعبنا أول الأمر على كل شجرة لوحدها، ثم أصبحت الشجرة شجرتين، وفي النهاية لعبت على عشر شجرات مرة واحدة!‏

نعم خسرت تلك الليلة. لم يبق من أشجار القسم الغربي سوى سبع وشجرة الجوز الكبيرة، وقد نسيت أن أقول لك أن شجرة الجوز الكبيرة كانت تقف في بداية البستان مثل حارس مهيب، يخافه كل شيء، وأن هذه الشجرة كبيرة لدرجة أن أبي لا يتذكر متى غرست.‏

حلمت بتلك الشجرة في نفس الليلة التي لعبنا. بدت لي تتألم، تبكي وتراءى لي أبي وقد امتلأ وجهه بالندوب. كانت أكثر من ندوب، كانت جراحاً تنزف. خفت من ذلك. تألمت. قلت لن يصبح الصباح حتى أذهب للرجال وأقول لهم: سأدفع لكم ما تريدون مقابل الأشجار التي خسرتها!‏

وفي الليلة التالية لعبنا مرة أخرى. استعدت أشجاراً كثيرة، ولكنني خسرت أشجاراً كثيرة أيضاً. وبينما كنت أتعذب وأموت وأنا أخسر الأشجار التي غرستها بنفسي قبل أربع سنين، وكانت على وشك أن تثمر في تلك السنة، اسودت الدنيا في عيني، وأصابتني رجفة هزت كياني كله. كنت أرى الأشجار تهرب، تغور في الأرض، تتحول إلى أكوام من الحطب، وأنا عاجز عن أي شيء. لم أعد أفهم. لم أعد أربح. بدأت أخسر باستمرار. ولم أر شجرة واحدة تعود إلي. لقد تلاشت، تهاوت، وأنا أزداد إصراراً وشراسة. كنت أصرخ بأعلى صوتي، لا بد أن أستعيدها، لا يمكن أن يعاكسني الحظ لهذه الدرجة.. لكل شيء نهاية!‏

وانتهى كل شيء بأن خسرت أشجاري كلها. القسم الغربي والقسم الشرقي. وشجرة الجوز التي حدثتك عنها والتي كانت تقف مثل إله على باب البستان، لقد خسرتها أيضاً!‏

ودون أن أفكر قلت للرجال: هذه الأشجار أشجاري، لي وحدي، ولن يأخذها أحد منكم. ضحكوا. سخروا مني. قالوا نحن نلعب كل ليلة وقد خسرنا الكثير، ولا يمكن أن نتركها لك. قلت لهم هذه أشجاري، أما أنتم فقد خنتم الأشجار، ولم تعودوا تعرفون معناها. أنا الوحيد الذي يحبها وأنا الذي سأكون صاحبها!‏

لما وجدت إصرارهم يفوق رغبتي قلت لزيدان: وكان جاري في الأرض، وهو الذي ربح أغلب الأشجار، قلت له: يا زيدان، أترك لك الأرض ولكن أريد الأشجار أن تبقى واقفة فوقها مثلما هي الآن. قال: لم نلعب نحن إلا على الأشجار، نريدك أن تكون واحداً منا، مثلنا تزرع القطن. قلت: لا أريد أن أكون غنياً. ثم إن البلدة تحتاج إلى الفواكه والخضار. وأنا الذي سأقدمها لكم، سأعطيكم غلال هذه السنة والسنة التالية.‏

قال كل الرجال بصوت واحد: لا.. لا نريد شيئاً سوى الأشجار!‏

تملكني الغضب. غضبت حتى لم أعد أرى، وصممت أن أفعل شيئاً.‏

لم تنته تلك الليلة حتى قضيت على مائة رأس من الغنم في حظيرة زيدان. دخلت عليها وبسكين كبير بدأت أضرب وأضرب حتى فرمتها. كنت أضربها على رؤوسها، على بطونها على ظهورها. وكانت بندقية أبي معلقة على كتفي، وقد قررت أن أقتل أي إنسان يعترضني. وما كدت أخرج من الحظيرة، ورائحة الدماء والبول والصراخ تملأ كل خلية من جسدي، حتى وجدت زيدان يحمل مصباحاً ويركض ناحية الحظيرة. وقفت في وجهه. قلت له: إذا تقدمت خطوة واحدة قتلتك. تجمد في مكانه أصابه الخوف فلم يستطع أن يفعل شيئاً اقتربت منه، نظرت إلى عينيه المذعورتين، أمسكت برقبته وشددت عليها، أردت أن أقتله، ولكن فكرة جنونية راودتني تلك اللحظة.‏

قلت له: لن أقتلك يا زيدان. أستطيع أن أقتلك ولكني لن أفعل. لم يصدق، كان يبكي مثل النساء، وينظر إليَّ بتوسل.‏

قلت له أريد منك الآن شيئاً واحداً. ولكنه لم يجب وظل يبكي وينتحب.‏

قلت: أريد منك الآن أن تنزع ملابسك.. ولا شيء آخر.‏

توسل إليَّ. قال إنه لا يريد الأشجار أبداً وأنه لن يطالب بثمن الغنم. لا يريد إلا أن أتركه، ولكني لم أتركه، قلت اختر أيهما تريد أن تموت أو تنزع ملابسك؟‏

ذهبت توسلاته أدراج الرياح. تلاشت قبل أن أسمعها، ولم تعد تتملكني سوى تلك الرغبة.. أن أرى زيدان عارياً. لا أعرف لماذا!‏

نزع ملابسه. أخذتها وكومتها على الأرض، وبغصن انتزعته بدأت أمزق جسده. كنت أريد أن أحفر في جسده ذكرى لا ينساها حتى يموت. كان يصرخ والغصن ينغرز في لحمه، كان يستغيث، وأنا أحفر بحقد على ظهره، على إليتيه، على صدره.‏

قلت له: ستبقى هذه العلامات ما بقيت حياً. وتذكر أن هذه علامات شجرة واحدة، فإذا قطعت الأشجار فإن كل شجرة ستترك علامات مثل هذه على جسدك. فكِّر جيداً فيما أقول.. سأذهب الآن، ولكن ستراني مرة أخرى. وبصقت عليه وأخذت ملابسه واتجهت إلى الجبل!‏

نعم ذهبت إلى الجبل، وأصبحت أعيش هناك. كنت أعيش وحيداً. قطعت الطريق عدة مرات، ولكن أغلب الأحيان كنت أعتمد على الصيد في تأمين ما أريد. وكنت في الجبل أستغرق في التفكير والحزن، لكن منظر الأشجار لم يفارقني لحظة واحدة. كنت أفكر فيها ليل نهار. أتصورها واقفة بشموخ لا يقهر وسط السهول الجرداء المتربة. أتصورها تداعب الرياح وتحتضن العصافير. أتصورها أيام الربيع تتفجر بالزهر، وأيام الصيف تتفجر بالثمر. كنت أتصورها مقرورة في الشتاء وقد نحلت وتعرت، وتقترب من الأرض عندما تصفعها الرياح تريد حماية ودفئاً.‏

كانت الأشجار الشيء الوحيد الذي أراه وأفكر فيه في الليل والنهار.‏

سألته وقد استولت عليَّ الدهشة وأنا أسمعه يتكلم مثل نهر هادر، وبعد أن تغيرت نظرتي له، فأصبحت إعجاباً ممزوجاً بالخوف. سألته:‏

ـ وكيف سارت الأمور بعد ذلك؟‏

قال: ألا تشرب كأساً الآن؟‏

وبلهفة انتزعت المطرة وقدمت إليه الغطاء المليء بسرعة، أريده أن يواصل قبل أن تنقطع أفكاره.‏

ـ كما قلت لك يا صاحبي، ذهبت إلى الجبل، وهناك عشت أربع سنين. كنت أعيش في المغاور. آكل الأعشاب والطيور. وبعض الأحيان الحيوانات. أشرب من نبع صغير كان يتحدَّر من الجبل باتجاه الوادي حتى يصل الطيبة. ولم أنزل إلى البلدة خلال الفترة إلا ثلاث مرات. لم أكن أريد شيئاً من البلدة. حتى السجائر لم أعد أشتهيها. الشيء الوحيد الذي كنت أحرص عليه زال من الوجود!‏

نزلت في الشهر الرابع، بعد أن استوحشت كثيراً، ولا أعرف لماذا، كنت أريد أن أتفق مع الناس على أي شيء. كنت مستعداً لأن أ دفع ثمن الغنم، وأدفع لزيدان أي مبلغ يطالبه نتيجة الجروح والتشويه. كنت مستعداً أن أزرع القطن.‏

ولكن ما كدت أصل بستاني، في تلك الليلة، حتى رأيته عارياً مشوهاً، فلم أستطع أن أميزه أول الأمر. أصابتني قشعريرة باردة، تملكتني من رأسي حتى قدمي. كانت أشجار القطن قد أصبحت كبيرة نامية، ودون أن أحس وجدت نفسي مثل مجنون أقتلعها، أدوسها، أخربها، أصرخ فيها. وخلال ساعة من الزمن لم تبق شجرة قطن واحدة. ودون أن أمر على أي بيت من بيوت البلدة وجدت نفسي أرجع إلى الجبل.‏

وما كدت أصل الجبل، هذه المرة، حتى شعرت بالرضا. شعرت بسكينة تملأ نفسي، وتراءت لي الطيبة بلدة صغيرة، ضيقة، والحياة فيها لا تطاق. وقد استغربت كثيراً كيف أني عشت فيها كل هذه السنين.‏

وأنت تعرف أنه إذا تغير مكان الإنسان تتغير طباعه ونفسيته. فلما أصبحت في الجبل وحيداً، أخذت أفكر بهذه الحياة التي تمتلئ بالتعاسة. وقد تساءلت كثيراً لماذا يكره الناس بعضهم، ولكن لم أجد جواباً. قلت لنفسي ذات مرة: ماذا استفاد أهل الطيبة عندما قطعوا أشجار إلياس وجعلوه تعيساً هكذا؟ فكرت بهذه الأمور وفكرت بغيرها، وأصبحت متأكداً لو أن الناس عاشوا في الجبل مثلما عشت لأصبحوا قادرين على أن يجعلوا الطيبة أفضل ألف مرة.‏

إن الإنسان في الجبل يتحول إلى مخلوق عجيب. يسمع أحسن مما يسمع أهل الطيبة. ويرى أحسن منهم أيضاً. والريح والأشجار والقمر، وكل شيء يصبح أفضل بكثير. تفقد الأحجار قسوتها، وتصبح أقرب إلى الإنسان. كنت إذا استندت إلى حجر من أحجار الجبل أشعر بالراحة واللذة. كنت أنظر إلى القمر فأرى وجهاً حزيناً يكاد يبكي وهو يطل على الطيبة. أما المغارة التي كنت أنام فيها فإنها أغرب شيء رأيته في حياتي، كانت في الشتاء دافئة تلتهب بالحرارة، أما في الصيف فإنها تتحول إلى مكان بارد يفوق ببرودته تلك المياه التي تصل إلى الطيبة من نبع الجبل.‏

ولو سألتني عن الحيوانات هناك لقلت لك أن لها طباعاً غريبة. كانت تخاف في أول الأمر، تهرب، ولكن لم تمر شهور قليلة حتى أصبحت أراها تقترب. وقد أعطيت لعدد منها أسماء جميلة، وكنا نتحدث من بعيد. كنت أفهمها، وكانت تفهمني، ما عدا تلك الأوقات عندما يجوع الإنسان ولا يجد شيئاً يأكله، كنت أضطر لأن أقتل بعضها. لم أفعل ذلك كثيراً ولكن شعرت بأسى، يفوق كل شيء. وندمت. وقد فسرت الأحلام والألم اللذين نزلا بي بعد أن اصطدت رمانة، الأرنبة الرمادية التي تسكن قرب المغارة، بأن خطيئة لامست عظامي وجعلت مني إنساناً مشوهاً.‏

ومع أني فكرت كثيراً، ورأيت كل شيء في الجبل، فقد ظللت حزيناً. كنت أريد بشراً أتحدث معهم. كنت أريد أشجاراً أسقيها وأتطلع إليها كل يوم. ولكن أهل الطيبة حرموني من هذا كله، فلم ألتق إلا بالرعاة، وحتى هؤلاء لم يألفوني بسرعة، تماماً مثل الحيوانات، ولكن بعد أن اطمأنوا بدؤوا يسقونني الحليب، وبين فترة وأخرى كانوا يذبحون لي خروفاً صغيراً.‏

وذات يوم وجدت نفسي، بالعصا القصيرة الحادة الطرف، أنقب وأبحث في التراب الذي يحيط قلعة مراد آغا، وفجأة وجدت قطعاً من الحديد. ظننتها أول الأمر ذهباً. ولكن بعد أن وضعت عليها ملحاً وفركتها بقوة، ظهرت حمراء بلون النحاس، وعليها رسوم وأشياء لم أفهمها.‏

ورغم ذلك كنت أقضي ساعات طويلة أنظر إلى القلعة وأبحث في ترابها، صحيح أني لم أجد شيئاً، غير تلك القطع، ولكني بدأت أحب الأحجار والظلال التي تلقيها القلعة على مساحات واسعة، وفي هذه الظلال كنت أنام طويلاً أيام الصيف.‏

لو كنت في الطيبة آنذاك لأريت الناس القطع النقدية، ولذهبنا كلنا نبحث عن الكنوز، ولكن عندما رجعت إلى الطيبة بعد تلك السنين لم أجد في نفسي رغبة لأن أقول لأحد. والرجل الوحيد الذي رأى القطع النقدية قال لي: لا تتعب نفسك يا إلياس، إنها لا تساوي شيئاً، لأن لا أحد في الطيبة أو في غيرها يقبل أن يعطيك خبزاً بدلاً عنها.‏

وبلهفة سألته:‏

ـ وأين هذه القطع الآن؟‏

ـ ما يزال بعضها عندي. وأشار إلى البعيد. وضعتها في صندوق تركته أمي بعد وفاتها. وإذا لم تحرض أدمة الصغار على فتح ذلك الصندوق فهي ما تزال ترقد هناك.‏

ـ إن هذه القطع تعادل الكثير.. يمكن أن تبيعها.‏

ـ ولكني عرضتها ذات مرة، بعد أن عملت في النزل، فلم يشترها أحد، ما عدا واحدة بعتها بليرة رشادية لامرأة مسنة، قالت أنها ستجعل منها قلادة.‏

ـ أعتقد أنها تساوي كثيراً.. يجب أن تحتفظ بها.‏

ـ لم أشأ أن أبيعها. قلت لنفسي احتفظ بها يا إلياس، ذكرى أيام الجبل.‏

ـ آه لو كانت معك الآن!‏

ـ ماذا لو كانت معي؟‏

ـ لرأيتها!‏

ـ وتقول لي ما تعادل؟‏

ـ ولكني لا أعرف شيئاً عن النقود القديمة.‏

ـ ستراها ذات يوم.. سأحتفظ بها حتى تراها.‏

ـ وظللت في الجبل مع الحيوانات والرعاة، ولم تحن إلى الطيبة؟‏

ـ ظللت سنتين دون أن يراني أحد. كنت أراهم بعض الأحيان. كنت أقترب من الطريق الذي يسلكونه ذاهبين أو عائدين للطيبة، ولكني لم أتركهم يروني ولو مرة واحدة. كنت أستطيع أن أقتل عدداً كبيراً من الناس، أن أقطع عليهم الطريق، أن أجعلهم يرقصون مثل السعادين، ولكني لم أشأ!‏

بعثوا إليَّ مع الرعاة يقولون: عد إلى البلدة. إن أمك اتفقت مع زيدان، وكل شيء قابل للتسوية. ولكنني لم أسمع. عرفت أن كل ما يريدونه هو أن يوقعوا بي، أن ينتقموا مني. أنا أعرف زيدان. أعرفه تماماً. اختلفنا مرة على السقاية، فما كان منه إلا أن بعث من قطع الثمار قبل أن تنضج. لم يعترف، ولم يثبت عليه شيء. ولكن عرفت ذلك في وقت متأخر، عندما أخبرني أحد الذين استخدمهم لقطع الثمار!‏

والآن.. ماذا سيفعل زيدان إذا رآني؟ هل سيتركني دون أن يمثل بي؟ أنا لم أخف منه، ولكني رأيته إنساناً يبتسم ويخون. يقتل القتيل ويمشي في جنازته. أنا لا أحب هذا النوع من الناس، وأخاف إن رأيته أن أتحول إلى مجنون. لن أتركه يفلت مني هذه المرة، خاصة بعد أن قطع الأشجار. كنت أظن أنه سيتردد كثيراً قبل أن يقطع الأشجار، ولكنه قطعها.‏

بعثوا إليَّ مرة مع راع كان يعمل عند أبي. قال لي الراعي: أمك مريضة يا إلياس وقد أوصتني أن تعود لتراك قبل أن تموت، ولو كانت قادرة لأتت بنفسها. لم أصدق أول الأمر، ولكن في اليوم الثالث جاءني وقال: أمك تموت.. وقد لا تصل. لم أحتمل هذه المرة.‏

لم تمض أيام حتى تسللت إلى البلدة، عندما دخلت البيت كانت أمي تنام على نفس الفراش. صحيح أنها بدت مسنة ولكنها لم تزل معافاة. فما كدت أنظر إليها حتى أفاقت، أحست بوجودي، إن الأمهات يا صاحبي يمتلكن إحساساً خارقاً بالأشياء، إنهن مثل الأشجار لا يتكلمن كثيراً ولكن يعبرن عن أنفسهن بطريقة لذيذة.‏

قلت لها لماذا كذبت عليَّ يا أمي؟‏

قالت: ما كنت أستطيع أن أراك لو لم أكذب. حاولت مرات كثيرة، ولكنك لم تسمع، ولم تأت.‏

قلت: وهل تكذبين؟‏

قالت: كذب الأمهات من أجل أن يرين أولادهن صلاة.‏

قلت: ولكنك تعرفين زيدان. لو رأيته لقتلته. وإذا رآني لن يتركني أرجع للجبل مرة أخرى!‏

قالت: ندفع لزيدان ما يحدده المختار وبعض رجال البلدة وتعود.‏

قلت: أمن أجل هذا طلبت إليَّ أن أعود؟‏

بكت، توسلت، قلت لها لم أعد أطيق البلدة يا أمي. إن بلدة لا تنبت فيها الأشجار لا يمكن أن يعيش فيها الإنسان. والطيبة التي كانت يوماً خضراء مثل عرق النعناع، تحولت اليوم إلى مقبرة، إلى أرض غبراء، ولا أطيق أن أعيش فيها يوماً واحداً.‏

وقبل أن يحل الفجر تركت البلدة. كنت أسمع صوت أمي مملوءاً بالرجاء يدعوني. ولكن لم أسمع.‏

بعد ثلاثة أيام جاءني نفس الراعي، وكان يعرف المكان الذي أشرب منه، وقال: العجوز ماتت هذه المرة. في المرة الأولى لم تكن تريد أن تموت لأنها كانت تأمل أن ترجع. أما اليوم فقد ماتت لأنها يئست من كل شيء. لم يقل هذا فقط، وإنما أضاف: إن أهل الطيبة عرفوا مجيئك، وقد شتموا كثيراً وقالوا سيبقى إلياس ملعوناً إلى الأبد.‏

ـ ألهذا يسمونك مغضوب الوالدين؟‏

ـ ولأني لم أتفق معهم بعد أن عدت إلى الطيبة.‏

ـ ومتى عدت إلى الطيبة؟.‏

ـ قضيت في الجبل أربع سنين، مات خلالها زيدان، وابتأست البلدة كثيراً بعد أن شحت مياهها. لم تعد المياه تكفي لري القطن الذي زرعوه، لقد زرعوا القطن في كل مكان. زرعوه في حدائق البيوت، على جوانب الطرق، في السهول التي كانت يوماً تمتلئ بالأشجار. وحفروا في كل شبر بئراً، ولم تمض سنتان أو ثلاث سنين حتى جفت الآبار، أصبحت مثل ثقوب الجرذان، لا تعطي ماء وإنما تعطي وحلاً ورائحة كريهة!‏

أنت تعرف أن الآبار مثل الأشجار إذا لم تعطها لن تعطيك. ومن أين لهم أن يعطوا الآبار ما داموا قد قطعوا الأشجار؟ الأشجار هي التي كانت تسوق لهم المطر، كانت تسوقها من أقاصي الدنيا حتى تخيم على الطيبة سحب سوداء ت ظل تمطر أياماً بلياليها. لم تكن الأمطار تتوقف. كانت في بعض السنين تحول الأرض إلى سيول، وكان أبي يقول: اللهم أجرنا من الطوفان. ولكن السنين تمر والمطر لا يأتي إلا مثل بول الكلاب، لحظة وينقطع. الأشجار هي التي تأتي بالمطر. إن الأشجار مثل الأطفال، وبمقدار ما ينظر الرب إلى الأطفال ويرعاهم، فإنه ينظر إلى الأرض من خلال أشجارها، فإذا قطع الناس أشجارهم فإن الرب يتركهم ويعطي المطر لغيرهم، لمن عندهم أشجار!‏

وهكذا خسرت الطيبة كل شيء: خسرت الأشجار وخسرت القطن. وأنت يا صاحبي تعرف أن خسارة الأشجار مثل خسارة الرجال، لا تعوض.‏

فكذَر الناس. استغاثوا بالرب. عمَّقوا الآبار مرة، ومرة أخرى. ولكن الآبار لا تعطي. والقطن يضمر ويموت قبل أن تكتمل خضرته، وتبور المواسم. ويهاجر الناس.‏

حتى كان يوم وهم يفكرون. قالوا: إلياس هو الذي جلب لنا النحس، وليس أمامنا إلا أن نقتله أو نحضره إلى الطيبة.‏

قلت لهم مع ذلك الراعي الذي أصبح رسولاً بيننا: أعود إلى البلدة ولكن لن يعود لها الخير. إن كنتم تريدون الخير فيجب أن تبحثوا عنه في الأشجار. ولكنهم لم يفهموا!‏

وكان يوم عدت فيه إلى الطيبة. قلت ارجع يا إلياس وليكون ما يكون. رأيت الحزن يخيم على الرجال. كانوا متعبين حائرين، لا يعرفون أأحياء هم أم موتى، لا يعرفون هل يزرعون أو لا يزرعون.‏

لا أطيل عليك، قلت لهم: يا أهل الطيبة إن كنتم تظنون أن إلياس خلَّف لكم النحس، فها أنا قد عدت. وإن كنتم تريدون أن تحيوا مرة أخرى، فإن الأشجار طريقكم إلى الحياة. لن أبقى في البلدة حتى أغرس بستاني وينمو مرة أخرى. فإن كنتم تريدون أن يزول عنكم النحس فأعطوني قسماً من أرضي وساعدوني على غرسها. أما القسم الآخر فإني أتنازل عنه لأولاد زيدان ثمناً للغنم. ولم أقل كلمة واحدة عن زيدان وجراحه. كان زيدان يستحق تلك الجراح!‏

تركتهم أياماً ورجعت. قلت لهم هل توافقون؟‏

بعد تفكير وافقوا، ثم رجعوا. ووافقوا مرة أخرى، ثم رجعوا، فحزمت أمري وقلت سأبقى، ولكن سأكون بعيداً عن الأرض. ازرعوا ما تشاؤون.‏

فتحت فرناً في البلدة، بعد أن بعت الأرض. كان أول فرن في الطيبة. استغرب الناس، سخروا مني، قالوا انظروا أنه يحمل التمر إلى مكة. ولم تمض شهور حتى ذهبت الأموال وتوقف الفرن.‏

لو أرادوا لظللت في البلدة. كانوا قادرين على شراء الخبز الذي أصنعه، ولكنهم لم يشاؤوا. لم أبع الخبز إلا للغرباء والعابرين وبعض الرعاة. أما هم فقد كانوا يأكلون خبزهم الذي يصنعونه ويضحكون.‏

في صباح أحد الأيام لم أجد أمامي سوى الجهة الشرقية مفتوحة تناديني، فركبت العربة التي تسافر إلى المدينة البعيدة، وقلت لنفسي سأترك الطيبة لأهلها وأرحل..‏

عاشق تراب الأقصى 11 - 7 - 2011 01:03 AM

-6-‏

في المدينة عملت صانعاً عند دهان. ثم عاملاً للبناء. كان حظي في هذين العملين مثل حظي في الفرن. أعمل يوماً وأتعطل أياماً. جعت في المدينة الكبيرة. تعبت وأنا أدور. صدتني الوجوه القاسية التي لا تعرف رائحة الأشجار ولا تعطف على الغرباء. فكرت أن أعود للطيبة مرة أخرى، ولكن الكراهية الصفراء التي رأيتها في وجوه أهلها صدتني بسرعة. ودوَّت في أعماقي صرخة تؤنبني، تقول لي ابق حيث أنت. ابحث عن عمل آخر.‏

وبحثت حتى أصبحت عاملاً في معمل للبلاط. كنت أصب القوالب طوال الصباح، فإذا حان وقت الغداء أستريح. كنت آكل الرغيف وأنا أنظر إلى الأشجار البعيدة. لم أكن أتمنى شيئاً في ذلك الوقت سوى أن أستظل تحت شجرة من تلك الأشجار. ما أشد روعة الأشجار في ظهيرات الصيف! إنها لا تحمل الظل فقط. إن لها رائحة نفاذة تغزو القلب. وأفيق من ذلك الحلم القصير على صوت صاحب المعمل:‏

ـ أعرفهم هؤلاء الفلاحين. إنهم كسالى مثل حيات الشتاء. أما عندما يطالبون بأجورهم فإن الحيات تصبح ذئاباً.‏

وأقوم لأدور مع تلك الآلة اللعينة. كنت أدور وأدور حتى يختل نظري، ولا أعود أعرف إن كنت أنا الذي يدور أم تلك الآلة. وعند الغروب أتناول أجري الذي يذوب مثلما يذوب الملح في الماء.. فندق أهل الطيبة يسرق النصف، والأكل يسرق النصف الآخر.‏

مرت أيام طويلة لم أستطع خلالها أن أذوق الخمر. ومرت أيام أطول وأنا أفكر بالطيبة والأشجار. حتى قال لي صاحب المعمل ذات يوم:‏

ـ منذ الغد فتش عن عمل آخر، يا إلياس!‏

وظللت أبحث أياماً طويلة عن عمل حتى وجدته. لقد أصبحت وقَّاد حمَّام.‏

كنت أنزل إلى القبو الذي يشبه الجحيم، وأظل هناك الساعات الطوال ألقي الحطب في الموقد. لم يكن يؤلمني سوى أنني أحرق الحطب. كنت أظن أن كل قطعة خشب جاءت من الطيبة. ومن بستاني بالذات. هل شممت رائحة الحطب وهو يحترق؟ إنها تشبه رائحة الخبز، رائحة شيء حي. كنت أتألم، ولكن من أجل أن يعيش الإنسان لا بد أن يعمل.‏

لم يكن يسرِّي عني في هذه الساعات الطويلة القاسية، وأنا أحترق في ذلك ا لقبو اللعين، إلا تلك الأصوات الناعمة اللذيذة التي كانت تصلني من بعيد. أصوات النسوة اللواتي يغتسلن فوقي، في الحمام. كان دور النساء طوال قبل الظهر، كل أيام الأسبوع، ما عدا الجمعة، وفي هذه الأيام كنت أحس رضا من نوع ما. مثل ذلك الرضا الذي يحسه الإنسان بعد أن يفرغ من عمل كبير: بعد أن ينتهي من القطاف، بعد أن يقوم بفتح القناة ليتدفق الماء ويسقي الزرع.‏

كنت أحب أصوات النساء، ألتذُّ بها لدرجة أنني فكرت كثيراً بهذا الأمر. كنت أتصور النساء واحدة واحدة. حتى كدت أعرفهن تماماً، وأصبحت لي بهن علاقة. أصبحت أعرف "عدلة" التي تأتي كل يوم أربعاء. أعرفها من صوتها، من مشيتها، أعرفها من ضحكتها وهي تطش الماء على "وديعة". وعرفت أيضاً "أم ليلى" و"غزالة". كانت غزالة تحصر بين ساقيها ابنتيها الصغيرتين. وكانت البنتان تصرخان صراخاً حاداً يمزق القلب. حتى أنني تمنيت في وقت من الأوقات لو أضرب غزالة، لو أصرخ في وجهها، أن أقول لها كلمة واحدة، أن أ قول لها: حرام عليك يا ظالمة.. إنهم أطفال صغار لا يحتملون هذا الماء الساخن!‏

عشت في الحمام أكثر من سنة. خرجت بعدها ضعيف البصر. وأصبحت الشمس عدواً لي. لم أر خلال تلك السنة كلها شجرة خضراء واحدة. لم أر ثمر التفاح والمشمش وهو يزهر ويحمر. كنت قابعاً في ذلك الجحر مثل خلد أجرب، ألقي الحطب دون توقف، فإذا ما فتح الباب أغلقت عيني خوف أن يقتلني وهج النهار.‏

ذات يوم، دون أن أفكر، شعرت أن روحي تحوم فوق صدري. خرجت فوراً إلى صاحب الحمام وقلت له: لا أريد أن أعمل لحظة واحدة. أريد الآن أن أغادر هذه المدينة اللعينة، ولن أعود إليها مرة أخرى.‏

حاول معي صاحب الحمام، حاول كثيراً. قال لي نعطيك ضعف ما تأخذ، نعطيك راحة، ولكني قلت له أني لم أعد أطيق الحياة تحت الأرض. أريد أن أرى الشمس والأشجار، أريد أن أعيش فوق الأرض. حتى إذا مت نزلت إلى تحتها مرة واحدة وإلى الأبد.‏

وهكذا تركت الحمام. وظللت شهرين أبحث عن عمل. بحثت في كل مكان. سألت أصحاب الحوانيت، والمارة، سألت مختار الحي الذي سكنت فيه، سألت صاحب نزل أهل الطيبة. ولكن أحداً لم يجبني.‏

ـ وهل رجعت إلى الطيبة؟‏

بدا سؤالي باهتاً. لمحت وجهه يتقلص كأني أنتزعه من حلم، ودون أن أنتظر جوابه تابعت: أقصد ماذا حصل بعد ذلك؟‏

العمل والبطالة يتكرران مثلما يتكرر الليل والنهار. عملت كثيراً وتعطلت كثيراً. فبعد الحمام اللعين بدأت أنتزع نفسي من الذكريات التي تراكمت في رأسي عن النساء اللواتي يشبهن البلور. ولكن، رغم كل ما حاولت، فقد ظل شيء في داخلي يتحرك. شيء لم ألاحظه من قبل. لم تكن المرأة تشغلني كثيراً، ولكن وجدت نفسي دون أن أدري أفكر فيها، وكنت أحلم أيضاً. وأنت تعرف أن المرأة مثل أمور كثيرة في هذه الحياة لا يمكن أن يفوز بها الإنسان إذا لم يكن غنياً. أقصد عنده بعض المال على الأقل. وأنا في ذلك الوقت لم أكن أملك شيئاً!‏

قررت ألا أفكر بالمرأة أثناء النهار، أبداً. فالمرأة تحتاج إلى وقت هادئ وطويل لكي يتخيلها الرجل. وفي ساعات الليل كنت أملك هذا الوقت. كنت أتخيلها عارية تماماً، لون جسدها يشبه عرنوس الذرة الذي لوحته الشمس، تلمع مثلما تلمع الأشجار بعد المطر. وأكثر من مرة تخيلتها نائمة وشعرها مفروداً معتماً كأنه ظلال شجرة الجوز الكبيرة..‏

لكي لا أطيل، أقول لك أني تخيلت المرأة في كل الأوضاع. عرفت تفاصيل جسدها تماماً، لون حلمة ثدييها، لون سيقانها، وتجاعيد البطن، وكل شيء.. كل شيء، حتى أني كنت أستطيع وأنا نائم أن أمد يدي إلى أي جزء وأعرفه دون أن أراه!‏

وفي هذه الفترة أحسست بالحرمان كما لم أحسه من قبل، وكأن الدنيا تطبق عليَّ، تريد أن تخنقني. فانتابتني آلام في الظهر، لم أشف منها إلا وأنا أدور مثل مكوك الحائك في ذلك المقهى التعيس حيث وجدت عملاً!‏

كنت أحمل صينية الماء طوال الليل والنهار. وعندما يرتوي الناس وترجع الكؤوس مليئة مثلما كانت، كان أبو ذياب، صاحب المقهى، يصرخ في وجهي صوتاً يزلزلني، كان يقول:‏

ـ ستبقى حماراً، ولن تتعلم أبداً. ألا تسمع الزبائن يطلبون ناراً؟ من سيحمل لهم النار؟ هل تريدني أن أحملها بنفسي؟‏

ومثل معتوه أصطدم بالكراسي، بالطاولات، وأنا ذاهب لأحمل المجمرة بدل صينية الماء. وأظل ألف على كعبي: نارة. نارة. حتى أسمعه صوت المعلم مرة ثانية:‏

ـ والماء؟ هل تريد من الزبائن أن يذهبوا إلى رأس النبع لكي يشربوا؟ ماذا تنتظر حتى تحمل إليهم الماء؟ وأشير إلى المجمرة في يدي، أهزها لعله يراها، ولكنه لا يرى شيئاً أبداً، وإنما أسمع صوته:‏

ـ يا ابني إن الله خلق العقل زينة. لماذا لا تستعمل عقلك؟ اترك المجمرة الآن واحمل صينية الماء!‏

كنت أعاني كثيراً، ولكنني اضطررت للبقاء، لأن العمل في المقهى كان يطعمني ويوفر لي مكاناً صغيراً أنام فيه. كنت أنام بعد أن يذهب جميع الناس، وبعد أن أجمِّع الكراسي مثل تلال الجراد فوق الطاولات.‏

كرهت أبا ذياب. وكرهت هؤلاء الذين لا يرتوون من الماء. وكرهت النار التي أحملها لأناس متبطلين ليس لهم عمل سوى أن ينقروا على طرف الأركيلة بملقط صغير ويقولون دون ملل: نارة.. نارة.‏

خلال السنة التي قضيتها عاملاً في المقهى لم أفكر بالمرأة. لم أر طيفها. لم أسمع صوتها. كانت تتراءى لي بعيدة من وراء الزجاج، حتى ظننت أنها أصبحت مستحيلة، أو هي مجرد شبح يتلاشى إن وضع الإنسان يده. وحتى في ليالي البطالة التي تألمت فيها وأنا أعاني من الجوع، كنت أتصور المرأة، كنت أتخيلها، أستريح. أما الآن فإني لا أكاد أضع رأسي على الوسادة حتى أتلاشى وأغيب عن الوعي، وكأني أسقط في بئر لا نهاية لها!‏

كنت وأنا أدور وصينية الماء بين يدي، أنظر إلى فئة سعيدة من الناس، وأحسدها. وكنت أنتظر اليوم الذي أستطيع أن أجمع بعض المال لأبدأ العمل.‏

لا تظن أني كنت أنظر إلى زبائن المقهى، فهؤلاء رغم أني قضيت معهم عمراً لكني لم أرهم. وحتى لو قابلت أحدهم الآن لما عرفته.‏

كنت أرقب باهتمام لا يعرف الملل، الباعة المتجولين، الذين يحملون الجوارب والعطور والملابس الداخلية، ويبيعونها في المقهى. كنت أقترب منهم، أنظر إلى وجوههم، أسمع كلماتهم التي يرددونها دون تعب وهم يقنعون الناس بالشراء.‏

لقد قررت بيني وبين نفسي أن أبدأ عملاً من هذا النوع، عندما تتاح لي الفرصة. وقد تجرأت أكثر من ذلك، وقادني طموحي لأن أفكر بهذا العمل، ولكن بشكل أفضل.‏

بعد سنة، وكان أبو ذياب غاضباً يصرخ ويشتم، صدف أن رآني أنظر إليه. ودون سبب شتمني. لم أحتمل، ولكن لم أتفوه بكلمة واحدة. ذهبت إلى الزاوية التي كنت أنام فيها، جمعت ثيابي وقررت أمراً خطيراً: قررت أن أغادر المقهى.‏

هل رأيت في حياتك ثوراً هائجاً؟ لقد غضب أبو ذياب مثل ثور، ذلك اليوم، وهو يراني أقف أمامه بهدوء، وأطلب منه أن يحاسبني!‏

هجم عليَّ. أمسك بكتفي وأخذ يهزني، ولكن ظللت هادئاً لا أجيب ولا أتحرك. ولما بدأ يشتم قلت له، ولا أعرف من أين واتتني الفكرة:‏

ـ أنت حيوان مفترس، تماماً كالضبع، لأنك لا تحس بألم الفقراء.‏

تطلع إليَّ مصعوقاً، ولما تأكد من أن إلياس يقف أمامه، وأنه قال هذه الكلمات، صرخ:‏

ـ اخرس يا كلب.‏

نظرت إليه طويلاً وقلت:‏

ـ إذا تكلمت كلمة أخرى كسرت لك رأسك.‏

دهش وكأنه لا يصدق. تجمع الناس حولنا. نظروا إلينا. وبهدوء لم أعرفه في نفسي قلت بصوت عال:‏

ـ ادفع لي يا أبا ذياب أجري، وقل لي كلمة حلوة لكي أغادر بسلام. وسكت لحظة ثم تابعت:‏

ـ الكلمة الحلوة قبل الأجر!‏

تغير الجو في التو واللحظة. نظر إليَّ أبو ذياب نظرة تمتلئ مرارة وحقداً، والناس حولنا صامتون ينتظرون ما سيقوله، وأنا في مكاني ثابت، وقد صممت على عمل شيء إن هو حاول أن يعتدي عليَّ. وسمعت صوته كان صوته راجياً وقاسياً وهو يقول لي:‏

ـ قم غيِّر ملابسك وارجع إلى عملك يا إلياس.‏

ولكن لم أقم. ظللت صامتاً أنتظر فراغ صبره. كرر الطلب مرة أخرى، ومرة ثالثة. وفي كل مرة تتغيَّر لهجته. ولكني في مكاني لا أتزحزح، أصوب إليه نظرات قاسية، حتى سمعته يقول ولم يعد يطيق أن يراني:‏

ـ يا خسارة الإحسان في غير مكانه. كلب تعطيه عظمة ثم يعضك!‏

صرخت في وجهه. شتمته. قلت له أنت الكلب يا أبا ذياب. الكلب من لا يحترم الناس، من لا يحترم نفسه. الكلب يا أبا ذياب من يعتدي على الناس، من يهينهم. وأنا والحمد لله أحترم نفسي ولا أتعدى على أحد. وخاطبت الناس الذين كانوا لا يزالون متجمعين: احكموا أينا أحسن أخلاقاً!‏

سرت في الناس حركة شجعتني. لم أسمع ما قالوا. ولكن رأيت وجوههم تمتلئ جسارة وتأييداً وكأن شيئاً يشبه الإنصاف يسندني. تطلعت إليه، ثم هززت رأسي بأسف وقلت:‏

ـ أعطني أجري.. ولا أريد شيئاً آخراً.‏

B-happy 11 - 7 - 2011 12:09 PM

سلمت الايادي على نقل هذه القصة الجميلة والقديمة للكاتب العربي المشهور عبد الرحمن منيف

شيرين 12 - 7 - 2011 01:48 AM

أنت تعرف أن الآبار مثل الأشجار إذا لم تعطها لن تعطيك. ومن أين لهم أن يعطوا الآبار ما داموا قد قطعوا الأشجار؟ الأشجار هي التي كانت تسوق لهم المطر، كانت تسوقها من أقاصي الدنيا حتى تخيم على الطيبة سحب سوداء ت ظل تمطر أياماً بلياليها. لم تكن الأمطار تتوقف. كانت في بعض السنين تحول الأرض إلى سيول، وكان أبي يقول: اللهم أجرنا من الطوفان. ولكن السنين تمر والمطر لا يأتي إلا مثل بول الكلاب، لحظة وينقطع. الأشجار هي التي تأتي بالمطر. إن الأشجار مثل الأطفال، وبمقدار ما ينظر الرب إلى الأطفال ويرعاهم، فإنه ينظر إلى الأرض من خلال أشجارها، فإذا قطع الناس أشجارهم فإن الرب يتركهم ويعطي المطر لغيرهم، لمن عندهم أشجار!‏

الف شك وشكر على هذه القصة الرائعه
سلمت الايادي


الساعة الآن 04:20 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى