منتديات المُنى والأرب - كتاب الإنترنت

عوّاد ناصر
بينما تكشف لنا مظان الكتابة والتأليف أن المتحدثين/ الكتّاب في عصور خلت يجهدون في تحبير نسخة واحدة، وإن تبطّروا فنسختين، وإن طمعوا بالمزيد المترف فثلاثاً، لتجيء لنا عبر التوريق والمتاحف ومكتبات معدودات في العالم ممن حفظت تلك المظان، أن ثمة ديوان واحد في كتاب مجلد، أو ورقي، لأشهر شيوخنا في الشعر والتاريخ والفلسفة والنقد، وغيرها، مما يتصل بما نعرفه، اليوم، من أشكال الكتب.
ثمة ديوان واحد لامرئ القيس وللشنفري ولدعبل والكميت والمتنبي وأبي تمام وما حق بهم أو خضرمهم، أو عاش تحت عباءاتهم.
.. ولا أعرف، حقّاً، هل أصحاب الديوان الواحد من عظماء شعرائنا اكتفوا بهذا الكتاب فهو كتابهم الوحيد؟ أم إن هذا ما وصلنا منهم؟
ولا أعرف، حقّاً، لم تركوا في الأجيال تلك الفتنة والروح الأخاذة والريادة الشعرية المخصوصة من دون أن يكلفوا أنفسهم وناسخيهم (دور نشرهم) بمراكمة الكتب، مثلما يجري هذه الأيام إذ يتباري الشعراء في مضمار عدد ما ينشرون من الكتب.
أخبرني شاعر معروف أنه سيحطم الرقم القياسي في عدد ما نشره من دواوين!
اليوم، ثمة أعمال كاملة، أو الأعمال الشعرية، لكن ليس ثمة روايات عدة لكاتب واحد في كتاب واحد، نظراً لحجم هذا الكتاب الثقيل علي حقيبة القارئ ومكتبته.
اخترعوا، اليوم أيضاً، جهاز أكبر قليلاً من الموبايل، اسمه (kindly 1) يمكّن صاحبه من حفظ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة كتاب!
يعني = بمقدور قارئ هذه الأيام أن يحمل في جيبه مكتبة عامرة تحوي تلك الآلاف المؤلفة من الكتب!
وإذا كانت وسائل الاتصال وثورتها العظيمة قد أتاحت المجال وسيعاً للجميع من الكتاب ليكتبوا والجميع من القراء ليقرأوا عبر الإنترنت واتصالاتها الأخري، مواقع شخصية وعامة وفيسبوك وتويتر وحتي عبر الهواتف النقالة، فقد اصبح الأمر "خارج التغطية" النقدية، فأي النقاد وأصحاب دور النشر والصحف والمجلات، المتخصصة وغير المتخصصة، بمستطيع أن يفرز ما يفرز ويحذف ما يحذف وينوه بما ينوه و "يقرأ" بسلطة الناقد والناشر ورئيس التحرير ومسؤول الصفحة الثقافية، ومن ورائهم القارئ اللاهث كل هذا "الكلام" المتدفق من غير حسيب ولا رقيب؟
هل يعني أنني، وربما كثيرين غيري، قد ضقنا بالفيضان الإلكتروني الذي أغرقنا؟
كلا ونعم!
كلا: لأن بحبوحة الكلام بهذا الثراء الفاحش تجعلنا في غمرة قراءة غير مسبوقة في التاريخ، وهي ما تتيح لنا، نحن القراء والكتاب أن نتفاعل ونندهش ونفرح ونعيش لحظة التنوع الفسيحة عبر كلام العالم المثمر.
نعم: لأن اختلاط الكلام، الثرثار والمتحسّب، يسمح لنشطاء الثرثرة أن يحرجوا العنكبوت الصغير وهو ينسج شبكته علي مهل وبتروٍّ شديد، لأنهم يسرفون في تبديد وقت نشاطهم علي هذه الشبكة أكثر مما ينفقونه في تدبير شؤون نصوصهم والبحث في الاقتصاد الإبداعي للكلمة.
أسئلة، اليوم، تتعدد وتتهم وتفرح وتحزن: من يكتب؟ من يقرأ؟ من ينقد؟ من يفصل لنا بين الخيط الأبيض والأسود؟ ومن يكف عنّا أذي هذا الفيضان الذي سيحطم مكتباتنا ويودي بقدراتنا علي اقتناء المثمر والنادر من الكتب والكتابة؟
من يقترح علي غوغل وسائر محركات البحث والاتصال والنشر أن ثمة تفاهات تكاد تطغي علي معني الكتابة وجدواها ومتعتها ويجب حجبها والتحذير منها واختراع برامج تقنية مضادة مثل تلك التي تحمي الكومبيوترات من الفيروسات؟.
إنه اختبار النقد الأدبي مثلما هو تحدٍّ إلكتروني ليحمينا من أذي الجهل النشيط علي الشبكة الديمقراطية وهي تفتح نفسها للعباقرة والجهلاء معها.
منقول من جريدة