منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=32172)

أم يــــافا 21 - 1 - 2014 01:04 PM

الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك

الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية


الإسلام رسالة الله للعالمين (4)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.

وبعد:
فقد تكلَّمنا في المبحث الأول عن تكريم الجنس البشري عمومًا، وفي هذا المبحث نطرح الميثاق الإسلامي الرباني لحقوق الإنسان، بعيدًا عن شطحات الفكر البشري وضلاله، الذي أفسد حياةَ البشرية من حيث يريد الإصلاح؛ لجهله بطبائع البشر ودقائق النفس البشرية التي لا يعلمها إلا خالقها - جل وعلا - القائل في كتابه المعجز: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

وما نراه يحدث في العالَم الحر من سفك للدماء، واستحلال للأموال والأعراض، وإهلاك الحرث والنسل - يُؤكِّد السقوط المُدَوِّي لكل مواثيق ومبادئ حقوق الإنسان التي ابتدعتْها قريحة الإنسان لحفظ حياته وآدميته، وهذ يدل ويُبيِّن بجلاءٍ أن الشريعة الخاتمة، وتعاليمها السامية، التي تجمع بين الدين والدنيا - هي الحق الصراح الذي يستقيم عليه فلاح ونجاة البشرية اليوم، وليس بعد الحق إلا الضلال.

معنى الحق لغة واصطلاحًا:
الحقُّ في اللغة: خلاف الباطل، وحقَّ الشيءُ يَحِقُّ بالكسر؛ أي: وجب، وأَحْقَقتُ الشيء؛ أي: أوجبته، واستَحقَقتُهُ؛ أي: استوجبته[1].

واصطلاحًا:
قال بعض أهل العلم: إنه مصلحة ثابتة للفرد أو المجتمع أو لهما معًا، يُقرِّرها الشارع الحكيم، وقيل: هو اختصاص يُقرِّر به الشارع سلطة أو تكليفًا، وقيل غير ذلك، والذي نراه مما سبق بيانه آنفًا - والله أعلم بالصواب - أن حقوق الإنسان في شريعتنا نحن المسلمين هي حق مستحق، وواجب لا يجوز المساس به، وينبغي احترامه للأفراد والجماعات والأمم، وبصرف النظر عن العقيدة أو الجنس أو اللون، في إطار الشريعة الخاتمة وتعاليمها السامية.

ونرى أن لكل إنسان الحق في حياة كريمة، تقوم على العدل والسلام، آمنًا على نفسه وماله وأهله، ولا يلحقه ضرر لفعل يُكبِّل حريته، طالما لم يعتدِ على حقوق الآخرين، وكان في حدود الشرع والقانون، ويدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ولكن حقه هذا في الدنيا التي هي دار امتحان وعمل، لا دار جزاء وثواب، ولكن يوم القيامة يوم الحساب عن الأعمال والأقوال، يقام ميزان العدل الرباني ويأخذ كلَّ عبد بعمله، من طغى وتكبَّر ونشر الفساد في البر والبحر، أخذه بجريرته وظلمه، ولا يبخسه حقه، بل حسب ما قدمت يداه، ومَن استقام والتزم بالحقوق والواجبات المطلوبة منه شرعًا مع إخلاص نيَّته لله تعالى في العمل أو القول، فثواب ونعيم أبديٌّ سرمدي، ويدل على ذلك بقية الآية السالفة الذكر.

قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 29، 30].

وحقوق الإنسان في دنيا الناس ليس لها تعريف محدد، ولكن يدور معناها عند العقلاء بأنها: الحقوق والحريات المستحقة لكل شخص لمجرد كونه إنسانًا، ويستند مفهوم حقوق الإنسان على قداسة الحياة البشرية وتكريمها وعدم المساس بها؛ ليستطيع المرء أن يمارس دوره في المجتمع.

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[2]:
هو بيان حقوق الإنسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة بالإجماع، في 10 كانون الأول 1984، ويُحدِّد الإعلان الحقوق الأساسية لكل شخص في العالَم، وهذا الإعلان هو المعيار الدولي لحقوق الإنسان.

والبيان العالمي لحقوق الإنسان وديباجته جاء بعد حربين عالميتين أنهكت البشرية، تحتوي بنوده على ثلاثين مادَّة؛ هي فكر وعصارة وتجارب العقل الإنساني لحرية وكرامة الإنسان، أيًّا كان انتماؤه وعقيدته وجنسه ولونه، وهي حرية مطلقة تُؤدِّي إلى نتائج سلبية تضر الأمم، وتدمر أخلاقيات الشعوب، ما لم يحدها حد، وإلا انتشرت الفوضي والفساد والشذوذ، وهذا ما حذَّرَنا منه ربُّ العالمين في القرآن، فقال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41].

قال السعدي - رحمه الله - في بيانها ما نصُّه:
"أي: استعلَن الفسادُ في البر والبحر؛ أي: فساد معايشهم ونقصها، وحلول الآفات بها، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك؛ وذلك بسبب ما قدَّمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها"؛اهـ[3].

وسوف نرى أن الإسلام سبقَ هذا الإعلان وعلا وترقَّى بالإنسان إلى مستوى أنبل وأسمى؛ لينال حريته وكرامته حيًّا وميتًا، ويحفظ للمجتمعات قيمَها وأمنَها وعقيدتها، بعيدًا عن شطحات الفكر البشري الذي يُغلِّفه الهوى الذي يصد عن الحق، والأطماع الدنيئة، والميول العدوانية، والمذاهب الفكرية الشاذة، التي نفث الشيطان وأشعل وقودَها في قلوب بعض مَن يطلق عليهم مفكرون ونوابغ البشرية، فتردَّت أحوال المجتمعات إلى انحطاط فكري سقيم، حتى في البلاد المحسوبة على الإسلام.

وطغى الشعور بالقوة وحب السيطرة على المُثل العليا المتعارف عليها بين البشر، واغتيلت أحلام الشعوب وحقوقها المشروعة في حياة إنسانية كريمة، بسبب زيف الدعاية الكاذبة وأباطيل الداعين للسمو والرقيِّ، على أطلال تعاليم السماء والمثل العليا، وشرَعوا لهم قوانين ومبادئ بشرية غير عادلة، إما بإفراط في الحقوق للمستوى الذي يهلك الفرد والأمة من أجل غايات دنيئة، لا تراعي دينًا ولا حرمة، فتعاملت الدول القوية بغطرسة والكيل بمكيالين، لإذلال المجتمعات الضعيفة واستغلالها.

وسوف نُبيِّن عظمة الإسلام بما فيه من تعاليمَ سامية تترقَّى وتسمو بالحياة البشرية إلى آفاق عالية من السمو؛ ليدرك القاصي والداني أن الإسلام رسالة الله - عز وجل - للعالمين.

نظرة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الأولى والثانية:
"نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب التي في خلال جيل واحد قد جلبت على الإنسانية مرَّتين أحزانًا يَعجِز عنها الوصف، وأن نُؤكِّد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان... إلخ".

وكل المواد الثلاثين لميثاق هيئة الأمم المتَّحدة التي نشأت عام 1945، تدور حول حقوق الإنسان الأساسية وحريته الشخصية؛ مثل حرية الملكية الخاصة، وحرية الفكر والرأي، ومنع التعذيب والاعتداء، وعدم التمييز بين المواطنين بسبب العنصر، أو اللون، أو الدين، أو غير ذلك.

ونصت المادة الأولى منه على:
"يُولَد جميع الناس أحرارًا متساوينَ في الكرامة والحقوق، وقد وُهِبوا عقلاً وضميرًا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء"، ولقد سبق الإسلام هذه المادة وغيرها، بل وجعل نظرته لكرامة الإنسان وحقه في الحياة وما له من واجبات وما عليه من حقوق، بمضمون أكثر شمولية، وبمعانٍ سامية، تُخاطب الوجدان والفطرة السوية والطبائع السليمة، ووضع حدودًا للطبائع المختلة والغرائز المنحلة؛ لتندمج مع الناس في المجتمع الذي ينتمي إليه، وتترقى ليدرك صاحب كل نفس منها الحقيقةَ الصافية الخالية من الهوى والشذوذ الفكري، فتعود نفسه لخالقها ورازقها تفتقر لرحمته وكرمه وعدله.

وأُكرِّر قولي: في القرآن والسنة وصايا فاقت هذه المواد حيويةً، وأظهرت عيوب النفس البشرية وعورتها وآفاتها، وبيَّنت بجلاءٍ لصاحبها الداء والدواء؛ حتى لا تميل نفسه مع كل ريح، فتهلك وتضل صاحبها.

مبدأ الثواب والعقاب في الإسلام:
بادئ ذي بَدْءٍ نقول:
إن الحرية في الإسلام ليست على إطلاقها؛ أي: إن الإنسان حر يفعل ما يشاء دون حساب أو عقاب من أحد، قطعًا لا، حتى في القوانين الوضعية والأعراف الدولية؛ فإن حرية الفرد ليس معناها الاعتداء على حرية الآخرين، أو الخروج عن المبادئ والقوانين والقيم التي تُنظِّم العَلاقة بين حق الفرد وحقوق المجتمع في القطر الواحد، وهذا من البديهيات المتعارف عليها.

والإسلام نبَّه لهذه الحقيقة، ففي حديث للنعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المُدْهِنِ في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرُّون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسًا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم))[4].

إذًا الإسلام لا يختلف مفهومُه عن ذلك من حيث المبدأ؛ فهو يخاطب رعاياه روحيًّا، وجعل الحساب والجزاء يوم القيامة، وتقوم تعاليمه على خوف العبد وقوة إيمانه بالله تعالى ترغيبًا وترهيبًا، وله مطلق الحرية في الاستقامة أو الانحراف، ولكن جعل للسلطان أو من ينوب عنه الحقَّ في إصلاح عوجه، حسب الضرر الذي تسبب به لنفسه أو لغيره، بالشرع الذي يأمر بالعدل حتى مع الخارج عن حدود الله، وعليه أن يتحمل عواقب عمله وتهوره، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].

قال السعدي - رحمه الله - في تفسيرها:
"وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبَر والفاجر، والولي والعدو، والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به، هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به"؛ اهـ[5].

ومن ثَمَّ يتبين لكل منصف أن العَلاقة بين الفرد والمجتمع في الإسلام عَلاقةٌ قائمة على معانٍ سامية، وتعاليم جليلة راقية، ويعيش الإنسان داخل إطارها مكرَّمًا ومعزَّزًا ومحبوبًا من الناس ورب الناس، فضلاً عن ثواب الله تعالى ووعده له بالجنة الموعودة إن أخلص نيته وعمله له - جل جلاله - ولا فارق في هذا بين الرجل والمرأة، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]؛ إذًا الحاصل مما ذكرنا بيانه يوصلنا إلى حقيقة بديهية، وهي أن الإسلام يزيد هذه الحرياتِ حيويةً متجددة دومًا بين الترهيب والترغيب، ويضع مبدأ لا ينكره العقلاء من الناس، وهو الذي تستقيمُ عليه حياة البشرية جمعاء دينًا ودنيا، وبغيره لن نجدَ لأي ميثاق أو وثيقة للحقوق والحريات صدًى وقبولاً، ويلتزم بها إقرارًا وعملاً شعوب العالم وسادتهم، مهما بلغت صياغته وبنوده درجة الكمال في الفكر الإنساني، ألا وهو "مبدأ الثواب والعقاب"، والله المستعان، وعليه التكلان.

الميثاق الإسلامي لحقوق الإنسان:
في خطبة الوداع بيَّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المبادئ والقيم الأساسية لأي وثيقة لحقوق الإنسان، ولو أراد الإنسان الذي يتعطش للحرية والسكينة ونصرة الحق في آنٍ واحد، فلن يجد منهجَ حياة أفضل من خطبة الوداع، التي هي من وحي السماء على لسان الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

لقد فرَّقت هذه الخطبة بين عهدين: عهد الظلم والقوة والجهل والكفر البواح، إلى عهد العدل والأمان والعلم والإيمان، ونستطيع القول: إلى عهد يرسم للبشرية منهج حياة ذا آفاقٍ واسعة وحيوية متجددة ومبادئ دائمة لا تتغير ولا تتبدل في كل عصر ومصر.

وخطبة الوداع جاءت في أكثرَ من حديثٍ في الصحيحين وغيرهما، وسوف أكتفي هنا بالحديث الذي أخرجه البخاري، وهذا متنه: "عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: ((يا أيها الناس، أي يوم هذا؟))، قالوا: يوم حرام، قال: ((فأي بلد هذا؟))، قالوا: بلد حرام، قال: ((فأي شهر هذا؟))، قالوا: شهر حرام، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا))، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال: ((اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: ((فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))[6].

وهذا أول ميثاق لحقوق الإنسان ممن لا ينطق عن الهوى، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وانتبه لها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).

وتنقسم بنود الوثيقة النبوية لحقوق الإنسان وكرامته التي وجَّهها النبي صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، وليس للجماعة المؤمنة فقط، على ثلاثة من كليات أو ضروريات الدين[7]، وهي: حفظ النفس، والعِرض، والمال، ونبيِّنهم بإيجاز في السطور التالية:
الضرورة الأولى:
حفظ النفس وحق الحياة وحرمة الدماء:
ما من دينٍ رعى حقوقَ الإنسان كالإسلام، ومن أُولى هذه الحقوق حقُّ الحياة، وأكَّد الإسلام في القرآن والسنة على حرمة الدماء، فقال تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].

قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها ما مختصره: "أي: ومَن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحلَّ قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا ﴾؛ أي: حرَّم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلِم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار؛ ولهذا قال: ﴿ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾"؛ اهـ[8].

والسنة بيَّنتْ أن قتل النفس بغير حقٍّ من كبائر الذنوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))[9].

ومن هذه الأدلة الشرعية يتبيَّن عظمةُ الإسلام الذي يدعو للحفاظ على الحياة البشرية، وأكثر من ذلك حرم قتل النفس وإزهاقها في غير الحق، وبيّن بسماحةِ تشريعه عقاب مَن قتل خطأ وبغير قصد منه، وهذا هو العدل الرباني والرحمة الإلهية التي خص الله بها أمة التوحيد.

وقولنا هذا نُبيِّنه في أمرين:
الأمر الأول: أن الإسلام حرَّم القتل بالانتحار بجميع أشكاله، وإزهاق النفس، سواء كان ذلك بقتلها برمي النفس إلى التهلكة، أو بالإضراب عن الطعام حتى الموت، أو ما أشبه هذا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].

قال السعدي - رحمه الله - في تفسيرها ما مختصره:
"أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسَه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المُفضِية إلى التلف والهلاك؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتَّب على ذلك ما رتبه من الحدود"؛ اهـ[10].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل نفسه بحديدةٍ، فحديدته في يده يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنم، خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا، ومَن شرِب سمًّا فقتَل نفسه، فهو يَتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومَن تردَّى من جبلٍ فقتل نفسَه، فهو يتردَّى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[11].

وقال العلامة ابن باز - رحمه الله -:
"الانتحار من أكبر الكبائر، وقد قال الله - جل وعلا -: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 29، 30]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل نفسه بشيء، عُذَّب به يوم القيامة))، فالانتحار من أقبح الكبائر، لكن عند أهل السنة والجماعة لا يكون كافرًا، إذا كان مسلمًا يُصلِّي، معروفًا بالإسلام، موحِّدًا لله - عز وجل - ومؤمنًا به سبحانه وبما أخبر به، ولكنه انتحر لأسباب، إما مرض شديد، وإما جراحات شديدة، وما أشبه ذلك من الأعذار، فهذا الانتحار منكر وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنه لا يخرج به من الإسلام إذا كان مسلمًا قبل ذلك، لا يخرج بهذا الانتحار من الإسلام، بل يكون تحت مشيئةِ الله - سبحانه وتعالى - كسائر المعاصي؛ إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة بإسلامه وتوحيده وإيمانه، وإن شاء ربُّنا عذَّبه في النار على قدر الجريمة التي مات عليها، وهي جريمة القتل"[12].

قلتُ: ومن عظمة شريعة الإسلام، وأعظم دليل على رعايته وحفظه للنفس البشرية وحقها في الحياة - أنه أباح المحرَّمات عند الضرورة والاضطرار، ودليل ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].

قال السعدي - رحمه الله - في بيان ما نريد به الاستدلال من الآية: "فهذه الأشياء المحرَّمات مَن اضطر إليها؛ أي: حملته الحاجة والضرورة إلى أكل شيء منها، بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف ﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ﴾؛ أي: ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾؛ أي: مريدٍ لأكلها من غير اضطرار، ولا متعدٍّ؛ أي: متجاوز للحد، بأن يأكل زيادة عن حاجته، ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: فالله قد سامح مَن كان بهذه الحال"؛ اهـ[13].

الأمر الثاني: ما ذكرناه آنفًا عمَّن قتل نفسه عمدًا، أما مَن قتل نفسه خطأ، أو دون قصد منه لغفلة، فالإسلام كرَّم هذه النفس المؤمنة، وجعلها في عداد الشهداء، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))[14].

وفي رواية أخرى لمالك في الموطأ من حديث جابر بن عَتِيك: ((الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله، فذكر: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، وصاحب ذات الجنب والحرق، والمرأة تموت بجُمْعٍ شهيدة))[15].

وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
"اختُلِف في سبب تسمية الشهيد شهيدًا، فقال النضر بن شُميل: لأنه حيٌّ، فكأن أرواحهم شاهدة؛ أي: حاضرة.

وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة.

وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحِه ما أُعِدَّ له من الكرامة..."؛ اهـ[16].

قلت: وذكر ابن حجر أقوالاً أخرى، ولكن يكفي ويشفي وصفُ النبي صلى الله عليه وسلم "بالشهيد"؛ لندرك لأيِّ مدى كرَّم الإسلام هذه النفس ورعاها في حياتها وبعد مماتها.

الثواب والعقاب شرطٌ لحفظ حق الحياة:
بعد أن بيَّنا حق الإنسان في الحياة وحرمة دمه وقتل نفسه، ينبغي أن ندرِك أن الإقرار بحق الحياة للإنسان في شريعتِنا ليس مطلقًا كما ذكرنا سلفًا، والاندفاع للأخذ بوثيقة حقوق الإنسان ودعوة الشعوب المسلمة لتقبُّلها على علاَّتها، والعمل بها وتطبيق بنودها في الدساتير والقوانين الوضعية لإرضاء المنظمات الدولية، بضغطٍ من الدول المسيطرة على الشعوب المستضعفة التي لا تحكم بشرع الله تعالى دون مراعاة لسلبيتها ووَعْي لعواقبها المخالفة لشريعتنا على مستوى الأفراد والجماعات - سوف يُؤدِّي للفوضى الخلاَّقة بين الناس ولو بعد حين.

ونطرحُ هنا سؤالاً قد يُثِيره أصحاب الحرية التي لا يحدُّها حدٌّ، ولا ينظمها دين أو قانون: لماذا نهاجم الوثيقة، ونعيب ونشكك في صلاح بنودها وفوائدها للناس؟

والجواب واضحٌ جلي؛ لأنها تُؤدِّي إلى نتيجةٍ سلبية على جانب عظيم من الخطورة، وإلى محاربة الشريعة والتشكيك فيها، ووصفها بالهمجية والوحشية، وخصوصًا فيما يتعلق بالحدود في حق الزاني والسارق والمرتد، وغير ذلك؛ مما يشيع الفوضى في الأمة، والفتنة بين أفراد المجتمع، ويعصف بأمنِه وسلامته، وقوة ترابطه وتماسكه ضد أعداء الدين، ويعلو فيه شِرار الخلق من أهل المنكر على أهل المعروف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الرسالة الخاتمة هي التي ارتضاها الله تعالى لعباده، وهي تشملُ القرآن والسنة، وفيهما وحي السماء كلامُ الله تعالى، وفيه الحق كل الحق؛ لأنه الخالق - جل في علاه - والبشر كلهم عباده، وهو أدرى بما يصلحهم دينًا ودنيا، وليس بعد الحق إلا الضلال.

ونقول: إن الإسلام لا يرضى بسفك الدماء، ويُحرِّم قتل النفس البشرية بغير حق، ولكن يبيح قتلها بالحق إن خرج صاحبها عن الشرع المطهر، واستحق القصاص والعقاب، وصار خطرًا على الأمة وحياة أفرادها وشعوبها، ويدل على ذلك:
قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33].

وقول الله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179].

قال العلامة ابن العثيمين - رحمه الله -: "فإن قيل: كيف يكون لنا في القصاص حياةٌ، مع أننا قتلْنا القاتل، فزِدنا إزهاق نفس أخرى؟

فالجواب: نعم، يكون لنا في القصاص حياةٌ، بأن القَتَلة إذا علِموا أنه سيُقتَصُّ منهم امتنعوا عن القتل، فكان في ذلك تقليل للقتل، وحياة للأمة؛ ولهذا جاءت منَكَّرة؛ للدلالة على عظم هذه الحياة، فالتنكير هنا للتعظيم؛ يعني حياةً عظيمة شاملة للمجتمع كله، أما بالنسبة للقاتل، فيقتل، لكن قتل القاتل حياة للجميع"؛ اهـ[17].

قلتُ: وفضلاً عن قتل النفس للقصاص لتعيش الشعوب وأفرادها في أمن وأمان، فالإسلام يُبِيح إزهاقها برضا نفس؛ طمعًا في الثواب، ودفاعًا عن الحق أو العرض أو المال، ويحرم قتلها وإزهاقها لغير ذلك، وهي أمور لا ينكرها ويهاجمها إلا جاحد معاند للسعادة البشرية وحقها الطبيعي للحرية بلا زيف أو خداع، ويفتقد للرؤية الإيمانية والفطرية للمجتمع المثالي، الذي لا يقوم إلا على مبدأ الثواب والعقاب، والآيات والأحاديث في هذا الصدد كثيرة، سوف نُبيِّنها في سياقِها بهذه الرسالة، ونبدأ ونقول بحول الله وقوته:
يُبِيح الإسلام إهلاكَ النفس في بعض الحالات، أذكر اثنين منهما في هذه العجالة:
1- الجهاد في سبيل الله تعالى دفاعًا عن الأمة:
لا يخفى أن الدفاع عن الوطن أو الأمة دفاع عن الدين، وهذا أمر معلومٌ ومُقَر به في جميع الأديان، وليس في شريعتنا كمسلمين فقط.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

وفي السنة الصحيحة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرِجُه إلا إيمان بي وتصديقٌ برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدتُ خلف سرية، ولوددت أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل))[18]، فقتل النفس لهذا الغرض النبيل مأمور به، ولصاحبها وعد الله تعالى الذي لا يُخلِف وعده أبدًا بعدله وفضله.

قال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 95].

2- تطبيقًا للحدود الشرعية لصلاح الأمة وسلامتها:
الأمة القوية لا تنخدع بما يُروِّج له البعض من أعداء الدين وأنصار الحرية، أن تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية غير إنساني، ووحشية وهمجية، وضياع لحقوق الإنسان، وهلمَّ جرًّا.

في الوقت الذي تنهارُ قِيَم المجتمعات المتحرِّرة منهم التي تنظم حياتهم في إطار هذه الحقوق الخالية من الردع والعقاب، فانتشرت بينهم الفواحش والمنكرات انتشار النار في الهشيم، وأغرقَتهم في هوة ما لها من قرار، وأصبحوا هَلْكَى وصرعى في شهوات الدنيا الفانية، التي سلبت آدميَّتهم واحترامهم لأنفسهم، إلا مَن رحم ربي منهم.

وأذكر هنا أدلة إباحة قتل النفس البشرية التي استحقَّت أن يتطهر منها المجتمع من أجل حياة أفراده واستقامتهم.

يبيح الإسلام قتل نَفْس الزاني المحصن:
لماذا؟!
لأن الزنا جريمة شنيعة حرَّمها الله، ووصفها تعالى بقوله: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32].

والزنا يجمع خِلال الشر كلَّها؛ لهذا كان لا بد من الردع، والشرع يأمر بالجلد فقط لغير المحصن - أي: البكر الذي لم يتزوج - سواء كان رجلاً أو امرأة، وهذا من سماحة الدين ونظرته الرحيمة للإنسان في لحظات ضعفه بسبب شهوة غلبته وشيطان أغراه.

قال تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].

وأما المحصن، فقد شرع في حقه الرجم حتى الموت، فهو غير معذور لضعفه وشروره، والدليل على الرجم غير موجود في القرآن، ولكن موجود في السنة ومتواتر، ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحَبَل أو الاعتراف - قال سفيان: كذا حفظتُ - ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمْنا بعده.اهـ [19]

يبيح الإسلام قتل المرتدِّ عن الدين بعد إسلامه:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، أو ارتد بعد إسلام، أو قتل نفسًا بغير حق فيقتل به))[20].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن بدَّل دينه، فاقتلوه))[21].

قال ابن تيمية - رحمه الله -:
"وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن بدَّل دينه، فاقتلوه))، فنقول بموجبه، فإنما يكون مبدلاً إذا دام على ذلك واستمر عليه، فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل، وكذلك إذا رجع إلى المسلمين، فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة، بل هو متمسك بدينه، ملازم للجماعة، وهذا بخلاف القتل والزنا، فإنه فعلٌ صدر عنه، لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال: إنه ليس بزانٍ ولا قاتل، فمتى وجد منه ترتب حده عليه، وإن عزم على ألا يعود إليه؛ لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل"[22]؛ اهـ.

يبيح الإسلام قتل مَن عمِل عمَل قوم لوط عليه السلام:
قوم لوط عليه السلام هم مَن وصَفهم قرآنُ رب العالمين بقوله تعالى: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [الأعراف: 80، 81].

فنفهم من هذه الآيات البينات أنهم تركوا الزواج من النساء اللاتي خلقهن الله تعالى سكنًا للرجال، يكمل بعضهم بعضًا، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، واستباحوا إتيان الرجال بشهوة في أدبارهم، وهذا فعل في غاية الشناعة والخبث، وشذوذ عن الفطرة السويَّة، وترفضه الشرائع السماوية؛ لذا كان عقابهم من الله بقدرِ شناعة وقبح جريمتهم في حق البشرية.

قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 82، 83].

وقوم لوط مِن شِرار الخلق، ومن يعمل بعملهم فهو يحشر معهم؛ لأن المرء مع من أحب، والدليل على إزهاق نفس هؤلاء حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به))[23].

والمجتمعات التي تدافع عن الحرية المطلقة بلا قيد أو مبدأ للثواب والعقاب، شرعوا لهم القوانين التي تنظِّم العلاقة بينهم، وهم من شرار خلق الله، وهذا شأنهم، ولكن رسالة الله للعالمين ترسم الطريق السوي لأتباعها، وتسمو بالنفس البشرية والعلاقات الإنسانية إلى آفاق عالية من الرقي واحترام الذات.

وبعد:
فكما ذكرنا من قبلُ أن الإسلام وشريعته ينتصر لحق الإنسان في الحياة، طالما كان في إطار الشرع واحترام حقوق الآخرين، فإن شذ وخالف صار عضوًا فاسدًا يجب استئصاله؛ ليستقيم أمر الأمة كلها وسلامتها، حتى لا تنهار في الفساد والإفساد.

وثبت هذا المعنى من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[24].

الضرورة الثانية: حفظ العرض والدفاع عن الشرف:
العِرض والشرف لا يُقدِّره إلا أصحاب النخوة والدين، وكان العرب في جاهليتهم وشركهم قبل البعثة يتمسَّكون بهما، ولا تنهض أمة سوية تطلب الرقي والسمو وأعراضُهم مباحة، وأموالهم وممتلكاتهم مستباحة لمن لا رادع له من دينٍ ولا قانون ولا ضمير.

ولأن الإسلام رسالة الله للعالمين، وفيه هدى ونور للبشرية جمعاء، فقد جعل لمن يدافع ويُهلِك نفسه الأبية دفاعًا عن العِرض والأهل والمال منزلة عالية، وكرامة ربانية، وجعله من الشهداء، ويدل على ذلك قول الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: ((مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون أهله فهو شهيد))[25].

وينبغي على مَن يستحلُّ ذلك كله الحذر من الله وعقابه، ولا تغره الحرية المطلقة، ليُهلِك الحرث والنسل، فشريعتنا متوازنة ترهيبًا وترغيبًا، تجمع ما بين الثواب والعقاب؛ ليستقيم أمر العباد في دينهم ودنياهم، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].

قال الحافظ ابن كثير في بيانها ما مختصره:
"أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، ﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ وهذا هو البهت البيِّن؛ أن يُحكَى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم"[26]؛ اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله))[27].

وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن كانت له مظلمة لأخيه من عرضِه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه))[28].

قال العلامة ابن العثيمين - رحمه الله -:
"((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه))؛ يعني أن المسلم حرام على المسلم في هذه الأمور الثلاثة؛ أي في كل شيء؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تتضمَّن كل شيء: الدم: كالقتل والجراح وما أشبهها، والعِرض: كالغيبة، والمال: كأكل المال، وأكل المال له طرق كثيرة، منها السرقة، ومنها الغصب، وهو أخذ المال قهرًا، ومنها أن يجحد ما عليه من الدَّين لغيره، ومنها أن يدَّعي ما ليس له، وغير ذلك، وكل هذه الأشياء حرام، ويجب على المسلم أن يحترم أخاه في ماله ودمه وعرضه"[29]؛ اهـ.

ومن ثَم كان الإسلام خير حافظ لهذه الأمة من الانهيار الأخلاقي، رغم التخلف العلمي، وجمود أفراده في فهم عظمة دينهم وشريعتهم التي تحثهم على العمل والعلم في عصرنا الحالي، ولكن الغالبية العظمي منهم لديهم إصرار على الالتزام والتديُّن إلا القليل من السفهاء المتعلمين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا؛ أمثال أبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وغيرهم ممن ظل على كفره وعناده، وصده ورده، وهم منا، ويتكلمون بألسنتنا من خطباء الفتنة في كل عصر وزمان.

وقد حذرنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 103 - 105].

وفي حديث حذيفة بن اليمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعاة على أبواب جهنم؛ مَن أجابهم إليها، قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام، قال: ((فاعتزل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تعَضَّ على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))[30].

الضرورة الثالثة: حفظ المال وحق التملك:
المال في اللغة يطلق على كل ما يملكه الإنسان من الأشياء، وسواء كانت أموالاً سائلة، أو عقاراتٍ أو أراضيَ، أو غير ذلك.

وحفظ المال من ضروريات الدين الخمس، وحق تملكه في الإسلام غاية في السمو والرقي، فهو وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يحفظه ويصونه، ويحرِّم نهبه وسرقته، والاعتداء على حق صاحبه في تملكه، وفي نفس الوقت يحثه على حقوق الآخرين والمجتمع الذي يعيش فيه ويثيبه على ذلك.

فالإسلام يختلف عن الأنظمة والمذاهب الدنيوية التي لا تراعي الحق والعدل في حق الإنسان في ماله، فمثلاً الرأسمالية تدعو لتضخيم شأن الملكية الفردية، وتعطي للفرد حق التملك بلا حدود، أو مبدأ للثواب والعقاب، وتطلق له العنان ليمتلك ما يشاء، وينمي ماله كيفما شاء دون قيود، طالما كان ذلك في إطار القانون، ودون مراعاة أن في ماله حقًّا للآخرين وللمجتمع الذي يعيش فيه، والشيوعية تلغيها وتحرمها؛ إذ ليس لأحد أن يتملك عقارًا أو أرضًا أو مصنعًا، أو ما أشبه هذا من وسائل الإنتاج التي تحتكرها الدولة، ولا تسمح للفرد بحق التملك لأي وسيلة إنتاج؛ لأنها هي التي تملك كل مصادر الإنتاج، وتمنع الفرد من التملك، ولو كان ماله حلالاً لا شُبهة فيه!

وفي كلا النظامين مساوئ ومفاسد جمة، يدركها مَن ذاق مرارتها، والإسلام بعظمة تشريعه الرباني وسطٌ بين الإفراط والتفريط، ويسمو بحق الفرد في ماله، مع حفظ حقوق الآخرين، وعلى مبدأ الثواب والعقاب الذي أشرنا إليه تندمج وتتعاون المصالح الخاصة وحق الفرد في التملك بالمصلحة العامة، في تناغم متناسق ومثمر، كما سوف يتبين في السطور التالية، ونستطيع تلخيص الأمر في أمرين:
أولهما: حق التملك للإنسان وحرمة ماله:
قلنا: إن الإسلام يبيح تملُّك الإنسان للمال، ويحرم الاعتداء عليه بأي صورة من الصور التي تسلب من الإنسان حقه شرعًا، وقد وصف الله تعالى ذلك بالباطل، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].

قال العلامة ابن العثيمين - رحمه الله -:
"حرَص الشارع على حفظ الأموال؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾؛ ولأن الأموال تقوم بها أمور الدين وأمور الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء: 5]".

ثم قال في تفسير الآية ما مختصره:
"والإدلاء: أصلها مأخوذ من أدلى دلوه، ومعلوم أن الذي يُدلِي دلوه يريد التوصل إلى الماء، فمعنى: (تدلوا بها إلى الحكام)؛ أي: تتوصلوا بها إلى الحكام لتجعلوا الحكام وسيلة لأكلها، بأن تجحد الحق الذي عليك وليس به بينة، ثم تخاصمه عند القاضي، فيقول القاضي للمدعي عليك: هات بينة، وإذا لم يكن للمدعي بينة، توجهت عليك اليمين، فإذا حلفت برئت، فهنا توصلت إلى جحد مال غيرك بالمحاكمة، هذا أحد القولين في الآية، والقول الثاني: أن معنى (تدلوا بها إلى الحكام)؛ أي: توصلوها إليهم بالرشوة ليحكموا لكم، وكلا القولين صحيح"[31]؛ اهـ.

قلت: ومن أجل حفظ حق الإنسان في ماله، حث الله تعالى وعلى لسان النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ترهيبًا وترغيبًا على حق المال وحرمة أخذه بالباطل، والأدلة كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
حرَّم السرقة: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد))[32].

وحرم الرشوة:
وفي حديث عبدالله بن عمرو قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشيَ والمرتشي".

وحرم الغش:
لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا))[33].

وحرم الربا:
فقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].

قال ابن العثيمين - رحمه الله -: "﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾؛ أي: الذين يأخذون الربا فينتفعون به بأكل أو شرب، أو لباس أو سكن، أو غير ذلك، لكنه ذكر الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثرها إلحاحًا، والربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ [الحج: 5]؛ أي: زادت، وفي الشرع: زيادة في شيئين منع الشارع من التفاضل بينهما"[34]؛ اهـ.

ثانيهما: حق الله تعالى وثوابه للعبد:
المال نعمة من الله تعالى يمُنُّ بها على من يشاء، والواجب على الإنسان أن يتقي الله ويُخرِج من ماله ما هو حق معلوم للسائل والمحروم، قال تعالى: ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 19].

ويحث الإسلام أتباعه من المؤمنين على الحرص على الإنفاق والاعتدال في الإنفاق، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، وفي نفس الوقت نهى عن التبذير في المال من غير طائل أو فائدة، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27]؛ ولأن الإسلام رسالة الله للعالمين فيأمر في شريعته كل صاحب مال أن يُطهِّر ماله بالصدقات والزكاة المفروضة؛ لِما في ذلك من إصلاح، ونشر للمحبة، والتكافل، والتعاون، فجمع بين حق العبد في ماله وحق العباد، وها هي الأدلة:
شريعة الإسلام تأمر بالزكاة، والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد اقترنت بإقامة الصلاة في أكثر مواضعها التي ذكرت في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277].

وأمر الإسلام بالصدقة فضلاً عن الزكاة، وحث على الإنفاق، والتخلص من البخل، فكل مال للصدقة لا يضيع ولا ينقص، بل هو عند الله تعالى ينمِّيه ويزيده، قال تعالى: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]، وقال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))[35].

وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل))[36].

إذًا، بعد كل هذا البيان المستفيض، يتبين لكل منصفٍ ولبيبٍ، أن الإسلام يبين بجلاء ويقرر في هذه الوثيقة النبوية زيف الدعاوى الكاذبة بأنه دين إرهاب ودماء.

ونقولها واضحة جلية لكل باحث عن حقيقة هذا الدين:
إن الإسلام دين متوازن، صالح لكل زمان ومكان، تجمع شرائعه بين مبدأ الثواب والعقاب، والترهيب والترغيب، لا يطغي هذا على ذاك، ويحفظ حق الفرد والأمة معًا، ويُلزِم الإنسانَ بالشريعة التي تُنظِّم حياته بقوة القانون إن أطاع هواه وضل طريقه؛ ليرتدع ويعود إلى الحق الذي يحفظ إنسانيته هو وغيره تارة، وتارة أخرى يخاطب وجدانه وفطرته السوية التي إن شاع فيها نور الإيمان في قلبه، علا وترقَّى، وصار عضوًا فعالاً في المجتمع الإنساني الذي يقوم على العدل والمحبة والمساواة له ولغيره من بني جنسه من حقوق بوحي السماء، لا يسلبها منه أحدٌ كائنًا مَن كان، وعليه ما عليهم من واجبات، لا فارق بينه وبينهم بسبب اللون أو الجنس أو اللغة، الكل سواسية، وإنما يتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح.

وللحديث بقية إن شاء الله.

[1] انظر لسان العرب؛ لابن منظور، مادة حقق 1/139.

[2] http://www.un.org/ar/documents/udhr/index.shtml#ap

[3] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة 1/ 643.

[4] أخرجه البخاري برقم/ 2489، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما - باب القرعة في المشكلات.

[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي، الناشر: مؤسسة الرسالة 1/ 183.

[6] أخرجه البخاري برقم/ 1623- باب الخطبة أيام منى.

[7] ضروريات الدين المشهورة خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وجعل بعض أهل العلم حفظَ العِرْض بدلاً من النسل، وجعلها بعضُهم ستة، فأضاف العِرْض مع ماسبق آنفًا.

[8] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع 3/92.

[9] انظر: حديث رقم 144 في صحيح الجامع.

[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي، الناشر: مؤسسة الرسالة 1/175.

[11] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة برقم: 158 - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

[12] من فتاوى نور على الدرب.

[13] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي، الناشر: مؤسسة الرسالة 1/277.

[14] أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؛ البخاري برقم/2617 - باب الشهادة سبع سوى القتل، ومسلم برقم/ 3538، باب بيان الشهداء.

[15] صحح الألباني إسناده في أحكام الجنائز ص39.

[16] انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري؛ لابن حجر العسقلاني - باب الشهادة سبع سوى القتل، 8/438.

[17] تفسير العلامة محمد العثيمين؛ مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين 4/249.

[18] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة برقم: 35 - باب الجهاد من الإيمان.

[19] أخرجه البخاري برقم: 6327 - باب الاعتراف بالزنا.

[20] انظر حديث رقم: 7641 في صحيح الجامع.

[21] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم: 2794 - باب لا يعذب بعذاب الله.

[22] انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول؛ لابن تيمية 2/104.

[23] صحح الألباني إسناده في الترغيب والترهيب برقم: 2422 - باب الترهيب من اللواط.

[24] أخرجه مسلم برقم: 4685 - باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.

[25] أخرجاه في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما؛ البخاري برقم: 2300 - باب مَن قاتل دون ماله، ومسلم برقم: 202 - باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه.

[26] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع 1/ 480.

[27] جزء من حديث أخرجه مسلم برقم: 4650 - باب تحريم ظلم المسلم وخذله.

[28] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة برقم: 2269 - باب من كانت له مظلمة عند الرجل.

[29] انظر شرح رياض الصالحين؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين 1/ 269 - باب تعظيم حرمات المسلمين.

[30] أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم: 6557 - باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ومسلم برقم: 3434 - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.

[31] تفسير العلامة محمد العثيمين 4/294.

[32] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة برقم: 87 - باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي - والبخاري مثله برقم: 6312 - باب إثم الزناة.

[33] انظر حديث رقم: 6218 في صحيح الجامع.

[34] تفسير العلامة محمد العثيمين 5/296

[35] أخرجه مسلم برقم: 4689 - باب استحباب العفو والتواضع.

[36] أخرجه البخاري برقم: 1321 - باب الصدقة من كسب طيب.



ابوايمن 21 - 1 - 2014 02:11 PM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
بارك الله فيك
وفي طرحك القيم
جزاك الله خيرا

عاشق تراب الأقصى 21 - 1 - 2014 02:46 PM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
بارك الله بكم على الموضوع المتميز
والله لو نعي جيدا حقيقة الاسلام ما كنا اليوم العوبة الغربيين
يعطيك العافية

ابو فداء 22 - 1 - 2014 02:14 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
كم سعدت بمروي بين حروووفك
مووودتي

همسه 22 - 1 - 2014 08:13 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
وفقك الله على اختيارك
موضوع مميز
تحية لك

الغريب 22 - 1 - 2014 08:29 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
الاسلام اول ديانة اعطت للمرء حقه
سبحان الله
بوركت اختي

أم يــــافا 24 - 1 - 2014 09:47 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الغريب (المشاركة 367349)
الاسلام اول ديانة اعطت للمرء حقه
سبحان الله
بوركت اختي

شكرا لك على هذه الإطلالة المميزة
الذي فاح عبيرها في هذا المنتدى المميز
لك مني أجمل وأرق تحية zolz

أم يــــافا 24 - 1 - 2014 09:47 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوايمن (المشاركة 367275)
بارك الله فيك
وفي طرحك القيم
جزاك الله خيرا

شكرا لك على هذه الإطلالة المميزة
الذي فاح عبيرها في هذا المنتدى المميز
لك مني أجمل وأرق تحية zolz

أم يــــافا 24 - 1 - 2014 09:47 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عاشق تراب الأقصى (المشاركة 367293)
بارك الله بكم على الموضوع المتميز
والله لو نعي جيدا حقيقة الاسلام ما كنا اليوم العوبة الغربيين
يعطيك العافية

شكرا لك على هذه الإطلالة المميزة
الذي فاح عبيرها في هذا المنتدى المميز
لك مني أجمل وأرق تحية zolz

أم يــــافا 24 - 1 - 2014 09:47 AM

رد: الإسلام وحقوق الإنسان الأساسية - سيد مبارك
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو فداء (المشاركة 367331)
كم سعدت بمروي بين حروووفك
مووودتي

شكرا لك على هذه الإطلالة المميزة
الذي فاح عبيرها في هذا المنتدى المميز
لك مني أجمل وأرق تحية zolz


الساعة الآن 03:02 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى